تفسير سورة الحشر

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
تقدم للشيخ رحمه الله كلام على معنى التسبيح عند قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ].
وقال رحمه الله : التسبيح في اللغة الإبعاد عن السوء، وفي اصطلاح الشرع تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وساق رحمه الله النصوص في تسبيح المخلوقات جميعها.
وقال في آخر المبحث : والظاهر أن قوله تعالى :﴿ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ مؤكد لقوله تعالى :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة [ من الجزء الرابع وذكر عند أول سورة الحديد زيادة لذلك ].
وفي مذكرة الدراسة مما أملاه رحمه الله في فصل الدراسة على أول سورة الجمعة :﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [ الجمعة : ١ ] قال : التسبيح التنزيه، وما التي لغير العقلاء، لتغلب غير العقلاء لكثرتهم، وكان يمكن الاكتفاء بالإحالة على ما ذكره رحمه الله تعالى، إلا أن الحاجة الآن تدعو إلى مزيد بيان بقدر المستطاع، لتعلق المبحث بأمر بالغ الأهمية، ونحن اليوم في عصر تغلب عليه العلمانية والمادية، فنورد ما أمكن أملاً في زيادة الإيضاح.
إن أصل التسبيح من مادة سبح، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة، فبينهما اشتراك في أصل المعنى، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى.
وقد جاء الفعل هنا بصيغة الماضي :﴿ سبح لله ﴾ كما جاء في أول سورة الحديد.
قال أبو حيان عندها : لما أمر الله تعالى الخلق بالتسبيح في آخر سورة الواقعة، يعني في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [ الواقعة : ٩٥ -٩٦ ] جاء في أول السورة التي تليها مباشرة بالفعل الماضي، ليدل على أن التسبيح المأمور به قد فعله. والتزم به كل ما في السماوات والأرض ا ه.
ومعلوم أن الفعل قد جاء أيضاً بصيغة المضارع كما في آخر هذه السورة :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ الحشر : ٢٤ ]، وفي أول سورة الجمعة :﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [ الجمعة : ١ ]، وفي أول سورة التغابن :﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ التغابن : ١ ]، وهذه الصيغة تدل على الدوام والاستمرار.
بل جاء الفعل بصيغة الأمر :﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى ﴾ [ الأعلى : ١ ]، ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [ الواقعة : ٧٤ ].
وجاءت المادة بالمصدر :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [ الإسراء : ١ ]، ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [ الروم : ١٧ ]، ليدل ذلك كله بدوام واستمرار التسبيح لله تعالى من جميع خلقه، كما سبح سبحانه نفسه، وسبحته ملائكته ورسله، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.
وما في قوله تعالى :﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ من صيغ العموم، وأصل استعمالها لغير العقلاء، وقد تستعمل للعاقل إذا نزل غير العاقل، كما في قوله تعالى :﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ ﴾ [ النساء : ٣ ]، ومجيئها هنا لغير العاقل تغليباً له لكثرته كما تقدم، فتكون شاملة للعاقل من باب أولى.
ومما يلفت النظر أن التسبيح الذي في معرض العموم كله في القرآن مسند إلى " ما " " دون " من " إلا في موضع واحد، هو قوله تعالى :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ]، وهذا شاهد على شمول ما وعمومها المتقدم ذكرها، لأنه سبحانه أسند التسبيح أولاً إلى السماوات السبع والأرض صراحة بذواتهن، وهن من غير العقلاء بما في كل منهن من أفلاك وكواكب وبروج، أو جبال ووهاد وفجاج، ثم عطف على غير العقلاء بصيغة " من " الخاصة بالعقلاء فقال :﴿ وَمَن فِيهِنَّ ﴾، وإن كانت " من "، قد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلن منزلة العقلاء كما في قول الشاعر :
أسرب القطا هل من يعير جناحه ؟ لعلي إلى من قد هويت أطير
وبهذا شمل إسناد التسبيح لكل شيء في نطاق السماوات والأرض، عاقل وغير عاقل. وقد أكد هذا الشمول بصريح قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ]، وكلمة " شيء " أعم العمومات، كما في قوله تعالى :﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء ﴾ [ الزمر : ٦٢ ]، فشملت السماوات والأرض والملائكة والإنس والجن والطير والحيوان والنبات والشجر والمدر، وكل مخلوق لله تعالى.
وقد جاء في القرآن الكريم، والسنة المطهرة إثبات التسبيح من كل ذلك كل على حدة.
أولاً : تسبيح الله تعالى نفسه :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [ الإسراء : ١ ]، ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ [ الروم : ١٧ -١٨ ]، ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ].
ثانياً : تسبيح الملائكة ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ البقرة : ٣٠ ] وقوله :﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ [ الزمر : ٧٥ ].
و ﴿ يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٠ ].
ثالثاً : تسبيح الرعد :﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾ [ الرعد : ١٣ ].
رابعاً : تسبيح السماوات السبع والأرض، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
خامساً : تسبيح الجبال :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشي وَالإِشْرَاقِ ﴾ [ ص : ١٨ ].
سادساً : تسبيح الطير :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ].
سابعاً : تسبيح الإنسان :﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [ الحجر : ٩٨ ]، ﴿ فَسَبِّحْ اسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم ﴾ [ الواقعة : ٧٤ ]، ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ١١ ].
فهذا إسناد التسبيح صراحة لكل هذه العوالم مفصلة ومبينة واضحة.
وجاء مثل التسبيح، ونظيره وهو السجود مسنداً لعوالم أخرى وهي بقية ما في هذا الكون من أجناس وأصناف في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ﴾ [ الحج : ١٨ ].
ويلاحظ هنا أنه تعالى أسند السجود أولاً لمن في السماوات ومن في الأرض و " من " هي للعقلاء أي الملائكة والإنس والجن، ثم عطف على العقلاء غير العقلاء بأسمائهن من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، فهذا شمول لم يبق كائن من الكائنات ولا ذرة في فلاة إلا شمله.
وبعد بيان هذا الشمول والعموم، يأتي مبحث العام الباقي على عمومه، والعام المخصوص، وهل عموم " ما " هنا باق على عمومه أم دخله تخصيص ؟ .
قال جماعة من العلماء منهم ابن عباس، إن العموم باق على عمومه، وإن لفظ التسبيح محمول على حقيقته في التنزيه والتحميد.
وقال قوم : إن العموم باق على عمومه لم يدخله خصوص، ولكن التسبيح يختلف، ولكل تسبيح بحسبه، فمن العقلاء بالذكر والتحميد والتمجيد كالإنسان والملائكة والجن، ومن غير العاقل سواء الحيوان والطير والنبات والجماد، فيكون بالدلالة بأن يشهد على نفسه، ويدل على أن الله تعالى خالق قادر.
وقال قوم : قد دخله التخصيص.
ونقل القرطبي عن عكرمة، قال : الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال : قد كان يسبح مرة. يريد أن التسبيح من الحي أو النامي سواء الحيوان أو النبات وما عداه فلا. وقال القرطبي : ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من وضع الجريد الأخضر على القبر، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه : " لعله يحفف عنهما ما لم ييبسا ". أي بسبب تسبيحهما، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما ا ه.
والصحيح من هذا كله الأول الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يشهد له القرآن الكريم لعدة أمور :
أولاً : لصريح قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
ثانياً : أن الحامل لهم على القول بتسبيح الدلالة، هو تحكيم الحس والعقل، حينما لم يشاهدوا ذلك ولم تتصوره العقول، ولكن الله تعالى نفى تحكيم العقل الحسي هنا، وخطر على العقل بقوله تعالى :﴿ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
ثالثاً : قوله تعالى في حق نبي الله داود عليه السلام :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِي وَالإِشْرَاقِ ﴾ [ ص : ١٨ ]، فلو كان تسبيحها معه تسبيح دلالة كما يقولون، لما كان لداود عليه السلام خصوصية على غيره.
رابعاً : أخبر الله تعالى أن لهذه العوالم كلها إدراكاً تاماً كإدراك الإنسان أو أشد منه، قال تعالى عن السماوات والأرض والجبال :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ]، فأثبت تعالى لهذه العوالم إدراكاً وإشفاقاً من تحمل الأمانة، بينما سجل على الإنسان ظلماً وجهالة في تحمله إياها، ولم يكن هذا العرض مجرد تسخير، ولا هذا الإباء مجرد سلبية، بل عن إدراك تام، كما في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ]، فهما طائعتان لله، وهما يأبين أن يحملن الأمانة إشفاقاً منها.
وفي أواخر هذه السورة الكريمة سورة الحشر، قوله تعالى :{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذ
قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ ﴾.
أجمع المفسرون أنها في بني النضير، إلا قولاً للحسن أنها في بني قريظة، ورد هذا القول بأن بني قريظة لم يخرجوا ولم يجلوا ولكن قتلوا.
وقد سميت هذه السورة بسورة بني النضير، حكاه القرطبي عن ابن عباس.
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس سورة الحشر قال : قل سورة النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل، انتظاراً لمحمد صلى الله عليه وسلم.
واتفق المفسرون على أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النَّبي الذي نعته في التوراة، لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثوا. فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة، فأخبر جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر بقتل كعب، فقتله محمد بن مسلمة غيلة، وكان أخاه من الرضاعة. وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة، حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله عليه وسلم، فعصمه الله تعالى.
ولما قتل كعب، أمر صلى الله عليه وسلم بالمسيرة إليهم، وطالبهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، ولكن أرسل إليهم عبد الله بن أبي سراً : لا تخرجوا من الحصن، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه، ومساعدة بني قريظة وحلفائهم من غطفان، أو الخروج معهم، فدربوا أنفسهم، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية. فحاصرهم صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة..
وقيل : أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له : اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج إليك ثلاثون منا ليسمعوا منك، فإن صدقوا آمناً كلنا، ففعل. فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ أخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، ففعلوا فاشتملوا على الخناجر، وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها، وكان مسلماً فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فساره بخبرهم قبل أن يصل صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي، فطلبوا الصلح فأبى عليهم صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة، فكانوا يحملون كل ما استطاعوا ولو أبواب المنازل، يخربون بيوتهم ويحملون ما استطاعوا معهم.
وقد أوردنا مجمل هذه القصة في سبب نزول هذه السورة لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها، وكما قال الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في رسالة أصول التفسير : إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير ( وليعلم المسلمون مدى ما جبل عليه اليهود من غدر وما سلكوا من أساليب المراوغة فما أشبه الليلة بالبارحة ).
والذي من منهج الشيخ رحمه الله في الأضواء قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ حيث أسند إخراجهم إلى الله تعالى مع وجود حصار المسلمين إياهم.
وقد تقدم للشيخ رحمه الله نظيره عند قوله تعالى :﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ﴾ [ الأحزاب : ٢٥ ]، قال رحمه الله تعالى عندها : ذكر جل وعلا أنه ﴿ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ ﴾ الآية. ولم يبين السبب الذي ردهم به. ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ [ الأحزاب : ٩ ] ا ه.
وهنا أيضاً في هذه الآية أسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم، وقد بين تعالى السبب الحقيقي لإخراجهم في قوله تعالى :﴿ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ [ الحشر : ٢ ]، وهذا من أهم أسباب إخراجهم، لأنهم في موقف القوة وراء الحصون، لم يتوقع المؤمنون خروجهم، وظنوا هم أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقد كان هذا الإخراج من الله إياهم بوعد سابق من الله لرسوله في قوله تعالى :﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَاَ آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ].
وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منهم، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم، فكان إخراجهم حقاً من الله تعالى : وبوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطباً للمسلمين في خصوصهم :﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ الحشر : ٦ ] وتسليط الرسول صلى الله عليه وسلم هو بما بين صلى الله عليه وسلم في قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " وهو ما يتمشى مع قوله تعالى :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ [ الحشر : ٢ ].
وجملة هذا السياق هنا يتفق مع السياق في سورة الأحزاب عن بني قريظة سواء بسواء، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾[ الأحزاب : ٢٦ -٢٧ ] وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب. كما أنه هو تعالى الذي رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً بما أرسل عليهم من الرياح والجنود، وهو الذي كفى المؤمنين القتال، وهو تعالى الذي أنزل بني قريظة من صياصيهم. وورث المؤمنين ديارهم وأموالهم، وكان الله على كل شيء قديراً.
ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية. يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم :
﴿ فاعتبروا يا أُوْلِى الأبصار ﴾ [ الحشر : ٢ ] أي بإخراج الذين كفروا من حصونهم وديارهم ومواطن قوتهم، ما ظننتم أن يخرجوا لضعف اقتداركم، وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم لقوتها ومنعتها، ولكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. فلم يستطيعوا البقاء. وكانت حقيقة إخراجهم من ديارهم هي من الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ لأول الْحَشْرِ ﴾ اختلف في معنى الحشر في هذه الآية، وبناء عليه اختلف في معنى الأول.
فقيل : المراد بالحشر أرض المحشر، وهي الشام.
وقيل المراد بالحشر : الجمع.
واستدل القائلون بالأول بآثار منها : ما رواه ابن كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من شك في أن أرض المحشر ها هنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية :﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ الأول الْحَشْرِ ﴾، وما رواه أبو حيان في البحر عن عكرمة أيضاً والزهري، وساق قوله صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني النضير : أخرجوا، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر. وعلى هذا تكون الأولية هنا مكانية، أي لأول مكان من أرض المحشر. وهي أرض الشام، وأوائله خيبر وأذرعات.
وقيل : إن الحشر على معناه اللغوي وهو الجمع. قال أبو حيان في البحر المحيط. الحشر الجمع للتوجه إلى ناحية ما، ومن هذا المعنى. قيل : الحشر هو حشد الرسول صلى الله عليه وسلم الكتائب لقتالهم. وهو أول حشر منه لهم وأول قتال قاتلهم. وعليه فتكون الأولية زمانية وتقتضي حشراً بعده. فقيل : هو حشر عمر إياهم بخيبر. وقيل : نار تسوق النار من المشرق إلى المغرب، وهو حديث في الصحيح. وقيل : البعث.
إلا أن هذه المعاني أعم من محل الخلاف لأن النار المذكورة والبعث ليستا خاصتين باليهود، ولا ببني النضير خاصة ومما أشار إليه الشيخ رحمه الله أن من أنواع البيان الاستدلال على أحد المعاني بكونه هو الغالب في القرآن، ومثل له في المقدمة بقوله تعالى :﴿ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي ﴾[ المجادلة : ٢١ ]، فقد قال بعض العلماء : بأن المراد بهذه الغلبة. الغلبة بالحجة والبيان، والغالب في القرآن استعمال الغلبة بالسيف والسنان، وذلك دليل واضح على دخول تلك الغلبة في الآية، لأن خير ما يبين به القرآن القرآن.
وهنا في هذه الآية، فإن غلبة استعمال القرآن بل عموم استعماله في الحشر إنما هو للجمع، ثم بين المراد بالحشر لأي شيء منها قوله تعالى :﴿ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ ﴾ [ النمل : ١٧ ]، وقوله :﴿ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شيء قُبُلاً ﴾ [ الأنعام : ١١١ ]، وقوله عن نبي الله داود :﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ ص : ١٩ ]، وقوله تعالى عن فرعون :﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [ طه : ٥٩ ]، وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١١١ ]، وقوله :﴿ فَحَشَرَ فَنَادَى ﴾ [ النازعات : ٢٣ ] فكلها بمعنى الجمع.
وإذا استعمل بمعنى يوم القيامة فإنه يأتي مقروناً بما يدل عليه، وهو جميع استعمالات القرآن لهذا، مثل قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] وذلك في يوم القيامة لبروز الأرض. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ﴾ [ مريم : ٨٥ ]، وذلك في يوم القيامة لتقييده باليوم. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ﴾ [ طه : ١٠٢ ].
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [ فصلت : ١٩ ].
إلى غير ذلك مما هو مقيد بما يعين المراد بالحشر، وهو يوم القيامة.
فإذا أطلق كان لمجرد الجمع كما في الأمثلة المتقدمة، وعليه فيكون المراد بقوله تعالى :﴿ لأول الْحَشْرِ ﴾، أن الراجع فيه لأول الجمع، وتكون الأولية زمانية وفعلاً، فقد كان أول جمع لليهود، وقد أعقبه جمع آخر لإخوانهم بني قريظة بعد عام واحد، وأعقبه جمع آخر في خيبر، وقد قدمنا ربط إخراج بني النضير من ديارهم بإنزال بني قريظة من صياصيهم، وهكذا ربط جمع هؤلاء بأولئك إلا أن هؤلاء أجلوا وأخرجوا، وأولئك قتلوا واسترقوا.
تنبيه :
وكون الحشر بمعنى الجمع لا يتنافى مع كون خروجهم كان إلى أوائل الشام، لأن الغرض الأول هو جمعهم للخروج من المدينة، ثم يتوجهون بعد ذلك إلى الشام أو إلى غيرها.
وقد استدل بعض العلماء على أن توجههم كان إلى الشام من قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَ
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ المشاقة العصيان، ومنه شق العصا، والمخالفة.
وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم وتخريب بيوتهم، بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، وأن المشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك.
وفي الآية مبحث أصولي مبني على أن المشاقة قد وقعت من غير اليهود، فلم تقع بهم تلك العقوبة كما وقع من المشركين المنصوص عليها في قوله تعالى :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [ الأنفال : ١٢ ]، وهذا في بدر قطعاً، ثم قال :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [ الحشر : ٤ ]، ولما قدر صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لم يوقع بهم ما أوقع باليهود من قتل، بل قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء. فوجد الوصف الذي هو المشاقة الذي هو علة الحكم، ولم يوجد الحكم الذي هو الإخراج من الديار وتخريب البيوت.
قال الفخر الرازي : فإن قيل : لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال : أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب، ومعلوم أنه ليس كذلك : قلنا : هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها ا ه.
وقد بحث الشيخ رحمه الله هذه المسألة في آداب البحث والمناظرة، وفي مذكرة الأصول في مبحث النقض، وعنون له في آداب البحث بقوله : تخلف الحكم ليس بنقض سواء لوجود مانع أو تخلف شرط.
ومثل لتخلف الحكم بوجود مانع بقتل الوالد ولده عمداً، مع عدم قتله قصاصاً به، لأن علة القصاص موجودة، وهي القتل العمد، والحكم وهو القصاص متخلف.
ومثل لتخلف الشرط بسرقة أقل من نصاب أو من غير الحرز.
ثم قال : النوع الثالث : تخلف حكمها عنها لا لسبب من الأسباب التي ذكرنا، ومثل له بعضهم بقوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ﴾ [ الحشر : ٣ ] قالوا : فهذه العلة، التي هي مشاقة الله ورسوله، قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال : إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقاً، لا نقض لها، وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول :
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح*** بل هو تخصيص وذا مصحح
إلى قوله :
ولست فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد شرط أو لمانع
وقد أطلعني بعض الإخوان على شرح لفضيلة الشيخ، رحمه الله، على مراقي السعود في أوائله على قول المؤلف :
*ذو فترة بالفرع لا يراع*
وتكلم على حكم أهل الفترة، ثم على تخصيص بعض الآيات، ومن ثم إلى تخصيص العلة.
وجاء في هذا المخطوط ما نصه : ورجح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحشر أن تخصيص العلة كتخصيص النص مطلقاً، مستدلاً بقوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ ﴾ [ الحشر : ٣ ] الآية، وقد فعل ذلك غير بني النضير، فلم يفعل لهم مثل ما فعل لهم والله أعلم ا ه.
إلا أني طلبت هذا الترجيح في ابن كثير عند الآية، فلم أقف عليه فليتأمل، ولعله في غير التفسير.
أما ما ذكره رحمه الله تعالى عن بعض في آداب البحث والمناظرة، وهو أنه : قد يتخلف الحكم عن العلة، لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا، فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن تخلف الحكم عن العلة في غير اليهود، وإنما هو لتخلف جزء منها، وأن العلة مركبة، أي هي في اليهود مشاقة وزيادة، تلك الزيادة لم توجد في غير اليهود، فوقع الفرق، وذلك أن مشاقة غير اليهود كانت لجهلهم وشكهم، كما أشار تعالى لذلك عنهم بقوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحييِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ] إلى آخر السورة، فهم في حاجة إلى زيادة بيان، وكذلك في قوله في أول سورة ص :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ أَأنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِى ﴾ [ ص : ٤ -٨ ].
فهم في عجب ودهشة واستبعاد أن ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الذكر من بينهم، وهم في شك من أمرهم، فهم في حاجة إلى إزالة الشك والتثبت من الأمر، ولذا لما زال عنهم شكهم وتبينوا من أمرهم، وراحوا يدخلون في دين الله أفواجاً، بينما كان كفر اليهود جحود بعد معرفة، فكانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ﴿ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٤٦ ]، وقد سمي لهم فيما أنزل كما قال عيسى عليه السلام :﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [ الصف : ٦ ] فلم ينفعهم بيان، ولكنه الحسد والجحود كما بين تعالى أمرهم بقوله عنهم :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ] وقوله :﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾ [ آل عمران : ٦٩ ]، وقوله :﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٥ ]، وقوله :﴿ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ آل عمران : ٧١ ].
فقد كانوا جبهة تضليل الناس، وتحريف للكتاب. وتلبيس للحق بالباطل. كل ذلك عن قصد وعلم، بدافع الحسد ومناصبة العداء وخصم هذا حاله فلا دواء له، لأن المدلس لا يؤمن جانبه، والمضلل لا يصدق، والحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة عن المحسود، ومن جانب آخر فقد قطع الله الطمع عن إيمانهم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٥ ] كما أيأس من إيمانهم بعد إقرارهم على أنفسهم بتغلف قلوبهم عن سماع الحق ورؤية النور :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٨٨ ].
وكل هذه الصفات لم تكن موجودة في كل من شاق الله ورسوله من غير اليهود، وقد صرح تعالى بأنهم استحقوا هذا الحكم للأسباب التي اختصوا بها دون غيرهم في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [ البقرة : ٨٤ -٨٥ ].
فكل ذلك من نقض الميثاق، والغدر في الصلح، وسفك الدماء، والتظاهر بالإثم والعدوان، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، كان خاصاً باليهود، فكانت العلة مركبة من المشاقة. ومن هذه الصفات التي اختصوا بها، وكان الحكم صريحاً هنا بقوله عنهم :﴿ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ ﴾ [ البقرة : ٨٥ ].
وكان خزيهم في الدنيا : هو ما وقع بهم من إخراج وتخريب وتقتيل.
وإن من كانت هذه حاله كما تقدم، لم يكن لهم الاستئصال الكلي بإخراجهم أو تقتيلهم، فلم يعد يصلح فيهم استصلاح ولا يتوقع منهم صلاح، ويكفي شاهداً على ذلك أن بني قريظة لم يتعظوا، ولم يستفيدوا ولم يعتبروا كما أمرهم الله :﴿ فَاعْتَبِرُواْ يا أُوْليَ الأَبْصَارِ ﴾ [ الحشر : ٢ ].
ما اتعظ بنو قريظة بما وقع بإخوانهم بني النضير، فلجؤوا بعد عام واحد إلى ما وقع فيه بنو النضير من غدر وخيانة، فكان اختصاص اليهود بالحكم لتلك العلة المشتركة، لأنهم وإن شاركهم غيرهم في المشاقة فلم يشاركهم غيرهم في الجانب الآخر مما قدمنا من دوافع المشاقة.
وللدوافع تأثير في الحكم، كما في قصة آدم وإبليس. فقد اشترك آدم وإبليس في عموم علة العصيان، إذ نهي آدم عن قربان الشجرة، وأمر إبليس بالسجود لآدم مع الملائكة، فأكل آدم مما نُهِي عنه، وامتنع إبليس عما أمر به فاشتركا في العصيان كما قال تعالى عن آدم :﴿ وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [ طه : ١٢١ ]، وقال عن إبليس :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ]، ولكن السبب كان مختلفاً، فآدم نسي ووقع تحت وسوسة الشيطان فخدع بقسم إبليس بالله تعالى﴿ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ٢١ ]، وكانت معصية عن إغواء ووسوسة ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [ البقرة : ٣٦ ].
أما إبليس، فكان عصيانه عن سبق إصرار، وعن حسد واستكبار كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدم فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٣٤ ]، ولما خاطبه الله تعالى بقوله :﴿ قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ [ ص : ٧٥ ] قال في إصراره وحسده وتكبره :﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ ص : ٧٦ ].
فاختلفت الدوافع، وكان لدى إبليس ما ليس لدى آدم في سبب العصيان وبالتالي اختلفت النتائج، فكانت النتيجة مختلفة تماماً. أما آدم فحين عاتبه على أكله من الشجرة في قوله تعالى :﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [ الأعراف : ٢٢ ] رجعا حالاً واعترفا بذنبهما قائلين :{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَ
قوله تعالى :﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
اللينة هنا، قيل اسم عام للنخل، وهذا اختيار ابن جرير.
وقيل : نوع خاص منه، وهو ما عدا البرني والعجوة فقط :
ونقل ابن جرير عن بعض أهل البصرة يقول : اللينة من اللون، وقال :
وإنما سميت لينة، لأنها فعلة من فعل وهو اللون، وهو ضرب من النخل : ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى ياء إلخ وهذا الأخير قريب مما عليه أهل المدينة اليوم : حيث يطلقون كلمة ﴿ لونة ﴾ على ما لا يعرفون له اسماً خاصاً، ولعل كلمة لونة محرفة عن كلمة لينة، ويوجد عند أهل المدينة من أنواع النخيل ما يقرب من سبعين نوعاً.
وقيل : إن اللينة كل شجرة لليونتها بالحياة.
وقد نزلت هذه الآية في تقطيع وتحريق بعض النخيل لبني النضير عند حصارهم وقطع من البستان المعروف بالبويرة، كما روى ابن كثير عن صاحبي الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله عز وجل :﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ الآية.
وقال حسان رضي الله عنه : وقال حسان رضي الله عنه :
وهَان عَلَى سراة بَنِي لؤي *** حريق بالبويرة مستطير
والبويرة معروفة اليوم، وهي بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء.
وقيل في سبب نزولها : إن اليهود قالوا : يا محمد إنك تنهي عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله الآية.
وقيل : إن المسلمين نهى بعضهم بعضاً عن قطع النخيل، وقالوا إنما هو مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطع من الإثم، وأن قطع ما قطع وترك ما ترك ﴿ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
وعلى هذه الأقوال، قال ابن كثير وغيره : إن قوله تعالى :﴿ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي الإذن القدري والمشيئة الإلهية، أي كما في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٦٦ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ [ آل عمران : ١٥٢ ].
والذي يظهر والله تعالى أعلم. أن الإذن المذكور في الآية، هو إذن شرعي، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [ الحج : ٣٩ ]، لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به.
والحصار نوع من القتال، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية، أو لإحكام الحصار، أو لإذلال وإرهاب العدو في حصاره وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله وممتلكاته، وقد يكون فيه إثارة له ليندفع في حمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله، فينكشف عن حصونه ويسهل القضاء عليه، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية، والتي أشار الله تعالى إليها في قوله :﴿ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ ﴾ أي بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم، وهم يرون نخيلهم يقطع ويحرق فلا يملكون له دفعاً.
وعلى كل فالذي أذن بالقتال وهو سفك الدماء وإزهاق الأنفس وما يترتب عليه من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر، ويمكن أن يقال : إن ما أذن فيه رسول الله ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾، فبإذن الله أذن.
وبهذا يمكن أن يقال : إذا حاصر المسلمون عدواً، ورأوا أن من مصلحتهم أو من مذلة العدو إتلاف منشآته وأمواله، فلا مانع من ذلك. والله تعالى أعلم.
وغاية ما فيه، أنه إتلاف بعض المال للتغلب على العدو وأخذ جميع ماله، وهذا له نظير في الشرع، كعمل الخضر في سفينة المساكين لما خرقها، أي أعابها بإتلاف بعضها ليستخلصها من اغتصاب الملك إياها، وقال :﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾[ الكهف : ٨٢ ].
وقد جاء اعتراض المشركين على المسلمين في قتالهم في الأشهر الحرم، كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل، وذلك في قوله تعالى :﴿ يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾[ البقرة : ٢١٧ ].
فقد تعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام، واتهموهم باعتداء على حرمة الأشهر الحرم، فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله وكفر بالله، وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه وهم المسلمون أكبر عند الله، والفتنة عن الدين وأكبر من القتل، أي الذي استنكروه من المسلمين.
وهكذا هنا، لئن تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال، فكيف بهم بغدرهم وخيانتهم نقضهم العهود، وتمالئهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف :
لقد خزيت بغدرتها الحبور *** كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب *** عظيم أمره أمر كبير
وقد أوتوا معاً فهماً وعلما *** وجاءهم من الله النذير
إلى أن قال :
فلما أشربوا غدراً وكفرا *** وجذبهم عن الحق الثغور
أرى الله النَّبي برأي *** صدق وكان الله يحكم لا يجور
فأيده وسلطه عليهم *** وكان نصيره نعم النصير
فقد أشار إلى أن خزي بني النضير بسبب غدرهم وكفرهم بربهم، فكان الإذن في قطع النخيل هو إذن شرعي، ويمكن أن يقال عنه، هو عمل تشريعي إذا ما دعت الحاجة، لمثل ما دعت الحاجة هنا إليه. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾.
الضمير في منهم هنا عائد على بني النضير.
والفيء : الغنيمة بدون قتال، وقد جعله تعالى هنا على رسوله خاصة.
وقال :﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ ﴾ أي لما كان إخراج اليهود مرده إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم الرعب، وبما سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه فيه غيره.
وقد جاء مصداق ذلك عن عمر رضي الله عنه الذي ساقه الشيخ تغمده الله برحمته عند آخر كلامه على مباحث الأنفال عند قوله : المسألة التاسعة : اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من المغانم، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لهما : إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا بشيء لم يعطه أحداً غيره، فقال عز وجل :﴿ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [ الحشر : ٦ ]، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموه وبثها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله إلخ ا ه.
وكانت هذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى :﴿ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [ الحشر : ٧ ] -أي عموماً- ﴿ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [ الحشر : ٧ ].
وهذه الآية لعمومها مصدراً ومصرفاً، فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة، وقد تقدم لفضيلة الشيخ تغمده الله برحمته الكلام على كل ما فيها عند أول سورة الأنفال على قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ﴾[ الأنفال : ١ ]، فاستوفى واستقصى وفصل وبين مصادر ومصارف الفيء والغنيمة والنفل. وما فتح من البلاد صلحاً أو عنوة، ومسائل عديدة مما لا مزيد عليه، ولا غنى عنه والحمد لله تعالى.
قوله تعالى :﴿ كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَآءِ مِنكُمْ ﴾.
معنى الدولة والدولة بضم الدال في الأولى، وفتحها في الثانية : يدور عند المفسرين على معنيين :
الدولة بالفتح : الظفر في الحرب وغيره، وهي المصدر، وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال.
وقال الزمخشري : معنى الآية. كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء، ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم.
ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة، لأنهم أهل الرئاسة والغلبة والدولة، وكانوا يقولون : من عزّ بزّ، والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة أثرة جاهلية، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً، يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به. إلخ.
والجدير بالذكر هنا : أن دعاة بعض المذاهب الاقتصادية الفاسدة، يحتجون بهذا الآية على مذهبهم الفاسد ويقولون : يجوز للدولة أن تستولي على مصادر الإنتاج ورؤوس الأموال، لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء، وما يسمونهم طبقة العمال، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادي، وفساد اجتماعي، قد ثبت خطؤه، وظهر بطلانه مجانباً لحقيقة الاستدلال.
لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة. من الإنفاق على المجاهدين، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور، وليس يعطي للأفراد كما يقولون، ثم هو أساساً مال جاء غنيمة للمسلمين، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه.
ولما كان مال الغنيمة ليس ملكاً لشخص، ولا هو أيضاً كسب لشخص معين. تحقق فيه العموم في مصدره، وهو الغنيمة، والعموم في مصرفه، وهو عموم مصالح الأمة، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه، فشتان بين هذا الأصل في التشريع وهذا الفرع في التضليل.
ومن المؤسف أنهم يؤيدون دعواهم بإقحام الحديث في ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " المسلمون شركاء في ثلاث : الماء والنار والكلأ "، ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة ما دامت على عمومها فالماء شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير. أما إذا انتقل من مورده العام وأصبح في حيازة ما، فلا شركة لأحد فيه مع من حازه، كمن ملأ إناء من النهر أو السيل ونحوه، فما كان في إنائه فهو خاص به، وهذا الكلأ ما دام عشباً في الأرض العامة لا في ملك إنسان معين فهو عام لمن سبق إليه، فإذا ما احتشه إنسان وحازه، فلا شركة لأحد فيه، وكذلك ما كان منه نابتاً في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره.
ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاع للجميع، والطير في الهواء يصاد. فإنه قدر مشترك بين جميع الصيادين، فإذا ما صاده إنسان فقد حازه واختص به، وهذا أمر تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية وتعطي تراخيص رسمية لذلك.
وهناك العمل الجاري في تلك الدول، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في الماء والنار والكلأ، وذلك في شركات المياه والنور فإنهم يجعلون في كل بيت عداداً يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه.
وكذلك التيار الكهربائي، فإنه نار، وهو الطاقة الفعالة في المدن فإنهم يقيسونه بعداد يعد الكيلوات، ويبيعونه على المستهلك، فلماذا لا يجعلون الماء والكهرباء، شركة بين المواطنين ؟ أم الناس شركاء فيما لا يعود على الدولة، أما حق الدولة فخاص للحكام ؟ إنه عكس ما في قضية الفيء تماماً.
حيث إن الفيء والغنيمة الذي جعله الله حلالاً من مال العدو، وهو كسب عام دخل على الأمة بمجهود الأمة كلها، الماثل في الجيش الذي يقاتل باسمها، وجعله تعالى في مصارف عامة في مصالح الأمة، ﴿ لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾.
﴿ فلله ﴾ : أي الجهاد في سبيل الله.
﴿ وللرسول ﴾ : لقيامه بأمر الأمة، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله عاماً، وما بقي يرده في سبيل الله.
﴿ ولذي القربى ﴾من تلزمه نفقتهم.
﴿ واليتامى والمساكين ﴾ : هذا هو التكافل الاجتماعي في الأمة.
﴿ وابن السبيل ﴾ : المنقطع في سفره، وهذا تأمين للمواصلات.
فكان مصرفه بهذا العموم دون اختصاص شخص به أو طائفة ﴿ كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ ﴾.
وإنه لمن مواطن الإعجاز في القرآن. أن يأتي بعد هذا التشريع قوله تعالى :﴿ وَمَآ اتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ [ الحشر : ٧ ] الآية، لأنه تشريع في أمر يمس الوتر الحساس في النفس، وهو موطن الشح والحرص، ألا وهو كسب المال الذي هو صنو النفس، والذي تولى الله قسمته في أهم من ذلك، وهو في الميراث.
قسمه تعالى مبيناً فروضه، وحصة كل وارث، لأنه كسب بدون مقابل، وكسب إجباري. والنفوس متطلعة إليه فتولاه الله تعالى، وكذلك الفيء والغنيمة، وحرم الغلول فيه قبل القسمة.
ومثل هذا المال هو الذي ألفوا قسمته مغنماً، والذي بذلوا النفوس والمهج قبل الوصول إليه، فإذا بهم يمنعون منه، ويحال بينهم وبينه، فيقسم المنقول فقط، ولا يقسم العقار الثابت، ويقال لهم : حدث هذا ﴿ كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ ﴾ [ الحشر : ٧ ]، سواء الأغنياء بأبدانهم وقدرتهم على العمل وعلى الجهاد أو الأغنياء بأموالهم بما حصلوه من مغانم قبل ذلك.
وكان لا بد لنفوسهم من أن تتحرك نحو هذا المال، وفعلاً ناقشوا عمر رضي الله عنه فيه، ولكن هنا يأتي سوط الطاعة المسلت، وأمر التشريع المسكت إنه عن الله أتاكم به رسول الله :﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ [ الحشر : ٧ ] فإن الآية وإن كانت عامة في جميع التشريع إلا أنها هنا أخص، وهي به أقرب، والمقام إليها أحوج.
وهنا ينتقل بنا القول إلى ما آتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المعنى بالذات أي : معنى المشاركة في الأموال.
لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية وإيثار، ومع هذا فقد كان منه صلى الله عليه وسلم أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته، فيقول لأصحابه : " من يضيف هذا، الليلة وله الجنة ؟ " فيأخذه بعض أصحابه، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً : ألا يجدوا ما يحملهم عليه، ويأتيه القدح من اللبن، فيدعو : يا أهل الصفة. ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار، منهم من يجهز الجيش من ماله، ومنهم من يتصدق بالقافلة كاملة وما فيها، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ومنهم ومنهم فلم يأخذ قط ولا درهماً واحداً ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل، لم يأخذ منه درهماً بدون رضاه، ليشارك معه فيه واحداً من أهل الصفة، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة، يسد مسغبته، ولا بعيراً واحداً ممن جهز جيشاً من ماله ليحمل عليه متطوعاً في سبيل الله.
إنها أموال محترمة، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس، إلا برضى نفس وطيب خاطر، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون، ويعطون ولا يشحون، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكان مجتمعاً متكافلاً مؤتلفاً متعاطفاً وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ [ الحشر : ٨ ]، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى.
وللشيخ رحمه الله تعالى كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] الآية.
نسوق نصه لأهميته :
قال رحمه الله : مسألة : دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ ﴾ الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ ﴾ [ النحل : ٧١ ].
ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض ألبتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه، ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [ فاطر : ٤٣ ] وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون. وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس لينعموا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا تحت ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير.
وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] وفي قوله :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ وعيد شديد لمن فعل ذلك. انتهى حرفياً.
والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده، وفي الحديث القدسي : " إن من عبادي لمن يصلح له الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى ولو أفقرته لفسد حاله " فهو سبحانه يعطي بقدر، ولا يمسك عن قتر.
ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ رحمة الله تعالى عليه في أسلوبها في قوله تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم والتفخيم، ومثله الضمير في ﴿ قسمنا ﴾، فلا مجال لتدخل المخلوق، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك. والقسمة إذا كانت من الله تعالى، فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك بل ويتوقف عليه، كما قال تعالى ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ].
وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك، ويقرون نظام
قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾.
في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة : أنهم ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾، وغايتها : وهي ﴿ وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، والحكم لهم بأنهم ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾.
ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه : منها قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ]، وقوله تعالى بعدها :﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾ [ الأنفال : ٧٤ ].
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر، ووصف الفريقين معاً بولاية بعضهم لبعض، وأثبت لهم معاً حقيقة الإيمان ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾، أي الصادقون في إيمانهم، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم، وهو الإيثار على النفس، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المال للغير عند حاجته مقدماً غيره على نفسه، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [ الحشر : ٨ ] فكانت لهم ديار، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم، وقاسموهم ممتلكاتهم، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب، بل تركوها كلها. أموالهم وديارهم وأولادهم وأهلهم، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم. ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده، لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله، وهو مستقر في أهله ودياره، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله : أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :" إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " فقالوا يا رسول الله : أموالنا بيننا قطائع الحديث.
أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين، وعليه أيضاً، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم، وكان خلقاً لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله فقال له، رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله. وكذلك عائشة الصديقة رضي الله عنها. حينما كانت صائمة وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة : ادفعي إليه ما عندك، فقالت : لها : ليس إلا ما ستفطرين عليه، فقالت لها : ادفعيه إليه، ولعلها أحوج إليه الآن، أو كما قالت. ولما جاء المغرب أهدى إليهم رجل شاة بقرامها- وقرامها هو ما كانت العرب تفعله إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظاً لها من رماد الجمر فقالت لبريرة : كلي، هذا خير من قرصك.
وكما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها.
فعلى هذا، كان مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مجتمعاً متكافلاً بعضهم أولياء بعض، وقد نوَّه صلى الله عليه وسلم في قصة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم :" لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ".
ومن بعده عمر رضي الله عنه قال : وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان، من قبل أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم.
ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعاً، كما وقع في وقعة اليرموك، قال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به فقلت له : أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول : آه آه، فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت أسقيك ؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول آه آه. فأشار هشام أن أنطلق إليه فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وكان منهج الخواص من بعدهم، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علينا حاجاً فقال لي : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا، وإن فقدنا صبرنا، فقال : هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا.

وفي قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾.
وصف شامل للأنصار، ﴿ تبوءوا الدار ﴾ : أي المدينة، ﴿ والإيمان من قبلهم ﴾ : أي بيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين ﴿ يحبون من هاجر إليهم ﴾ ويستقبلونه بصدور رحبة، ﴿ ويؤثرون ﴾ غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لأنهم هاجروا إليهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم، وهو الإيثار على النفس، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المال للغير عند حاجته مقدماً غيره على نفسه، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [ الحشر : ٨ ] فكانت لهم ديار، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم، وقاسموهم ممتلكاتهم، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب، بل تركوها كلها. أموالهم وديارهم وأولادهم وأهلهم، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم. ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده، لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله، وهو مستقر في أهله ودياره، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله : أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :" إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " فقالوا يا رسول الله : أموالنا بيننا قطائع الحديث.
أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين، وعليه أيضاً، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم، وكان خلقاً لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله فقال له، رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله. وكذلك عائشة الصديقة رضي الله عنها. حينما كانت صائمة وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة : ادفعي إليه ما عندك، فقالت : لها : ليس إلا ما ستفطرين عليه، فقالت لها : ادفعيه إليه، ولعلها أحوج إليه الآن، أو كما قالت. ولما جاء المغرب أهدى إليهم رجل شاة بقرامها- وقرامها هو ما كانت العرب تفعله إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظاً لها من رماد الجمر فقالت لبريرة : كلي، هذا خير من قرصك.
وكما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها.
فعلى هذا، كان مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مجتمعاً متكافلاً بعضهم أولياء بعض، وقد نوَّه صلى الله عليه وسلم في قصة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم :" لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ".
ومن بعده عمر رضي الله عنه قال : وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان، من قبل أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم.
ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعاً، كما وقع في وقعة اليرموك، قال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به فقلت له : أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول : آه آه، فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت أسقيك ؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول آه آه. فأشار هشام أن أنطلق إليه فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وكان منهج الخواص من بعدهم، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علينا حاجاً فقال لي : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا، وإن فقدنا صبرنا، فقال : هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا.


وفي قوله :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [ الحشر : ٩ ].
الإيثار على النفس : تقديم الغير عليها مع الحاجة، والخصاصة : التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص، وهو الانفراد في الأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر
وهل يصح الإيثار من كل إنسان ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا ؟ وما علاقته مع قوله :﴿ وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] ؟.
والجواب على هذا كله في كلام الشيخ رحمه الله على قوله تعالى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ في أول سورة البقرة.
قال رحمه الله : قوله تعالى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾، عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ما له كله، ولم يبين هنا القدر الَّذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة، وسد الخلَّة التي لا بد منها، وذلك كقوله :﴿ وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى :﴿ حَتَّى عَفَواْ ﴾ أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم.
وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع.
ومنه قول الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب.
وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا، وبقية الأقوال ضعيفة، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ]، فنهاه عن البخل بقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ﴾، ونهاه عن الإسراف بقوله :﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾، فيتعين الوسط بين الأمرين، كما بينه بقوله :﴿ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ].
فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والإقتار، فالجود غير التبذير، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ ولا تجعَلْ يَدكَ مَغلولةً إلى عُنُقك ﴾، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضاً، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : " ولا تبسطها كل البسط ".
وقد قال الشاعر :
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
وقد بين تعالى في مواضع أخرى، أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله كقوله تعالى :﴿ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] الآية، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله :﴿ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ﴾ [ الأنفال : ٣٦ ].
وقد قال الشاعر :
إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا، وذلك في قوله :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [ الحشر : ٩ ].
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم : هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعاً، وذلك كما إذا كانت على المنفق واجبة كنفقة الزوجات ونحوها، فتبرع بالإنفاق في غير واجب، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم " وابدأ بمن تعول "، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم، فلا يجوز له ذلك ؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة، وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال.
وأما على القول بأن قوله تعالى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٣ ] يعني به الزكاة، فالأمر واضح، والعلم عند الله تعالى. انتهى منه.
والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة :
الأولى : الإنفاق من بعض المال بصفة عامة، كما في قوله تعالى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾.
الثانية : الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه، كما في قوله تعالى ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، وهذا أخص من الأول، وقوله :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ [ الإنسان : ٨ ] الآية.
الثالثة : الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [ الحشر : ٩ ] فهي أخص من الخاص الأول.
وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب، حتى قيل : إن المراد بها الزكاة. وهي تشمل النافلة، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة، وتدخل في قوله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧ ]، وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى، لأنها إيثار للغير على خاصة النفس، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس، كما بينه تعالى بقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ].
وكما امتدح الله تعالى قوماً بالاعتدال في قوله :﴿ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ]
وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة : " الفضيلة وسط بين طرفين " أي طرفي الإفراط والتفريط. فالشجاعة مثلاً وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والتقتير.
والإنفاق جوانب متعددة، وأحكام متفاوتة، قد بين الشيخ رحمه الله جانباً من الأحكام، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى، وتنحصر في الآتي : نوع ما يقع منه الإنفاق، الجهة المنفق عليها، موقف المنفق، وصورة الإنفاق.
أما ما يقع منه الإنفاق : قد بينه تعالى أولاً من كسب حلال لقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ إلا رْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ].
وقوله تعالى :﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾.
أما الجهة المنفق عليها : فكما في قوله تعالى :﴿ يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] فبدأ بالوالدين براً لهما، وثنَّى بالأقربين.
وقال صلى الله عليه وسلم : " الصدقة على القريب صدقة وصلة، وعلى البعيد صدقة " ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي، لأن يتيم اليوم منفق الغد، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيماً غداً، أي أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاماً، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس، والمساكين وابن السبيل أمور عامة.
وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] أي مطلقاً ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ]، وكفى في ذلك علمه تعالى.
أما موقف المنفق وصورة الإنفاق : فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب، مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم.
لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٦٢ ].
ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٦٣ ] يعطي ولا يمن بالعطاء.
وأفهم المنفقين أن المنّ والأذى يبطل الصدقة ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ] لما فيه من جرح شعور المسكين.
وقد حثَّ على إخفائها إمعاناً في الحفاظ على شعوره وإحساسه ﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ أي مع الآداب السابقة ﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٧١ ] أي لكم أنتم في حفظ ثوابها.
وقد جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله " رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه "، وكما قال تعالى :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٧٤ ].
ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق، فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ. وذلك في قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ].
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
في هذه الآية الكريمة حث على تقوى الله في الجملة، واقترنت بالحث على النظر والتأمل فيما قدمت كل نفس لغد، وتكرر الأمر فيها بتقوى الله، مما يدل على شدة الاهتمام والعناية بتقوى الله على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله، سواء كان التكرار للتأكيد أم كان للتأسيس، وسيأتي بيانه إن شاء الله. أما الاهتمام بالحث على التقوى، فقد دلت له عدة آيات من كتاب الله تعالى، ولو قيل : إن الغاية من رسالة الإسلام كلها، بل ومن جميع الأديان هو تحصيل التقوى لما كان بعيداً، وذلك للآتي :
أولاً : قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : ٢١ ]، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين. هي الغاية من خلق الثقلين الإنس والجن. وقد جاء النص مفصلاً في حق كل أمة على حدة، منها في قوم نوح عليه السلام قال تعالى :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [ الشعراء : ١٠٥ – ١٠٨ ]، وفي قوم عاد قال تعالى :﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [ الشعراء : ١٧٦ -١٧٩ ]، وفي قوم لوط :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [ الشعراء : ١٦٠-١٦٣ ]، وفي قوم شعيب، قوله تعالى :﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [ الشعراء : ١٧٦ -١٧٩ ].
فكل نبي يدعو قومه إلى التقوى كما قدمنا، ثم جاء القرآن كله دعوة إلى التقوى وهداية للمتقين، كما في مطلع القرآن الكريم :﴿ آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ١ -٢ ]، وبين نوع هذه الهداية المتضمنة لمعنى التقوى بقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[ البقرة : ٣ -٥ ].
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى عليه معنى التقوى عند قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ].
قال : لم يبين هنا من المتقي، وقد بينه تعالى في قوله :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ].
وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل.
منها في العاجل قوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾[ الطلاق : ٤ ]، وقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾[ الطلاق : ٢ -٣ ]، وقوله :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾[ البقرة : ٢٨٢ ]، وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [ النحل : ١٢٨ ].
أما في الآجل وفي الآخرة، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف، كما في قوله تعالى :﴿ الأخلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴾ إلى قوله :﴿ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ الزخرف : ٦٧ -٧٣ ] إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين، وتحلهم مقعد صدق، كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾[ القمر : ٥٤ -٥٥ ].
فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها، وقد جعلها الشاعر السعادة كل السعادة كما في قوله، وهو لجرير :
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
فتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد
والتقوى دائماً هي الدافع على كل خير، الرادع عن كل شر، روى ابن كثير في تفسيره عن الإمام أحمد في مجيء قوم من مضر، مجتابي الثمار والعباءة. حفاة عراة متقلدي السيوف. فيتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً ينادي للصلاة، فصلَّى ثم خطب الناس وقرأ قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾[ النساء : ١ ] إلى آخر الآية، وقرأ الآية التي في سورة الحشر :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾[ الحشر : ١٨ ] الآية، تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره حتى قال : ولو بشق تمرة، قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت ثم تتابع الناس إلى قوله : حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء " الحديث.
فكانت التقوى دافعاً على سنّ سنَّة حسنة تهلل لها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنها تحول دون الشر، من ذلك قوله تعالى :﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ]، وقوله :﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾[ البقرة : ٢٨٣ ]، فإن التقوى مانعة من بخس الحق ومن ضياع الأمانة، وكقوله عن مريم في طهرها وعفتها لما أتاها جبريل وتمثل لها بشراً سوياً :﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾ [ مريم : ١٨ ].
وكما في حديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ومنهم الرجل مع ابنة عمه لما قالت له : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها وترك لها المال.
وهكذا في تصرفات العبد كما في قوله تعالى :﴿ ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [ الحج : ٣٢ ].
والخطاب في قوله تعالى :﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ﴾ [ الحشر : ١٨ ]، لكل نفس كما في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]، وقوله :﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ [ آل عمران : ٢٥ ].
فالنداء أولاً بالتقوى لخصوص المؤمنين، والأمر بالنظر لعموم كل نفس، لأن المنتفع بالتقوى خصوص للمؤمنين كما أوضحه الشيخ رحمة الله عليه في أول سورة البقرة، والنظر مطلوب من كل نفس فالخصوص للإشفاق، والعموم للتحذير.
ويدل للأول قوله تعالى :﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ].
ويدل للثاني قوله :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رءوف بِالْعِبَادِ ﴾ [ آل عمران : ٣٠ ].
وما في قوله تعالى :﴿ مَّا قَدَّمَتْ ﴾ عامة في الخير والشر، وفي القليل والكثير.
ويدل للأول قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ﴾ [ آل عمران : ٣٠ ].
ويدل للثاني قوله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾[ الزلزلة : ٧ -٨ ]، والحديث " اتقوا النار ولو بشق تمرة ".
وغداً تطلق على المستقبل المقابل للماضي، كما قال الشاعر :
واعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
وعليه أكثر استعمالاتها في القرآن، كقوله تعالى عن إخوة يوسف :﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾[ يوسف : ١٢ ]، ﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لشيء إِنّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾[ الكهف : ٢٣ -٢٤ ].
وتطلق على يوم القيامة كما هنا في هذه الآية لدلالة القرآن على ذلك، من ذلك قوله تعالى في نفس المعنى :﴿ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ﴾ [ النبأ : ٤٠ ].
والقرائن في الآية منها : اكتنافها بالحث على تقوى الله قبله وبعده.
ومنها : التذييل بالتحذير في قوله :﴿ إنّ اللهَ خبيرٌ بِمَا تَعْمَلونَ ﴾ أي بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن، ولأن يوم القيامة هو موضع النسيان، فاحتاج التنبيه عليه.
ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى :﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [ القمر : ١ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ النحل : ٧٧ ].
ومن ناحية أخرى، فإن الغد لكل إنسان بمعنى يوم القيامة يتحقق بيوم موته، لأنه يعاين ما قد قدم يوم موته، وقد نكر لفظ نفس وغد هنا، فقيل في الأول لقلة من الناظرين، وفي الثاني لعظم أمره وشدة هوله.
وهنا قد تكرر الأمر بتقوى الله كما أسلفنا مرتين، فقيل للتأكيد، قاله ابن كثير، وقيل للتأسيس، قاله الزمخشري وغيره.
فعلى أنه للتأكيد ظاهر وعلى التأسيس يكون الأول لفعل المأمور والثاني لترك المحظور، مستدلين بمجيء موجب ال
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
بعد الحث على تقوى الله وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذه النسيان، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا.
وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة التوبة :﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾[ التوبة : ٦٧ ] وهذا عين الوصف الذي وصفوا به في سورة الحشر. وقوله تعالى :﴿ فَنَسِيَهُمْ ﴾ أي أنساهم أنفسهم، لأن الله تعالى لا ينسى ﴿ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى ﴾ [ طه : ٥٢ ]، ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾[ مريم : ٦٤ ].
وقد جاء أيضاً : وصف كل من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة، ففي اليهود يقول تعالى :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ﴾[ المائدة : ١٣ ].
وفي النصارى يقول تعالى :﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ﴾[ المائدة : ١٤ ].
وفي المشركين يقول تعالى :﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥١ ]، فيكون التحذير منصباً أصالة على المنافقين وشاملاً معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعاً في أصل النسيان.
أما النسيان هنا، فهو بمعنى الترك، وقد نص عليه الشيخ رحمة الله تعالى عليه عند الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ﴾ [ طه : ١١٥ ].
فذكر وجهين، وقال : العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمداً، ومنه قوله تعالى :﴿ قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [ طه : ١٢٦ ].
فالمراد من هذه الآية الترك قصداً.
وكقوله :﴿ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥١ ].
وقوله :﴿ فَذُوقوا بِما نَسِيتُمْ لِقآء يَوْمِكُمْ هَذا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ﴾ [ السجدة : ١٤ ]
وقوله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ الآية. انتهى.
أما النسيان الذي هو ضد الذكر، وهو الترك عن غير قصد، فليس داخلاً هنا، لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه، كما في قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]. وفي الحديث أن الله تعالى قال : " قد فعلت قد فعلت " أي عند ما تلاها صلى الله عليه وسلم. وجاء في السنة " إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى عليه هذا النوع في دفع إيهام الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم، هل كان عن قصد أو عن غير قصد، وإذا كان عن غير قصد، فكيف يؤاخذ ؟. وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب رحمة الله تعالى عليه، فليرجع إليه.
وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان، وتبين معنى النسيان، فكيف أنساهم الله أنفسهم ؟ وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان :
قال ابن كثير رحمه الله : لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح، فإن الجزاء من جنس العمل.
وقال القرطبي :﴿ نسوا الله ﴾ أي تركوا أمره، ﴿ فأنساهم أنفسهم ﴾ أن يعملوا لها خيراً.
وقال أبو حيان : الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله، وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب، وهذا من المجازات على الذنب بالذنب. إلخ.
وقال ابن جرير : تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل.
أما الزمخشري والفخر الرازي، فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثاً كلامياً حيث قالا في معنى ﴿ نَسُواْ اللَّهَ ﴾ [ الحشر : ١٩ ] كما قال الجمهور، أما في معنى ﴿ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ [ الحشر : ١٩ ] فذكرا وجهين. الأول : كالجمهور، والثاني : بمعنى، أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى :﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾ [ إبراهيم : ٤٣ ]، وقوله :﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [ الحج : ٢ ] ا ه.
وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما، لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة، وليس خاصاً بمن نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾، فهو عام في جميع الناس.
وقوله :﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾ [ الحج : ٢ ]. والذهول أخو النسيان، وهو هنا عام في كل مرضعة ﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ [ الحج : ٢ ] وهو أيضاً عام، وذلك من شدة الهول يوم القيامة، ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه، هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله، وفيه شبهة اعتزال كما لا يخفى.
ولوجود إسناد الإنساء إلى الشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى :﴿ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [ الكهف : ٦٣ ]، وكما في قوله تعالى :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ]، وقوله : عن صاحب يوسف :﴿ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ [ يوسف : ٤٢ ].
ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني، وأنها كلها من الله ﴿ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ [ النساء : ٧٨ ]، ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [ التوبة : ٥١ ] فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى :﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾، ثم قال :﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [ الشعراء : ٨٠ ] تأدباً في الخطاب مع الله تعالى، ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم، فأوقع عليهم النسيان لأنفسهم مجازاة لهم على أعمالهم، فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾.
تنبيهان :
الأول : جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى :﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ [ الحاثية : ٣٤ ].
وقوله :﴿ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ ﴾ [ السجدة : ١٤ ].
وقوله :﴿ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ]، وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع الإشكال مع قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٤ ] وقوله :﴿ لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى ﴾ [ طه : ٥٢ ].
وقد أجاب الشيخ رحمة الله عليه عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب، بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم، والمنفي عنه تعالى : هو الذي بمعنى السهو، لأنه محال على الله تعالى.
التنبيه الثاني :
مما نص عليه الشيخ رحمة الله تعالى عليه في مقدمة الأضواء، أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد، وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى :﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ [ الجاثية : ٣٤ ] وهذا القول يكون يوم القيامة، وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال، ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة، وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة، وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد، أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة، فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل، فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك، وكان قوله تعالى :﴿ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ [ الحشر : ١٩ ] مفسراً ومبيناً لمعنى ﴿ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ ﴾ [ السجدة : ١٤ ] ولقوله ﴿ إِنَّا نَسِينَاكُمْ ﴾ والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ﴾.
دلت هذه الآية الكريمة على عدم استواء الفريقين : أصحاب النار وأصحاب الجنة. وهذا أمر معلوم بداهة، ولكن جاء التنبية عليه لشدة غفلة الناس عنه، ولظهور أعمال منهم تغاير هذه القضية البديهية، كمن يسيء إلى أبيه فتقول له : إنه أبوك، قاله بعض المفسرين.
وهذا في أسلوب البيان يراد به لازم الخبر. أي يلزم من ذلك التنبيه أن يعملوا ما يبعدهم عن النار ويجعلهم من أصحاب الجنة، لينالوا الفوز.
وهذا البيان قد جاءت نظائره عديدة في القرآن كقوله تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ ص : ٢٨ ].
وكقوله :﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ﴾ [ السجدة : ١٨ ] أي في الحكم عند الله، ولا في الواقع في الحياة أو في الآخرة، كما قال تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢١ ]، وهنا كذلك ﴿ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴾ [ الحشر : ٢٠ ] في المرتبة والمنزلة والمصير.
قال أبو حيان : هذا بيان مقابلة الفريقين أصحاب النار في الجحيم، وأصحاب الجنة في النعيم، والآية عند جمهور المفسرين في بيان المقارنة بين الفريقين، وهو ظاهر السياق بدليل ما فيها من قوله :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ﴾، فهذا حكم على أحد الفريقين بالفوز، ومفهومه الحكم على الفريق الثاني بالهلاك والخسران، ويشهد له أيضاً ما قبلها ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ ﴾ [ الحشر : ١٩ ] أي من هذا الفريق فأنساهم أنفسهم، فصاروا أصحاب النار على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وهنا احتمال آخر، وهو لا يستوي أصحاب النار في النار ولا أصحاب الجنة في الجنة، فيما هم فيه من منازل متفاوتة كما أشار إليه أبو حيان عند قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ﴾ [ فصلت : ٣٤ ]، ولكن عدم وجود اللام هنا يجعله أضعف احتمالاً، وإلا لقال : لا يستوي أصحاب النار، ولا أصحاب الجنة، وهذا المعنى، وإن كان واقعاً لتفاوت درجات أهل الجنة في الجنة، ومنازل أهل النار في النار، إلا أن احتماله هنا غير وارد، لأن آخر الآية حكم على مجموع أحد الفريقين، وهم أصحاب الجنة أي في مجموعهم كأنه في مثابة القول : النار والجنة لا يستويان، فأصحابهما كذلك.
وقد نبه أبو السعود على تقديم أصحاب النار، في الذكر على أصحاب الجنة بأنه ليبين لأول وهلة أن النقص جاء من جهتهم كما في قوله :﴿ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ﴾ [ الرعد : ١٦ ]
ا ه.
وبيان ذلك أن الفرق بين المتفاوتين في الزيادة والنقص، يمكن اعتبار التفاوت بالنسبة إلى النقص في الناقص، ويمكن اعتباره بالنسبة إلى الزيادة في الزائد.
فقدم الجانب الناقص ليبين أن التفاوت الذي حصل بينهما، إنما هو بسبب النقص الذي جاء منهما لا بسبب الزيادة في الفريق الثاني، والنتيجة في ذلك عدم إمكان جانب النقص الاحتجاج على جانب الزيادة، وفيه زيادة تأنيب لجانب النقص، وفي الآية إجمال أصحاب النار وأصحاب الجنة.
ومعلوم أن كلمة أصحاب تدل على الاختصاص، فكأنه قال : أهل النار وأهل الجنة المختصون بهما.
وقد دل القرآن أن أصحاب النار هم الكفار كما قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ [ البقرة : ٣٩ ].
والخلود لا خروج معه كما في قوله تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ إلى قوله ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ وكقوله في سورة الهمزة ﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴾ [ الهمزة : ٣ -٨ ] أي : مغلقة عليهم.
أما أصحاب الجنة فهم المؤمنون كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأحقاف : ١٣ -١٤ ] وقد جمع القسمين في قوله تعالى ﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ البقرة : ٨١ -٨٢ ].
كما جاء مثل هذا السياق كاملاً متطابقاً فيفسر بعضه بعضاً كما قدمنا، وذلك في سورة التوبة قال تعالى ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِي حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [ التوبة : ٦٧ – ٦٨ ].
فهذه أقسام الكفر والنفاق، وأخص أصحاب النار والاختصاص من الخلود فيها ولعنهم وهي حسبهم، وهم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم عين من ذكر في هذه السورة سورة الحشر، ثم جاء مقابلة تماماً في نفس السياق في قوله تعالى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [ التوبة : ٧١-٧٢ ].
وهذه أيضاً أخص صفات أهل الجنة، من الرحمة والرضوان، والخلود، والإقامة الدائمة في جنات عدن، إذ العدن الإقامة الدائمة، ومنها المعدن لدوام إقامته في مكانه، ورضوان من الله أكبر.
ثم يأتي الختام في المقامين متحداً، وهو الحكم بالفوز لأصحاب الجنة، ففي آية التوبة ﴿ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] وفي آية الحشر ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ﴾، وبهذا علم من هم أصحاب النار، ومن هم أصحاب الجنة.
وتبين ارتباط هذه المقابلة بين هذين الفريقين، وبين ما قبلهم ممن نسوا فأنساهم أنفسهم، ومن اتقوا الله وقدموا لغدهم، وبهذا يعلم أن عصاة المسلمين غير داخلين هنا في أصحاب النار، لما قدمنا من أن أصحاب النار هم المختصون بها ممن كفروا بالله وكذبوا بآياته، وكما يشهد لهذا قوله تعالى ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ﴾ [ مريم : ٧١ -٧٢ ]، والظالمون هنا هم المشركون في ظلمهم أنفسهم.
وبهذا يرد على المعتزلة أخذهم من هذه الآية عدم دخول أصحاب الكبيرة الجنَّة على أنهم في زعمهم لو دخلوها لاستووا مع أصحاب الجنة.
وهذا باطل كما قدمنا، ومن ناحية أخرى يرد بها عليهم، وهي أن يقال : إذا خلد العصاة في النار على زعمكم مع ما كان منهم من إيمان بالله وعمل صالح فماذا يكون الفرق بينهم وبين الكفار والمشركين، وتقدم قوله تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ ﴾ [ ص : ٢٨ ].
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى عليه، مسألة بقاء العصاة وخروجهم من النار وخلود الكفار فيها بحثاً واسعاً في دفع إيهام الاضطراب في سورة الأنعام فليرجع إليه.
وقد استدل الشافعي رحمه الله، بهذه الآية أن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بكافر لأنهما لا يستويان، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر. ذكره الزمخشري.
وهذا وإن كان حقاً إلا أن أخذه من هذه الآية فيه نظر، لأنها في معرض المقارنة للنهاية يوم القيامة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مسألة :
يؤخذ من كلام ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله : بسم الله، ولا يقول الرحمن الرَّحيم، لأن اسم الرحمن الرَّحيم يقتضي الرَّحمة، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح.
ويؤيد هذا ما ذكره ابن قدامة أنه ثبت عنه ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ أنه كان إذا ذبح قال :" بسم الله والله أكبر " أي أكبر وأقدرك عليها، وهو أكبر منك عليك منها.
فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو، كان حقاً قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها، فكان حقاً من أهل الجنة، والعلم عند الله تعالى.
ولقد استوقفني طويلاً مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلاً لها وختاماً وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد، وإقامة الدليل، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل، فمكثت طويلاً أتطلب ربطها بما قبلها، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع، ولا يشفي عليلاً في مجتمعاتنا الحديثة، أو يذهب شبه المدنية المادية، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولاً بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني، ثم تسوق أعظم حدث تشهده المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود، ولم يكن مظنوناً إخراجهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة.
ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين، فريق المؤمنين والكافرين.
يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ومودة ورحمة وعطاء وإيثار على النفس.
ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين واليهود، وما كان بينهم من مواعدة وإغراء وتحريض، ثم تخل عنهم وخذلان لهم.
فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك.
ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما، وفي ذلك تقرير المصير :﴿ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ﴾ [ الحشر : ٢٠ ].
وهذه أخطر قضية في كل أمة أي تقرير مصيرها، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشم أو حجراً أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق والأمة والرسالة والبدء والنهاية وصراع الحق مع الباطل، والكفر والإيمان والنفوس في الشح والإحسان، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية.
﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الحشر : ٢١ ].
فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض، وتنقل من موقف إلى موقف، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته، نطق بتسبيحه، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده، فأوجده على مقتضى علمه به، وسيره على النحو الذي أوجده عليه، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضوهم، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله، فحث العباد بالأخذ به، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة، كان حقاً هو الله وحده.
ثم مرة أخرى :﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾ [ الحشر : ٢٣ ]، برهان آخر في صور متعددة، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدّوس، الملك المهيمن على ملكه القدّوس المسلم من كل نقص، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة. كما قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ الملك : ١ ].
وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معاً عالم الغيب والشهادة، والملك القدوس والسلام المهيمن، فنجدها مترابطة متلازمة لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه. والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه.
فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات : العلم والملك والتقديس والهيمنة، حصل الكمال والجلال، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون، ﴿ هو الله الخالق البارئُ المصور له الأسماء الحسنى ﴾.
وهنا، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله، فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد.
و﴿ البارئُ ﴾ الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئاً أوجده إلا الله.
و﴿ المصور ﴾ المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه.
وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق، فإن الخلق والتقدير لا بد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره.
و ﴿ المهيمن ﴾ : يسير ما يوجده على مقتضى ما يقدره.
والذي قدر فهدى، العزيز الذي لا يقهر الجبار الذي يقهر كل شيء لإرادته، وتقديره، ويخضعه لهيمنته.
﴿ المتكبر ﴾ الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون.
وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم، هُوَ ﴿ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [ الحشر : ٢٤ ] وهو أعظم دليل كما تقدم، وهو كما قال : دليل الإلزام، لأن الخلق لا بد لهم من خالق، وهذه قضية منطقية مسلمة، وهي أن كل موجود لا بد له من موجد، وقد ألزمهم في قوله تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [ الطور : ٣٥ ]، وهذا بالسير، والتقسيم أن يقال : إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعدم ليس أمراً وجودياً حتى يمكن له أن يوجد موجوداً.
﴿ أم هم الخالقون ؟ ﴾، وهم أيضاً يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم، فيبقى المخلوق لا بد له من خالق، وهو الله تعالى : الخالق الباريء.
ولو قيل من جانب المنكر : إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها، كالأبوين للحيوان وكالحرث والسقي للنبات إلخ، قوله تعالى :﴿ الْمُصَوّرُ ﴾، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذّكورة أو الأنوثة أو من جنس اللّون والطّول والقصر والشبه ؟
الجواب : لا وكلا، بل ذلك لله وحده، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، كما قال تعالى :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٤٩ -٥٠ ].
وكذلك في النبات، توضع الحبة وتسقى بالماء، فالتربة واحدة، والماء واحد، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض، وذاك نبت على ساق، وهذا كرم على عرش، وذاك نخل باسقات، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها، من استدارتها أو استطالتها أو غير ذلك، وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض ؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معاً، لا وكلا. إنه هو الله الخالق البارىء المصور، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً.

قوله تعالى :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا ﴾ يدل على أنه لم ينزله، وأنه ذكر على سبيل المثال ليتفكر الناس في أمره كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾ [ الرعد : ٣١ ] الآية.
قال الشيخ رحمة الله تعالى عليه، عندها : جواب لو محذوف.
قال بعض العلماء : تقديره لكان هذا القرآن إلخ ا ه.
وقال ابن كثير : يقول تعالى : معظماً لأمر القرآن ومبيناً علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد، ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ ﴾ الآية. فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل.
فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وقد تدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
وقد وجد لبعض الناس شيئاً من ذلك عن سماع آيات من القرآن، من ذلك ما رواه ابن كثير في سورة الطور عن عمر رضي الله عنه قال : خرج عمر رضي الله عنه يعس بالمدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ ﴿ والطور ﴾ حتى بلغ ﴿ إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ﴾. قال : قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث ملياً ثم رجع إلى منزله فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.
وذكر القرطبي : قال جبير بن مطعم قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فوافيته يقرأ في صلاة المغرب ﴿ والطور ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ [ الطور : ٧-٨ ]، فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفاً من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وذكر في خبر مالك بن دينار أنه سمعها فجعل يضطرب حتى غشي عليه :
وقد نقل السيوطي في الإتقان خبر مالك بن دينار بتمامه في فصل إعجاز القرآن. وقال : قد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف، وقد ينشأ هنا سؤال كيف يكون هذا تأثير القرآن لو أنزل على الجبال ولم تتأثر به القلوب، وقد أجاب القرآن عن ذلك في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِي كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [ البقرة : ٧٤ ]، وكذلك أصموا آذانهم عن سماعه وغلفوا قلوبهم بالكفر عن فهمه، وأوصدوها بأقفالها فقالوا :﴿ قلوبنا غلف ﴾. وكذلك قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ [ الكهف : ٥٧ ] أي : بسبب الإعراض وعدم التدبر والنسيان، ولذا قال تعالى عنهم :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ﴾ [ محمد : ٢٤ ] فهذه أسباب عدم تأثر الكفار بالقرآن كما قال الشاعر :
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
ويفهم منه بمفهوم المخالفة أن المؤمنين تخشع قلوبهم وتلين جلودهم، كما نص تعالى عليه بقوله تعالى :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] وقوله تعالى :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا ﴾ يدل على أنه لم ينزله على جبل ولم يتصدع منه.
وقد جاء في القرآن ما يدل عليه : لو أنزله، من ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ].
وهذا نص صريح لأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة وهي أمانة التكليف بمقتضى خطاب الله تعالى إياها. فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت به.
ومنها : أن الله تعالى لما تجلى للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً.
والقرآن كلام الله وصفة من صفاته، فهو شاهد وإن لم يكن نصاً.
ومنها النص على أن بعض الجبال التي هي الحجارة ليهبط من خشية الله لقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٧٤ ].
وقد جاء في السنة إثبات ما يشبه ذلك في جبل أُحد، حينما صعد عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهما فارتجف بهم، فقال صلى الله عليه وسلم : " أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق شهيدان ".
وسواء كان ارتجافه إشفاقاً أو إجلالاً فدل هذا كله على أنه تعالى : وإن لم ينزل القرآن على جبل أنه لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى :﴿ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾.
وبهذا أيضاً يتضح أن جواب لو في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ﴾ [ الرعد : ٣١ ] لكان هذا القرآن أرجح من تقديرهم لكفرتم بالرحمان، لأن موضوع تسيير الجبال وخشوعها وتصديعها واحد، وهو الذي قدمه الشيخ رحمة الله تعالى عليه هناك، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
﴿ الأمثال ﴾ : جمع مثل، وهو مأخوذ من المثل، وأصل المثل الانتصاب، والممثل بوزن اسم المفعول المصور على مثال غيره.
قال الراغب الأصفهاني، يقال : مثل الشيء إذا انتصب وتصور، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار "، والتمثال : الشيء المصور، وتمثل كذا تصور قال تعالى :﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ﴾ [ مريم : ١٧ ].
والمثل : عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم : الصيف ضيعت اللبن، فإن هذا القول يشبه قولك : أهملت وقت الإمكان أمرك، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال :﴿ وَتِلْكَ إلا مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
وفي آية أخرى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ].
والمثال يقال على وجهين :
أحدهما : بمعنى المثل نحو مشبه ومشبه به، قال بعضهم : وقد يعبر بهما عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ الرعد : ٣٥ ].
والثاني : عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة.
وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط.
والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط.
والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط.
والشكل يقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط، والمثل عام في جميع ذلك.
ولهذا لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] إلخ ا ه.
فقوله في تعريف المثل. إنه عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر، بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره.
فإنهم اتفقوا على أن القول لا يتغير بل يحكي على ما قيل أولاً كقولهم : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء خطاباً للمؤنثة.
فلو قيل لرجل أهمل وقت الإمكان ثم راح يطلبه بعد فواته، لقلت له : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء على الحكاية.
وهذا مما يسمى الاستعارة التمثيلية من أبلغ الأساليب، وأكثر ما في القرآن من أمثلة إنما هو من قبيل التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه صورة بصورة، وهو من أوضح أساليب البيان.
وقد ساق الشيخ رحمة الله تعالى عليه، عدداً منها في الجزء الرابع عند قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٤ ]، ومن أهم أغراض هذا النوع من التشبيه هو بيان صورة بصورة وجعل الخفي جلياً، والمعنوي محسوساً كقوله تعالى :﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾ [ الرعد : ١٤ ].
فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة، وفي تلك الصورة بكل أجزائها، وهو باسط يده مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه، وهو فاغر فاه ليشرب، لقلت وأي جدوى تعود عليه، ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة، إنه يموت عطشاً ولا يذوق منه قطرة.
وكذلك حال من يدعو غير الله مع ما يدعوهم من دونه لا يحصل على طائل كقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤١ ] فأي غناء لإنسان في بيت العنكبوت.
وكذلك أي غناء في ولاية غير الله فكذلك الحال هنا، أريد بالأمثال صور يصور لانتزاع الحكم من السامع بعد أن تصبح الصورة محسوسة ملموسة، وانظر قوله تعالى :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] وكيف غطى وأخفى في هذا الأسلوب ما يستحي منه وأبرزه بلباسه في التشبيه بما يتقي به، ومدى مطابقة معنى اللباس لحاجة كل من الزوجين للآخر، وتلك في قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ ﴾ عائدة إلى الأمثلة المتقدمة قريباً في عمل المنافقين مع اليهود ونتائج أعمالهم، وهكذا كل موالاة بين غير المسلمين وكل معاداة وانصراف عما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وكذلك في بيان مدى فعالية القرآن وتأثيره، لو أنزل على الجبال لخشعت وتصدعت، مما يستوجب التفكير فيه والاتعاظ به، ثم مثال الفريقين في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾، ونتيجة ذلك في الآخرة من عدم استواء الفريقين، فأصحاب نار وأصحاب جنة.
ولكأن الأمثال هنا والتنبيه عليها إشارة إلى أن أولئك بنسيانهم لله وإنسائه إياهم أنفسهم، صاروا بهذا النسيان أشد قساوة من الجبال، بل إن الجبال أسرع تأثراً بالقرآن منهم لو كانوا يتفكرون.
وقد قال أبو السعود : إنه أراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه ا ه.
وهكذا بهذه الأمثلة ينتزع الحكم من السامع على أولئك المعرضين الغافلين بأن قلوبهم قاسية كالجبال أو أشد قسوة كما قدمنا، بخلاف المؤمنين تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله وما نزل من الح
قوله تعالى :﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ البارئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ ٢٢ -٢٣ ].
جاءت في هذه الآيات الثلاث : ذكر كلمة التوحيد مرتين، كما ذكر فيها أيضاً تسبيح الله مرتين، وذكر معهما العديد من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فكانت بذلك مشتملة على ثلاث قضايا أهم قضايا الأديان كلها مع جميع الأمم ورسلهم، لأن دعوة الرسل كلها في توحيد الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وتنزيهه، والرد على مفتريات الأمم على الله تعالى.
فاليهود قالوا :﴿ عزير ابن الله ﴾.
والنصارى قالوا ﴿ المسيح ابن الله ﴾.
والمشركون قالوا :﴿ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ﴾ [ مريم : ٨٨ ]، ﴿ وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً ﴾ [ الزخرف : ١٩ ]، وقالوا :﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ].
فكلهم ادعى الشريك مع الله، وقالوا :﴿ ثالث ثلاثة ﴾ وغير ذلك.
وكذلك في قضية التنزيه، فاليهود قالوا :﴿ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ [ آل عمران : ١٨ ]، وقالوا :﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ المائدة : ٦٤ ].
والمشركون قالوا :﴿ وَمَا الرَّحْماَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ﴾ [ الفرقان : ٦٠ ]، ونسبوا الله ما لا يرضاه أحدهم لنفسه، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثاً، في الوقت الذي إذا بشر أحدهم بالأُنثى ظلَّ وجهُه مسودّاً وهو كظيم.
وهذا كما تراه أعظم افتراء على الله تعالى، وقد سجله عليهم القرآن في قوله تعالى ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ﴾ [ الكهف : ٤ -٥ ] وكما قال تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٥١-١٥٢ ]، وقال مبيناً جرم مقالتهم، ﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ [ مريم : ٨٨-٩٢ ].
فكانت تلك الآيات الثلاث علاجاً في الجملة لتلك القضايا الثلاث، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتنزيه الله سبحانه وتعالى مع إقامة الأدلة عليها.
وقد اجتمعت معاً لأنه لا يتم أحدها إلا بالآخرين، ليتم الكمال لله تعالى.
قال أبو السعود : إن الكمالات كلها مع كثرتها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم اه.
وهذا كله متوفر في هذا السياق، وقد بدأ بكلمة التوحيد، لأنها الأصل، لأن من آمن بالله وحده آمن بكل ما جاء عن الله، وآمن بالله على ما هو له أهل، ونزهه عما ليس له بأهل قال تعالى :﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ ثم أعقبه بالدليل على إفراده تعالى بالألوهية بما لا يشاركه غيره فيه بقوله تعالى :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾.
وهذا الدليل نص عليه على أنه دليل لوحدانية الله تعالى في مواضع أخرى منها قوله تعالى ﴿ إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شيء عِلْماً ﴾ [ طه : ٩٨ ] ووسع كل شيء هنا تساوى عالم الغيب والشهادة، ومنها قوله تعالى ﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [ النمل : ٢٥ -٢٦ ]. وقوله تعالى } اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ } إلى قوله ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ].
وهذا قطعاً لا يشاركه فيه غيره، كما قال تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] فكان من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو، وجاء بدليل ثان، وهو قوله تعالى ﴿ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ وقد نص عليه صراحة أيضاً كدليل على الوحدانية في قوله تعالى ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [ البقرة : ١٦٣ ] فهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.
ومن رحمته التي اختص بها في الدنيا قوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] وقوله :﴿ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْييِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ ﴾ [ الروم : ٥٠ ] أي : بإنزاله الغيث وإنبات النبات مما لا يقدر عليه إلا هو فكان حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو.
وقد جمع الدليلين العلم والرحمة معاً في قوله تعالى ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾ [ غافر : ٧ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مسألة :
يؤخذ من كلام ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله : بسم الله، ولا يقول الرحمن الرَّحيم، لأن اسم الرحمن الرَّحيم يقتضي الرَّحمة، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح.
ويؤيد هذا ما ذكره ابن قدامة أنه ثبت عنه ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ أنه كان إذا ذبح قال :" بسم الله والله أكبر " أي أكبر وأقدرك عليها، وهو أكبر منك عليك منها.
فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو، كان حقاً قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها، فكان حقاً من أهل الجنة، والعلم عند الله تعالى.
ولقد استوقفني طويلاً مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلاً لها وختاماً وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد، وإقامة الدليل، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل، فمكثت طويلاً أتطلب ربطها بما قبلها، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع، ولا يشفي عليلاً في مجتمعاتنا الحديثة، أو يذهب شبه المدنية المادية، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولاً بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني، ثم تسوق أعظم حدث تشهده المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود، ولم يكن مظنوناً إخراجهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة.
ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين، فريق المؤمنين والكافرين.
يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ومودة ورحمة وعطاء وإيثار على النفس.
ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين واليهود، وما كان بينهم من مواعدة وإغراء وتحريض، ثم تخل عنهم وخذلان لهم.
فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك.
ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما، وفي ذلك تقرير المصير :﴿ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ﴾ [ الحشر : ٢٠ ].
وهذه أخطر قضية في كل أمة أي تقرير مصيرها، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشم أو حجراً أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق والأمة والرسالة والبدء والنهاية وصراع الحق مع الباطل، والكفر والإيمان والنفوس في الشح والإحسان، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية.
﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الحشر : ٢١ ].
فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض، وتنقل من موقف إلى موقف، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته، نطق بتسبيحه، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده، فأوجده على مقتضى علمه به، وسيره على النحو الذي أوجده عليه، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضوهم، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله، فحث العباد بالأخذ به، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة، كان حقاً هو الله وحده.
ثم مرة أخرى :﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾ [ الحشر : ٢٣ ]، برهان آخر في صور متعددة، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدّوس، الملك المهيمن على ملكه القدّوس المسلم من كل نقص، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة. كما قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ الملك : ١ ].
وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معاً عالم الغيب والشهادة، والملك القدوس والسلام المهيمن، فنجدها مترابطة متلازمة لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه. والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه.
فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات : العلم والملك والتقديس والهيمنة، حصل الكمال والجلال، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون، ﴿ هو الله الخالق البارئُ المصور له الأسماء الحسنى ﴾.
وهنا، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله، فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد.
و﴿ البارئُ ﴾ الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئاً أوجده إلا الله.
و﴿ المصور ﴾ المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه.
وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق، فإن الخلق والتقدير لا بد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره.
و ﴿ المهيمن ﴾ : يسير ما يوجده على مقتضى ما يقدره.
والذي قدر فهدى، العزيز الذي لا يقهر الجبار الذي يقهر كل شيء لإرادته، وتقديره، ويخضعه لهيمنته.
﴿ المتكبر ﴾ الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون.
وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم، هُوَ ﴿ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [ الحشر : ٢٤ ] وهو أعظم دليل كما تقدم، وهو كما قال : دليل الإلزام، لأن الخلق لا بد لهم من خالق، وهذه قضية منطقية مسلمة، وهي أن كل موجود لا بد له من موجد، وقد ألزمهم في قوله تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [ الطور : ٣٥ ]، وهذا بالسير، والتقسيم أن يقال : إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعدم ليس أمراً وجودياً حتى يمكن له أن يوجد موجوداً.
﴿ أم هم الخالقون ؟ ﴾، وهم أيضاً يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم، فيبقى المخلوق لا بد له من خالق، وهو الله تعالى : الخالق الباريء.
ولو قيل من جانب المنكر : إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها، كالأبوين للحيوان وكالحرث والسقي للنبات إلخ، قوله تعالى :﴿ الْمُصَوّرُ ﴾، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذّكورة أو الأنوثة أو من جنس اللّون والطّول والقصر والشبه ؟
الجواب : لا وكلا، بل ذلك لله وحده، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، كما قال تعالى :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٤٩ -٥٠ ].
وكذلك في النبات، توضع الحبة وتسقى بالماء، فالتربة واحدة، والماء واحد، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض، وذاك نبت على ساق، وهذا كرم على عرش، وذاك نخل باسقات، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها، من استدارتها أو استطالتها أو غير ذلك، وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض ؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معاً، لا وكلا. إنه هو الله الخالق البارىء المصور، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً.

ثم جاءت كلمة التوحيد مرة أخرى، ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾، وجاء بعدها من الصفات الجامعة قوله :﴿ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾، وهذا الدليل على وحدانيته تعالى نص عليه في موضع آخر صريحاً في قوله تعالى ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْييِ وَيُمِيتُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] فالذي له ملك السماوات والأرض هو الملك الحق الكامل الملك، وهو الذي يملك التصرف في ملكه كما يشاء بالإحياء والإماتة وحده، كما قال تعالى ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾ [ الملك : ١ -٢ ] وهو القدوس السلام المؤمن المهيمن على ملكه كما في قوله أيضاً ﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] فالقيوم هو المهيمن والقائم بكل نفس، العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مسألة :
يؤخذ من كلام ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله : بسم الله، ولا يقول الرحمن الرَّحيم، لأن اسم الرحمن الرَّحيم يقتضي الرَّحمة، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح.
ويؤيد هذا ما ذكره ابن قدامة أنه ثبت عنه ﴿ صلى الله عليه وسلم ﴾ أنه كان إذا ذبح قال :" بسم الله والله أكبر " أي أكبر وأقدرك عليها، وهو أكبر منك عليك منها.
فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو، كان حقاً قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها، فكان حقاً من أهل الجنة، والعلم عند الله تعالى.
ولقد استوقفني طويلاً مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلاً لها وختاماً وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد، وإقامة الدليل، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل، فمكثت طويلاً أتطلب ربطها بما قبلها، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع، ولا يشفي عليلاً في مجتمعاتنا الحديثة، أو يذهب شبه المدنية المادية، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولاً بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني، ثم تسوق أعظم حدث تشهده المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود، ولم يكن مظنوناً إخراجهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة.
ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين، فريق المؤمنين والكافرين.
يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ومودة ورحمة وعطاء وإيثار على النفس.
ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين واليهود، وما كان بينهم من مواعدة وإغراء وتحريض، ثم تخل عنهم وخذلان لهم.
فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك.
ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما، وفي ذلك تقرير المصير :﴿ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ﴾ [ الحشر : ٢٠ ].
وهذه أخطر قضية في كل أمة أي تقرير مصيرها، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشم أو حجراً أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق والأمة والرسالة والبدء والنهاية وصراع الحق مع الباطل، والكفر والإيمان والنفوس في الشح والإحسان، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية.
﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الحشر : ٢١ ].
فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض، وتنقل من موقف إلى موقف، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته، نطق بتسبيحه، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده، فأوجده على مقتضى علمه به، وسيره على النحو الذي أوجده عليه، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضوهم، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله، فحث العباد بالأخذ به، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة، كان حقاً هو الله وحده.
ثم مرة أخرى :﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾ [ الحشر : ٢٣ ]، برهان آخر في صور متعددة، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدّوس، الملك المهيمن على ملكه القدّوس المسلم من كل نقص، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة. كما قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ الملك : ١ ].
وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معاً عالم الغيب والشهادة، والملك القدوس والسلام المهيمن، فنجدها مترابطة متلازمة لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه. والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه.
فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات : العلم والملك والتقديس والهيمنة، حصل الكمال والجلال، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون، ﴿ هو الله الخالق البارئُ المصور له الأسماء الحسنى ﴾.
وهنا، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله، فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد.
و﴿ البارئُ ﴾ الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئاً أوجده إلا الله.
و﴿ المصور ﴾ المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه.
وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق، فإن الخلق والتقدير لا بد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره.
و ﴿ المهيمن ﴾ : يسير ما يوجده على مقتضى ما يقدره.
والذي قدر فهدى، العزيز الذي لا يقهر الجبار الذي يقهر كل شيء لإرادته، وتقديره، ويخضعه لهيمنته.
﴿ المتكبر ﴾ الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون.
وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم، هُوَ ﴿ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [ الحشر : ٢٤ ] وهو أعظم دليل كما تقدم، وهو كما قال : دليل الإلزام، لأن الخلق لا بد لهم من خالق، وهذه قضية منطقية مسلمة، وهي أن كل موجود لا بد له من موجد، وقد ألزمهم في قوله تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [ الطور : ٣٥ ]، وهذا بالسير، والتقسيم أن يقال : إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعدم ليس أمراً وجودياً حتى يمكن له أن يوجد موجوداً.
﴿ أم هم الخالقون ؟ ﴾، وهم أيضاً يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم، فيبقى المخلوق لا بد له من خالق، وهو الله تعالى : الخالق الباريء.
ولو قيل من جانب المنكر : إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها، كالأبوين للحيوان وكالحرث والسقي للنبات إلخ، قوله تعالى :﴿ الْمُصَوّرُ ﴾، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذّكورة أو الأنوثة أو من جنس اللّون والطّول والقصر والشبه ؟
الجواب : لا وكلا، بل ذلك لله وحده، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، كما قال تعالى :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٤٩ -٥٠ ].
وكذلك في النبات، توضع الحبة وتسقى بالماء، فالتربة واحدة، والماء واحد، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض، وذاك نبت على ساق، وهذا كرم على عرش، وذاك نخل باسقات، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها، من استدارتها أو استطالتها أو غير ذلك، وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض ؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معاً، لا وكلا. إنه هو الله الخالق البارىء المصور، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً.

ثم جاء بالدليل الأعظم في قوله تعالى ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِيءُ الْمُصَوِّرُ ﴾ فهو وحده المتفرد بالخلق والإيجاد، والإبداع والتصوير، وقد نص على هذا الدليل في أكثر من موضع كما في قوله تعالى ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شيء وهُوَ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ ﴾ [ الأنعام : ١٠١ ] ثم قال :﴿ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شيء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء وَكِيلٌ ﴾ [ الأنعام : ١٠٢ ].
وذكر أيضاً الخلق مفصلاً والملك مجملاً في قوله تعالى ﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الانْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ] ثم قال ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [ الزمر : ٦ ] وقال ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شيء ﴾ [ غافر : ٦٢ ] ثم قال ﴿ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [ غافر : ٦٢ ] وجمع الملك والخلق معاً في قوله ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢ ] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
ومن تأمل براهين القرآن على وحدانية الله تعالى، وعلى قدرته، على البعث وهما أهم القضايا العقائدية يجد أهمها وأوضحها وأكثرها، هو هذا الدليل، أعني دليل الخلق والتصوير.
وقد جاء هذا الدليل في القرآن جملة وتفصيلاً، فمن الإجمال ما جاء في أصل المخلوقات جميعاً ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء ﴾ [ الزمر : ٦٢ ] وقوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ الملك : ١ ]، وقال :﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ] ثم قال ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء ﴾ [ يس : ٨٣ ] وقال :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾ [ الملك : ١ -٢ ] أي خالق الإيجاد والعدم، وخلق العدم يساوي في الدلالة على القدرة خلق الإيجاد، لأنه إذا لم يقدر على إعدام ما أوجد يكون الموجود مستعصياً عليه، فيكون عجزاً في الموجد له، كمن يوجد اليوم سلاحاً ولا يقدر على إعدامه، وإبطال مفعوله، فقد يكون سبباً في إهلاكه، ولا تكتمل القدرة حقاً إلا بالخلق والإعدام معاً، وقال في خلق السماوات والأرض :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [ الأنعام : ١ ].
وقال في خلق الأفلاك وتنظيمها :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الليل وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٣ ].
ثم في أصول الموجودات في الأرض بقوله :﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ [ البقرة : ٢٩ ].
وفي أصول الأجناس : الماء والنار والنبات والإنسان، قال :﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾ [ الواقعة : ٥٨ -٥٩ ].
وذكر معه القدرة على الإعدام :﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ [ الواقعة : ٦٠ ]
وفي أصول النبات :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٣ -٦٤ ].
وفي أصول الماء :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٨ -٦٩ ].
وفي أصول تطوير الحياة :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴾ [ الواقعة : ٧١ -٧٢ ].
وفي جانب الحيوان ﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] الآية.
ولهذا فقد تمدح تعالى بهذه الصفة، صفة الخلق وصفة آلهة المشركين بالعجز، كما قال تعالى :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [ لقمان : ١٠ ] ثم قال :﴿ هذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ لقمان : ١١ ].
ومعلوم أنها لم تخلق شيئاً كما قال تعالى موبخاً لهم :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١ ] وبين أنهما لا يستويان في قوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ النحل : ١٧ ]، ثم بين نهاية ضعفها وعجزها في قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفسهم ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً ﴾ [ الفرقان : ٣ ] وهذا غاية العجز. كما ضرب لذلك المثل بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ] فهم حقاً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولو بقدر الذبابة ؟ وهكذا ترى صفة الخلق المتصف بها سبحانه وتعالى أعظم دليل على وحدانية الله تعالى، وهي متضمنة صفة التصوير والعلم لأن لكل مخلوق صورة تخصه ؟ ولا يكون ذلك إلا عن علم بالغيب والشهادة، كما تقدم.
وهكذا أيضاً كان هذا الدليل أقوى الأدلة على البعث، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٧ -٧٩ ] إلى آخر السورة.
وكذلك في قوله تعالى صريحاً في ذلك ونصاً عليه :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] ثم قال تعالى :﴿ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ﴾ [ الحج : ٦ -٧ ].
ثم بين تعالى أن جاحد هذا الدليل إنما هو مكابر جاهل، ضال مضل، وذلك في قوله بعده مباشرة :﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ ﴾ [ الحج : ٨ -١٠ ].
ومن هنا كان أول نداء في المصحف يوجه إلى الناس جميعاً بعبادة الله كان لاستحقاقه عبادته وحده، لأنه متصف بصفة الخلق كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢١ -٢٢ ]. أي لأنهم ليسوا له بأنداد فيما اتصف به سبحانه فلا تشركوهم مع الله في عبادته.
فكانت هذه الصفات لله تعالى في آخر هذه السورة حقاً أدلة على إثبات وحدانية الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا إله إلا هو.
والواجب على الخلق تنزيهه عما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى عما يشركون، ﴿ يسبح له ما في السموات والأرض ﴾، لأنها من مخلوقاته ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾، وقوله تعالى ﴿ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى ﴾ لم يبين هنا المراد من أنه سبحانه له الأسماء الحسنى، وقد بين في سورة الأعراف المراد بذلك في قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٠ ].
قال القرطبي : سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى، لأنها حسنة في الأسماع والقلوب، فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده وإفضاله، ومجيء، قوله تعالى :﴿ لَهُ الأسماء الْحُسْنَى ﴾ بعد تعداد أربعة عشر اسماً من أسمائه سبحانه يدل على أن له أكثر من ذلك، ولم يأت حصرها ولا عدها في آية من كتاب الله.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر ".
وسرد ابن كثير عدد المائة مع اختلاف في الروايات.
وذكر عن آية الأعراف أنها ليست محصورة في هذا العدد لحديث ابن مسعود في مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه " الحديث ا ه.
ومحل الشاهد منه ظاهر في أن لله أسماء أنزلها في كتبه وأسماء خص بها بعض خلقه كما خص الخضر بعلم من لدنه، وأسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، كما يدل حديث الشفاعة : " فيلهمني ربي بمحامد لم أكن أعرفها من قبل "، والواقع أنه لا تعارض بين الحديثين.
لأن الأول : يتعلق بعدد معين، وبما يترتب عليها من الجزاء.
والحديث الثاني : يتعلق ببيان أقسام أسمائه تعالى، من حيث العلم بها وتعليمها وما أنزل منها. وقد ذكر هذا الجمع ابن حجر في الفتح في كتاب الدعوات عند باب : لله مائة اسم غير واحد. وقد حاول بعض العلماء استخراج المائة اسم من القرآن فزادوا ونقصوا ل
Icon