سورة مريم
سميت بها لاشتمالها على نبئها الخارق. وقال المهايمي : لأن قصتها تشير إلى أن من اعتزل من أهله لعبادة الله، وطلب بها إشراق نوره، يرجى أن يكشف له عن صفات الحق وعن عالم الملكوت. وتظهر له الكرامات العجيبة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية النزول. واستثنى بعضهم منها آية السجدة ١ وآية ٢ : وإن منكم إلا واردها }.
وقد روى بن إسحق، في السيرة، من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه. وآياتها ثمان وتسعون.
٢ (١٩ مريم ٧١)..
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣)كهيعص سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف، المبتدأ بها.
وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها. وكونها خبر مبتدأ محذوف.
أي: هذا كهيعص أي مسمى به، وقوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا مبتدأ خبره محذوف. أي فيما يتلى عليك. أو خبر محذوف. أي هذا المتلوّ ذكرها.
و (زكريا) والد يحيى عليهما السلام. بدل من (عبده) أو عطف بيان له. قال المهايميّ: أي ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه السلام بمقتضى كمال ربوبيته.
فأعطاه ولدا كاملا في باب النبوة. فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى. وتولى تسميته ولم يشرك فيها من تقدمه. وذكرها لنا كبير هبة لنا، في تعريف مقام النبوة، وقدرة الله وعنايته بصفوته. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ظرف ل (رحمة) أو بدل اشتمال من (زكريا) والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره. والمراد به الدعاء. وقد راعى أدب الدعاء، وهو إخفاؤه، لكونه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص. ثم فسر الدعاء بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف. قال الزمخشريّ: وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن. وبه قوامه، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحّده، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ (وهن) بكسر
ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس.
وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين: أولاهما تصريحية تبعية في (اشتعل) بتشبيه انتشار المبيضّ في المسودّ باشتعال النار، كما قال ابن دريد في (مقصورته).
إمّا ترى رأسي حاكى لونه | طرّة صبح تحت أذيال الدجا |
واشتعل المبيضّ في مسودّه | مثل اشتعال النّار في جزل الغضا |
تنبيه:
استفيد من هذه الآيات آداب الدعاء وما يستحبّ فيه. فمنها الإسرار بالدعاء، لقوله (خفيّا) ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله: وَلَمْ أَكُنْ إلخ كما قدمنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٥ الى ٦]
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي أي الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به، من الإرشاد ووعظ
ثم بيّن تعالى استجابة دعاء زكريا بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي مثلا وشبيها. وعن ابن عباس: لم تلد العواقر قبله مثله. وروي أنه لم يعص، ولم يهمّ بمعصية قط.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٨]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا أي حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها. وقيل: إلى رياضته. وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر:
ومن العناء رياضة الهرم قال الراغب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٩]
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر، ثم وجدت.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم طلب أولا، وهو وامرأته على صفة العتيّ والعقر،
وقال أبو السعود: إنما قاله عليه السلام، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران، استعظاما لقدرة الله تعالى، وتعجيبا منها، واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله. مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة، لا استبعادا له. وقيل: كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. أي: أيكون الولد ونحن كذلك؟ فقيل: كذلك. أي يكون الولد وأنتما كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ١٠]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل، ليطمئن قلبي قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي: أن لا تقدر على تكليمهم، حال كونك سويا، بلا مرض في بدنك، ولا في لسانك.
لطيفة:
إنما ذكر (الليالي) هنا، و (الأيام) في آل عمران، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها. والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر. والنكتة في الاكتفاء ب (الليالي) هنا وب (الأيام) ثمّ، أن هذه السورة مكية سابقة النزول. وتلك مدنية. والليالي عندهم سابقة على الأيام. لأن شهورهم وسنيّهم قمرية، إنما تعرف بالأهلة. ولذلك اعتبروها، في التاريخ، كما ذكره النحاة، فأعطي السابق للسابق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ١١]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي مصلاه أو غرفته فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أشار إليهم رمزا أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي صلوا لله طرفي النهار، وقوله تعالى:
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢)
يا يَحْيى استئناف، طوى قبله جمل كثيرة، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. وهو وجود هذا الغلام المبشّر به، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا. فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه. أي: قلنا (يا يحيى) خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ أي تعلم التوراة بجدّ وحرص واجتهاد. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير، وهو صبيّ، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي وآتيناه حنانا: وهو التحنن والتعطف والشفقة. وتنوينه للتفخيم. أي رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. أو حنانا من الله عليه وَزَكاةً أي طهارة من الذنوب، وعصمة بليغة منها وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا أي متكبرا عاقّا لهما، أو عاصيا لربه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ١٥]
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
أي من الله يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
أي ليستقبل النعيم الأبديّ. و (السلام) بمعنى السلامة والأمان من الآفات. وفيه معنى التحية والتشريف. وفي ذكر الأحوال الثلاث، زيادة في العناية به، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ١٦]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
أي القرآن مَرْيَمَ
أي نبأها إِذِ انْتَبَذَتْ
أي اعتزلت وانفردت مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
أي شرقيّ بيت المقدس. لئلا يشغلوها عن العبادة.
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
أي لئلا تحجبها رؤية الخلق عن أنوار الحق فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
أي جبريل المنسوب إلى مقام عظمتنا، لغاية كماله، لينفخ فيها فَتَمَثَّلَ لَها
أي فتصور لرؤيتها بَشَراً سَوِيًّا
أي سويّ الخلق، كامل الصورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ١٨]
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
أي أعتصم به منك. إنما خافته لانفرادها في خلوتها، وظنها أنه يريدها على نفسها. وفي ذلك من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي تتقي الله تعالى، وتبالي بالاستعاذة به. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه. أي فإني عائذة به. أو فلا تتعرض لي. وإنّما ذكّرته بالله تعالى، لأن المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل. فخوفته أولا بالله عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ١٩]
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩)
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أي لا تخافي ولا تتوقعي ما توهمت. فإني رسول ربك الذي استعذت به، بعثني إليك لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
أي لأكون سببا في هبته. و (الزكيّ) الطاهر من الذنوب أو النامي على الخير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢٠]
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي تعجبت من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام، أي على أي صفة يوجد مني، ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور؟
قال الزمخشريّ: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧]، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء:
وقيل: جعل المس ثمّ، كناية عنهما، على سبيل التغليب. و (البغيّ) الفاجرة التي تبغي الرجال. ووزنه (فعول) ولذا لم تلحقه التاء، لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإن كان بمعنى فاعل كصبور. أو فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢١]
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
قالَ أي الملك كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي برهانا يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم. فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى. وخلق حواء من ذكر بلا أنثى. وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه وَرَحْمَةً مِنَّا أي عليك بهذه الكرامة، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، فيهتدون بهديه ويسترشدون بإرشاده. وقوله وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا من تتمة كلام جبريل لمريم. يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. أو من خبره تعالى لنبيه صلوات الله عليه. وأنه كنى به عن النفخ في فرجها. كما قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: ١٢]، وقال وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: ٩١].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢٢]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا أي لما صارت حاملا به، اعتزلت بسببه مكانا بعيدا من قومها، فرارا من القالة. وقد روي عن السلف أن جبريل لما قال لها، عن الله تعالى، ما قال، مما تقدم، استسلمت لقضاء الله تعالى فاطمأنت إلى قوله.
فدنا منها فنفخ في جيب درعها. فسرت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بإذن الله تعالى.
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي: فألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بالجذع لتعتمد عليه وتستتر به. و (أجاء) - قال الزمخشريّ- منقول من (جاء) إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. وقرئ (المخاض) بكسر الميم وكلاهما مصدر (مخضت المرأة) إذا تحرك الولد في بطنها للخروج قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا أي الحمل وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا أي شيئا تافها، شأنه أن ينسى ولا يعتد به. منسيّا لا يخطر على بال أحد. وهو نعت للمبالغة. وإنما قالت ذلك، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد. فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام- قال الزمخشريّ- لأنه مقام دحض، قلما تثبت عليه الأقدام، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر، تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به- عيبا يعاب به ويعنف بسببه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢٤]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
فَناداها مِنْ تَحْتِها أي من مكان أسفل منها، تحت أكمة، وهو جبريل.
وقيل: هو عيسى، وقرئ (من) بفتح الميم موصولة أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي سيدا نبيلا رفيعا، وقيل: نهرا يسري.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢٥]
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا أي حضر أوان اجتنائه.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلّى بالسريّ والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة، والبعد من الريبة، وأمن مثلها، مما
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢٦]
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أي بالكمال والولد المبارك، الموجود بالقدرة، الموهوب بالعناية. قال الزمخشريّ: أي جمعنا لك في السريّ والرطب فائدتين:
إحداهما الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر، لكونها معجزتين. وهو معنى قوله فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أي وطيبي نفسا ولا تغتمي. وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أي من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك. لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق. فإذا سألوك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي لا تكلميهم في أمرك شيئا. ولا تمادّيهم فيما لا يمكنهم قبوله. وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء، والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام. فإنه نص قاطع في براءة ساحتها، فقوله: صَوْماً. أي صمتا. وقوله: فَلَنْ أُكَلِّمَ إلخ تفسير للنذر بذكر صيغته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢٧]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي عظيما منكرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٢٨]
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا استئناف لتجديد التعبير، وتأكيد التوبيخ، وتقرير لكون ما جاءت به فريا. و (هارون) هو النبيّ الشهير، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى (المشابه) كثيرا.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ، قالُوا منكرين لجوابها كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ولم يعهد تكليم عاقل الصبيّ في المهد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنطقه الله بذلك. أولا تحقيقا للحق في شأنه وتنزيها لله تعالى عن الولد، ردّا على من يزعم ربوبيته ونبوّته آتانِيَ الْكِتابَ أي الإنجيل وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي كثير الخير حيثما وجدت. أبلغ وحي ربي لتقوم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات. والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو جعل الآتي، لا محالة، كأنه وجد وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا أي أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٦]
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي مستكبرا عن طاعته وأمره وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذلِكَ أي الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهانيّ. حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: ومن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟
تنبيهات في فوائد هذه القصة:
الأول- لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولدا زكيّا طاهرا مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران، وهاهنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. و (مريم) هي بنت عمران. من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.
الثاني- استدل بقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم: ١٧]، من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا [مريم: ٢٣]، على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: ٢٥] على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:
ألم تر أنّ الله قال لمريم | وهزّي إليك الجذع يسّاقط الرطب |
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه | إليها، ولكن كلّ شيء، له سبب |
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ بعد فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري، قال: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. وفي قوله تعالى ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
الثالث- نقل الرازيّ عن القاضي في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ
الرابع- قال القاشانيّ: وإنما تمثل لها بشرا سويّ الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة، لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا (قلبا) والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد، بمنزلة الإنفحة في الجبن. ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن، أي العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى. لا على معنى أن منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقد ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى.
والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءا من الولد. فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القويّة القوى، وكان مزاج كبدها حارّا، كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى.
فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويّا في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدّ الروحانيّ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.
ثم قال في قوله تعالى: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا في اللوح مقدرا في الأزل. وعن
فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس.
لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
. واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما؟ تزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح. انتهى.
الخامس- التمثّل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.
قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه.
لم يعيده إليه بعد.
وجزم ابن عبد السلام: بالإزالة دون الفناء وفرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
وقال البلقينيّ: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصليّ. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.
والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.
ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه.
فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم ﷺ فيه نص قاطع.
وكل ما كان كذلك فليس من شأننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٣٧]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى، بعد بيان أمره ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساما يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنّه فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبّر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم. وفي (مشهد) ستة أوجه. لأنه مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من (الشهود) أي الحضور أو (الشهادة). وهذا معنى قول الزمخشريّ: أي في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.
وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضا. كقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الكهف: ٥]، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد.
وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب با لحق لما جاءه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٣٨]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ.
ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا. والآية كقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: ١٢] الآية، أي يقولون
تنبيه:
إنما أوّل التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: ٢٢]، أفاده الشهاب.
وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزما للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزما لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا.
مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغنى له أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حيّ قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازما للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازما لذلك. هذا ما قرره الإمام تقيّ الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار، وصار كلّ إلى ما صار إليه مخلدا فيه وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتلوا عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيد الخالص، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ أي متلطّفا في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
أي فلا يدفع ضرّا ولا يجلب نفعا.
قال أبو السعود: ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج، وأقوم سبيل. واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب، بالكلية، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيّا مميزا سميعا بصيرا، قادرا على النفع والضر، مطيقا بإيصال الخير والشر، لكن كان ممكنا، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟.
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣)
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ أي وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي معتدلا لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايميّ:
أي وإن كان حق الأبن اتباع الأب في العرف، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.
قال الزمخشريّ: ثنّى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا. فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٤٤]
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤)
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا.
ثلّث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة، مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسوّل له، وقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ إلخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٤٥]
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لكونك عصيته وواليت عدوّه، فيقطع رحمته عنك، كما قطعها عن الشيطان فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي مقارنا له ومشاركا معه في عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٤٦]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
قالَ أي أبوه، مصرّا على عناده لفرط غلوّه في الضلال أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها. وإنما قدم الخبر على المبتدأ، لأنه كان أهم عنده. وصدّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة، على ضرب من التعجب.
كان الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلا عن ترغيب الغير عنها. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه.
وقوله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ تهديد متناه. أي لئن لم تنته عن القول فيها، وعن نصحك، لأرجمنك بالحجارة وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي تباعد عني زمانا طويلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٤٧]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي مبالغا في اللطف بي.
وفي جوابه بقوله عليه السلام سَلامٌ عَلَيْكَ مقابلة السيئة بالحسنة. كما قوله تعالى:
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣]، أي لا أصيبك بمكروه بعد.
ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك. كما قال: وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: ٨٦]، قال الزمخشريّ: وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح، والحال هذه. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة، استمالة له. ألا ترى أنه وعده بالاستغفار؟
وفي (الإكليل) : استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام.
وقال ابن كثير: قد استغفر إبراهيم ﷺ لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام. وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله:
١١٣- ١١٤]، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٤٨]
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)
وَأَعْتَزِلُكُمْ أي أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من أصنامكم.
قال الزمخشريّ: المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه
قوله ﷺ «١» : الدعاء هو العبادة.
ويدل عليه قوله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: ٤٩]، وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبده وحده عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم، مع التواضع لله بكلمة عَسى، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٤٩]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك بالمهاجرة إلى الشام وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي جعلنا له بنين وحفدة، أنبياء قرّت عينه بهم في حياته. بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة. وقوله تعالى:
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا أي ما عرف فيهم من النبوّة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي ثناء حسنا. عبّر ب (اللسان) عما يوجد باللسان. كما عبّر ب (اليد) عما يطلق باليد وهي العطية.
وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم، وأن مجاهدتهم لا تخفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك، وأسلم وجهه لله. وقرئ بفتحه. أي أخلصه الله، أي اصطفاه، كما قال إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: ١٤٤]، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي من جانبه الأيمن من موسى، حين ذهب يبتغى من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة. فنودي عندها وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أي مناجيا، أي كليما. إذ كلمناه بلا واسطة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٥٣]
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ليشد أزره في أداء الرسالة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ وهو ابن إبراهيم عليهما السلام. وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره، بإيراده مستقلّا. وقوله: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ تعليل للأمر. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف، وإن شاركه فيه
ولأنهم أولى من سائر الناس وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤]، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه: ١٣٢]، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: ٦]، ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الدينيّ أولى. أفاده الزمخشريّ. وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا هو شرف النبوّة والزلفى عند الله تعالى. فالعلوّ معنويّ. أو رفعه بجسده حيّا إلى السماء. قال الشهاب: قيل: والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه، كقوله:
وكن في مكان إذا ما سقطت | تقوم ورجلاك في عافية |
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٥٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٢٦٤.
وقوله تعالى الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي بفنون النعم الدينية والدنيوية مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة. مع ما لهم من علوّ الرتبة. وسموّ الزلفى عنده تعالى. وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة.
قال ابن كثير: أجمع العلماء على مشروعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد. وقال: هذا السجود فأين البكي.
ولما ذكر تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ذكر من نبذ دعوتهم ممن خلفهم، وما سينالهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٥٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وقرئ (الصلوات) بالجمع أي المتضمنة للسجود والأذكار، المستدعية للبكاء. وإذا أضاعوها، فهم لما سواها من الواجبات أضيع. لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أي فأتوا بما ينافي البكاء والأمور المرضية من الأخلاق والأعمال، من الانهماك في المعاصي التي هي بريد الكفر فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أي شرّا. قال الزمخشريّ: كل شر عند العرب غيّ، وكل خير رشاد. قال المرقش:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره | ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما |
والناس من يلق خيرا قائلون له | ما يشتهي. ولأمّ المخطئ الهبل |
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١)
إِلَّا مَنْ تابَ أي عن ترك الصلوات واتباع الشهوات وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ متعلق بمضمر العائد إلى الجنات. أو من (عباده) أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب. أي غائبة عنهم غير حاضرة. أو غائبين عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار. أو بمضمر هو سبب للوعد أي وعدها إياهم بسبب إيمانهم، أفاده أبو السعود إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي لا يخلفه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً أي لا يسمعون فيها فضول كلام لا طائل تحته. وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. قال الزمخشريّ رحمه الله: فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه. حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: ٧٢]، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: ٥٥]، نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا.
ومعنى إِلَّا سَلاماً أي تسليما. تسليم الملائكة عليهم، أو بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع كما قال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: ٢٥- ٢٦]، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وهم المتصفون بشعب الإيمان، المسرودة في مواضع شتى من آي القرآن. ولما قص سبحانه من أنباء الأنبياء عليهم السلام ما قص، مثبتا له، وعقبه بما أحدثه الخلف، وذكر جزاءهم- عقبه بحكاية نزول جبريل عليه
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٦٤]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ينسى شيئا ما، بل لا يفيض علما ولا ينزل ملكا إلا لحكمة يستعد لها الحال، أي فليس عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك. وفي إعادة اسم (الرب) المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق، مضافا إلى ضميره عليه السلام، من تشريفه والإشعار بعلة الحكم، ما لا يخفى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٦٥]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي من التوابع والنجيمات والسحب وغير ذلك.
قال بعض علماء الفلك: الآية تدل على أن السموات أكثر من سبع. وأن ذكر السبع ليس للحصر كما قدمناه في البقرة، من أن السموات عني بها الكواكب، والأرض كوكب منها. قال أبو السعود: الآية بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى. فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما، كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة والنسيان. وهو خبر محذوف. أو بدل من (ربك). فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي اثبت لها على الدوام. وقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا وكفؤا، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه، فيفيض عليك مطلوبك. والجملة تقرير لوجوب عبادته وحده. أي إذا صح أن لا مثل له، ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بدّ من التسليم لأمره، والقيام بعبادته، والاصطبار على مشاقّها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٦٦]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦)
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أأخرج حيّا بعد ما لبثت في القبر مدة.
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي قبل جعله ترابا ونطفة.
وكان عدما صرفا لا وجود له في الأعيان. فلا تبعد إعادته.
قال أبو السعود: وفي الإظهار موضع الإضمار، زيادة التقرير بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنحية بالقلع عن القول المذكور.
وهو السرّ في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان. أي ما أعجب الإنسان في إنكاره وعدم تذكره لما ذكر، وهو الذي أعطى العقل لينظر في العواقب، وأنعم عليه بخلق السموات والأرض وما بينهما، ليعرف المنعم فيشكره، ويعبده فيجازى على فعله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٦٨]
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ أي لنحشرن المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا جمع (جاث).
من (جثا) إذا قعد على ركبتيه. وذلك لهول المطلع. فلا يستطيعون قياما. كقوله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: ٢٨].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٦٩]
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي لنخرجن إلى النار، من كل فرقة، الذي هو أشد على الرحمن، الذي رحمه بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وتعريف مضار الشهوات بالعقل والنقل، عِتِيًّا أي جراءة بإيثار الشهوات على أمره وعدم مبالاته به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٠]
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وهم المنتزعون. فإنهم أولى الشيع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧١]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أي ليس أحد منكم، من برّ وفاجر، إلا وهو يردها.
كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي حكما جزما مقطوعا به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٢]
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
ثُمَّ أي بعد الورود والإحضار للتعريف نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أي لا يمكنهم التجاوز عنها.
قال الزمخشريّ: فيه دليل على أن المراد بالورود، الجثوّ حواليها. وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة، بعد تجاثيهم. وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٣]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً أي موضعا ومكانا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجتمعا للقوم، والمعنى أن هؤلاء الكفرة إذا تليت عليهم آياته تعالى بينة الحجة واضحة البرهان على مقاصدها، أعرضوا وأخذوا يحتجون على فضل ما هم عليه بكونهم أوفر حظا من الدنيا، لكونهم أحسن منازل وأرفع دورا وأعمر ناديا وأكثر طارقا وواردا، أي فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الحق؟ كما قال تعالى مخبرا عنهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: ١١]، وقال قوم نوح أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: ١١١]، وقال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. [الأنعام: ٥٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٤]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً أي متاعا وَرِءْياً أي منظرا وهيئة، من عظم الجاه، فما أغنى عنهم من عذاب الله شيئا. كما قال تعالى عن قوم فرعون المغرقين كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان:
٢٥- ٢٦]، ورِءْياً فعل بمعنى مفعول كالطّحن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٥]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي من كان مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور. وهم المذكورون قبل، ومن شاكلهم، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ أي يمدّ له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال. وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة، لقطع المعاذير. كما ينبئ عنه قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: ٣٧]، أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران:
١٧٨]، وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس والإمهال. أي فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، إما بعذاب يصيبه، وإما الساعة بغتة. وقد بيّن سبحانه غاية المد بقوله:
حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً أي فئة وأنصارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٦]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي الأعمال التي تبقى
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٧]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ أي في الآخرة مالًا وَوَلَداً أي انظر إلى هذا القائل المجترئ على الغيب، ما أكفره!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٧٨]
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي بذلك، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي نحفظه عليه للمؤاخذة به وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا بمضاعفته له، جزاء لاستهزائه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد، فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه وَيَأْتِينا فَرْداً أي في الحشر، لا يصحبه مال ولا ولد. فما يجدي عليه تمنّيه وتألّيه.
وقد روى البخاريّ «١» : عن خباب رضي الله عنه، قال: كنت قينا- حدّادا- في الجاهلية بمكة. فعملت للعاص بن وائل سيفا، فجئت أتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. قلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال. فذرني حتى أموت، ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك. فنزلت الآية. قال ابن عباس:
فضرب الله مثله في القرآن.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عزّ وجلّ، وشفعاء عنده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٨٢]
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)
كَلَّا أي ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي يريدون إهلاكهم، إذ أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك، كما قال تعالى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: ٥- ٦]. وقال تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل: ٨٦]، قيل: المراد بالآلهة من عبد من ذوي العلم. لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم. وقيل: الأصنام. بأن يخلق الله فيهم قوة النطق، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء. وقيل: الأعم منهما، وهو الأظهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٨٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي بأن سلّطناهم عليهم ومكّنّاهم من إضلالهم. أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تغريهم وتهيجهم على المعاصي، بالتسويلات وتحبيب الشهوات، تهيجا شديدا.
قال الزمخشريّ: الأز والهز والاستفزاز أخوات. ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم.
فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى:
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم. و (الفاء) للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهيّ عنه، محوجة إلى النهي. يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وقوله تعالى: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تعليل لموجب النهي، ببيان اقتراب هلاكهم. أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، ونحوه قوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف: ٣٥].
قال الشهاب: العدّ كناية عن القلة. وقلته لتقضّيه وفنائه، كما قال المأمون (ما كان ذا عدد، ليس له مدد، فما أسرع ما نفد) ولا ينافي هذا ما مرّ من أنه يمد لمن كان في الضلالة. أي يطوّل. لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم. وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله. ولله در القائل:
إن الحبيب من الأحباب مختلس | لا يمنع الموت بوّاب ولا حرس |
وكيف يفرح بالدنيا ولذّتها | فتى يعدّ عليه اللفظ والنّفس |
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي وافدين عليه. وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد. ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم، المزور والزائر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٨٦]
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي عطاشا. وفي ذكرهم بالسّوق إشعار بإهانتهم واستخفافهم. كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورد: الذهاب إلى الماء، ويطلق على الذاهبين إليه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٨٧]
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً الضمير لأصنامهم المتقدم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي عظيما منكرا. وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل. ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ أي يتشقّقن وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ أي لأن دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وذلك لغيرتها على المقام الربانيّ الأحديّ أن ينسب له ما ينزه عنه ويشعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي منفردا مجردا من الأتباع والأنصار، وعمن زعم أن له من الشفعاء. فإنهم منهم برآء. ولما فصل مساوئ الكفرة، تأثره بمحاسن البررة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٩٦]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود. كذا قالوا في تأويله. وقال أبو مسلم: معناه أنه يهب لهم ما يحبون. قال: والود والمحبة سواء. آتيت فلانا محبته. وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده. ومن كلامهم:
وددت لو كان كذا. أي أحببت. فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة. ثم قال أبو مسلم: وهذا القول الثاني أولى لوجوه: أحدها- كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين؟
وثانيها- أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين؟ وثالثها- أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم. فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. انتهى. وقد حاول الرازيّ التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني. والحق أحق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٩٧]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهلنا هذا القرآن بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، بالجنة وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا
قال الزمخشريّ: هذه خاتمة السورة ومقطعها. فكأنه قال: بلّغ هذا المنزل، أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه إلخ، أي فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم.
وقال الرازيّ: بيّن به بهذا، عظيم موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوّة، والحشر والنشر، والرد على فرق المضلين المبطلين. وأنه يسّر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم، وقد ذكرهم بأبلغ وصف سيء وهو اللدد. لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه.
ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (١٩) : آية ٩٨]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي قوم لدّ، مثل هؤلاء، إهلاكا عظيما هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي تشعر به وتراه أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيّا.
والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم. وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يتداركوا بالتوبة.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة طهوهي مكية. وقيل: إلّا قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: ١٣٠] الآية. وقوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: ١٣١] الآية، وآياتها مائة وخمس وثلاثون.