ﰡ
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
قوله عزّ وجلّ: لا أُقْسِمُ قال الزجاج: المعنى: أقسم. و «لا» دخلت توكيدا، كقوله عزّ وجلّ:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «١» وقرأ عكرمة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو العالية: «لأُقْسِمُ» قال الزجاج:
وهذه القراءة بعيدة في العربية، وقد شرحنا هذا في أول القيامة «٢».
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فيه ثلاثة أقوال: و (البلد) هاهنا: مكة «٣».
أحدها: حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتل وغيره، قاله ابن عباس، ومجاهد. قال الزجاج:
يقال: رجل حِلٌّ، وحَلاَل، ومُحِلٌّ، قال المفسرون: والمعنى: إن الله تعالى وعد نبيَّه أن يفتح مكة على يديه بأن يُحلَّها له، فيكون فيها حلّا. والثاني: وأنت مُحِلٌّ بهذا البلد غير مُحْرم في دخوله، يعني: عام الفتح، حلالا، قاله الحسن، وعطاء. والثالث: وأنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك، ويحرِّمون قتل الصيد، حكاه الثّعلبي.
قوله عزّ وجلّ: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه آدم. وما ولد، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة والثاني: إنّ الوالد إبراهيم، وما ولد: ذريته «٤»، قاله أبو عمران الجونيّ.
(٢) القيامة: ١.
(٣) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٢٠/ ٥٤: والْبَلَدِ هي مكة، أجمعوا عليه، أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه لكرامتك عليّ وحبي لك.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٥٨٧: والصواب من القول في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله أقسم بكل والد وولده. لأنّ الله عمّ كل والد وما ولد. وغير جائز أن يخصّ ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر، أو عقل. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٦٠٧: وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة والضحاك وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والسدي، والحسن البصري، وخصيف، وشرحبيل بن سعيد وغيرهم:
يعني بالوالد: آدم، وما ولد: ولده، قال: وهذا الذي ذهب إليه مجاهد حسن قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر وولده.
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هذا جواب القسم. وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: أنه أبو الأشد الجمحي، وقد سبق ذكره، قاله الحسن.
(١٥٣٤) والثالث: أنه الحارث بن عامر بن نوفل، وذلك أنه أذنب ذنباً، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالكفارة، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات، والنفقات منذ دخلت في دين محمد، قاله مقاتل.
والرابع: آدم عليه السلام، قاله ابن زيد. والخامس: الوليد بن المغيرة، حكاه الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: فِي كَبَدٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: في نَصَبٍ، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة، وأنهم قالوا: في شدة. قال الحسن: يكابد الشكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء، ولا يخلو من أحدهما، ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة. وقال ابن قتيبة: في شدة غلبةٍ ومكابدةٍ لأمور الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر، وهي معاناته. والثاني: أن المعنى: خلق منتصباً يمشي على رجلين، وسائر الحيوان غير منتصب، رواه مقسم عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك، وعطية، والفراء، فعلى هذا يكون معنى الكبد: الاستواء والاستقامة. والثالث: في وسط السماء، قال ابن زيد «١» :(لقد خلقنا الإنسان) يعني: آدم (في كبد) أي: في وسط السماء.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني الله عزّ وجلّ أي: أيحسب أن لن نقدر على بعثه، ومعاقبته؟! يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالا لُبَداً أي: كثيراً، قال أبو عبيدة: هو فعل من التلبُّد، وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال ابن قتيبة: وهو المال كأنَّ بعضَه على بعض. قال الزجاج: وهو فعل للكثرة، كما يقال: رجل حُطَم: إذا كان كثير الحطم. وقرأ أبو بكر الصديق، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وأبو العالية، وأبو جعفر «لُبَّدا» بضم اللام، وتشديد الباء مفتوحة. وقرأ عمر بن الخطّاب، وأبو المتوكّل، وأبو عمران «لبدا» برفع اللام وتسكين الباء خفيفة. وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد «لُبُداً» برفع اللام والباء وتخفيفهما. وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو الجوزاء «لِبَدَاً» بكسر اللام، وفتح الباء مخففة. وفيما قال لأجل ذلك قولان: أحدهما: أنه أراد: أهلكت مالاً كثيرا في عداوة محمّد صلّى الله عليه وسلم قاله ابن السائب، فكأنه استطال بما أنفق. والثاني: أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالاً كثيراً، قاله مقاتل. فكأنه ندم على ما أنفق.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني اللهَ عزّ وجلّ. والمعنى: أيظن أن الله لم ير نفقته، ولم يحصها؟! وكان قد ادّعى إنفاق ما لم ينفق.
__________
(١) اسمه عبد الرحمن.
والثالث: الثّديين ليتغذى بلبنهما، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن المسيّب، والضّحّاك، وقتادة.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١١ الى ٢٠]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
قوله عزّ وجلّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قال أبو عبيدة: فلم يقتحم العقبة في الدنيا. وقال ابن قتيبة:
فلا هو اقتحم العقبة. قال الفراء: لم يضم إلى قوله عزّ وجلّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ كلاماً آخر فيه «لا»، والعرب لا تكاد تفرد «لا» في كلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. ومعنى: «لا» موجود في آخر هذا الكلام، فاكتفى بواحدة من الأخرى، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة، فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فسّرها بثلاثة أشياء. فكأنّه قال في أول الكلام: فلا فعل ذا، ولا ذا ولا ذا. وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى: أفلا اقتحم العقبة؟ على وجه الاستفهام، والمعنى: فهلاَّ أنفق ماله في فَكِّ الرِّقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟! فأما: الاقتحام فقد بَيَّناه في (ص) «١». وفي العقبة سبعة أقوال: أحدها: أنه جبل في جهنم، قاله ابن عمر. والثاني: عقبة دون الجسر، قاله الحسن. والثالث: سبعون دركة في جهنم، قاله كعب.
والرابع: الصراط، قاله مجاهد، والضّحّاك والكلبي. والخامس: نار دون الجسر، قاله قتادة.
والسادس: طريق النجاة، قاله ابن زيد. والسابع: أن ذكر العقبة هاهنا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البِرِّ، فجعله كالذي يتكلَّف صعود العقبة. يقول: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة، والإطعام، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ قال سفيان بن عيينة: كلُّ ما فيه «وما أدراك»، فقد أخبره به، وكلُّ ما فيه «وما يدريك» فإنه لم يخبره به. قال المفسرون: المعنى: وما أدراك ما اقتحام العقبة؟.
ثم بيَّنه فقال عزّ وجلّ: فَكُّ رَقَبَةٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، إلا عبد الوارث، والكسائي، والداجوني عن ابن ذكوان «فَكَّ» بفتح الكاف «رَقَبَةَ» بالنصب «أو أطعم» بفتح الهمزة والميم وسكون الطاء من غير ألف، فعل ماض. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة «فكّ» برفع الكاف «رقبة» بالخفض «أو إطعام» بألف، ومعنى فك الرقبة: تخليصها من أسر الرق، وكل شيء أطلقته فقد فكَكْتَه ومن قرأ «فكّ رقبة»
قوله عزّ وجلّ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على فرائض الله وأمره وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالتّراحم بينهما.
وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في الواقعة «٣» قال الفراء: و «المؤصدة» : المطبقة. قال مقاتل:
يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. وقال ابن قتيبة: يقال: أَوْصَدْتُ الباب وآصدته: إذا أطبقته. وقال الزّجّاج: المعنى: أنّ العذاب مطبق عليهم.
قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي وأبو بكر عن عاصم «موصدة» بغير همزة هاهنا وفي «الهمزة» «٤». وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين.
(٢) يونس: ٤٦.
(٣) الواقعة: ٧، ٨.
(٤) الهمزة: ٨. [.....]