تفسير سورة الصف

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الصف من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية في قول الأكثرين، وذكر النحاس عن ابن عباس أنها مكية، وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الأعظم الذي لا كفء له ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بفضله كل أحد من خلقه ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص من شاء من عباده فهيأه لعبادته وأهله.

﴿ سبح لله ﴾ أي : أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم ﴿ ما في السماوات ﴾ من جميع الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم ﴿ وما في الأرض ﴾ كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار. وقيل : اللام مزيدة، أي : نزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي : تغليباً للأكثر ا. ه.
فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى قال في بعض السور سبح لله بلفظ الماضي، وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع، وفي بعضها فسبح بلفظ الأمر ؟.
أجيب : بأن الحكمة في ذلك تعليم العبد أن يسبح الله تعالى على الدوام كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدل عليه في الحال فإن قيل : هلا قيل سبح لله السماوات والأرض وما فيهما، وهو أكثر مبالغة أجيب : بأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها ﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ العزيز ﴾ أي : الغالب على غيره أي شيء كان ذلك الغير، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره ﴿ الحكيم ﴾ أي : الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. روى الدرامي في مسنده قال : أنبأنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه، فأنزل الله تعالى :﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ﴾.
﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ أي : ادّعوا الإيمان، ﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾ حتى ختمها. قال عبد الله :«فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها، قال أبو سلمة : قرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة فقرأها علينا أبو يحيى، فقرأها علينا الأوزاعي، فقرأها علينا محمد فقرأها علينا الدرامي انتهى. ولي بقراءتها سند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن عباس : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزل :﴿ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ﴾[ الصف : ١٠ ] فمكثوا زماناً يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين، فدلهم الله تعالى عليها بقوله تعالى :﴿ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله ﴾[ الصف : ١١ ] الآية، فابتلوا يوم أحد ففروا فنزلت الآية تعييراً لهم بترك الوفاء.
وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر، قالت الصحابة : اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك. وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وأبلينا، ولم يفعلوا. وقيل : قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك قتلته، فقال : إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب، قال : كذلك يا أبا يحيى، قال : نعم، فنزلت في المنتحل، وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم، وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا.
وقال القرطبي : هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي به.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا تطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة فشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة فشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ﴾ فلبثت شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة، وأما قوله : شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة، فمعنى ذلك : ثابت في الدين فإن من التزم شيئاً ألزمه شرعاً. وقال القرطبي : ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ﴾[ البقرة : ٤٤ ] ﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾ [ هود : ٨٨ ] و﴿ يا أيها الذين آمنوالم تقولون ما لا تفعلون ﴾ وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت عادت، قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به ».
تنبيه : قوله تعالى :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾ استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير مالا يفعله، إما في الماضي فيكون كذباً، وإما في المستقبل فيكون خلقاً وكلاهما مذموم. قال الزمخشري : لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا. ه. ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه.
﴿ كبر ﴾ أي : عظم، وقوله تعالى :﴿ مقتاً ﴾ تمييز، والمقت أشد البغض، وزاد في تشنيعه زيادة في التنفير منه بقوله تعالى :﴿ عند الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم، وقيل : إن كبر من أمثلة التعجب. وقد عده ابن عصفور في التعجب المبوب له في النحو فقال : صيغة ما أفعله وأفعل به، وفعل، نحو كرم الرجل، وإليه نحا الزمخشري فقال : هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه قصد في كبر التعجب من غير لفظه، كقوله : غلت ناب كليب بواؤها، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وقوله تعالى :﴿ أن تقولوا ﴾ أي : عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال قولكم :﴿ ما لا تفعلون ﴾ فاعل كبر.
قال الرازي : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن في السورة التي قبلها بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله تعالى :﴿ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ﴾ [ الممتحنة : ١ ] وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ويحثه على الجهاد بقوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ يحب ﴾ أي : يفعل فعل المحب مع ﴿ الذين يقاتلون ﴾ أي : يوقعون القتال ﴿ في سبيله ﴾ أي : بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه. وقوله تعالى :﴿ صفاً ﴾ حال، أي : مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد ﴿ كأنهم ﴾ من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المركز ﴿ بنيان ﴾ وزاد في التأكيد بقوله تعالى :﴿ مرصوص ﴾ أي : ملزوق بعض إلى بعض ثابت كثبوت البناء.
وقال ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي : يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص قال القرطبي : استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفاً لقتال، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة، فيجوز انصرافه لقوله تعالى :﴿ إلا متحرفاً لقتال ﴾ [ الأنفال : ١٦ ] وتجوز المبارزة لكافر لم يطلبها بلا كره، وندب لقوي أذن له الإمام أو نائبه لإقراره صلى الله عليه وسلم عليها، وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال، من البروز وهو الظهور، فإن طلبها كافر سنت للقوي المأذون له للأمر بها في خبر أبي داود، ولأن تركها حينئذ إضعافاً لنا وتقوية لهم، وإلا كرهت.
ولما ذكر تعالى الجهاد ذكر قصة موسى وعيسى عليهما السلام تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى قومه، مبتدئاً بقصة موسى عليه السلام لتقدمه فقال تعالى :﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر يا أشرف الخلق إذ ﴿ قال موسى لقومه ﴾ أي : بني إسرائيل، وقوله :﴿ يا قوم ﴾ استعطاف لهم واستنهاض إلى رضا ربهم، ﴿ لم تؤذونني ﴾ أي : تجددون أذاي مع الاستمرار، وذلك حين رموه بالأدرة كما مر في سورة الأحزاب ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم ﴿ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ] وقولهم :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾ [ المائدة : ٢٤ ] وقولهم : أنت قتلت هارون، وغير ذلك. وقوله تعالى :﴿ وقد تعملون ﴾ جملة حالية، أي : علمتم علماً قطعياً تجدده لكم كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات، والكتاب الحافظ لكم من الزيغ ﴿ إني رسول الله ﴾ الملك الأعظم الذي لا كفؤ له ﴿ إليكم ﴾ ورسوله يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم، وأنا لا أقول لكم شيئاً إلا عنه، ولا أنطق عن الهوى، ﴿ فلما زاغوا ﴾ أي : عدلوا عن الحق بمخالفة أوامر الله تعالى وبإيذائه. وقرأ حمزة بالإمالة والباقون بالفتح ﴿ أزاغ الله ﴾ أي : الملك الذي له الأمر كله ﴿ قلوبهم ﴾ أي : أمالهم عن الهدى على وفق ما قدره في الأزل ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال ﴿ لا يهدي ﴾ أي : بالتوفيق بعد هداية البيان، ﴿ القوم الفاسقين ﴾ أي : العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة، فلم يحملهم على الفسق ضعف فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم، وهذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى.
ثم ذكر القصة الثانية بقوله تعالى :﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر يا أشرف المرسلين إذ ﴿ قال عيسى ﴾ ووصفه بقوله :﴿ ابن مريم ﴾ ليعلم أنه من غير أب وثبتت نبوته بالمعجزات ﴿ يا بني إسرائيل ﴾ فذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما أوصى به بنيه من التمسك بالإسلام، ولم يقل : يا قوم، كما قال موسى عليه السلام ؛ لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم، فإن النسب إنما هو من جهة الأب، وأكد لإنكار بعضهم فقال ﴿ إني رسول الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ إليكم ﴾ أي : لا إلى غيركم ﴿ مصدقاً لما بين يدي ﴾ أي : قبلي ﴿ من التوراة ﴾ التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه السلام، وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون، فتصديقي لها مع تأييدي بها مؤيد، لأن ما أقمت من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منها، كما يستدل بما قدامه من الإعلام ويراعيه ببصره. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ حمزة ونافع بين بين بخلاف عنه عن قالون، والباقون بالفتح ﴿ ومبشراً ﴾ في حال تصديقي للتوراة ﴿ برسول ﴾ أي : إلى كل من شملته الربوبية ﴿ يأتي من بعدي ﴾ أي : يصدق بالتوراة. فكأنه قيل : ما اسمه ؟ قال :﴿ اسمه أحمد ﴾ والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة، وفي حال تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر.
فإن قيل : بم انتصب مصدقاً ومبشراً، أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم ؟.
أجيب : بأنه بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول فلا يجوز أن يعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل.
وعن كعب : أن الحواريين قالوا لعيسى : يا رسول الله هل بعدنا من أمة ؟ قال : نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. وعن حبيش بن مطعم قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء : أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي » وقد سماه الله تعالى رؤوفاً ورحيماً. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محى الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض » بل ذكر بعض العلماء أنه له ألف اسم. قال البغوي : والألف في أحمد للمبالغة في الحمد، وله وجهان :
أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل، أي : ومعناه أن الأنبياء حمادون لله تعالى، وهو أكثر حمداً من غيره.
والثاني : أنه مبالغة من المفعول، أي : ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها ا. ه. وعلى كلا الوجهين منعه من الصرف للعملية والوزن الغالب، إلا أنه على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً لأنه يخلف العلمية الصفة، وإذا نكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان يمدحه وصرفه :
صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد
أحمد بدل أو بيان للمبارك، وأما محمد فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى محمود ولكن في معنى المبالغة والتكرار، فأحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. قال القرطبي : كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك : واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، وكان اسمه صادقاً عليه فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال : اسمه أحمد، وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه : تلك أمة أحمد، فقال : اللهم اجعلني من أمة محمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل.
وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته، فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء فاتحاً لهم وخاتماً عليهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الياء، والباقون بالسكون.
وقوله تعالى :﴿ فلما جاءهم ﴾ يحتمل أن يعود فيه الضمير لأحمد، أي : جاء الكفار، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، ويحتمل عوده لعيسى، أي : جاء لبني إسرائيل ﴿ بالبينات ﴾ أي : من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها، ومن الكتاب المبين ﴿ قالوا ﴾ أي : عند مجيئها من غير نظرة تأمل ﴿ هذا ﴾ أي : المأتي به من البينات، أو الآتي بها على المبالغة ﴿ سحر ﴾ فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا ﴿ مبين ﴾ أي : في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني، والباقون بكسر السين وسكون الحاء، وهذه مناسبة للتفسير الأول.
﴿ ومن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أظلم ﴾ أي : أشد ظلماً ﴿ ممن افترى ﴾ أي : تعمد ﴿ على الله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ الكذب ﴾ أي : بنسبة الشريك والولد إليه، ووصف آياته بالسحر، ووصف أنبيائه بالسحرة ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه ﴿ يدعى ﴾ أي : من أي داع كان ﴿ إلى الإسلام ﴾ أي : الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى :﴿ والله ﴾ أي : الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ﴿ لا يهدي القوم ﴾ أي : لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب ﴿ الظالمين ﴾ أي : الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.
﴿ يريدون ﴾ أي : يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم ﴿ ليطفئوا ﴾ أي : لأجل أن يطفئوا ﴿ نور الله ﴾ أي : الملك الذي لا شيء يكافئه، ﴿ بأفواههم ﴾ أي : بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه، لأنه لا اعتقاد له في القلوب.
تنبيه : الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال : أطفأت السراج، ولا يقال : أخمدت السراج، وفي هذه اللام أوجه : أحدها : أنها تعليلية كما مر، ثانيها : أنها مزيدة في مفعول الإرادة، وقال الزمخشري : أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في : لا أب لك تأكيداً لمعنى الإضافة في لا أباك.
قال الماوردي : وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس :«أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية »، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور، فقال ابن عباس : هو القرآن، أي : يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي : الإسلام، أي : يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك : إنه محمد صلى الله عليه وسلم أي : يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج : حجج الله تعالى ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل : إنه مثل مضروب، أي : من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إطفاء الحق ﴿ والله ﴾ أي : الذي لا مدافع له لتمام عظمته، ﴿ متم نوره ﴾ فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله تعالى :﴿ ولو كره ﴾ أي : إتمامه له ﴿ الكافرون ﴾ أي : الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.
﴿ هو ﴾ أي : الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير، ﴿ الذي أرسل رسوله ﴾ أي : الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى ﴿ بالهدى ﴾ أي : البيان الشافي بالقرآن والمعجزة، ﴿ ودين الحق ﴾ أي : والملة الحنيفية ﴿ ليظهره ﴾ أي : يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع ﴿ على الدين ﴾ أي : جنس الشريعة التي ستجعل ليجازى من يسلكها ومن يزغ عنها بما يشرع فيها من الأحكام ﴿ كله ﴾ فلا يبقى دين إلا كان دونه، وانمحق به وذل أهله ذلاً لا يقاس به ذل ﴿ ولو كره ﴾ أي : إظهاره ﴿ المشركون ﴾ أي : المعاندون في كفرهم الراسخون في سلك المعاندة.
فإن قيل : قال أولاً :﴿ ولو كره الكافرون ﴾، وقال ثانياً :﴿ ولو كره المشركون ﴾، فما الحكمة في ذلك ؟.
أجيب : بأنه تعالى أرسل رسوله، وهو من نعم الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال :﴿ ولو كره الكافرون ﴾ لأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك فالمراد من الكافرين هنا اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله تعالى :﴿ ولو كره المشركون ﴾ فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله فلم يقولوها، فلهذا قال :﴿ ولو كره المشركون ﴾.
واختلف في سب نزول قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقروا بالإيمان ﴿ هل أدلكم ﴾ أي : وأنا المحيط علماً وقدرة فهي إيجاب في المعنى، ذكر بلفظ الاستفهام تشريفاً ليكون أوقع في النفس ﴿ على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم فقال مقاتل : نزلت في عثمان بن مظعون قال :«يا رسول الله لو أذنت لي طلقت خولة، وترهبت واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبداً، ولا أفطر بنهار، فقال صلى الله عليه وسلم إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما احل الله لكم، ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني، فقال عثمان : والله لوددت يا رسول الله أيّ التجارة أحب إلى الله تعالى فأتجر فيها، فنزلت » وقيل : أدلكم، أي : سأدلكم، والتجارة : الجهاد، قال الله تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ﴾ [ التوبة : ١١١ ] الآية، وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل : نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملنا به. قال البغوي : وجعل هذا بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله تعالى، ونيل جنته والنجاة من النار وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشدد الجيم، والباقون بسكون النون وتخفيف الجيم.
ثم بين سبحانه تلك التجارة بقوله تعالى :﴿ تؤمنون ﴾ أي : تدومون على الإيمان ﴿ بالله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال، وعلى هذا فلا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ وقيل : المراد من هذه الآية المنافقون وهم الذين آمنوا في الظاهر، وقيل : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة ﴿ ورسوله ﴾ الذي تصديقه آية الإذعان للعبودية ﴿ وتجاهدون ﴾ بياناً لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار ﴿ في سبيل الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لغيره ﴿ بأموالكم وأنفسكم ﴾ وقدم الأموال لعزتها في ذلك الزمان، ولأنها قوام الأنفس فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه، لأن المال قوامها. وقال القرطبي : ذكر الأموال أولاً لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق، ﴿ ذلكم ﴾ أي : الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد ﴿ خير لكم ﴾ أي : من أموالكم وأنفسكم ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي : إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم، فإذا علمتم أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحه فصلوا على أنفسكم صلاة الموت.
وقوله تعالى :﴿ يغفر لكم ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، أي : آمنوا وجاهدوا.
والثاني : أنه مجزوم في جواب الاستفهام، كما قاله الفراء.
والثالث : أنه مجزوم بشرط مقدر، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم. قال القرطبي : وأدغم بعضهم فقرأ يغفر لكم، والأحسن ترك الإدغام فإن الراء متكرر قوي فلا يحسن الإدغام في اللام، لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ا. ه. وتقدم في آخر سورة البقرة مثل ذلك للزمخشري والبيضاوي ورد عليهما ﴿ ذنوبكم ﴾ أي : يمحو أعيانها وآثارها كلها، ﴿ ويدخلكم ﴾ أي : بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم ﴿ جنات ﴾ أي : بساتين ﴿ تجري من تحتها ﴾ أي : من تحت أشجارها وغرفها وكل منتزه فيها ﴿ الأنهار ﴾ فهي لا تزال غضة زهراء لم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه، ودل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله في صيغة منتهى الجموع، ﴿ ومساكن طيبة ﴾ روى الحسن قال :«سألت عمران بن حصين، وأبا هريرة عن قوله تعالى :﴿ ومساكن طيبة ﴾ فقالا : على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال :«قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، في كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله »، ﴿ في جنات عدن ﴾ أي : بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له، قال حمزة الكرماني في كتابه «جوامع التفسير » : هي أي جنات عدن قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم جداً، ﴿ الفوز العظيم ﴾ أي : السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم في الآخرة بشرهم بنعمته في الدنيا بقوله تعالى :﴿ وأخرى تحبونها ﴾ أي : ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي تحبونها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وقوله تعالى :﴿ نصر من الله ﴾ أي : الذي أحاطت عظمته بكل شيء خبر مبتدأ مضمر، أي : تلك النعمة أو الخصلة الأخرى نصر من الله ﴿ وفتح قريب ﴾ أي : غنيمة في عاجل الدنيا قيل : فتح مكة قال الكلبي : هو النصر على قريش، وقال ابن عباس : يريد فتح فارس والروم. وقوله تعالى :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ عطف على محذوف مثل قل ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ ﴿ وبشر ﴾، أو على يؤمنون فإنه في معنى الأمر كأنه قال آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون، وبشرهم يا أشرف الرسل بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقروا بذلك ﴿ كونوا ﴾ أي : بغاية جهدكم ﴿ أنصاراً لله ﴾ أي : لدينه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أنصاراً بالتنوين وجر اللام من الاسم الجليل وترقيقها، والباقون بغير تنوين وتفخيم اللام. ﴿ كما ﴾ أي : كونوا لأجل أني ندبتكم أنا بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين ﴿ قال عيسى بن مريم ﴾ حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه السلام ﴿ للحواريين ﴾ أي : خلص أصحابه وخاصته منهم ﴿ من أنصاري إلى الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء أي : انصروا دين الله تعالى مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله، أي : من ينصرني مع الله تعالى :﴿ قال الحواريون ﴾ معلمين إنهم جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه لعلمهم أن أجابته إجابة الله تعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله تعالى :﴿ نحن ﴾ أي : بأجمعنا وكانوا اثني عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى ﴿ أنصار الله ﴾ أي : الملك الأعلى القادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض.
ولما كان التقدير ثم دعوا كل من خالفهم من بني إسرائيل وبارزهم تسبب عنهم قوله تعالى :﴿ فآمنت ﴾ أي : به ﴿ طائفة ﴾ أي : ناس منهم أهل الاستدارة لما لهم من الكثرة ﴿ من بني إسرائيل ﴾ قومه ﴿ وكفرت طائفة ﴾ أي : منهم، وأصل الطائفة : القطعة من الشيء، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق :
فرقة قالوا : كان الله فارتفع.
وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه إليه.
وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون.
واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى :﴿ فأيدنا ﴾ أي : قوينا بعد رفع عيسى عليه السلام ﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : أقروا بالإيمان المخلص ﴿ على عدوهم ﴾ أي : الذين عادوهم لأجل إيمانهم ﴿ فأصبحوا ﴾ أي : صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل ﴿ ظاهرين ﴾ أي : عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً ولا يستخفون منه، وروى المغيرة عن إبراهيم قال : فأصبحت حجة من آمن بعيسى عليه السلام ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام كلمة الله وعبده ورسوله.
Icon