تفسير سورة محمد

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة محمد من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ مُحَمَّدٍ - ﷺ - (الْقِتَال)
قال الزمخشري، عن مجاهد: أنها مدنية، وعن الضحاك، وسعيد بن جبير: مكية.
ابن عطية: مدنية بإجماع غير أن بعضهم قال في قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أنها نزلت بمكة وقت دخول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها عام الفتح أو سنة الحديبية.
قال: وما كان مثل فهو مدني لأن المراعى في ذلك ما كان قبل الهجرة فهو مكي، وما كان بعدها فمدني.
وقال ابن عطية: تلك الآية إنها نزلت إثر خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة في طريق المدينة، وقيل: بالمدينة، وقيل: بمكة بعد الحديبية، وقيل؛ عام الفتح وهذا كله مدني.
قيل لابن عرفة: فما [نزل*] حين الهجرة بعد خروجه من مكة وقبل وصوله إلى المدينة؟ فقال: لم ينقل ذلك، ولو نقل فالمراعى [ما بعد*] الهجرة، فبعد خروجه من مكة كل ما كان نزل عليه مدني.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... (١)﴾
ابن عطية: (صَدُّوا) إما قاصر أي صدوا في أنفسهم، أو متعدٍّ أي صدوا غيرهم.
ابن عرفة: فعل أنه قاصر، يقال: ما في فائدته بعد قوله تعالى: (كَفَرُوا) قال: عادتهم يجيبون: بأن الكفر قسمان: إكراه، وطوع، فأفاد قوله تعالى: (وَصَدُّوا) أن كفرهم اختياري لَا اضطراري.
قوله تعالى: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ... (٤)﴾
ابن عرفة: تقدم لنا سؤال: وهو أن دلالة الخاص على الخاص أقوى من دلالة العام على الخاص، فهلا قيل: اضربوا رقابهم؟ وأجيب: بأن (إذا) عند مالك [**لَا تقتضي بخلاف كلما]، فلو قيل: كذلك [لكان*] مطلقا فيصدق بلقائهم مرة واحدة، فلما أتى به عاما كان [قرينة*] في عموم الشرط تكراره.
قوله تعالى: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
إما غاية للغاية الأولى فقط، أو غاية لها أو لما [بعدها*].
قوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ).
أي ليبلو المسلم بالكافر.
قوله تعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥)﴾
أما على قراءة (قاتلوا) فظاهر، [والمراد*] (سَيَهْدِيهِم) لأداء الفرائض (وَيُصْلِحُ بَالَهُم) بأفعال المندوبات، أو (سَيَهْدِيهِم) لطاعته (وَيُصْلِحُ بَالَهُم) بخير ما نقص منها أو تتميم ما بقي عليهم من أفعال البر والإعانة أو بمغفرة ذنوبهم، وأمَّا على قراءة (قُتلوا) فالمراد سيهديهم في الدار الآخرة إلى طريق الجنة بالفعل ويغفر ذنوبهم ويدخلهم الجنة.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ... (٧)﴾
قال ابن عرفة: المذاهب ثلاثة: مذاهب المعتزلة أن العبد يخلق أفعاله، وأهل السنة يقولون بالكسب، والجبرية يقولون إنه كالميت بين يدي الفاعل ولا فعل له [بوجه*]، والآية حجة على المجبرة؛ لأنه يلزم عليه أن يكون الشرط غير الجزاء إن ينصركم الله، قال: والجواب: باختلافهما باعتبار المتعلق، أي (إِنَّ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) في موطن (يَنْصُرْكُمُ) في مواطن أخر، مثل: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)، وإما أن الأول: باعتبار ابتداء القتال والصبر على مشقته، أي تقدموا على القتال أو تصبروا على مشقته يظفركم الله بعدوكم، فالثاني: باعتبار الظفر بالعدو أي إن يخلق لكم القدرة على القتال والصبر عليه يخلق لكم الظفر بعدوكم.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن القضية الشرطية المتصلة يلزمها منفصلة بالغة الخلو من نقيض مقدمها وعين تاليها، ومانع الجمع من غير مقدمها ونقيض تاليها، فمنع الخلو هنا مقصورتين، وأما منع الجمع ففيه إشكال لأنها لَا تقتضي أنه لَا يجتمع نصرهم دين الله مع عدم نصر الله مع أن ذلك قد وقع في غزوة أحد، وغزوة صفين وغيرها، إلا أن يجاب: بأن يكون النصر في الآخرة باعتبار الثواب، أو النصر مطلقا أي إن تنصروا دين الله مرة ينصركم مرة أخرى فهو مطلق يصدق على تلك المرة وعلى غيرها ويكون ذلك باعتبار الأعم الأغلب.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ... (١٠)﴾
إن كان التقدير... (أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)، فالجملة موصولة غير مفصولة وتقرر أنها ما يؤتى بها مفصوله إلا لكمال الاتصال أو لكمال الانفصال، وعطف هنا بالفاء لظهور السببية، وفي غير هذه الآية قالوا أو لعدم ظهورها.
قوله تعالى: (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا).
الكافرون من تقدم ومن تأخر ومن هو موجود في الحال، وجميع الأمثال، إما على التوزيع أو لكل كافر مثل ذلك، أو لكل كافر أمثال ذلك باعتبار التجدد شيئا بعد شيء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا... (١٢)﴾
أسند إدخالهم الجنة إلى نفسه تشريفا لهم، وقال في الكافرين: [... ] (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُم) زيادة في [النعي*] عليهم، كما قال تعالى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ).
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ... (١٣)﴾
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: كم الخبرية [لتكثير*] آحاد العدد ذاته، (وَكَأَيِّنْ) [تكثير*] له باعتبار صفته بدليل قوله تعالى هنا: (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) فهي تكثير لها باعتبار أوصافها الشديدة.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ... (١٥)﴾
ابن عطية، والزمخشري: أي صفة الجنة.
وقال القرطبي: إن المثل بمعنى الحديث ذكره في سورة المدثر.
قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
قال ابن عطية: أي [وتنعيم أفادته المغفرة وسببته، وإلا فالمغفرة إنما هي قبل دخول الجنة*].
وقال ابن عرفة: هو عند إشارة إلى أن هذا النعيم ليس خالصا بمن [لم يقترف*] السيئات، بل هو عام يدخل فيه من خلط العمل الصالح بالسيئ.
قوله تعالى: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ).
ابن عطية: هنا سؤال: وهو أنه لَا يحتاج إلى [التشبيه*] على المخالفة بين الشيئين إلا إذا كان ممن يقارنهما، أما إذا كانت المخالفة بينهما معلومة بالبديهة فلا فائدة [بالتشبيه*]
على مخالفتهما، قال: وعادتهم يجيبون: بأن فائدة التبشير والمحمدة والثناء لقوم والتخويف والإنذار لقوم آخرين تقبيحا على الحرص على أسباب المقام الأول والبعد عن المقام الثاني، قال: وقوله تعالى: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) أخص من قوله: كمن هو في النار خالد، لأن إتيان الخبر مقيد بصفة أخص من إتيانه مع صفة، فقولك: زيد ضاحك في الدار ضاحكا لَا خبر بعد خبر، فوصفته بالأمرين فما يلزم منه أن يكونا مجتمعين إلى حالة واحدة.
قوله تعالى: (فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
قالوا: هو أخص من قولك: قطعت أمعاءهم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ... (١٦)﴾
أي ومن النَّاس المستمعون هم المنافقون.
قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً... (١٨)﴾
ابن عرفة: انظر هل المستقبل هو الذي يأتي للحال أو الماضي، والحال، هما اللذان يأتيان للمستقبل، قال: والصواب أن المستقبل هو الآتي للحال، فيقال: زيد أتاه أجله، ولا يقال: زيد أتى أجله، قال: ووجهه أن الماضي معدوم والمستقبل صار موجودا فالموجود هو الآتي.
قيل لابن عرفة: إنما ذلك بين زمنين [**والتعاند] هنا بين الإنسان والساعة وهما موجودان، فقال: الإنسان لَا يوجد إلا في زمان، فزمانه الحالي الذي كان فيه وكان فاصلا بينه وبين الساعة صار حين إتيان الساعة معروفا، قال: وعادتهم يستشكلون الآية من ناحية الجمع بين إتيانها بغتة مع مجيء أشراطها؛ لأنها بعد مجيء أشراطها حصل لهم الشعور بها، فلم [تأتهم*] بغتة، لَا يقال: هلك زيد بغتة إلا إذا لم يكن عنده بأسباب الهلاك شعور.
قيل لابن عرفة: حصل لهم العلم بها جملة لَا [بتعيين*] وقتها، فقال: إنما يصدق لفظ البغتة عليها مع العلم جملة، قيل له: قد قال تعالى في آخر الأعراف: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وهي خطاب للمسلمين وقد حصل لهم العلم بأشراطها، فقال: لم يذكر هنالك معها مجيء أشراطها؟ قال: والجواب أنه لم يقل: فقد جاء أشراطها؛ بل حذف المفعول، وأشراطها إنما حصل بها لنا لَا للكفار، فهي للكفار بغتة حقيقة.
قيل لابن عرفة: في هذا إشكال لأن ينظرون بمعنى ينتظرون، والمنتظر قاصد، والقاصد للشيء المنتظر له لَا تأتيه بغتة؛ لأن الانتظار جاء في البغتة، وأجيب: بأن المراد فهل حالهم، قيل: إلى إتيان الساعة بغتة لأنه شبهه بمن ينتظر إتيانه بغتة.
قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا).
أي من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن بعض أشراطها وهو: بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وانشقاق القمر والدخان وباقيها لم يقع فهو مثل: (أتَى أَمْرُ اللَّهِ) أو يكون عاما مخصوصا.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ... (٢١)﴾
ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدمها: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ومقتضاه كراهية المنافقين هذا الدين عقب بيان دوامهم على ذلك؛ إذ قد يتوهم أنهم إذا عزم الأمر لَا يدومون بل [يسمعون ويطيعون*] ظاهرا وباطنا.
قال الزمخشري: والعزم بمعنى الجد.
قال ابن عرفة: ليس كذلك لأن الجد في الشيء يقتضي التلبس به، والعزم إنما هو [قبل*] التلبس، [والعزم*] على الشيء إنما هو بتحصيل أكثر أسبابه، ولذلك قالوا في المسافر إذا عزم على إقامة أربعة أيام أنه يتم، وإن عزم على أقل منها فلا يتم، وتقدم الخلاف في الوجوب هل يتعلق بأول الوقت أو بآخره، واختلفوا في الواجب الموسع هل ينتقل عنه إلى بدل أم لَا؟ والبدل عندهم العزم على الفعل، وهو أن يعرض مثلا عند الزوال على أن يصلي الظهر في نصف الوقت.
قوله تعالى: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
قيل لابن عرفة: كيف يفهم هذا على قاعدة [لو نفيها إيجاب*]، وإيجابها نفي، وإنما ينتفي فيها الثاني لانتفاء الأول، فيقال: لأنهم لم يصدقوا الله فلم يكن صدقهم خيرا لهم، مع أن الصدق كله خير بالإطلاق؟ فأجاب: ابن عرفة بأنها سالبة والسالبة لا تقتضي ثبوت [الموضوع*] بوجه؛ بخلاف المعدولة.
قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ... (٢٢)﴾
هذا [نعي عليهم أوليست لكم قدرة بوجه*] بحيث لو كانت لكم ولاية وسلطنة في الأرض لما قدرتم على الفساد بوجه.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ... (٢٤)﴾
ولم يقل: أفلا يتذكرون القرآن، أو أفلا يتفكرون القرآن؛ لأن التذكر والتفكر هو استحضار أمر مستقبل يتوقع مجيئه، والكفار لم يكن لهم شعور بالقرآن في وجه؛ لأنه ينزل شيئا بعد شيء.
قوله تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).
ابن عرفة: جمع القلوب جمع كثرة، والأقفال جمع قلة، [والقليل*]: إذا وُزع على الكثير لَا يقوم به، قال: وعادتهم يجيبون بوجهين:
أحدهما: أن كل قلب عليه أقفال.
والثاني: أن أقفالا مصدر لَا جمع؛ كما هو في قراءة إقفالها بكسر الهمزة.
قوله تعالى: ﴿سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ... (٢٦)﴾
ابن عرفة: هذا البعض هو الذي كانوا مخالفين لهم فيه، والبعض الآخر كانوا موافقين لهم.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ).
قرئت بفتح الهمزة وكسرها، فهو بالكسر مصدر، وبالفتح جمع سر، والمصدر أبلغ لأن علم المعنى يستلزم علم اللفظ المعبر به عن [ذلك*] المعنى.
قوله تعالى: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (٢٧)﴾
ضمير الفاعل في (يَضْرِبُونَ) إما عائد على الملائكة وهو أظهر، أو على الكفار أي يضرب بعضهم وجه بعض.
فإن قلت: قد نهى في الحديث عن الضرب في الوجه في الجهاد وغيره.
ابن عرفة: وجهه أنه قد [يسبيه المسلمون فيجدونه معيبا فينقص منه*].
قلنا: إما بأن تلك عقوبة دنيوية، وهذه عقوبة أخروية، وليست الدار دار تكليف، وإما أنه من باب مطرنا السهل والجبل، والمراد به التعميم.
قوله تعالى: ﴿اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ... (٢٨)﴾
وهو عذابه، و (اتَّبَعُوا) ما أراد وقوعه من العذاب، أو يكون المعنى اتبعوا منهيات الله تعالى الموجبات لإيقاع السخط بهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ... (٣٠)﴾
رؤية ظاهرة لَا شك فيها بحيث تصفهم لغيرك، والواحد منا إذا رأى شيئا تارة يكون لو سئل عنه لوصفه لغيره؛ كأنه يشاهد، فهذا أحاط بصفته، وتارة لَا يقدر على وصفه لغيره.
قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).
هو مقتضاه، وهو نحو قول الأصوليين: لحن الخطاب، وهو عندهم دلالة اللفظ التزاما على ما لَا يستقل الحكم إلا به: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أي فضرب فانفلق، وقد أطال أبو علي [القالي*] في الأمالي الكلام في لفظ اللحن. انظر فيه.
قال ابن عرفة: فاقتضت الآية أن الله تعالى لم يريهم لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا أعلمه بهم لكن جعل له علامة على معرفتهم وهو أنهم يتكلمون بمحضره كلاما يفهم منه عنهم النفاق من غير أن [يقصدوا*] به إفهامهم.
قيل لابن عرفة: تقدم لنا هنا أن هذه الآية دالة على صحة الشهادة على [الخطأ*] في الكلمة الواحدة، لقوله تعالى: (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ولم يقل: لحن الكلام، والقول أعم من الكلام.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ).
قال ابن عرفة: يدخل فيه النظر والنية كما تقدم في قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، أنه يستثنى منه النية والنظر.
قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ... (٣١)﴾
قال ابن عرفة: هذا ترق في العلم فأظهرها العلم بالجهاد، ثم العلم بالصبر، وأخفاها العلم بالإخبار، فإن الأقوال فيها الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص
والاستعارة والتعريض والرموز، والظاهر والمأول والكنايات الظاهر والكناية الحقيقية، فالعلم بها أخفى من العلم بالصبر.
قال ابن عرفة: وفيه سؤال: وهو أن قوله تعالى: [(وَنَبْلُوَ) *] معطوف على (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أو على قوله تعالى: (حَتى نَعْلَمَ) وكونه منصوبا دليل على أنه معطوف على (حَتَّى نَعْلَمَ)، فإن كان قوله: [(وَنَبْلُوَ) *] بمعنى قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) لزم أن يكون الشيء غاية لنفسه، وإن كان أخص منه لزم كون الكلي غاية للجزئي، وهو باطل عنه، والجواب: أنه خاص لَا أخص، كقولك: والعورة من السرة إلى الركبة؛ لأنه ليس المراد إظهار المطلق بل المقيد بالأقوال، أي ولنخبرنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونختبر أقوالكم.
قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا... (٣٢)﴾
وهذا إما على ظاهره، أو المراد (لَنْ يَضُرُّوا) رسول الله، مثل (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يبايِعُونَ اللَّهَ) و (شَيْئًا) مصدر مؤكد للنفي لا للفعل المنفي، فهو داخل بعد النفي لَا قبله.
قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ.. (٣٣)﴾
تقدم الخلاف في الطاعة، هل هي موافقة الأمر وعدم مخالفته، فمن عجز عن فعل ما أمر به [مطيع*] على الثاني دون الأول.
قوله تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ).
يتناول الأعمال الموجبة؛ كمن شرع في نافلة لَا يحل له أن يقطعها، ويتناول البشرية؛ كمن يتصدق بدرهم ثم آذى الفقير، أو مَنَّ به عليه، قال تعالى (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ... (٣٤)﴾
العطف بـ ثم إما نعي عليهم إشارة إلى أنهم أمهلوا وأخروا لكي ينزجروا [وينظروا*] النظر السديد فلم يؤمنوا، وإما البعد ما بين مطلق الكفر والموت على الكفر.
فإن قلت: ما الفرق بين قولكم: ماتوا كافرين، وبين قولك: و (مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)؟ فالجواب: كان بعضهم يقول: الثاني أبلغ لأنه تصديق، والأول راجع لقسم التصور، لأن الثاني جملة إسنادية خبرية، والأول قيد في الجملة فهو مفرد.
قوله تعالى: (فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ).
مفهومه أن من لم يمت كافرا يجوز أن يغفر الله له، بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) أي ليس إرجاء من هذه الآية لأنه أثبت لهم المغفرة حقيقة.
قال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم، قال: يا رسول الله، إن حاتما كانت له أفعال برٍّ فما حاله؟ فقال: هو في النار فبكى وولى، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أبي وأبوك وأبو إبراهيم في النار"، فنزلت هذه الآية في ذلك.
قال ابن عرفة: هذا لَا ينبغي أن يكون نقله بحضرة العوام، والأولى تركه والوقوف عنه، وعدم السؤال عليه لأنه ليس بأمر اعتقادي، ولا يمس الإنسان من تركه شيء على أن الحديث مذكور في المصنفات.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ... (٣٥)﴾
إما أن يكون انتقال من قصة إلى إنشاء حكم، فلا يحتاج فيه إلى مناسبة، وكان بعضهم يقرر وجه المناسبة: بأن عدم مغفرة لهم فيقتضي إبعاده لهم وإبقاءه لهم، يؤذون بفشلهم وضعفهم وتكاسلهم عن اتباع التكليف، فنهى المؤمنون عن الاتصاف بصفتها التي أوجبت لهم الطرد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل.
قوله تعالى: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ).
هذا احتراز من أي أنتم الغالبون والله معينكم وناصركم عليهم ولو كنتم أقل منهم.
قوله تعالى: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُم).
وهو مأخوذ من الوتر وهو [الدَّحْلُ*].
ابن عرفة: في صحاح الجوهري بالحاء والدال المهملتين، قال: [والدَّحِلُ: الخَدَّاعُ*]، وفي مختصر العين بالدال المهملة: هو النار، وبالذال المعجمة: هو البيت الصغير، وفي صحيح مسلم في كتاب اللباس لَا يبق في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت.
قال المازري: يلزم قصر النهي على الوتر خاصة، وأجازه ابن القاسم بغير الوتر.
قال عبد الوهاب: يكره للمسافر الأجراس والأوتار لحديث لَا يصحب الملائكة رفقة فيها جرس، وأما الأوتار فقد تؤدي إلى الاختناق بها [وحمل*] بعضهم النهي عن اتخاذ الأوتار الدخول.
قال ابن عطية: وقيل: مأخوذ من الوتر وهو الفرد، أي أنه أفردكم من ثواب أعمالكم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ... (٣٦)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول إذا قلت: هذا الثوب أسود فتارة تريد الحقيقة بمعنى أنه لَا بياض فيه بوجه، وتارة تطلقه مجازا بمعنى أن بعضه أسود وإن كان بعضه أبيض، فقوله (الدُّنْيَا) إن كان على معنى الأول فهي حياة لَا حظ فيها للآخرة بل هي كلها مشغولة بالأمور الدنيوية فقط، فالوصف بالدنيا [للحصر*] والقصر على شهواتها، وإن كان على المعنى الثاني فهي حياة دنيوية وإن خالطها بعض أسباب الآخرة فوصفها بالدنيا مجازا، [واللعب*]
كان بعضهم يقول: هو الاشتغال بما لَا فائدة فيه مطلقا، كلعب الأطفال واللهو والاشتغال مما يسلي النفس ويلهيها عما نالها من الغم والهم والحزن، كلعب المسجونين، وقدم في الأعراف والعنكبوت اللهو على اللعب، وفي غيرها عكس ذلك بحسب الوقائع، فإن كان حال [الإنسان*] حين نزول الآية عليه مشغولا بما لَا فائدة فيه كالأطفال قدم اللعب، وإن كان العكس قدم اللهو.
قوله تعالى: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ).
قيل لابن عرفة: مفهومه (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) مع أنه لَا أجر لهم هنالك بوجه، فقال: السالبة لَا [تقتضي*] وجود الموضوع بوجه، قيل له: يبقى مفهوم آخر وهو أنه إن لم يؤمنوا [ولم يتقوا*] سألهم أموالهم، يقال: مال الحربي غير محرم، أو تقول: الكفار مخاطبون بالفروع.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (٣٨)﴾
يؤخذ منه صحة ما قاله الأصوليون من أن الغيرين يصدقان على المثلين.
قيل لابن عرفة: كيف هذا وقد ورد في الحديث: " [لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ*] ".
فأجاب بمفهوم: قوله تعالى: (تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) معا.
* * *
Icon