قوله جلَّ وعزَّ (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
سُئل أبَيُّ بنَّ كعب: ما بال براءَة لم تفتتح بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فقال: لأنها نزلت في آخر ما نزل من القرآن، وكان رسول الله - ﷺ - يأمر في أول كل سورة بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
ولم يأمر في سورة براءَة بذلك فَضُمَّتْ إلى سورة الأنفال لشبهها بها.
يعني أن أمْرَ العهودِ مذكور في سورة الأنفال وهذه نزلت بنقض العهود
فكانت ملتبسة بالأنفال في الشبه.
قال أبو إِسحاق: أخبرنا بعض أصحابنا عن صاحبنا أبي العباس محمد
ابن يزيد المبرد أنَّه قال: لم تفتتح ب " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، لأن " بسم اللَّه " افتتاح للخير. وأول " براءَة " وَعيدٌ ونقض عُهود، فلذلك لم تفتتح بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
و (براءَة) نزلت في سنة تسع من الهجرة، وافتتحت مكة في سَنَةِ ثمان.
وَوَلَّى رسولً الله - ﷺ - عَتَابَ بنَ أسَيدٍ للوقوف بالناس في الموسم فاجتمع في
في سنة تسع وَلى رَسُولُ الله - ﷺ - أبا بكر الصديق الوقوفَ بالناس وأمر بتلاوة براءَة، وولى تلاوتها عَلياً وقال في ذلك: لن يُبَلِّغَ عني إِلا رجُل مني، وذلك لأن العربَ جَرت عادتها في عقد عقودها ونقضها أن يتولى ذلك على القبيلة رَجلٌ منها، فكان جائزاً أن يقول العربُ إِذا تلى عليها نقض. العهد من الرسول:
هذا خِلاف ما نعرف فينا في نقض العهود، فأزاح رسول اللَّهِ - ﷺ - هذه العِلَّةَ، فَتًليَتْ براءَة في الموقف:
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
أي قدْ بَرِئ من إِعطائهم العهودَ والوفاءَ لهم، ذلك أن نكثوا.
(بَرَاءَةٌ) مرتفعة على وجهين أحدهما على خبر الابتداء، على معنى هذه
الآيات براءَة من الله ورسوله، وعلى الابتداء، يكون الخبر (إِلى الذين
عاهدتم) لأَن براءَة موصولة بِـ مِنْ، وصار كقولك: القصد إِلى زيد، والتبرؤُ إِليك، وكلاهما جائز حسن، يقالي بَرئْتُ في الرجلِ والدين براءَةً،. وبرِئْتُ من المرَضِ وبَرَات أيضاً بُرْءَاً، وقد روَوْا برات ابرُؤَ بُرُوءاً، ولم نجد فيما لامه همزة فعَلْت أفعُل، نحو قرأت أقرا، وهنأت البعير أهنؤُه.
وُيقال برَيْت القَلمَ - وكل شَيءٍ نَحَتُه - أبْرِيه بَرْيَا، غير مهموز، وكذلك
بَرَاةُ السيْرُ غير مهموز، والبُرَةُ حَلَقَة من حَدِيد في أنف الناقة، فإِذا كانت من شعر فهي خِزَامَةُ.
والذي في انف البعير من خَشب يقال له الخِشَاش، يقال أبريت الناقة
أبْرِيها براءَ إِذا جَعَلْت لها بُرَةً.
ولا يقال إِلا بالألف أبْريْتُ، ومن الخزامة خَزَمْتُ - بغير ألف - وكذلك
من الخِشاش خَشَشْتُ، والبُرَةُ الخلخال من هذا، وتجمع البرةُ بُرين والبُريَ.
* * *
وقوله: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢)
أي اذهبوا؛ وأقبلوا وَأدبِرُوا أربعةَ أشْهُرٍ.
(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ).
أي وإِن أجَّلْتُم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا اللَّه
(وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ).
الأجْوَدُ فتح (أَنَّ) علَى معنى اعلموا أن الله مخزي الكافرين، ويجوز
كَسْرها على معنى الاستئناف، وهذا ضمان من الله عزَّ وجلَّ بنَصْرِهِ المؤْمنين
على الكافرين.
* * *
(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣)
عطف على (بَرَاءَة) ومعناه: وإعلان من الله ورسوله، يقال آذنته بالشيء
إِذا أعلمته به.
(إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
قيل يَومُ الحج الأكبر هو يوم عرفة، والحج الأكبر الوُقوف بعرفة.
وقيل الحج الأصغر العمرة.
وقال بعضهم إِنما سُمي يومَ الحج الأكبر لأنه اتفقت فيه أعياد أهل المِلَّةِ، كان اتفق في ذلك اليوم عيدُ النصارى واليهودِ والمجوسِ وهذا لا يُسمى بهِ يومُ الحج الأكبر، لأنه أعيادُ غير المسلمين، إِنما فيها تعظم كفر باللَّه، فليست من الحج الأكبر في شيءِ.
إجماع المسلمين على أن الوقوف بعرفة أكْبَرُ الحجِّ.
* * *
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
" الذين " في موضع نصب، أي وقعت البراءَة من المعاهدين الناقضين
للعهود.
(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ).
أي ليسوا داخلين في البراءَة ما لم ينقضوا العهود.
* * *
وقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
أي اقتلوا هؤلاءَ الذين نقضوا العهدَ، وَنُقِضَ عَهْدُهُمْ وَأحِلوا هذه المدةَ.
ويقال إِن الأربَعةَ الأشْهرِ كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر
وربيعاً الأول، وعشرا من ربيع الآخر، لأن البراءَة وقعت في يوم عرفة، فكان هذا الوقت ابتداءَ الأجل.
(وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
قال أبو عبَيْدَة: المعنى كل طريقٍ.
قال أبو الحسن الأخْفَش " على " محذوفة.
المعنى اقعدوا لهم على كل مَرْصد
وأنشد:
نُغالي اللَّحمَ للأَضْيافِ نِيئاً... ونُرْخِصُهُ إِذا نَضِجَ القَديرُ
قال أبو إسحاق: كل مَرصَد ظرف، كقولك ذهبت مَذْهَباً.
وذهبت طريقاً، وذهبت كل طريق. فلست تحتاج أن تقول في هذا إلا
ما تقوله في الظروف مثل خلف وأمام وقدام.
وقوله: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ).
أي إِن تابوا وآمنوا فهم مثلكم، قد درأ عَنْهم إِيمانهم وَتَوْبَتهمْ إثمَ كفرهم
ونكثهِم العهودَ.
* * *
وقوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)
المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيرَه منَ القَتْل إلى أن يسمع كلام
اللَّه (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ).
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).
أي الأمر ذلك، أي وجب أن يعرفوا وأن يُجَازوا بجَهْلِهمْ وبِمَا يَتَبينُونَ
الإسلام.
وأما الإِعراب في أحَد معِ " إِنْ " فالرفع بفِعل مُضْمر الذي ظهر يفسرُه.
المعنى وإن استجارك أحد.
ومن زعم أنه يرفع أحَداً بالابتداءِ فخطأ.
لأن الجزاءَ لا يتخطى ما يرفع بالابتداء ويعمل فيما بعده.
زَيُدٌ يَقُمْ. لا يجوز أن ترفع زيْداً بفعل مضمر الذي ظهر يفسِّرُه ويَجزم.
وإِنما جاز في " إن، لأن " إن، يلزمها الفِعْلُ.
وجواب الجزاءِ يكون بالفِعْل وغيره.
ولا يجوز أن تُضْمِرَ وتجزم بعد المبتدأ.
لأنك تقول ههنا إن تأتني فزيد يقوم، فالموضع موضع ابتداءٍ.
وإنما يجوز الفصل في باب " إنْ " لأن " إِنْ " أمُّ الجزاءِ، ولا تزول عنه
إلى غيره، فأما أخَواتُها فلا يجوز ذلك فيها إلا في الشِعر.
قال عدي بن زيد.
فمتى واغل يزرهم يُحيوه... وتُعطَفْ عليه كأسُ السَّاقي
* * *
وقوله: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
أي ليس العهد إلا لهُؤلاءِ الذين لم ينكثوا.
فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).
أي ما أقاموا على الوفاءِ بعَهْدهِمْ، وموضع " الذين " نصب بالاستثناءِ.
وحذف مع كيف جملة " يكون لهم عهد " لأنه قد ذكر قبل ذلك.
قال الشاعر يرثي أخاً له مات:
وخَبرتُمانِي أنما الموت بالقُرَى... فكيف وهاتا هَضبة وقليب
أي فكيف مات وليس بقرية. ومثله قول الحطيئة:
وكيف ولم أعْلمْهمُوخَذَلُوكُمُو... عَلَى مُعْظَم ولَا أدِيمَكُمُو قَدُّوا
أي فكيف تَلومونني على مدح قوم، وتَذُمونَهُمْ، واستغنى عن ذكر
" ذَلِك " مع ذكر كيف، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدل على ما أضْمِرَ.
قال أبو عبيدة الإل: العهدُ، والذِّمَّة ما يتذَمم منه، وقال غيره: الذمة.
العهد، وقيل في الإل غير قول.
قيل: الإل: القرابة، وقيل: الِإل: الحلف، وقيل: الِإل: العهْدُ، وقيل
الإل اسم من أَسماءِ اللَّه، وهذا عندنا ليس بالوجه لأن أسماءَ اللَّه جلَّ وعز
معروفة معلومة كما سمعَت في القرآن وتُلِيَتْ في الأخبار قال الله جلَّ وعزَّ:
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا).
فالداعي يقول: يا اللَّه، يا رحمن، يا ربُّ، يا مْؤمِن، يَا مهيَمن.
وحقيقة " الإلّ " عندي على ما تُوحيه اللغة تحديد الشيءِ فمن ذلك:
الإلَّةُ: الحربة، لأنَّها محدَّدَة، ومن ذلك: إذُن مُؤلَّلة، إذا كانت محدَّدَة.
والأل يُخرَجُ في جميع ما فُسِرَ من العهْدِ والجوار على هذا، وكذلك
القرابَة، فإِذا قلت في العهد بَيْنَهُما إِلٌّ فمعناه جواز يحاد الإنسان، وإذا قُلْتَهُ في القرابة فتأوِيله القرابَة الدانِية التي تحادُّ الإنسانَ.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
أي رؤساءَ الكافرين، وقادتهم، لأن الِإمام متبَع.
وهذه الآية توجب قَتلَ الذِميِّ إذا أظْهَرَ الطعنَ في الإسلام لأن العهد
معقود عليه بألَّا يطعَنَ، فإِذا طعنَ فقد نكث.
وقوله: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) فيها عند النحويين لُغة واحدة: أيمة بهمزة وياء
والقرَاءُ يقرَأون (أَئِمَّةَ) بهمزتين، وأيمة بهمزة وياء فأما النحويون فلا يجيزون
اجتماع الهمزتين ههنا، لأنهما لا يجتمعان في كلمة، ومن قرأ أئمة -
بهمزتين - فينبغي أن يقرأ يا بني أأدم، والاجتماع أن آدم فيه همزة واحدة.
فالاختلاف راجع إلى الإِجماع، إلا أن النحويين يستصعِبون هذه المسألة.
ولهم فيها غير قول:
يقولون إِذا فضلنا رجلاً في الإمَامة: هذا أوَمُّ من هذا ويقول بعضهم أيُمَّ
من هذا، فالأصل في اللغة أأْمِمَةٌ لأنه جمع إِمامٍ، مثل مِثَال وأمْثلَةٍ، ولكن
فصار أئِمة، فأبدل النحويون من الهمزة الياء.
ومن قال: هذا أيَمَّ من هذا جعل هذه الهمزة كلما تحركت أبْدَلَ مِنها
قال أبو إسحاق: والذي قال: (هَذا أوَمُّ مِن هذا) كانت عنده أصلها أَأَم.
فلم يمكِنْه أن يُبدِلَ منها ألِفاً لاجتماع السَّاكنين، فجعلها واواً مفتُوحة، لأنه
قال: إذا جمعت آدمَ قُلتَ أوادِمَ.
وهذا هو القياس الذي جعلها ياءً.
قال: قد صارت الياءُ في أئمة بدَلاً لازماً.
وهذا مذهب الأخفشِ، والأول مذهب المازني.
قال أبو إسحاق وأظنه أقْيَسَ الوَجْهَين، أعني: هذا أوَمُّ مِنْ هَذَا، فأما
أئِمة باجتماع الهمزتين، فليس من مذاهب أصحابنا، إلا ما يحكى عن ابن
إسحاق فإنه كان يحب اجتماعهما وليس ذلك عندي جائزاً، لأن هذا الحرف
في أئمة قد وقع فيه التضعيف والإدغام، فلما أدغم وقعت علة في الحرف.
وطرحت حركته على الهمزة فكان تركها دليلاً على أنها همزة قد وقع عليها
حركة ما بعدها، وعلى هذا القياسِ يجوز: هذا أأمُّ مِنْ هذا والذي بدأنا به هو الاختيار من أن لا تجتمع همزتان.
* * *
وقوله: (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ).
وتقرأ (لا إِيمان لَهُمْ) فمن قرأ: (لا أيمَان لهمْ) بالفتح فقد وصفهم بالنكث
في العهد، وهو أجودُ القراءَتين، ومن قرأ " لا إيمَانَ لهم " فقد وصفهم بالردةِ، أي لا إِسْلامَ لَهم، ويجوز أن يكون نَفَى عنهم الإيمان لأنهم لم يُؤمنوا، كما
تقول: لا عِلْمَ لِفُلانٍ.
عَهدكُم، فقد بطل الأمان الذي أعطيتموهم، أي لا إيمانَ لَهُمْ: على
" آمنتُ إيماناً على المصدر ".
(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).
أي لِيُرْجَى منهم الانتهاء والنكث: النقض في كل شي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
هذا على وجه التوبيخ، ومعناه الحضُّ على قتالهم، وقيل في قوله:
(وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
أنهم كانوا قاتلوا حُلفاء الرسول اللَّه - ﷺ -.
وقوله: (أتَخْشَوْنَهُمْ).
معناه أتَخْشَونَ أنْ يَنَالَكُمْ مِنْ قِتَالِهم مَكْرُوهٌ.
(فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ).
أي فمكرُوهُ عَذابِ اللَّهِ أحق أن يُخْشَى.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أيْ مصدقِينَ بعقاب اللَّه وثوابه.
* * *
وقوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)
(وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ).
فيه دليل أنه اشتد غضبهم للَّهِ عزَّ وجلَّ، فوعد اللَّه في هذه الآية النصْرَ.
وفيها دليل على تثبيت النُبُوة، لأنه قال عزَّ وجلَّ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ).
فوعدهم اللَّه النصْرَ وَوَفَّى به، ودل على صدق ما أتى به النبي - ﷺ -.
وقوله تعالى: (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
ليس بجواب لقوله: (قَاتِلُوهُمْ) ولكنه مستأنف، لأن (يتوب) ليس من
جنس ما يُجاب به (قاتلوهم).
* * *
وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦)
الله جلَّ وعزَّ قد علم قَبْلَ أمْرهم بالقِتَالِ من يُقَاتلُ مِمنْ لَا يُقَاتِلُ ولكنه
كان يعلم ذلك غيباً، فأرادَ العلمَ الذي يُجازي عَلَيْهِ لأنه جلَّ وعزَّ إنما يجازي
على ما عملوا.
وسورة " براءَة " كانت تُسَمَّى الْحافِرةَ، لأنها حَفَرت عن قلوبِ المنافقين.
وذلك أنه لما فُرِضَ القِتالُ تبين المنافقُ من غيره، ومن يُوالي المؤمِنين مِمن
يوالي أعداءَهم فقال جلَّ وعزَّ:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً).
والوَليجة: البِطَانَةُ، وهي مأخوذة مِنْ وَلَجَ الشيء يلِجُ إِذا دَخَلَ.
أي ولم يَتَخِذوا بينهم وبينَ الكافرين دَخيلَةَ مَوَدةٍ.
* * *
وقوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧)
(شَاهِدِينَ) حال. المعنى ما كانت لهم عمارةُ المسجد الحرام في حال
إِقرارهم بالكفر.
(أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).
أي كُفْرُهُمْ قد أذهبَ ثوابَْ أعمالهم.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
بتحديدها الرسول.
(وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ).
تأويله لم يخف في باب الدين إلا اللَّه.
(فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
عسى واجبة من اللَّه.
* * *
وقوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
المعنى أجعلتم أهل سِقَايَةَ الحَاجِّ وأهَلَ عِمَارَةِ المَسْجِدِ الحرامِ كمن
آمن باللَّه واليوم الآخِر وجَاهَد.
واختلف الناس في تفسير هذه الآية:
فقيل: إنه سأل المشركون إليهودَ فقالوا نحن سُقَاةُ الحَاجِّ وَعُمَّارُ المسجد
الحَرامِ. أفَنَحْنُ أفْضَلُ أم محمد وأصحابه؟
فقالت لهم إليهود عناداً للنبي - ﷺ -: أنتم أفضل.
وقيل إنه تفاخر المسلمون المجاهدون والذين لم يهاجروا ولم يجاهدوا.
فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن المجاهدينَ والمهاجرين أعظمُ دَرَجَةً عند اللَّه، فقال:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)
(درجةً) منصوب على التمييز، المعنى أعظمُ من غَيْرهمْ درَجَة.
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
* * *
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
أي يُعْلِمْهم في الدنيا ما لهم في الآخرة.
وقوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
أي وفي حنين، أي ونصركم في يوم حنين، وحنين: اسمُ وَادٍ بين مكة
والطائفِ.
وقوله: (فِي مَوَاطِنَ كَثيرةٍ) أي في أمكنةٍ، كقولك في مقامَاب.
تقول استوطن فلان بالمكان إذا أقام فيه.
وزعم بعضُ النحويينَ أن (مواطن) لم ينصرف ههنا لأنه جَمْع.
وأنها لا تُجْمَعُ.
قال أبو إِسحاق: وإنما لم تُجْمَعْ لأنها لا تدخل عليها الألف والتاءُ، لا
نقول مَوَاطِنات، ولا حَدَائدات إلا في شعْر، وإِنما سمعَ قَوْلَ الخليل أنه
جمع لا يكون عنى مثال الواحد، وتأويله عند الخليل أن الجموع أبَداً تَتَنَاهى
إِليه فليس بعده جمع، لو كسرت أي جمعت على التكسير أقوال، فقلت
أقاوِيل لم يتهيأ لك أن تكَسر أقاوِيل، ولكنك قد تقول أقاويلات.
قال الشاعر:
فَهُنَّ يَعْلَكِنَّ حَدائداتها
الواحدِ ومعنى ليس على مثال الواحد، أي ليس في ألفاظ الواحد ما جاءَ على
لفظه وأنه لا يجمع كما يحمع الواحد جمعَ تكْسِيرٍ.
ومعنى الآية أن اللَّه جلَّ وعزَّ أعْلَمهم أنَّه ليس بكثرتهم يَغْلِبُون وأنهم
إنما يغلبون بنصر اللَّه إياهم فقال جلَّ وعزَّْ:
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا).
يروى أنهم كانوا اثنى عشر ألفاً في ذلك اليوم، وقال بعضهم: كانوا
عَشَرة آلاف فأعجبوا بكثرتهم، فجعل الله عقوبتهم على إعجابهم بالكثرة -
وَقَوْلهم: " لن نغْلَب اليومَ مِنْ قلَّةٍ بأن رَعَّبهم حتى وَلَّوْا مُدْبِرِين، فلم
يبق مع رَسُول اللَّه - ﷺ - إلا العَبَاسُ بنُ عبدِ المطلِب وأبو سُفيانَ بن حَرْبٍ، ثم أنْزَلَ اللَّه عليهم السكينة حتى عادوا وَظَفِرُوا فأراهم اللَّه في ذلك اليوم من آياتِه ما زادهم تَبْييناً بنُبُوة النبيِ - ﷺ -.
وقوله: (إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ).
وقرئت مَسْجِدَ اللَّه، فمن قرأ (مَسجِدَ اللَّهٍِ) عَنَى به المسجدَ الحرامَ
ودَخَل معه غيْرُه، كما تقول: ما أسْهَلَ عَلَى فُلانٍ إنْفاقَ الدِّرْهَم والدينَارِ، أيْ هَذَا الجنس سَهْل عَليْه إِنفَاقُه.
ويجوز أن يكون مساجد الله يعني به المسجد الحرام، كما تقول إِذا
التي تُعَبِّرُ عَنِ الأجْنَاسَ.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
يقال لكل مُسْتَقْذرٍ نَجَس، فإِذا ذكرتَ الرجسَ قلتَ: هو رِجْس نَجِسٌ.
وهذا وقع في سنةِ تسع من الهجرةِ، أمِرَ المسلمون بمنع المشركين من
الحج وَبِقتْلِهِمْ حيثُ ثقِفُوهُمْ.
(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ).
كان لأهل مكة مكسبة، ورفق ممن كان يحج من المشركين.
فأعْلَمَهُمُ اللَّه أنه يعوضهم من ذلك.
والعيلة: الفقر.
قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناهُ... وما يدري الغني متى يعيلُ
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)
معناه: الذين لا يؤمنون باللَّه إِيمانَ الموحّدِين، لأنهم أقروا بأن اللَّه
خالِقُهم، وأنه له ولدٌ.
وأشرك المشركون معه الأصنام، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن
هذا غيرُ إيمانٍ باللَّه، وأن إيمانهم بالبعث ليس على جهة إِيماننا لأنهم لا
يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربُون وليس يقرون باليوم الآخر كما أعلم اللَّه جلَّ وعزَّْ وليس يدينون بدين الحق، فأمر الله بقتل الكافرين كافةً إِلا أن يُعْطُوا الجِزيَةَ عَنْ يَدٍ، وَفُرِض قَبُولُ الجِزْيَةِ من أهلِ الكتابِ وهم النَّصَارى واليهود.
فأمَّا عَبَدَةُ الأوثان من العرب فليس فيهم إِلا القتْلُ.
وكذلك مِنْ غَيْرِهِمْ.
وقوله: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
قيل معنى (عَنْ يَدٍ) عَنْ ذلٍّ، وقيل عن يَدٍ عن قهر وذُلٍّ، كما تقول اليد
في هذا لِفلان. أي الأمر النافذ. لفُلانٍ.
وقيل (عَنْ يَدٍ) أي عن إنْعَامٍ عليهم بذلك، لأن قبول الجزية منهم وتركَ
أنْفسِهِم نعمة عليهم، ويد من المعروف جزيلة.
* * *
وقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)
قرئتْ (عُزَيْرٌ) بالتنوين وبغير تنوين، والوجه إِثبات التنوين لأن " ابْناً " خبَر.
وإِنما يحذف التنوين في الصفةِ نحو قولك: جاءَني زيد بن عمروٍ، فيحذف
التنوين لالتقاء السَّاكنين وأنَّ ابناً مضاف إِلى عَلَم وأن النعت والمنْعُوتَ
كالشيء الواحد. فإِذا كان خبراً فالتنوين وقد يجوز حذف التنوين على
ضعف لالتقاء السَّاكنين وقد قرئت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢).
بحذف التنوين، لسكونها وسكون الباءِ في قوله: (عُزيْر ابن اللَّهِ).
وفيه وجه آخر: أن يكون الخبر محذوفاً، فيكون معناها عزير ابن اللَّه
معبودنا، فيكون " ابْنُ " نَعْتاً.
ولا اختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود.
* * *
وقوله: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ).
فالفَائِدَة فِيه عظيمة بيِّنَة.
المعنى أنَّه ليس فيه بيان ولا برهان إِنما هو قول بالفم لا معنى
تحته صحيح، لأنهم معترفون بأن الله لم يتخذْ صَاحِبَة فكيف يَزْعمونَ لَه
ولَداً، فإِنما هو تَكذُّبٌ وقولٌ فقط.
وقوله ة (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ).
أي يشَابِهون في قولهم هذا ما تقدم مِنْ كَفَرَتِهِمْ، أي إِنما قالوه اتباعاً
لمن تقدم من كَفَرَتِهِمْ. الدليل على ذلك قوله:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ).
أي قبلوا مِنْهمْ أن العزَيْرَ والمسيحَ ابنا الله تعالى.
وهذا معنى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)
وقرئ يضَاهُونَ، وأصل المضاهاة في اللغة المشابهة، والأكثر تَرْكُ الهمزةِ، واشتقاقه من قولهم: امْرَأةْ ضيْهَاء.
وهي التي لا ينبت لها ثدي، وقيل هي التي لا تحيض.
وإنما معناها أنها أشبهت الرجال في أنَّها لا ثدْيَ لها، وكذلك إِذا لم تحض. وضهياء فعلاء.
الهمزة زائدة كما زيدت في شمأل، وغرقئ البيضة، ولا نعلم
أنها زيدت غير أول، إِلا في هذه الأشياءَ.
ويجوز أن تكون " فَعْيَل " وإِن كانت بِنِيَةً ليس لها في الكلام نظير.
فإِنا قد نعرف كثيراً مما لا ثَاني له. من ذلك قولهم كَنَهْبَل وهو الشجر
العظام، تقديره فَنَعْلل، وكذلك قَرَنْفل، لا نظير له وتقديره فَعَنْلُل.
وقد قيل:
* * *
وقوله: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
معناها تنزيهاً له من شركهم.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤)
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
أكثر التفسير إنما هو للمشركين، وقد قيل إِنها فيمن منع الزكاة من أهل
القِبْلة لأن من أدى من ماله زكاته فقد أنفق في سبيل الله ما يجب من ماله.
وقوله: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ).
دخلت إلا، ولا جُحْدَ في الكلام، وأنت لا تقول ضربت إِلا زَيْداً، لأن
الكلام غير دال عَلَى المحذوف.
وإذا قلت: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ).
فالمعنى يأبى اللَّه كل شيءَ إلا أن يُتم نورَه
وزعم بعض النحويين أن في " يأبى " طرفاً من الجحد، والجَحْدُ والتحقيق
ليسا بذي أطراف، وآلةُ الجحد لا، وَمَا، ولم، ولن، وليس، فهذه لا
أطراف لها. ينطق بها على حالها، ولا يكون الِإيجاب جُحْداً ولو جاز هذا
على أن فيه طرفاً من الجحد لجاز: كرهت إِلا أخاك، ولا دليل ههنا على
وقوله: (وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
فقال: (الذهب والفضَة) ولم يقل ولا ينفُقُونَهما في سبيل اللَّه، فإِنما جاز
ذلك لأن المعنى يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون المكنوز في سبيل الله.
ويجوز أن يكون محمولًا على الأموال، فيكون: (ولا ينفقونها)، ولا ينفقون
الأموال، ويجوز أن يكون: ولا ينفقونها. ولا ينفقون الفضة، وحذف الذهب لأنه داخل في الفضَّةِ كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما... عندك راضٍ والرأي مختلف.
يريد نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ.
فحذف " راضون " فكذلك يكون المعنى:
والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه في سبيل اللَّه، والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه.
* * *
وقوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ: أن عدة شهور المسلمين، الذين تُعُبِّدُوا بَأن يجعلوا
لِسَنَتِهِمْ - اثنا عشر شهراً، على منازل القمر، فجعل حجهم وَأعيَادَهمْ
في الصيف، وفي فصول الأزمان على قدر الشُهور ودَوَرَان السنِين، وكانت
أعياد أهل الكتاب وَمتعَبَّدَاتهمْ في سنَتِهم يَعْملونَ فيها على أن السنة ثلاثمائة
يوم وخمسة وستون يوماً وبعضُ يوم، على هذا يجري أمر النصارى واليهود.
فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن سِنِي المسْلِمِينَ على الأهِلَّةِ.
وقوله: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)
الأربعة الحرم: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
(فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
قيل في الأربعة، وقيل في الاثني عشر. فمن قال في الأربعة قال: أراد
تعظيم شأن المعاصي -
كما قال جلَّ وعزَّ: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
فالفسوق لا يجوز في حج ولا غيره، ولكنه عزَّ وجلَّ عرف الأيام التي
تكون فيها المعَاصِي أَكْثَرَ إثماً وعقاباً.
وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).
فـ " كافَّةً " منصوب على الحال، وهو مصدر عَلَى فَاعِله كما قالوا العاقِبة
والعافِية. وهو في موضع قَاتِلوا المشركين محيطين بهم باعتقاد مقاتَلِتِهمْ.
وهذا مشتق من كُفَّةِ الشيء، وهي حَرْفُه، وإِنما أخذ من أن الشيءَ إذا
انتهى إِلى ذلك كُفَّ عن الزيادة، ولا يجوز أنْ يُثَنَّى ولا يَجْمَع، ولا يقال
قاتلوهم كافَّاتٍ ولا كافِّين، كما أنك إِذا قلت: قاتلوهم عامَّة لم تثَنِّ ولم
تجمَعْ، وكذلك خَاصََّةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ الْمَتقِينَ).
تأويله أنه ضامن لهم النصْر.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧)
النسيء - هذا - تأخير الشيء، وكانوا يُحَرمونَ القتال في المحرم فإِذا
عزموا على أن يقاتلوا فيه جعلوا صفراً كالمحرم، وقاتلوا في المحرم وأبدلوا
صَفَراً منه، فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعزَّ أن ذلك زيادة في الكفر.
(لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ).
فيجعلوا صَفَراً كالمحرم في العدةِ، ويقولوا: إن هذه أربعة بمنزلة
أربعة.
والمواطأة المماثلة والاتفاق على الشيء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨)
الِإجماع في الروايات أن هذا كان في غَزْوَةِ تَبًوكَ، وذلك أن الناس
خرجوا فيه على ضَيْقَةٍ شديدة شاقةٍ.
وقوله عزَّ وجلَّ: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ).
المعنى تثاقلتم، إلا أن التاءَ ادْغِمَتْ في التَاءِ، فصارت ثاءَ ساكنة.
فابتدئت بألف الوصل - الابتداء -.
وفي (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) عندي غير وجه.
منها أن مَعْنَاهُ تثاقلْتُمْ إِلى الِإقامة بأرضِكم، ومنها اثَّاقَلْتُمْ إِلى شهوات
الدنيا.
وقوله: (أرضِيتمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ).
أي أرضِيتمْ بنعيم الحياة الدُنيا من نعيم الآخرة
أي ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياءُ اللَّهِ في الجَنة.
وقوله: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
هذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد، وأعلم انَه يستبدل لِنَصْرِ دينه
ونبيه قوماً غيرَ مُثاقِلِين عنِ النصْرِ إِلى أعدائه إِذ أعلمهم اللَّه عزَّ وجل أنهم إن
تركوا نصره فلن يَضُرهُ ذلك شيئاً كما لم يضرره إذ كان بمكة لا ناصرين له.
فقال عزْ وجل:
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
وكان المشركون قد أجمعوا على قتله - ﷺ - فمضى هو وأبو بكر الصديق هارباً منهم في الليل، وترك عَلِياً عَلَى فِراشِهِ ليرَوْا شخصه على الفراش فلا يعلمون وقت مُضيِّهِ، وأطلعا أسماءَ بنت أبي بكر على مكانهما في الغَار، وَمَر رسول الله - ﷺ - عَلَى ثُمَامَة، وهي شجرة صغيرةٌ ضعيفة فأمر أبا بكر أن يأخذها معه، فلما صارا إِلى الغار، أمر أبا بكرٍ فجعلها عَلَى باب الغار، ثم سبق أبو بكر إِلى دُخُولِ الغارِ فانبطح فيه، وألقى نفسه، فقال رسول اللَّه: لم فَعَلْتَ ذلك؟
فقال: لأنَّ هَذِه الغِيرَان تكون فيها الهوامُّ المؤْذية والسباع فأحْبَبْتُ إِن
كان فيها شيء أن أقيكَ بِنَفْسِي يا رسول اللَّه.
ونظر أبو بكر إِلى جحر في الغار فسدَّه برجله، وقال إِنْ خَرَجَ منه ما يؤذِي وقيتُكَ منه.
فلما أصبح المشركون اجتازوا بالغار فبكى أبو بكر الصديق فقال له
رسول الله - ﷺ - ما يُبكيك؟
فقال: أخاف أنْ تُقْتَلَ فلا يُعْبد اللَّه بَعْدَ اليوم.
فقال له رسول اللَّه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) أي إِنَّ الله تعالى يمنعُهُم مِنا وَيَنْصُرُنَا،
وقال المشركون حين اجتازوا بالغار: لو كان فيه أحَد لم تكُنْ ببابه هذه الثمامة.
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا).
أيده بملائكة يَصْرِفون وجوهَ الكُفَار وأبْصَارَهُمْ عن أنْ يَرَوْه.
وقوله: (سَكِينَتهُ عَلَيْهِ).
يجوز أن تكون الهاءَ التي في عليه لأبي بكر، وجائز أن تكون ترجع
على النبي - ﷺ - لأن اللَّه جل ثناؤُه ألقى في قلبه ما سَكَن بِه وعلم أنهمْ غيرُ وَاصِلين إليه.
فأعلم الله أنهم إنْ تَركوا نصْرَه، نَصَرَه كما نصره في هذه الحال.
وَثَانِيَ اثنين مَنصُوبٌ على الحال.
المعنى فقد نَصَرَهُ الله أحدَ اثنين.
أي نصرَهُ منفرداً إلا مِنْ أبِي بكر - رضي الله عنه -.
* * *
وقال جلَّ وعزَّ: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
فقيل (خِفَافًا وَثِقَالًا) أي مُوسِرين ومُعْسِرين.
وقيل (خِفَافًا وَثِقَالًا) خفَتْ عليكم الحركة أوْ ثقلت، وقيل ركباناً ومُشاة، وقيل أيضاً شباباً وشيوخاً.
وُيروَى أن ابنَ أمِّ مَكْتُومٍ جاءَ إِلى النبي - ﷺ - فقال أعَليَّ أن أنفر، فقال نَعَم، حتى أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ).
* * *
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢)
العرَضُ كل ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمة
قريبة، أي لو كان ما دُعُوا إِليه غُنْماً، وسفراً قاصِداً أي سَهْلاً قريباً لاتبعوك
لَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ.
تبوك، فَثَقلَ عَلَيهِمُ الخروجُ. إلى نواحي الشام.
* * *
وقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)
أي حتى يَتبين لك من يُنَافِق مِمن يصُحِّح. ثم أعلمه جل وعلا أن
عَلامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان في التخففِ عن الجهاد فقال:
(لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)
موضع " أن " نَصْبٌ.
المعنى لا يستأذنك هُؤلاءِ في أن يجاهدوا، ولكن " في " حُذِفتْ فأفضى الفعلُ فنَصَبَ " أن ".
قال سيبويه، ويجوز أن يكونَ موضعها جَرا، لأن حَذْفها هَهُنا إِنما جاز مع ظهور " أن " فلو أظهرت المصدَر لم تحذف في " لا يستاذنك القوم الجهادَ " حتى تقول في الجهاد
ويجوز لا يستأذنك القوم أن يجاهدوا.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
وأعْلَمَ اللَّهُ جل ثنَاؤهُ أنَّ مَنِ ارْتَابَ وشكَّ في اللَّهِ وفي البَعْثِ فهو كافر.
* * *
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦)
أي فَتَرْكَهُمْ العدة دليل على إِرَادَتهم التَخفَف.
(وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ).
والتَثْبِيط ردُّكَ الِإنسانَ عَنِ الشيءِ يفعله، أي كره الله أن يخرجوا معكم
فردهم عن الخروج.
ثم أعلم عزَّ وجلَّ: (لم كره ذلك فقال:
(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
قَال الشاعر:
أبني لُبيْني لَستُمَا بِيَدِ... إلا يداً مخبولة العَضُد
أي فاسدة العَضُدِ.
(وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ).
يقال أوْضعتُ في السير إذا أسرعت، ولأسرعوا فيما يخل بكم.
(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ).
أي فيكم من يسمع ويؤدي إليهمِ ما يريدونَ.
وجائز أن يكون (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) من يقبل مِنهُمْ.
وفي المصحف مكتوب " ولأوضَعوا) ولا أوضعوا، ومثله في القرآن:
(أَوْ لا أذْبَحنَّهُ " بزيادة ألف أيضاً، وهذا إِنما حَقُّه على اللفظ وَلأوْضَعُوا.
ولكن الفتحة كانت تكتبُ قبل العرَبى ألفاً. والكتاب أبتدئ به في
العربي بقرب نزولِ القرآنِ فوقع فيه زيادات في أمكنة واتباع الشيء بنقص عن الحروف. فكتبت " ولا أوضعوا " بلام وألف، بدلاً من الفتحة، وبهمزة.
فهذا مجاز ما وقع من هذا النحو في الكتاب.
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)
أي لا تؤثمني بأمرك إِياي بالخروج، وذلك غير متيسر لي فآثم.
وقيل إِن المنافقين هزئوا بالمسلمين في غزوة تبوك، فقالوا أتريدون بنات
فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنهم قد سقطوا في الفتنة أي سقطوا في الإثم.
* * *
(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)
أي قد علمنا بالحزم في التخلف عنك. فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن
المسلمين لَنْ يُصيبهم إِلا ما كتب الله لهمْ فقال جلَّ وعزَّ: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
أي ما قدَّر علينا كما قال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا).
ثم أكدَ ذلك فقال: (إِنَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وفيه وجه آحْر إنَّه (لَنْ يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا) ما بيَّن لنا في كتابه.
من أنا نَظْفَر، فتكون تلك حسنى لنا أو نُقْتَل فتكون الشهادة حسْنَى لنا أيضاً، أي فقد كتب اللَّه لنا ما يصيبنا أو عَلِمْنَا ما لنا فيه حظ، ثم بيَّنَ جل ثناؤُه فقال تعالى:
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
إلا الظفَر أو الشهادة.
(وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا).
فأنتم تربصونَ بنا إِحدى الحسنيَيْن، ونحن نَتَربصُ بكم إحدى الشَّرَّتَيْن.
فبين ما تنتظرونه وننتظره فرق عظيم.
وإن شئت كُرْهاً بالضم، هذا لفظ أمْرٍ ومعناه معنى الشرط والجزاء.
والمعنى أنفقوا طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ.
ومثل هذا من الشعر قول كثير:
أَسِيئي بنا أَو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ... لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
فلمْ يأمرها بالإساءَة، ولكن أعلَمَها أنها إِن أساءَت أو أحسَنَتْ فهو على
عهدهَا.
فإِن قال قائل كيف كان الخبر في معنى الأمر؟
قلنا هو، كقولك: غفر اللَّه لزيدٍ، ورحم اللَّه زيداً.
فمعناه: اللهم ارحم زيداً.
* * *
(وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤)
مَوْضِع " أن " الأولى نَصْبٌ، وموضِع " أنِ " الثانية رفع.
المعنى ما منعهم من قبول نفقاتهم إلَّا كفْرهم.
ويجوز " أن يُقبَلَ مِنْهُم نَفَقَاتهُمْ " لأن النفقَات في
معنى الإِنفاق،.. ، ويجوز: وما منعهم من أن يَقْبلَ مِنهمْ نَفَقَاتِهمْ إلا أنهمْ
كَفَروا، وهذا لا يجوز أن يقرأ به لأنه لم يروَ في القراءَة.
وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى).
وكَسَالى - بالضم والفتْحِ - جمع كسلان، وكقولكَ سكران وسُكارى
وسَكارى. ويجوز ولا يَأتونَ الصلاَةَ إِلا وهم كَسْلى.
ولا يجوز ذلك في القرآن.
(وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ).
في القرآن (١).
* * *
وقوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥)
معناه - واللَّه أعلم - فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الدنيا، إنما
يريد اللَّه ليعذبهم بها في الآخرة.
ويجوز واللَّه أعلم: إنما يريد اللَّه ليعذبهم بها في الدنيا أي هم ينفقونها
في الدنيا، وهم منافقون فهم متعذبون بإنْفَاقها إذ كانوا ينفقونها على كرهٍ.
وقوله: (وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وهُمْ كَافِرُونَ).
معناه، وتخرج أنْفُسهم أي يغْلُظ عليهم المكروه حتى تزهق أنفُسُهم.
* * *
(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)
أي يحلفون باللَّهِ أنهم مؤمنون كما أنتم مؤمِنونَ، وما هُمْ مِنْكُمْ لأنهم
يظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ).
أي يفرقون أن يُظْهِرُوا ما هم عليه فيقتلُوا، ثم أعلم جلَّ وعزَّ أنهم لو
وجدوا مخْلَصاً فيه لفارقوكم، فقال جلَّ وعزَّ:
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
والملجأ واللَّجَأ، مقصورٌ ومهموزٌ، وهو المكان الًذِي يُتَحَصَّنُ فيه.
ومَغَارَات جمع مَغَارة، وهو الموضع يغور فيه الِإنسان، أي يستتر فيه.
ويقرأ: (أو مُغاراتٌ) بضم الميم لأنه يقال أغْرَتُ وَغُرْتُ، إِذا دخلت الغَوْر.
(٢) في القراءة بهذه الإمالة.
ويقرأ أو مُدْخَلاً بالتخفيف، ويقرأ أو مَدْخلاً.
فأما (مُدَّخَل) فأصله مُدْتخل، ولكن التاء والدال من مكان واحد فكان
الكلام من وجه واحدٍ أخف، ومن قال مَدْخَلاً فهو من دَخَلَ يَدْخُل مدْخلًا.
ومن قال مُدْخَلاً فهو من أدْخَلْتُه مُدْخَلاً.
قال الشاعر:
الحمدُ لله مُمْسَانا ومُصْبَحُنا... بالخَيْرْ صبحَناربِّي وَمَسَّانَا
ومَعْنَى مُدَّخَل ومُدْخل أنهم لو وجدوا قوماً يدْخُلون في جُمْلَتِهِمْ أو
يُدْخلونَهُمْ في جُمْلَتِهِمْ: (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).
المعنى لوْ وَجَدوا هذه الأشياءَ (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).
أي يسرعون إِسراعاً لا يَرُد وجُوهَهَمْ شَيء.
ومن هذا قيل: فرس جمُوحٌ للذي إِذا حمَل لم يَرُدَّهُ اللجام.
* * *
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
وتقرأ يَلْمُزُونَكَ: يُقالُ لَمَزْتُ الرجُلَ ألْمِزُهُ بكسر الميم، وألْمُزُه بِضَم
الميم إِذَ عِبْتُهُ، وكذلك هَمزْتُه أهمزُه إِذا عِبْتُه.
قال الشاعر:
إِذا لَقِيتُك تبدي لي مُكاشرةً... وإِن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامِزَ اللُّمَزَهْ
العَيْنِ أي بكسْرِ عيْيهِ عيِب كنهِم، إِذَا عاب. يراد به عيْب صاحِبِه
وقالوا: اللُّمْزَةُ الْعيبُ بالمسارَّة. وهذا كله يرجع إلى العَيب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
وهم قوم كانوا يُعْطَوْنَ: يُتألَّفُون عَلى أن يُسْلِمُوا.
وهذا غير مُسْتَعْمل اليَوْمَ لظهور الِإسلام.
(وفِي الرقَابِ).
كأنْ يُعَاوِنَ المكَاتبَ حتَى يفكً رقبتَه:
(وَالْغَارِمِينَ).
وهم الذين لزمهم الذَين في الحمَالَةِ، والحمالةُ، الِإعْطاءُ في الذِّمَّة
ويجوز أن يكون الغارم الَّذِي لزمَه الذَيْنُ في غيْرِ مَعْصِيَةٍ، فالأولى أن يكون
الدين الذِي يقضى عَنْهُ في غير مَعْصِيَةٍ، لأنَّ ذَا المعْصِيَةِ إِن أُدِّيَ عنه الدَّيْن
كان ذلك تَقوية عَلَى المَعَاصي.
(وَفِي سَبيلِ اللَّهِ).
أي وللمجاهدين حَقٌ في الصدَقَةِ.
(وابْنِ السبِيلِ) ابنُ الطَريقِ.
وتأويله الذى قُطعَ عليه الطريق.
(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)
اللَّه الصدقَاتِ لهُؤلاءِ.
وقد بينَّا في أول الأنفالِ ما قيل في جميع الأموال، واسْتَقْصَيْنَاهُ.
ويجوز فرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ على ذلك ولا أعلمه قرئ به.
* * *
وقوله: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١)
وتفسير الآية أن مِنَ المنَافِقينَ مَنْ كانَ يَعيبُ النبى - ﷺ - وَيقُولُ: إِنْ بَلغَه عَنَي حَلَفْتُ له وَقَبِل مِنِّي لأنَّهُ أذُنٌ.
فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنهُ (أذُنُ خَيْرٍ لكُمْ).
أي مُسْتَمِعُ خَيْرِ لَكُمْ، ثم بَين مِمَنَ يَقْبَلُ فقال:
(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).
أي هو أُذُن خَيْرٍ لا أُذُنُ شَر، يَسْمَعُ ما ينزله الله عليه، فيصَدِّق به.
ويُصدق المؤمنين فيما يُخْبِرُونَه بِه.
(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ).
أي هو رحمةٌ، لأنه كان سَبَبَ المؤمنين في إِيمَانِهِمْ.
وَمَن قرأ أذنٌ خَيرٌ لَكُمْ، فالمعنى فإن من يَسْمَعُ منكم ويكون قريباً منكم قابلًا للعُذْرِ خيرٌ لكم.
ويروى في هذه الآية أن رَجُلًا مِنَ المُنَافِقِينَ قال: لو كان ما أتى به
محمد حقا فنَحن حَمِير، فقال له ابن امرأته إِنَّ مَا أتَى بِه لحق، وإِنَّكَ لَشَر من
دَابتِكَ هَذِهِ وبلغ ذلك النبي - ﷺ - فقال بعض من حَضَرهُ نَعْتذِر إِليه ونحلف له فإِنه أُذُن.
قال بَعْضُ النحويينَ: إِن هذه اللامَ بِمعنَى القَسَم، أيْ يَحْلِفُون بالله
لكم لَيُرْضُنَّكُمْ وهذا خطأٌ لأنهم إِنَّمَا حَلَفُوا أنَّهُمْ مَا قالُوا ما حُكِي عنهُمْ
ليُرْضُوكُمْ باليمين، ولم يَحْلِفُوا أنَّهُمْ يُرضُون فيما يستقبل.
(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ).
وقوله: (إنْ كانوا مُومِنِين).
أي إِن كانوا على ما يُظْهرُون فكان ينبغي ألا يَعِيبُوا النبي - ﷺ - فيكونون بتوليهم النبي - ﷺ - وتَرْكِ عَيْبِه مؤمنين.
ويجوز في قَوْله (وَرَحْمةٌ) الجر على العطف عَلَى (خَيْر). فيكون المعنى
قل أُذُن خير لكم وأذُنُ رَحْمَةِ للمؤْمنين.
وقوله: (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، ولم يَقُل يُرْضوهُمَا، لأن المعْنَى يَدُلُ عليه
فحذف استخفافاً، المعنى واللَّه أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَرَسُوله أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما... عندك راضٍ والأمرَ مختلفُ
المعنى نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك رَاضٍ.
* * *
وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
معناه من يعادي اللَّه ورَسوله، ومن يشاقِق الله ورَسُولَه.
واشتقَاقُه من اللغَة كقولك من يجانب الله ورَسُوله، أي من يكونُ في
حَدٍّ، واللَّه ورسوله في حَدٍّ.
والقراءَةُ بالفتح والكسر: " فَأَنَّ لَهُ "، فمن كسر فعلى الاستئناف بعد
الفاءِ، كما تقول فله نار جهنم، ودَخَلت إِنْ مؤكدَة، وَمَنْ قَال: فَأَنَّ لَهُ، فإِنما أعاد " فَانَ " توكيداً، لأنه لما طال الكلام كان إِعَادَتُها أوكَدُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)
لفظ يَحَذرُ لفظ الخبر، ومعناه الأمرُ، لأنهُ لَا لَبْسَ في الكلام في أنه
أمر، فهو كقولك ليْحذَر المنافقونَ، وعلى هذا يجوز في كل ما يؤمَرُ به أن
تقول يُفْعَلُ ذَلكَ، فَيَنُوبُ عن قَولك ليفُعلْ ذلكَ.
ويجوز أن يكون خبراً عَنْهُم لأنهم كانوا يكفرون عناداً وَحَسَداً.
وَدَليل هذا القول: (قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ).
* * *
وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥)
وذلك أنهُمْ قالوا: إِنما كنا نخوض كما يَخُوضُ الركْبُ.
* * *
وقوله: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
تأويله إنَّه قد ظهر كفركم بَعدَ إِظهاركُم الِإيمان.
(إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً).
والقراءَةُ (إِنْ نَعْفُ) وَ (إِنْ يُعْفَ، وإِنْ يَعْفُ) جيدَةٌ، ولا أعلم أحداً من
المشهورين قرأ بها.
ويروى أن هاتين الطائفتين إِنما كانوا ثلاثة نَفَر فَهَزِئ اثْنَان وضَحِكَ
وَاحِدٌ، فجُعِل طائفة للواحد.
وكذلك قالوا في قوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
يَرادُ بهِ نَفْسٌ طائفَة.
وقد يجوز أن يقال للواحد طائفة يراد بها نفس طائِفة يراد به نفس طائفَة.
* * *
وقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧)
هذا يتلو قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمنْكُمْ).
أي ليس المنافقون من المؤْمنين، لأن المنافقين، (يَأْمُرُونَ بِالمنكَرِ)
أي يأمرون بالكفر بالنبي - ﷺ -.
(وًينْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ).
أي ينهون عن الِإيمان به.
(وًيقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ).
أي لا يتصدَّقون ولا يُزَكُّونَ.
(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ).
أي تركوا أمر اللَّه فتركهم اللَّهُ من رحمته وتوفيقه.
* * *
وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
(هِيَ حَسْبُهُمْ).
أي كفايةُ ذُنُوبِهِمْ كما تقول: عذبتك حسب فعْلِكَ، وحَسْبُ فُلان ما نَزَل به، أي ذَلكَ عَلى قَدرْ فعله.
* * *
وقوله: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٩)
(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
موضع الكاف نصب، أي وعدهم اللَّه على الكفر به كما وعد الذين من
قبلهم.
وقوله: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِم) قيل فاستمتعوا بحِظهم منَ الدنيا وقيل
فاستمتعوا بدينهم.
والخلاق النصيب الذي هو عند صاحبه وافرُ الحظ.
* * *
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
و (المُوتَفِكَاتِ).
جمع مْؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض، أيانقلبت، يقال إِنهم قوم لوط.
ويقال إِنهم جميعُ مَنْ أُهْلِكَ، كما تقول للهالك انقلبت عليه الدنيا.
(فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظلِمُونَ).
أعلمَ اللَّهُ جلَّ ثناؤه أن تعذيبه إِياهم باستحقاقهم، وأن ذلك عدل
* * *
وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
(وَرِضْوانُ).
وتقرأ ورُضْوان ورِضوان، وهما جميعاً عن عاصم.
ومعنى (وَرِضْوَانٌ من اللَّهِ أكبرُ)، أي أكبر مما هم فيه من النعيم.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
أمر بجهادهم، والمعنى جاهدهم بالقتل والحجة، فالحجة على
المنافقين جهاد لهم.
* * *
وقوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤)
(وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا).
قيل إِنهم كانوا هَمُّوا بقتل رسول اللَّه - ﷺ - وأنهم كانوا اثني عَشَر رجُلاً عزموا على أن يقفوا له بعقبة على طريقه، ويغتالوه، فأعلمه الله ذلك.
فلما بلغ إِليهم أمرَ مَنْ نحاهم عن طريقه، وسماهم رَجُلاً رجُلاً.
فهذه من أعظم آياته، لأن الأمر إِنما عُلِمَ في قصتِهم بالوحي.
(وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).
سبب ذلك رسولُ الله - ﷺ -.
وقوله: (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
معناه مؤلِماً.
وإِنما قال في الدنيا لأنهُم أمِرَ بقَتلِهِم.
وَيجُوز: (وما نَقِمُوا).
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
الأصل: لنتصَدقن، ولكن التاءَ أدْغِمَتْ في الصاد لقربها منها.
* * *
وقوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
يجوز أن يكون " فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ".
قال: (فأعقبهم نفاقاً) أَي أضلهم الله بفعلهم.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
يَلْمِزُون، ويلْمُزون - بكسر الميم وضمها - ومعناه يَعيبونَ وكانوا عابُوا
أصحاب رسول الله - ﷺ - فىِ صدقات أَتوا بها النبي - ﷺ -.
يروى أَن عبد الرحمن أتَى بصُرةٍ تملأ الكف، وأن رجُلًا كان يقال له
أبو عقيل، أَتَى بصَاعٍ من تَمْر، فعابوه بذلك وقالوا: إِن محمداً غَنِيٌّ عن صاعِ هذا وإِنما أَتَى بهذا ليُذَكِرَ بنفسِهِ.
فهو معنى (والذينَ لا يجدون إِلا جُهْدَهم) " جَهْدَهُمْ "، بالفتح والضم.
(فَيَسْخرُونَ مِنَهُمْ).
والسِخْرِيَّ من الله المجازاة على فعلهم وقد بيَّنَّا ذلك.
* * *
وقوله جلَّ وعزْ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠)
فيروى أن النبي - ﷺ - قال: أستَغْفرُ لهم أكثَرَ مِنْ سَبعين مرة فنزلت (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ).
* * *
وقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
بمعنى مخالَفة رسول اللَّه.
وهو منصوب لأنه مفعول له، المعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول اللَّه.
ويقرأ خَلْفَ رسول اللَّه، ويكون ههنا أنهم تأخَّروا عن الجِهاد في سبيل اللَّه.
(وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا).
وهذا وعيد في ترك الجهاد.
ويجوز لا تنفُروا بضم الفاءِ.
* * *
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
(جزاءً) مفعول له، المعنى: وليبكوا جزاءً لهذا الفعل.
* * *
وقوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤)
يروى أنَّها نزلت في عبد الله بن أبي، وكَانَ رأسَ المنَافِقينَ فلما حضرته
الوفاة بعث إلى رسول الله - ﷺ - يسأله أحَدَ ثَوْبيْه ليُكفَنَ به، فبعث إِليه رسول اللَّه - ﷺ - بأحدهما، فأرسل المنافق إِلى رَسول الله أريد الذي كان يلي جلدك من ثِيَابِك، فوجه إِليه رسول الله - ﷺ - بذلك.
فقيل له فيه: لم وجَّهت إِليه بقميصك يكفن فيه وهو كافر؟
فقال: إِن قميصي لن يغني عنه شيئاً من اللَّه، وإِني أؤمل
من اللَّهِ أن يَدْخُلَ في الِإسلام خلق كثير بهذا السبب، فيروى أنه أسلم من
الخزرج ألفٌ لما راوه يطلب الاستشفاءَ بثوب رسول اللَّه.
وأراد الصلاةَ عَليْه.
ويروى أنَّه - ﷺ - صلَّى عليه
وَإِنَّما مجاز الصلاة عليه أنه كان ظاهره ظاهر الإِسلام، فأعلمه الله جلَّ وعزَّ أَنه إِذا عَلمَ منه النفاق فلا صلاة عليه
(وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ).
كان رسول الله - ﷺ - إِذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له.
* * *
وقوله: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
المعَذِّرُونَ - بتشديد الذال - وتُقْرأ المُعْذِرُونَ، فمن قرأ: المُعْذِرُونَ.
فتأويله الذين أعذَرُوا أي: جاءُوا بِعُذْرٍ، ومنْ قرأ: الْمُعَذِّرُونَ بتشديد الذال
فتأويله المعْتَذِرُونَ، إِلا أن التَاءَ أدْغِمَتْ في الذال لقرب مخرجهما.
ومعنى المعْتَذِرينَ الذين يعتذرون، كان لهم عذرٌ أو لم يكن لهم.
وهو ههنا أشبه بأن يكون لهم عذر.
وأنشدوا:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
المعنى فقد جَاءَ بعذر، ويجوز المعِذِّرون - بكسر العين - لأن الأصل
المعتذرون، فأسكنت التاءُ وأدْغمت في - الذال ونقلت حركتها إِلى العَيْن فصار الفتح أولى الأشياءِ، ومن كسر العين حرك لالتقاءِ السَّاكنين، ويجوز
المُعُذُرون، باتباع: الضَمةَ التي قبلَها وهذان الوجهان - كسر العين وضمها - لم يُقْرَأ بِهِما، وإِنما يجوز في النحو، وهما جهتان يثقل اللفظ بهما، فالقراءَة بهما مطروحة.
ويجوز أن يكون المُعذرُونَ: الذين: يعَذَرون، يُوهمون أنَّ لهم
عذار ولا عُذْرَ لهم.
وقوله: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ).
والجاه.
والطَوْل الفضل في القدرة على هذه الأشياءِ.
وقوله: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)
الخوالف: - النساءَ، وقد يجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال.
والخالف الذي هو غير مُنْجِب. ولم يأت في فاعل فواعل إلا في حرفين.
فارس وفوارس، وهالك، وهوالك.
* * *
وقوله: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
هؤُلاءِ أعراب كانوا حول المدينة، فكفرهم أشدُّ لأنهم أقسى وأجفى من
أهل المدَرِ، وهم أيضاً أبعد من سماع التنريل وإِنذار الرسول.
وقوله: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ).
" أن " في موضع نَصْبٍ، لأن الباءَ محذوفة من أن.
المعنى أَجْدَرُ بترك العلم، تقول: أنت جدير أن تفعل كذا، وبأن تفعل كذا، كما تقول أنت خليق أن تفعل، أي هذا الفعل ميسَّر فيك.
فإِذا حُذِفَتْ الباءُ، لم يصلح إِلا بأن.
وإِن أتيت بالباءِ صلح بأن وغيره، تقول أنت جدير أن تقوم وجدير بالقيام، فإِذا قلت، أنت جدير القيامَ، كان خطأً، وإِنما صلح مع أن لأن أن تدل على الاستقبال، فكأنَّها عوض - من المحذوف.
* * *
وقوله: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)
(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ).
أي الموت والقتل.
* * *
وقوله: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
(قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ).
فيها ثلاثة أوجه قُرُبَاتٍ بضم الراءِ، وقُرْبَاتٍ بإسكانها وقُرَبَاتٍ بفتح الراءَ.
وكذلك: (وَصلِّ عَلَيْهمْ). معناه دعاء الرسول.
قَالَ الأعشى:
تقول بِنْتِي وقد قربت مُرْتَحَلا... يا ربِّ جَنِب أبي الأوْصَابَ والوَجَعَا
عَليكِ مثلُ الذي صليت فاغتمضي... عيناً فإِن لجنبِ الأرضِ مُضطجعا
إِن شئت قلت عليك مثلُ الذي، ومثلَ الذي، فمن قال:
" عليك مثلَ الذي صلَّيتِ " ققد أمرها بالدعاءِ، كأنَّه قال ادعي مِثْلَ الذي
دعوت، ومن قال مثلُ فالمعنى عليك مثل هذا الدعاءِ.
أي ثبت عليك مثل هذا.
* * *
وقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
ويجوز والأنصارُ، فمن قال: " والأنصْارِ " نَسَقَ عَلَى المُهَاجِرين.
المعنى: والسابقون الأولون من المهاجرين ومن الأنصار، ومن قال:
والأنصارُ نسق به على " والسَّابِقون " كأنه قال: " والسابقون والأنصارُ ".
وقوله: (والَّذِينَ اتَبَعُوهُمْ بِإحْسَانٍ).
أي من اتبعهم إلى يَوْم القيامة.
(رضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ وَرَضُوا عَنَهُ).
تأويله: - واللَّه أعلم - أن اللَّه رَضِيَ أفعَالَهم، وأنهم رضوا ما جازاهم
اللَّه به.
* * *
وقوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
(سَنُعَذِبُهُمْ مَرتَينِ).
أي سنعذبهم بالإنفاق وبالفعل، وقيل بالقَتْل وعذابِ القَبْر.
(ثمَ يُرَدونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ).
أي يُعذبون في الآخرة.
* * *
وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
يصلح أن تكون تطهرهم بها نعْتاً للصدقة، كأنه قال: خذ من أموالهم
صدقة مطهرة، والأجْودُ أن يكونَ تطهرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم.
المعنى خذ من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بها، ويجوز " تطهرْهُمْ "
بالجزم على جواب الأمْر. المعنى إِن تأخذ من أموالهم تطهرهم وتزَكهمْ.
ولا يجوز في القراءَة إلا بإثبات الياءِ في تزكيهم، اتباعاً للمصحف.
(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
أي ادع لهم.
و (سَكَنٌ) أي: يسكنون بها.
* * *
وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
تأويله ويقْبَلُ الصَّدَقَاتِ، وكذلك ما يروى " إن الصدَقَةَ تقع في يد اللَّه
جلَّ وعزَّ تأويله أن الصَّدَقَةَ يتقبلُها الله جل ثناؤه ويضاعف عليها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّْ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
(وَآخَرُونَ مُرْجَأُوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ)
معنى (مُرْجَأُوْنَ) مؤخرون.
يقال أرجأتُ الأمْر، إذا أخَّرْته.
ويقرأ (مُرْجَوْنَ) على أرْجَيْتُ.
و (آخرون) عطف على قوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ).
المعنى: من أهل المدينة منافقون ومنهم آخرون مُرْجَوْنَ.
(إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).
(إِمَّا) لوقوع أحد الشيئين، واللَّهُ عزَّ وجلَّ عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا
أنْ هذا للعباد، خوطبوا بما يعْلَمُون، فالمعنى لكنْ أمرهم عندكم علي هذا في الخوف والرجَاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧)
" الذين " في وضع رَفع، المعنى ومنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا.
انتصب (ضِرَارًا) مفعولًا له.
المعنى اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد.
فلما حُذِفتِ اللام أفضى الفعلُ فنصبَ، ويجوز أن يكون مصدراً
محمولًا على المعنى؛ لأن اتخاذهم المسجدَ على غير التقوى معناه ضارُّوا به
ضِرَارًا.
وتفسير الآية أن قوماً من منافقي الأتصار أرادوا أن يفرقوا عن النبي - ﷺ - من يصلي معه من المؤمنين فاتخذوا مَسْجِداً يقطعون به المؤمنين والنبي - ﷺ - عن مَسْجِد قُباءَ.
(وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ).
كان رجل يقالُ له: أبوعمرو الراهب حَارَب النبي - ﷺ - ومضى إِلى هِرَقْل، وكان أحَدَ المنافقين، فقالوا نبني هذا المسجد وننتظر أبا عَامِرٍ حتَى يجيءَ، فيصلي فيه، فالإِرصاد، الانتظار.
(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وكانوا دعوا النبي - ﷺ - ليصَلِّيَ فيه فأنزل اللَّه جل ثناؤه: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
ْثم بين الله عزَّ وجلَّ: أي المسجدين أحق بالقيام فيه فقال:
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).
يعني به مسجد قُبَاءَ.
(أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ).
" وَأنْ " في موضع نصبٍ، المعنى: لمسجد أسس على التقوى أحقُّ بأن
نقوم فيه.
(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا).
يروى أن النبي - ﷺ - وقف بباب المسجد فقال:
(إِن اللهَ أحسن عليكم الثناءَ في طَهوركم فبِمَ تَطَهرون؟
فقالوا نغسل إثر الغائط بالماء.
وهُؤلاء قومٌ من الأنصار.
* * *
وقوله: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
ويجوز " أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ "، ويجوز " أَفَمَنْ أَساسُ بُنْيَانِهُ "
ويجوز " أَفَمَنْ أُسُسُ بُنْيَانِهُ ".
فأمَّا (أَسَّسَ بُنْيَانَهُ)، و (أُسِّسَ بُنْيَانُهُ)، فقراءَتان جَيدَتان، والذي ذُكِرَ غير
هاتين جائزُ في العربية، غير جائز في القراءَة، إِلا أن تثبتَ به رواية.
المعنى أن من أسس بنيانه على التقوى خير ممن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على الكفر
فقال: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ).
ومعنى (هَارٍ) هَائِر وهذا من المقلوب، كما قالوا في لاث الشيءُ إذا دار فهوَ لاثٍ والأصل لَائث وكما قالوا شاك السلاح وشائك.
قال الشاعِر:
فَتَعَرَّفوني إنَّني أنا ذاكُمُ... شاكٍ سِلاحِي في الحوادِثِ مُعلِمُ
وكما قال العجاج:
لَاثٍ به الأشاءُ والعُبْريُّ
الأشَاءُ النخل، والعُبْريُّ السدْرُ الذي على شاطئ الأنهار ومعنى لاثٍ
به مطيف به.
(فانْهارَ بِه في نَارِ جَهَنَّمَ).
وهذا مثل، المعنى أن بناءَ هذا المسجد الذي بني ضراراً وكفْراً كبناء
على جَرْف جهنم يتهور بأهله فيها.
* * *
وقوله: (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
قال بعضهم لا يزال كفراً، وقال بعضهم لا يزال شكاً.
والريبة من الريب، والريْبُ الشَّكُّ.
فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعز أن بناءَهم لا يزالون شاكين فيه، وجائز أن يكون اللَّه
جل ثناؤه جعل عقوبتهم أنْ ألْزَمَهمْ الضلال بركوبهم هذا الأمر الغليظ.
(إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ).
وقال بعضهم: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوُبهم ندماً وأسَفاً على تفريطهم.
* * *
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
يروى: أنه تاجرهم فأغلى لهم الثمن.
وهذا كما قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلَالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبحَتْ
تِجَارَتُهُمْ).
(يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا).
بالمعنى لأن معنى قوله: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، وعدهم الجنة وعْداً عليه
حَقًّا.
ولو كانت في غير القرآن جاز الرفع على معنى ذلك وعد عليه حق.
وقوله: (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ).
يَدُل أن أهل كُل مِلَّةٍ أمِروا بالقتال وأوعدوا عليه الجنة.
* * *
وقوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
يصلح أن يكون رفعه على وجوهٍ:
أحدها المدح كأنه قال هُؤلاءِ التائبون، أو هم التائبون.
ويجوز أن يكون على البدل.
المعنى يقاتل التائبون، وهذا مذهبُ أهْلِ اللغة.
قال. أبو إسحاق: والذي عندي واللَّه أعلم أن قوله: التائبون العابدونَ
رفع بالابتداءِ، وخبرُه مُضمر، المعنى التائبون العابدون إلى آخر الآية لهم
الجنة أيضاً، أي من لم يجاهِد غيرَ معانِدٍ ولا قَاصِد لتَرْك الجهادِ، لأن بعض
أيضاً.
التائبون الذين تابوا من الكفْرِ، والعابدون: الذين عبدوا اللَّه وحدَه.
والراكعون الساجدُونَ الذين أدُّوا ما افترض الله عليهم في الركوع والسُّجُودِ.
(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ).
الآمِرُونَ بالإيمانِ باللَّهِ.
(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الكفر باللَّه.
ويجوز الْآمِرُونَ بجميع المعروف، الناهون عن جميع المنكر.
(والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ).
القائمون بما أمر اللَّه به.
وقوله: (السَّائِحُونَ).
في قول أهل اللغة والتفسير جميعاً: الصائمونَ.
ومَذْهَبُ الحسن أنهم الذين يصومون الفرض.
وقد قيل: إِنهم الذين يديمون الصيام.
وقول الحسن في هذا أبْيَن.
وكذلك (الراكعون الساجِدُون) عند الحسن هم الذين يُؤدُّونَ ما افترِضَ
عليهم في ركوعهم وسجودهم.
* * *
وقوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣)
يروى أن النبي - ﷺ - عرض على عَمِّه أبي طالب الِإسْلاَمَ عند وَفاتِه، وذكر له وجُوبَ حَقِّه عَليه، فَأبى أبو طَالب فقال النبي - ﷺ -: لأستغفرنَ لك حتى أُنْهَى عن ذلك.
ويروى أنَّه استغفر لأُمِّه، ويروى إنَّه استغفر لأبيه، وأنَّ
كان من محاسنَ كانت لهم، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذلك لا يجوز فقال:
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى).
وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)
أي من بعد ما تبين لهم أنهم ماتوا كافرين.
ثم أعلم جلَّ وعزَّ كيف كان استغفار إبراهيم لأبيه فقال:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
فيروى أنه كان وعده أن يستغفر له أيام حياته، ويروى أن أبا إبراهيبم
كان وعد إبراهيم أن يُسْلم إن استغفر له، فلما تبين له إِقامته على الكفر تبرَّأ
منه.
وقال اللَّه تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)
إِلى قوله: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ).
أي تأسَّوْا بِإبْرَاهِيمَ فِي هذا القول.
وقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
يروى أن عمر سأل النبي - ﷺ - عن الأوَّاه، فقال: الأوَّاه الدَّعَّاءُ، والأوَّاه فِي أكثر الروَاية الدَّعَّاء
ويروى أن الأوَّاه الفقيه، ويروى أن الأوَّاه المؤمن بلغة الحبشة.
ويروى أن الأوَّاه الرحيم الرفيق.
قال أبو عبيدة: (الأوَّاه) المتأوِّه شَفَقاً وفرقاً المتضرع يقيناً، يريد أن يكون
وقد انتظم قولُ أبي عبيدَةَ أكثرَ ما رُوِي في الأوَّاه
وأنشد أبو عبيدة:
إِذا ما قمتُ أَرْحَلُها بليلٍ... تأَوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ
* * *
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
يروى أنه لما نزل تحريم الخمر ووقعت الحدود قال المسلمون فيمن
مات قبل ذلك ولم يدرك التحريم اسألوا عن حالهم، فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنه
لا يؤَاخذهم بِمَا حَرم مما لم يحرم عَليْهِم.
وجائز أن يكون: إِذا وفقَ اللَّه للهداية فلا إِضلال بعدَهَا، لأن من يهد اللَّهُ فلا مُضِلَّ لَه.
* * *
وقوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
معناها في وقت العُسرةِ، لأن السَّاعَةَ تقعُ على كل زمانٍ، وكان في ذلك
الوقت حر شديد، وكان القوم في ضيقة شديدة، وكان الجمل بين جماعة
يَعْتَقِبُونَ عليه، وكانوا من الشدة والفقْر ربما اقتسم الثمرةَ اثنان وربما مصَّ
الثمرة الجماعة ليشربوا عليها الماءَ، وربما نَحروُا الِإبل فشربوا من ماءِ
كُرُّوشِهَا من الحر.
فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنَّه قد تاب عليهم من بعد ما كاد يَزيغُ قُلوبَ فريق
منهم، أي نن بعد ما كادوا يَقْفِلون مِنْ غَزْوَتهِم للشدةِ، ليس أنَّه يزيغ عن
الِإيمان، إنما هو أن كادوا يرجعون فتاب الله عليهم بأن أقفَلهم من غَزْوَتهِمْ.
على نسق الكلام يدل على أنهم أمِروا بأن يكونوا مع النبي - ﷺ - في الشدهَ والرخاءِ.
ويجوز - واللَّهُ أعلم - على هذا قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).
وقد رويت عن بعضهم " مِنَ الصادِقِينَ " والمعنى واحد، ويجوز أن يكون
ممن يصدق ولا يكذب في قول ولا فعل.
* * *
وقوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)
الظمأ العطشُ، والنصَب: التعَبُ.
(ولا مخمصة) المخمصة: المجاعة، فأعلم اللَّه أنه يجازيهم على جميع
ذلك، وأنَّه يكتب لهم عَمَلاً صالحاً.
* * *
وقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
هذا لفظ خبر فيه معنى أمر كما كان (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) والمعنى أنهم كانوا إذا كانت سَريةٌ نفروا فيها بأجمعهم.
فأَعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنَّه ينبغي أن ينفر بعضهم ويبقى مع النبي - ﷺ - بعضٌ لئلا يبقى وحدَه.
ولئلا يخلو من خرج منهم من فائدة منه، فقال جلَّ وعزَّ:
(فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).
المعنى أنهم إِذَا بَقِيَتْ منهم بحضرة النبي - ﷺ - بقية فسَمِعُوا منه وَحْياً أعْلمُوا الذين نفروا ما علموا فاستوَوْا في العلم، ولم يخلوا منه.
وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون هذا دليلاً على فرض الجهاد يجزى
الجماعة فيه عن الجماعَة.
(غِلْظَةً) فيها ثلاث لغات غِلْظَة، وغُلْظَة، وغَلْظَةً.
فهذا دليل أنه ينبغي أن يُقَاتِلَ أهل كلِّ ثَغرٍ الذِينَ يَلُونَهُمْ وقيل إن هذا
يعنَى به العرب، وقيل إن النبي - ﷺ - كانَ ربَّما تخطى في حربه الذين يَلُونه من الأعداءِ ليكون ذلك أهيبَ له فأمر بقتال من يليه لِيسْتَنَّ بذلك.
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
أي اللَّهُ آمر مَنْ نَصَرة بالحِرب.
* * *
وقوله: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا).
المعنى: وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، ويقال إنهم هم المرجَوْن لأمر
الله.
* * *
وقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)
وأضاف الإِيمان إلى السُّورةِ لأنه يزيد بسببها.
* * *
وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥)
أي شَكٌّ ونفاق.
(فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
أي زادتهم كفْراً إِلى كفرهم، لأنهم كلما كفروا بسورة ازداد كفرهم.
* * *
وقوله: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
معناه يُخْتَبَرونَ في كل عام، وقيل يُختبرون بالدعاءِ إلى الجهاد.
وقيل يختبرون أنه ينزل عليهم العذاب والمكروه.
* * *
وقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
يقولون ذلك إِيماء لأنهم منافقون لا يظهرون ذلك.
(هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ).
وهو أعلم.
(ثُمَّ انْصَرَفُوا).
أي يفعلون ذلك وينصرفون، فجائز أنْ يكون ينصرفون عن المكان الذي
اسْتَحقُوا فيه، وجائز أن يكون ينصرفون عن العمل بشيء مما يستمعون.
(صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ).
أي أضلهم الله مُجازَاة على فعلهم.
* * *
وقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)
أي هو بَشَر مثلكم. أي فهو أوكد للحجة عليكم
لأنكم تفهمون عمَّن هو مثلكم.
وجائز أن يكون عنى به إنَّه عربي كما أنكم عربٌ، فأنتم تَخْبُرونَه وقد
وقفتم على مذهبه.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ).
أي عزيز عليه عنتكم، والعنتُ لقاءُ الشَدةِ.
(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ).
أي حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِكم.
* * *
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
أي الذي يكفيني اللَّه.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
والعظيمُ ههنا جائزان.
* * *
وقوله: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).
الزمان.
و" من " جائز دخولها لأنها الأصل في ابتداءِ الغاية والتبعيض.
ومثل هذا قول زهير:
لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحِجْرِ... أَقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دَهْرِ
وقيل إِن معنى هذا مُذْ حِجج ومُذْ شَهْر.