تفسير سورة الأحقاف

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة الأحقاف
مكية١
١ انظر: الدر المنثور ٧/٤٣٣، وجاء في زاد المسير لابن الجوزي ٧/٣٦٨، روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية وبه قال الحسن، ومجاهد وعكرمة وقتادة، والجمهور، وروي عن ابن عباس وقتادة أنها قالا: فيها آية مدنية وهي قوله: ﴿قل أرأيتم إن كان من عند الله﴾ [الأحقاف: ٩]، وقال مقاتل نزلت بمكة غير آيتين: قول: ﴿قل أرأيتم إن كان من عبد الله﴾ وقوله: ﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾ [الأحقاف: ٣٤] نزلت بالمدينة"..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحقاف
مكية
قوله: ﴿حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله﴾ إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الآيات ١ - ٣].
قد تقدم ذكرهم، والتقدير: هذا تنزيل الكتاب من عند الله العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه.
قال: ﴿مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
أي: ما أحدثنا ذلك وأوجدناه (بعد أن لم يكن) إلا لإقامة الحق والعدل في
الخلق، (وإلا لأجل مسمى)، فكل ذلك معلوم عنده تعالى متى - يفنيه فيصيره معدوماً عندكم - أمر بفناء ذلك.
ثم قال: ﴿والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ﴾.
أي: والذين جحدوا توحيد الله سبحانه ولم يؤمنوا بالبعث بعد الموت معرضون عن إنذار الله تعالى، لا يتعظون ولا يتفكرون في آيات الله سبحانه فيعتبرون ويزدجرون.
قال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾.
أي: قل لهم يا محمد - لهؤلاء الكفار بالله سبحانه من قومك - أرأيتم أيها الناس الآلهة التي تعبدون من دون الله سبحانه:
أروني أي: شيء خلقوا من الأرض، فإن ربي خلق الأرض كلها.
6808
وقيل " من " بمعنى " في "، والمعنى أروني ﴿مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ فإن ربي خلق الأرض كلها، فلأي شيء عبدتموها ولأي حجة آثرتم عبادتها على عبادة الله سبحانه الذي خلقها وابتدعها، وخلق كل ما في الأرض من غير أصل.
﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات﴾.
أي: أم لآلهتكم شرك في خلق السماوات السبع فيكون لكم بذلك حجة في عبادتكم إياها، فمن حجتي في إفراد الله بالعبادة أنه خلق السماوات والأرضين وابتدع ذلك من غير أصل.
ثم قال: ﴿ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ﴾.
[أي: جيئوني بكتاب من قبل هذا] القرآن فيه أن آلهتكم خلقت شيئاً من السماوات والأرضين، أو جيئوني بأثارة من علم بذلك.
" وأثارة " مصدر كالسماحة.
قال ابن عباس:
6809
هو خط كانت تخطه العرب في الأرض، وروى أن نبياً كان يخط بإصبعيه في الأرض السبابة والوسطى، يخط بهما في الرمل ويزجره.
وقال قتادة معناه: أو خاصة من علم تخير أن آلهتكم خلقت شيئاً أو لها شرك في شيء، وهو قول ابن جبير والحسن.
6810
وقيل معناه: أو علم تثيرونه فتستخرجونه.
وقيل معناه: أو تأثرون بذلك علماً عن أحد ممن كان قبلكم، قاله مجاهد.
وعن ابن عباس: " أو أثارة من علم "، معناه: أو بيّنة من الأمر.
وقال أبو عبيدة وأبو بكر بن عياش معناه: أو بقية من علم.
ثم قال: ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ /.
6811
أي: إن كنتم صادقين في دعواكم ما تدعون أن آلهتكم مستحقة أن تعبد.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، أو أَثَرَةٍ من علم، على فَعَلَةٍ وهما لغتان عند الفراء، وحكى الكسائي لغة ثالثة: أو أُثْرَِةٍ على فُعْلَةٍ.
والمعنى عنده: أو بقية من علم، ويجوز أن يكون معناه عنده: أو شيئاً
6812
مأثوراً من كتب الأولين.
وأثرة بمعنى أثر، كقترة وقتر، والمأثور هو المتحدث به مما صح سنده عن من يحدث به عنه.
قوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله﴾.
[أي: لا أحد أضل ممن يعبد من دون الله] حجراً لا يستجيب له إذا دعاه أبداً، ولا ينفعهم، وتلك الحجارة التي يعبدونها غافلة عن دعاء هؤلاء الكفار، لا تعقل ولا تفهم، ووقعت " من " للأصنام والحجارة، وهي لا تعقل لأنهم جعلوها في عبادتهم إياها بمنزلة من يعقل ويميز، فخوطبوا على مذهبهم فيها.
6813
وقد قرأ ابن مسعود (مَا لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ) كما قال: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢]، فأجراه على المعنى، وأتى بـ " ما " التي تكون لما لا يعقل، وقد كان يلزم أن يقرأ: " وهي عن دعائهم غافلة لكنه أتى به على لفظ من يعقل، فمرة رد الكلام على المعنى، ومرة رده على ما جرى في مخاطباتهم ومثل قراءة الجماعة هنا: قوله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله﴾ [الزمر: ٣] وأتى بالهاء والميم وهما لمن يعقل، فجرى الإخبار عن الأصنام على ما يجري في مخاطباتهم، لأنهم أجروها مجرى من يعقل ومن يميز، ولو أتى الكلام على المعنى لقال: " ما نعبدها إلا لتقربنا ". وهذا كله توبيخ من الله جلَّ ذكره للمشركين لسوء رأيهم وقبح اختيارهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئاً ولا يفهم، وتركهم عبادة من أنعم عليهم بجميع ما هم فيه من النعم، وإليه يلجئون ويتفرعون عند حاجتهم وضروراتهم.
6814
قال: ﴿وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً﴾.
أي: وإذا جمع الناس لموقف الحشر كانت آلهتهم لهم أعداء؛ لأنهم يتبرءون منهم، وهو قوله: ﴿وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾.
لأن الآلهة تقول يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بفعلهم، وهو قوله تعالى: ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣].
قال: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾.
أي: وإذا تقرأ عليهم آيات الكتاب واضحات البرهان أنها حق من عند الله، قالوا للحق لما جاءهم، وهو القرآن: هذا سحر مبين أي: ظاهر لمن تأمله وسمعه، قالوا: هذا القرآن يخدع من سمعه كفعل السحر.
قال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً﴾.
أي: يقول هؤلاء المشركون: اختلق محمد هذا القرآن. فقل لهم يا محمد: إن افتريته؛ أي: إن اختلقته من عند نفسي كذباً على الله سبحانه فلستم تغنون عني من عذاب الله تعالى شيئاً إن عذبني على ذلك.
﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: الله أعلم من كل شيء سواه بما تقولون وما تدعون علي من الكذب.
﴿كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: كفى الله شاهداً علي وعليكم فيما تقولون وما أقول.
﴿وَهُوَ الغفور الرحيم﴾ أي: والله ذو الستر على ذنوب من تاب إليه، الرحيم بهم أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها /.
قال: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ﴾.
أي: قل يا محمد: ما كنت أول الرسل فتنكرون رسالتي، بل قد كان قبلي رسل كثير وأنا واحد منهم.
قال المبرد: البدع البديع الأول، ومنه يقال: ابتدع فلان كذا، أي: أتى بما لم يتقدمه إليه أحد قبله، ومنه بديع السماوات: أي: مبتدعهما.
6816
وقوله: ﴿وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ﴾.
قيل أن النبي ﷺ أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، أي: لست أدري ما نصير إليه يوم القيامة.
ثم بيّن الله تعالى حاله فقال: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ١ - ٢] وبيّن للمؤمنين أمرهم فقال: ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الفتح: ٥] هذا قول ابن عباس.
وقال عكرمة والحسن: هذه الآية منسوخة نسختها سورة الفتح، قالا: فلما نزلت سورة الفتح خرج النبي ﷺ فبشرهم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال له رجل من المسلمين هنيئاً لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا، فأنزل الله، ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِير﴾ [الأحزاب: ٤٧] وأنزل: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات
6817
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الفتح: ٥] إلى قوله: ﴿حَكِيماً﴾ [الفتح: ٥] فبيّن للمؤمنين ما يفعل بهم أيضاً.
قال قتادة: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، ثم درى ما يفعل به في أول الفتح، وعن الحسن: أنها نزلت في المشركين، وأنه ﷺ ما يدري ما يصير إليه أمره معهم في الدنيا، وما يصير أمرهم، أيؤمنون أم يكفرون، أيعجلون بالعذاب أم يؤخرون وقال: أما في الآخرة فمعاذ الله، إنه قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل.
وقيل معناه: ما أدري ما يفترض عليّ وعليكم في الدنيا من الفرائض.
وقيل المعنى: ما أدري ما يحل علي وعليكم من جدب أو رخاء في الدنيا.
وقيل إنها نزلت في رؤيا رآها النبي ﷺ، فسرت أصحابه فاستبطئوا تأويلها فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ﴾.
واختار الطبري وغيره أن يكون هذا في أمر الدنيا دون حال الآخرة لأنه لو
6818
كان لا يدري ما يفعل به ولا بهم في الآخرة لكان ذلك حجة لهم لأنهم يقولون له: فعلى ما نتبعك إذا كنت لا تدري على أي حال نصير غداً في القيامة.
وقوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ أي: ما اتبع فيما أمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله تعالى إلي وأمره إياي.
﴿وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: أنذركم عقاب الله تعالى على كفركم.
﴿مُّبِينٌ﴾ أي: قد بينت لكم إنذاري لكم ونصحي إياكم.
قال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء القائلين للقرآن لما جاءهم هذا سحر مبين، إن كان هذا القرآن من عند الله أنزله علي وكفرتم به.
﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ﴾ يعني موسى عليه السلام شهد على مثل القرآن، فالتصديق أنه من عند الله هو التوراة.
6819
فشهد على التوراة أنها من عند الله سبحانه، والقرآن مثلها. قاله مسروق.
وقال الشعبي: زعم قوم أنه عبد الله بن سلام، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، والحواميم مكية، ولكنه موسى عليه السلام، وروى مالك عن أبي هريرة عن عامر بن
6820
سعد بن أبي وقاص أنه قال: " ما سمعت النبي ﷺ يقول لأحد يمشي على الأرض [إنه] من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ﴾ ".
وقال ابن عباس: " كان رجلاً من أهل الكتاب آمن بمحمد ﷺ [ قال]: إنّا نجده في التوراة، وكان أفضل رجل فيهم وأعلمهم فخاصم اليهود النبي ﷺ، وتراضوا بحكم عبد الله بن سلام وقالوا: إن شهد لك آمنا بك، فقال له النبي ﷺ: أتشهد أني رسول الله مكتوباً في التوراة والإنجيل؟
6821
فقال: نعم فاعترضت اليهود وأسلم عبد الله، وهو قوله: ﴿فَآمَنَ واستكبرتم﴾ ".
قال مجاهد: هو عبد الله بن سلام، وهو قول قتادة وابن زيد والحسن.
وعن الشعبي أنه قال: هو رجل من أهل الكتاب غير عبد الله بن سلام.
وذهب ابن سيرين إلى أن هذه الآية مدنية جعلت في سورة مكية فيصح أنه عبد الله بن سلام لأن إسلامه (كان بالمدينة).
ثم قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي: جعل جزاؤهم على كفرهم ترك توفيقهم للهدى.
6822
وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم﴾.
فقوله: " وَاسْتَكْبَرْتُمْ " معطوف على وكفرتم. وقوله: " على مثله ": معناه عليه، كما قال:
﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧]: أي: فإن آمنوا / بمثل القرآن وجواب " أرأيتم " محذوف.
دلّ عليه ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ والتقدير / أضلكم الله بفعلكم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
وقيل التقدير فآمن واستكبرتم أليس قد ظلمتم، إن الله لا يهدي [القوم] الظالمين.
و ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ لفظ موضوع للسؤال والاستفتاء، ويكون للتنبيه ولذلك لا يقتضي مفعولاً به.
6823
قوله: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾.
من جعل الشاهد عبد الله بن سلام أو غيره من مؤمني بني إسرائيل، كان المعنى عنده: وقال الذين كفروا من بني إسرائيل للذين آمنوا بمحمد ﷺ كان المعنى عنده: وقال مشركو قريش لمن آمن منهم بمحمد ﷺ: لو كان الإيمان بمحمد ﷺ خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وهذا التأويل قول قتادة.
قال: ذلك ناس من المشركين، قالوا: نحن أعز به ونحن ونحن، فلو كان الإيمان
6824
بمحمد ﷺ خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان يعنون عماراً وبلالاً وصهيباً وأصنافهم، فأنزل الله جل ذكره: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [البقرة: ١٠٤].
قال الحسن: أسلم " أسلم " " وغفار " فقالت قريش: لو كان خيراً ما سبقونا إليه.
6825
وقال الزجاج: أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، فقال بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد: لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيراً ما سبقونا إليه، إذ نحن أعز منهم وإنما هؤلاء رعاة البهم.
وفي قوله: ﴿سَبَقُونَآ﴾ خروج من خطاب إلى غيبة، ولو جرى على صدر الكلام في الخطاب لقال: ما سبقتمونا، ولكنه كلام فصيح حسن كثير في كلام العرب والقرآن، ويجوز أن يكون قال: ﴿مَّا سَبَقُونَآ﴾ على أن يكون قاله الكفار لبعض المؤمنين،
6826
فيكون على بابه لم يخرج من شيء إلى شيء، فقيل: إنه قول وقع في أنفسهم ولم يقولوه ظاهراً بأفواههم.
وقوله: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ﴾.
أي: بمحمد ﷺ وبما جاء به ﴿فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾.
أي: هذا القرآن أكاذيب من أخبار الأولين قديمة.
قال: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً}.
أي: ومن قبل هذا القرآن كتاب موسى أنزلناه عليه، " فالهاء " تعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ [الأحقاف: ٩] وهو التوراة إماماً لبني إسرائيل يأتمون به، ورحمة لهم.
ثم قال: ﴿وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ﴾ يعني: القرآن مصدق للتوراة.
وقيل: مصدق لمحمد ﷺ وما جاء به.
6827
وقوله: ﴿لِّسَاناً عَرَبِيّاً﴾ نصبه على الحال من المضمر في ﴿مُّصَدِّقٌ﴾.
وقيل: هو حال من ﴿كِتَابٌ﴾ لأنه لما نعت قرب من المعرفة فحسنت الحال منه.
وقيل: هو منصوب " بمصدق "، وفيه بعد؛ لأنه يصير المعنى أن القرآن يصدق نفسه، فيصير التقدير: وهذا القرآن مصدق نفسه؛ لأن اللسان العربي هنا هو القرآن، وهذا المعنى ناقص إذا تأملته.
وقيل: " اللسان " هنا عني به محمد ﷺ، فعلى هذا المعنى يحسن نصب " لسان " " بمصدق "، كأنه قال: وهذا القرآن مصدق محمداً ﷺ.
ويجوز أن يكون في الكلام حذف مضاف. والتقدير: وهذا كتاب مصدق صاحب لسان عربي، وهو محمد ﷺ، وهذا قول حسن وتأويل صحيح.
ثم قال: ﴿لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ﴾ أي: لينذر [أهل] الكتاب الذين ظلموا.
6828
وقيل معناه: لينذر محمد ﷺ بالقرآن الذين ظلموا، وهذا التأويل على قراءة من قرأ لينذر [بالياء، فأما على قراءة من قرأ بالتاء فلا يكون إلا لمحمد ﷺ، والمعنى: لتنذر يا] محمد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله سبحانه.
﴿وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ﴾.
أي: وهو بشرى للذين أطاعوا الله تعالى فأحسنوا لأنفسهم في فعلهم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾.
أي قالوا: لا إله إلا الله، ثم استقاموا على ذلك فأطاعوا الله تعالى فأحسنوا لأنفسهم في فعلهم حتى ماتوا فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة، ولا هم يحزنزن على ما خلفوا بعدهم في الدنيا.
قال: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
أي: هؤلاء الذين تقدمت صفتهم هم أصحاب الجنة ماكثين فيها جزاء لهم من الله تعالى بأعمالهم الصالحة.
قال تعالى ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ [كُرْهاً]﴾.
أي: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسنى في صحبته إياهما أيام الدنيا، والبر بهما حياتهما وبعد مماتهما لما لقيانه في حمله وتربيته، ثم بيّن ما لقيا منه من التعب فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً﴾ أي: بمشقة، ووضعته بمشقة.
قال أبو محمد (مؤلفه رضي الله عنهـ): فبر الوالدين أعظم ما يتقرب به إلى الله جل ذكره، وعقوقهما من أعظم الكبائر المهلكات، وقد تقدم القول في ذلكما في " سبحان " وبيّنه الله تعالى بقوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣].
فنهى الله تعالى الولد أن يقول أف إذا شم منهما رائحة يكرهها، فالنهي لما فوق ذلك أعظم، وهذا باب مختصر في الحض على بر الوالدين.
روى ابن مسعود " أن النبي ﷺ سئل أي الأعمال أفضل قال: " الإيمان بالله،
6830
والصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله " ".
وروى مورق العجلي أن النبي ﷺ قال: " هل تعلمون نفقة أفضل من نفقة في سبيل الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: نفقة الولد على الوالدين ".
وروى أبو هريرة، أن النبي ﷺ قال: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة الوالدين، ودعوة المسافر [ودعوة] المظلوم ".
6831
وفي رواية أخرى: " ودعوة الإمام العادل في موضع، ودعوة المظلوم ".
قال الحسن: دعاء الوالدين للولد نجاة، ودعاؤهما عليه استيصال.
قال: وعن المسيب " أن النبي ﷺ صعد يوماً المنبر فلما وضع رجله على الدرجة الأولى قال: آمين، ثم وضع رجله على الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم وضع رجله على الدرجة الثالثة فقال: آمين، فلما فرغ من خطبته ذكروا له ذلك فقال: إن جبريل استقبلني حين وضعت رجلي على الدرجة الأولى، فقال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، فلما صعدت إلى الثانية قال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، فلما صعدت إلى الثالثة، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله قل آمين، فقلت: آمين ".
6832
وروى مجاهد يرفعه إلى النبي ﷺ أنه قال: " كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله، ودعوة الوالدين ".
وعن الحسن " أن رجلاً سأل النبي ﷺ فقال له إني حججت، وإن والدتي قد آذنت لي في الحج، فقال [له]: " لقعدة معها تقعدها على مائدتها أحب إلي من حجتك " ".
وروى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: " إن أبر البر أن يصل الرجل أهل
6833
ود أبيه بعده ".
وقال عمر رضي الله عنهـ " من أراد أن يصل أباه بعد موته فليصل إخوان أبيه بعده ".
وعن النبي عليه السلام أنه قال: " ودك ود أبيك لا تقطع من كان يصل أباك فيطفأ بذلك نورك ".
وعن النبي ﷺ أنه قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، واليمين الغموس ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: " إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قيل: وكيف يسب الرجل والديه، قال: يسب أبا
6834
الرجل، فيسب أباه ويسب أمه [فيسب أمه] ".
وروى أبو أمامة أن النبي ﷺ قال: " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُدْمِنُ خَمْرٍ، وَمُكَذِّبٌ بِقَدَر ".
قال الحسن: انتهت القطيعة إلى أن يجافي الرجل أباه عند السلطان، يعني يخاصمه، ويروى أن النبي ﷺ قال: " الأم أعظم حق في البر والطاعة من
6835
الأب ".
وعن الحسن أنه قال: (ثلثا البر الطاعات للأم والثلث للأب).
وروى أبو هريرة: " أن رجلاً سأل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله من أحق مني بحسن الصحبة، قال: أمك، قال ثم من، قال: أمك ثلاثاً، قال: ثم من؟ قال: أباك ".
وقد قرن الله جل ذكره شكره بشكر الوالدين فقال: ﴿أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: ١٣].
وقال كعب الأحبار: قال لقمان لابنه " يا بني من أرضى والديه فقد أرضى الرحمن ومن أسخطهما فقد أسخط الرحمن يا بني إنما الوالدان باب من أبواب الجنة،
6836
فإن رضيا مضيت إلى الجنان وإن سخطا حجبت ".
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوك فيعتقه ".
وقوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان [بوالديه إِحْسَاناً]﴾.
يقال إن الإنسان ها هنا إنسان بعينه، وليس كل إنسان حمله وفصاله ثلاثون شهراً، بل يزيدون وينقصون، وليس كل من بلغ أشده يقول: ﴿رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ﴾.
وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. والذي عليه أكثر الناس أنها عامة على الأكثر من الناس في الحمل والفصال.
وقوله: ﴿قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ﴾.
هذه صفة المؤمن وما يجب له أن يقول، فهو وإن لم يقل ذلك فذلك اعتقاده
6837
ومذهبه، وذلك ما يجب له أن يقول.
قال (قتادة والحسن ومجاهد): المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة، و " حُسْناً " في مصاحف الحرمين والشام والبصرة بغير ألف قبل الحاء، وعلى ذلك أجمع القراء في سورة " العنكبوت "، وهو في مصاحف الكوفيين بألف، وعلى ذلك أجمع القراء في قوله: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾، فالقراءتان متكافئتان، إذ في كتاب الله لكل واحدة مثال، فجمع عليه.
وقرأ عيسى بن عمر " حَسَناً " بفتح الحاء والسين على معنى فعلاً
6838
حسناً، ولا يجوز حُسْنَى بغير تنوين؛ لأن هذا لم تتكلم به العرب بألف التأنيث إلا بالألف واللام في أوله نحو الحُسْنَى والفُضْلى، وإِحْسَانٌ مصدر أَحْسَن، وَحَسَنَ بمعناه، وَكَرْهاً مصدر في موضع الحال.
وزعم أبو حاتم أن القراءة بفتح الكاف لا تحسن؛ لأن الكرة بالفتح: الغصب والقهر، وبالضم المكروه، فبالضم يتم المعنى عنده، وذكر أن بعض العلماء سمع رجلاً يقرأ بفتح الكاف فقال له لو حَمَلته كرها (لَرَمَتْ بِهِ) لأن الكره عنده الغضب والقهر.
وهما عند أكثر العلماء غيره لغتان مشهورتان بمعنى واحد، ومعناه المشقة.
6839
والفتح عند المبرد وسيبويه أولى به لأنه المصدر بعينه.
وقد حكى سيبويه والخليل أن كل فعل ثلاثي فمصدره فَعْلٌ، واستدلا على ذلك أنك إذا رددته إلى المرة الواحدة جاء مفتوحاً، تقول: قَامَ قَوْمَةً، وَذَهَبَ ذَهْبَةً، والذهاب عندها اسم للمصدر، لا مصدر، فكذلك الكره بالضم إنما هو اسم للمصدر، والكره بالفتح هو المصدر.
6840
ثم قال تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً﴾.
أي: ومدة حمل أمه له وفصالها إياه من الرضاع ثلاثون شهراً. وهذا مما استدل به العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنه قد قال تعالى في سورة البقرة: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣] فأخبر بمدة الرضاعة الكاملة، فالذي يبقى من الثلاثين شهراً التي ذكر الله هنا هو ستة أشهر فهي للحمل.
وقرأ الجحدري " وَحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ ". ورويت عن الحسن.
والفصال والفصل مصدران. يقال فَصَلَهُ فِصَالاً وَفَصْلاً، والفَصْلُ على مذهب سيبويه هو المصدر، والفِصَال اسم للمصدر على ما تقدم.
وهذا النص مخصوص غير عام، إنما هو في أكثر الناس لأن منهم من يقيم في
6841
الحمل أكثر من ثلاثين شهراً، والفصل بعد ذلك، وقد قيل إنه إنسان بعينه.
ثم قال تعالى: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ " أشُدَّهُ " عند سيبويه جمع شدة، وقد ذكر شرحه في " يُوسُف " بأبين من هذا.
قال ابن عباس: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء أربعون سنة، والعمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة.
وقال الشعبي: الأشد بلوغ الحُلُم، وذلك إذا كتبت لك الحسنات وعليك السيئات.
وقيل: الأشد ثماني عشرة سنة.
ثم قال: ﴿قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ (وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا)﴾.
أي: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حق الله في بره والديه، أَعِني على شكر نعمتك التي أنعمت علي، وتعريفي توحيدك وهدايتك إياي
6842
للعمل بطاعتك وعلى والدي من قبلي.
وَأَصْلُ أَوْزِعَنِي: مِن وَزَعْتُ الرَجُل على كذا: إِذَا دَفَعْتُه إِلَيْهِ.
وكان أبو بكر بن عياش يقول هو أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ، فلم يكفر له أب ولا أم بل أسلما. قال أوزعني: معناه ألهمني، روي " أنه لما بلغ أشده ثماني عشرة سنة صحب النبي ﷺ والنبي عليه السلام ابن عشرين سنة، وسافر معه إلى الشام في تجارة فنزلا منزلاً فيه سدرة، فقعد النبي ﷺ في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب بجوار الموضع يقال له بحيرى فسأله أبو بكر رضي الله عنهـ عن الدين وتحدث معه، فقال له الراهب: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال له أبو بكر: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له الراهب: هذا والله نبي، والله ما استظل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم إلا محمد ﷺ، فلما بعث النبي عليه السلام وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة، آمن به وصدّقه وصحبه، ففيه نزلت الآيات.
6843
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه﴾.
أي: وأوزعني أن أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني. ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي﴾.
أي: وأصلح لي أموري في ذريتي الذين وهبتم لي بأن تجعلهم على الهدى واتباع مرضاتك.
﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ أي: تبت إليك من الذنوب التي سلفت مني.
﴿وَإِنِّي مِنَ المسلمين﴾ أي: من الخاضعين لك بالطاعة، المسلمين لأمرك ونهيك ثم قال: ﴿أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾.
أي: والذين هذه صفتهم يتقبل الله منهم أحسن أعمالهم فيجازيهم عليها ويصفح عن سيئاتهم... وقوله: ﴿في أَصْحَابِ الجنة﴾.
أي: يفعل بهم ذلك فعله في أصحاب الجنة.
ثم قال: ﴿وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾.
أي: وعدهم وعد الحق لا شك فيه أنه موف لهم بذلك.
قوله: ﴿والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ إلى قوله: (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [الآيات ١٦ - ٢٤].
6844
هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه عند بعض العلماء، ورد ذلك بعضهم قال: هذا يبطله قوله: ﴿أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾، فقد حقت عليه وعلى أمثاله كلمة العذاب بهذه الآية، وأن عبد الرحمن من أفاضيل المؤمنين.
وقال ابن عباس: نزلت في ابن لأبي بكر الصديق قال له: أتعدني أن أبعث بعد الموت، منكراً لذلك، ولم يذكر اسمه.
وروي أن معاوية لما كتب إلى مروان أن يبايع الناس ليزيد
6845
قال عبد الرحمن ابن أبي بكر: جئتم بها هرقلية (فقال له مروان: يا أيها الناس) إن هذا الذي قال الله فيه: ﴿والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ الآية، فغضبت عائشة لما بلغها ذلك وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه - تعني الحكم - طريد رسول الله ﷺ، والتقدير في الآية، والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث بعد الموت أف لكما، أي: قَذَراً لكما أتعدانني أن أخرج من قبري بعد الموت.
وقرأ الحسن: أن أخرج، جعل الفعل له.
قال قتادة: هذا عبد سوء عاق لوالديه فاجر.
وقوله: ﴿وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي﴾.
أي: أتعدانني في أن أبعث بعد الموت وقد مضت قبلي القرون فهلكت، ولم يبعث أحد منهم بعد موته، فكيف أبعث أما ولم يبعث أحد ممن هلك قبلي، فتوهم
6846
المخذول أن لما لم يبعث من مات قبله، لا يبعث هو، ولم يدر أن للجميع أجلاً ووقتاً يبعثون فيه.
ثم قال: ﴿وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله﴾.
أي: ووالداه يصرخان الله عليه، ويقولان ويلك آمن بالله وبالبعث، وصدّق بوعد الله ووعيده، إن وعد الله حق، إنه يبعث الموتى ليجازيهم على أعمالهم، فيقول لهما مكذباً لقولهما: ما هذا إلا أساطير؛ أي: ما تقولان لي إلا أخباراً / من أخبار الأولين باطلة.
﴿يَسْتَغثِيَانِ الله﴾ تَمَامٌ عند نافع، وَتْلَكَ آمِنِ التمام عند يعقوب وغيره
6847
" وَحَقٌ "، هو التمامُ عند غيرهما؛ لأنه من تمام القول الذي قالا له وهو الصواب إن شاء الله ".
قال: ﴿أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾.
أي: وجبت عليهم كلمة العذاب في الآخرة مثل ما وجبت للأمم المتقدمة المنكرة للبعث، الضالة عن الهدى من الجن والإنس كفعل هذا الذي تقدم ذكره.
﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ﴾.
أي: مغبونين ببيعهم الهدى بالضلالة، والجنة بالنار.
وهذه الآية تدل على موت الجن كما يموت الإنس أمة بعد أمة، لأنه قال: ﴿في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس﴾، وهي تدل على مجازاة الجن كما يجازي الإنس، ودخول الجن النار والجنة كما يدخلها الإنس، وليس المراد بقوله: ﴿أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ عبد الرحمن الذي نزلت فيه الآية، وإنما المعنى، من عمل مثل هذا الذي ذكر عنه، إنكاراً للبعث فهو الذي حق عليه العذاب، فأول الكلام خاص، وآخره عام.
وروى قتادة عن الحسن أنه قال: الجن لا يموتون، قال قتادة: فاحتجت عليه
بهذه الآية.
قال: ﴿وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أي: ولكل هذين الفريقين من الجن والإنس من أعمالهم منازل ومراتب عند الله يوم القيامة في الجنة أو في النار.
قال ابن زيد: درج أهل النار يذهب سفالاً، ودرج أهل الجنة يذهب علواً.
ثم قال: ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ أعمالهم﴾ أي: ولنعطي جميعهم أجور أعمالهم من حسن وسيء.
﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي: لا يزاد على أحد ذنب غيره، ولا ينقص أحد من حسن عمله.
والوقف عند بعضهم ﴿مِّمَّا عَمِلُواْ﴾، على أن تكون " اللام " متعلقة بفعل مضمر بعد هذا، والتمام: يظلمون.
قال: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار﴾.
أي: واذكر يا محمد يوم يعرض الذين كفروا على نار جهنم.
وقيل العامل في " يوم " فعل مضمر بعده، والتقدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار يقال لهم: ﴿أَذْهَبْتُمْ طيباتكم﴾، فيقال هو العامل في " يوم " والمعنى: يقال لهم
6849
أذهبتم طيباتكم في الدنيا وتطلبون النجاة اليوم.
(وذكر بعض العلماء أن معناه: أذهبتم طيباتكم في الدنيا لأنفسكم، ولم تعطوا منها الحاجة، وتؤثروا أهل الفقر لوجه الله تعالى.
وأكل الطيبات من المطاعم حلال غذا طاب أصلها، يقول الله جل ذكره: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧] وقال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٢] فأخبرنا أن الطيبات من الرزق مباحة للمؤمنين في الدينا، وأنها خالصة لهم يوم القيامة في الآخرة إذ يشاركهم فيها في الدنيا الكفار، فلا شيء فيها للكفار في الآخرة).
ويروى أن عمر رضي الله عنهـ رأى جابر بن عبد الله ومعه إنسان يحمل عنه شيئاً
6850
فقال: " ما هذا؟ قال: لحم اشتريته بدرهم فقال: أوكلما قدم أحدكم اشترى لحماً بدرهم والله لو شئت أن أكون أطيبكم طعاماً، وأينعكم ثوباً لفعلت، ولكن الله يقول: ﴿أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا﴾ فَأَنَا أَتْرُكُ طَيِّبَاتِي ".
وروى قتادة عن أبي هريرة أنه قال: " إنما كان طعامنا مع نبي الله ﷺ الأسودين: الماء والتمر، والله ما كنا نرى سراءكم هذه/ ولا ندري ما هي ".
وروي عن النبي ﷺ " أنه دخل على أهل الصفة، وهو مكان يجتمع فيه فقراء المسلمين وهو يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال: أنتم غير من يغدوا أحدهم في حلة ويروح في أخرى، ويغدا عليه بتحفة ويراح عليه بأخرى ويستر
6851
بيته كما تستر الكعبة، قالوا نحن يؤمئذ خير قال: بل أنتم اليوم خير ".
ثم قال: ﴿فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾.
أي: بتكبركم في الدنيا على ربكم/ ومخالفتكم أمره ونهيه بغير ما أباح لكم وبفسقكم.
قال: ﴿واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف﴾.
أي: واذكر يا محمد لقومك أخا عاد وهو هود إذ أنذر قومه كما أنذرت أنت قومك.
والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلاً.
قول المبرد، " هو رمل مكثتن ليس بالعظيم وفيه أعواج يقال أحقوقف
6852
الشيء: إذا اعوج حتى يلتقي طرفاه. كما قال: " سماوة الهلال حتى احقوقف ".
قال ابن عباس: الأحقاف جبل بالشام، وقاله الضحاك.
وعن ابن عباس أنها واد بين عمان ومهرة.
6853
وقال ابن إسحاق. كانت الأحقاف ما بين عمان إلى حضرموت واليمن كلها. وقال مجاهد: الأحقاف: الرمل.
وقال قتادة: هي رمال مشرفة على البحر بالشحر، والشحر ما يقرب من عدن.
وقوله: ﴿وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾.
والنذر جمع نذير، والنذير الرسول ﷺ، وهو بمعنى منذر.
وقيل: النذر هنا اسم المصدر بمعنى الإنذار، وليس بجمع.
6854
وقال الضحاك: لم يبعث الله تعالى رسولاً إلا بن يعبد الله وحده.
ثم قال: ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ [عَظِيمٍ]﴾.
قال لهم هود ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم إن عبدتم غير الله سبحانه عذاب يوم عظيم هوله وهو يوم القيامة.
قال: ﴿قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾.
أي: قال قوم هود وهم عاد لهود ﴿جِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا﴾ وتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، فأْتنا بما تعدنا من العذاب إن كنت صادقاً في قولك أنك تخاف علينا عذاب يوم عظيم.
قال ﴿قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله﴾.
أي: قال لهم هود إنما العلم بمجيء وقت العذاب إليكم على كفركم عند الله لا علم لي من ذلك إلا ما علمني ربي.
﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ [أي]: وأنا أبلغكم ما أمرت أن أبلغكم إياه، إنما أنا رسول لا علم عندي من الغيب.
﴿ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾.
مواضع حظوظكم فلا تعرفون ما يضركم ولا ينفعكم فتستعجلون العذاب لجهلكم بقدرة الله سبحانه.
قال: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾.
أي: فلما رأت عاد العذاب الذي استعجلته سحاباً عارضاً مستقبلاً نحو أوديتهم.
﴿قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ أي: ظنوه أنه مطرٌ يأتيهم بخير.
قال ابن عباس: كان لقوم عاد واد إذا أمطروا من نحوه وأتاهم الغيم من قبله كان ذلك العام عام خصب متعالم فيهم، فبعث الله تعالى عليهم العذاب من قبل ذلك الوادي، فجعل هو يدعوهم ويقول: إن العذاب قد أظلكم فيقولون:
6856
كذبت هذا عارض ممطرنا، ونظلت الريح فنسفت الرعاة فجعلت تمر على الغنم ورعاتها حتى تغرقها، ثم تحلق بهم في السماء حتى تقذفهم في البحر، ثم نسفت البيوت حتى جعلتها كالرميم.
قال قتادة: ذكر لنا أنه حبس عنهم المطر زماناً فلما رأوا العذاب مقبلاً ظنوه مطراً يأتيهم وقالوا: كذب هود، [فلما رآه هود] قال لهم: بل هو ما استعجلتم به من العذاب، هو ريح فيها عذاب أليم، فروي أن الريح كانت تلقى الفسطاط. وتأتي بالرجل الغائب فتلقيه وتحل الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة.
قال ابن عباس: كان لعاد واد إذا جاء المطر أو الغيم من ناحيته كان غيثاً فأرسل الله تعالى عليهم العذاب من ناحيته، فلما وعدهم هود بالعذاب ورأوا العارض قالوا: هذا عارض ممطرنا، فقال لهم هود: ﴿بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
6857
قال: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾. أي: تهلك الريح كل شيء أمرت بهلاكه.
قال ابن عباس: ما أرسل الله تعالى على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا ونزع خاتمه /.
ثم قال: ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ أي: فأصبح قوم هود لم يبق إلا مساكنهم.
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين﴾ أي: كما جزينا عاداً بكفرهم كذلك نجزي قومك يا محمد إن تمادوا في غيّهم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ﴾.
أي: ولقد مكنا عاد الذين أهلكوا بكفرهم فيما لم نمكن لكم أيها القوم فيه من الدنيا.
قال قتادة: أنبأنا الله تعالى بأنه قد مكنهم / في شيء وام يمكنا.
قال المبرد: " ما " ها هنا بمعنى " الذي " و " إن " بمعنى " ما " وقيل إنَّ " إن "
6858
زائدة، ولا يعرف زيادة " إن " إلا في النفي، وإنما تكون زائدة في الإيجاب " أن " المفتوحة.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً﴾.
أي: خلقنا لمن تقدم من عاد سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم وأبصاراً يبصرون بها آيات ربهم، وأفئدة أي: قلوب يعقلون بها الحق ويميزونه من الباطل، فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا نفعهم، إذ لم يستعملوه فيما أمروا به مما يقربهم إلى تعالى إذ كانوا يجحدون بآيات الله، أي: لم ينفعهم ما أعطوا من الجوارح ولا وصلوا بها إلى ما يقربهم إلى الله إذ كانوا يكفرون بآيات الله ورسله.
ثم قال: ﴿وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
أي: وحلّ عقاب استهزائهم بالرسل، وهذا كله تهديد ووعيد من الله
6859
جلّ ذكره لقريش وتحذير لهم، أي: يحل بهم ما حل بعاد. وأن يبادروا بالتوبة قبل النقمة.
قال: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى﴾.
أي: من أهل القرى، هذا مخاطبة لأهل مكة من قريش وغيرهم أعلمهم الله أنه قد أهلك أهل القرى التي حولهم بكفرهم كعاد وثمود، وأنه محل بهم مثل ذلك إن تمادوا على كفرهم.
ثم قال: ﴿وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
أي ووعظناهم بأنواع العظات وذكرناهم بضروب من الذكر ليرجعوا عن كفرهم، فأبوا إلا الإقامة على الكفر فأهلكناهم، ففي الكلام حذف، وهو معنى ما ذكرنا من إقامتهم على الكفر وهلاكهم على ذلك.
قال: ﴿فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله [قُرْبَاناً آلِهَةَ﴾.
أي: فهلا نصر هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله] وتقربوا بعبادتهم إلى الله بزعمهم، بل حلّ بهم الهلاك، ولا ناصر لهم من دون الله، وهذا احتجاج من الله
6860
لنبيه عليه السلام على مشركي قومه، أن الآلهة التي يعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تنقذ من عبدها من ضر، فكذلك أنتم يا قريش في عبادتكم هذه الأصنام، إن أتاكم بأس الله ونقمته، لم تنقذكم آلهتكم منه كما لم تغن عمن كان قبلكم.
ثم قال: ﴿بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾.
أي: بل تركتهم آلهتهم فأخذت غير طريقهم إذ لم يصبها ما أصابهم من العذاب إذ هي حجارة وجماد فلم يصبها ما أصابهم فذلك ضلالها عنهم.
ثم قال: ﴿وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ﴾.
أي: وهذه الآلهة التي ضلّت عنهم هي كذبهم وافتراؤهم في قولهم أنها تقربنا إلى الله زلفى، و " الإِفْكُ " هنا مصدر في موضع المفعول، والمعنى وهذه الآلهة مَأفُوكُهُمْ: أي مكذوبهم لأن الإِفك إنما هو فعلُ الإفك، " وَقُرْبَاناً " منصوب " باتخذوا " و " آلِهَةٌ " بدل منه، ويجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون مفعولاً من أجله، وتنصب الآلهة باتخذوا في الوجهين.
وقرأ ابن عباس: (وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ)، جعله فعلاً ماضياً، فتكون " ما " في قوله: ﴿وَمَا كَانُواْ﴾ في موضع رفع عطف على المضمر في إفكهم، والمعنى: وذلك أرداهم
6861
وأهلكهم هو وما كانوا يفترون؛ أي: أهلكهم ذلك هو وافتراؤهم، وفيه قبح حتى يؤكده المضمر المرفوع.
ويجوز أن تكون " ما " في موضع رفع عطفاً على ذلك، والتقدير: وذلك افتراؤهم أهلكهم وأظلهم، " وما " في موضع رفع على قراءة الجماعة عطفاً على " إفكهم " وهي وما بعدما مصدر فلا تحتاج إلى عائد فإن قيل جعلتها بمعنى: " الذي " قدرتها محذوفة، والتقدير وما كانوا يفترونه.
وحكى الزجاج: وذلك أفكهم بالمد: بمعنى أكذبهم.
قال: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن﴾.
أي: واذكر يا محمد إذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، وصرفه إياهم هو الرجم الذي حل بهم بالشهب / من السماء عند الاستماع على عادتهم، فلما
6862
رجموا بالشهب ومنعوا مما لم يكونوا يمنعون منه قالوا: إن هذا الحادث (حدث في السماء لشيء) حدث في الأرض، فذهبوا يطلبون ذلك الحادث في الأرض حتى رأوا النبي ﷺ خارجاً من سوق عكاظ يصلي بأصحاب الفجر، فسمعوا قراءته وذهبوا إلى أصحابهم منذرين، وهذا قول ابن جبير.
قال ابن عباس: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وكانت/ الجن تقعد من السماء مقاعد للسمع فلما بعث الله نبيه عليه السلام حرصت السماء حرصاً شديداً، فرجمت الشياطين فأنكروا ذلك، وقالوا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً.
فقال إبليس اللعين: لقد حدث في الأرض حدث فاجتمع إليه الجن، فقال: تفرقوا في الأرض فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء، وكان أول بعث بعثه ركباً من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وسادتهم، فبعثهم الله إلى
6863
تهامة فاندفعوا حتى بلغوا وادي نخلة فوجدوا نبي الله ﷺ يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة فاستمعوه فلما سمعوه يتلو القرآن قالوا: أنصتوا، ولم يكن النبي عليه السلام يعلم بهم، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين، قال ابن عباس: وكانوا سبعة من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله ﷺ رسلاً إلى قومهم.
وقال (زر بن حبيش): كانوا تسعة، قال ابن عباس: لم يشعر بهم رسول الله ﷺ.
وقال الحسن: لما أتوا ليستمعوا أعلم الله نبيه عليه السلام بمكانهم.
6864
وقال قتادة: بل أمر رسول ﷺ أن يقرأ عليهم، وروى عنه أنه قال لأصحابه: " أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني فأطرقوا، ثم قالها لهم ثانية وثالثة فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود، فدخل رسول الله ﷺ شعباً يقال له شعب (الحجون) ثم خط رسول الله ﷺ ( على عبد الله خطاً). قال عبد الله: فجعلت الجن تهوي وأرى أمثال النسور تمشي، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله ﷺ، ثم تلا القرآن، فلما رجع رسول الله ﷺ قلت: يا نبي الله ما اللغط الذي سمعتُ؟ قال: اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم فقضى [فيه] بالحق ".
" وروى جابر بن عبد الله وابن عمر: " أن النبي ﷺ قرأ عليهم سورة الرحمن فكلما قرأ النبي: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ قالت الجن: لا بشيء من آلاء نعمائك
6865
نكذب ربنا فلك الحمد "
ولما قدم ابن مسعود الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هم نفر من الأعاجم، فقال: ما رأيت للذين قرأ عليهم نبي الله من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء. وروى معمر " أن النبي ﷺ خط على ابن مسعود خطاً ثم قال له: لا تخرج منه، ثم ذهب إلى الجن فقرأ عليهم القرآن ثم رجع إلى ابن مسعود فقال له: هل رأيت شيئاً؟ قال: سمعت لغطاً شديداً. قال: إن الجن تدارت في قتيل بينهما فقضى فيه بالحق.
6866
وسألوه الزاد، فقال: كل عظم لكم غداء، وكل روثة لكم خضرة، فقالوا يا رسول الله يقدرها الناس علينا، فنهى رسول الله ﷺ أن يستنجي بأحدهما " وقد كثر الاختلاف في حديث ابن مسعود، وكثير من العلماء روى أنه لم يكن مع النبي ﷺ تلك الليلة أحد، وروى ذلك عن ابن مسعود قال: ما شهدها منا أحد، وعنه ما شهدها أحد غيري، وكانت قراءته عليهم بالحجون وقيل بنخلة، وأكثر المفسرين على أن رسول الله ﷺ أرسلهم إلى قومهم لينذروهم عذاب الله، ومنهم من قال: بل مضوا من غير أمره وما علم عليهم إلا بعد ذلك.
قوله: ﴿قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً [أُنزِلَ]﴾ إلى آخر السورة [الآيات ٢٩ - ٣٤].
6867
أي: قالت الجن الذين استمعوا القرآن لقومهم إذ رجعوا إليهم يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه، أي: مصدقاً للتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله يهدي إلى الحق؛ أي يرشد مستمعه وقابله إلى الحق وإلى طريق مستقيم لا اعوجاج فيه وهو الإسلام.
قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم، ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى.
ثم قال حكاية عن قول / الجن لقومهم ﴿ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾.
أي: أجيبوا رسول الله ﷺ إلى ما يدعو إليه من طاعة الله وآمنوا به. ﴿وَآمِنُواْ بِهِ﴾ أي: وبرسوله، وهو الداعي، فالهاء في " به " تعود على الداعي وهو رسول الله ﷺ فحضوهم على الإيمان برسول الله وطاعته ووعدهم بالمغفرة على ذلك.
6868
فقالوا: ﴿أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي: يسترها عليكم في الآخرة.
﴿وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: وينقذكم يوم القيامة من عذاب مؤلم إن أجبتموه وآمنتم به.
ثم قال / عنهم: ﴿وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله﴾.
يعنون محمداً ﷺ، أي: قالوا لقومهم من لا يجب محمداً ولا يؤمن به ﴿فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض﴾ أي: ليس بمعجز ربه بهربه في الأرض إن أراد عقوبته؛ لأنه حيث كان في قبضة ربه وسلطانه.
﴿وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ﴾ أي: ليس لمن لا يجب داعي الله من دون الله أولياء ينقذونه من عذابه.
﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي: أولئك الذين لا يجيبون داعي الله ولا يؤمنون به في جور ظاهر عن قصد الحق وإصابة الصواب.
قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى﴾.
أي: أوَلم يعلم قومك يا محمد أن الله الذي خلق السماوات والأرض وابتدعهما على غير مثال، قادر على أن يحيي الموتى فيردهم أحياء كما كانوا، فخلق
6869
السماوات والأرض وإيجادهما على غير مثال أعظم في القدرة من إعادة شيء قد كان له مثال على لطافة خلقه.
﴿بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: بلى يقدر على ذلك، إنه على كل شيء يريد قادر، لا يمتنع عليه شيء أراده.
وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق والجحدري: يقدر على أن يحيي الموتى.
وقرأ ابن مسعود " قادر " بغير باء.
واختار بعض النحويين " يقدر " على " بقادر "؛ لأن الباء إنما تدخل في النفي، وهذا إيجاب.
6870
وروى ذلك عن أبي عمر والكسائي، والباء " إنما دخلت عند النحويين لدخول لم " في أول الكلام. وقال علي بن سليمان: تدخل " الباء " في النفي، فإذا دخل على النفي استفهام لم يغيره عن حاله، فتقول: " أما زيد بقائم " كما تقول: " ما زيد بقائم ".
قال: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار﴾.
أي: واذكر يا محمد يوم يعرض الذين كفروا - وأنكروا البعث والجنة والنار - على نار جهنم، فيقال: أليس هذا بالحق وقد كنتم تكذبون به في الدنيا؟ فيجيبون ويقولون: بل هو الحق وربنا، فقال [لهم]: فذوقوا العذاب الآن بكفركم به وجحودكم إياه في الدنيا.
قال: ﴿فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل﴾.
أي: فاصبر يا محمد على ما تلقاه من قومك كما صبر أولوا العزم من الرسل من قبلك على ما لقوا من قومهم من التكذيب والمكاره، فصبر نبيّه على ما يناله من قومه من الأذى والمكروه وعلّمه أن ذلك قد لقيه الرسل قبله ليتأسى بهم، وأولوا العزم من الرسل الذين كانوا امتحنوا مع قومهم في ذات الله في الدنيا، فلم تردهم المحن عن تبليغ ما أرسلوا به وإنذار من أرسلوا إليه في الدنيا.
قال عطاء: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ.
وقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم، لم يتخذ الله رسولاً إلا كان ذا عزم، فأمر النبي ﷺ أن يصبر كما صبروا.
وقال قتادة: هم أربعة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله
6872
عليهم.
وقال مجاهد: هم خمسة كقول عطاء (وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ أي: ولا تستعجل لهم يا محمد إتيان العذاب من عند ربك على كفرهم، فإنه نازل بهم لا محالة، وإن متعوا في الدنيا فإنما هو متاع قليل.
ثم قال ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾.
وذلك أنهم ينسون مقدار لبثهم في الدنيا، وتهون عليهم مدته لهول ما يرون، وشدة ما يلقون، وما يعانون من الأهوال والعذاب وهذا مثل قوله قال: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين﴾ [المؤمنون: ١١٣ - ١١٤]، استقلوا لبثهم في الدنيا حتى جعلوه يوماً أو أقل من يوم لعظيم ما عاينوا، والعادون: الملائكة.
وقوله: ﴿بَلاَغٌ﴾ معناه: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم، اي: لبث بلاغهم إلى آجالهم، ثم حذف المضاف مثل / ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقيل المعنى: هذا القرآن، أو هذه التلاوة والإنذار بلاغ لهم، (أي: كفاية لهم)
6873
أن تكفروا واعتبروا وتذكروا. وقيل بلاغ: معناه: قليل، تقول العرب: ما معه من الزاد إلا بلاغ؛ أي: قليل، وقيل المعنى: هذا الذي وعظوا به بلاغ.
وقرأ عيسى بن عمر: " بَلاغاً " بالنصب، جعله نعتاً لساعة وقيل نصبه على المصدر.
وقرأ أبو مجلز " بَلِّغْ " على الأمر.
ثم قال: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون﴾ أي: فهل يهلك الله بعذابه إلا القوم الذين خرجوا عن طاعة الله، وخالفوا أمره وكفروا به.
وقيل المعنى: فهل يهلك مع تفضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون.
وحكى أبو حاتم عن بعضهم - واستبعده - أن الوقف ولا تستعجل ثم يبتدئ ﴿لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ﴾ أي: لهم بلاغ، وفيه بعد؛ لأن
6874
الخبر قد بعد من الابتداء واعترض بينهما شيء كثير ليس منه.
وقال غيره ﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ وقف تام: وعن الحسن ﴿مِّن نَّهَارٍ﴾ تمام الكلام، وهو قول أبي حاتم أيضاً، وقال يعقوب ثم تبتدئ ﴿بَلاَغٌ﴾ أي: " ذلك بلاغ ". وكذلك قال نافع /، إلاّ أنه قال: وإن شئت وقفت على " بلاغ ". ومن نصب فلا يقف إلا على بلاغ؛ لأن ما قبله عمل فيه فلا يفرق بينهما، ومن قرأ " بَلِّغْ " وقف على " نَهَارٍ " واستأنف بالأمر.
6875
Icon