لم يكن خافيا على أهل الكتاب من كتبهم أن نبيا في آخر الزمان سيأتي. وكانت نعوته وأوصافه ظاهرة في كتبهم، بل كان كثير من أحبارهم يبشّر به وينتظر قدومه. وكان اليهود في المدينة يذكرون ذلك للأوس والخزرج ويهددونهم به، حيث زعموا أنه سينصرهم عليهم، لأنهم سيؤمنون به إذا بُعث. فلما بعث رسول الله مؤيَّدا بالقرآن الكريم اختلفوا، وأخلفوا وعدهم، وكفروا به.
فهذه السورة الكريمة، على قِصَرها، تعرض حقائق تاريخية، وتتحدث عن الإيمان وإخلاص العبادة، وأن بعثة الرسول الكريم ضرورية لتصحيح ما طرأ على الديانات السابقة لها من تحريف وتبديل. وهي تقرّر أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة منهم، ولا عن غموض فيه، وإنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البيّنة. وتؤكد السورة أن الدين كله أصله واحد، وأن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مصيرهم جهنم، لأنهم شر البرية، فيما المؤمنون خير البريّة ﴿ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن ﴾ لما قدّموا من أعمال صالحة ﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾.
ﰡ
المشركون : عَبَدَة الأصنام من العرب وغيرهم.
منفكّين : منتهين عما هم عليه، منصرفين عن غفلتهم.
البيّنة : الحجة الواضحة، والمراد بها هنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
كان العالَم قبل مبعث النبيّ عليه الصلاة والسلام مضطرباً وفي حالة سيئة من الفساد الذي عَمّ أرجاءَه، والظلم والاستبداد الطاغيينِ. وكان أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى والمشركون الوثنيّون يقولون قبل مبعث الرسول الكريم : لا ننفَكّ مما نحن عليه من دِيننا ولا نتركه حتى يُبعثَ النبيُّ الموعود الذي هو مكتوبٌ في التوراة والإنجيل. وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى هذه الآية الكريمة.
لم يكن الذين كفروا باللهِ ورسولِه من اليهودِ والنصارى ومن المشركين منتَهِين عما هم علَيه من الكُفر والجحود حتى تأتيَهم البيّنة.
والتي هي رسولٌ مبعوثٌ من عند الله يقرأُ عليهم القرآنَ الكريم في صُحُفٍ مطهَّرة منزَّهَةٍ عن الباطل.
وتحتوي كتباً تشتمل على أحكامٍ مستقيمة ناطقةٍ بالحقّ والصواب.
لم يختلف اليهودُ والنصارى في شأن محمد عليه الصلاة والسلام إلا من بعدِ ما جاءتهم الحجَّةُ الواضحة، والدالّةُ على أنه الرسولُ الموعود به في كتُبهم. وقد خُصّ أهلُ الكتاب هنا بالذِكر لأنهم يعلمون صحّةَ نبوّته بما يجدون في كتبهم.
لماذا لم يُؤمنوا بهذا النبيّ الكريم الذي يَعرفونه حقَّ المعرفة، مع أنه ما أَمَرَهُم إلا بعبادة الله وحدَه مخلِصين له الدينَ حُنفاء مستقيمين على الحق، وأن يُحافِظوا على الصلاة، ويؤدوا الزكاة.. وهذه الأوامر السامية هي دينُ الإسلام، دينُ الملّة المستقيمة ! ؟
إن كلَّ مَنْ كفر من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان مصيرُه جهنَّم خالداً فيها. وأمثالُه هم شرُّ الخليقة على الإطلاق.
قراءات
قرأ نافع وابن ذكوان : البريئة بالهمزة. والباقون : البريّة بدون همز.