ﰡ
[سورة الأنفال]
فاتحة سورة الأنفال
لا يخفى على ذوى الألباب المستكشفين عن لب التوحيد المستنزهين عن قشوره ان من لم يترق ممن يتأتى منهم الهداية والسلوك في سبيل التوحيد عن المرتبة الحيوانية ولم يصل الى الدرجة العلية الانسانية لم يثمر شجرة هويته وظهوره ثمرة المعرفة واليقين التي قد غرست لأجلها وظهرت لحصولها وبالجملة من لم نحيى بحياة العلم اللدني الأزلي الأبدي بل بقي على الجهل الجبلي الهيولاني فهو ميت حقيقة وان كان حيا صورة وبسبب موتهم وجهلهم هذا لا يستنشقون نسمات الروح ونفحات الحيوة الطيبة من أنفاس الأنبياء المبعوثين لإحيائهم بنفخ الروح الإلهي والنفس الرحمانى المظهر لهوياتهم المحيي لهياكلهم وماهياتهم من كتم العدم ولم يؤمنوا بهم ولم يصدقوهم فيما جاءوا به من عند ربهم بل كذبوهم وقاتلوا معهم وأصروا على جهلهم واستكبروا عليهم حسب حميتهم الحيوانية الجاهلية الساقطة المسقطة الضالة المضلة لذلك قد صارت دماؤهم مباحا وأموالهم فيأ عند العارف المحقق المتحقق بتوحيد الحق وشئونه المعتدلة وبالجملة أموالهم وما ينسب إليهم من جملة أرزاق الله التي لم يضف الى احد من خلقه ولم يقسم بين عباده إذ الحكمة في ترزيق العباد انما هي كسب المعرفة والتوحيد لذلك اخبر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بكيفية تقسيم اموال الفيء والغنيمة مخاطبا له على وجه التعليم فقال سبحانه متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المقسم لأرزاق العباد على العدل القويم الرَّحْمنِ لهم بإصلاح ما ظهر بينهم من المخالفة والنزاع باغواء الشيطان الرجيم الرَّحِيمِ لهم يوفقهم على ازدياد الهداية والايمان سيما باحكام كتابه الكريم
[الآيات]
يَسْئَلُونَكَ اى أصحابك ايها الرسول المبعوث على الخلق العظيم عَنِ الْأَنْفالِ اى عن قسمة الغنائم عبر سبحانه عنها بالنفل وهو في اللغة عطية زائدة اشترطها الامام لمن اقتحم على محل الخطر زيادة على سهمه كأنها زائدة على سهام الغزاة المجاهدين المقاتلين في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق طلبا لمرضاته سبحانه وما يترتب عليه من اموال الدنيا انما هو بمنزلة النفل والعطية الزائدة على سهامهم التي هي المثوبة العظمى والمرتبة العليا عند الله قُلِ لهم يا أكمل الرسل الْأَنْفالِ كلها لِلَّهِ ومن مال الله وقسمتها مفوض اليه سبحانه وَالى الرَّسُولِ المستخلف منه النائب عنه سبحانه باذنه فَاتَّقُوا اللَّهَ ايها المؤمنون عن مخالفة امره وامر رسوله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملون في الايمان المتحققون بمرتبة اليقين والعرفان المصدقون بالرسول المبين لهم طريق التوحيد هم الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ الواحد الأحد المتفرد بالالوهية المتوحد بالربوبية وَجِلَتْ اى خافت وترهبت واضطربت قُلُوبُهُمْ من سطوة سلطنة عظمته وجلاله وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ الدالة على بسطته وكبريائه النازلة على رسله وأنبيائه زادَتْهُمْ تلك الآيات إِيماناً وتصديقا وإذعانا ويقينا عيانا وعرفانا وَهم من كمال يقينهم وعرفانهم عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الأسباب الناقصة والرسوم العادية يَتَوَكَّلُونَ يتوسلون ويستعينون منه سبحانه في عموم الأمور بلا رؤية الوسائل في البين لتحققهم بمقام التوحيد المسقط للالتفات الى غير الحق مطلقا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويديمون الميل الى الله في جميع حالاتهم مراقبين لفيضه وجذب من جانبه وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من كد يمينهم يُنْفِقُونَ في سبيله طلبا لمرضاته
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الْمُؤْمِنُونَ المتحققون لمرتبة الإذعان والإيقان حَقًّا ثابتا مستقرا بلا اضطراب وتزلزل وبالجملة لَهُمْ دَرَجاتٌ عظيمة عِنْدَ رَبِّهِمْ من درجات العلم والعين والحق وَمَغْفِرَةٌ اى ستر لأنانياتهم وتعيناتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ معنوي بدلها يرزقون به فرحين عناية من الله لان من توجه نحو الحق ومال الى جنابه ميلا مسقطا للتوجه الى الغير مطلقا وخرج عن لوازم بقعة الإمكان الى حيث ينفق ويبذل عموم ما نسب اليه من اموال الدنيا وزخارفها معرضا عنها مخرجا محبتها عن قلبها اعطى سبحانه له بدل إخلاصه من الرزق المعنوي ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
كَما اعطاك يا أكمل الرسل حين أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ وقت إذ أخبرك جبرئيل عليه السّلام من اقبال عير مكة من قبل الشأم وفيها ابو سفيان اخبارا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَالحال إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ خروجك ومن كمال كراهتهم
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ الصريح الذي هو الجهاد سيما بَعْدَ ما تَبَيَّنَ وظهر لك بوحي الله إياك ووعده النصرة والظفر لك وهم من غاية رعبهم حين خروجهم كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ مثل البهائم نحو المسلخ وَهُمْ حينئذ يَنْظُرُونَ حيارى خائفين مرهوبين مع انه قد كتب لهم الظفر والغنيمة والغلبة من عند ربهم وذلك ان عير قريش أقبلت من الشأم وفيهم ابو سفيان مع أربعين من الفرسان ومعهم تجارة عظيمة فأخبر جبرئيل عليه السّلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبر الرسول للمؤمنين فخرجوا مسرعين بلا عدة استقلالا لهم وميلا الى أموالهم فلما خرجوا من المدينة بلغ خبر خروجهم الى العير فانصرفوا عن الطريق وأرسلوا خبرهم الى مكة فاستغاثوا فخرج ابو جهل مع جمع كثير فمضوا الى بدر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي دقران فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام ثانيا يعده احدى الطائفين اى العدو او العير فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وان كان رأيه الى القتال فقال بعضهم هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له انا قد خرجنا للعير فقال صلّى الله عليه وسلّم ان العير قد مضت على ساحل البحر وهذا ابو جهل قد اقبل فقالوا كارهين مرعوبين يا رسول الله عليك بالعير ودع العد وفقد غضب صلّى الله عليه وسلّم فقال المقداد بن عمرو يا رسول الله امض بما أمرك الله فانا معك حيثما
وَاذكروا ايها المؤمنون وقت إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ بالوحي على رسوله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها مغلوبة مقهورة لَكُمْ وَأنتم حين سمعتم مضمون الوحى تَوَدُّونَ وتحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ اى العير تَكُونُ لَكُمْ لان أهلها قليل ومالها كثير ولا احتياج لكم الى المقاتلة معهم لقلتهم وعدم شوكتهم وَيُرِيدُ اللَّهُ حسب قهره وقدرته أَنْ يُحِقَّ يظهر ويثبت الْحَقَّ اى التوحيد المطابق للواقع الذي هو الإسلام بِكَلِماتِهِ الملقاة من عنده سبحانه بملائكته حين أمرهم بامداد حبيبه الذي بعث لإعلاء كلمة توحيده وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ اى يستأصلهم الى حيث لم يبق منهم من يستخلفهم كل ذلك فضل من الله وامتنان منه على رسوله
لِيُحِقَّ الْحَقَّ اى الإسلام المحقق المطابق لما عند الله وَيُبْطِلَ الْباطِلَ المخالف لدين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المصرون على ما هم عليه قبل نزول الإسلام ما أراد الله من تحقيق الحق وتمكينه وابطال الباطل وتخذيله
اذكروا ايها المؤمنون فضل الله عليكم ورحمته سيما وقت إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ حين اقتحم العدو وأنتم غزى قلائل وهم متكثرون ذووا عدد وعدد فَاسْتَجابَ لَكُمْ ربكم مغيثا عليكم قائلا لكم على لسان نبيكم أَنِّي بحولي وقوتي مُمِدُّكُمْ معينكم ومغيثكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ على عدوكم يضربونهم من وراءهم وأنتم من قدامهم
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ اى امدادكم هذا بملائكة السماء إِلَّا بُشْرى لكم بفضلكم وكرامتكم عليهم وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ في عموم ما وعدكم الله به وَاعلموا ايها المؤمنون المتحققون بمقام التوحيد مَا النَّصْرُ والغلبة والظفر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ القادر المقتدر على كل ما أراد واختار إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والجلال عَزِيزٌ غالب على عموم مقدوراته ومراداته حَكِيمٌ متقن في جميع أحكامه ومأموراته يفعل ما يشاء ارادة واختيارا ويحكم ما يريد اذكروا ايها المؤمنون فضل الله عليكم وامتنانه
إِذْ يُغَشِّيكُمُ ويغلب عليكم بلطفه سبحانه النُّعاسَ اى النوم ازالة لرعبكم حين كنتم في سهر من خوف العدو لتكون أَمَنَةً نازلة مِنْهُ لتستريحوا وتطمئن قلوبكم وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ حينئذ مِنَ السَّماءِ ماءً مع انكم قد كنتم مجنبين ليلتئذ باغواء الشيطان وعدوكم على الماء والشيطان يعيركم بجنابتكم ويوسوس عليكم بأنكم تدعون الامامة بالولاية كيف تخرجون غد اتجاه العدو وأنتم جنب ودعواكم ان القتال والجهاد من اشرف العبادات وبأمثال هذه الهذيانات
وذكر بمن تبعك فضل الله عليكم وقت إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ المأمورين لعونك وامدادك حين ازداد رعب أصحابك من اقتحام القتال قائلا لهم أَنِّي بكمال حولي وقوتي مَعَكُمْ حاضر عندكم شهيد عليكم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا في مكانهم تجاه العدو حتى لا يستدبروا إذ سَأُلْقِي من كمال نصرى وعوني للمؤمنين فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا اى في قلوب العدو الرُّعْبَ من المؤمنين فاستكثروهم واستدبروا منهم ومتى استدبر العدو فَاضْرِبُوا أنتم على الفور ايها المؤمنون فَوْقَ الْأَعْناقِ اى اعالى أعناقهم وَان وضعوا جننهم وأيديهم على أعناقهم حفظا لها اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ اى جميع أصابعهم لئلا يبقى لهم استعداد القتال أصلا حتى لا يكروا عليكم
ِكَ
اى انهزامهم وانخذالهم أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
اى خاصموا وخالفوا مع الله ورسوله مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ
القادر المقتدر على عموم ما أراد من القهر والانتقام
يخاصم سُولَهُ
المؤيد من عنده لتبليغ الاحكام قد استحق انواع العقوبة والنكال من عنده إِنَّ اللَّهَ
المتعزز برداء العظمة والجلال دِيدُ الْعِقابِ
صعب الانتقام سريع الحساب على من خالف امره وعادى رسوله
ذلِكُمْ اى انواع العقوبة والعذاب نازل على من تعدى حدود الله وكذب رسوله فَذُوقُوهُ ايها المخالفون المصرون ما أعد لكم من العذاب وَاعلموا أَنَّ لِلْكافِرِينَ المصرين المتمردين عَذابَ النَّارِ يخلدون فيها ابد الآباد.
ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم إعلاء كلمة الحق وانتصار دينه فعليكم إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ان تقاتلوا معهم وان كانوا زَحْفاً متكثرين بأضعافكم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ اى لا ترجعوا منهم حين التقائكم إياهم الى إدباركم خائفين منهزمين حال كونهم بأضعافكم فكيف ان كانوا أمثالكم او اقل منكم
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ منكم يَوْمَئِذٍ اى يوم ملاقاة عدوكم دُبُرَهُ مدبرا خائفا مرعوبا إِلَّا مُتَحَرِّفاً يعنى يكون إدباره وانحرافه لِقِتالٍ على سبيل المكر والخدعة أَوْ مُتَحَيِّزاً اى قاصدا بالاستدبار والانحراف التحيز واللحوق إِلى فِئَةٍ ثابتة من المؤمنين ليستعين بهم فَقَدْ باءَ اى رجع ولحق بِغَضَبٍ نازل مِنَ اللَّهِ لمخالفة امره وحكمه وحكمته وَمَأْواهُ في النشأة الاخرى جَهَنَّمُ البعد والخذلان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مرجعه ومصيره وعليكم ايها المؤمنون ان لا تنسبوا القتل بل جميع ما صدر عنكم الى نفوسكم مفاخرة ومباهاة بل انكم وان قتلتم عدوكم صورة
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أنتم حقيقة وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لان جميع الأمور الكائنة في الآفاق صادر من الله أولا وبالذات ومن آثار أوصافه وأسمائه وَبالجملة ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أنت ايها النبي المأمور برمي الحصا عند هجوم الأعداء على أصحابك وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إذ قد أوجد الرمي سبحانه بيدك التي هي يد الله حقيقة لذلك ترتب على
ذلِكُمْ اى ابتلاء الله إياكم بالبلاء الحسن مختص بالمؤمنين المخلصين منكم وَاعلموا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المتولى لأموركم مُوهِنُ مضعف ومبطل كَيْدِ الْكافِرِينَ ومكرهم وحيلهم التي يقصدون بها إهلاككم واذلالكم. ثم قال سبحانه على سبيل التهكم للكافرين الذين كانوا إذا اقبل عليهم المؤمنون للقتال يطوفون حول الكعبة متشبثين بأستارها متضرعين مستفتحين من الله قائلين اللهم انصر أعلى الجندين واهدى الفئتين وأكرم الحزبين
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا منا ايها الهالكون في تيه الضلال لمقاتلة نبينا ومن تبعه من المؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بقتلكم وسبيكم اى غلبة المؤمنين عليكم وَإِنْ تَنْتَهُوا عن مقاتلتهم ومعاداتهم وعن الاستفتاح لها بل آمنوا كما آمن هؤلاء لنبينا عن ظهر القلب وصميم الفؤاد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في أولئكم وأخراكم وَإِنْ تصالحوا معهم وآمنوا على وجه النفاق ثم ارتدوا بان تَعُودُوا الى مقاتلتهم ومعاداتهم نَعُدْ ايضا الى نصرهم وتأييدهم الى ان يستأصلوكم ويخرجوكم من دياركم وَبالجملة لا تغتروا ايها المسرفون بكثرة عددكم وعددكم إذ لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ التي أنتم تستظهرون وتستعينون بها شَيْئاً من غلبة المؤمنين وظفرهم وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم وَكيف تغنى فئتكم شيأ منهم أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ المجاهدين في سبيله لإعلاء كلمة توحيده ونصر دينه ونبيه ينصرهم ويعين عليهم.
ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين توصية وتذكيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ المراقب المعاون لكم في جميع أحوالكم وَأطيعوا ايضا رَسُولَهُ المبلغ لكم احكام الحق وشعائر دينه وتوحيده وَعليكم ان لا تَوَلَّوْا عَنْهُ اى لا تتولوا معرضين عن رسوله حتى لا تنحطوا عن رتبة الخلافة وكيف لا تطيعون رسوله وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ كلمة الحق منه واسمعوها سمعا وطاعة
وَبالجملة لا تَكُونُوا في عدم الإطاعة والانقياد كَالَّذِينَ قالُوا كفرا ونفاقا سَمِعْنا ما تلوت علينا وَهُمْ من غاية بغضهم ونفاقهم لا يَسْمَعُونَ سمع اطاعة وتسليم فكأنهم لم يسمعوا أصلا بل لا يتأتى منهم السماع لانحطاطهم عن رتبة العقلاء بل لحقوا بالبهائم في عدم الفطنة بل أسوأ حالا منها
وبالجملة إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ عن استماع كلمة الحق من السنة الرسل الْبُكْمُ عن التكلم بها سيما بعد ما فهموها ولاحت عندهم حقيقتها وبالجملة هؤلاء الحمقى التائهون في تيه الغي والضلال هم الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ اى ليسوا من زمرة العقلاء وان ظهروا على صورهم واشكالهم
وَبالجملة لَوْ عَلِمَ اللَّهُ العليم الحكيم فِيهِمْ اى في استعداد هؤلاء السفهاء المنحطين عن رتبة العقلاء خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ كلمة الحق سمع قبول وطاعة وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ مع كونهم ليسوا مستعدين لها لَتَوَلَّوْا وانصرفوا البتة من خبث طينتهم عنها وَبالجملة هُمْ في اصل فطرتهم وبمقتضى جبلتهم مُعْرِضُونَ عن الحق مجبولون على الاعراض والانصراف عن اهله لا يرجى منهم الإطاعة والانقياد أصلا.
ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين تذكيرا لهم وتعليما
وَاتَّقُوا ايها المؤمنون فِتْنَةً واى فتنة هي معصية مسقطة للعدالة مزيحة للمروءة مطلقا مورثة للمصيبة الشامل أثرها لعموم عباد الله مثل الطاعون والوباء المترتب على الزنا واللواطة والقحط المترتب على البخس والتطفيف والاحتكار وغيرها من طرق الربوا مع ان أثرها لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ وهم الذين قد أتوا بها خَاصَّةً بل يعم الظالمين وغيرهم بشؤمهم لان غيرهم يداهنون معهم كأنهم راضون بفعلهم لذلك قد أصابهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام سريع الحساب على من خرج عن مقتضيات أوامره ونواهيه
وَاذْكُرُوا ايها المؤمنون نعمنا إياكم واعانتنا لكم وداوموا بشكرها سيما وقت إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ بحيث يستضعفكم من فِي الْأَرْضِ يعنى ارض مكة شرفها الله ومن غاية ضعفكم وقلتكم تَخافُونَ أنتم ايضا أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ ويلتقطكم النَّاسُ عن وجه الأرض بحيث يستأصلكم بالمرة من غاية ضعفكم وقلتكم فَآواكُمْ الله بحوله وقوته واعادكم إليها بعد ما أخرجكم العدو منها ظلما وعدوانا وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بان تغلبوا وتظفروا على عدوكم وتخرجوهم منها مهانين مغلوبين مستضعفين وَبعد ما أيدكم وأظفركم سبحانه قد رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ التي غنمتم منهم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا على شكر هذه النعم العظام
ثم قال سبحانه على وجه العظة والتذكير تعليما للمؤمنين مناديا لهم ليقبلوا بما أمروا به ويعرضوا عما نهوا عنه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَخُونُوا اللَّهَ في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَالرَّسُولَ في سننه وأخلاقه وآدابه التي قد وضعها فيما بينكم لإصلاح حالكم وَبالجملة لا تَخُونُوا أَماناتِكُمْ التي قد ائتمنتم فيها ثقة عليكم واعتمادا وَالحال انه أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قبح الخيانة من انفسكم بلا احتياج لكم الى إنذار منذر واخبار مخبر والخيانات في الأمانات انما تنشأ من جلب المنفعة والحرص المفرط على تكثير المال لمصالح العيال
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
اختبار وابتلاء
وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ
المطلع بجميع أحوالكم عِنْدَهُ
وفي كنف حفظه وجواره أَجْرٌ عَظِيمٌ
للمفوضين الذين رضوا بقسمة الله في جميع حالاتهم ووفوا بما ائتمنوا من الأمانات مجتنبين عن الخيانة فيها
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وتحذروا عن محارمه ومحظوراته مطلقا وتؤدوا الأمانات التي ائتمنتم بها من الأموال والاعراض والشهادات بلا خيانة فيها وتفوضوا أموركم كلها اليه مجتنبين عن الخيانة يَجْعَلْ لَكُمْ وينزل على قلوبكم تفضلا وامتنانا فُرْقاناً ينور به قلوبكم بحيث تميزون الحق من الباطل والصواب من الخطأ والإلهام الإلهي من إغواء الشيطان وتغريره وَيُكَفِّرْ ويمح به وبامتثال أوامره واجتناب نواهيه عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ اى جرائمكم اللاتي قد مضت عليكم بالمرة وَبالجملة يَغْفِرْ لَكُمْ ويستر عنكم ذنوبكم مطلقا تفضلا وامتنانا وَلا تتعجبوا من افضاله هذا ولا تستبعدوا منه سبحانه أمثاله إذ اللَّهَ المراقب لأحوال عباده ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واللطف الجسيم على من توكل عليه والتجأ نحوه في عموم حالاته على وجه الخضوع والخشوع
وَاذكر يا أكمل الرسل انجاءنا وتخليصنا إياك وقت إِذْ يَمْكُرُ ويخدع بِكَ لهلاكك ومقتك المفسدون المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بك يعنى قريشا وهم قد شاوروا لأمرك في دار الندوة لِيُثْبِتُوكَ ويحبسوك في دار ليس لها منفذ إلا كوة يلقون منها طعامك أحيانا أَوْ يَقْتُلُوكَ مزدحمين بحيث لم ينسب قتلك الى معين منهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة محمولا على جمل ليقتلك القطاع وَبالجملة يَمْكُرُونَ بمقتك أولئك الكفرة الماكرون وَيَمْكُرُ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليك لإنجائك وخلاصك من أيديهم فغلب مكره سبحانه على مكرهم واخرجك من بينهم سالما وَبالجملة اللَّهُ المطلع لجميع مخايلهم خَيْرُ الْماكِرِينَ اى أشدهم وأقواهم تأثيرا وقوة وذلك انهم حين سمعوا ايمان الأنصار شاوروا على أظهرهم في امره صلّى الله عليه وسلّم وارتفاع شانه وسطوع برهانه فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال انا من نجد سمعت اجتماعكم فاحضركم لا علم كيف تتدبرون في امر هذا الشخص الذي لو بقي زمانا على هذا يخاف عليكم من شره فقال ابو البختري رأيى ان تحبسوه في بيت وتشدوا منافذه غير كوة تلقون اليه طعامه وشرابه منها حتى يموت فقال الشيخ النجدي بئس الرأس هذا يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصونه من أيديكم فقال هشام بن عمرو رأيى ان تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم ولا يلحقكم ضرر بنى هاشم فقال الشيخ يفسد قوما آخر ويقاتلكم بهم اما رأيتم طلاقة لسانه وحلاوة كلامه ووجاهة منظره فقال ابو جهل انى ارى ان تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا فيضربوه دفعة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنوا هاشم على حرب القريش كلهم فان طلبوا العقل عقلناه فقال الشيخ
وَمن جملة ما مكرنا معهم انا قد ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم بختم القساوة والغفلة بحيث إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا قالُوا من غلظة غشاوتهم وشدة قساوتهم قَدْ سَمِعْنا أمثال هذا من بلغائنا كثيرا بل لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا مع انهم قد عارضوا مدة ثم عجزوا مع وفور دواعيهم ثم لما عجزوا عن إتيان مثله قالوا عنادا ومكابرة إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى ما هو الا أكاذيبهم التي قد سطروها في دواوينهم لتغرير السفهاء
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالُوا من فرط عتوهم ونهاية انهماكهم في الغفلة والضلال وإصرارهم على تكذيب القرآن والرسول اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا المفترى هُوَ الْحَقَّ الثابت النازل مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا بسبب تكذيبنا إياه حِجارَةً مِنَ جانب السَّماءِ واستأصلنا بها أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع وما هذا الا مبالغة منهم في تكذيب القرآن والرسول على سبيل التهكم
وَبالجملة ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وان استحقوا أشد العذاب والنكال والإهلاك الكلى بسبب تكذيبك وتكذيب كتابك يا أكمل الرسل وَأَنْتَ فِيهِمْ يعنى ما كان سبحانه معذبهم ما دمت أنت فيهم وفي ديارهم ومكانهم فان عذبهم الله فقد اصابك مما أصابهم وَان أمكن تخليصك وانقاذك من عذابهم حين تعذيبهم ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وما أراد تعذيبهم واستئصالهم وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اى يتوقع من أنفسهم او من اخلافهم وذراريهم الايمان والاستغفار في الاستقبال بخلاف الأمم الهالكة السالفة
وَبالجملة ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور اى اى شيء يمنع تعذيب الله إياهم مع انهم مستحقون للعذاب وكيف لا يعذبون هؤلاء المستكبرون المعاندون وَهُمْ من شدة عتوهم وعنادهم يَصُدُّونَ ويصرفون المؤمنين عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والطواف حول البيت مدعين ولايته وَالحال انهم ما كانُوا أَوْلِياءَهُ اى ليس لهم صلاحية الولاية في بيت الله لخباثة كفرهم وفسقهم وعدم لياقتهم بل إِنْ أَوْلِياؤُهُ وما يصلح لولايته وخدمته إِلَّا الْمُتَّقُونَ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ويتطهرون عن المعاصي والآثام مطلقا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ عدم ولايتهم ولياقتهم لها ومع ذلك يدعونها مكابرة واستكبارا وان كان بعضهم يعلم ولكن يعاند
وَبعد ما لم يصلحوا لولاية البيت ما كانَ صَلاتُهُمْ ودعاؤهم عِنْدَ الْبَيْتِ المعد للتوجه والتقرب نحو الحق على وجه الخضوع والانكسار والتذلل والافتقار إِلَّا مُكاءً صفيرا وصداء وَتَصْدِيَةً تصفيقا وتبخترا مع انهم يدعون ولايته ورعاية حرمته وما ذلك الا من امارات الاستهانة والاستخفاف المستلزم للكفر فَذُوقُوا الْعَذابَ ايها المنهمكون في الضلال بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ في النشأة الاولى والاخرى
. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق وأصروا على الباطل عنادا واستكبارا الى حيث يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ على وجه الصدقة لأهل الجيش لِيَصُدُّوا ويمنعوا اهل الحق
وانما يفعل بهم سبحانه هذا لِيَمِيزَ اللَّهُ الناقد البصير لاعمال عباده الْخَبِيثَ المنغمس في الكفر والضلال مِنَ الطَّيِّبِ الصافي عن شوب الكدر مطلقا وَبعد فصله وتمييزه يَجْعَلَ الْخَبِيثَ جملة واحدة بان يضم بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ ويجمعه جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ ويطرحه بعد جمعه وتركيمه فِي جَهَنَّمَ الإمكان وجحيم الخذلان وبالجملة أُولئِكَ البعداء المنغمسون في خباثة الكفر والطغيان هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي المجبولون على الحرمان السرمدي ليس لهم نصيب من مستلذات الجنان وحظ من لقاء الرّحيم الرّحمن الكريم
قُلْ يا أكمل الرسل لِلَّذِينَ كَفَرُوا تبشيرا لهم ووعدا لا ييأسوا من روح الله وسعة رحمته وجوده عما هم عليه من الكفر والضلال بل إِنْ يَنْتَهُوا ويعرضوا عن الكفر والإلحاد نحو الباطل الزائغ الزائل والميل الى البدع والأهواء الفاسدة الكاسدة من تكذيب الرسل والكتب بالإيمان الخالص عن ظهر القلب ورفع المنازعة والمخاصمة مع رسول الله ومع من تابعه يُغْفَرْ لَهُمْ ويعف عنهم عموم ما قَدْ سَلَفَ منهم من الجرائم والآثام مطلقا وَإِنْ يَعُودُوا على كفرهم ونزاعهم ويرتدوا بعد ايمانهم وصلحهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ اى سنن الأمم الهالكة الذين كفروا بالله وخرجوا على رسله فأصابهم ما أصابهم فليتوقعوا
وَبعد ما خرجوا عن عهدهم ونقضوا ميثاقهم وارتدوا على ادبارهم قاتِلُوهُمْ ايها المؤمنون اى المرتدين واستأصلوهم حَتَّى لا تَكُونَ اى لا توجد ولا تبقى فِتْنَةٌ وبقية من شركهم مضلة لضعفاء الأنام وَبعد استئصالهم وانقطاع شركهم وعرقهم يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ الواحد الأحد الذي لا شريك له فَإِنِ انْتَهَوْا بالقتال عن شركهم وكفرهم وأقروا بالإيمان والإطاعة فخلوا سبيلهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ في بواطنهم من الوفاق والنفاق بَصِيرٌ يجازيهم على مقتضى بصارته وخبرته
وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا ولم ينتهوا بالقتال عن كفرهم بل قد أصروا عليه وأخذوا أولياء من إخوانهم وشياطينهم واستعانوا منهم بمقاتلتكم ايها المؤمنون لا تبالوا بهم وبمعاونيهم ومظاهريهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانتقام مَوْلاكُمْ معينكم ومتولى أموركم نِعْمَ الْمَوْلى موليكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ نصيركم وظهيركم
وَبعد ما انتصرتم وظفرتم عليهم اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ منهم وأخذتم مِنْ شَيْءٍ اى مما يطلق عليه اسم الشيء حتى الخيط فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ اى فاعلموا ان خمسه مخرج لله وَيصرف من مال الله خمسه لِلرَّسُولِ المستخلف منه النائب عنه وَبعد انقراضه يصرف الى الولاة المقيمين لحدود الله وسهم آخر منه لِذِي الْقُرْبى المنتمين الى رسول الله من بنى هاشم والمطلب وَآخر حق الْيَتامى الذين لا مال لهم ولا متعهد وَآخر حق الْمَساكِينِ
اذكروا ايها المؤمنون ضعفكم ورثاثة حالكم وقت إِذْ أَنْتُمْ مترددون بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا اى على شفير الوادي الذي هو اقرب الى المدينة مع انه لا ماء فيه ورماله تسوخ ارجلكم وأنتم راجلون وَهُمْ متمكنون بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى اى على شفير الوادي الا بعد من المدينة والماء عندهم وَالرَّكْبُ اى العير التي أنتم قصدتم نحوه قد كان أَسْفَلَ وابعد مِنْكُمْ على ساحل البحر مقدار ثلثة أميال وأنتم حينئذ حيارى بين الاقدام والاحجام وَبالجملة لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم معهم القتال في وقت معين بلا وحى من الله ووعد من جانبه لَاخْتَلَفْتُمْ أنتم البتة لضعفكم وقوتهم وشدة شوكتهم وصولتهم فِي الْمِيعادِ الذي أنتم وعدتم معهم لرعبكم ورهبتكم منهم وَلكِنْ جمع سبحانه بلطفه شملكم ومكنكم في مكانكم وأمطر عليكم في ليلتكم لِيَقْضِيَ اللَّهُ المتولى لنصركم وغلبتكم أَمْراً وحكما مبرما من نصر الأولياء وقهر الأعداء قد كانَ مَفْعُولًا عنده سبحانه مثبتا في حضرة علمه وسابق قضائه وان لم يفعل بعد وانما فعل سبحانه بكم ما فعل من النصر والظفر وبهم من القهر والقمع لِيَهْلِكَ من الكفار مَنْ هَلَكَ ومات وانخذل غيظا عَنْ بَيِّنَةٍ واضحة قد شاهدها وَيَحْيى ايضا من المسلمين مَنْ حَيَّ فرحا وسرورا عَنْ بَيِّنَةٍ واضحة لائحة قد انكشف بها وَاعلموا إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَسَمِيعٌ لمناجاة كلا الفريقين عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم فيها يفعل مع كل منهم على مقتضى علمه
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ اى أعداءك فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مما كانوا عليه تشجيعا لك يا أكمل الرسل ولأصحابك وتحريضا على قتالهم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً وعلى شوكتهم التي هم فيها لَفَشِلْتُمْ وجبنتم البتة رهبة وهيبة وَبعد ما جبنتم لَتَنازَعْتُمْ البتة فِي الْأَمْرِ اى امر القتال سيما قد عرفتم كثرتهم وشوكتهم بل تسرعون أنتم بأجمعكم على الاستدبار والانهزام وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ اى أنعم عليكم بالسلامة عن القتل والتنازع بانزال السكينة والوقار على قلوبكم بسبب ذلك التقليل وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم مآل أمركم وعاقبته لذلك لبس عليكم ليجرئكم على القتال لإعلاء كلمة توحيده ونصر دينه
وَاذكر ايضا امداد الله إياكم بتلبيس الأمر عليكم إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ اى أعداءكم إِذِ الْتَقَيْتُمْ صافين من الطرفين فِي أَعْيُنِكُمْ كما في منامكم قَلِيلًا لتستقلوهم وتجترؤا عليهم وَيلبس أمركم عليهم ايضا تغريرا لهم ومكرا إذ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى لا يبالوا بكم وبجمعكم لذلك قال ابو جهل حين تراءت الفئتان ان محمدا وأصحابه اكلة جزور وانما فعل سبحانه ما فعل من التلبيس على كلا الفريقين لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ عنده مَفْعُولًا حتما وفي لوح قضائه مقضيا جزما وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الاعتصام بحول الله وقوته عليكم إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً من الكفار فَاثْبُتُوا وتمكنوا تجاه العدو ولا تضطربوا ولا تستدبروا وَبعد استقراركم وثباتكم اذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كَثِيراً واستعينوا منه وتوكلوا عليه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بالنصر والظفر والغلبة والغنيمة ان اخلصتم النية
وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في جميع حالاتكم سيما عند المقابلة والمقاتلة مع العدو وَلا تَنازَعُوا بينكم باختلاف الآراء والأهواء بل فوضوا أموركم كلها الى الله ورسوله وان وقع النزاع والمخالفة بينكم فَتَفْشَلُوا وتضعفوا فيفتر عزمكم وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ اى دولتكم وهيبتكم التي قد ظهرت عليكم من نور الإسلام وَبعد ما سمعتم ما سمعتم اصْبِرُوا على مشاق الجهاد ورابطوا قلوبكم الى الله ورسوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ المرابطين المتمكنين يعين عليهم وينصرهم
وَلا تَكُونُوا ايها المؤمنون القاصدون نحو الجهاد كَالَّذِينَ اى كالكفار الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعنى مكة للقتال بَطَراً مفاخرين مباهين مستظهرين بعددهم وعددهم وَيقصدون بذلك الخروج رِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وَهم بمجرد هذا القصد الفاسد والنية الكاسدة يَصُدُّونَ ويصرفون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموضوع على العدل القويم المسمى بالصراط المستقيم وَاللَّهُ المطلع بجميع أحوالهم بِما يَعْمَلُونَ ويأملون من المخايل الفاسدة مُحِيطٌ بعلمه الحضوري يجازيهم عليها بمقتضى علمه وخبرته
وَمن جملة ما يعين عليكم ويمد لنصركم تغرير الشيطان واغراؤه على أعداءكم امدادا لهم ونصرا فيصير وبالا عليهم وخزيا لا عونا ونصرا اذكروا وقت إِذْ زَيَّنَ اى حسن وحبب لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ اى عداوتهم وقتالهم معكم وَقالَ الشيطان تحريضا لهم على القتال ملقيا في روعهم على سبيل الوسوسة حتى تخيلوا انهم لا يغلبون أصلا اعتمادا على كثرة عددهم وعددهم لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ فلكم اليد والغلبة والاستيلاء والصولة والاستعلاء وَإِنِّي جارٌ مجير لَكُمُ مغيث فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ اى تلاقيا وتلاحقا فرأى اللعين من صفوف الملائكة ما رأى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ ورجع قهقرى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ومن جواركم إِنِّي أَرى من جنود السماء ما لا تَرَوْنَ أنتم ينزلون منها لامداد هؤلاء باذن الله وبالجملة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ من قهره وغضبه وَاللَّهُ القادر المقتدر على وجوه الانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ اليم العذاب لا نجاة للعصاة الغواة من عذابه وعقابه
اذكروا وقت إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى الذين لم يصف عن شوب الشبهة صدورهم ولم يصلوا الى مرتبة الاطمئنان في الايمان حين خرجتم نحو العدو مجترئين مع قلتكم وكثرة عدوكم قد غَرَّ هؤُلاءِ الحمقى دِينُهُمْ فالقوا أنفسهم الى التهلكة بأيديهم بخروج ثلاثمائة عزل بلا عدة الى زهاء ألف مستعدين فلا تبالوا ايها المطمئنون بالإيمان بهم وبقولهم ولا تفتروا ولا تضعفوا من هذياناتهم بل توكلوا على ربكم وفوضوا أموركم كلها اليه وَاعلموا ان مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ مخلصا فهو حسبه فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب في ذاته قادر على اعانة من استعان منه حَكِيمٌ متقن في فعله وامره يفعل ويأمر ما تستبعده العقول وتدهش فيه الأحلام
وَلَوْ تَرى ايها الرائي وقت إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ
ذلِكَ العذاب والنكال في النشأة الاولى والاخرى انما عرض عليكم ايها المسرفون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وبشؤم ما اقترفتم لأنفسكم من الكفر والكفران ومعاداة الرسول وبغض عموم اهل الايمان وبمقدار ما كسبتم بلا ظلم عليكم وعدوان وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى لا يظلم على الذين ظلموا أنفسهم باقتراف المعاصي والآثام بل يجازيهم حسب جرائمهم سواء بسواء عدلا منه سبحانه وكيف لا يجازيهم سبحانه إذ دأب هؤلاء المصرين المعاندين وديدنتهم القبيحة
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ اى سنتهم وعملهم كعمل آل فرعون وسنتهم وَكذا كدأب القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود وهم قد كَفَرُوا اى أولئك البعداء الخارجون عن طريق الحق بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسله عتوا وعنادا كهؤلاء المصرين المستكبرين فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ المنتقم منهم بِذُنُوبِهِمْ التي قد كسبوها بأيديهم لنفوسهم كهؤلاء إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والجلال قَوِيٌّ على الانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ على من خرج عن مقتضى امره بحيث لا يدفع عقابه شيء
ذلِكَ اى حلول الغضب والنكال عليهم بِأَنَّ اللَّهَ المنعم المفضل لَمْ يَكُ مُغَيِّراً مبدلا ومحولا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ تفضلا عليهم وامتنانا حَتَّى يُغَيِّرُوا ويبدلوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من مقتضيات العبودية والانقياد بالخروج عن حدود الله ونقض عهوده وارتكاب نواهيه ومحظوراته وبتكذيب آياته ورسله كما غيرها قريش خذلهم الله وَأَنَّ اللَّهَ المطلع لأحوال عباده سَمِيعٌ لما يقولون على الله وعلى رسوله حين بطرهم وغفلتهم عَلِيمٌ بما يخفون في نفوسهم من الأباطيل إذ دأب هؤلاء المسرفين المغيرين في ما هم عليه من الوفاق والمظاهرة والاخوة والقرابة
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ على ديدنتهم وسنتهم قد كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كهؤلاء المشركين فَأَهْلَكْناهُمْ واستأصلناهم بِذُنُوبِهِمْ وبشؤم كفرهم وعدوانهم بأنواع العذاب بالطوفان والريح والخسف والكسف وغير ذلك من المصيبات اللاحقة إياهم وَلا سيما قد أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ المبالغين المسرفين في العتو والاستكبار في اليم لانهماكهم في بحر الغفلة والضلال وَبالجملة كُلٌّ من أولئك الطغاة وهؤلاء الغواة قد كانُوا ظالِمِينَ أنفسهم بالخرج عن ربقة العبودية ورق الإطاعة والانقياد لذلك جزيناهم بما جزيناهم وهل نجازي بأمثال هذه الاجزئة الا الكفور.
ثم قال سبحانه تسجيلا عليهم بالكفر والضلال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ العليم الحكيم المتقن في إظهارها الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبآياته ورسله وقد أصروا عليه بلا تمايل منهم الى الايمان لرسوخهم فيه فَهُمْ من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم لا يُؤْمِنُونَ اى لا يرجى منهم الايمان أصلا عبر سبحانه عن الكفرة بلفظ الدواب لانخلاعهم عن مقتضى الانسانية الذي هو الايمان والمعرفة مطلقا فلحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها
لذلك قال سبحانه ان شر الدواب وانما صاروا من شر الدواب لأنهم هم الَّذِينَ قد عاهَدْتَ مِنْهُمْ يا أكمل الرسل وأخذت أنت عنهم مواثيقهم الغليظة
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ وتظفرن عليهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ومزق جمعهم وشتت شملهم على الفور بحيث ينقطع عنهم مَنْ يأتى خَلْفَهُمْ من مظاهريهم ومعاونيهم لَعَلَّهُمْ بتشريدك وتفريقك إياهم عنوة وقهرا يَذَّكَّرُونَ يتعظون ويتنبهون من أمرك وشأنك وتأييدك فيؤمنون بك وبما جئت به
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ قد عاهدت معهم وأخذت الميثاق عنهم خِيانَةً ونقضا من امارات ظهرت منهم ولاحت عليهم فَانْبِذْ واطرح إِلَيْهِمْ أولا عهدهم عَلى سَواءٍ بلا غدر وخداع واظهر العداوة وارفع المعاهدة والهدنة على رؤس الملأ ثم اخرج عليهم بالقتال لئلا يؤدى الى الغدر والخيانة إِنَّ اللَّهَ المتصف بالعدل القويم لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ المخادعين الغادرين سيما من المؤمنين الموحدين
وَلا يَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل الكفرة الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبك هم قد سَبَقُوا وانقرضوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ المؤمنين ولا يضطرونهم الى القتال بل يلزمكم جمع العدة والتهيئة
وَأَعِدُّوا ايها المؤمنون لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ اى هيئوا لقتالهم من الآلات والأسباب ما تحتاجون إليها في حربهم سيما آلات الرمي وَمِنْ جملة العدة رِباطِ الْخَيْلِ اى شد الفرس وارتياضه ليوم الحرب كما يشده الرجال الابطال المتشوقون للقتال تُرْهِبُونَ بِهِ اى بالاعداد والشد عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وهم الذين في حواليكم يقاتلونكم ويخاصمون معكم جهرا وعلانية يعنى كفار مكة وَترهبون به ايضا آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يعنى الذين ينافقون معكم ويظهرون إطاعتكم واخاءكم ظاهرا ويريدون مقتكم وهلاككم في بواطنهم وأنتم لا تَعْلَمُونَهُمُ اى عداوتهم لإخفائهم واظهارهم صداقتهم بل اللَّهِ المطلع لضمائرهم يَعْلَمُهُمْ ويعلم عداوتهم ونفاقهم ويجازيهم عليها وَبالجملة ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ للاعداد والتجهيز فِي سَبِيلِ اللَّهِ ونصر دينه وإعلاء كلمة توحيده يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه بأضعاف ما تصرفون له وآلافه وَبالجملة أَنْتُمْ في انفاقكم واعدادكم لا تُظْلَمُونَ ولا تنقصون من عوضه وجزائه ولا تخسرون بل تربحون وتفوزون بما ترضى به نفوسكم وبما لا تدرك عقولكم من الكرامة تفضلا وامتنانا
وَبعد ما اعددتم عددكم وهيأتم اسباب الحرب إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ اى مال الأعداء للمصالحة والمعاهدة فَاجْنَحْ لَها أنت يا أكمل الرسل ومل إليها وارض بها ايها الداعي للخلق الى الخلق تليينا لهم وتلطيفا معهم بمقتضى مرتبة النبوة والتكميل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في عموم أمورك وثق عليه سبحانه ولا تخف من مكرهم وخداعهم فان الله حسبك وظهيرك يحفظك من مكرهم وغدرهم إِنَّهُ سبحانه بذاته هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأعمالهم ونياتهم فيها
وَإِنْ يُرِيدُوا بعد ما صالحوا وعاهدوا أَنْ يَخْدَعُوكَ ويمكروا بك وباصحابك فلا تبالوا أنتم بهم وبغدرهم وخداعهم فَإِنَّ حَسْبَكَ اى كافيك وظهيرك ومتولى جميع أمورك اللَّهُ المراقب عليك في عموم حالاتك كيف لا يرقبك من مكرهم مع انه هُوَ الَّذِي قد أَيَّدَكَ وقواك وأظفرك على عموم من عاداك بِنَصْرِهِ بلا اعداد منك ورباط وَبعد تأييدك قد عززك ايضا بِالْمُؤْمِنِينَ بك بايمانهم واطاعتهم لك وبذل مالهم ومهجهم لتقويتك وإعلاء دينك
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بحيث قد ارتفعت غشاوة الحمية وغطاء التعصب عن ضمائرهم مطلقا وصاروا في محبتك ومودتك مستوية الاقدام متحابين لله في الله منخلعين عن لوازم البشرية مطلقا مع كونهم في جاهليتهم مصرين على التغالب والتهالك حسب الحمية الجاهلية والغيرة البشرية بحيث لَوْ أَنْفَقْتَ وصرفت ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف جَمِيعاً لائتلافهم واجتماعهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لشدة بغضهم ونفاقهم وَلكِنَّ اللَّهَ المحول لأحوال عباده قد أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بمقتضى لطفه وجماله لينصروك ويقبلوا دينك كي يصلوا الى مرتبة اليقين والعرفان ويتحققوا في مقر التوحيد والايمان إِنَّهُ عَزِيزٌ غالب على عموم مراداته ومقدوراته حَكِيمٌ متقن في جميع أفعاله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من عند الله بالنصر والظفر على الأعداء حَسْبُكَ اللَّهُ المتولى لأمورك وَايضا حسب مَنِ اتَّبَعَكَ بارادة الله تعالى ومشيته مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله الموفين بعهوده الباذلين مهجهم في سبيله
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المظفر المنصور بنصر الله حَرِّضِ ورغب الْمُؤْمِنِينَ الموحدين عَلَى الْقِتالِ في سبيل الله لترويج توحيده وقل لهم نيابة عنا ووعدا منا إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ايها المؤمنون عِشْرُونَ صابِرُونَ مستقرون ثابتون تجاه العدو يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ منهم بتأييد منا وعون من لدنا وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة راسخة متمكنة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بامدادنا إياكم الى حيث يقاوم واحد منكم عشرة منهم وبالجملة تلك المغلوبية والانهزام انما عرض عليهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ اى لا يصلون الى مرتبة اليقين العلمي بالله وكتبه ورسله حتى يترقوا منه الى مرتبة العين بل يبقون على المرتبة الحيوانية مهانين مغلوبين مخذولين هذا في بدأ الإسلام وضعف المسلمين وبعد ما ارتفع قدره وعلا رتبته وكثر اهله وانتشر في الآفاق هيبته
قال سبحانه الْآنَ اى حين كثر عددكم وعددكم ايها المؤمنون وثقل عليكم ما أمرتم فيما مضى قد خَفَّفَ اللَّهُ الميسر لأموركم أثقالكم عَنْكُمْ وَعَلِمَ بعلمه الحضوري أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً تستثقلون بتحمل المأمور به وأمركم ثانيا بقوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ ثابتة يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ منهم وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ونصره وتأييده وَاللَّهُ المراقب لأحوال عباده مَعَ الصَّابِرِينَ المتحملين في متاعب امور الدين.
ثم أشار سبحانه الى سر جواز أخذ الفدية والجزية للرسل والأنبياء ووقته وسببه فقال ما كانَ اى ما صح وما جاز لِنَبِيٍّ من الأنبياء أَنْ يَكُونَ لَهُ وفي يده أَسْرى من الكفار ان يفديهم على المال ويخلى سبيلهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ اى لا يجوز لهم أخذ الفدية الا ان يكثر القتل ويذل الكفار ويعز الدين ويغلب اهله الى حيث اضطر المخالفون لتخليص نفوسهم الى الفدية مع انه لا يتوقع منهم المنازعة والمخاصمة أصلا وصاروا مهانين مقهورين ومتى لم يصلوا الى هذه المرتبة لم يصح أخذ الفدية وإذا كان حكم الفدية هكذا كيف تُرِيدُونَ ايها المؤمنون بأخذها عَرَضَ الدُّنْيا ومتاعها وحطامها مداهنين في الأخذ وَاللَّهُ المصلح لأحوالكم المدبر لأموركم يُرِيدُ لكم الْآخِرَةَ وثوابها وما يترتب عليها من اللذات الروحانية وأنتم تقصدون ان تستلذوا بها من حطام الدنيا ومزخرفاتها مداهنة وَاللَّهُ المراقب لحالاتكم عَزِيزٌ غالب فيما أراد لاجلكم حَكِيمٌ يريد لكم ما يليق بحالكم
وبالجملة لَوْلا كِتابٌ حكم وامر ثابت نازل مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور قد سَبَقَ في سابق علمه بان لا يؤاخذ المجتهد المخطئ بخطئه لَمَسَّكُمْ قد
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ بعد إخراج الخمس وافتديتم من الأسرى إذ هو من جملة الغنيمة حَلالًا مستحلين مستبيحين طَيِّباً خاليا عن وصمة الشبهة لاجتهادكم وجهادكم في أخذها وَاتَّقُوا اللَّهَ عن المبادرة في الأمور واحتاطوا فيها إِنَّ اللَّهَ المدبر لأموركم غَفُورٌ لما صدر عنكم من المبادرة الى الفدية رَحِيمٌ قد أباح لكم ما أخذتم
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث لتكميل الخلائق قُلْ على سبيل العظة والتذكير بمقتضى شفقة النبوة والإرشاد لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ المطلع لضمائركم واستعداداتكم فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ايمانا وإيقانا اطمينانا وعرفانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من حطام الدنيا الا وهي اللذات الروحانية والمكاشفات والمشاهدات الحقيقية والحقية التي لا مقدار للذات الجسمانية دونها وَيَغْفِرْ لَكُمْ عموم ما صدر عنكم من الكفر والعصيان وَاللَّهُ الهادي لعباده نحو توحيده غَفُورٌ لذنوبهم بعد ما وفقهم على الايمان والإطاعة رَحِيمٌ يرحمهم بعد ما رجعوا نحوه وأنابوا اليه روى انها نزلت في العباس رضى الله عنه كلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان يفدى نفسه وابني أخويه عقيل بن ابى طالب ونوفل بن الحارث فقال يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال صلّى الله عليه وسلّم فأين الذهب الذي دفعته الى أم الفضل وقت خروجك فقلت لها انى لا ادرى ما يصيبني في وجهى هذا فان حدث لي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم وقال العباس وما يدريك قال صلّى الله عليه وسلّم أخبرني ربي قال اشهد انك صادق وان لا اله الا الله وانك رسول الله والله لم يطلع عليه احد الا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل فقال العباس فابدلنى الله خيرا من ذلك الى الآن عشرون عبدا أدناهم ليضرب عشرين الفا وأعطاني زمزم وما أحب ان لي بها اى بمقابلتها جميع اموال اهل مكة وانا انتظر المغفرة من ربكم يعنى الموعود بقوله ويغفر لكم والله غفور رحيم
وَإِنْ يُرِيدُوا أولئك الأسارى خِيانَتَكَ يا أكمل الرسل بعد ما عاهدت معهم وتلطفت بهم فلا تتعجب من خيانتهم ونقضهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ بالكفر والشرك في نقض العهد والخروج عن مقتضى المأمور مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ اى أمكنك ومكنك أولا عليهم حتى انتقمت مِنْهُمْ يوم بدر بالقتل والاسرفان
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الله تعالى ووجوب وجوده وَهاجَرُوا عن بقعة الإمكان طالبين الترقي الى المراتب العلية الوجوبية وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ منفقين لها ليتجردوا عنها ويطهروا نفوسهم عن الميل والمحبة إليها وَأَنْفُسِهِمْ ممسكين لها عن مقتضياتها ومشتهياتها باذلين بها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليتحققوا بمرتبة الفناء فيه وليفوزوا ببقائه الأزلي الأبدي وَهم المهاجرون الَّذِينَ تحققوا بمرتبة التوحيد وتمكنوا فيها بحيث قد آوَوْا اى مكنوا ووطنوا يقينا من يرجع إليهم ويسترشد منهم من اهل الطلب والارادة وَبعد تمكينهم وتوطينهم نَصَرُوا وأعانوا عليهم بالتنبيهات اللائقة امدادا لهم بالواردات الغيبية والإلهامات القلبية والمكاشفات العينية أُولئِكَ
السعداء المقبولون عند الله الوالهون في بيداء ألوهيته بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يتناصرون ويتعاونون الى ان يرتفع تعددهم وتضمحل كثرتهم وسقط الافتراق والاجتماع عنهم وانقطع السلوك والطلب منهم وفنى السالك والسلوك والمسلك وبقي ما بقي لا اله الا هو ولا شيء سواه وكل شيء هالك الا وجهه وَالأبرار الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسله وَلَمْ يُهاجِرُوا نحو الفناء فيه ما لَكُمْ ايها الوالهون الواصلون مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ويتشمروا لسلوك مسلك الفناء وَبعد ما دخلوا باب الطلب إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ واستعانوا منكم فِي الدِّينِ اى في سلوك طريق التفويض والانقياد والمعرفة واليقين فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ اى لزم عليكم ان تنصروهم وتعينوا عليهم ليغلبوا على جنود القوى البهيمية والشياطين الشهوية والغضبية إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ من جنود النفوس اللوامة المعطلة لغوائل الامارة الخبيثة ووخامة عاقبتها وَاللَّهُ المطلع لجميع حالاتكم بِما تَعْمَلُونَ من النصر والإعانة بَصِيرٌ يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله ولم يتفطنوا لسر سريان وحدته الذاتية السارية في جميع الأكوان ولم ينبهوا للفناء في ذاته ومع ذلك قد كذبوا الرسل المنبهين المبشرين المنذرين لهم إصلاحا وارشاد أولئك الأشقياء المردودون عن ساحة القرب بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يتعاونون ويتعاضدون في كفرهم وجهلهم مع إخوانهم بلا ولاية وودادة بينكم وبينهم إِلَّا تَفْعَلُوهُ يعنى ان لم تفعلوا ايها المؤمنون ما أمرتم به من موالاة الأولياء ونصرهم ومعاداة الأعداء والاعراض عنهم بل توالون أنتم مع الأعداء مثل موالاتكم مع الأولياء تَكُنْ فِتْنَةٌ وتحصل حينئذ بلية بينة ومصيبة عظيمة سار أثرها فِي اقطار الْأَرْضِ وَيحدث فيها بسببها فَسادٌ كَبِيرٌ الا وهو ضعف الايمان وقلة أوليائه وقوة الكفر وكثرة اودائه إذ أنتم حينئذ تحبون الكفرة وكفرهم وهم في أنفسهم يبغضونكم وايمانكم ولا فساد اكبر منه
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا اى سلكوا وسافروا عن بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب بعد ما تحققوا باليقين العلمي وَجاهَدُوا وارتاضوا بحيث تحققوا بالموت الإرادي وانخلعوا عن جلباب التعين فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الفناء فيه ليتحققوا باليقين العيني وَالَّذِينَ آوَوْا ووالوا اولياء الله اهل الارادة وَنَصَرُوا ارباب الطلب أُولئِكَ الواصلون المبرورون هُمُ الْمُؤْمِنُونَ المتحققون الثابتون المثبتون في مرتبة اليقين الحقي حَقًّا ثابتا لائقا بلا دغدغة استكمال ووسوسة انتظار متقررين في مقر التوحيد ومقعد الصدق عند مليك مقتدر
ثم بشر سبحانه بما بشر به من اقتفى اثركم ايها المكاشفون الواصلون وسلك سبيلكم من اصحاب الارادة والطلب فقال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا مثل ما هاجرتم أنتم ايها الفانون الواصلون وَجاهَدُوا مَعَكُمْ في سبيل الله وترويج دينه وسنته بأنفسهم وأموالهم كما جاهدتم أنتم فَأُولئِكَ المجاهدون الباذلون مِنْكُمْ اى من جملتكم وعدادكم وأجرهم عند الله مثل اجركم وهم إخوانكم وأرحامكم في الدين وَأُولُوا الْأَرْحامِ وذووا المناسبات والقربات في سبيل الدين وطريق العرفان واليقين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الولاية والنصر والمصاحبة والمواخات فِي كِتابِ اللَّهِ تعالى اى في حضرة علمه ولوح قضائه إِنَّ اللَّهَ المتجلى على ذرائر الآفاق بِكُلِّ شَيْءٍ من رقائق المناسبات ودقائقها عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعرب عن حضوره شيء
خاتمة سورة الأنفال
عليك ايها المتوجه نحو الفناء المهاجر عن ورطة الغفلة والغرور ان تقتفى في سلوكك هذا اثر اهل الهجرة والنصرة المرابطين قلوبهم لتوحيد الحق الباذلين مهجهم في تقوية من ظهر عليه صلّى الله عليه وسلّم وترويج دينه وسنته المتخلقين بأخلاقه المتعطشين بزلال مشربه المستظلين بظل لوائه المستمسكين بعروة ولائه ولا يحصل لك هذا الا بالركون الكامل والاعراض التام عن مقتضيات القوى البشرية ولوازم الطبيعة مطلقا كهؤلاء الكرام المنخلعين عن جميع ما يعوقهم ويشوشهم من لوازم هوياتهم حتى عن الأهل والأوطان لذلك قد انكشف لهم من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات ما انكشف بحيث اضمحلت عن عيون بصائرهم ما سوى الحق مطلقا وصاروا فانين في الله متحققين بمقام وبي يبصر وبي يسمع الحديث وعليك في عزيمتك هذه التشبث بكتاب الله الذي هو المرشد الحقيقي وبأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبكلمات المشايخ العظام قدس الله أرواحهم ولا سيما لك ان تستمد في مطلبك هذا من قلوب البدلاء الوالهين الحائرين بمطالعة وجه الله الكريم إذ هم لاستغراقهم في بحر الشهود قد انخلعوا عن لوازم هوياتهم مطلقا وبالجملة ما لنا من حالاتهم الا الحسرة والعبرة ان كنا من ذوى الاعتبار والاستبصار ربنا اهدنا إليك باى طريق شئت انك بفضلك وجودك تهدى من تشاء من عبادك الى فضاء وحدتك وانك على عموم ما تشاء قدير بلطفك يا كريم
[سورة البراءة]
فاتحة سورة البراءة
لا يخفى على من تمكن في مقر التوحيد وتوطن في مكمن الفناء والتجريد خالصا عن توهمات التخمين والتقليد مستويا على جادة اليقين والتحقيق معرضا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط ان من لم يترق عن المرتبة الحيوانية ولم تثمر شجرة هويته الثمرة الانسانية التي هي المعرفة والتوحيد فهو والحيوانات العجم سواء في الرتبة بل هو أسوأ حالا منها ومتى لم يطع حكم المربى ولم ينفذ لأمره لينقذه من جهله ويوصله الى ما خلق لأجله سيما إذا تعنت وتجبر واستكبر على من بعث لتربيته وامر لإرشاده وتكميله بل كذبه وأنكر عليه وطغى على امره سبحانه بل أشرك به غيره