ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النجم (٥٣) : آية ٨]ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)
كأن الشيخ «١» فهم من الآية: أن الذي دنا فتدلى، فكان من محمد صلّى الله عليه وسلّم قاب قوسين أو أدني- هو الله عز وجل. وهذا، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين- فالصحيح: أن ذلك هو جبريل عليه السلام. فهو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله: ٥٣: ١٣، ١٤ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى هكذا فسره النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح.
قالت عائشة رضي الله عنها: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية؟
فقال: ذاك جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين».
ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه.
أحدها: أنه قال: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» وهذا جبريل الذي وصفه بالقوة في سورة التكوير فقال: ٨١: ١٩، ٢٠ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ.
الثالث: أنه قال: «فاستوى وهو بالأفق الأعلى» وهو ناحية السماء العليا. وهذا استواء جبريل بالأفق. وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.
الرابع: أنه قال: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض، حيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوق السموات. فهناك دنا الجبار جل جلاله منه وتدلى. فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية. وإن اتفقا في اللفظ.
الخامس: أنه قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى والمرئي عند السدرة هو جبرئيل قطعا. وبهذا
فسره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لعائشة «ذاك جبريل».
السادس: أن مفسر الضمير في قوله: «ولقد رآه» وقوله: «ثم دنا فتدلى» وقوله: «فاستوى» وقوله: «وهو بالأفق الأعلى» واحدة. فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفسّر من غير دليل.
السابع: أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين:
الملكي، والبشري. ونزّه البشري عن الضلال والغواية، والملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا، بل هو قوي كريم حسن الخلق. وهذا نظير المذكور في سورة التكوير سواء.
الثامن: أنه أخبر هناك: انه رآه بالأفق المبين، وهاهنا: أنه رآه بالأفق الأعلى. وهو واحد وصف بصفتين، فهو مبين وأعلى. فإن الشيء كلما علا بان وظهر.
فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا العاشر: أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه سبحانه مرتين: مرة بالأفق، ومرة عند السدرة.
ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر
وقد سأله: هل رأيت ربك- قال: «نور، أنّى أراه؟»
فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين، ثم
يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنى أراه»
وهذا أبلغ من قوله: «لم أره» لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط. وهذا يتضمن النفي وطرقا من الإنكار على السائل، كما إذا قال لرجل: هل كان كيت وكيت؟ فيقول: كيف يكون ذلك؟
الحادي عشر: أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في قوله: «ثم دنا فتدلى» والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له، وإنما هو لعبده.
الثاني عشر: أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر، ويترك عوده إلى المذكور، مع كونه أولى به؟
الثالث عشر: أنه قد تقدم ذكر «صاحبكم» وأعاد عليه الضمائر التي تليق به. ثم ذكر بعده شديد القوى. ذا المرة. وأعاد عليه الضمائر التي تليق به. والخبر كله عن هذين المفسّرين، وهما الرسول الملكي، والرسول البشري.
الرابع عشر: أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنا فتدلّى: كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء، بل هو تحتها، وقد دنا من الأرض، فتدلى من رسول رب العالمين صلّى الله عليه وسلّم، ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك: كان من فوق العرش، لا إلى الأرض.
السادس عشر: أنه سبحانه قرر صحة ما رآه. وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى والمماراة على ذلك منهم: لكان تقرير تلك الرؤية أولى، والمقام إليها أحوج. والله أعلم.
[سورة النجم (٥٣) : آية ١٢]
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢)
والمأوى مفعل عن أوى يأوي، إذا انضم إلى المكان وصار إليه، واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس: هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة.
وقال مقاتل والكلبي: هي الجنة تأوي إليها أرواح الشهداء.
وقال كعب: جنة المأوى جنة فيها طير خضر، ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزرّ بن حبيش: هي جنة من الجنان.
والصحيح: أنه اسم من أسماء الجنة، كما قال تعالى:
٧٩: ٤٠، ٤١ وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى وقال في النار: ٧٩: ٣٩ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وقال:
وَمَأْواكُمُ النَّارُ.
[سورة النجم (٥٣) : آية ٣٢]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
قلت: وأصل اللفظة من المقاربة. ومنه قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ.
وهي الصغائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي عنه «إن العين تزني، وزناها النظر، واليد تزني، وزناها البطش والرجل تزني، وزناها المشي، والفم يزني وزناه القبل».
ومنه. ألمّ بكذا. أي قاربه ودنا منه. وغلام ملمّ، أي قارب البلوغ
وفي الحديث «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم»
أي يقرب من ذلك قول الله تعالى:
٥٣: ٥٩- ٦١ أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ.
قال عكرمة عن ابن عباس: السمود: الغناء في لغة حمير، يقال:
اسمدي لنا، أي غنّي لنا. وقال أبو زبيد:
وكأن العزيف فيها غناء | للنّدامى من شارب مسمود |
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود: هو الغفلة والسهو عن الشيء.
قال المبرد: هو الاشتغال عن الشيء بهمّ أو فرح يتشاغل به. وأنشد:
رمي الحدنان نسوة آل حرب | بمقدار سمدن له سمودا |
المتكبر والسامد: القائم.
وقال ابن عباس في الآية: وأنتم مستكبرون.
وقال الضحاك أشرن بطرون.
وقال مجاهد: غضاب مبرطمون. وقال غيره: لاهون غافلون معرضون. فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه.