تفسير سورة المزّمّل

التيسير في أحاديث التفسير
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب التيسير في أحاديث التفسير .
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ
ومن هنا ننتقل إلى سورة " المزمل " المكية،

وفي مطلعها أمر من الله ورسوله عليه السلام بالقيام والخروج من دفء البيت إلى أكبر معترك في الحياة، ألا وهو أداء الرسالة، التي أعدته لها الأقدار الإلهية، إلى الناس كافة، وذلك قوله تعالى :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم يأيها المزمل١ قم الليل إلا قليلا٢ نصفه أو انقص منه قليلا٣ أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا٤ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا٥ ﴾.
ومنذ صدر هذا الأمر الإلهي لخاتم الأنبياء والمرسلين وهو قائم على قدم وساق يبلغ الرسالة، ويؤدي الأمانة، حوالي ثلاث وعشرين سنة، دون ملل ولا فتور، ممتثلا أمر ربه بالصبر على أذى المكذبين، محذرا إياهم من عذاب يوم الدين :﴿ إن لدينا أنكالا وجحيما١٢ وطعاما ذا غصة وعذابا أليما١٣ يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا١٤ ﴾، ﴿ فكيف تتقون إن كفرتم يوم يجعل الولدان شيبا١٧ السماء منفطر به كان وعده مفعولا١٨ ﴾.
وختم هذا الربع بالإشارة إلى أن هذه السورة، بما فيها من آيات بينات، إنما هي موعظة لمن أراد أن يتعظ، وتذكرة لمن أراد أن يتذكّر، والسعيد كل السعيد من اتعظ وتذكر، وفكر في عاقبة أمره وتدبر، ﴿ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا١٩ ﴾.
الربع الثاني من الحزب الثامن والخمسين
في المصحف الكريم
تعود الآيات الكريمة في مطلع هذا الربع إلى الحديث مرة أخرى عن " قيام الليل " الذي كان أوجبه الله على المسلمين في فجر الإسلام، وعلى رأسهم أول المسلمين سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، فقد اقتضت حكمة الله، إعدادا لنبيه، واختبارا للطائفة الأولى من المؤمنين، أن يفرض عليه وعليهم التهجد بالليل، واستمرت هذه الفريضة سارية المفعول مدة غير قصيرة، وإلى فرضها أشار قوله تعالى في الربع الماضي :﴿ يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ﴾.
وروي عن عائشة أنها قالت : " إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة – تقصد سورة المزمل- فقام رسول الله وأصحابه حولا، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا، من بعد ما كان فريضة، وإلى هذا " التخفيف " وجعل قيام الليل تطوعا بعد أن كان فرضا يشير قوله تعالى في هذا الربع الذي هو موضوع حديث اليوم :﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾، قال ابن كثير : " وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من السلف إن هذه الآية نسخت ما كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل ".
ورغما عن إسقاط فريضة " التهجد " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي يتهجد بالخصوص طوال عهد الرسالة، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يقل قيامه عن ثلث الليل، وكان صلى الله عليه وسلم يوتر بإحدى عشرة ركعة، فلما تقدم به السن أخذ يوتر بسبع ركعات، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، كما روي عن عائشة رضي الله عنها، وذلك امتثالا لقوله تعالى خطابا لرسوله :﴿ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾. قالت عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها "، وسئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله، فقالت : " كان يقطع قراءته آية آية :( بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ).
وقوله تعالى :﴿ والله يقدر الليل والنهار ﴾، أي : إنه سبحانه يطيل من هذا، ويقصر من ذاك فيطول الليل وينقص، ويأخذ هذا من هذا أحيانا، ويعتدلان أحيانا، طبقا للناموس الذي وضعه الله لهما.
وقوله تعالى :﴿ علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ﴾، إشارة إلى فرض قيام الليل، الذي كان الله قد فرضه على المسلمين اختبارا لهم، وإن كان يعلم عجزهم عن موالاة القيام به دائما، وها هو الحق سبحانه يخففه عنهم، حتى لا يكون عليهم في الدين من حرج، ويشهد لمعنى هذه الآية قوله تعالى في آية أخرى :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ ( الأنفال : ٦٦ ).
وقوله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾، إذْنٌ من الله تعالى للمؤمنين بأن يكتفوا بقراءة ما تيسر من القرآن، أثناء صلاة الليل، وفسر ابن كثير هذه الآية بمعنى : " قوموا من الليل ما تيسر " من غير تحديد، لا بثلثي الليل ولا بنصفه ولا بثلثه ".
وقوله تعالى :﴿ علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ﴾، إشارة إلى حكمة الله في التخفيف عن المسلمين من فريضة قيام الليل، وجعل قيامه تطوعا لا غير، فهنالك " مرضى " لا يسمح لهم بقيام الليل، وهناك " مسافرون " يضربون في الأرض، سعيا في طلب الرزق والتكسب بالتجارة، ابتغاء فضل الله، قد يضطرون إلى السفر ليلا فضلا عن النهار، وهنالك " مجاهدون " ينتظر أن يكرسوا حياتهم للجهاد في سبيل الله، قد تدعوهم الضرورة إلى الانتفاع بالسُرى والمشي إلى ساحة الجهاد ليلا، " وعند الصباح يحمد القوم السرى " كما يقول المثل العربي.
ثم عقب كتاب الله على هذه الأعذار الشرعية المعقولة وما ماثلها، بإعادة أمر " التخفيف " وتكريره مرة أخرى فقال تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر منه ﴾، أي الآن خفف الله عنكم، فخففوا إذن على أنفسهم، واكتفوا بقراءة ما تيسر من القرآن فيما تيسر من صلاة الليل، حسبما تسمح به ظروفكم، دون مشقة زائدة ولا إرهاق، وكان الحسن البصري يرى أن من الواجب على حملة القرآن أن يقوموا بقراءة شيء منه في الليل.
ونبه ابن كثير إلى أن ذكر " القتال في سبيل الله " في هذه السورة المكية، ولم يكن القتال قد شرع بعد، يعد من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
وقوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا ﴾، يفيد صدور الأمر الإلهي للمسلمين بأداء الصلاة مع إيتاء الزكاة منذ كانوا بمكة، وقبل أن ينتقلوا إلى المدينة، قال ابن كثير : " وهذا يدل لمن قال إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج منها لم يبين إلا بالمدينة، والله أعلم ".
وقوله تعالى :﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ﴾، أي : أن ما تقدمونه بين أيديكم لآخرتكم تجدونه عند الله خيرا لكم مما أبقيتم وراءكم في دنياكم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر "، رواه البخاري في صحيحه والنسائي في سننه.
وقوله تعالى :﴿ واستغفروا الله إن الله غفور رحيم٢٠ ﴾، إشارة إلى الأثر الطيب الذي يثمره العمل الصالح، فإنه طريق إلى غفران الله ونيل رضوانه.
Icon