تفسير سورة المزّمّل

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
في السورة نداء للنبي صلى الله عليه وسلم للقيام بالليل وتلاوة القرآن والاستعداد لما يوحى إليه، وتثبيت له إزاء مواقف الزعماء والأغنياء المكذبين، وحملة عليهم. وإشارة إلى موقف فرعون من رسالة موسى عليه السلام ونكال الله به على سبيل الإنذار والتذكير، وتخفيف من شدة قيام الليل وتهجده. والآية الأخيرة التي فيها هذا التخفيف مدنية وقد ألحقت بالسورة لمناسبة ما جاء في أولها. وترتيبها كثالث سورة نزولاً بسبب رواية نزول آياتها التسع الأولى لحدتها كثالث مجموعة نزولاً، غير أن هذه الرواية وترتيب السور بسببها موضع نظر على ما يرد شرحه بعد. ولقد تكرر بدء مطالع السور بنداء النبي صلى الله عليه وسلم مما يصح أن يقال : إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وشخصياتها.

بسم الله الرحمن الرحيم

- المزمّل : المتزمل. والتزمل : هو الالتفاف بالثوب.
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ١ ( ١ ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا( ٢ ) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا( ٣ ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٢ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( ٤ ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا( ٥ ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ٣ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا ٤ وَأَقْوَمُ قِيلًا ٥ ( ٦ ) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ٦ ( ٧ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ ٧ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا( ٨ ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا( ٩ ) ﴾ [ ١- ٩ ].
في هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلاً ومعتمداً له وهو الذي لا إله إلاّ هو ربّ المشرق والمغرب.
وقد جاء في بعض الروايات١ أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها٢ أنها نزلت حينما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله :" زملوني ". ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها ؛ لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولاً بسبب ذلك.
على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين، وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها، وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحاً.
والآيات على كل حال مما نزل مبكراً جداً، ويصح أن يقال والحالة هذه : إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار٣.
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولاسيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء :" ثم حبب إ ليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد "، وكان ذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي٤ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيماناً وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن المغيرة قال :" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي رواية الترمذي :" حتى انتفخت قدماه فقيل له : تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً ". وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ( ١٧ ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( ١٩ ) ﴾. ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها :﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا( ٧٨ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا( ٧٩ ) ﴾. ولقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها ؛ حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.
ولقد رويت أحاديث عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.
والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه. وليس من إله غيره وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.
وإلى هذا، فإن فيها لأول مرة إعلاناً لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى جعله وحده وكيلاً ومعتمداً في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأنداداً، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء. واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أرباباً من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.
- الترتيل : هما بمعنى التجويد والتمهل في القراءة. وجاءت الكلمة في سورة الفرقان بمعنى تنزيل القرآن مفرقاً قسماً بعد قسم.
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ١ ( ١ ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا( ٢ ) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا( ٣ ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٢ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( ٤ ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا( ٥ ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ٣ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا ٤ وَأَقْوَمُ قِيلًا ٥ ( ٦ ) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ٦ ( ٧ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ ٧ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا( ٨ ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا( ٩ ) ﴾ [ ١- ٩ ].
في هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلاً ومعتمداً له وهو الذي لا إله إلاّ هو ربّ المشرق والمغرب.
وقد جاء في بعض الروايات١ أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها٢ أنها نزلت حينما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله :" زملوني ". ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها ؛ لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولاً بسبب ذلك.
على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين، وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها، وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحاً.
والآيات على كل حال مما نزل مبكراً جداً، ويصح أن يقال والحالة هذه : إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار٣.
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولاسيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء :" ثم حبب إ ليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد "، وكان ذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي٤ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيماناً وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن المغيرة قال :" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي رواية الترمذي :" حتى انتفخت قدماه فقيل له : تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً ". وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ( ١٧ ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( ١٩ ) ﴾. ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها :﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا( ٧٨ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا( ٧٩ ) ﴾. ولقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها ؛ حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.
ولقد رويت أحاديث عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.
والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه. وليس من إله غيره وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.
وإلى هذا، فإن فيها لأول مرة إعلاناً لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى جعله وحده وكيلاً ومعتمداً في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأنداداً، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء. واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أرباباً من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.
تعليق على مدى تعبير
﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾
وما روي في صدد أدب تلاوة القرآن
لقد رويت أحاديث وقيلت أقوال عديدة في صدد أدب تلاوة القرآن في سياق تفسير جملة ﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ من ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه : " أن أنس سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إنها كانت مداً، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ ببسم الله ويمد بالرحمن ويمدّ بالرحيم " ١ وحديث رواه الترمذي عن أم سلمة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته يقول : الحمد لله رب العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف، وكان يقرأ ملك يوم الدين " ٢. وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي موسى : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " ٣. وحديث رواه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مغفّل قال : " قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له على راحلته سورة الفتح فرجَّع في قراءته. قال معاوية لولا خوفي من اجتماع الناس علي لحكيت لكم قراءته ". وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به " ٤. وحديث رواه البخاري وأبو داود عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " زيّنوا القرآن بأصواتكم. ليس منّا من لم يتغن بالقرآن " ٥ وقد علق مؤلف التاج على الحديث الأخير بقوله شارحاً إن تحسين الصوت بالقرآن يزيد في بهائه وجلاله ويصل بمواعظه إلى أعماق القلوب مع مراعاة علم التجويد فإن زاد القارئ في المد والغن أو تركهما كان مكروها في قول وحراماً وأثم القارئ ووجب على السامع الإنكار.
ولقد روى الطبري في سياق شرح العبارة عن مجاهد أن معناها ( ترسل فيه ترسلاً ) وعن قتادة ( بينه بياناً ) وقال النسفي : إن معناها وجوب القراءة بتأنّ وتثبت وإشباع الحركات. وروى البغوي عن ابن عباس أنها بمعنى : " اقرأه على هيئتك ثلاث آيات أو أربعا أو خمسا ". وروي عن ابن مسعود أنه قال في شرحها : " لا تنثروه نثر الدقل - الرمل- ولا تهذوه هذّ الشعر. قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ". ويعني بالجملة الأخيرة عدم السرد السريع.
وعلى ذلك يمكن أن يقال : إن من أدب تلاوة القرآن وترتيله تلاوته بتأنّ وتثبت وتبيين وأداء وعظي وخاشع نافذ إلى العقول والقلوب وحسن إخراج الحروف ومراعاة علم التجويد. وإنه لا بأس في ترجيعه بصوت حسن إذا لم يزد عن الحد الذي يخرجه إلى ما لا يستحب ولا ينسجم مع قدسيته من أساليب الغناء.
تعليق على كلمة القرآن
وكلمة " القرآن " ترد هنا لأول مرة، وهي مصدر القراءة. وتعني المقروء أيضا، ومع أنها صارت علما على جميع محتويات المصحف منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فإنها كانت تطلق على ما نزل من القرآن قبل أن يتم تمامه أيضا على ما تدل عليه آية سورة النمل هذه :﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون( ٧٦ ) ﴾، وآية سورة الأنعام هذه :﴿ وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾( ١٩ ). ومثل آية سورة طه هذه :﴿ طه( ١ ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى( ٢ ) ﴾ وآية سورة البقرة هذه :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان( ١٨٥ ) ﴾.
وإلى هذا فإنها كانت تعني القسم الذي يحتوي مبادئ الدعوة ومؤيداتها دون حكاية مواقف تكذيب الكفار وحجاجهم والرد عليهم على ما تدل عليه آية سورة الإسراء هذه :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا( ٨٢ ) ﴾، ومثل آيات سورة يونس هذه :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( ١٥ ) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( ١٦ ) ﴾، ومثل آية سورة الفرقان هذه :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا( ٣٢ ) ﴾، ومثل آية سورة فصلت هذه :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ( ٢٦ ) ﴾ ومثل آية سورة الحشر هذه :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون( ٢١ ) ﴾، وآية سورة إبراهيم هذه :﴿ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد( ١ ) ﴾.
وواضح من آيات يونس /١٥- ١٦، والفرقان ٣٢ وفصلت/ ٢٦ وأمثالها الكثيرة التي حكت أقوال الكفار عن القرآن أنهم كانوا يعنون بالقرآن ما فيه دعوة إلى الله وحده وحملة على شركهم وتسفيه لعقولهم ومخالفة لتقاليدهم وعقائدهم، وما فيه من المبادئ الإيمانية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والأخلاقية التي رأوا فيها بدعة ورأوها تهدد مراكزهم ومصالحهم. وعلى أي حال لا يدخل فيما كانوا يعنونه من الكلمة حكاية أقوالهم والرد عليها، وهذا شغل جزءاً كبيراً من القرآن المكي. كذلك فإن ذلك هو الذي عنته على ما هو المتبادر آيات الأنعام / ١٩ والبقرة /١٨٥ والإسراء /٨٢ والحشر /٢١ وإبراهيم /١ وأمثالها الكثيرة جداً.
١ - التاج، ج ٤ ص ٨- ٩..
٢ -المصدر السابق، ص ٨- ٩..
٣ - المصدر نفسه..
٤ -المصدر نفسه..
٥ - المصدر نفسه..
- نائشة الليل : النهوض من النوم في الليل.
- أشد وطئا : قيل : أن معناها أشد وقعاً، وقيل : أكثر موافقة وملائمة وأدعى إلى التنبيه والإخلاص.
- أقوم قيلا : القيل هو القول، ومعنى الجملة هو أسد وأقوم للمقال والتلاوة.
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ١ ( ١ ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا( ٢ ) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا( ٣ ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٢ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( ٤ ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا( ٥ ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ٣ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا ٤ وَأَقْوَمُ قِيلًا ٥ ( ٦ ) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ٦ ( ٧ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ ٧ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا( ٨ ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا( ٩ ) ﴾ [ ١- ٩ ].
في هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلاً ومعتمداً له وهو الذي لا إله إلاّ هو ربّ المشرق والمغرب.
وقد جاء في بعض الروايات١ أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها٢ أنها نزلت حينما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله :" زملوني ". ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها ؛ لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولاً بسبب ذلك.
على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين، وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها، وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحاً.
والآيات على كل حال مما نزل مبكراً جداً، ويصح أن يقال والحالة هذه : إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار٣.
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولاسيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء :" ثم حبب إ ليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد "، وكان ذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي٤ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيماناً وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن المغيرة قال :" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي رواية الترمذي :" حتى انتفخت قدماه فقيل له : تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً ". وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ( ١٧ ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( ١٩ ) ﴾. ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها :﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا( ٧٨ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا( ٧٩ ) ﴾. ولقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها ؛ حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.
ولقد رويت أحاديث عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.
والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه. وليس من إله غيره وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.
وإلى هذا، فإن فيها لأول مرة إعلاناً لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى جعله وحده وكيلاً ومعتمداً في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأنداداً، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء. واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أرباباً من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.
- سبحاً طويلاً : مجالاً طويلاً للعمل والمشاغل.
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ١ ( ١ ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا( ٢ ) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا( ٣ ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٢ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( ٤ ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا( ٥ ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ٣ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا ٤ وَأَقْوَمُ قِيلًا ٥ ( ٦ ) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ٦ ( ٧ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ ٧ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا( ٨ ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا( ٩ ) ﴾ [ ١- ٩ ].
في هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلاً ومعتمداً له وهو الذي لا إله إلاّ هو ربّ المشرق والمغرب.
وقد جاء في بعض الروايات١ أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها٢ أنها نزلت حينما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله :" زملوني ". ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها ؛ لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولاً بسبب ذلك.
على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين، وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها، وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحاً.
والآيات على كل حال مما نزل مبكراً جداً، ويصح أن يقال والحالة هذه : إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار٣.
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولاسيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء :" ثم حبب إ ليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد "، وكان ذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي٤ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيماناً وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن المغيرة قال :" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي رواية الترمذي :" حتى انتفخت قدماه فقيل له : تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً ". وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ( ١٧ ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( ١٩ ) ﴾. ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها :﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا( ٧٨ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا( ٧٩ ) ﴾. ولقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها ؛ حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.
ولقد رويت أحاديث عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.
والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه. وليس من إله غيره وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.
وإلى هذا، فإن فيها لأول مرة إعلاناً لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى جعله وحده وكيلاً ومعتمداً في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأنداداً، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء. واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أرباباً من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.
٧- التبتل : الخشوع.
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ١ ( ١ ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا( ٢ ) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا( ٣ ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٢ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( ٤ ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا( ٥ ) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ٣ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا ٤ وَأَقْوَمُ قِيلًا ٥ ( ٦ ) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ٦ ( ٧ ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ ٧ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا( ٨ ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا( ٩ ) ﴾ [ ١- ٩ ].
في هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلاً ومعتمداً له وهو الذي لا إله إلاّ هو ربّ المشرق والمغرب.
وقد جاء في بعض الروايات١ أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها٢ أنها نزلت حينما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله :" زملوني ". ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها ؛ لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولاً بسبب ذلك.
على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين، وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها، وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحاً.
والآيات على كل حال مما نزل مبكراً جداً، ويصح أن يقال والحالة هذه : إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار٣.
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولاسيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء :" ثم حبب إ ليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد "، وكان ذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي٤ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيماناً وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن المغيرة قال :" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي رواية الترمذي :" حتى انتفخت قدماه فقيل له : تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً ". وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ( ١٧ ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ( ١٩ ) ﴾. ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها :﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا( ٧٨ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا( ٧٩ ) ﴾. ولقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها ؛ حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.
ولقد رويت أحاديث عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.
والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه. وليس من إله غيره وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.
وإلى هذا، فإن فيها لأول مرة إعلاناً لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى جعله وحده وكيلاً ومعتمداً في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأنداداً، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء. واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أرباباً من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.
- اهجرهم : اعتزلهم أو تجنبهم.
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ ١ هَجْرًا جَمِيلًا( ١٠ ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ٢ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( ١١ )إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا ٣ وَجَحِيمًا ٤ ( ١٢ ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ٥ وَعَذَابًا أَلِيمًا( ١٣ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا٦ مَّهِيلًا ٧ ( ١٤ ) ﴾ [ ١٠- ١٤ ].

وفي هذه الآيات :


١-
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك، وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.

٢-
وأمر آخر له بهجرهم هجراً ليناً.

٣-
ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.

٤-
ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.
ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم الأقاويل، فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ الله وكيلاً قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.
وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى ؛ لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطراً على مراكزهم ومصالحهم، وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.
وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر : إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصدّ والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.

تعليق على رواية نسخ حكم الآية :

﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾
ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥ ) ﴾.
ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطراً ولا جباراً وإنما هو منذر ومذكر.
والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصدّ والمناوأة الذي يقفه الكفار المشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف. ومن جهة ثانية : إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وقذفه ومناوأته وصد عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسريّة الدعوة
والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة ؛ لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقيناً بأن لا يهتم به، وتوجيهاً له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر في القرآن المكي كلما حزب النبي صلى الله عليه وسلم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( ٨ ) ﴾، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه :﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ( ١٢٧ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة يونس :﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ( ٩٩ ) ﴾، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١٠٨ ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ١٠٩ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة ق :﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾.
ولقد ذكرت الروايات١ أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ له مركزاً سرياً عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء٢ وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين٣، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه الروايات فإن من الممكن أن يقال : إن هذا مكان بتلقين الآية الأولى، ولاسيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عملياً أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم ؛ وهذا ما تلهمه جملة ﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ أيضا.
ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.
تعليق على تبدل نواميس الكون
عند قيام الساعة
وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيباً مهيلاً نقول : إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيراً. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيباً ومهيلاً، والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تيسر سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سراباً وفي سورة القارعة كالعهن المنقوش. ومثل هذا وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.
والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله التي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.
والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذاراً وإعلاناً بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيباً مهيلاً.
ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهماً للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر، عدا أنه لا يستند إلى ورايات وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أن تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحاً إذا لم يكن متصلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب - والحال هذه - أن يوقف منها عندما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والإنذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيراً تلميحاً حيناً وتصريحاً حيناً آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.
تعليق على النار الأخروية
وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول : إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير - وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الآخرة ؛ لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب مرة اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.
وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت في الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه ﴿ تصلى ناراً حامية ( ٤ ) تسقى من عين آنية( ٥ ) ليس لهم طعام إلا من ضريع( ٦ ) لا يسمن ولا يغني من جوع( ٧ ) ﴾ وآيات سورة النبأ هذه :﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا( ٢٥ ) ﴾ وآيات سورة الدخان هذه :﴿ إن شجرة الزقوم( ٤٣ ) طعام الأثيم ( ٤٤ ) كالمهل يغلي في البطون( ٤٥ ) كغلي الحميم ( ٤٦ ) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ( ٤٧ ) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم( ٤٨ ) ذق إنك أنت العزيز الكريم( ٤٩ ) ﴾. ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى، فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.
والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاماً شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.
وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجئ بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة، كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حرّ جهنم. قالوا : والله وإن كانت لكافية يا رسول الله قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً ". وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاماً وما تفضي إلى قرار معاً " قال عتبة وكان عمر يقول :" أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد ".
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان ".
وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] ثم قال : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن

- أولي النعمة : المتنعمين، وتعني الأغنياء والزعماء والمترفين.
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ ١ هَجْرًا جَمِيلًا( ١٠ ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ٢ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( ١١ )إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا ٣ وَجَحِيمًا ٤ ( ١٢ ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ٥ وَعَذَابًا أَلِيمًا( ١٣ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا٦ مَّهِيلًا ٧ ( ١٤ ) ﴾ [ ١٠- ١٤ ].

وفي هذه الآيات :


١-
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك، وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.

٢-
وأمر آخر له بهجرهم هجراً ليناً.

٣-
ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.

٤-
ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.
ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم الأقاويل، فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ الله وكيلاً قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.
وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى ؛ لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطراً على مراكزهم ومصالحهم، وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.
وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر : إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصدّ والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.

تعليق على رواية نسخ حكم الآية :

﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾
ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥ ) ﴾.
ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطراً ولا جباراً وإنما هو منذر ومذكر.
والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصدّ والمناوأة الذي يقفه الكفار المشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف. ومن جهة ثانية : إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وقذفه ومناوأته وصد عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسريّة الدعوة
والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة ؛ لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقيناً بأن لا يهتم به، وتوجيهاً له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر في القرآن المكي كلما حزب النبي صلى الله عليه وسلم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( ٨ ) ﴾، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه :﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ( ١٢٧ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة يونس :﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ( ٩٩ ) ﴾، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١٠٨ ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ١٠٩ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة ق :﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾.
ولقد ذكرت الروايات١ أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ له مركزاً سرياً عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء٢ وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين٣، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه الروايات فإن من الممكن أن يقال : إن هذا مكان بتلقين الآية الأولى، ولاسيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عملياً أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم ؛ وهذا ما تلهمه جملة ﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ أيضا.
ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.
تعليق على تبدل نواميس الكون
عند قيام الساعة
وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيباً مهيلاً نقول : إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيراً. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيباً ومهيلاً، والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تيسر سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سراباً وفي سورة القارعة كالعهن المنقوش. ومثل هذا وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.
والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله التي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.
والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذاراً وإعلاناً بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيباً مهيلاً.
ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهماً للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر، عدا أنه لا يستند إلى ورايات وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أن تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحاً إذا لم يكن متصلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب - والحال هذه - أن يوقف منها عندما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والإنذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيراً تلميحاً حيناً وتصريحاً حيناً آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.
تعليق على النار الأخروية
وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول : إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير - وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الآخرة ؛ لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب مرة اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.
وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت في الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه ﴿ تصلى ناراً حامية ( ٤ ) تسقى من عين آنية( ٥ ) ليس لهم طعام إلا من ضريع( ٦ ) لا يسمن ولا يغني من جوع( ٧ ) ﴾ وآيات سورة النبأ هذه :﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا( ٢٥ ) ﴾ وآيات سورة الدخان هذه :﴿ إن شجرة الزقوم( ٤٣ ) طعام الأثيم ( ٤٤ ) كالمهل يغلي في البطون( ٤٥ ) كغلي الحميم ( ٤٦ ) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ( ٤٧ ) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم( ٤٨ ) ذق إنك أنت العزيز الكريم( ٤٩ ) ﴾. ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى، فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.
والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاماً شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.
وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجئ بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة، كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حرّ جهنم. قالوا : والله وإن كانت لكافية يا رسول الله قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً ". وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاماً وما تفضي إلى قرار معاً " قال عتبة وكان عمر يقول :" أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد ".
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان ".
وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] ثم قال : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن

- الأنكال : الأغلال والقيود.
-الجحيم : النار الشديدة.
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ ١ هَجْرًا جَمِيلًا( ١٠ ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ٢ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( ١١ )إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا ٣ وَجَحِيمًا ٤ ( ١٢ ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ٥ وَعَذَابًا أَلِيمًا( ١٣ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا٦ مَّهِيلًا ٧ ( ١٤ ) ﴾ [ ١٠- ١٤ ].

وفي هذه الآيات :


١-
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك، وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.

٢-
وأمر آخر له بهجرهم هجراً ليناً.

٣-
ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.

٤-
ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.
ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم الأقاويل، فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ الله وكيلاً قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.
وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى ؛ لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطراً على مراكزهم ومصالحهم، وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.
وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر : إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصدّ والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.

تعليق على رواية نسخ حكم الآية :

﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾
ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥ ) ﴾.
ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطراً ولا جباراً وإنما هو منذر ومذكر.
والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصدّ والمناوأة الذي يقفه الكفار المشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف. ومن جهة ثانية : إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وقذفه ومناوأته وصد عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسريّة الدعوة
والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة ؛ لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقيناً بأن لا يهتم به، وتوجيهاً له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر في القرآن المكي كلما حزب النبي صلى الله عليه وسلم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( ٨ ) ﴾، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه :﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ( ١٢٧ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة يونس :﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ( ٩٩ ) ﴾، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١٠٨ ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ١٠٩ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة ق :﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾.
ولقد ذكرت الروايات١ أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ له مركزاً سرياً عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء٢ وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين٣، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه الروايات فإن من الممكن أن يقال : إن هذا مكان بتلقين الآية الأولى، ولاسيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عملياً أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم ؛ وهذا ما تلهمه جملة ﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ أيضا.
ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.
تعليق على تبدل نواميس الكون
عند قيام الساعة
وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيباً مهيلاً نقول : إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيراً. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيباً ومهيلاً، والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تيسر سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سراباً وفي سورة القارعة كالعهن المنقوش. ومثل هذا وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.
والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله التي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.
والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذاراً وإعلاناً بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيباً مهيلاً.
ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهماً للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر، عدا أنه لا يستند إلى ورايات وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أن تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحاً إذا لم يكن متصلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب - والحال هذه - أن يوقف منها عندما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والإنذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيراً تلميحاً حيناً وتصريحاً حيناً آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.
تعليق على النار الأخروية
وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول : إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير - وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الآخرة ؛ لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب مرة اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.
وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت في الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه ﴿ تصلى ناراً حامية ( ٤ ) تسقى من عين آنية( ٥ ) ليس لهم طعام إلا من ضريع( ٦ ) لا يسمن ولا يغني من جوع( ٧ ) ﴾ وآيات سورة النبأ هذه :﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا( ٢٥ ) ﴾ وآيات سورة الدخان هذه :﴿ إن شجرة الزقوم( ٤٣ ) طعام الأثيم ( ٤٤ ) كالمهل يغلي في البطون( ٤٥ ) كغلي الحميم ( ٤٦ ) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ( ٤٧ ) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم( ٤٨ ) ذق إنك أنت العزيز الكريم( ٤٩ ) ﴾. ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى، فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.
والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاماً شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.
وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجئ بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة، كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حرّ جهنم. قالوا : والله وإن كانت لكافية يا رسول الله قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً ". وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاماً وما تفضي إلى قرار معاً " قال عتبة وكان عمر يقول :" أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد ".
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان ".
وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] ثم قال : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن

- ذا غصة : الذي يسبب الغصة
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ ١ هَجْرًا جَمِيلًا( ١٠ ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ٢ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( ١١ )إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا ٣ وَجَحِيمًا ٤ ( ١٢ ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ٥ وَعَذَابًا أَلِيمًا( ١٣ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا٦ مَّهِيلًا ٧ ( ١٤ ) ﴾ [ ١٠- ١٤ ].

وفي هذه الآيات :


١-
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك، وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.

٢-
وأمر آخر له بهجرهم هجراً ليناً.

٣-
ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.

٤-
ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.
ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم الأقاويل، فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ الله وكيلاً قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.
وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى ؛ لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطراً على مراكزهم ومصالحهم، وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.
وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر : إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصدّ والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.

تعليق على رواية نسخ حكم الآية :

﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾
ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥ ) ﴾.
ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطراً ولا جباراً وإنما هو منذر ومذكر.
والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصدّ والمناوأة الذي يقفه الكفار المشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف. ومن جهة ثانية : إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وقذفه ومناوأته وصد عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسريّة الدعوة
والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة ؛ لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقيناً بأن لا يهتم به، وتوجيهاً له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر في القرآن المكي كلما حزب النبي صلى الله عليه وسلم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( ٨ ) ﴾، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه :﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ( ١٢٧ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة يونس :﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ( ٩٩ ) ﴾، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١٠٨ ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ١٠٩ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة ق :﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾.
ولقد ذكرت الروايات١ أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ له مركزاً سرياً عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء٢ وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين٣، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه الروايات فإن من الممكن أن يقال : إن هذا مكان بتلقين الآية الأولى، ولاسيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عملياً أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم ؛ وهذا ما تلهمه جملة ﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ أيضا.
ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.
تعليق على تبدل نواميس الكون
عند قيام الساعة
وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيباً مهيلاً نقول : إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيراً. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيباً ومهيلاً، والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تيسر سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سراباً وفي سورة القارعة كالعهن المنقوش. ومثل هذا وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.
والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله التي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.
والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذاراً وإعلاناً بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيباً مهيلاً.
ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهماً للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر، عدا أنه لا يستند إلى ورايات وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أن تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحاً إذا لم يكن متصلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب - والحال هذه - أن يوقف منها عندما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والإنذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيراً تلميحاً حيناً وتصريحاً حيناً آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.
تعليق على النار الأخروية
وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول : إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير - وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الآخرة ؛ لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب مرة اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.
وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت في الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه ﴿ تصلى ناراً حامية ( ٤ ) تسقى من عين آنية( ٥ ) ليس لهم طعام إلا من ضريع( ٦ ) لا يسمن ولا يغني من جوع( ٧ ) ﴾ وآيات سورة النبأ هذه :﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا( ٢٥ ) ﴾ وآيات سورة الدخان هذه :﴿ إن شجرة الزقوم( ٤٣ ) طعام الأثيم ( ٤٤ ) كالمهل يغلي في البطون( ٤٥ ) كغلي الحميم ( ٤٦ ) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ( ٤٧ ) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم( ٤٨ ) ذق إنك أنت العزيز الكريم( ٤٩ ) ﴾. ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى، فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.
والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاماً شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.
وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجئ بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة، كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حرّ جهنم. قالوا : والله وإن كانت لكافية يا رسول الله قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً ". وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاماً وما تفضي إلى قرار معاً " قال عتبة وكان عمر يقول :" أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد ".
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان ".
وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] ثم قال : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن

- الكثيب : تل الرمل.
- المهيل : الرخو المتداعي للتبعثر والانسياح.
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ ١ هَجْرًا جَمِيلًا( ١٠ ) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ٢ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( ١١ )إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا ٣ وَجَحِيمًا ٤ ( ١٢ ) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ٥ وَعَذَابًا أَلِيمًا( ١٣ ) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا٦ مَّهِيلًا ٧ ( ١٤ ) ﴾ [ ١٠- ١٤ ].

وفي هذه الآيات :


١-
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك، وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.

٢-
وأمر آخر له بهجرهم هجراً ليناً.

٣-
ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.

٤-
ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.
ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم الأقاويل، فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ الله وكيلاً قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.
وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى ؛ لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطراً على مراكزهم ومصالحهم، وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.
وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر : إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصدّ والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.

تعليق على رواية نسخ حكم الآية :

﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾
ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥ ) ﴾.
ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطراً ولا جباراً وإنما هو منذر ومذكر.
والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصدّ والمناوأة الذي يقفه الكفار المشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف. ومن جهة ثانية : إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وقذفه ومناوأته وصد عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسريّة الدعوة
والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة ؛ لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقيناً بأن لا يهتم به، وتوجيهاً له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر في القرآن المكي كلما حزب النبي صلى الله عليه وسلم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( ٨ ) ﴾، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه :﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ( ١٢٧ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة يونس :﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ( ٩٩ ) ﴾، و﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١٠٨ ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ١٠٩ ) ﴾، ومثل ما جاء في سورة ق :﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾.
ولقد ذكرت الروايات١ أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ له مركزاً سرياً عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء٢ وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين٣، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه الروايات فإن من الممكن أن يقال : إن هذا مكان بتلقين الآية الأولى، ولاسيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عملياً أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم ؛ وهذا ما تلهمه جملة ﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ أيضا.
ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.
تعليق على تبدل نواميس الكون
عند قيام الساعة
وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيباً مهيلاً نقول : إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيراً. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيباً ومهيلاً، والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تيسر سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سراباً وفي سورة القارعة كالعهن المنقوش. ومثل هذا وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.
والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله التي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.
والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذاراً وإعلاناً بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيباً مهيلاً.
ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهماً للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر، عدا أنه لا يستند إلى ورايات وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أن تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحاً إذا لم يكن متصلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب - والحال هذه - أن يوقف منها عندما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والإنذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيراً تلميحاً حيناً وتصريحاً حيناً آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.
تعليق على النار الأخروية
وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول : إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير - وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الآخرة ؛ لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب مرة اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.
وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت في الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه ﴿ تصلى ناراً حامية ( ٤ ) تسقى من عين آنية( ٥ ) ليس لهم طعام إلا من ضريع( ٦ ) لا يسمن ولا يغني من جوع( ٧ ) ﴾ وآيات سورة النبأ هذه :﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا( ٢٥ ) ﴾ وآيات سورة الدخان هذه :﴿ إن شجرة الزقوم( ٤٣ ) طعام الأثيم ( ٤٤ ) كالمهل يغلي في البطون( ٤٥ ) كغلي الحميم ( ٤٦ ) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ( ٤٧ ) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم( ٤٨ ) ذق إنك أنت العزيز الكريم( ٤٩ ) ﴾. ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى، فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.
والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاماً شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.
وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجئ بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة، كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حرّ جهنم. قالوا : والله وإن كانت لكافية يا رسول الله قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين ". وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ". وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً ". وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاماً وما تفضي إلى قرار معاً " قال عتبة وكان عمر يقول :" أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد ".
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان ".
وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] ثم قال : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن

﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( ١٥ ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ١ ( ١٦ ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا( ١٧ ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ ٢ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا( ١٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا( ١٩ ) ﴾ [ ١٥- ١٩ ].
الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث :

١-
يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولاً شاهداً عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولاً

٢-
ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه الله أخذاً شديداً.

٣-
وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها - إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة.

٤-
ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه ؛ لأن وعد الله صادق.

٥-
ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.
والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعاً ولا نظماً، وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني.
والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بنعت الرسول، ثم توالى ذلك وتنوع ؛ حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على قصة موسى وفرعون
والإشارة إلى فرعون وموقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أولى إشارة قرآنية إلى أخبار ومواقف المكذبين الأولين عامة وفرعون خاصة.
واقتضاب الإشارة من جهة وأسلوب الآيتين الأوليين من جهة أخرى يدلان أولا : على تلك الأولية، وثانياً : على أن قصة موسى وفرعون ليست غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت قصة موسى وفرعون بتفصيل كثير في سفر الخروج. وهو من أسفار العهد القديم. وكانت هذه الأسفار متداولة بين أيدي اليهود والنصارى في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا بد من أن العرب غير الكتابيين قد سمعوا القصة منهم. ويبدو هدف الإنذار والتذكير للكفار في مضمون الآيات وأسلوبها واضحاً، وهو الهدف الرئيسي من الإشارة والقصة في القرآن. وقد سبقت بآيات تنديدية وإنذارية وألحق بها مثل ذلك جرياً على أسلوب النظم القرآني الذي نوهنا به سابقاً وفيه توكيد لذلك الهدف أيضا.
ولقد تكرر ورود قصة موسى وفرعون وأخبار بني إسرائيل وأنبيائهم أكثر من غيرهم من الأنبياء والأمم الأولين، كما أن هذه القصة والأخبار جاءت مسهبة أكثر من غيرها أيضا.
ولقد كانت كتلة كبيرة من بني إسرائيل مستوطنة في بيئة النبي عليه السلام منذ بضعة قرون قبل البعثة، وشغلوا حيزاً في هذه البيئة اجتماعياً ودينياً وثقافياً واقتصادياً١ وكان ذلك مما جعل أهل هذه البيئة يعرفون الشيء الكثير من قصة موسى وفرعون ومن أخبار بني إسرائيل وأنبيائهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكثر الاستشهاد بذلك في معرض العظة والإنذار والتذكير والتأييد.

١- ووبيلاً : شديداً أو ثقيلاً
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( ١٥ ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ١ ( ١٦ ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا( ١٧ ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ ٢ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا( ١٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا( ١٩ ) ﴾ [ ١٥- ١٩ ].
الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث :

١-
يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولاً شاهداً عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولاً

٢-
ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه الله أخذاً شديداً.

٣-
وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها - إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة.

٤-
ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه ؛ لأن وعد الله صادق.

٥-
ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.
والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعاً ولا نظماً، وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني.
والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بنعت الرسول، ثم توالى ذلك وتنوع ؛ حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على قصة موسى وفرعون
والإشارة إلى فرعون وموقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أولى إشارة قرآنية إلى أخبار ومواقف المكذبين الأولين عامة وفرعون خاصة.
واقتضاب الإشارة من جهة وأسلوب الآيتين الأوليين من جهة أخرى يدلان أولا : على تلك الأولية، وثانياً : على أن قصة موسى وفرعون ليست غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت قصة موسى وفرعون بتفصيل كثير في سفر الخروج. وهو من أسفار العهد القديم. وكانت هذه الأسفار متداولة بين أيدي اليهود والنصارى في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا بد من أن العرب غير الكتابيين قد سمعوا القصة منهم. ويبدو هدف الإنذار والتذكير للكفار في مضمون الآيات وأسلوبها واضحاً، وهو الهدف الرئيسي من الإشارة والقصة في القرآن. وقد سبقت بآيات تنديدية وإنذارية وألحق بها مثل ذلك جرياً على أسلوب النظم القرآني الذي نوهنا به سابقاً وفيه توكيد لذلك الهدف أيضا.
ولقد تكرر ورود قصة موسى وفرعون وأخبار بني إسرائيل وأنبيائهم أكثر من غيرهم من الأنبياء والأمم الأولين، كما أن هذه القصة والأخبار جاءت مسهبة أكثر من غيرها أيضا.
ولقد كانت كتلة كبيرة من بني إسرائيل مستوطنة في بيئة النبي عليه السلام منذ بضعة قرون قبل البعثة، وشغلوا حيزاً في هذه البيئة اجتماعياً ودينياً وثقافياً واقتصادياً١ وكان ذلك مما جعل أهل هذه البيئة يعرفون الشيء الكثير من قصة موسى وفرعون ومن أخبار بني إسرائيل وأنبيائهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكثر الاستشهاد بذلك في معرض العظة والإنذار والتذكير والتأييد.

﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( ١٥ ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ١ ( ١٦ ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا( ١٧ ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ ٢ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا( ١٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا( ١٩ ) ﴾ [ ١٥- ١٩ ].
الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث :

١-
يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولاً شاهداً عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولاً

٢-
ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه الله أخذاً شديداً.

٣-
وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها - إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة.

٤-
ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه ؛ لأن وعد الله صادق.

٥-
ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.
والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعاً ولا نظماً، وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني.
والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بنعت الرسول، ثم توالى ذلك وتنوع ؛ حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة.
تعليق على مدى كلمة
الكفر في القرآن
وبمناسبة ورود أحد اشتقاقات كلمة الكفر في القرآن لأول مرة في الآيات وهو ﴿ كفرتم ﴾ نقول : عن هذه الكلمة اشتقاقاتها قد وردت كثيرا في القرآن. وجاءت في معظم آياته التي وردت فيها بمعنى جحود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الأنبياء من قبله وإنكار الله وآياته ونعمه، ولا تدل على عقيدة دينية خاصة. وهي في أصلها وصف أسلوب يصح أن يوجه إلى كل إنسان جاحد بشيء ما. غير أنها صارت في القرآن ومنذ عهد النبي وما بعده وصف تشنيع أيضا. وقد استعملت من أجل معناها المذكور في معرض الإشارة إلى إنكار المشركين والوثنيين والكتابيين وجحودهم جميعاً على أنها استعملت في بعض الآيات في وصف الذين أنكروا وحدة الله مطلقاً أو اعتقدوا بألوهية السيد المسيح لما جاء في آيات المائدة هذه :﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ( ٧٢ ) ﴾و﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ( ٧٣ ) ﴾.
- منفطر : متشقق ومتصدع.
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( ١٥ ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ١ ( ١٦ ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا( ١٧ ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ ٢ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا( ١٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا( ١٩ ) ﴾ [ ١٥- ١٩ ].
الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث :

١-
يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولاً شاهداً عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولاً

٢-
ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه الله أخذاً شديداً.

٣-
وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها - إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة.

٤-
ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه ؛ لأن وعد الله صادق.

٥-
ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.
والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعاً ولا نظماً، وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني.
والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بنعت الرسول، ثم توالى ذلك وتنوع ؛ حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة.
تعليق على السماء
وانفطارها يوم القيامة
والسماء تذكر هنا لأول مرة، ولقد ذكرت في القرآن مراراً كثيرة جداً، مفردة حيناً وجمعاً مطلقاً بصيغة ( السماوات ) حينا وبصيغة ( سبع سماوات ) و( السماوات السبع ) حينا، وأحيط ذكرها بحفاوة عظيمة وأقسم بها مرات عديدة.
ومعنى السماء اللغوي هو : العالي، وقد وصفت بالعلو في بعض الآيات كما جاء في آية سورة طه هذه :﴿ تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى( ٤ ) ﴾ ووصفت بالفوقية التي هي في نفس المعنى كما جاء في آية سورة الشورى هذه :﴿ تكاد السموات يتفطرن من فوقهن ﴾.
وليس في القرآن شيء صريح عن ماهية القرآن، ولم نطلع على حديث صحيح صريح في ذلك أيضا.
وقد يقال : إن ذكر انفطار السماء قد يفيد قرآنيا أنها جسم صلب قابل للتشقق، غير أن الأسلوب الذي جاء به ذلك هو أسلوب إنذار وترهيب ووصف لهول يوم القيامة مثل ما جاء قبل قليل عن مصير الجبال. ومثل ما جاء في الجملة نفسها من صيرورة الولدان شيبا في ذلك اليوم استهدافا لإثارة الرهبة في نفوس المكذبين وحملهم على الارعواء واتقاء غضب الله تعالى. وهو ما تستهدفه الآيات المماثلة بصورة عامة على ما نبهنا إليه قبل، وما دامت حكمة الله ورسوله لم تشأ ذكر ماهية السماء بصراحة وقطعية، فالأولى من ناحية التفسير القرآني الوقوف من ذلك عند الحد الذي وقف عنده القرآن والذي فيه تحقيق للهدف الذي استهدفه منه.
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( ١٥ ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ١ ( ١٦ ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا( ١٧ ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ ٢ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا( ١٨ ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا( ١٩ ) ﴾ [ ١٥- ١٩ ].
الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث :

١-
يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولاً شاهداً عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولاً

٢-
ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه الله أخذاً شديداً.

٣-
وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها - إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة.

٤-
ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه ؛ لأن وعد الله صادق.

٥-
ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.
والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعاً ولا نظماً، وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني.
والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بنعت الرسول، ثم توالى ذلك وتنوع ؛ حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة.
بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم
وفي الآية الأخيرة شرح موجز وضمني لمهمة الرسول ومداها. فالرسول مذكر وداع إلى الله. والناس بعد ذلك موكولون على قابلية الاختيار وقوة التمييز اللتين أودعهما الله فيهم فمن شاء اختيار طريق الهدى واتخذ إلى ربه سبيلاً فكان سعيداً ناجياً. وهكذا تكون الآية في نفس الوقت قد تضمنت تقرير قابلية الإنسان وقدرته على التمييز والاختيار. وهذا وذاك من المبادئ القرآنية المحكمة التي تكرر تقريرها بأساليب متنوعة على ما ستشير إليه في مناسباته. وهو المتسق مع حكمة الله في إرسال الرسل وتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كما هو واضح.
ولقد رأينا المستشرق الطلياني كايتاني في كتابه " تاريخ الإسلام " يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدم نفسه كرسول من الله في أوائل دعوته، تهيباً وتحفظاً، وأنه اكتفى بقوله إنه نذير لهم مع صراحة ذكر نعته بالرسول في هذه الآيات التي وردت في سورة من أبكر السور نزولاً. هذا بالإضافة إلى أن القرآن استعمل كلمات نذير وبشير ونبي ورسول في مقامات متجانسة وفي آيات مبكرة ومتأخرة ومكية ومدنية ووصف النبي في آية مبكرة مكية بوصف الرسول النبي الأمي كما جاء في آية سورة الأعراف( ١٥٧ ) كما وصف بهما في آيات عديدة أخرى ضمنا وصراحة ومقارنة على ما سوف يأتي التنبيه إليه بعد مما يدل على أن الاستعمال كان متسقاً مع ما تقتضيه حكمة الخطاب والأسلوب. ولقد جمعت هذه الصفات جميعها للنبي صلى الله عليه وسلم في آية سورة المائدة هذه :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ١٩ ) ﴾ وهذا من غرائب مفارقات المستشرقين ومثل على إرسالهم الكلام جزافا.
١- يقدّر : يحسب.
٢- لن تحصوه : هنا بمعنى لن تصلوا إلى الغاية من عبادته أو لن تطيقوه.
٣- فتاب عليكم : هنا بمعنى خفف عنكم وتسامح معكم.
٤- الضرب في الأرض : كناية عن السعي في سبيل الرزق.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ ١ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ ٢ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ٣ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ٤ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٢٠ ) ﴾.
تعليق على الآية :
﴿ إن ربك يعلم انك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه ﴾ إلخ
وما روي في سياقها من روايات
وما انطوى فيها من صور وتلقين
معنى الآية واضح، والجمهور على أنها مدنية١. والمصحف الذي اعتمدناه ذكرها كذلك. وطابع المدنية عليها واضح مثل ذكر القتال في سبيل الله الذي إنما كان بعد الهجرة ومثل تعبير إقراض الله الذي لم يرد إلا في الآيات المدنية حثاً على الإنفاق في سبيل الله. ويلحظ أن هناك مناسبة بين موضوع الآية وموضوع الآيات الأولى من السورة، فقيام الليل موضوع مشارك بينهما. وفي الآيات الأولى معنى الإلزام به وفي هذه الآية تخفيف. وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني وخاصة في وضع الآيات المدنية في السور المكية. ونعتقد أن ذلك كان يتم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته. ومن البراهين القرآنية على ذلك الآية الأخيرة من سورة النساء. فقد نزلت بعد أن تم تأليف السورة وفيها تتمة لتشريع الإرث الذي احتوته آيات السورة الأولى فأمر النبي بإلحاقها بالسورة ولو في آخرها للتناسب الموضوعي.
ولقد روى الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب وكان بهم رحيماً، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال : يا أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما دمتم عليه. ورأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وأنزل الآية ".
ومهما يكن من أمر ففي الآية تنطوي صورة من صور حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأولين التعبدية، فالنبي صلى الله عليه وسلم ظل ملازماً لما أمره الله به من قيام الليل والتهجد فيه وتلاوة القرآن. وأصحابه الأولون حذوا حذوه في ذلك كما هو صريح في الآية وكما ذكرته آيات سورة الذاريات التي أوردناها قبل قليل. واستمر ذلك ردحاً في العهد المدني على ما تدل عليه الآية. فلما نما عدد المسلمين وكثرت مشاغلهم وواجباتهم اقتضت الحكمة التخفيف تمشياً مع الظروف والمصلحة وطبائع الأمور. فنزلت الآية وألحقت بالسورة التي أمرت آياتها الأولى النبي صلى الله عليه وسلم بقيام قسم كبير من الليل وحفزت أصحابه الأولين على الاقتداء به.
وواضح أنه ليس في الآية نسخ وإنما تخفيف وتعديل في أمر ليس أساسياً في العقدية والتكليف. فالصلاة والزكاة فرضان أساسيان في التكليف فأمرت بالتزامهما. والتهجد الليلي الطويل هو أمر إضافي مستحب، فلم تر حكمة الله بأسا في تخفيفه وتعديله مراعاة لطاقة المسلمين وظروفهم. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور في التكليف والتشريع والتنزيل. وفيه تلقين جليل يصح أن يقاس عليه. وفيه إيذان بأن الله لا يكلف في عبادته إلاّ المستطاع الذي لا يكون فيه مشقة وضنى، ولا يسبب إهمالاً وانصرافاً وعجزاً عن الواجبات المشروعة الأخرى ؛ شخصية كانت أم عمومية. فالله يعلم الناس مهما حرصوا واشتدوا في العبادة فلن يوفوا الله حقه ولن يبلغوا الغاية. وإن منهم المريض ومنهم الساعي في سبيل الرزق والمرابط والمقاتل في سبيل الله. وكل هذه واجبات وأعذار مشروعة للتخفيف، ومثل هذه التلقينات قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة على ما سوف نشير إليه في مناسباته.
وننبه على هذا التلقين وأمثاله يجب أن يبقى في نطاق ما لم يرد فيه نصّ قرآني أو نبوي ثابت قاطع وصريح، وفي نطاق الرخص الصريحة ومدى التسهيلات القرآنية والنبوية الثابتة.
تعليق على الزكاة
وبمناسبة ورود كلمة " الزكاة " لأول مرة هنا ولو في آية مدنية نقول : إن أصل الكلمة زكا بمعنى : نما وطلب. وقد وردت الكلمة في القرآن بمعنى التطهير أو مرادفه له مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه :﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ( ١٥١ ) ﴾، وفي آية سورة التوبة هذه :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ ( ١٠٣ )، وإطلاقها على الصدقات مجازي يراد به أنها مطهرة أو منمية للمال. ونرجح أنها كانت تستعمل في هذا المعنى قبل البعثة بدليل ورودها به في آيات مبكرة جدا مثل آيات سورة الأعلى :﴿ قد أفلح من تزكى( ١٤ ) وذكر اسم ربك فصلى( ١٥ ) ﴾، وآيات سورة الليل هذه :﴿ سيجنبها الأتقى ( ١٧ ) الذي يؤتى ماله يتزكى( ١٨ ) ﴾ على اعتبار أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكل ما فيه بهذا اللسان الذي كان هو لسان العرب وأهل نزل بلسان عربي مبين، وكل ما فيه بهذا اللسان الذي كان هو بلسان العرب وأهل بيئة النبي قبل نزوله٢. غير أنها صارت علماً على الفريضة التي فرضت على أموال الأغنياء للفقراء والمحتاجين وسبل الخير ومصلحة المسلمين العامة.
وقد ذكرت بلفظها في سورة مبكرة نوعاً ما مثل آية سورة الأعراف هذه :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ( ١٥٦ ) ﴾، وآية سورة مريم هذه :﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا( ٣١ ) ﴾. وفي سورتي النمل ولقمان المبكرتين نوعاً ما في النزول أيضا وردت بلفظها في سياق وصف المسلمين الأولين كما ترى في هذه الآيات :
١- ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ( ٣ ) ﴾ [ النمل : ٣ ].
٢- ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ( ٤ ) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ٥ ) ﴾ [ لقمان ٤-٥ ].
حيث ينطوي في هذه الآيات دليل على أن الزكاة كانت ممارسة من قبل المسلمين الأولين قبل نزولها بمدة ما.
وهذه الآيات وإن جاءت بأسلوب التنويه والحث، فإن ذلك هو صفة جميع المأمورات والمنهيات القرآنية في السور المكية ؛ لأنه هو المتسق مع طبيعة العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته، ولا يمنع القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم استلهاماً من آيات سورتي الأعلى والليل اللتين يرجح أنهما نزلتا في السنة الأولى من البعثة قد يكون اعتبرها ركناً من أركان الإسلام منذ عهد مبكر وأمر المسلمين الأولين الميسورين بأدائها ؛ لأن الحاجة كانت ماسة إلى ذلك سواء أكانت من أجل أغراض الدعوة أم من أجل مساعدة الذين آمنوا من الفقراء والمساكين والأرقاء وكانوا يتعرضون للأذى والحرمان.
ويلحظ أن أسلوب الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة جاء في سورة البقرة هذه :﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير( ١١٠ )ٌ ﴾، التي نرجح أنها من أبكر الآيات المدنية في بابها حيث يسوغ القول : إن هذا الركن قد ثبت بأسلوب الأمر والتشريع حالما سنح الظرف المناسب، وهو الهجرة التي قوي بها الإسلام وصار بها سلطان ودولة يتمثلان في النبي صلى الله عليه وسلم والمجتمع الإسلامي الجديد في المدينة.
وليس في القرآن المكي ولا المدني مقدار محدد للزكاة، وقد حدد ذلك في الأحاديث النبوية. وهذه الأحاديث على ما يلمح من أسماء رواتها من أحاديث مدنية٣غير أن آيات في سور المعارج والذاريات والأنعام يمكن أن تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد لها مقادير معينة في العهد المكي كما ترى فيما يلي :
١- ﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ ( الأنعام : ١٤١ ).
٢- ﴿ والذين في أموالهم حق معلوم( ٢٤ ) للسائل والمحروم( ٢٥ ) ﴾ [ المعا رج ٢٤- ٢٥ ].
ومن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني أدخل تعديلات على المقادير التي حددها في العهد المكي. ومع أن مصارف الزكاة في آية من آيات سورة التوبة هذه :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٦٠ ) ﴾. التي نزلت في وقت متأخر من العهد المدني، فإن أسلوبها والسياق الذي جاءت فيه يلهمان أن هذه المصارف مما جرى عليه قبل نزولها، وبالتالي أنه تشريع نبوي ثبت في هذه الآية. وقد ذكرت بعض هذه المصارف بألفاظها في إحدى آيات سورة البقرة المبكرة في النزول في العهد المدني وهي :﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ ( ١٧٧ ).
والزكاة في الآية التي نحن في صددها قرنت إلى الصلاة. وهذا تكرر في معظم الآيات التي ذكرت فيها الصلاة. وفي هذا القران من جهة وفي جعلها من صفات المؤمن الرئيسية كما جاء في آية النمل التي أوردناها قبل، وكما جاء في آية سورة المؤمنون هذه :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( ١ ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( ٢ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ( ٣ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ( ٤ ) ﴾ وغيرهما. وبعبارة أخرى في جعلها عنوانا من عناوين الإيمان وركناً من أركان الإسلام من جهة ثانية توطيدا لمبدأ المعونة المالية للمحتاجين إليها وللمصالح العامة بصورة إلزام وفرض، وعدم ترك ذلك للتطوع والاختيار. ولقد روي أن ابن عباس سئل عن حكمة قرن الصلاة إلى الزكاة في القرآن فقال : لأن الصلاة والزكاة توأمان في الإسلام لا تقبل إحداهما بدون الأخرى. تلك حق الله وهذه حق للناس.
ولعل فريضة الزكاة بهذه الصفة و
١ انظر كتب تفسير الطبري والنسفي والطبرسي والخازن وابن كثير والبغوي..
٢ - انظر فصل الحياة العقلية في كتابنا "عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة"..
٣ - انظر نصوص الأحاديث وأسماء رواتها في كتاب "التاج الجامع"، ج ٢ ص ٨- ٢١..
Icon