تفسير سورة المؤمنون

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
رَوَى الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( لَمَّا خَلَقَ اللَّه جَنَّة عَدْن وَغَرَسَ أَشْجَارهَا بِيَدِهِ قَالَ لَهَا تَكَلَّمِي فَقَالَتْ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ).
وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن السَّائِب قَالَ : حَضَرْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْفَتْح فَصَلَّى فِي قِبَل الْكَعْبَة، فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَاره فَافْتَتَحَ سُورَة الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا جَاءَ ذِكْر مُوسَى أَوْ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام أَخَذَتْهُ سَعْلَة فَرَكَعَ.
خَرَّجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ.
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْي سُمِعَ عِنْد وَجْهه كَدَوِيِّ النَّحْل ; وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَة فَسُرِّيَ عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَة فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ :( اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا - ثُمَّ قَالَ - أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْر آيَات مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّة - ثُمَّ قَرَأَ - قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) حَتَّى خَتَمَ عَشْر آيَات ; صَحَّحَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَقَالَ النَّحَّاس : مَعْنَى " مَنْ أَقَامَهُنَّ " مَنْ أَقَامَ عَلَيْهِنَّ وَلَمْ يُخَالِف مَا فِيهِنَّ ; كَمَا تَقُول : فُلَان يَقُوم بِعَمَلِهِ.
ثُمَّ نَزَلَ بَعْد هَذِهِ الْآيَات فَرْض الْوُضُوء وَالْحَجّ فَدَخَلَ مَعَهُنَّ.
وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " بِضَمِّ الْأَلِف عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول ; أَيْ أُبْقُوا فِي الثَّوَاب وَالْخَيْر.
وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " مَعْنَى الْفَلَاح لُغَة وَمَعْنَى، وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده.
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
" خَاشِعُونَ " رَوَى الْمُعْتَمِر عَنْ خَالِد عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُر إِلَى السَّمَاء فِي الصَّلَاة ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَة " الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتهمْ خَاشِعُونَ ".
فَجَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُر حَيْثُ يَسْجُد.
وَفِي رِوَايَة هُشَيْم : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَلْتَفِتُونَ فِي الصَّلَاة وَيَنْظُرُونَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتهمْ خَاشِعُونَ " ; فَأَقْبَلُوا عَلَى صَلَاتهمْ وَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ أَمَامهمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي حُكْم الْمُصَلِّي إِلَى حَيْثُ يَنْظُر فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْل " فَوَلِّ وَجْهك شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام " [ الْبَقَرَة : ١٤٤ ].
وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَعْنَى الْخُشُوع لُغَة وَمَعْنًى فِي الْبَقَرَة أَيْضًا عِنْد قَوْله تَعَالَى :" وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ " [ الْبَقَرَة : ٤٥ ].
وَالْخُشُوع مَحَلّه الْقَلْب ; فَإِذَا خَشَعَ خَشَعَتْ الْجَوَارِح كُلّهَا لِخُشُوعِهِ ; إِذْ هُوَ مَلِكهَا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ أَوَّل الْبَقَرَة.
وَكَانَ الرَّجُل مِنْ الْعُلَمَاء إِذَا أَقَامَ الصَّلَاة وَقَامَ إِلَيْهَا يَهَاب الرَّحْمَن أَنْ يَمُدّ بَصَره إِلَى شَيْء وَأَنْ يُحَدِّث نَفْسه بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا.
وَقَالَ عَطَاء : هُوَ أَلَّا يَعْبَث بِشَيْءٍ مِنْ جَسَده فِي الصَّلَاة.
وَأَبْصَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعْبَث بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاة فَقَالَ :( لَوْ خَشَعَ قَلْب هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحه ).
وَقَالَ أَبُو ذَرّ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
( إِذَا قَامَ أَحَدكُمْ إِلَى الصَّلَاة فَإِنَّ الرَّحْمَة تُوَاجِههُ فَلَا يُحَرِّكَنَّ الْحَصَى ".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَقَالَ الشَّاعِر :
أَلَا فِي الصَّلَاة الْخَيْر وَالْفَضْل أَجْمَع... لِأَنَّ بِهَا الْآرَاب لِلَّهِ تَخْضَع
وَأَوَّل فَرْض مِنْ شَرِيعَة دِيننَا... وَآخِر مَا يَبْقَى إِذَا الدِّين يُرْفَع
فَمَنْ قَامَ لِلتَّكْبِيرِ لَاقَتْهُ رَحْمَة... وَكَانَ كَعَبْدٍ بَابَ مَوْلَاهُ يَقْرَع
وَصَارَ لِرَبِّ الْعَرْش حِين صَلَاته... نَجِيًّا فَيَا طُوبَاهُ لَوْ كَانَ يَخْشَع
وَرَوَى أَبُو عُمَر أَنَّ الْجَوْنِيّ قَالَ : قِيلَ لِعَائِشَةَ مَا كَانَ خُلُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : أَتَقْرَءُونَ سُورَة الْمُؤْمِنِينَ ؟ قِيلَ نَعَمْ.
قَالَتْ : اِقْرَءُوا ; فَقُرِئَ عَلَيْهَا " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حَتَّى بَلَغَ - يُحَافِظُونَ ".
وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْحَظ فِي صَلَاته يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقه خَلْف ظَهْره.
وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك فِي حَدِيثه الطَّوِيل : ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ - يَعْنِي مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُسَارِقهُ النَّظَر، فَإِذَا أَقْبَلْت عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ وَإِذَا اِلْتَفَتّ نَحْوه أَعْرَضَ عَنِّي... الْحَدِيث ; وَلَمْ يَأْمُرهُ بِإِعَادَةٍ.
اِخْتَلَفَ النَّاس فِي الْخُشُوع، هَلْ هُوَ مِنْ فَرَائِض الصَّلَاة أَوْ مِنْ فَضَائِلهَا وَمُكَمِّلَاتهَا عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالصَّحِيح الْأَوَّل، وَمَحَلّه الْقَلْب، وَهُوَ أَوَّل عِلْم يُرْفَع مِنْ النَّاس ; قَالَهُ عُبَادَة بْن الصَّامِت، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث جُبَيْر بْن نُفَيْر عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء، وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب.
وَقَدْ خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث جُبَيْر بْن نُفَيْر أَيْضًا عَنْ عَوْف بْن مَالِك الْأَشْجَعِيّ مِنْ طَرِيق صَحِيحَة.
قَالَ أَبُو عِيسَى : وَمُعَاوِيَة بْن صَالِح ثِقَة عِنْد أَهْل الْحَدِيث، وَلَا نَعْلَم أَحَدًا تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْر يَحْيَى بْن سَعِيد الْقَطَّان.
قُلْت : مُعَاوِيَة بْن صَالِح أَبُو عَمْرو وَيُقَال أَبُو عُمَر الْحَضْرَمِيّ الْحِمْصِيّ قَاضِي الْأَنْدَلُس، سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فَقَالَ : صَالِح الْحَدِيث، يُكْتَب حَدِيثه وَلَا يُحْتَجّ بِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهِ قَوْل يَحْيَى بْن مَعِين، وَوَثَّقَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبُو زُرْعَة الرَّازِيّ، وَاحْتَجَّ بِهِ مُسْلِم فِي صَحِيحه.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
وَتَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَى اللَّغْو وَالزَّكَاة فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ.
وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ اللَّغْو هُنَا الشِّرْك.
وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّهُ الْمَعَاصِي كُلّهَا.
فَهَذَا قَوْل جَامِع يَدْخُل فِيهِ قَوْل مَنْ قَالَ : هُوَ الشِّرْك ; وَقَوْل مَنْ قَالَ هُوَ الْغِنَاء ; كَمَا رَوَى مَالِك بْن أَنَس عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر، عَلَى مَا يَأْتِي فِي " لُقْمَان " بَيَانه.
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ
وَمَعْنَى " فَاعِلُونَ " أَيْ مُؤَدُّونَ ; وَهِيَ فَصِيحَة، وَقَدْ جَاءَتْ فِي كَلَام الْعَرَب.
قَالَ أُمَيَّة اِبْن أَبِي الصَّلْت :
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ :" مِنْ غَرِيب الْقُرْآن أَنَّ هَذِهِ الْآيَات الْعَشْر عَامَّة فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، كَسَائِرِ أَلْفَاظ الْقُرْآن الَّتِي هِيَ مُحْتَمِلَة لَهُمْ فَإِنَّهَا عَامَّة فِيهِمْ، إِلَّا قَوْل " وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ " فَإِنَّمَا خَاطَبَ بِهَا الرِّجَال خَاصَّة دُون الزَّوْجَات، " إِلَّا عَلَى أَزْوَاجهمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهمْ " وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظ الْمَرْأَة فَرْجهَا مِنْ أَدِلَّة أُخَر كَآيَاتِ الْإِحْصَان عُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّة.
قُلْت : وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي الْآيَة فَلَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ أَنْ يَطَأهَا مَنْ تَمْلِكهُ إِجْمَاعًا مِنْ الْعُلَمَاء ; لِأَنَّهَا غَيْر دَاخِلَة فِي الْآيَة، وَلَكِنَّهَا لَوْ أَعْتَقَتْهُ بَعْد مِلْكهَا لَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجهَا كَمَا يَجُوز لِغَيْرِهِ عِنْد الْجُمْهُور.
وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ أَنَّهَا لَوْ أَعْتَقَتْهُ حِين مَلَكَتْهُ كَانَا عَلَى نِكَاحهمَا.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا يَقُلْ هَذَا أَحَد مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار ; لِأَنَّ تَمَلُّكهَا عِنْدهمْ يُبْطِل النِّكَاح بَيْنهمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلَاقٍ وَإِنَّمَا هُوَ فَسْخ لِلنِّكَاحِ ; وَأَنَّهَا لَوْ أَعْتَقَتْهُ بَعْد مِلْكهَا لَهُ لَمْ يُرَاجِعهَا إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيد وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّة مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّد بْن الْحَكَم : سَمِعْت حَرْمَلَة بْن عَبْد الْعَزِيز قَالَ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ الرَّجُل يَجْلِد عُمَيْرَة، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَة " وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ " - إِلَى قَوْله - " الْعَادُونَ ".
وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يُكَنُّونَ عَنْ الذَّكَر بِعُمَيْرَةَ ; وَفِيهِ يَقُول الشَّاعِر :
الْمُطْعِمُونَ الطَّعَام فِي السَّنَة الْأَزْ مَة وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ
إِذَا حَلَلْت بِوَادٍ لَا أَنِيس بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَة لَا دَاء وَلَا حَرَج
وَيُسَمِّيه أَهْل الْعِرَاق الِاسْتِمْنَاء، وَهُوَ اِسْتِفْعَال مِنْ الْمَنِيّ.
وَأَحْمَد بْن حَنْبَل عَلَى وَرَعه يُجَوِّزهُ، وَيُحْتَجّ بِأَنَّهُ إِخْرَاج فَضْلَة مِنْ الْبَدَن فَجَازَ عِنْد الْحَاجَة ; أَصْله الْفَصْد وَالْحِجَامَة.
وَعَامَّة الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيمه.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّهُ كَالْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ مَعْصِيَة أَحْدَثَهَا الشَّيْطَان وَأَجْرَاهَا بَيْن النَّاس حَتَّى صَارَتْ قَيْلَة، وَيَا لَيْتَهَا لَمْ تُقَلْ ; وَلَوْ قَامَ الدَّلِيل عَلَى جَوَازهَا لَكَانَ ذُو الْمُرُوءَة يُعْرِض عَنْهَا لِدَنَاءَتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا خَيْر مِنْ نِكَاح الْأَمَة ; قُلْنَا : نِكَاح الْأَمَة وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَة عَلَى مَذْهَب بَعْض الْعُلَمَاء خَيْر مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِل أَيْضًا، وَلَكِنْ الِاسْتِمْنَاء ضَعِيف فِي الدَّلِيل عَارٍ بِالرَّجُلِ الدَّنِيء فَكَيْفَ بِالرَّجُلِ الْكَبِير.
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ مِنْ أَزْوَاجهمْ اللَّاتِي أَحَلَّ اللَّه لَهُمْ لَا يُجَاوَزُونَ.
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
فِي مَوْضِع خَفْض مَعْطُوفَة عَلَى " أَزْوَاجهمْ " وَ " مَا " مَصْدَرِيَّة.
وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيم الزِّنَى وَمَا قُلْنَاهُ مِنْ الِاسْتِنْمَاء وَنِكَاح الْمُتْعَة ; لِأَنَّ الْمُتَمَتَّع بِهَا لَا تَجْرِي مَجْرَى الزَّوْجَات، لَا تَرِث وَلَا تُورَث، وَلَا يَلْحَق بِهِ وَلَدهَا، وَلَا يُخْرَج مِنْ نِكَاحهَا بِطَلَاقٍ يُسْتَأْنَف لَهَا، وَإِنَّمَا يُخْرَج بِانْقِضَاءِ الْمُدَّة الَّتِي عُقِدَتْ عَلَيْهَا وَصَارَتْ كَالْمُسْتَأْجَرَةِ.
اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنْ قُلْنَا إِنَّ نِكَاح الْمُتْعَة جَائِز فَهِيَ زَوْجَة إِلَى أَجَل يَنْطَلِق عَلَيْهَا اِسْم الزَّوْجِيَّة.
وَإِنْ قُلْنَا بِالْحَقِّ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّة مِنْ تَحْرِيم نِكَاح الْمُتْعَة لَمَا كَانَتْ زَوْجَة فَلَمْ تَدْخُل فِي الْآيَة.
قُلْت : وَفَائِدَة هَذَا الْخِلَاف هَلْ يَجِب الْحَدّ وَلَا يَلْحَق الْوَلَد كَالزِّنَى الصَّرِيح أَوْ يُدْفَع الْحَدّ لِلشُّبْهَةِ وَيُلْحَق الْوَلَد، قَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا.
وَقَدْ كَانَ لِلْمُتْعَةِ فِي التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم أَحْوَال ; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَة ثُمَّ حَرَّمَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَن خَيْبَر، ثُمَّ حَلَّلَهَا فِي غَزَاة الْفَتْح ; ثُمَّ حَرَّمَهَا بَعْد ; قَالَهُ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَقَدْ مَضَى فِي " النِّسَاء " الْقَوْل فِيهَا مُسْتَوْفًى.
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
فَسَمَّى مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلّ عَادِيًا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدّ لِعُدْوَانِهِ، وَاللَّائِط عَادٍ قُرْآنًا وَلُغَة، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى :" بَلْ أَنْتُمْ قَوْم عَادُونَ " [ الشُّعَرَاء : ١٦٦ ] وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْأَعْرَاف " ; فَوَجَبَ أَنْ يُقَام الْحَدّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا ظَاهِر لَا غُبَار عَلَيْهِ.
قُلْت : فِيهِ نَظَر، مَا لَمْ يَكُنْ جَاهِلًا أَوْ مُتَأَوِّلًا، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاع مُنْعَقِدًا عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى :" وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجهمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْر مَلُومِينَ " خُصَّ بِهِ الرِّجَال دُون النِّسَاء ; فَقَدْ رَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَ : تَسَرَّرَتْ اِمْرَأَة غُلَامهَا ; فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَسَأَلَهَا : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : كُنْت أَرَاهُ يَحِلّ لِي بِمِلْكِ يَمِينِي كَمَا يَحِلّ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَة بِمِلْكِ الْيَمِين ; فَاسْتَشَارَ عُمَر فِي رَجْمهَا أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : تَأَوَّلَتْ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْر تَأْوِيله، لَا رَجْم عَلَيْهَا.
فَقَالَ عُمَر : لَا جَرَم ! وَاَللَّه لَا أُحِلّك لِحُرٍّ بَعْده أَبَدًا.
عَاقَبَهَا بِذَلِكَ وَدَرَأَ الْحَدّ عَنْهَا، وَأَمَرَ الْعَبْد أَلَّا يَقْرَبهَا.
وَعَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد اللَّه أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُول : أَنَا حَضَرْت عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز جَاءَتْهُ اِمْرَأَة بِغُلَامٍ لَهَا وَضِيء فَقَالَتْ : إِنِّي اسْتَسْرَرْتُهُ فَمَنَعَنِي بَنُو عَمِّي عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَنَا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُل تَكُون لَهُ الْوَلِيدَة فَيَطَؤُهَا ; فَانْهَ عَنِّي بَنِي عَمِّي ; فَقَالَ عُمَر : أَتَزَوَّجْت قَبْله ؟ قَالَتْ نَعَمْ ; قَالَ : أَمَا وَاَللَّه لَوْلَا مَنْزِلَتك مِنْ الْجَهَالَة لَرَجَمْتُك بِالْحِجَارَةِ ; وَلَكِنْ اِذْهَبُوا بِهِ فَبِيعُوهُ إِلَى مَنْ يَخْرُج بِهِ إِلَى غَيْر بَلَدهَا.
وَ " وَرَاء " بِمَعْنَى سِوَى، وَهُوَ مَفْعُول بِ " اِبْتَغَى " أَيْ مَنْ طَلَبَ سِوَى الْأَزْوَاج وَالْوَلَائِد الْمَمْلُوكَة لَهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ فَمَنْ اِبْتَغَى مَا بَعْد ذَلِكَ ; فَمَفْعُول الِابْتِغَاء مَحْذُوف، وَ " وَرَاء " ظَرْف.
وَ " ذَلِكَ " يُشَار بِهِ إِلَى كُلّ مَذْكُور مُؤَنَّثًا كَانَ أَوْ مُذَكَّرًا.
" فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ " أَيْ الْمُجَاوِزُونَ الْحَدّ ; مَنْ عَدَا أَيْ جَاوَزَ الْحَدّ وَجَازَهُ.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
قَرَأَ الْجُمْهُور " لِأَمَانَاتِهِمْ " بِالْجَمْعِ.
وَابْن كَثِير بِالْإِفْرَادِ.
وَالْأَمَانَة وَالْعَهْد يَجْمَع كُلّ مَا يَحْمِلهُ الْإِنْسَان مِنْ أَمْر دِينه وَدُنْيَاهُ قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَهَذَا يَعُمّ مُعَاشَرَة النَّاس وَالْمَوَاعِيد وَغَيْر ذَلِكَ ; وَغَايَة ذَلِكَ حِفْظه وَالْقِيَام بِهِ.
وَالْأَمَانَة أَعَمّ مِنْ الْعَهْد، وَكُلّ عَهْد فَهُوَ أَمَانَة فِيمَا تَقَدَّمَ فِيهِ قَوْل أَوْ فِعْل أَوْ مُعْتَقَد.
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
قَرَأَ الْجُمْهُور " صَلَوَاتهمْ " وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " صَلَاتهمْ " بِالْإِفْرَادِ ; وَهَذَا الْإِفْرَاد اِسْم جِنْس فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمِيع.
وَالْمُحَافَظَة عَلَى الصَّلَاة إِقَامَتهَا وَالْمُبَادَرَة إِلَيْهَا أَوَائِل أَوْقَاتهَا، وَإِتْمَام رُكُوعهَا وَسُجُودهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى.
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ
أَيْ مَنْ عَمِلَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَات فَهُمْ الْوَارِثُونَ ; أَيْ يَرِثُونَ مَنَازِل أَهْل النَّار مِنْ الْجَنَّة.
وَفِي الْخَبَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَان مَسْكَنًا فِي الْجَنَّة وَمَسْكَنًا فِي النَّار فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَأْخُذُونَ مَنَازِلهمْ وَيَرِثُونَ مَنَازِل الْكُفَّار وَيَجْعَل الْكُفَّار فِي مَنَازِلهمْ فِي النَّار ).
خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَيْضًا قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِل فِي الْجَنَّة وَمَنْزِل فِي النَّار فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّار وَرِثَ أَهْل الْجَنَّة مَنْزِله فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" أُولَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ " ).
إِسْنَاده صَحِيح.
وَيَحْتَمِل أَنْ يُسَمَّى الْحُصُول عَلَى الْجَنَّة وِرَاثَة مِنْ حَيْثُ حُصُولهَا دُون غَيْرهمْ، فَهُوَ اِسْم مُسْتَعَار عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
وَالْفِرْدَوْس رَبْوَة الْجَنَّة وَأَوْسَطهَا وَأَفْضَلهَا.
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الرُّبَيِّع بِنْت النَّضْر أُمّ حَارِثَة، وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَفِي حَدِيث مُسْلِم ( فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّه فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْس فَإِنَّهُ أَوْسَط الْجَنَّة وَأَعْلَى الْجَنَّة وَمِنْهُ تَفَجَّر أَنْهَار الْجَنَّة ).
قَالَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حِبَّان : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَإِنَّهُ أَوْسَط الْجَنَّة ) يُرِيد أَنَّ الْفِرْدَوْس فِي وَسَط الْجِنَان فِي الْعَرْض وَهُوَ أَعْلَى الْجَنَّة، يُرِيد فِي الِارْتِفَاع.
وَهَذَا كُلّه يُصَحِّح قَوْل أَبِي هُرَيْرَة : إِنَّ الْفِرْدَوْس جَبَل الْجَنَّة الَّتِي تَتَفَجَّر مِنْهُ أَنْهَار الْجَنَّة.
وَاللَّفْظَة فِيمَا قَالَ مُجَاهِد : رُومِيَّة عُرِّبَتْ.
وَقِيلَ : هِيَ فَارِسِيَّة عُرِّبَتْ.
وَقِيلَ : حَبَشِيَّة ; وَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُوَ وِفَاق بَيْن اللُّغَات.
وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ عَرَبِيّ وَهُوَ الْكَرْم ; وَالْعَرَب تَقُول لِلْكُرُومِ فَرَادِيس.
" هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " فَأُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْجَنَّة.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ
الْإِنْسَان هُنَا آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ; قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره، لِأَنَّهُ اِسْتَلَّ مِنْ الطِّين.
وَيَجِيء الضَّمِير فِي قَوْله :" ثُمَّ جَعَلْنَاهُ " عَائِدًا عَلَى اِبْن آدَم، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُذْكَر لِشُهْرَةِ الْأَمْر ; فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا يَصْلُح إِلَّا لَهُ.
نَظِير ذَلِكَ " حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ " [ ص : ٣٢ ].
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالسُّلَالَةِ اِبْن آدَم ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
وَالسُّلَالَة عَلَى هَذَا صَفْوَة الْمَاء، يَعْنِي الْمَنِيّ.
وَالسُّلَالَة فُعَالَة مِنْ السَّلّ وَهُوَ اِسْتِخْرَاج الشَّيْء مِنْ الشَّيْء ; يُقَال : سَلَلْت الشَّعْر مِنْ الْعَجِين، وَالسَّيْف مِنْ الْغِمْد فَانْسَلَّ ; وَمِنْهُ قَوْله :
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابك تَنْسُل
فَالنُّطْفَة سُلَالَة، وَالْوَلَد سَلِيل وَسُلَالَة ; عَنَى بِهِ الْمَاء يُسَلّ مِنْ الظَّهْر سَلًّا.
قَالَ الشَّاعِر :
فَجَاءَتْ بِهِ عَضْب الْأَدِيم غَضَنْفَرًا سُلَالَة فَرْج كَانَ غَيْر حَصِين
وَقَالَ آخَر :
مِنْ طِينٍ
أَيْ أَنَّ الْأَصْل آدَم وَهُوَ مِنْ طِين.
قُلْت : أَيْ مِنْ طِين خَالِص ; فَأَمَّا وَلَده فَهُوَ مِنْ طِين وَمَنِيّ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّل سُورَة الْأَنْعَام.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : السُّلَالَة الطِّين إِذَا عَصَرْته اِنْسَلَّ مِنْ بَيْن أَصَابِعك ; فَاَلَّذِي يَخْرُج هُوَ السُّلَالَة.
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
وَهُوَ الْقَلِيل مِنْ الْمَاء، وَقَدْ يَقَع عَلَى الْكَثِير مِنْهُ ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( حَتَّى يَسِير الرَّاكِب بَيْن النُّطْفَتَيْنِ لَا يَخْشَى جَوْرًا ).
أَرَادَ بَحْر الْمَشْرِق وَبَحْر الْمَغْرِب.
وَالنَّطْف : الْقَطْر.
نَطِفَ يَنْطَف وَيَنْطِف.
وَلَيْلَة نَطُوفَة دَائِمَة الْقَطْر.
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا
" ثُمَّ مِنْ عَلَقَة " وَهُوَ الدَّم الْجَامِد.
وَالْعَلَق الدَّم الْعَبِيط ; أَيْ الطَّرِيّ.
وَقِيلَ : الشَّدِيد الْحُمْرَة.
" ثُمَّ مِنْ مُضْغَة " وَهِيَ لَحْمَة قَلِيلَة قَدْر مَا يُمْضَغ ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغَة ).
وَهَذِهِ الْأَطْوَار أَرْبَعَة أَشْهُر.
قَالَ اِبْن عَبَّاس :( وَفِي الْعَشْر بَعْد الْأَشْهُر الْأَرْبَعَة يُنْفَخ فِيهِ الرُّوح )، فَذَلِكَ عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا ; أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر.
رَوَى يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَة حَدَّثَنَا دَاوُد عَنْ عَامِر عَنْ عَلْقَمَة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَعَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ النُّطْفَة إِذَا اِسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِم أَخَذَهَا مَلَك بِكَفِّهِ فَقَالَ :" يَا رَبّ، ذَكَر أَمْ أُنْثَى، شَقِيَ أَمْ سَعِيد، مَا الْأَجَل وَالْأَثَر، بِأَيِّ أَرْض تَمُوت ؟ فَيُقَال لَهُ اِنْطَلِقْ إِلَى أُمّ الْكِتَاب فَإِنَّك تَجِد فِيهَا قِصَّة هَذِهِ النُّطْفَة، فَيَنْطَلِق فَيَجِد قِصَّتهَا فِي أُمّ الْكِتَاب، فَتُخْلَق فَتَأْكُل رِزْقهَا وَتَطَأ أَثَرهَا فَإِذَا جَاءَ أَجَلهَا قُبِضَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَان الَّذِي قُدِّرَ لَهَا ; ثُمَّ قَرَأَ عَامِر " يَأَيُّهَا النَّاس إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِنْ الْبَعْث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَاب ".
وَفِي الصَّحِيح عَنْ أَنَس بْن مَالِك - وَرَفَعَ الْحَدِيث - قَالَ :( إِنَّ اللَّه قَدْ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُول أَيْ رَبّ نُطْفَة.
أَيْ رَبّ عَلَقَة.
أَيْ رَبّ مُضْغَة.
فَإِذَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَقْضِي خَلْقًا قَالَ قَالَ الْمَلَك أَيْ رَبّ ذَكَر أَوْ أُنْثَى شَقِيّ أَوْ سَعِيد.
فَمَا الرِّزْق فَمَا الْأَجَل.
فَيُكْتَب كَذَلِكَ فِي بَطْن أُمّه ).
وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَة بْن أَسِيد الْغِفَارِيّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة بَعَثَ اللَّه إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعهَا وَبَصَرهَا وَجِلْدهَا وَلَحْمهَا وَعِظَامهَا ثُمَّ يَقُول أَيْ رَبّ أَذَكَر أَمْ أُنْثَى... ) وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَفِي الصَّحِيح عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِق الْمَصْدُوق ( إِنَّ أَحَدكُمْ يُجْمَع خَلْقه فِي بَطْن أُمّه أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُون فِي ذَلِكَ عَلَقَة مِثْل ذَلِكَ ثُمَّ يَكُون مُضْغَة مِثْل ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَل الْمَلَك فَيَنْفُخ فِيهِ الرُّوح وَيُؤْمَر بِأَرْبَعِ كَلِمَات بِكَتْبِ رِزْقه وَأَجَله وَعَمَله وَشَقِيّ أَوْ سَعِيد.
) الْحَدِيث.
فَهَذَا الْحَدِيث مُفَسِّر لِلْأَحَادِيثِ الْأَوَّل ; فَإِنَّهُ فِيهِ :( يُجْمَع أَحَدكُمْ فِي بَطْن أُمّه أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَة ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَة ثُمَّ يُبْعَث الْمَلَك فَيَنْفُخ فِيهِ الرُّوح ) فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَشْهُر وَفِي الْعَشْر يَنْفُخ الْمَلَك الرُّوح، وَهَذِهِ عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس.
وَقَوْله :( إِنَّ أَحَدكُمْ يُجْمَع خَلْقه فِي بَطْن أُمّه ) قَدْ فَسَّرَهُ اِبْن مَسْعُود، سُئِلَ الْأَعْمَش : مَا يُجْمَع فِي بَطْن أُمّه ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنَا خَيْثَمَة قَالَ قَالَ عَبْد اللَّه : إِذَا وَقَعَتْ النُّطْفَة فِي الرَّحِم فَأَرَادَ أَنْ يَخْلُق مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي بَشَرَة الْمَرْأَة تَحْت كُلّ ظُفُر وَشَعْر ثُمَّ تَمْكُث أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَصِير دَمًا فِي الرَّحِم ; فَذَلِكَ جَمْعهَا، وَهَذَا وَقْت كَوْنهَا عَلَقَة.
نِسْبَة الْخَلْق وَالتَّصْوِير لِلْمَلَكِ نِسْبَة مَجَازِيَّة لَا حَقِيقِيَّة، وَأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِعْل مَا فِي الْمُضْغَة كَانَ عِنْد التَّصْوِير وَالتَّشْكِيل بِقُدْرَةِ اللَّه وَخَلْقه وَاخْتِرَاعه ; أَلَا تَرَاهُ سُبْحَانه قَدْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْخِلْقَة الْحَقِيقِيَّة، وَقَطَعَ عَنْهَا نَسَب جَمِيع الْخَلِيقَة فَقَالَ :" وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " [ الْأَعْرَاف : ١١ ].
وَقَالَ :" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين.
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مَكِين " [ الْمُؤْمِنُونَ :
١٢ - ١٣ ].
وَقَالَ :" يَأَيُّهَا النَّاس إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِنْ الْبَعْث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ".
وَقَالَ تَعَالَى :" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِر وَمِنْكُمْ مُؤْمِن " [ التَّغَابُن : ٢ ].
ثُمَّ قَالَ :" وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَركُمْ " [ غَافِر : ٦٤ ].
وَقَالَ :" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي أَحْسَن تَقْوِيم " [ التِّين : ٤ ].
وَقَالَ :" خَلَقَ الْإِنْسَان مِنْ عَلَق " [ الْعَلَق : ٢ ].
إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات، مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَاطِعَات الْبَرَاهِين أَنْ لَا خَالِق لِشَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَات إِلَّا رَبّ الْعَالَمِينَ.
وَهَكَذَا الْقَوْل فِي قَوْل :" ثُمَّ يُرْسَل الْمَلَك فَيَنْفُخ فِيهِ الرُّوح " أَيْ أَنَّ النَّفْخ سَبَب خَلْق اللَّه فِيهَا الرُّوح وَالْحَيَاة.
وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي سَائِر الْأَسْبَاب الْمُعْتَادَة ; فَإِنَّهُ بِإِحْدَاثِ اللَّه تَعَالَى لَا بِغَيْرِهِ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْأَصْل وَتَمَسَّكْ بِهِ، فَفِيهِ النَّجَاة مِنْ مَذَاهِب أَهْل الضَّلَال الطَّبْعِيِّينَ وَغَيْرهمْ.
ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ
اِخْتَلَفَ النَّاس فِي الْخَلْق الْآخَر ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالشَّعْبِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَالضَّحَّاك وَابْن زَيْد : هُوَ نَفْخ الرُّوح فِيهِ بَعْد أَنْ كَانَ جَمَادًا.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : خُرُوج إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَالَ قَتَادَة عَنْ فِرْقَة : نَبَات شَعْره.
الضَّحَّاك : خُرُوج الْأَسْنَان وَنَبَات الشَّعْر.
مُجَاهِد : كَمَال شَبَابه ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر : وَالصَّحِيح أَنَّهُ عَامّ فِي هَذَا وَفِي غَيْره مِنْ النُّطْق وَالْإِدْرَاك وَحُسْن الْمُحَاوَلَة وَتَحْصِيل الْمَعْقُولَات إِلَى أَنْ يَمُوت.
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
يُرْوَى أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب لَمَّا سَمِعَ صَدْر الْآيَة إِلَى قَوْله " خَلْقًا آخَر " قَالَ فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( هَكَذَا أُنْزِلَتْ ).
وَفِي مُسْنَد الطَّيَالِسِيّ : وَنَزَلَتْ " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين " الْآيَة ; فَلَمَّا نَزَلَتْ قُلْت أَنَا : تَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ ; فَنَزَلَتْ " تَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ ".
وَيُرْوَى أَنَّ قَائِل ذَلِكَ مُعَاذ اِبْن جَبَل.
وَرُوِيَ أَنَّ قَائِل ذَلِكَ عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح، وَبِهَذَا السَّبَب اِرْتَدَّ وَقَالَ : آتِي بِمِثْلِ مَا يَأْتِي مُحَمَّد ; وَفِيهِ نَزَلَ " وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْء وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْل مَا أَنْزَلَ اللَّه " [ الْأَنْعَام : ٩٣ ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي " الْأَنْعَام ".
وَقَوْله تَعَالَى :" فَتَبَارَكَ " تَفَاعَلَ مِنْ الْبَرَكَة.
" أَحْسَن الْخَالِقِينَ " أَتْقَن الصَّانِعِينَ.
يُقَال لِمَنْ صَنَعَ شَيْئًا خَلَقَهُ ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
وَمَا هِنْد إِلَّا مُهْرَة عَرَبِيَّة سَلِيلَة أَفْرَاس تَجَلَّلَهَا بَغْل
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وَبَعْ ضُ الْقَوْم يَخْلُق ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَذَهَبَ بَعْض النَّاس إِلَى نَفْي هَذِهِ اللَّفْظَة عَنْ النَّاس وَإِنَّمَا يُضَاف الْخَلْق إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : إِنَّمَا قَالَ " أَحْسَن الْخَالِقِينَ " لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يَخْلُق ; وَاضْطَرَبَ بَعْضهمْ فِي ذَلِكَ.
وَلَا تُنْفَى اللَّفْظَة عَنْ الْبَشَر فِي مَعْنَى الصُّنْع ; وَإِنَّمَا هِيَ مَنْفِيَّة بِمَعْنَى الِاخْتِرَاع وَالْإِيجَاد مِنْ الْعَدَم.
مَسْأَلَة : مِنْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ اِبْن عَبَّاس لِعُمَرَ حِين سَأَلَ مَشْيَخَة الصَّحَابَة عَنْ لَيْلَة الْقَدْر فَقَالُوا : اللَّه أَعْلَم ; فَقَالَ عُمَر : مَا تَقُول يَا اِبْن عَبَّاس ؟ فَقَالَ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَات سَبْعًا وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا، وَخَلَقَ اِبْن آدَم مِنْ سَبْع وَجَعَلَ رِزْقه فِي سَبْع، فَأَرَاهَا فِي لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ.
فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَعْجَزَكُمْ أَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَتَى هَذَا الْغُلَام الَّذِي لَمْ تَجْتَمِع شُؤُون رَأْسه.
وَهَذَا الْحَدِيث بِطُولِهِ فِي مُسْنَد اِبْن أَبِي شَيْبَة.
فَأَرَادَ اِبْن عَبَّاس " خُلِقَ اِبْن آدَم مِنْ سَبْع " بِهَذِهِ الْآيَة، وَبِقَوْلِهِ " وَجُعِلَ رِزْقه فِي سَبْع " قَوْله " فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا.
وَعِنَبًا وَقَضْبًا.
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا.
وَحَدَائِق غُلْبًا.
وَفَاكِهَة وَأَبًّا " [ عَبَسَ :
٢٧ - ٣١ ] الْآيَة.
السَّبْع مِنْهَا لِابْنِ آدَم، وَالْأَب لِلْأَنْعَامِ.
وَالْقَضْب يَأْكُلهُ اِبْن آدَم وَيَسْمَن مِنْهُ النِّسَاء ; هَذَا قَوْل.
وَقِيلَ : الْقَضْب الْبُقُول لِأَنَّهَا تُقْضَب ; فَهِيَ رِزْق اِبْن آدَم.
وَقِيلَ : الْقَضْب وَالْأَب لِلْأَنْعَامِ، وَالسِّتّ الْبَاقِيَة لِابْنِ آدَم، وَالسَّابِعَة هِيَ لِلْأَنْعَامِ ; إِذْ هِيَ مِنْ أَعْظَم رِزْق اِبْن آدَم.
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ
أَيْ بَعْد الْخَلْق وَالْحَيَاة.
وَالنَّحَّاس : وَيُقَال فِي هَذَا الْمَعْنَى لَمَائِتُونَ.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
ثُمَّ أَخْبَرَ بِالْبَعْثِ بَعْد الْمَوْت فَقَالَ :" ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْم الْقِيَامَة تُبْعَثُونَ ".
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : أَيْ سَبْع سَمَوَات.
وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ يُقَال : طَارَقْت الشَّيْء، أَيْ جَعَلْت بَعْضه فَوْق بَعْض ; فَقِيلَ لِلسَّمَوَاتِ طَرَائِق لِأَنَّ بَعْضهَا فَوْق بَعْض.
وَالْعَرَب تُسَمِّي كُلّ شَيْء فَوْق شَيْء طَرِيقَة.
وَقِيلَ : لِأَنَّهَا طَرَائِق الْمَلَائِكَة.
وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : عَنْ خَلْق السَّمَاء.
وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : أَيْ عَنْ الْخَلْق كُلّهمْ مِنْ أَنْ تَسْقُط عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكهُمْ.
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى " وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْق غَافِلِينَ " أَيْ فِي الْقِيَام بِمَصَالِحِهِ وَحِفْظه ; وَهُوَ مَعْنَى الْحَيّ الْقَيُّوم ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل :
الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَة مِنْ نِعَم اللَّه تَعَالَى عَلَى خَلْقه وَمِمَّا اِمْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ ; وَمِنْ أَعْظَم الْمِنَن الْمَاء الَّذِي هُوَ حَيَاة الْأَبَدَانِ وَنَمَاء الْحَيَوَان.
وَالْمَاء الْمُنَزَّل مِنْ السَّمَاء عَلَى قِسْمَيْنِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ اِسْتَوْدَعَهُ فِي الْأَرْض، وَجَعَلَهُ فِيهَا مُخْتَزَنًا لِسَقْيِ النَّاس يَجِدُونَهُ عِنْد الْحَاجَة إِلَيْهِ ; وَهُوَ مَاء الْأَنْهَار وَالْعُيُون وَمَا يُسْتَخْرَج مِنْ الْآبَار.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة : سَيْحَان وَجَيْحَان وَنِيل مِصْر وَالْفُرَات.
وَقَالَ مُجَاهِد : لَيْسَ فِي الْأَرْض مَاء إِلَّا وَهُوَ مِنْ السَّمَاء.
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقه، وَإِلَّا فَالْأُجَاج ثَابِت فِي الْأَرْض، فَيُمْكِن أَنْ يُقَيَّد قَوْله بِالْمَاءِ الْعَذْب، وَلَا مَحَالَة أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ جُعِلَ فِي الْأَرْض مَاء وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاء مَاء.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْله " وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاء مَاء " إِشَارَة إِلَى الْمَاء الْعَذْب، وَأَنَّ أَصْله مِنْ الْبَحْر، رَفَعَهُ اللَّه تَعَالَى بِلُطْفِهِ وَحُسْن تَقْدِيره مِنْ الْبَحْر إِلَى السَّمَاء، حَتَّى طَابَ بِذَلِكَ الرَّفْع وَالتَّصْعِيد ; ثُمَّ أَنْزَلَهُ إِلَى الْأَرْض لِيُنْتَفَع بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْر إِلَى مَاء الْبَحْر لَمَا اِنْتَفَعَ بِهِ مِنْ مُلُوحَته.
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى :" بِقَدَرٍ " أَيْ عَلَى مِقْدَار مُصْلِح، لِأَنَّهُ لَوْ كَثُرَ أَهْلَكَ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلَّا عِنْدنَا خَزَائِنه وَمَا نُنَزِّلهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُوم " الْحِجْر : ٢١ ].
" وَإِنَّا عَلَى ذَهَاب بِهِ لَقَادِرُونَ " يَعْنِي الْمَاء الْمُخْتَزِن.
وَهَذَا تَهْدِيد وَوَعِيد ; أَيْ فِي قُدْرَتنَا إِذْهَابه وَتَغْوِيره، وَيَهْلِك النَّاس بِالْعَطَشِ وَتَهْلِك مَوَاشِيهمْ ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا " أَيْ غَائِرًا " فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِين " [ الْمُلْك : ٣٠ ].
الثَّالِثَة : ذَكَرَ النَّحَّاس : قُرِئَ عَلَى أَبِي يَعْقُوب إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بْن يُونُس عَنْ جَامِع بْن سَوَادَة قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن سَابِق قَالَ حَدَّثَنَا مَسْلَمَة بْن عَلِيّ عَنْ مُقَاتِل بْن حَيَّان عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْجَنَّة إِلَى الْأَرْض خَمْسَة أَنْهَار سَيْحُون وَهُوَ نَهْر الْهِنْد وَجَيْحُون وَهُوَ نَهْر بَلْخ وَدِجْلَة وَالْفُرَات وَهُمَا نَهْرَا الْعِرَاق وَالنِّيل وَهُوَ نَهْر مِصْر أَنْزَلَهَا اللَّه تَعَالَى مِنْ عَيْن وَاحِدَة مِنْ عُيُون الْجَنَّة فِي أَسْفَل دَرَجَة مِنْ دَرَجَاتهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَاسْتَوْدَعَهَا الْجِبَال وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْض وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِع لِلنَّاسِ فِي أَصْنَاف مَعَايِشهمْ وَذَلِكَ قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ :" وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْض " فَإِذَا كَانَ عِنْد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج أَرْسَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيل فَرَفَعَ مِنْ الْأَرْض الْقُرْآن وَالْعِلْم وَجَمِيع الْأَنْهَار الْخَمْسَة فَيَرْفَع ذَلِكَ إِلَى السَّمَاء فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" وَإِنَّا عَلَى ذَهَاب بِهِ لَقَادِرُونَ " فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاء مِنْ الْأَرْض فَقَدَ أَهْلهَا خَيْر الدِّين وَالدُّنْيَا ).
الرَّابِعَة : كُلّ مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاء مُخْتَزَنًا كَانَ أَوْ غَيْر مُخْتَزَن فَهُوَ طَاهِر مُطَهَّر يُغْتَسَل بِهِ وَيُتَوَضَّأ مِنْهُ ; عَلَى مَا يَأْتِي فِي " الْفُرْقَان " بَيَانه.
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ
أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ سَبَب النَّبَات، وَأَوْجَدْنَاهُ بِهِ وَخَلَقْنَاهُ.
جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
وَذَكَرَ تَعَالَى النَّخِيل وَالْأَعْنَاب لِأَنَّهَا ثَمَرَة الْحِجَاز بِالطَّائِفِ وَالْمَدِينَة وَغَيْرهمَا ; قَالَهُ الطَّبَرِيّ.
وَلِأَنَّهَا أَيْضًا أَشْرَف الثِّمَار، فَذَكَرَهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَتَنْبِيهًا عَلَيْهَا.
لَكُمْ فِيهَا
أَيْ فِي الْجَنَّات.
فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
مِنْ غَيْر الرُّطَب وَالْعِنَب.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَعُود عَلَى النَّخِيل وَالْأَعْنَاب خَاصَّة إِذْ فِيهَا مَرَاتِب وَأَنْوَاع ; وَالْأَوَّل أَعَمّ لِسَائِرِ الثَّمَرَات.
مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل فَاكِهَة ; فِي الرِّوَايَة عِنْدنَا يَحْنَث بِالْبَاقِلَاءِ الْخَضْرَاء وَمَا أَشْبَهَهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَحْنَث بِأَكْلِ الْقِثَّاء وَالْخِيَار وَالْجَزَر، لِأَنَّهَا مِنْ الْبُقُول لَا مِنْ الْفَاكِهَة.
وَكَذَلِكَ الْجَوْز وَاللَّوْز وَالْفُسْتُق ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاء لَا تُعَدّ مِنْ الْفَاكِهَة وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ خَوْخًا أَوْ مِشْمِشًا أَوْ تِينًا أَوْ إِجَّاصًا يَحْنَث.
وَكَذَلِكَ الْبِطِّيخ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاء كُلّهَا تُؤْكَل عَلَى جِهَة التَّفَكُّه قَبْل الطَّعَام وَبَعْده ; فَكَانَتْ فَاكِهَة.
وَكَذَلِكَ يَابِس هَذِهِ الْأَشْيَاء إِلَّا الْبِطِّيخ الْيَابِس لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْكَل إِلَّا فِي بَعْض الْبُلْدَان.
وَلَا يَحْنَث بِأَكْلِ الْبِطِّيخ الْهِنْدِيّ لِأَنَّهُ لَا يُعَدّ مِنْ الْفَوَاكِه.
وَإِنْ أَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا لَا يَحْنَث.
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا يَحْنَث ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاء مِنْ أَعَزّ الْفَوَاكِه، وَتُؤْكَل عَلَى وَجْه التَّنَعُّم.
وَالْإِفْرَاد لَهَا بِالذِّكْرِ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ و جَلَّ لِكَمَالِ مَعَانِيهَا ; كَتَخْصِيصِ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل مِنْ الْمَلَائِكَة.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِأَنْ قَالَ : عَطَفَ هَذِهِ الْأَشْيَاء عَلَى الْفَاكِهَة مَرَّة فَقَالَ " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : ٦٨ ] وَمَرَّة عَطَفَ الْفَاكِهَة عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاء فَقَالَ :" وَفَاكِهَة وَأَبًّا " [ عَبَسَ : ٣١ ] وَالْمَعْطُوف غَيْر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، وَلَا يَلِيق بِالْحِكْمَةِ ذِكْر الشَّيْء الْوَاحِد بِلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَوْضِع الْمِنَّة.
وَالْعِنَب وَالرُّمَّان يُكْتَفَى بِهِمَا فِي بَعْض الْبُلْدَان فَلَا يَكُون فَاكِهَة ; وَلِأَنَّ مَا كَانَ فَاكِهَة لَا فَرْق بَيْن رَطْبه وَيَابِسه، وَيَابِس هَذِهِ الْأَشْيَاء لَا يُعَدّ فَاكِهَة فَكَذَلِكَ رَطْبهَا.
وَشَجَرَةً
شَجَرَة عُطِفَ عَلَى جَنَّات.
وَأَجَازَ الْفَرَّاء الرَّفْع لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَر الْفِعْل، بِمَعْنَى وَثَمَّ شَجَرَة ; وَيُرِيد بِهَا شَجَرَة الزَّيْتُون.
وَأَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِعَظِيمِ مَنَافِعهَا فِي أَرْض الشَّام وَالْحِجَاز وَغَيْرهمَا مِنْ الْبِلَاد، وَقِلَّة تَعَاهُدهَا بِالسَّقْيِ وَالْحَفْر وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمُرَاعَاة فِي سَائِر الْأَشْجَار.
تَخْرُجُ
فِي مَوْضِع الصِّفَة.
مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ
أَيْ أَنْبَتَهَا اللَّه فِي الْأَصْل مِنْ هَذَا الْجَبَل الَّذِي بَارَكَ اللَّه فِيهِ.
وَطُور سَيْنَاء مِنْ أَرْض الشَّام وَهُوَ الْجَبَل الَّذِي كَلَّمَ اللَّه عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة وَالْأَعْرَاف.
وَالطُّور الْجَبَل فِي كَلَام الْعَرَب.
وَقِيلَ : هُوَ مِمَّا عُرِّبَ مِنْ كَلَام الْعَجَم.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ جَبَل بَيْت الْمَقْدِس مَمْدُود مِنْ مِصْر إِلَى أَيْلَة.
وَاخْتُلِفَ فِي سَيْنَاء ; فَقَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ الْحَسَن ; وَيَلْزَم عَلَى هَذَا التَّأْوِيل أَنْ يُنَوَّن الطُّور عَلَى النَّعْت.
وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ مُبَارَك.
وَقَالَ مَعْمَر عَنْ فِرْقَة : مَعْنَاهُ شَجَر ; وَيَلْزَمهُمْ أَنْ يُنَوِّنُوا الطُّور.
وَقَالَ الْجُمْهُور : هُوَ اِسْم الْجَبَل ; كَمَا تَقُول جَبَل أُحُد.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : سَيْنَاء حَجَر بِعَيْنِهِ أُضِيفَ الْجَبَل إِلَيْهِ لِوُجُودِهِ عِنْده.
وَقَالَ مُقَاتِل : كُلّ جَبَل يَحْمِل الثِّمَار فَهُوَ سَيْنَاء ; أَيْ حَسَن.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِفَتْحِ السِّين عَلَى وَزْن فَعْلَاء ; وَفَعْلَاء فِي كَلَام الْعَرَب كَثِير ; يُمْنَع مِنْ الصَّرْف فِي الْمَعْرِفَة وَالنَّكِرَة ; لِأَنَّ فِي آخِرهَا أَلِف التَّأْنِيث، وَأَلِف التَّأْنِيث مُلَازِمَة لِمَا هِيَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَام فَعْلَاء، وَلَكِنْ مَنْ قَرَأَ سِينَاء بِكَسْرِ السِّين جَعَلَهُ فِعْلَالًا ; فَالْهَمْزَة فِيهِ كَهَمْزَةِ حِرْبَاء، وَلَمْ يُصْرَف فِي هَذِهِ الْآيَة لِأَنَّهُ جُعِلَ اِسْم بُقْعَة.
وَزَعَمَ الْأَخْفَش أَنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ.
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ
قَرَأَ الْجُمْهُور " تَنْبُت " بِفَتْحِ التَّاء وَضَمّ الْبَاء، وَالتَّقْدِير : تَنْبُت وَمَعَهَا الدُّهْن ; كَمَا تَقُول : خَرَجَ زَيْد بِسِلَاحِهِ.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الْبَاء.
وَاخْتُلِفَ فِي التَّقْدِير عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة ; فَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : التَّقْدِير تُنْبِت جَنَاهَا وَمَعَهُ الدُّهْن ; فَالْمَفْعُول مَحْذُوف.
وَقِيلَ : الْبَاء زَائِدَة ; مِثْل " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " [ الْبَقَرَة : ١٩٥ ] وَهَذَا مَذْهَب أَبِي عُبَيْدَة.
وَقَالَ الشَّاعِر :
نَضْرِب بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجِ
وَقَالَ آخَر :
هُنَّ الْحَرَائِر لَا رَبَّات أَخْمِرَة سُود الْمَحَاجِر لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
وَنَحْو هَذَا قَالَهُ أَبُو عَلِيّ أَيْضًا ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : نَبَتَ وَأَنْبَتَ بِمَعْنًى ; فَيَكُون الْمَعْنَى كَمَا مَضَى فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَهُوَ مَذْهَب الْفَرَّاء وَأَبِي إِسْحَاق، وَمِنْهُ قَوْل زُهَيْر :
حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْل
وَالْأَصْمَعِيّ يُنْكِر أَنْبَتَ، وَيَتَّهِم قَصِيدَة زُهَيْر الَّتِي فِيهَا :
رَأَيْت ذَوِي الْحَاجَات حَوْل بُيُوتهمْ قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْل
أَيْ نَبَتَ.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَالْأَعْرَج " تُنْبَت بِالدُّهْنِ " بِرَفْعِ التَّاء وَنَصْب الْبَاء.
قَالَ اِبْن جِنِّي وَالزَّجَّاج : هِيَ بَاء الْحَال ; أَيْ تَنْبُت وَمَعَهَا دُهْنهَا.
وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود :" تَخْرُج بِالدُّهْنِ " وَهِيَ بَاء الْحَال.
اِبْن دَرَسْتُوَيْهِ : الدُّهْن الْمَاء اللَّيِّن ; تُنْبِت مِنْ الْإِنْبَات.
وَقَرَأَ زِرّ بْن حُبَيْش " تُنْبِت - بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الْبَاء - الدُّهْن " بِحَذْفِ الْبَاء وَنَصْبه.
وَقَرَأَ سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك وَالْأَشْهَب " بِالدِّهَانِ ".
وَالْمُرَاد مِنْ الْآيَة تَعْدِيد نِعْمَة الزَّيْت عَلَى الْإِنْسَان، وَهِيَ مِنْ أَرْكَان النِّعَم الَّتِي لَا غِنَى بِالصِّحَّةِ عَنْهَا.
وَيَدْخُل فِي مَعْنَى الزَّيْتُون شَجَر الزَّيْت كُلّه عَلَى اِخْتِلَافه بِحَسَبِ الْأَقْطَار.
وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ
قِرَاءَة الْجُمْهُور.
وَقَرَأَتْ فِرْقَة " وَأَصْبَاغ " بِالْجَمْعِ.
وَقَرَأَ عَامِر بْن عَبْد قَيْس " وَمَتَاعًا " ; وَيُرَاد بِهِ الزَّيْت الَّذِي يُصْطَبَغ بِهِ الْأَكْل ; يُقَال : صِبْغ وَصِبَاغ ; مِثْل دِبْغ وَدِبَاغ، وَلِبْس وَلِبَاس.
وَكُلّ إِدَام يُؤْتَدَم بِهِ فَهُوَ صِبْغ ; حَكَاهُ الْهَرَوِيّ وَغَيْره.
وَأَصْل الصِّبْغ مَا يُلَوَّن بِهِ الثَّوْب، وَشُبِّهَ الْإِدَام بِهِ لِأَنَّ الْخُبْز يُلَوَّن بِالصِّبْغِ إِذَا غُمِسَ فِيهِ.
وَقَالَ مُقَاتِل : الْأُدْم الزَّيْتُون، وَالدُّهْن الزَّيْت.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الشَّجَرَة أُدْمًا وَدُهْنًا ; فَالصِّبْغ عَلَى هَذَا الزَّيْتُون.
لَا خِلَاف أَنَّ كُلّ مَا يُصْطَبَغ فِيهِ مِنْ الْمَائِعَات كَالزَّيْتِ وَالسَّمْن وَالْعَسَل وَالرَّبّ وَالْخَلّ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَاق أَنَّهُ إِدَام.
وَقَدْ نَصَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلّ فَقَالَ :( نِعْمَ الْإِدَام الْخَلّ ) رَوَاهُ تِسْعَة مِنْ الصَّحَابَة، سَبْعَة رِجَال وَامْرَأَتَانِ.
وَمِمَّنْ رَوَاهُ فِي الصَّحِيح جَابِر وَعَائِشَة وَخَارِجَة وَعُمَر وَابْنه عُبَيْد اللَّه وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَسَمُرَة بْن جُنْدُب وَأَنَس وَأُمّ هَانِئ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا كَانَ جَامِدًا كَاللَّحْمِ وَالتَّمْر وَالزَّيْتُون وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْجَوَامِد ; فَالْجُمْهُور أَنَّ ذَلِكَ كُلّه إِدَام ; فَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل إِدَامًا فَأَكَلَ لَحْمًا أَوْ جُبْنًا حَنِثَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَحْنَث ; وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف مِثْل قَوْل أَبِي حَنِيفَة.
وَالْبَقْل لَيْسَ بِإِدَامٍ فِي قَوْلهمْ جَمِيعًا.
وَعَنْ الشَّافِعِيّ فِي التَّمْر وَجْهَانِ ; وَالْمَشْهُور أَنَّهُ لَيْسَ بِإِدَامٍ لِقَوْلِهِ فِي التَّنْبِيه.
وَقِيلَ يَحْنَث ; وَالصَّحِيح أَنَّ هَذَا كُلّه إِدَام.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ يُوسُف بْن عَبْد اللَّه بْن سَلَام قَالَ : رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ كِسْرَة مِنْ خُبْز شَعِير فَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَة فَقَالَ :( هَذَا إِدَام هَذِهِ ).
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( سَيِّد إِدَام الدُّنْيَا وَالْآخِرَة اللَّحْم ).
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر.
وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ ( بَاب الْإِدَام ) وَسَاقَ حَدِيث عَائِشَة ; وَلِأَنَّ الْإِدَام مَأْخُوذ مِنْ الْمُؤَادَمَة وَهِيَ الْمُوَافَقَة، وَهَذِهِ الْأَشْيَاء تُوَافِق الْخُبْز فَكَانَ إِدَامًا.
وَفِي الْحَدِيث عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام :( اِئْتَدِمُوا وَلَوْ بِالْمَاءِ ).
وَلِأَبِي حَنِيفَة أَنَّ حَقِيقَة الْإِدَام الْمُوَافَقَة فِي الِاجْتِمَاع عَلَى وَجْه لَا يَقْبَل الْفَصْل ; كَالْخَلِّ وَالزَّيْت وَنَحْوهمَا، وَأَمَّا اللَّحْم وَالْبَيْض وَغَيْرهمَا لَا يُوَافِق الْخُبْز بَلْ يُجَاوِزهُ كَالْبِطِّيخِ وَالتَّمْر وَالْعِنَب.
وَالْحَاصِل : أَنَّ كُلّ مَا يُحْتَاج فِي الْأَكْل إِلَى مُوَافَقَة الْخُبْز كَانَ إِدَامًا، وَكُلّ مَا لَا يُحْتَاج وَيُؤْكَل عَلَى حِدَة لَا يَكُون إِدَامًا، وَاَللَّه أَعْلَم.
رَوَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كُلُوا الزَّيْت وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَة مُبَارَكَة ).
هَذَا حَدِيث لَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّزَّاق، وَكَانَ يَضْطَرِب فِيهِ، فَرُبَّمَا يُذْكَر فِيهِ عَنْ عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُبَّمَا رَوَاهُ عَلَى الشَّكّ فَقَالَ : أَحْسِبهُ عَنْ عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُبَّمَا قَالَ : عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُقَاتِل : خُصَّ الطُّور بِالزَّيْتُونِ لِأَنَّ أَوَّل الزَّيْتُون نَبْت مِنْهَا.
وَقِيلَ : إِنَّ الزَّيْتُون أَوَّل شَجَرَة نَبَتَتْ فِي الدُّنْيَا بَعْد الطُّوفَان.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً
هُنَا الْأَصْنَاف الْأَرْبَعَة : الْإِبِل وَالْبَقَر وَالضَّأْن وَالْمَعْز.
" لَعِبْرَة " أَيْ دَلَالَة عَلَى قُدْرَة اللَّه وَوَحْدَانِيّته وَعَظَمَته.
وَالْعِبْرَة أَصْلهَا تَمْثِيل الشَّيْء بِالشَّيْءِ لِتُعْرَف حَقِيقَته مِنْ طَرِيق الْمُشَاكَلَة، وَمِنْهُ " فَاعْتَبِرُوا " [ الْحَشْر : ٢ ].
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : الْعِبْرَة فِي الْأَنْعَام تَسْخِيرهَا لِأَرْبَابِهَا وَطَاعَتهَا لَهُمْ، وَتَمَرُّدك عَلَى رَبّك وَخِلَافك لَهُ فِي كُلّ شَيْء.
وَمِنْ أَعْظَم الْعِبَر بَرِيء يَحْمِل مُذْنِبًا.
نُسْقِيكُمْ
قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَابْن عَامِر وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر بِفَتْحِ النُّون مِنْ سَقَى يَسْقِي.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَحَفْص عَنْ عَاصِم بِضَمِّ النُّون مِنْ أَسْقَى يُسْقِي، وَهِيَ قِرَاءَة الْكُوفِيِّينَ وَأَهْل مَكَّة.
قِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ.
وَقَالَ لَبِيد :
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْد وَأَسْقَى نُمَيْرًا وَالْقَبَائِل مِنْ هِلَال
وَقِيلَ : يُقَال لِمَا كَانَ مِنْ يَدك إِلَى فِيهِ سَقَيْته، فَإِذَا جُعِلَتْ لَهُ شَرَابًا أَوْ عَرَضَتْهُ لِأَنْ يَشْرَب بِفِيهِ أَوْ يَزْرَعهُ قُلْت أَسْقَيْته ; قَالَ اِبْن عَزِيز، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَرَأَتْ فِرْقَة " تُسْقِيكُمْ " بِالتَّاءِ، وَهِيَ ضَعِيفَة، يَعْنِي الْأَنْعَام.
وَقُرِئَ بِالْيَاءِ، أَيْ يُسْقِيكُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَالْقُرَّاء عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ; فَفَتْح النُّون لُغَة قُرَيْش وَضَمّهَا لُغَة حِمْيَر.
مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
قَالَ الْكِسَائِيّ :" مِمَّا فِي بُطُونهَا " أَيْ مِمَّا فِي بُطُون بَعْضه ; إِذْ الذُّكُور لَا أَلْبَان لَهَا، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَة.
وَقَالَ الْفَرَّاء : الْأَنْعَام وَالنَّعَم وَاحِد، وَالنَّعَم يُذَكَّر، وَلِهَذَا تَقُول الْعَرَب : هَذَا نَعَم وَارِد، فَرَجَعَ الضَّمِير إِلَى لَفْظ النَّعَم الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَنْعَام.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنَّمَا رَجَعَ التَّذْكِير إِلَى مَعْنَى الْجَمْع، وَالتَّأْنِيث إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَة، فَذَكَرَهُ هُنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظ الْجَمْع، وَأَنَّثَهُ فِي سُورَة الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ لَفْظ الْجَمَاعَة فَقَالَ :" نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونهَا " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٢١ ] وَبِهَذَا التَّأْوِيل يَنْتَظِم الْمَعْنَى اِنْتِظَامًا.
حَسَنًا.
وَالتَّأْنِيث بِاعْتِبَارِ لَفْظ الْجَمَاعَة وَالتَّذْكِير بِاعْتِبَارِ لَفْظ الْجَمْع أَكْثَر مِنْ رَمْل يَبْرِين وَتَيْهَاء فِلَسْطِين.
اِسْتَنْبَطَ بَعْض الْعُلَمَاء الْجِلَّة وَهُوَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل مِنْ عَوْد هَذَا الضَّمِير، أَنَّ لَبَن الْفَحْل يُفِيد التَّحْرِيم، وَقَالَ : إِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ رَاجِع إِلَى ذِكْر النَّعَم ; لِأَنَّ اللَّبَن لِلذَّكَرِ مَحْسُوب، وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ لَبَن الْفَحْل يَحْرُم حِين أَنْكَرَتْهُ عَائِشَة فِي حَدِيث أَفْلَح أَخِي أَبِي الْقُعَيْس ( فَلِلْمَرْأَةِ السَّقْي وَلِلرَّجُلِ اللِّقَاح ) فَجَرَى الِاشْتِرَاك فِيهِ بَيْنهمَا.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي تَحْرِيم لَبَن الْفَحْل فِي [ النِّسَاء ] وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
قَوْله تَعَالَى :" وَعَلَيْهَا " أَيْ وَعَلَى الْأَنْعَام فِي الْبَرّ.
" وَعَلَى الْفُلْك " فِي الْبَحْر.
" تُحْمَلُونَ " وَإِنَّمَا يُحْمَل فِي الْبَرّ عَلَى الْإِبِل فَيَجُوز أَنْ تَرْجِع الْكِنَايَة إِلَى بَعْض الْأَنْعَام.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَكِبَ بَقَرَة فِي الزَّمَان الْأَوَّل فَأَنْطَقَهَا اللَّه تَعَالَى مَعَهُ فَقَالَتْ : إِنَّا لَمْ نُخْلَق لِهَذَا ! وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا
قُرِئَ بِالْخَفْضِ رَدًّا عَلَى اللَّفْظ، وَبِالرَّفْعِ رَدًّا عَلَى الْمَعْنَى.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَعْرَاف ".
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ
أَيْ يَسُودكُمْ وَيُشَرَّف عَلَيْكُمْ بِأَنْ يَكُون مَتْبُوعًا وَنَحْنُ لَهُ تَبَع.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً
أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّه أَلَّا يُعْبَد شَيْء سِوَاهُ لَجَعَلَ رَسُوله مَلَكًا.
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا
أَيْ بِمِثْلِ دَعْوَته.
وَقِيلَ : مَا سَمِعْنَا بِمِثْلِهِ بَشَرًا ; أَيْ بِرِسَالَةِ رَبّه.
فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ
أَيْ فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَالْبَاء فِي " بِهَذَا " زَائِدَة ; أَيْ مَا سَمِعْنَا هَذَا كَائِنًا فِي أَبَائِنًا الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ عُطِفَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض فَقَالُوا
إِنْ هُوَ
يَعْنُونَ نُوحًا
إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ
أَيْ جُنُون لَا يَدْرِي مَا يَقُول.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ
أَيْ اِنْتَظِرُوا مَوْته.
وَقِيلَ : حَتَّى يَسْتَبِين جُنُونه.
وَقَالَ الْفَرَّاء : لَيْسَ يُرَاد بِالْحِينِ هَاهُنَا وَقْت بِعَيْنِهِ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ : دَعْهُ إِلَى يَوْم مَا.
فَقَالَ حِين تَمَادَوْا عَلَى كُفْرهمْ :
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
أَيْ اِنْتَقِمْ مِمَّنْ لَمْ يُطِعْنِي وَلَمْ يَسْمَع رِسَالَتِي.
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ
أَيْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِ رُسُلًا مِنْ السَّمَاء
أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا
أَيْ اِعْمَلْ السَّفِينَة لِتَرْكَبَهَا أَنْتَ وَمَنْ آمَنَ مَعَك.
" بِأَعْيُنِنَا " أَيْ بِمَرْأَى مِنَّا وَحَيْثُ نَرَاك.
وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : بِحِفْظِنَا إِيَّاكَ حِفْظ مَنْ يَرَاك.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا :( بِحِرَاسَتِنَا ) ; وَالْمَعْنَى وَاحِد ; فَعَبَّرَ عَنْ الرُّؤْيَة بِالْأَعْيُنِ ; لِأَنَّ الرُّؤْيَة تَكُون بِهَا.
وَيَكُون جَمْع الْأَعْيُن لِلْعَظَمَةِ لَا لِلتَّكْثِيرِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ " [ الْمُرْسَلَات : ٢٣ ] " فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ " " وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ " [ الذَّارِيَات : ٤٧ ].
وَقَدْ يَرْجِع مَعْنَى الْأَعْيُن فِي هَذِهِ الْآيَة وَغَيْرهَا إِلَى مَعْنَى عَيْن ; كَمَا قَالَ :" وَلِتُصْنَع عَلَى عَيْنِي " وَذَلِكَ كُلّه عِبَارَة عَنْ الْإِدْرَاك وَالْإِحَاطَة، وَهُوَ سُبْحَانه مُنَزَّه عَنْ الْحَوَاسّ وَالتَّشْبِيه وَالتَّكْيِيف ; لَا رَبّ غَيْره.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى " بِأَعْيُنِنَا " أَيْ بِأَعْيُنِ مَلَائِكَتنَا الَّذِينَ جَعَلْنَاهُمْ عُيُونًا عَلَى حِفْظك وَمَعُونَتك ; فَيَكُون الْجَمْع عَلَى هَذَا التَّكْثِير عَلَى بَابه.
وَقِيلَ :" بِأَعْيُنِنَا " أَيْ بِعِلْمِنَا ; قَالَهُ مُقَاتِل : وَقَالَ الضَّحَّاك وَسُفْيَان :" بِأَعْيُنِنَا " بِأَمْرِنَا.
وَقِيلَ : بِوَحْيِنَا.
وَقِيلَ : بِمَعُونَتِنَا لَك عَلَى صُنْعهَا.
" وَوَحْينَا " أَيْ عَلَى مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْك، مِنْ صَنْعَتهَا.
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ
اُخْتُلِفَ فِي التَّنُّور عَلَى أَقْوَال سَبْعَة :
الْأَوَّل : أَنَّهُ وَجْه الْأَرْض، وَالْعَرَب تُسَمِّي وَجْه الْأَرْض تَنُّورًا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَالزُّهْرِيّ وَابْن عُيَيْنَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إِذَا رَأَيْت الْمَاء عَلَى وَجْه الْأَرْض فَارْكَبْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَك.
الثَّانِي : أَنَّهُ تَنُّور الْخُبْز الَّذِي يُخْبَز فِيهِ ; وَكَانَ تَنُّورًا مِنْ حِجَارَة ; وَكَانَ لِحَوَّاءَ حَتَّى صَارَ لِنُوحٍ ; فَقِيلَ لَهُ : إِذَا رَأَيْت الْمَاء يَفُور مِنْ التَّنُّور فَارْكَبْ أَنْتَ وَأَصْحَابك.
وَأَنْبَعَ اللَّه الْمَاء مِنْ التَّنُّور، فَعَلِمَتْ بِهِ اِمْرَأَته فَقَالَتْ : يَا نُوح فَارَ الْمَاء مِنْ التَّنُّور ; فَقَالَ : جَاءَ وَعْد رَبِّي حَقًّا.
هَذَا قَوْل الْحَسَن ; وَقَالَ مُجَاهِد وَعَطِيَّة عَنْ اِبْن عَبَّاس.
الثَّالِث : أَنَّهُ مَوْضِع اِجْتِمَاع الْمَاء فِي السَّفِينَة ; عَنْ الْحَسَن أَيْضًا.
الرَّابِع : أَنَّهُ طُلُوع الْفَجْر، وَنُور الصُّبْح ; مِنْ قَوْلهمْ : نَوَّرَ الْفَجْر تَنْوِيرًا ; قَالَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
الْخَامِس : أَنَّهُ مَسْجِد الْكُوفَة ; قَالَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَيْضًا ; وَقَالَ مُجَاهِد.
قَالَ مُجَاهِد : كَانَ نَاحِيَة التَّنُّور بِالْكُوفَةِ.
وَقَالَ : اِتَّخَذَ نُوح السَّفِينَة فِي جَوْف مَسْجِد الْكُوفَة، وَكَانَ التَّنُّور عَلَى يَمِين الدَّاخِل مِمَّا يَلِي كِنْدَة.
وَكَانَ فَوَرَان الْمَاء مِنْهُ عَلَمًا لِنُوحٍ، وَدَلِيلًا عَلَى هَلَاك قَوْمه.
قَالَ الشَّاعِر وَهُوَ أُمَيَّة :
فَارَ تَنُّورهمْ وَجَاشَ بِمَاءٍ صَارَ فَوْق الْجِبَال حَتَّى عَلَاهَا
السَّادِس : أَنَّهُ أَعَالِي الْأَرْض، وَالْمَوَاضِع الْمُرْتَفِعَة مِنْهَا ; قَالَهُ قَتَادَة.
السَّابِع : أَنَّهُ الْعَيْن الَّتِي بِالْجَزِيرَةِ " عَيْن الْوَرْدَة " رَوَاهُ عِكْرِمَة.
وَقَالَ مُقَاتِل : كَانَ ذَلِكَ تَنُّور آدَم، وَإِنَّمَا كَانَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ يُقَال لَهُ :" عَيْن وَرْدَة " وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا :( فَارَ تَنُّور آدَم بِالْهِنْدِ ).
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذِهِ الْأَقْوَال لَيْسَتْ بِمُتَنَاقِضَةٍ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْمَاء جَاءَ مِنْ السَّمَاء وَالْأَرْض ; قَالَ :" فَفَتَحْنَا أَبْوَاب السَّمَاء بِمَاءٍ مُنْهَمِر.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْض عُيُونًا " [ الْقَمَر :
١١ - ١٢ ].
فَهَذِهِ الْأَقْوَال تَجْتَمِع فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَامَة.
وَالْفَوَرَان الْغَلَيَان.
وَالتَّنُّور اِسْم أَعْجَمِيّ عَرَّبَتْهُ الْعَرَب، وَهُوَ عَلَى بِنَاء فَعُّول ; لِأَنَّ أَصْل بِنَائِهِ تَنَّر، وَلَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب نُون قَبْل رَاءٍ.
وَقِيلَ : مَعْنَى " فَارَ التَّنُّور " التَّمْثِيل لِحُضُورِ الْعَذَاب ; كَقَوْلِهِمْ : حَمِيَ الْوَطِيس إِذَا اِشْتَدَّتْ الْحَرْب.
وَالْوَطِيس التَّنُّور.
وَيُقَال : فَارَتْ قِدْر الْقَوْم إِذَا اِشْتَدَّ حَرْبهمْ ; قَالَ شَاعِرهمْ :
فَاسْلُكْ فِيهَا
أَيْ أَدْخِلْ فِيهَا وَاجْعَلْ فِيهَا ; يُقَال : سَلَكْته فِي كَذَا وَأَسْلَكْته فِيهِ فِي كَذَا وَأَسْلَكْته فِيهِ إِذَا أَدْخَلْته.
قَالَ عَبْد مَنَاف بْن رَبْع الْهُذَلِيّ :
تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لَا شَيْء فِيهَا وَقِدْر الْقَوْم حَامِيَة تَفُور
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
قَرَأَ حَفْص " مِنْ كُلّ " بِالتَّنْوِينِ، الْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ ; وَقَدْ ذُكِرَ.
وَقَالَ الْحَسَن : لَمْ يَحْمِل نُوح فِي السَّفِينَة إِلَّا مَا يَلِد وَيَبِيض، فَأَمَّا الْبَقّ وَالذُّبَاب وَالدُّود فَلَمْ يَحْمِل شَيْئًا مِنْهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ الطِّين.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي السَّفِينَة وَالْكَلَام فِيهَا مُسْتَوْفًى، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَيْ عَلَوْت.
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ
رَاكِبِينَ.
فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
أَيْ اِحْمَدُوا اللَّه عَلَى تَخْلِيصه إِيَّاكُمْ.
الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
وَمِنْ الْغَرَق.
وَالْحَمْد لِلَّهِ : كَلِمَة كُلّ شَاكِر لِلَّهِ.
وَقَدْ مَضَى فِي الْفَاتِحَة بَيَانه.
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
قِرَاءَة الْعَامَّة " مُنْزَلًا " بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الزَّاي، عَلَى الْمَصْدَر الَّذِي هُوَ الْإِنْزَال ; أَيْ أَنْزِلْنِي إِنْزَالًا مُبَارَكًا.
وَقَرَأَ زِرّ بْن حُبَيْش وَأَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم وَالْمُفَضَّل " مَنْزِلًا " بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الزَّاي عَلَى الْمَوْضِع ; أَيْ أَنْزِلْنِي مَوْضِعًا مُبَارَكًا.
الْجَوْهَرِيّ : الْمَنْزَل ( بِفَتْحِ الْمِيم وَالزَّاي ) النُّزُول وَهُوَ الْحُلُول ; تَقُول : نَزَلْت نُزُولًا وَمَنْزَلًا.
وَقَالَ :
حَتَّى إِذَا أَسَلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَة شَلًّا كَمَا تَطْرُد الْجَمَّالَة الشُّرُدَا
أَأَنْ ذَكَّرَتْك الدَّار مَنْزَلَهَا جُمْل بَكَيْت فَدَمْع الْعَيْن مُنْحَدِر سَجْل
نُصِبَ " الْمَنْزِل " لِأَنَّهُ مَصْدَر.
وَأَنْزَلَهُ غَيْره وَاسْتَنْزَلَهُ بِمَعْنًى.
وَنَزَّلَهُ تَنْزِيلًا ; وَالتَّنْزِيل أَيْضًا التَّرْتِيب.
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : هَذَا حِين خَرَجَ مِنْ السَّفِينَة ; مِثْل قَوْله تَعَالَى :" اِهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَات عَلَيْك وَعَلَى أُمَم مِمَّنْ مَعَك " [ هُود : ٤٨ ].
وَقِيلَ : حِين دَخَلَهَا ; فَعَلَى هَذَا يَكُون قَوْله " مُبَارَكًا " يَعْنِي بِالسَّلَامَةِ وَالنَّجَاة.
قُلْت : وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَة تَعْلِيم مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ إِذَا رَكِبُوا وَإِذَا نَزَلُوا أَنْ يَقُولُوا هَذَا ; بَلْ وَإِذَا دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَسَلَّمُوا قَالُوا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْر الْمُنْزِلِينَ.
إِنَّ فِي ذَلِكَ
أَيْ فِي أَمْر نُوح وَالسَّفِينَة وَإِهْلَاك الْكَافِرِينَ.
لَآيَاتٍ
أَيْ دَلَالَات عَلَى كَمَالِ قُدْرَة اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَنْصُر أَنْبِيَاءَهُ وَيُهْلِك أَعْدَاءَهُمْ.
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
أَيْ مَا كُنَّا إِلَّا مُبْتَلِينَ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ ; أَيْ مُخْتَبَرِينَ لَهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُل إِلَيْهِمْ لِيَظْهَر الْمُطِيع وَالْعَاصِي فَيَتَبَيَّن لِلْمَلَائِكَةِ حَالهمْ ; لَا أَنْ يَسْتَجِدّ الرَّبّ عِلْمًا.
وَقِيلَ : أَيْ نُعَامِلهُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبَرِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " وَغَيْرهَا.
وَقِيلَ :" وَإِنْ كُنَّا " أَيْ وَقَدْ كُنَّا.
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
أَيْ مِنْ بَعْد هَلَاك قَوْم نُوح.
قَرْنًا آخَرِينَ
قِيلَ : هُمْ قَوْم عَاد.
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ
يَعْنِي هُودًا ; لِأَنَّهُ مَا كَانَتْ أُمَّة أُنْشِئَتْ فِي إِثْر قَوْم نُوح إِلَّا عَاد.
وَقِيلَ : هُمْ قَوْم ثَمُود " فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا " يَعْنِي صَالِحًا.
قَالُوا : وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى آخِر الْآيَة " فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَة " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٤١ ] ; نَظِيرهَا :" وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَة " [ هُود : ٦٧ ].
قُلْت : وَمِمَّنْ أُخِذَ بِالصَّيْحَةِ أَيْضًا أَصْحَاب مَدْيَن قَوْم شُعَيْب، فَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُونُوا هُمْ، وَاَللَّه أَعْلَم.
" مِنْهُمْ " أَيْ مِنْ عَشِيرَتهمْ، يَعْرِفُونَ مَوْلِده وَمَنْشَأَهُ لِيَكُونَ سُكُونهمْ إِلَى قَوْله أَكْثَر.
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ
أَيْ الْأَشْرَاف وَالْقَادَة وَالرُّؤَسَاء.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ
يُرِيد بِالْبَعْثِ وَالْحِسَاب.
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أَيْ وَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ نَعَمْ الدُّنْيَا حَتَّى بَطِرُوا وَصَارُوا يُؤْتَوْنَ بِالتُّرْفَةِ، وَهِيَ مِثْل التُّحْفَة.
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
فَلَا فَضْل لَهُ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ مُحْتَاج إِلَى الطَّعَام وَالشَّرَاب كَأَنْتُمْ.
وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ مَعْنَى " وَيَشْرَب مِمَّا تَشْرَبُونَ " عَلَى حَذْف مِنْ، أَيْ مِمَّا تَشْرَبُونَ مِنْهُ ; وَهَذَا لَا يَجُوز عِنْد الْبَصْرِيِّينَ وَلَا يُحْتَاج إِلَى حَذْف الْبَتَّة ; لِأَنَّ " مَا " إِذَا كَانَ مَصْدَرًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَائِد، فَإِنْ جَعَلْتهَا بِمَعْنَى الَّذِي حَذَفْت الْمَفْعُول وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِضْمَار مِنْ.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ
يُرِيد لَمَغْبُونُونَ بِتَرْكِكُمْ آلِهَتكُمْ وَاتِّبَاعكُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْر فَضِيلَة لَهُ عَلَيْكُمْ.
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ
أَيْ مَبْعُوثُونَ مِنْ قُبُوركُمْ.
وَ " أَنَّ " الْأُولَى فِي مَوْضِع نَصْب بِوُقُوعِ " يَعِدكُمْ " عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَة بَدَل مِنْهَا ; هَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهِ.
وَالْمَعْنَى : أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ إِذَا مِتُّمْ.
قَالَ الْفَرَّاء : وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " أَيَعِدُكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ " ; وَهُوَ كَقَوْلِك : أَظُنّ إِنْ خَرَجْت أَنَّك نَادِم.
وَذَهَبَ الْفَرَّاء وَالْجَرْمِيّ وَأَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد إِلَى أَنَّ الثَّانِيَة مُكَرَّرَة لِلتَّوْكِيدِ، لَمَّا طَالَ الْكَلَام كَانَ تَكْرِيرهَا حَسَنًا.
وَقَالَ الْأَخْفَش : الْمَعْنَى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا يَحْدُث إِخْرَاجكُمْ ; فَ " أَنَّ " الثَّانِيَة فِي مَوْضِع رَفْع بِفِعْلٍ مُضْمَر ; كَمَا تَقُول : الْيَوْم الْقِتَال، فَالْمَعْنَى الْيَوْم يَحْدُث الْقِتَال.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق : وَيَجُوز " أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ " ; لِأَنَّ مَعْنَى " أَيَعِدُكُمْ " أَيَقُولُ إِنَّكُمْ.
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ كَلِمَة لِلْبُعْدِ ; كَأَنَّهُمْ قَالُوا بَعِيد مَا تُوعَدُونَ ; أَيْ أَنَّ هَذَا لَا يَكُون مَا يُذْكَر مِنْ الْبَعْث.
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْل ; أَيْ بَعُدَ مَا تُوعَدُونَ.
وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَفِي " هَيْهَاتَ " عَشْر لُغَات : هَيْهَاتَ لَك ( بِفَتْحِ التَّاء ) وَهِيَ قِرَاءَة الْجَمَاعَة.
وَهَيْهَاتِ لَك ( بِخَفْضِ التَّاء ) ; وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع.
وَهَيْهَاتٍ لَك ( بِالْخَفْضِ وَالتَّنْوِين ) يُرْوَى عَنْ عِيسَى بْن عُمَر.
وَهَيْهَاتُ لَك ( بِرَفْعِ التَّاء ) ; الثَّعْلَبِيّ : وَبِهَا قَرَأَ نَصْر بْن عَاصِم وَأَبُو الْعَالِيَة.
وَهَيْهَاتَ لَك ( بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين ) وَبِهَا قَرَأَ أَبُو حَيْوَة الشَّامِيّ ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ أَيْضًا.
وَهَيْهَاتًا لَك ( بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِين ) قَالَ الْأَحْوَص :
تَذَكَّرْت أَيَّامًا مَضَيْنَ مِنْ الصِّبَا وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتًا إِلَيْك رُجُوعهَا
وَاللُّغَة السَّابِعَة : أَيْهَاتَ أَيْهَاتَ ; وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء :
فَأَيْهَاتَ أَيْهَاتَ الْعَقِيق وَمَنْ بِهِ وَأَيْهَاتَ خِلّ بِالْعَقِيقِ نُوَاصِلهُ
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَقَرَأَ عِيسَى الْهَمْدَانِيّ " هَيْهَاتْ هَيْهَاتْ " بِالْإِسْكَانِ.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول " أَيْهَانَ " بِالنُّونِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول " أَيْهَا " بِلَا نُون.
وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء :
وَمِنْ دُونِي الْأَعْيَان وَالْقِنْع كُلّه وَكِتْمَان أَيّهَا مَا أَشَتّ وَأَبْعَدَا
فَهَذِهِ عَشْر لُغَات.
فَمَنْ قَالَ " هَيْهَاتَ " بِفَتْحِ التَّاء جَعَلَهُ مِثْل أَيْنَ وَكَيْفَ.
وَقِيلَ : لِأَنَّهُمَا أَدَاتَانِ مُرَكَّبَتَانِ مِثْل خَمْسَة عَشَر وَبَعْلَبَكّ وَرَامَ هُرْمُز، وَتَقِف عَلَى الثَّانِي بِالْهَاءِ ; كَمَا تَقُول : خَمْس عَشْرَة وَسَبْع عَشْرَة.
وَقَالَ الْفَرَّاء : نَصْبهَا كَنَصْبِ ثَمَّتْ وَرُبَّتْ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْفَتْح إِتْبَاعًا لِلْأَلِفِ وَالْفَتْحَة الَّتِي قَبْلهَا.
وَمَنْ كَسَرَهُ جَعَلَهُ مِثْل أَمْس وَهَؤُلَاءِ.
قَالَ :
وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ إِلَيْك رُجُوعهَا
قَالَ الْكِسَائِيّ : وَمَنْ كَسَرَ التَّاء وَقَفَ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ ; فَيَقُول هَيْهَاهْ.
وَمَنْ نَصَبَهَا وَقَفَ بِالتَّاءِ وَإِنْ شَاءَ بِالْهَاءِ.
وَمَنْ ضَمَّهَا فَعَلَى مِثْل مُنْذُ وَقَطّ وَحَيْثُ.
وَمَنْ قَرَأَ " هَيْهَاتَ " بِالتَّنْوِينِ فَهُوَ جَمْع ذَهَبَ بِهِ إِلَى التَّنْكِير ; كَأَنَّهُ قَالَ بُعْدًا بُعْدًا.
وَقِيلَ : خُفِضَ وَنُوِّنَ تَشْبِيهًا بِالْأَصْوَاتِ بِقَوْلِهِمْ : غَاق وَطَاق.
وَقَالَ الْأَخْفَش : يَجُوز فِي " هَيْهَاتَ " أَنْ تَكُون جَمَاعَة فَتَكُون التَّاء الَّتِي فِيهَا تَاء الْجَمِيع الَّتِي لِلتَّأْنِيثِ.
وَمَنْ قَرَأَ " هَيْهَاتَ " جَازَ أَنْ يَكُون أَخْلَصهَا اِسْمًا مُعْرَبًا فِيهِ مَعْنَى الْبُعْد، وَلَمْ يَجْعَلهُ اِسْمًا لِلْفِعْلِ فَيَبْنِيه.
وَقِيلَ : شَبَّهَ التَّاء بِتَاءِ الْجَمْع، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات " [ الْبَقَرَة : ١٩٨ ].
قَالَ الْفَرَّاء : وَكَأَنِّي أَسْتَحِبّ الْوَقْف عَلَى التَّاء ; لِأَنَّ مِنْ الْعَرَب مَنْ يَخْفِض التَّاء عَلَى كُلّ حَال ; فَكَأَنَّهَا مِثْل عَرَفَات وَمَلَكُوت وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَكَانَ مُجَاهِد وَعِيسَى بْن عُمَر وَأَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء وَالْكِسَائِيّ وَابْن كَثِير يَقِفُونَ عَلَيْهَا هَيْهَاهْ " بِالْهَاءِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقِف عَلَى " هَيْهَاتَ " بِالتَّاءِ، وَعَلَيْهِ بَقِيَّة الْقُرَّاء لِأَنَّهَا حَرْف.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ.
مَنْ جَعَلَهُمَا حَرْفًا وَاحِدًا لَا يُفْرَد أَحَدهمَا مِنْ الْآخَر، وَقَفَ عَلَى الثَّانِي بِالْهَاءِ وَلَمْ يَقِف عَلَى الْأَوَّل ; فَيَقُول : هَيْهَاتَ هَيْهَاهْ، كَمَا يَقُول خَمْس عَشْرَة، عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَمَنْ نَوَى إِفْرَاد أَحَدهمَا مِنْ الْآخَر وَقَفَ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالْهَاءِ وَالتَّاء ; لِأَنَّ أَصْل الْهَاء تَاء.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
" هِيَ " كِنَايَة عَنْ الدُّنْيَا ; أَيْ مَا الْحَيَاة إِلَّا مَا نَحْنُ فِيهِ لَا الْحَيَاة الْآخِرَة الَّتِي تَعِدنَا بَعْد الْبَعْث.
نَمُوتُ وَنَحْيَا
يُقَال : كَيْفَ قَالُوا نَمُوت وَنَحْيَا وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ ؟ فَفِي هَذَا أَجْوِبَة ; مِنْهَا أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : نَكُون مَوَاتًا، أَيْ نُطَفًا ثُمَّ نَحْيَا فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا نَحْيَا فِيهَا وَنَمُوت ; كَمَا قَالَ :" وَاسْجُدِي وَارْكَعِي " [ آل عِمْرَان : ٤٣ ].
وَقِيلَ :" نَمُوت " يَعْنِي الْآبَاء، " وَنَحْيَا " يَعْنِي الْأَوْلَاد.
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
بَعْد الْمَوْت.
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ
يَعْنُونَ الرَّسُول.
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
أَيْ اِخْتَلَقَ.
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
أَيْ اِنْتَقِمْ مِمَّنْ لَمْ يُطِعْنِي وَلَمْ يَسْمَع رِسَالَتِي.
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ
أَيْ عَنْ قَلِيل، وَ " مَا " زَائِدَة مُؤَكَّدَة.
لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ
عَلَى كُفْرهمْ، وَاللَّام لَام الْقَسَم ; أَيْ وَاَللَّه لَيُصْبِحُنَّ.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ
فِي التَّفَاسِير : صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام صَيْحَة وَاحِدَة مَعَ الرِّيح الَّتِي أَهْلَكَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِهَا فَمَاتُوا عَنْ آخِرهمْ.
فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً
أَيْ هَلْكَى هَامِدِينَ كَغُثَاءِ السَّيْل، وَهُوَ مَا يَحْمِلهُ مِنْ بَالِي الشَّجَر مِنْ الْحَشِيش وَالْقَصَب مِمَّا يَبِسَ وَتَفَتَّتَ.
فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
أَيْ هَلَاكًا لَهُمْ.
وَقِيلَ بُعْدًا لَهُمْ مِنْ رَحْمَة اللَّه ; وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر.
وَمِثْله سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا.
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
أَيْ مِنْ بَعْد هَلَاك هَؤُلَاءِ.
قُرُونًا
أَيْ أُمَمًا.
آخَرِينَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد بَنِي إِسْرَائِيل ; وَفِي الْكَلَام حَذْف : فَكَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ.
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
" مِنْ " صِلَة ; أَيْ مَا تَسْبِق أُمَّة الْوَقْت الْمُؤَقَّت لَهَا وَلَا تَتَأَخَّرهُ ; مِثْل قَوْله تَعَالَى :" فَإِذَا جَاءَ أَجَلهمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ " [ الْأَعْرَاف : ٣٤ ].
وَمَعْنَى " تَتْرَى " تَتَوَاتَر، وَيَتَّبِع بَعْضهمْ بَعْضًا تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا.
قَالَ الْأَصْمَعِيّ : وَاتَرْت كُتُبِي عَلَيْهِ أَتْبَعْت بَعْضهَا بَعْضًا ; إِلَّا أَنَّ بَيْن كُلّ وَاحِد وَبَيْن الْآخَر مُهْلَة.
وَقَالَ غَيْره : الْمُوَاتَرَة التَّتَابُع بِغَيْرِ مُهْلَة.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى
" تَتْرَى " بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر أُدْخِلَ فِيهِ التَّنْوِين عَلَى فَتْح الرَّاء ; كَقَوْلِك : حَمْدًا وَشُكْرًا ; فَالْوَقْف عَلَى هَذَا عَلَى الْأَلِف الْمُعَوَّضَة مِنْ التَّنْوِين.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُلْحَقًا بِجَعْفَرٍ، فَيَكُون مِثْل أَرْطَى وَعَلْقَى ; كَمَا قَالَ :
يَسْتَنّ فِي عَلْقَى وَفِي مُكُور
فَإِذَا وَقَفَ عَلَى هَذَا الْوَجْه جَازَتْ الْإِمَالَة، عَلَى أَنْ يَنْوِي الْوَقْف عَلَى الْأَلِف الْمُلْحَقَة.
وَقَرَأَ وَرْش بَيْن اللَّفْظَتَيْنِ ; مِثْل سَكْرَى وَغَضْبَى، وَهُوَ اِسْم جَمْع ; مِثْل شَتَّى وَأَسْرَى.
وَأَصْله وَتْرَى مِنْ الْمُوَاتَرَة وَالتَّوَاتُر، فَقُلِبَتْ الْوَاو تَاء ; مِثْل التَّقْوَى وَالتُّكْلَان وَتُجَاه وَنَحْوهَا.
وَقِيلَ : هُوَ الْوَتْر وَهُوَ الْفَرْد ; فَالْمَعْنَى أَرْسَلْنَاهُمْ فَرْدًا فَرْدًا.
النَّحَّاس : وَعَلَى هَذَا يَجُوز " تِتْرَا " بِكَسْرِ التَّاء الْأُولَى، وَمَوْضِعهَا نَصْب عَلَى الْمَصْدَر ; لِأَنَّ مَعْنَى " ثُمَّ أَرْسَلْنَا " وَاتَرْنَا.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع الْحَال أَيْ مُتَوَاتِرِينَ.
كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
أَيْ بِالْهَلَاكِ.
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ
جَمْع أُحْدُوثَة وَهِيَ مَا يُتَحَدَّث بِهِ ; كَأَعَاجِيبَ جَمْع أُعْجُوبَة، وَهِيَ مَا يُتَعَجَّب مِنْهُ.
قَالَ الْأَخْفَش : إِنَّمَا يُقَال هَذَا فِي الشَّرّ " جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيث " وَلَا يُقَال فِي الْخَيْر ; كَمَا يُقَال : صَارَ فُلَان حَدِيثًا أَيْ عِبْرَة وَمَثَلًا ; كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى :" فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيث وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزَّق " [ سَبَأ : ١٩ ].
قُلْت : وَقَدْ يُقَال فُلَان حَدِيث حَسَن، إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِذِكْرِ ذَلِكَ ; وَمِنْهُ قَوْل اِبْن دُرَيْد :
لا يوجد تفسير لهذه الأية
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ
مُتَكَبِّرِينَ قَاهِرِينَ لِغَيْرِهِمْ بِالظُّلْمِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" إِنَّ فِرْعَوْن عَلَا فِي الْأَرْض " [ الْقَصَص : ٤ ]
لا يوجد تفسير لهذه الأية
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ
أَيْ بِالْغَرَقِ فِي الْبَحْر.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
يَعْنِي التَّوْرَاة ; وَخُصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ التَّوْرَاة أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ فِي الطُّور، وَهَارُون خَلِيفَة فِي قَوْمه.
وَلَوْ قَالَ " وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا " جَازَ ; كَمَا قَالَ :" وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفُرْقَان " [ الْأَنْبِيَاء : ٤٨ ].
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
تَقَدَّمَ فِي " الْأَنْبِيَاء " الْقَوْل فِيهِ.
" وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَة ذَات قَرَار وَمَعِين " الرَّبْوَة الْمَكَان الْمُرْتَفِع مِنْ الْأَرْض ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة ".
وَالْمُرَاد بِهَا هَاهُنَا فِي قَوْل أَبِي هُرَيْرَة فِلَسْطِين.
وَعَنْهُ أَيْضًا الرَّمْلَة ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن الْمُسَيِّب وَابْن سَلَام : دِمَشْق.
وَقَالَ كَعْب وَقَتَادَة : بَيْت الْمَقْدِس.
قَالَ كَعْب : وَهِيَ أَقْرَب الْأَرْض إِلَى السَّمَاء بِثَمَانِيَةَ عَشَر مِيلًا.
قَالَ :
وَإِنَّمَا الْمَرْء حَدِيث بَعْده فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى
فَكُنْت هَمِيدًا تَحْت رَمْس بِرَبْوَةٍ تُعَاوِرنِي رِيح جَنُوب وَشِمَال
وَقَالَ اِبْن زَيْد : مِصْر.
وَرَوَى سَالِم الْأَفْطَس عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَة " قَالَ : النَّشَز مِنْ الْأَرْض.
" ذَات قَرَار " أَيْ مُسْتَوِيَة يُسْتَقَرّ عَلَيْهَا.
وَقِيلَ : ذَات ثِمَار، وَلِأَجْلِ الثِّمَار يَسْتَقِرّ فِيهَا السَّاكِنُونَ.
" وَمَعِين " مَاء جَارٍ ظَاهِر لِلْعُيُونِ.
يُقَال : مَعِين وَمُعُن ; كَمَا يُقَال : رَغِيف وَرُغُف ; قَالَهُ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان.
وَقَالَ الزَّجَّاج : هُوَ الْمَاء الْجَارِي فِي الْعُيُون ; فَالْمِيم عَلَى هَذَا زَائِدَة كَزِيَادَتِهَا فِي مَبِيع، وَكَذَلِكَ الْمِيم زَائِدَة فِي قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَاء الَّذِي يُرَى بِالْعَيْنِ.
وَقِيلَ : إِنَّهُ فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُول.
قَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : يُقَال مَعَنَ الْمَاء إِذَا جَرَى فَهُوَ مَعِين وَمَعْيُون.
اِبْن الْأَعْرَابِيّ : مَعَنَ الْمَاء يَمْعَن مُعُونًا إِذَا جَرَى وَسَهُلَ، وَأَمْعَنَ أَيْضًا وَأَمْعَنْته، وَمِيَاه مُعْنَان.
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل :
الْأُولَى : رَوَى الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَيّهَا النَّاس إِنَّ اللَّه طَيِّب لَا يَقْبَل إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّه أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ " يَا أَيّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم " وَقَالَ تَعَالَى " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَات مَا رَزَقْنَاكُمْ " [ الْبَقَرَة : ١٧٢ ] - ثُمَّ ذَكَرَ - الرَّجُل يُطِيل السَّفَر أَشْعَث أَغْبَر يَمُدّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء يَا رَبّ يَا رَبّ وَمَطْعَمه حَرَام وَمَشْرَبه حَرَام وَمَلْبَسه حَرَام وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَاب لِذَلِكَ ).
الثَّانِيَة : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : وَالْخِطَاب فِي هَذِهِ الْآيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَام الرُّسُل ; كَمَا قَالَ :" الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس " [ آل عِمْرَان : ١٧٣ ] يَعْنِي نُعَيْم بْن مَسْعُود.
وَقَالَ الزَّجَّاج : هَذِهِ مُخَاطَبَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَّ الْجَمْع عَلَى أَنَّ الرُّسُل كُلّهمْ كَذَا أُمِرُوا ; أَيْ كُلُوا مِنْ الْحَلَال.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْخِطَاب لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ; رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل مِنْ غَزْل أُمّه.
وَالْمَشْهُور عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل مِنْ بَقْل الْبَرِّيَّة.
وَوَجْه خِطَابه لِعِيسَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيره لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهُ.
وَقِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَة خُوطِبَ بِهَا كُلّ نَبِيّ ; لِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَتهمْ الَّتِي يَنْبَغِي لَهُمْ الْكَوْن عَلَيْهَا.
فَيَكُون الْمَعْنَى : وَقُلْنَا يَأَيُّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات ; كَمَا تَقُول لِتَاجِرٍ : يَا تُجَّار يَنْبَغِي أَنْ تَجْتَنِبُوا الرِّبَا ; فَأَنْتَ تُخَاطِبهُ بِالْمَعْنَى.
وَقَدْ اِقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَة تَصْلُح لِجَمِيعِ صِنْفه، فَلَمْ يُخَاطَبُوا قَطُّ مُجْتَمِعِينَ صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَإِنَّمَا خُوطِبَ كُلّ وَاحِد فِي عَصْره.
قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ كَمَا تَقُول لِلرَّجُلِ الْوَاحِد : كُفُّوا عَنَّا أَذَاكُمْ.
الثَّالِثَة : سَوَّى اللَّه تَعَالَى بَيْن النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْخِطَاب بِوُجُوبِ أَكْل الْحَلَال وَتَجَنُّب الْحَرَام، ثُمَّ شَمَلَ الْكُلّ فِي الْوَعِيد الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى :" إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم " صَلَّى اللَّه عَلَى رُسُله وَأَنْبِيَائِهِ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَهُمْ فَمَا ظَنّ كُلّ النَّاس بِأَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الطَّيِّبَات وَالرِّزْق فِي غَيْر مَوْضِع، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ( يَمُدّ يَدَيْهِ ) دَلِيل عَلَى مَشْرُوعِيَّة مَدّ الْيَدَيْنِ عِنْد الدُّعَاء إِلَى السَّمَاء ; وَقَدْ مَضَى الْخِلَاف فِي هَذَا وَالْكَلَام فِيهِ وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ( فَأَنَّى يُسْتَجَاب لِذَلِكَ ) عَلَى جِهَة الِاسْتِبْعَاد ; أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ دُعَائِهِ لَكِنْ يَجُوز أَنْ يَسْتَجِيب اللَّه لَهُ تَفَضُّلًا وَلُطْفًا وَكَرَمًا.
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
الْمَعْنَى : هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره هُوَ دِينكُمْ وَمِلَّتكُمْ فَالْتَزِمُوهُ.
وَالْأُمَّة هُنَا الدِّين ; وَقَدْ تَقَدَّمَ مَحَامِله ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة " [ الزُّخْرُف : ٢٢ ] أَيْ عَلَى دِين.
وَقَالَ النَّابِغَة :
حَلَفْت فَلَمْ أَتْرُك لِنَفْسِك رِيَبه وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّة وَهُوَ طَائِع
قُرِئَ " وَإِنَّ هَذِهِ " بِكَسْرِ " إِنَّ " عَلَى الْقَطْع، وَبِفَتْحِهَا وَتَشْدِيد النُّون.
قَالَ الْخَلِيل : هِيَ فِي مَوْضِع نَصْب لَمَّا زَالَ الْخَافِض ; أَيْ أَنَا عَالِم بِأَنَّ هَذَا دِينكُمْ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ.
وَقَالَ الْفَرَّاء :" أَنَّ " مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مُضْمَر تَقْدِيره : وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ أُمَّتكُمْ.
وَهِيَ عِنْد سِيبَوَيْهِ مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ " فَاتَّقُونِ " ; وَالتَّقْدِير فَاتَّقُونِ لِأَنَّ أُمَّتكُمْ وَاحِدَة.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَأَنَّ الْمَسَاجِد لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّه أَحَدًا " [ الْجِنّ : ١٨ ] ; أَيْ لِأَنَّ الْمَسَاجِد لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَهُ غَيْره.
وَكَقَوْلِهِ :" لِإِيلَافِ قُرَيْش " [ قُرَيْش : ١ ] ; أَيْ فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْت لِإِيلَافِ قُرَيْش.
وَهَذِهِ الْآيَة تُقَوِّي أَنَّ قَوْله تَعَالَى :" يَأَيُّهَا الرُّسُل " إِنَّمَا هُوَ مُخَاطَبَة لِجَمِيعِهِمْ، وَأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ حُضُورهمْ.
وَإِذَا قُدِّرَتْ " يَأَيُّهَا الرُّسُل " مُخَاطَبَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَق اِتِّصَال هَذِهِ الْآيَة وَاتِّصَال قَوْله " فَتَقَطَّعُوا ".
أَمَّا أَنَّ قَوْله
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
وَإِنْ كَانَ قِيلَ لِلْأَنْبِيَاءِ فَأُمَمهمْ دَاخِلُونَ فِيهِ بِالْمَعْنَى ; فَيَحْسُن بَعْد ذَلِكَ اِتِّصَال.
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
أَيْ اِفْتَرَقُوا، يَعْنِي الْأُمَم، أَيْ جَعَلُوا دِينهمْ أَدْيَانًا بَعْد مَا أُمِرُوا بِالِاجْتِمَاعِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُعْجَب بِرَأْيِهِ وَضَلَالَته وَهَذَا غَايَة الضَّلَال.
هَذِهِ الْآيَة تَنْظُر إِلَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلكُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب اِفْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّة وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّار وَوَاحِدَة فِي الْجَنَّة وَهِيَ الْجَمَاعَة ) الْحَدِيث.
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَزَادَ : قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ :( مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ) خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو.
وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّ الِافْتِرَاق الْمُحَذَّر مِنْهُ فِي الْآيَة وَالْحَدِيث إِنَّمَا هُوَ فِي أُصُول الدِّين وَقَوَاعِده، لِأَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا مِلَلًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ التَّمَسُّك بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمِلَل مُوجِب لِدُخُولِ النَّار.
وَمِثْل هَذَا لَا يُقَال فِي الْفُرُوع، فَإِنَّهُ لَا يُوجِب تَعْدِيد الْمِلَل وَلَا عَذَاب النَّار ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجًا " [ الْمَائِدَة : ٤٨ ].
زُبُرًا
يَعْنِي كُتُبًا وَضَعُوهَا وَضَلَالَات أَلَّفُوهَا ; قَالَهُ اِبْن زَيْد.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ فَرَّقُوا الْكُتُب فَاتَّبَعَتْ فِرْقَة الصُّحُف وَفِرْقَة التَّوْرَاة وَفِرْقَة الزَّبُور وَفِرْقَة الْإِنْجِيل، ثُمَّ حَرَّفَ الْكُلّ وَبَدَّلَ ; قَالَهُ قَتَادَة.
وَقِيلَ : أَخَذَ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ كِتَابًا آمَنَ بِهِ وَكَفَرَ بِمَا سِوَاهُ.
وَ " زُبُرًا " بِضَمِّ الْبَاء قِرَاءَة نَافِع، جَمْع زَبُور.
وَالْأَعْمَش وَأَبُو عَمْرو بِخِلَافٍ عَنْهُ " زُبَرًا " بِفَتْحِ الْبَاء، أَيْ قِطَعًا كَقِطَعِ الْحَدِيد ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" آتُونِي زُبَر الْحَدِيد ".
[ الْكَهْف : ٩٦ ].
كُلُّ حِزْبٍ
أَيْ فَرِيق وَمِلَّة.
بِمَا لَدَيْهِمْ
أَيْ عِنْدهمْ مِنْ الدِّين.
فَرِحُونَ
أَيْ مُعْجَبُونَ بِهِ.
وَهَذِهِ الْآيَة مِثَال لِقُرَيْشٍ خَاطَبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنهمْ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ " فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتهمْ " أَيْ فَذَرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَلَا يَضِيق صَدْرك بِتَأْخِيرِ الْعَذَاب عَنْهُمْ ; فَلِكُلِّ شَيْء وَقْت.
وَالْغَمْرَة فِي اللُّغَة مَا يَغْمُرك وَيَعْلُوك ; وَأَصْله السَّتْر ; وَمِنْهُ الْغِمْر الْحِقْد لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْقَلْب.
وَالْغَمْر الْمَاء الْكَثِير لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْأَرْض.
وَغَمْر الرِّدَاء الَّذِي يَشْمَل النَّاس بِالْعَطَاءِ ; قَالَ :
غَمْر الرِّدَاء إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا غَلِقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَاب الْمَال
الْمُرَاد هُنَا الْحِيرَة الْغَفْلَة وَالضَّلَالَة.
وَدَخَلَ فُلَان فِي غِمَار النَّاس، أَيْ فِي زَحْمَتهمْ.
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ
قَالَ مُجَاهِد : حَتَّى الْمَوْت، فَهُوَ تَهْدِيد لَا تَوْقِيت ; كَمَا يُقَال : سَيَأْتِي لَك يَوْم.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
" مَا " بِمَعْنَى الَّذِي ; أَيْ أَيَحْسَبُونَ يَا مُحَمَّد أَنَّ الَّذِي نُعْطِيهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَال وَالْأَوْلَاد هُوَ ثَوَاب لَهُمْ، إِنَّمَا هُوَ اِسْتِدْرَاج وَإِمْلَاء، لَيْسَ إِسْرَاعًا فِي الْخَيْرَات.
وَفِي خَبَر " أَنَّ " ثَلَاثَة أَقْوَال، مِنْهَا أَنَّهُ مَحْذُوف.
وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى نُسَارِع لَهُمْ بِهِ فِي الْخَيْرَات، وَحُذِفَتْ بِهِ.
وَقَالَ هِشَام الضَّرِير قَوْلًا دَقِيقًا، قَالَ :" أَنَّمَا " هِيَ الْخَيْرَات ; فَصَارَ الْمَعْنَى : نُسَارِع لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ أَظْهَرَ فَقَالَ " فِي الْخَيْرَات "، وَلَا حَذْف فِيهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِير.
وَمَذْهَب الْكِسَائِيّ أَنَّ " أَنَّمَا " حَرْف وَاحِد فَلَا يَحْتَاج إِلَى تَقْدِير حَذْف، وَيَجُوز الْوَقْف عَلَى قَوْل " وَبَنِينَ ".
وَمَنْ قَالَ " أَنَّمَا " حَرْفَانِ فَلَا بُدّ مِنْ ضَمِير يَرْجِع مِنْ الْخَبَر إِلَى اِسْم " أَنَّ " وَلَمْ يَتِمّ الْوَقْف عَلَى " وَبَنِينَ ".
وَقَالَ السَّخْتِيَانِيّ : لَا يَحْسُن الْوَقْف عَلَى " وَبَنِينَ " ; لِأَنَّ " يَحْسَبُونَ " يَحْتَاج إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَتَمَام الْمَفْعُولَيْنِ
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا خَطَأ ; لِأَنَّ " أَنَّ " كَافِيَة مِنْ اِسْم أَنَّ وَخَبَرهَا وَلَا يَجُوز أَنْ يُؤْتَى بَعْد " أَنَّ " بِمَفْعُولٍ ثَانٍ.
وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْرَة " يُسَارِع " بِالْيَاءِ، عَلَى أَنْ يَكُون فَاعِله إِمْدَادنَا.
وَهَذَا يَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى غَيْر حَذْف ; أَيْ يُسَارِع لَهُمْ الْإِمْدَاد.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِيهِ حَذْف، وَيَكُون الْمَعْنَى يُسَارِع اللَّه لَهُمْ.
وَقُرِئَ " يُسَارِع لَهُمْ فِي الْخَيْرَات " وَفِيهِ ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا عَلَى حَذْف بِهِ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون يُسَارِع الْإِمْدَاد.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " لَهُمْ " اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَقَرَأَ الْحُرّ النَّحْوِيّ " نُسْرِع لَهُمْ فِي الْخَيْرَات " وَهُوَ مَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَالصَّوَاب قِرَاءَة الْعَامَّة ; لِقَوْلِهِ " نُمِدّهُمْ ".
بَل لَا يَشْعُرُونَ
أَنَّ ذَلِكَ فِتْنَة لَهُمْ وَاسْتِدْرَاج.
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْر الْكَفَرَة وَتَوَعَّدَهُمْ عَقِب ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرَات وَوَعَدَهُمْ، وَذَكَرَ ذَلِكَ بِأَبْلَغِ صِفَاتهمْ.
وَ " مُشْفِقُونَ " خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِمَّا خَوَّفَهُمْ اللَّه تَعَالَى.
لا يوجد تفسير لهذه الأية
لا يوجد تفسير لهذه الأية
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
قَالَ الْحَسَن : يُؤْتُونَ الْإِخْلَاص وَيَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَل مِنْهُمْ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَة " وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبهمْ وَجِلَة " قَالَتْ عَائِشَة : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْر وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ :( لَا يَا بِنْت الصِّدِّيق وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَل مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَات ).
وَقَالَ الْحَسَن : لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا كَانُوا مِنْ حَسَنَاتهمْ أَنْ تُرَدّ عَلَيْهِمْ أَشْفَق مِنْكُمْ عَلَى سَيِّئَاتكُمْ أَنْ تُعَذَّبُوا عَلَيْهَا.
وَقَرَأَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَابْن عَبَّاس وَالنَّخَعِيّ " وَاَلَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا " مَقْصُورًا مِنْ الْإِتْيَان.
قَالَ الْفَرَّاء : وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ عَائِشَة لَمْ تُخَالِف قِرَاءَة الْجَمَاعَة ; لِأَنَّ الْهَمْز مِنْ الْعَرَب مَنْ يَلْزَم فِيهِ الْأَلِف فِي كُلّ الْحَالَات إِذَا كُتِبَ ; فَيُكْتَب سُئِلَ الرَّجُل بِأَلِفٍ بَعْد السِّين، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِأَلِفٍ بَيْن الزَّاي وَالْوَاو، وَشَيْء وَشَيْء بِأَلِفٍ بَعْد الْيَاء، فَغَيْر مُسْتَنْكَر فِي مَذْهَب هَؤُلَاءِ أَنْ يُكْتَب " يُؤْتُونَ " بِأَلِفٍ بَعْد الْيَاء، فَيَحْتَمِل هَذَا اللَّفْظ بِالْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْخَطّ قِرَاءَتَيْنِ " يُؤْتُونَ مَا آتَوْا " وَ " يَأْتُونَ مَا أَتَوْا ".
وَيَنْفَرِد مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَة بِاحْتِمَالِ تَأْوِيلَيْنِ : أَحَدهمَا : الَّذِينَ يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا مِنْ الزَّكَاة وَالصَّدَقَة وَقُلُوبهمْ خَائِفَة.
وَالْآخَر : وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْأَعْمَال عَلَى الْعِبَاد مَا آتَوْا وَقُلُوبهمْ وَجِلَة ; فَحُذِفَ مَفْعُول فِي هَذَا الْبَاب لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ ; كَمَا حُذِفَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" فِيهِ يُغَاث النَّاس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ " [ يُوسُف : ٤٩ ] وَالْمَعْنَى يَعْصِرُونَ السِّمْسِم وَالْعِنَب ; فَاخْتُزِلَ الْمَفْعُول لِوُضُوحِ تَأْوِيله.
وَيَكُون الْأَصْل فِي الْحَرْف عَلَى هِجَائِهِ الْوُجُود فِي الْإِمَام " يَأْتُونَ " بِأَلِفٍ مُبْدَلَة مِنْ الْهَمْزَة فَكُتِبَتْ الْأَلِف وَاوًا لِتَآخِي حُرُوف الْمَدّ وَاللِّين فِي الْخَفَاء ; حَكَاهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ.
قَالَ النَّحَّاس : الْمَعْرُوف مِنْ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس " وَاَلَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا " وَهِيَ الْقِرَاءَة الْمَرْوِيَّة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَمَعْنَاهَا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا ; مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيث.
وَالْوَجَل نَحْو الْإِشْفَاق وَالْخَوْف ; فَالتَّقِيّ وَالتَّائِب خَوْفه أَمْر الْعَاقِبَة وَمَا يَطَّلِع عَلَيْهِ بَعْد الْمَوْت.
أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
فِي قَوْله :" أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهمْ رَاجِعُونَ " تَنْبِيه عَلَى الْخَاتِمَة.
وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ ( وَإِنَّمَا الْأَعْمَال بِالْخَوَاتِيمِ ).
وَأَمَّا الْمُخَلِّط فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُون تَحْت خَوْف مِنْ أَنْ يَنْفُذ عَلَيْهِ الْوَعِيد بِتَخْلِيطِهِ.
وَقَالَ أَصْحَاب الْخَوَاطِر : وَجَل الْعَارِف مِنْ طَاعَته أَكْثَر وَجَلًا مِنْ وَجَلَه مِنْ مُخَالَفَته ; لِأَنَّ الْمُخَالَفَة تَمْحُوهَا التَّوْبَة، وَالطَّاعَة تُطْلَب بِتَصْحِيحِ الْفَرْض.
" أَنَّهُمْ " أَيْ لِأَنَّهُمْ، أَوْ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهمْ رَاجِعُونَ.
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
أَيْ فِي الطَّاعَات، كَيْ يَنَالُوا بِذَلِكَ أَعْلَى الدَّرَجَات وَالْغُرُفَات.
وَقُرِئَ " يُسْرِعُونَ فِي الْخَيْرَات، أَيْ يَكُونُوا سِرَاعًا إِلَيْهَا.
وَيُسَارِعُونَ عَلَى مَعْنَى يُسَابِقُونَ مَنْ سَابَقَهُمْ إِلَيْهَا ; فَالْمَفْعُول مَحْذُوف.
قَالَ الزَّجَّاج : يُسَارِعُونَ أَبْلَغ مِنْ يُسْرِعُونَ.
وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ : أَنَّهُمْ يَسْبِقُونَ إِلَى أَوْقَاتهَا.
وَدَلَّ بِهَذَا أَنَّ الصَّلَاة فِي أَوَّل الْوَقْت أَفْضَل ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " وَكُلّ مَنْ تَقَدَّمَ فِي شَيْء فَهُوَ سَابِق إِلَيْهِ، وَكُلّ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَقَدْ سَبَقَهُ وَفَاته ; فَاللَّام فِي " لَهَا " عَلَى هَذَا الْقَوْل بِمَعْنَى إِلَى ; كَمَا قَالَ " بِأَنَّ رَبّك أَوْحَى لَهَا " [ الزَّلْزَلَة : ٥ ] أَيْ أَوْحَى إِلَيْهَا.
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ :
تُجَانِف عَنْ جَوّ الْيَمَامَة نَاقَتِي وَمَا قَصَدْت مِنْ أَهْلهَا لِسِوَائِكَا
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِي مَعْنَى " وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ " سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْ اللَّه السَّعَادَة ; فَلِذَلِكَ سَارَعُوا فِي الْخَيْرَات.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَهُمْ مِنْ أَجْل الْخَيْرَات سَابِقُونَ.
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
التَّكْلِيف هُوَ الْأَمْر بِمَا يَشُقّ عَلَيْهِ وَتَكَلَّفْت الْأَمْر تَجَشَّمْته ; حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ.
وَالْوُسْع : الطَّاقَة وَالْجِدَّة.
وَهَذَا خَبَر جَزْم.
نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلِّف الْعِبَاد مِنْ وَقْت نُزُول الْآيَة عِبَادَة مِنْ أَعْمَال الْقَلْب أَوْ الْجَوَارِح إِلَّا وَهِيَ فِي وُسْع الْمُكَلَّف وَفِي مُقْتَضَى إِدْرَاكه وَبِنْيَته ; وَبِهَذَا اِنْكَشَفَتْ الْكُرْبَة عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي تَأَوُّلهمْ أَمْر الْخَوَاطِر.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة مَا حَكَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : مَا وَدِدْت أَنَّ أَحَدًا وَلَدَتْنِي أُمّه إِلَّا جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب، فَإِنِّي تَبِعْته يَوْمًا وَأَنَا جَائِع فَلَمَّا بَلَغَ، مَنْزِل لَمْ يَجِد فِيهِ سِوَى نُحْيِيَ سَمْن قَدْ بَقِيَ فِيهِ أَثَارَة فَشَقَّهُ بَيْن أَيْدِينَا، فَجَعَلْنَا نَلْعَق مَا فِيهِ مِنْ السَّمْن وَالرُّبّ وَهُوَ يَقُول :
مَا كَلَّفَ اللَّه نَفْسًا فَوْق طَاقَتهَا وَلَا تَجُود يَد إِلَّا بِمَا تَجِدْ
اِخْتَلَفَ النَّاس فِي جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فِي الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا، بَعْد اِتِّفَاقهمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرْع، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَة أَذِنَتْ بِعَدَمِهِ ; قَالَ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عَقْلًا، وَلَا يَخْرِم ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ عَقَائِد الشَّرْع، وَيَكُون ذَلِكَ أَمَارَة عَلَى تَعْذِيب الْمُكَلَّف وَقَطْعًا بِهِ، وَيُنْظَر إِلَى هَذَا تَكْلِيف الْمُصَوَّر أَنْ يَعْقِد شَعِيرَة.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ هَلْ وَقَعَ فِي رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا ؟ فَقَالَ فِرْقَة : وَقَعَ فِي نَازِلَة أَبِي لَهَب، لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَة، وَمِنْ جُمْلَتهَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِن ; لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِتَبِّ الْيَدَيْنِ وَصَلْي النَّار وَذَلِكَ مُؤْذِن بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن ; فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِن بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن.
وَقَالَتْ فِرْقَة : لَمْ يَقَع قَطُّ.
وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْله تَعَالَى :" سَيَصْلَى نَارًا " [ الْمَسَد : ٣ ] مَعْنَاهُ إِنْ وَافَى ; حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة.
" وَيُكَلِّف " يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا مَحْذُوف ; تَقْدِيره عِبَادَة أَوْ شَيْئًا.
فَاَللَّه سُبْحَانه بِلُطْفِهِ وَإِنْعَامه عَلَيْنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ كَلَّفَنَا بِمَا يَشُقّ وَيَثْقُل كَثُبُوتِ الْوَاحِد لِلْعَشَرَةِ، وَهِجْرَة الْإِنْسَان وَخُرُوجه مِنْ وَطَنه وَمُفَارَقَة أَهْله وَوَطَنه وَعَادَته، لَكِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفنَا بِالْمَشَقَّاتِ الْمُثْقِلَة وَلَا بِالْأُمُورِ الْمُؤْلِمَة ; كَمَا كُلِّفَ مَنْ قَبْلنَا بِقَتْلِ أَنْفُسهمْ وَقَرْض مَوْضِع الْبَوْل مِنْ ثِيَابهمْ وَجُلُودهمْ، بَلْ سَهَّلَ وَرَفَقَ وَوَضَعَ عَنَّا الْإِصْر وَالْأَغْلَال الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلنَا.
فَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة، وَالْفَضْل وَالنِّعْمَة.
وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
أَظْهَر مَا قِيلَ فِيهِ : أَنَّهُ أَرَادَ كِتَاب إِحْصَاء الْأَعْمَال الَّذِي تَرْفَعهُ الْمَلَائِكَة ; وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسه لِأَنَّ الْمَلَائِكَة كُتِبَتْ فِيهِ أَعْمَال الْعِبَاد بِأَمْرِهِ، فَهُوَ يَنْطِق بِالْحَقِّ.
وَفِي هَذَا تَهْدِيد وَتَأْيِيس مِنْ الْحَيْف وَالظُّلْم.
وَلَفْظ النُّطْق يَجُوز فِي الْكِتَاب ; وَالْمُرَاد أَنَّ النَّبِيِّينَ تَنْطِق بِمَا فِيهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقِيلَ : عَنَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقَدْ أَثْبَتَ فِيهِ كُلّ شَيْء، فَهُمْ لَا يُجَاوِزُونَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ : الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ " وَلَدَيْنَا كِتَاب " الْقُرْآن، فَاَللَّه أَعْلَم، وَكُلّ مُحْتَمَل وَالْأَوَّل أَظْهَر.
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا
قَالَ مُجَاهِد : أَيْ فِي غِطَاء وَغَفْلَة وَعَمَايَة عَنْ الْقُرْآن.
وَيُقَال : غَمَرَهُ الْمَاء إِذَا غَطَّاهُ.
وَنَهْر غَمْر يُغَطِّي مَنْ دَخَلَهُ.
وَرَجُل غَمْر يَغْمُرهُ آرَاء النَّاس.
وَقِيلَ :" غَمْرَة " لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْوَجْه.
وَمِنْهُ دَخَلَ فِي غِمَار النَّاس وَخِمَارهمْ، أَيْ فِيمَا يُغَطِّيه مِنْ الْجَمْع.
وَقِيلَ :" بَلْ قُلُوبهمْ فِي غَمْرَة " أَيْ فِي حَيْرَة وَعَمًى ; أَيْ مِمَّا وُصِفَ مِنْ أَعْمَال الْبِرّ فِي الْآيَات الْمُتَقَدِّمَة ; قَالَهُ قَتَادَة.
أَوْ مِنْ الْكِتَاب الَّذِي يَنْطِق بِالْحَقِّ.
وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
قَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد : أَيْ لَهُمْ خَطَايَا لَا بُدّ أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ دُون الْحَقّ.
وَقَالَ الْحَسَن وَابْن زَيْد : الْمَعْنَى وَلَهُمْ أَعْمَال رَدِيئَة لَمْ يَعْمَلُوهَا مِنْ دُون مَا هُمْ عَلَيْهِ، لَا بُدّ أَنْ يَعْمَلُوهَا دُون أَعْمَال الْمُؤْمِنِينَ، فَيَدْخُلُونَ بِهَا النَّار، لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ الشِّقْوَة.
وَيَحْتَمِل ثَالِثًا : أَنَّهُ ظَلَمَ الْخَلْق مَعَ الْكُفْر بِالْخَالِقِ ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ
" يَعْنِي بِالسَّيْفِ يَوْم بَدْر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ الضَّحَّاك : يَعْنِي بِالْجُوعِ حِين قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتك عَلَى مُضَر اللَّهُمَّ اِجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف ).
فَابْتَلَاهُمْ اللَّه بِالْقَحْطِ وَالْجُوع حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَام وَالْمَيْتَة وَالْكِلَاب وَالْجِيَف، وَهَلَكَ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد.
إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
أَيْ يَضِجُّونَ وَيَسْتَغِيثُونَ.
وَأَصْل الْجُؤَار رَفْع الصَّوْت بِالتَّضَرُّعِ كَمَا يَفْعَل الثَّوْر.
وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِف بَقَرَة :
فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْن يَوْم وَلَيْلَة وَكَانَ النَّكِير أَنْ تُضِيف وَتَجْأَرَا
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْجُؤَار مِثْل الْخُوَار ; يُقَال : جَأَرَ الثَّوْر يَجْأَر أَيْ صَاحَ.
وَقَرَأَ بَعْضهمْ " عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جُؤَار " حَكَاهُ الْأَخْفَش.
وَجَأَرَ الرَّجُل إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ تَضَرَّعَ بِالدُّعَاءِ.
قَتَادَة : يَصْرُخُونَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا تُقْبَل مِنْهُمْ.
قَالَ :
يُرَاوِح مِنْ صَلَوَات الْمَلِيك فَطَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج :" حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ " هُمْ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ " إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ " هُمْ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ; فَجَمَعَ بَيْن الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ حَسَن.
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ
أَيْ مِنْ عَذَابنَا.
إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ
لَا تُمْنَعُونَ وَلَا يَنْفَعكُمْ جَزَعكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَن : لَا تُنْصَرُونَ بِقَبُولِ التَّوْبَة.
وَقِيلَ : مَعْنَى هَذَا النَّهْي الْإِخْبَار ; أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ تَضَرَّعْتُمْ لَمْ يَنْفَعكُمْ.
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ
الْآيَات يُرِيد بِهَا الْقُرْآن.
" تُتْلَى عَلَيْكُمْ " أَيْ تُقْرَأ.
قَالَ الضَّحَّاك : قَبْل أَنْ تُعَذَّبُوا بِالْقَتْلِ وَ " تَنْكِصُونَ " تَرْجِعُونَ وَرَاءَكُمْ.
مُجَاهِد : تَسْتَأْخِرُونَ ; وَأَصْله أَنْ تَرْجِع الْقَهْقَرَى.
قَالَ الشَّاعِر :
زَعَمُوا بِأَنَّهُمُ عَلَى سُبُل النَّجَا ةِ وَإِنَّمَا نُكُص عَلَى الْأَعْقَاب
وَهُوَ هُنَا اِسْتِعَارَة لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْحَقّ.
قَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " عَلَى أَدْبَاركُمْ " بَدَل " عَلَى أَعْقَابكُمْ "، " تَنْكُصُونَ " بِضَمِّ الْكَاف.
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
حَال، وَالضَّمِير فِي " بِهِ " قَالَ الْجُمْهُور : هُوَ عَائِد عَلَى الْحَرَم أَوْ الْمَسْجِد أَوْ الْبَلَد الَّذِي هُوَ مَكَّة، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّم لَهُ ذِكْر لِشُهْرَتِهِ فِي الْأَمْر ; أَيْ يَقُولُونَ نَحْنُ أَهْل الْحَرَم فَلَا نَخَاف.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي نُفُوسهمْ أَنَّ لَهُمْ بِالْمَسْجِدِ وَالْحَرَم أَعْظَم الْحُقُوق عَلَى النَّاس وَالْمَنَازِل ; فَيَسْتَكْبِرُونَ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ الِاسْتِكْبَار مِنْ الْحَقّ.
وَقَالَتْ فِرْقَة : الضَّمِير عَائِد عَلَى الْقُرْآن مِنْ حَيْثُ ذُكِرَتْ الْآيَات ; وَالْمَعْنَى : يُحْدِث لَكُمْ سَمَاع آيَاتِي كِبْرًا وَطُغْيَانًا فَلَا تُؤْمِنُوا بِهِ.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل جَيِّد.
النَّحَّاس : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى، وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالْحَرَمِ وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْل حَرَم اللَّه تَعَالَى.
سَامِرًا تَهْجُرُونَ
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل :
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" سَامِرًا تَهْجُرُونَ " " سَامِرًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال، وَمَعْنَاهُ سُمَّارًا، وَهُوَ الْجَمَاعَة يَتَحَدَّثُونَ بِاللَّيْلِ، مَأْخُوذ مِنْ السَّمَر وَهُوَ ظِلّ الْقَمَر ; وَمِنْهُ سُمْرَة اللَّوْن.
وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ حَوْل الْكَعْبَة فِي سَمَر الْقَمَر ; فَسُمِّيَ التَّحَدُّث بِهِ.
قَالَ الثَّوْرِيّ : يُقَال لِظِلِّ الْقَمَر السَّمَر ; وَمِنْهُ السُّمْرَة فِي اللَّوْن، وَيُقَال لَهُ : الْفَخْت ; وَمِنْهُ قِيلَ فَاخِتَة.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء " سُمَّارًا " وَهُوَ جَمْع سَامِر ; كَمَا قَالَ :
فَقَالَتْ سَبَاكَ اللَّهُ إنَّكَ فَاضِحِي أَلَسْتَ تَرَى السُّمَّار وَالنَّاس أَحْوَالِي
وَفِي حَدِيث قَيْلَة : إِذَا جَاءَ زَوْجهَا مِنْ السَّامِر ; يَعْنِي مِنْ الْقَوْم الَّذِينَ يَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ ; فَهُوَ اِسْم مُفْرَد بِمَعْنَى الْجَمْع، كَالْحَاضِرِ وَهُمْ الْقَوْم النَّازِلُونَ عَلَى الْمَاء، وَالْبَاقِر جَمْع الْبَقَر، وَالْجَامِل جَمْع الْإِبِل، ذُكُورَتهَا وَإِنَاثهَا ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" ثُمَّ نُخْرِجكُمْ طِفْلًا " [ الْحَجّ : ٥ ] أَيْ أَطْفَالًا.
يُقَال : قَوْم سَمْر وَسُمَّر وَسَامِر، وَمَعْنَاهُ سَهَر اللَّيْل ; مَأْخُوذ مِنْ السَّمَر وَهُوَ مَا يَقَع عَلَى الْأَشْجَار مِنْ ضَوْء الْقَمَر.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : السَّامِر أَيْضًا السُّمَّار، وَهُمْ الْقَوْم الَّذِينَ يَسْمُرُونَ ; كَمَا يُقَال لِلْحَاجِّ حُجَّاج، وَقَوْل الشَّاعِر :
وَسَامِر طَالَ فِيهِ اللَّهْو وَالسَّمَر
كَأَنَّهُ سَمَّى الْمَكَان الَّذِي يَجْتَمِع فِيهِ لِلسَّمَرِ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ : وَحَّدَ سَامِرًا وَهُوَ بِمَعْنَى السُّمَّار ; لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِع الْوَقْت، كَقَوْلِ الشَّاعِر :
مِنْ دُونهمْ إِنْ جِئْتهمْ سَمَرًا عَزْف الْقِيَان وَمَجْلِس غَمْر
فَقَالَ : سَمَرًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ : إِنْ جِئْتهمْ لَيْلًا وَجَدْتهمْ وَهُمْ يَسْمُرُونَ.
وَابْنَا سَمِير : اللَّيْل وَالنَّهَار ; لِأَنَّهُ يُسْمَر فِيهِمَا، يُقَال : لَا أَفْعَلهُ مَا سَمَرَ اِبْنَا سَمِير أَبَدًا.
وَيُقَال : السَّمِير الدَّهْر، وَابْنَاهُ اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَلَا أَفْعَلهُ السَّمَر وَالْقَمَر ; أَيْ مَا دَامَ النَّاس يَسْمُرُونَ فِي لَيْلَة قَمْرَاء.
وَلَا أَفْعَلهُ سَمِير اللَّيَالِي.
قَالَ الشَّنْفَرَى :
هُنَالِكَ لَا أَرْجُو حَيَاة تَسُرّنِي سَمِير اللَّيَالِي مُبْسَلًا بِالْجَرَائِرِ
وَالسَّمَار ( بِالْفَتْحِ ) اللَّبَن الرَّقِيق.
وَكَانَتْ الْعَرَب تَجْلِس لِلسَّمَرِ تَتَحَدَّث، وَهَذَا أَوْجَبَ مَعْرِفَتهَا بِالنُّجُومِ ; لِأَنَّهَا تَجْلِس فِي الصَّحْرَاء فَتَرَى الطَّوَالِع مِنْ الْغَوَارِب.
وَكَانَتْ قُرَيْش تَسْمُر حَوْل الْكَعْبَة مَجَالِس فِي أَبَاطِيلهَا وَكُفْرهَا، فَعَابَهُمْ اللَّه بِذَلِكَ.
وَ " تَهْجُرُونَ " قُرِئَ بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الْجِيم مِنْ أَهْجَرَ، إِذَا نَطَقَ بِالْفُحْشِ.
وَبِنَصْبِ التَّاء وَضَمّ الْجِيم مِنْ هَجَرَ الْمَرِيض إِذَا هَذَى.
وَمَعْنَاهُ : يَتَكَلَّمُونَ بِهَوَسٍ وَسَيِّئ مِنْ الْقَوْل فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْقُرْآن ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
الثَّانِيَة : رَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِنَّمَا كَرِهَ السَّمَر حِين نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ " ; يَعْنِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا يَسْمُرُونَ فِي غَيْر طَاعَة اللَّه تَعَالَى، إِمَّا فِي هَذَيَان وَإِمَّا فِي إِذَايَة.
وَكَانَ الْأَعْمَش يَقُول : إِذَا رَأَيْت الشَّيْخ وَلَمْ يَكْتُب الْحَدِيث فَاصْفَعْهُ فَإِنَّهُ مِنْ شُيُوخ الْقَمَر ; يَعْنِي يَجْتَمِعُونَ فِي لَيَالِي الْقَمَر فَيَتَحَدَّثُونَ بِأَيَّامِ الْخُلَفَاء وَالْأُمَرَاء وَلَا يُحْسِن أَحَدهمْ يَتَوَضَّأ لِلصَّلَاةِ.
الثَّالِثَة : رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي بَرْزَة قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَخِّر الْعِشَاء إِلَى ثُلُث اللَّيْل وَيَكْرَه النَّوْم قَبْلهَا وَالْحَدِيث بَعْدهَا.
قَالَ الْعُلَمَاء : أَمَّا الْكَرَاهِيَة لِلنَّوْمِ قَبْلهَا فَلِئَلَّا يُعَرِّضهَا لِلْفَوَاتِ عَنْ كُلّ وَقْتهَا أَوْ أَفْضَل وَقْتهَا ; وَلِهَذَا قَالَ عُمَر : فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنه ; ثَلَاثًا.
وَمِمَّنْ كَرِهَ النَّوْم قَبْلهَا عُمَر وَابْنه عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمْ، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك.
وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضهمْ، مِنْهُمْ عَلِيّ وَأَبُو مُوسَى وَغَيْرهمْ ; وَهُوَ مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ.
وَشَرَطَ بَعْضهمْ أَنْ يَجْعَل مَعَهُ مَنْ يُوقِظهُ لِلصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر مِثْله، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيّ.
وَأَمَّا كَرَاهِيَة الْحَدِيث بَعْدهَا فَلِأَنَّ الصَّلَاة قَدْ كَفَّرَتْ خَطَايَاهُ فَيَنَام عَلَى سَلَامَة، وَقَدْ خَتَمَ الْكُتَّاب صَحِيفَته بِالْعِبَادَةِ ; فَإِنْ هُوَ سَمَرَ وَتَحَدَّثَ فَيَمْلَؤُهَا بِالْهَوَسِ وَيُجْعَل خَاتِمَتهَا اللَّغْو وَالْبَاطِل، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْل الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّمَر فِي الْحَدِيث مَظِنَّة غَلَبَة النَّوْم آخِر اللَّيْل فَيَنَام عَنْ قِيَام آخِر اللَّيْل، وَرُبَّمَا يَنَام عَنْ صَلَاة الصُّبْح.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا يُكْرَه السَّمَر بَعْدهَا لِمَا رَوَى جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه :( إِيَّاكُمْ وَالسَّمَر بَعْد هَدْأَة الرَّجُل فَإِنَّ أَحَدكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَبُثّ اللَّه تَعَالَى مِنْ خَلْقه أَغْلِقُوا الْأَبْوَاب وَأَوْكِئُوا السِّقَاء وَخَمِّرُوا الْإِنَاء وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيح ).
وَرُوِيَ عَنْ عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَضْرِب النَّاس عَلَى الْحَدِيث بَعْد الْعِشَاء، وَيَقُول : أَسُمَّرًا أَوَّل اللَّيْل وَنُوَّمًا آخِره ! أَرِيحُوا كُتَّابكُمْ.
حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَضَ بَيْت شِعْر بَعْد الْعِشَاء لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاة حَتَّى يُصْبِح.
وَأَسْنَدَهُ شَدَّاد بْن أَوْس إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْحِكْمَة فِي كَرَاهِيَة الْحَدِيث بَعْدهَا إِنَّمَا هُوَ لِمَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ اللَّيْل سَكَنًا، أَيْ يُسْكَن فِيهِ، فَإِذَا تَحَدَّثَ الْإِنْسَان فِيهِ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي النَّهَار الَّذِي هُوَ مُتَصَرَّف الْمَعَاش ; فَكَأَنَّهُ قَصَدَ إِلَى مُخَالَفَة حِكْمَة اللَّه تَعَالَى الَّتِي أَجْرَى عَلَيْهَا وُجُوده فَقَالَ " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْل لِبَاسًا وَالنَّوْم سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَار نُشُورًا " [ الْفُرْقَان : ٤٧ ].
الرَّابِعَة : هَذِهِ الْكَرَاهَة إِنَّمَا تَخْتَصّ بِمَا لَا يَكُون مِنْ قَبِيل الْقُرَب وَالْأَذْكَار وَتَعْلِيم الْعِلْم، وَمُسَامَرَة الْأَهْل بِالْعِلْمِ وَبِتَعْلِيمِ الْمَصَالِح وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ ; فَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ السَّلَف مَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز ذَلِكَ، بَلْ عَلَى نَدْبِيَّته.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيّ :( بَاب السَّمَر فِي الْفِقْه وَالْخَيْر بَعْد الْعِشَاء ) وَذُكِرَ أَنَّ قُرَّة بْن خَالِد قَالَ : اِنْتَظَرَنَا الْحَسَن وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى جَاءَ قَرِيبًا مِنْ وَقْت قِيَامه، فَجَاءَ فَقَالَ : دَعَانَا جِيرَاننَا هَؤُلَاءِ.
ثُمَّ قَالَ أَنَس : اِنْتَظَرْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات لَيْلَة حَتَّى كَانَ شَطْر اللَّيْل فَجَاءَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ :( إِنَّ النَّاس قَدْ صَلُّوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاة مَا اِنْتَظَرْتُمْ الصَّلَاة ).
قَالَ الْحَسَن : فَإِنَّ الْقَوْم لَا يَزَالُونَ فِي خَيْر مَا اِنْتَظَرُوا الْخَيْر.
قَالَ :( بَاب السَّمَر مَعَ الضَّيْف وَالْأَهْل ) وَذَكَرَ حَدِيث أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ أَصْحَاب الصُّفَّة كَانُوا فُقَرَاء... الْحَدِيث.
أَخْرَجَهُ مُسْلِم أَيْضًا.
وَقَدْ جَاءَ فِي حِرَاسَة الثُّغُور وَحِفْظ الْعَسَاكِر بِاللَّيْلِ مِنْ الثَّوَاب الْجَزِيل وَالْأَجْر الْعَظِيم مَا هُوَ مَشْهُور فِي الْأَخْبَار.
وَقَدْ مَضَى مِنْ ذَلِكَ جُمْلَة فِي آخِر " آل عِمْرَان " وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده.
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ
يَعْنِي الْقُرْآن ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن " [ النِّسَاء : ٨٢ ].
وَسُمِّيَ الْقُرْآن قَوْلًا لِأَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ.
أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ
فَأَنْكَرَهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَقِيلَ :" أَمْ " بِمَعْنَى بَلْ ; أَيْ بَلْ جَاءَهُمْ مَا لَا عَهْد لِآبَائِهِمْ بِهِ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوهُ وَتَرَكُوا التَّدَبُّر لَهُ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : وَقِيلَ الْمَعْنَى أَمْ جَاءَهُمْ أَمَان مِنْ الْعَذَاب، وَهُوَ شَيْء لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الْأَوَّلِينَ فَتَرَكُوا الْأَعَزّ.
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
هَذَا تَسْتَعْمِلهُ الْعَرَب عَلَى مَعْنَى التَّوْقِيف وَالتَّقْبِيح، فَيَقُولُونَ : الْخَيْر أَحَبّ إِلَيْك أَمْ الشَّرّ ; أَيْ قَدْ أَخْبَرْت الشَّرّ فَتَجَنَّبْهُ، وَقَدْ عَرَفُوا رَسُولهمْ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْل الصِّدْق وَالْأَمَانَة ; فَفِي اِتِّبَاعه النَّجَاة وَالْخَيْر لَوْلَا الْعَنَت.
قَالَ سُفْيَان : بَلَى ! قَدْ عَرَفُوهُ وَلَكِنَّهُمْ حَسَدُوهُ !
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ
أَيْ أَمْ يَحْتَجُّونَ فِي تَرْك الْإِيمَان بِهِ بِأَنَّهُ مَجْنُون، فَلَيْسَ هُوَ هَكَذَا لِزَوَالِ أَمَارَات الْجُنُون عَنْهُ.
بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ
يَعْنِي الْقُرْآن وَالتَّوْحِيد الْحَقّ وَالدِّين الْحَقّ.
وَأَكْثَرُهُمْ
أَيْ كُلّهمْ
لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
حَسَدًا وَبَغْيًا وَتَقْلِيدًا.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
" الْحَقّ " هُنَا هُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى ; قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ مُجَاهِد وَابْن جُرَيْج وَأَبُو صَالِح وَغَيْرهمْ.
وَتَقْدِيره فِي الْعَرَبِيَّة : وَلَوْ اِتَّبَعَ صَاحِب الْحَقّ ; قَالَهُ النَّحَّاس.
وَقَدْ قِيلَ : هُوَ مَجَاز، أَيْ لَوْ وَافَقَ الْحَقّ أَهْوَاءَهُمْ ; فَجَعَلَ مُوَافَقَته اِتِّبَاعًا مَجَازًا ; أَيْ لَوْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ وَيَعْصُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لَا يُعَاقَبُونَ وَلَا يُجَازُونَ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا عَجْزًا وَإِمَّا جَهْلًا لَفَسَدَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ الْحَقّ مَا يَقُولُونَ مِنْ اِتِّخَاذ آلِهَة مَعَ اللَّه تَعَالَى لَتَنَافَتْ الْآلِهَة، وَأَرَادَ بَعْضهمْ مَا لَا يُرِيدهُ بَعْض، فَاضْطَرَبَ التَّدْبِير وَفَسَدَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَإِذَا فَسَدَتَا فَسَدَ مَنْ فِيهِمَا.
وَقِيلَ :" لَوْ اِتَّبَعَ الْحَقّ أَهْوَاءَهُمْ " أَيْ بِمَا يَهْوَاهُ النَّاس وَيَشْتَهُونَهُ لَبَطَلَ نِظَام الْعَالَم ; لِأَنَّ شَهَوَات النَّاس تَخْتَلِف وَتَتَضَادّ، وَسَبِيل الْحَقّ أَنْ يَكُون مَتْبُوعًا، وَسَبِيل النَّاس الِانْقِيَاد لِلْحَقِّ.
وَقِيلَ :" الْحَقّ " الْقُرْآن ; أَيْ لَوْ نَزَلَ الْقُرْآن بِمَا يُحِبُّونَ لَفَسَدَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَمَنْ فِيهِنَّ
إِشَارَة إِلَى مَنْ يَعْقِل مِنْ مَلَائِكَة السَّمَوَات وَإِنْس الْأَرْض وَجِنّهَا ; الْمَاوَرْدِيّ.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : يَعْنِي وَمَا بَيْنهمَا مِنْ خَلْق ; وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " لَفَسَدَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا " فَيَكُون عَلَى تَأْوِيل الْكَلْبِيّ وَقِرَاءَة اِبْن مَسْعُود مَحْمُولًا عَلَى فَسَاد مَنْ يَعْقِل وَمَا لَا يَعْقِل مِنْ حَيَوَان وَجَمَاد.
وَظَاهِر التَّنْزِيل فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور يَكُون مَحْمُولًا عَلَى فَسَاد مَا يَعْقِل مِنْ الْحَيَوَان ; لِأَنَّ مَا لَا يَعْقِل تَابِع لِمَا يَعْقِل فِي الصَّلَاح وَالْفَسَاد، فَعَلَى هَذَا مَا يَكُون مِنْ الْفَسَاد يَعُود عَلَى مَنْ فِي السَّمَوَات مِنْ الْمَلَائِكَة بِأَنْ جُعِلَتْ أَرْبَابًا وَهِيَ مَرْبُوبَة، وَعُبِدَتْ وَهِيَ مُسْتَعْبَدَة.
وَفَسَاد الْإِنْس يَكُون عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَذَلِكَ مُهْلِك.
الثَّانِي : بِعِبَادَةِ غَيْر اللَّه، وَذَلِكَ كُفْر.
وَأَمَّا فَسَاد مَا عَدَا ذَلِكَ فَيَكُون عَلَى وَجْه التَّبَع ; لِأَنَّهُمْ مُدَبَّرُونَ بِذَوِي الْعُقُول فَعَادَ فَسَاد الْمُدَبِّرِينَ عَلَيْهِمْ.
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ
أَيْ بِمَا فِيهِ شَرَفهمْ وَعِزّهمْ ; قَالَهُ السُّدِّيّ وَسُفْيَان.
وَقَالَ قَتَادَة : أَيْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ ذِكْر ثَوَابهمْ وَعِقَابهمْ.
فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ
اِبْن عَبَّاس : أَيْ بِبَيَانِ الْحَقّ وَذِكْر مَا لَهُمْ بِهِ حَاجَة مِنْ أَمْر الدِّين
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا
أَيْ أَجْرًا عَلَى مَا جِئْتهمْ بِهِ ; قَالَ الْحَسَن وَغَيْره.
فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَالْأَعْمَش وَيَحْيَى بْن وَثَّاب " خَرَاجًا " بِأَلِفٍ.
الْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلِف.
وَكُلّهمْ قَدْ قَرَءُوا " فَخَرَاج " بِالْأَلِفِ إِلَّا اِبْن عَامِر وَأَبَا حَيْوَة فَإِنَّهُمَا قَرَأَ بِغَيْرِ الْأَلِف.
وَالْمَعْنَى : أَمْ تَسْأَلهُمْ رِزْقًا فَرِزْق رَبّك خَيْر.
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
أَيْ لَيْسَ يَقْدِر أَحَد أَنْ يَرْزُق مِثْل رِزْقه، وَلَا يُنْعِم مِثْل إِنْعَامه.
وَقِيلَ : أَيْ مَا يُؤْتِيك اللَّه مِنْ الْأَجْر عَلَى طَاعَتك لَهُ وَالدُّعَاء إِلَيْهِ خَيْر مِنْ عَرَض الدُّنْيَا، وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْك أَمْوَالهمْ حَتَّى تَكُون كَأَعْيَنِ رَجُل مِنْ قُرَيْش فَلَمْ تُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ ; قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَن.
وَالْخَرْج وَالْخَرَاج وَاحِد، إِلَّا أَنَّ اِخْتِلَاف الْكَلَام أَحْسَن ; قَالَهُ الْأَخْفَش.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم : الْخَرْج الْجُعْل، وَالْخَرَاج الْعَطَاء.
الْمُبَرِّد : الْخَرْج الْمَصْدَر، وَالْخَرَاج الِاسْم.
وَقَالَ النَّضْر بْن شُمَيْل : سَأَلْت أَبَا عَمْرو بْن الْعَلَاء عَنْ الْفَرْق بَيْن الْخَرْج وَالْخَرَاج فَقَالَ : الْخَرَاج مَا لَزِمَك، وَالْخَرْج مَا تَبَرَّعْت بِهِ.
وَعَنْهُ أَنَّ الْخَرْج مِنْ الرِّقَاب، وَالْخَرَاج مِنْ الْأَرْض.
ذَكَرَ الْأَوَّل الثَّعْلَبِيّ وَالثَّانِي الْمَاوَرْدِيّ.
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
أَيْ إِلَى دِين قَوِيم.
وَالصِّرَاط فِي اللُّغَة الطَّرِيق ; فَسُمِّيَ الدِّين طَرِيقًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّة فَهُوَ طَرِيق إِلَيْهَا.
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
أَيْ بِالْبَعْثِ.
عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
قِيلَ : هُوَ مِثْل الْأَوَّل.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ عَنْ طَرِيق الْجَنَّة لَنَاكِبُونَ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى النَّار.
نَكَبَ عَنْ الطَّرِيق يَنْكُب نُكُوبًا إِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَمَالَ إِلَى غَيْره ; وَمِنْهُ نَكَبَتْ الرِّيح إِذَا لَمْ تَسْتَقِمْ عَلَى مَجْرَى.
وَشَرّ الرِّيح النَّكْبَاء.
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ
أَيْ لَوْ رَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلَمْ نُدْخِلهُمْ النَّار وَامْتَحَنَّاهُمْ
لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ
قَالَ السُّدِّيّ : فِي مَعْصِيَتهمْ.
يَعْمَهُونَ
قَالَ الْأَعْمَش : يَتَرَدَّدُونَ.
قَالَ اِبْن جُرَيْج :" وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ " يَعْنِي فِي الدُّنْيَا " وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرّ " أَيْ مِنْ قَحْط وَجُوع " لَلَجُّوا " أَيْ لَتَمَادَوْا " فِي طُغْيَانهمْ " وَضَلَالَتهمْ وَتَجَاوَزَهُمْ الْحَدّ " يَعْمَهُونَ " يَتَذَبْذَبُونَ وَيَخْبِطُونَ.
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ
قَالَ الضَّحَّاك : بِالْجُوعِ.
وَقِيلَ : بِالْأَمْرَاضِ وَالْحَاجَة وَالْجُوع.
وَقِيلَ : بِالْقَتْلِ وَالْجُوع.
فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ
أَيْ مَا خَضَعُوا.
وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
أَيْ مَا يَخْشَعُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّدَائِد تُصِيبهُمْ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي قِصَّة ثُمَامَة بْن أُثَال لَمَّا أَسَرَتْهُ السَّرِيَّة وَأَسْلَمَ وَخَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيله، حَالَ بَيْن مَكَّة وَبَيْن الْمِيرَة وَقَالَ : وَاَللَّه لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَة حَبَّة حِنْطَة حَتَّى يَأْذَن فِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخَذَ اللَّه قُرَيْشًا بِالْقَحْطِ وَالْجُوع حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَة وَالْكِلَاب وَالْعِلْهِز ; قِيلَ وَمَا الْعِلْهِز ؟ قَالَ : كَانُوا يَأْخُذُونَ الصُّوف وَالْوَبَر فَيَبُلُّونَهُ بِالدَّمِ ثُمَّ يَشْوُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَان : أَنْشُدك اللَّه وَالرَّحِم ! أَلَيْسَ تَزْعُم أَنَّ اللَّه بَعَثَك رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ ؟ قَالَ ( بَلَى ).
قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا أَرَاك إِلَّا قَتَلْت الْآبَاء بِالسَّيْفِ، وَقَتَلْت الْأَبْنَاء بِالْجُوعِ ; فَنَزَلَ قَوْله :" وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ ".
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ
قَالَ عِكْرِمَة : هُوَ بَاب مِنْ أَبْوَاب جَهَنَّم، عَلَيْهِ مِنْ الْخَزَنَة أَرْبَعمِائَةِ أَلْف، سُود وُجُوههمْ، كَالِحَة أَنْيَابهمْ، وَقَدْ قُلِعَتْ الرَّحْمَة مِنْ قُلُوبهمْ ; إِذَا بَلَغُوهُ فَتَحَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ قَتْلهمْ بِالسَّيْفِ يَوْم بَدْر.
مُجَاهِد : هُوَ الْقَحْط الَّذِي أَصَابَهُمْ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِز مِنْ الْجُوع ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ فَتْح مَكَّة.
إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
أَيْ يَائِسُونَ مُتَحَيِّرُونَ لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ، كَالْآيِسِ مِنْ الْفَرَج وَمِنْ كُلّ خَيْر.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْأَنْعَام ".
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ
عَرَّفَهُمْ كَثْرَة نِعَمه وَكَمَال قُدْرَته.
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
أَيْ مَا تَشْكُرُونَ إِلَّا شُكْرًا قَلِيلًا.
وَقِيلَ : أَيْ لَا تَشْكُرُونَ الْبَتَّة.
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
أَيْ أَنْشَأَكُمْ وَبَثَّكُمْ وَخَلَقَكُمْ.
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
أَيْ تُجْمَعُونَ لِلْجَزَاءِ.
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
أَيْ جَعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ ; كَقَوْلِك : لَك الْأَجْر وَالصِّلَة ; أَيْ إِنَّك تُؤْجَر وَتُوصِل ; قَالَهُ الْفَرَّاء.
وَقِيلَ : اِخْتِلَافهمَا نُقْصَان أَحَدهمَا وَزِيَادَة الْآخَر.
وَقِيلَ : اِخْتِلَافهمَا فِي النُّور وَالظُّلْمَة.
وَقِيلَ : تَكَرُّرهمَا يَوْمًا بَعْد لَيْلَة وَلَيْلَة بَعْد يَوْم.
وَيَحْتَمِل خَامِسًا : اِخْتِلَاف مَا مَضَى فِيهِمَا مِنْ سَعَادَة وَشَقَاء وَضَلَال وَهُدًى.
أَفَلَا تَعْقِلُونَ
كُنْه قُدْرَته وَرُبُوبِيَّته وَوَحْدَانِيّته، وَأَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ شَرِيك مِنْ خَلْقه، وَأَنَّهُ قَادِر عَلَى الْبَعْث.
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ
ثُمَّ عَيَّرَهُمْ بِقَوْلِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ " قَالُوا مِثْل مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ "
قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
هَذَا لَا يَكُون وَلَا يُتَصَوَّر.
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ
أَيْ مِنْ قَبْل مَجِيء مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ نَرَ لَهُ حَقِيقَة.
إِنْ هَذَا
أَيْ مَا هَذَا
إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
أَيْ أَبَاطِيلهمْ وَتُرَّهَاتهمْ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلّه.
قَالَ اللَّه تَعَالَى
قُلْ
يَا مُحَمَّد جَوَابًا لَهُمْ عَمَّا قَالُوهُ
لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
يُخْبِر بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيّته وَمُلْكه الَّذِي لَا يَزُول، وَقُدْرَته الَّتِي لَا تَحُول ;
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
وَلَا بُدّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
أَيْ أَفَلَا تَتَّعِظُونَ وَتَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْق ذَلِكَ اِبْتِدَاء فَهُوَ عَلَى إِحْيَاء الْمَوْتَى بَعْد مَوْتهمْ قَادِر.
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
يُرِيد أَفَلَا تَخَافُونَ حَيْثُ تَجْعَلُونَ لِي مَا تَكْرَهُونَ ; زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَاتِي، وَكَرِهْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ الْبَنَات.
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ
يُرِيد أَفَلَا تَخَافُونَ حَيْثُ تَجْعَلُونَ لِي مَا تَكْرَهُونَ ; زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَاتِي، وَكَرِهْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ الْبَنَات.
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ
يُرِيد السَّمَوَات وَمَا فَوْقهَا وَمَا بَيْنهنَّ، وَالْأَرَضِينَ وَمَا تَحْتهنَّ وَمَا بَيْنهنَّ، وَمَا لَا يَعْلَمهُ أَحَد إِلَّا هُوَ.
وَقَالَ مُجَاهِد :" مَلَكُوت كُلّ شَيْء " خَزَائِن كُلّ شَيْء.
الضَّحَّاك : مُلْك كُلّ شَيْء.
وَالْمَلَكُوت مِنْ صِفَات الْمُبَالَغَة كَالْجَبَرُوتِ وَالرَّهَبُوت ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام ".
وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
أَيْ يَمْنَع وَلَا يُمْنَع مِنْهُ.
وَقِيلَ :" يُجِير " يُؤَمِّن مَنْ شَاءَ.
" وَلَا يُجَار عَلَيْهِ " أَيْ لَا يُؤَمَّن مَنْ أَخَافهُ.
ثُمَّ قِيلَ : هَذَا فِي الدُّنْيَا ; أَيْ مَنْ أَرَادَ اللَّه إِهْلَاكه وَخَوْفه لَمْ يَمْنَعهُ مِنْهُ مَانِع، وَمَنْ أَرَادَ نَصْره وَأَمَّنَهُ لَمْ يَدْفَعهُ مَنْ نَصَرَهُ وَأَمَّنَهُ دَافِع.
وَقِيلَ : هَذَا فِي الْآخِرَة، أَيْ لَا يَمْنَعهُ مِنْ مُسْتَحِقّ الثَّوَاب مَانِع وَلَا يَدْفَعهُ عَنْ مُسْتَوْجِبه الْعَذَاب دَافِع.
" فَأَنَّى تُسْحَرُونَ " أَيْ فَكَيْفَ تُخْدَعُونَ وَتُصْرَفُونَ عَنْ طَاعَته وَتَوْحِيده.
أَوْ كَيْفَ يُخَيَّل إِلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ مَا لَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَع ! وَالسِّحْر هُوَ التَّخْيِيل.
وَكُلّ هَذَا اِحْتِجَاج عَلَى الْعَرَب الْمُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو " سَيَقُولُونَ لِلَّهِ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَخِيرِينَ ; وَهِيَ قِرَاءَة أَهْل الْعِرَاق.
الْبَاقُونَ " لِلَّهِ "، وَلَا خِلَاف فِي الْأَوَّل أَنَّهُ " لِلَّهِ " ; لِأَنَّهُ جَوَاب لِ " قُلْ لِمَنْ الْأَرْض وَمَنْ فِيهَا " فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ اللَّام فِي " لِمَنْ " رَجَعَتْ فِي الْجَوَاب.
وَلَا خِلَاف أَنَّهُ مَكْتُوب فِي جَمِيع الْمَصَاحِف بِغَيْرِ أَلِف.
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ
" سَيَقُولُونَ اللَّه " فَلِأَنَّ السُّؤَال بِغَيْرِ لَام فَجَاءَ الْجَوَاب عَلَى لَفْظه، وَجَاءَ فِي الْأَوَّل " لِلَّهِ " لَمَّا كَانَ السُّؤَال بِاللَّامِ.
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ " لِلَّهِ " بِاللَّامِ فِي الْأَخِيرَيْنِ وَلَيْسَ فِي السُّؤَال لَام فَلِأَنَّ مَعْنَى " قُلْ مَنْ رَبّ السَّمَوَات السَّبْع وَرَبّ الْعَرْش الْعَظِيم " : قُلْ لِمَنْ السَّمَوَات السَّبْع وَرَبّ الْعَرْش الْعَظِيم.
فَكَانَ الْجَوَاب " لِلَّهِ " ; حِين قُدِّرَتْ اللَّام فِي السُّؤَال.
وَعِلَّة الثَّالِثَة كَعِلَّةِ الثَّانِيَة.
وَقَالَ الشَّاعِر :
إِذَا قِيلَ مَنْ رَبّ الْمَزَالِف وَالْقُرَى وَرَبّ الْجِيَاد الْجُرْد قُلْت لِخَالِدِ
أَيْ لِمَنْ الْمَزَالِف.
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَات عَلَى جَوَاز جِدَال الْكُفَّار وَإِقَامَة الْحُجَّة عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة ".
وَنَبَّهْت عَلَى أَنَّ مَنْ اِبْتَدَأَ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاع وَالْإِيجَاد وَالْإِبْدَاع هُوَ الْمُسْتَحِقّ لِلْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَة.
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ
أَيْ بِالْقَوْلِ الصِّدْق، لَا مَا تَقُولهُ الْكُفَّار مِنْ إِثْبَات الشَّرِيك وَنَفْي الْبَعْث.
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه.
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ
" مِنْ " صِلَة.
" وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه " " مِنْ " زَائِدَة ; وَالتَّقْدِير : مَا اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا كَمَا زَعَمْتُمْ، وَلَا كَانَ مَعَهُ إِلَه فِيمَا خَلَقَ.
وَفِي الْكَلَام حَذْف ; وَالْمَعْنَى : لَوْ كَانَتْ مَعَهُ آلِهَة لَانْفَرَدَ كُلّ إِلَه بِخَلْقِهِ.
وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
أَيْ وَلَغَالَبَ وَطَلَبَ الْقَوِيّ الضَّعِيف كَالْعَادَةِ بَيْن الْمُلُوك، وَكَانَ الضَّعِيف الْمَغْلُوب لَا يَسْتَحِقّ الْإِلَهِيَّة.
وَهَذَا الَّذِي يَدُلّ عَلَى نَفْي الشَّرِيك يَدُلّ عَلَى نَفْي الْوَلَد أَيْضًا ; لِأَنَّ الْوَلَد يُنَازِع الْأَب فِي الْمُلْك مُنَازَعَة الشَّرِيك.
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ الْوَلَد وَالشَّرِيك.
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
تَنْزِيه وَتَقْدِيس.
وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو بَكْر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " عَالِم " بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف ; أَيْ هُوَ عَالِم الْغَيْب.
الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَة لِلَّهِ.
وَرَوَى رُوَيْس عَنْ يَعْقُوب " عَالِم " إِذَا وَصَلَ خَفْضًا.
وَ " عَالِم " إِذَا اِبْتَدَأَ رَفْعًا.
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
عَلَّمَهُ مَا يَدْعُو بِهِ ; أَيْ قُلْ رَبّ، أَيْ يَا رَبّ إِنْ أَرَيْتنِي مَا يُوعَدُونَ مِنْ الْعَذَاب.
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
أَيْ فِي نُزُول الْعَذَاب بِهِمْ، بَلْ أَخْرِجْنِي مِنْهُمْ.
وَقِيلَ : النِّدَاء مُعْتَرِض ; وَ " مَا " فِي " إِمَّا " زَائِدَة.
وَقِيلَ : إِنَّ أَصْل إِمَّا إِنْ مَا ; فَ " إِنْ " شَرْط وَ " مَا " شَرْط، فَجُمِعَ بَيْن الشَّرْطَيْنِ تَوْكِيدًا، وَالْجَوَاب " فَلَا تَجْعَلنِي فِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ " ; أَيْ إِذَا أَرَدْت بِهِمْ عُقُوبَة فَأَخْرِجْنِي مِنْهُمْ.
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَعْلَم أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَجْعَلهُ فِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ الْعَذَاب، وَمَعَ هَذَا أَمَرَهُ الرَّبّ بِهَذَا الدُّعَاء وَالسُّؤَال لِيُعْظِمَ أَجْره وَلِيَكُونَ فِي كُلّ الْأَوْقَات ذَاكِرًا لِرَبِّهِ تَعَالَى.
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
نَبَّهَ عَلَى أَنَّ خِلَاف الْمَعْلُوم مَقْدُور، وَقَدْ أَرَاهُ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِمْ بِالْجُوعِ وَالسَّيْف، وَنَجَّاهُ اللَّه وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ.
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ
أَمْر بِالصَّفْحِ وَمَكَارِم الْأَخْلَاق ; فَمَا كَانَ مِنْهَا لِهَذِهِ الْأُمَّة فِيمَا بَيْنهمْ فَهُوَ مُحْكَم بَاقٍ فِي الْأُمَّة أَبَدًا.
وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ مُوَادَعَة الْكُفَّار وَتَرْك التَّعَرُّض لَهُمْ وَالصَّفْح عَنْ أُمُورهمْ فَمَنْسُوخ بِالْقِتَالِ.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالتَّكْذِيب.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا آيَة مُوَادَعَة، وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : الْهَمَزَات هِيَ جَمْع هَمْزَة.
وَالْهَمْز فِي اللُّغَة النَّخْس وَالدَّفْع ; يُقَال : هَمْزه وَلَمْزه وَنَخْسه دَفْعه.
قَالَ اللَّيْث : الْهَمْز كَلَام مِنْ وَرَاء الْقَفَا، وَاللَّمْز مُوَاجَهَة.
وَالشَّيْطَان يُوَسْوِس فَيَهْمِس فِي وَسْوَاسه فِي صَدْر اِبْن آدَم ; وَهُوَ قَوْله :" أَعُوذ بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين " أَيْ نَزَغَات الشَّيَاطِين الشَّاغِلَة عَنْ ذِكْر اللَّه تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيث : كَانَ يَتَعَوَّذ مِنْ هَمْز الشَّيْطَان وَلَمْزه وَهَمْسه.
قَالَ أَبُو الْهَيْثَم : إِذَا أَسَرَّ الْكَلَام وَأَخْفَاهُ فَذَلِكَ الْهَمْس مِنْ الْكَلَام.
وَسُمِّيَ الْأَسَد هَمُوسًا ; لِأَنَّهُ يَمْشِي بِخِفَّةٍ لَا يُسْمَع صَوْت وَطْئِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " طَه ".
الثَّانِيَة أَمْر اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ الشَّيْطَان فِي هَمَزَاته، وَهِيَ سَوْرَات الْغَضَب الَّتِي لَا يَمْلِك الْإِنْسَان فِيهَا نَفْسه، كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُصِيب الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّار فَتَقَع الْمُحَادَّة فَلِذَلِكَ اِتَّصَلَتْ بِهَذِهِ الْآيَة.
فَالنَّزَغَات وَسَوْرَات الْغَضَب الْوَارِدَة مِنْ الشَّيْطَان هِيَ الْمُتَعَوَّذ مِنْهَا فِي الْآيَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر " الْأَعْرَاف " بَيَانه مُسْتَوْفًى، وَفِي أَوَّل الْكِتَاب أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن حَرْب بْن مُحَمَّد الطَّائِيّ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ أَيُّوب عَنْ مُحَمَّد بْن حِبَّان أَنَّ خَالِدًا كَانَ يُؤَرَّق مِنْ اللَّيْل ; فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة مِنْ غَضَب اللَّه وَعِقَابه وَمِنْ شَرّ عِبَاده وَمِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين وَأَنْ يَحْضُرُونَ.
وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد قَالَ عُمَر : وَهَمْزه الْمَوْتَة ; قَالَ اِبْن مَاجَهْ : الْمَوْتَة يَعْنِي الْجُنُون.
وَالتَّعَوُّذ أَيْضًا مِنْ الْجُنُون وَكِيد.
وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " رَبّ عَائِذًا بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين، وَعَائِذًا بِك أَنْ يَحْضُرُونَ " ; أَيْ يَكُونُوا مَعِي فِي أُمُورِي، فَإِنَّهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْإِنْسَان كَانُوا مُعِدِّينَ لِلْهَمْزِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُضُور فَلَا هَمْز.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :" إِنَّ الشَّيْطَان يَحْضُر أَحَدكُمْ عِنْد كُلّ شَيْء مِنْ شَأْنه حَتَّى يَحْضُرهُ عِنْد طَعَامه فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدكُمْ اللُّقْمَة فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذَى ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعهَا لِلشَّيْطَانِ فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيّ طَعَامه الْبَرَكَة ).
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : الْهَمَزَات هِيَ جَمْع هَمْزَة.
وَالْهَمْز فِي اللُّغَة النَّخْس وَالدَّفْع ; يُقَال : هَمْزه وَلَمْزه وَنَخْسه دَفْعه.
قَالَ اللَّيْث : الْهَمْز كَلَام مِنْ وَرَاء الْقَفَا، وَاللَّمْز مُوَاجَهَة.
وَالشَّيْطَان يُوَسْوِس فَيَهْمِس فِي وَسْوَاسه فِي صَدْر اِبْن آدَم ; وَهُوَ قَوْله :" أَعُوذ بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين " أَيْ نَزَغَات الشَّيَاطِين الشَّاغِلَة عَنْ ذِكْر اللَّه تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيث : كَانَ يَتَعَوَّذ مِنْ هَمْز الشَّيْطَان وَلَمْزه وَهَمْسه.
قَالَ أَبُو الْهَيْثَم : إِذَا أَسَرَّ الْكَلَام وَأَخْفَاهُ فَذَلِكَ الْهَمْس مِنْ الْكَلَام.
وَسُمِّيَ الْأَسَد هَمُوسًا ; لِأَنَّهُ يَمْشِي بِخِفَّةٍ لَا يُسْمَع صَوْت وَطْئِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " طَه ".
الثَّانِيَة أَمْر اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ الشَّيْطَان فِي هَمَزَاته، وَهِيَ سَوْرَات الْغَضَب الَّتِي لَا يَمْلِك الْإِنْسَان فِيهَا نَفْسه، كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُصِيب الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّار فَتَقَع الْمُحَادَّة فَلِذَلِكَ اِتَّصَلَتْ بِهَذِهِ الْآيَة.
فَالنَّزَغَات وَسَوْرَات الْغَضَب الْوَارِدَة مِنْ الشَّيْطَان هِيَ الْمُتَعَوَّذ مِنْهَا فِي الْآيَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر " الْأَعْرَاف " بَيَانه مُسْتَوْفًى، وَفِي أَوَّل الْكِتَاب أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن حَرْب بْن مُحَمَّد الطَّائِيّ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ أَيُّوب عَنْ مُحَمَّد بْن حِبَّان أَنَّ خَالِدًا كَانَ يُؤَرَّق مِنْ اللَّيْل ; فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة مِنْ غَضَب اللَّه وَعِقَابه وَمِنْ شَرّ عِبَاده وَمِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين وَأَنْ يَحْضُرُونَ.
وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد قَالَ عُمَر : وَهَمْزه الْمُوتَة ; قَالَ اِبْن مَاجَهْ : الْمُوتَة يَعْنِي الْجُنُون.
وَالتَّعَوُّذ أَيْضًا مِنْ الْجُنُون وَكِيد.
وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " رَبّ عَائِذًا بِك مِنْ هَمَزَات الشَّيَاطِين، وَعَائِذًا بِك أَنْ يَحْضُرُونَ " ; أَيْ يَكُونُوا مَعِي فِي أُمُورِي، فَإِنَّهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْإِنْسَان كَانُوا مُعَدِّينَ لِلْهَمْزِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُضُور فَلَا هَمْز.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :" إِنَّ الشَّيْطَان يَحْضُر أَحَدكُمْ عِنْد كُلّ شَيْء مِنْ شَأْنه حَتَّى يَحْضُرهُ عِنْد طَعَامه فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدكُمْ اللُّقْمَة فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعهَا لِلشَّيْطَانِ فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيّ طَعَامه الْبَرَكَة ).
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
عَادَ الْكَلَام إِلَى ذِكْر الْمُشْرِكِينَ ; أَيْ قَالُوا " أَئِذَا مِتْنَا - إِلَى قَوْله - إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ ".
ثُمَّ اِحْتَجَّ عَلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ قُدْرَته عَلَى كُلّ شَيْء، ثُمَّ قَالَ هُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدهمْ الْمَوْت تَيَقَّنَ ضَلَالَته وَعَايَنَ الْمَلَائِكَة الَّتِي تَقْبِض رُوحه ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَة " [ الْأَنْفَال : ٥٠ ].
قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
تَمَنَّى الرَّجْعَة كَيْ يَعْمَل صَالِحًا فِيمَا تَرَكَ.
وَقَدْ يَكُون الْقَوْل فِي النَّفْس ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسهمْ لَوْلَا يُعَذِّبنَا اللَّه بِمَا نَقُول " [ الْمُجَادَلَة : ٨ ].
فَأَمَّا قَوْله " اِرْجِعُونِ " وَهُوَ مُخَاطِب رَبّه عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَقُلْ " اِرْجِعْنِي " جَاءَ عَلَى تَعْظِيم الذِّكْر لِلْمُخَاطَبِ.
وَقِيلَ : اِسْتَغَاثُوا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا، فَقَالَ قَائِلهمْ : ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَة الْمَلَائِكَة فَقَالَ : اِرْجِعُونِ إِلَى الدُّنْيَا ; قَالَ اِبْن جُرَيْج.
وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى " اِرْجِعُونِ " عَلَى جِهَة التَّكْرِير ; أَيْ أَرْجِعْنِي أَرْجِعْنِي أَرْجِعْنِي وَهَكَذَا.
قَالَ الْمُزَنِيّ فِي قَوْله تَعَالَى " أَلْقِيَا فِي جَهَنَّم " [ ق : ٢٤ ] قَالَ : مَعْنَاهُ أَلْقِ أَلْقِ.
قَالَ الضَّحَّاك : الْمُرَاد بِهِ أَهْل الشِّرْك.
قُلْت : لَيْسَ سُؤَال الرَّجْعَة مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِ فَقَدْ يَسْأَلهَا الْمُؤْمِن كَمَا فِي آخِر سُورَة الْمُنَافِقِينَ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوت حَتَّى يُعْرَف اِضْطِرَارًا أَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاء اللَّه أَمْ مِنْ أَعْدَاء اللَّه، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَأَلَ الرَّجْعَة، فَيَعْلَمُوا ذَلِكَ قَبْل نُزُول الْمَوْت وَذَوَاقه.
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه.
فِيمَا تَرَكْتُ
أَيْ فِيمَا ضَيَّعْت وَتَرَكْت الْعَمَل بِهِ مِنْ الطَّاعَات.
وَقِيلَ " فِيمَا تَرَكْت " مِنْ الْمَال فَأَتَصَدَّق.
وَ " لَعَلَّ " تَتَضَمَّن تَرَدُّدًا ; وَهَذَا الَّذِي يَسْأَل الرَّجْعَة قَدْ اِسْتَيْقَنَ الْعَذَاب، وَهُوَ يُوَطِّن نَفْسه عَلَى الْعَمَل الصَّالِح قَطْعًا مِنْ غَيْر تَرَدُّد.
فَالتَّرَدُّد يَرْجِع إِمَّا إِلَى رَدّه إِلَى الدُّنْيَا، وَإِمَّا إِلَى التَّوْفِيق ; أَيْ أَعْمَل صَالِحًا إِنْ وَفَّقْتنِي ; إِذْ لَيْسَ عَلَى قَطْع مِنْ وُجُود الْقُدْرَة وَالتَّوْفِيق لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا.
كَلَّا
هَذِهِ كَلِمَة رَدّ ; أَيْ لَيْسَ الْأَمْر عَلَى مَا يَظُنّهُ مِنْ أَنَّهُ يُجَاب إِلَى الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا، بَلْ هُوَ كَلَام يَطِيح فِي أَدْرَاج الرِّيح.
وَقِيلَ : لَوْ أُجِيبَ إِلَى مَا يَطْلُب لَمَا وَفَّى بِمَا يَقُول ; كَمَا قَالَ :" وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ " [ الْأَنْعَام : ٢٨ ].
وَقِيلَ :
إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
تَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى ; أَيْ لَا خُلْف فِي خَبَره، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَنْ يُؤَخِّر نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلهَا، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ هَذَا الْكَافِر لَا يُؤْمِن.
وَقِيلَ :" إِنَّهَا كَلِمَة هُوَ قَائِلهَا " عِنْد الْمَوْت، وَلَكِنْ لَا تَنْفَع.
وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
أَيْ وَمِنْ أَمَامهمْ وَبَيْن أَيْدِيهمْ.
وَقِيلَ : مِنْ خَلْفهمْ.
" بَرْزَخ " أَيْ حَاجِز بَيْن الْمَوْت وَالْبَعْث ; قَالَهُ الضَّحَّاك وَمُجَاهِد وَابْن زَيْد.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا أَنَّ الْبَرْزَخ هُوَ الْحَاجِز بَيْن الْمَوْت وَالرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا.
وَعَنْ الضَّحَّاك : هُوَ مَا بَيْن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
اِبْن عَبَّاس.
حِجَاب.
السُّدِّيّ : أَجَل.
قَتَادَة : بَقِيَّة الدُّنْيَا.
وَقِيلَ : الْإِمْهَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى.
الْكَلْبِيّ : هُوَ الْأَجَل مَا بَيْن النَّفْخَتَيْنِ، وَبَيْنهمَا أَرْبَعُونَ سَنَة.
وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة.
وَكُلّ حَاجِز بَيْن شَيْئَيْنِ فَهُوَ بَرْزَخ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْبَرْزَخ الْحَاجِز بَيْن الشَّيْئَيْنِ.
وَالْبَرْزَخ مَا بَيْن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مِنْ وَقْت الْمَوْت إِلَى الْبَعْث ; فَمَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْبَرْز.
وَقَالَ رَجُل بِحَضْرَةِ الشَّعْبِيّ : رَحِمَ اللَّه فُلَانًا فَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْل الْآخِرَة ! فَقَالَ : لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْل الْآخِرَة، وَلَكِنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْل الْبَرْزَخ، وَلَيْسَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ الْآخِرَة.
وَأُضِيفَ " يَوْم " إِلَى " يُبْعَثُونَ " لِأَنَّهُ ظَرْف زَمَان، وَالْمُرَاد بِالْإِضَافَةِ الْمَصْدَر.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ
الْمُرَاد بِهَذَا النَّفْخ النَّفْخَة الثَّانِيَة.
فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا يَفْتَخِرُونَ بِالْأَنْسَابِ فِي الْآخِرَة كَمَا يَفْتَخِرُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فِيهَا كَمَا يَتَسَاءَلُونَ فِي الدُّنْيَا ; مِنْ أَيّ قَبِيلَة أَنْتَ وَلَا مِنْ أَيّ نَسَب، وَلَا يَتَعَارَفُونَ لِهَوْلِ مَا أَذْهَلَهُمْ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ ذَلِكَ فِي النَّفْخَة الْأُولَى حِين يُصْعَق مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَام يَنْظُرُونَ، وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ.
وَسَأَلَ رَجُل اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله :" فَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ " [ الصَّافَّات : ٥٠ ] فَقَالَ : لَا يَتَسَاءَلُونَ فِي النَّفْخَة الْأُولَى ; لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض حَيّ، فَلَا أَنْسَاب وَلَا تَسَاؤُل.
و أَمَّا قَوْله " فَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّة تَسَاءَلُوا.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِنَّمَا عَنَى فِي هَذِهِ الْآيَة النَّفْخَة الثَّانِيَة.
وَقَالَ أَبُو عُمَر زَاذَان : دَخَلْت عَلَى اِبْن مَسْعُود فَوَجَدْت أَصْحَاب الْخَيْر وَالْيَمْنَة قَدْ سَبَقُونِي إِلَيْهِ، فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي : يَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود ! مِنْ أَجْل أَنِّي رَجُل أَعْجَمِيّ أَدْنَيْت هَؤُلَاءِ وَأَقْصَيْتنِي ! فَقَالَ : اُدْنُهُ ; فَدَنَوْت، حَتَّى مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنه جَلِيس فَسَمِعْته يَقُول : يُؤْخَذ بِيَدِ الْعَبْد أَوْ الْأَمَة يَوْم الْقِيَامَة فَيُنْصَب عَلَى رُءُوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : هَذَا فُلَان بْن فُلَان، مَنْ كَانَ لَهُ حَقّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقّه ; فَتَفْرَح الْمَرْأَة أَنْ يَدُور لَهَا الْحَقّ عَلَى أَبِيهَا أَوْ عَلَى زَوْجهَا أَوْ عَلَى أَخِيهَا أَوْ عَلَى اِبْنهَا ; ثُمَّ قَرَأَ اِبْن مَسْعُود :" فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ " فَيَقُول الرَّبّ سُبْحَانه وَتَعَالَى ( آتِ هَؤُلَاءِ حُقُوقهمْ ) فَيَقُول : يَا رَبّ قَدْ فَنِيَتْ الدُّنْيَا فَمِنْ أَيْنَ أُوتِيَهُمْ ; فَيَقُول الرَّبّ لِلْمَلَائِكَةِ :( خُذُوا مِنْ حَسَنَاته فَأَعْطُوا كُلّ إِنْسَان بِقَدْرِ طِلْبَته ) فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَضَلَتْ مِنْ حَسَنَاته مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَيُضَاعِفهَا اللَّه تَعَالَى حَتَّى يُدْخِلهُ بِهَا الْجَنَّة، ثُمَّ قَرَأَ اِبْن مَسْعُود " إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا " [ النِّسَاء : ٤٠ ].
وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا قَالَتْ الْمَلَائِكَة : رَبّ ! فَنِيَتْ حَسَنَاته وَبَقِيَ طَالِبُونَ ; فَيَقُول اللَّه تَعَالَى :( خُذُوا مِنْ أَعْمَالهمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاته وَصُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى جَهَنَّم ).
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
تُوزَن الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات فِي مِيزَان لَهُ لِسَان وَكِفَّتَانِ ; فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَيُؤْتَى بِعَمَلِهِ فِي أَحْسَن صُورَة فَيُوضَع فِي كِفَّة الْمِيزَان فَتَثْقُل حَسَنَاته عَلَى سَيِّئَاته.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
يُؤْتَى بِعَمَلِ الْكَافِر فِي أَقْبَح صُورَة فَيُوضَع فِي كِفَّة الْمِيزَان فَيَخِفّ وَزْنه حَتَّى يَقَع فِي النَّار.
وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ اِبْن عَبَّاس قَرِيب مِمَّا قِيلَ : يَخْلُق اللَّه تَعَالَى كُلّ جُزْء مِنْ أَعْمَال الْعِبَاد جَوْهَرًا فَيَقَع الْوَزْن عَلَى تِلْكَ الْجَوَاهِر.
وَرَدَّهُ اِبْن فَوْرَك وَغَيْره.
وَفِي الْخَبَر ( إِذَا خَفَّتْ حَسَنَات الْمُؤْمِن أَخْرَجَ رَسُول اللَّه صَلِّ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاقَة كَالْأُنْمُلَةِ فَيُلْقِيهَا فِي كِفَّة الْمِيزَان الْيُمْنَى الَّتِي فِيهَا حَسَنَاته فَتَرْجَح الْحَسَنَات فَيَقُول ذَلِكَ الْعَبْد الْمُؤْمِن لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! مَا أَحْسَن وَجْهك وَمَا أَحْسَن خَلْقك فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُول أَنَا مُحَمَّد نَبِيّك وَهَذِهِ صَلَوَاتك الَّتِي كُنْت تُصَلِّي عَلَيَّ قَدْ وَفَّيْتُك أَحْوَج مَا تَكُون إِلَيْهَا ).
ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيره.
وَذَكَرَ أَنَّ الْبِطَاقَة ( بِكَسْرِ الْبَاء ) رُقْعَة فِيهَا رَقْم الْمَتَاع بِلُغَةِ.
أَهْل مِصْر.
وَقَالَ اِبْن مَاجَهْ : قَالَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى : الْبِطَاقَة الرُّقْعَة، وَأَهْل مِصْر يَقُولُونَ لِلرُّقْعَةِ بِطَاقَة.
وَقَالَ حُذَيْفَة : صَاحِب الْمَوَازِين يَوْم الْقِيَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، يَقُول اللَّه تَعَالَى :( يَا جِبْرِيل زِنْ بَيْنهمْ فَرُدَّ مِنْ بَعْض عَلَى بَعْض ).
قَالَ : وَلَيْسَ ثَمَّ ذَهَب وَلَا فِضَّة ; فَإِنْ كَانَ لِلظَّالِمِ حَسَنَات أُخِذَ مِنْ حَسَنَاته فَرُدَّ عَلَى الْمَظْلُوم، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَات أُخِذَ مِنْ سَيِّئَات الْمَظْلُوم فَتُحْمَل عَلَى الظَّالِم ; فَيَرْجِع الرَّجُل وَعَلَيْهِ مِثْل الْجِبَال.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة يَا آدَم اُبْرُزْ إِلَى جَانِب الْكُرْسِيّ عِنْد الْمِيزَان وَانْظُرْ مَا يُرْفَع إِلَيْك مِنْ أَعْمَال بَنِيك فَمَنْ رَجَحَ خَيْره عَلَى شَرّه مِثْقَال حَبَّة فَلَهُ الْجَنَّة وَمَنْ رَجَحَ شَرّه عَلَى خَيْره مِثْقَال حَبَّة فَلَهُ النَّار حَتَّى تَعْلَم أَنِّي لَا أُعَذِّب إِلَّا ظَالِمًا ).
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ
وَيُقَال " تَنْفَح " بِمَعْنَاهُ ; وَمِنْهُ " وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَة مِنْ عَذَاب رَبّك " [ الْأَنْبِيَاء : ٤٦ ].
إِلَّا أَنَّ " تَلْفَح " أَبْلَغ بَأْسًا ; يُقَال : لَفَحَتْهُ النَّار وَالسَّمُوم بِحَرِّهَا أَحْرَقَتْهُ.
وَلَفَحْتُهُ بِالسَّيْفِ لَفْحَة إِذَا ضَرَبْته بِهِ [ ضَرْبَة ] خَفِيفَة.
وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : عَابِسُونَ.
وَقَالَ أَهْل اللُّغَة : الْكُلُوح تَكَشُّر فِي عُبُوس.
وَالْكَالِح : الَّذِي قَدْ تَشَمَّرَتْ شَفَتَاهُ وَبَدَتْ أَسْنَانه.
قَالَ الْأَعْشَى :
وَلَهُ الْمُقْدَم لَا مِثْل لَهُ سَاعَة الشِّدْق عَنْ النَّاب كَلَحْ
وَقَدْ كَلَحَ الرَّجُل كُلُوحًا وَكِلَاحًا.
وَمَا أَقْبَح كَلْحَته ; يُرَاد بِهِ الْفَم وَمَا حَوَالَيْهِ.
وَدَهْر كَالِح أَيْ شَدِيد.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا " وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ " يُرِيد كَاَلَّذِي كَلَحَ وَتَقَلَّصَتْ شَفَتَاهُ وَسَالَ صَدِيده.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْس الْمُشَيَّط بِالنَّارِ، وَقَدْ بَدَتْ أَسْنَانه وَقَلَصَتْ شَفَتَاهُ.
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - قَالَ - تَشْوِيه النَّار فَتَقْلُص شَفَته الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغ وَسَط رَأْسه وَتَسْتَرْخِي شَفَته السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِب سُرَّته ) قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب.
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
الْآيَات يُرِيد بِهَا الْقُرْآن.
" تُتْلَى عَلَيْكُمْ " أَيْ تُقْرَأ.
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا
قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَأَبِي عَمْرو وَعَاصِم " شِقْوَتنَا " وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا " شَقَاوَتنَا ".
وَهَذِهِ الْقِرَاءَة مَرْوِيَّة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَالْحَسَن.
وَيُقَال : شَقَاء وَشَقًا ; بِالْمَدِّ وَالْقَصْر.
وَأَحْسَن مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ : غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتنَا وَأَهْوَاؤُنَا ; فَسَمَّى اللَّذَّات وَالْأَهْوَاء شِقْوَة، لِأَنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونهمْ نَارًا " [ النِّسَاء : ١٠ ] ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّار.
وَقِيلَ : مَا سَبَقَ فِي عِلْمك وَكُتِبَ عَلَيْنَا فِي أُمّ الْكِتَاب مِنْ الشَّقَاوَة.
وَقِيلَ : حُسْن الظَّنّ بِالنَّفْسِ وَسُوء الظَّنّ بِالْخَلْقِ.
وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ
أَيْ كُنَّا فِي فِعْلنَا ضَالِّينَ عَنْ الْهُدَى.
وَلَيْسَ هَذَا اِعْتِذَار مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِقْرَار، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلهمْ
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ
طَلَبُوا الرَّجْعَة إِلَى الدُّنْيَا كَمَا طَلَبُوهَا عِنْد الْمَوْت.
" فَإِنْ عُدْنَا " إِلَى الْكُفْر " فَإِنَّا ظَالِمُونَ " لِأَنْفُسِنَا بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ فَيُجَابُونَ بَعْد أَلْف سَنَة :
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ
أَيْ اُبْعُدُوا فِي جَهَنَّم ; كَمَا يُقَال لِلْكَلْبِ : اِخْسَأْ ; أَيْ اُبْعُدْ.
خَسَأْت الْكَلْب خَسْئًا طَرَدْته.
وَخَسَأَ الْكَلْب بِنَفْسِهِ خُسُوءًا، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى.
وَانْخَسَأَ الْكَلْب أَيْضًا.
وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة يَذْكُرهُ عَنْ أَبِي أَيُّوب عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : إِنَّ أَهْل جَهَنَّم يَدْعُونَ مَالِكًا فَلَا يُجِيبهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يَرُدّ عَلَيْهِمْ : إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ.
قَالَ : هَانَتْ وَاَللَّه دَعْوَتهمْ عَلَى مَالِك وَرَبّ مَالِك.
قَالَ : ثُمَّ يَدْعُونَ رَبّهمْ فَيَقُولُونَ :" رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ.
رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ".
قَالَ : فَيَسْكُت عَنْهُمْ قَدْر الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ.
قَالَ : ثُمَّ يَرُدّ عَلَيْهِمْ اِخْسَئُوا فِيهَا.
قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا نَبَسَ الْقَوْم بَعْدهَا بِكَلِمَةٍ، وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّفِير وَالشَّهِيق مِنْ نَار جَهَنَّم فَشَبَّهَ أَصْوَاتهمْ بِصَوْتِ الْحَمِير، أَوَّلهَا زَفِير وَآخِرهَا شَهِيق.
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء.
وَقَالَ قَتَادَة : صَوْت الْكُفَّار فِي النَّار كَصَوْتِ الْحِمَار، أَوَّله زَفِير وَآخِره شَهِيق.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يَصِير لَهُمْ نُبَاح كَنُبَاحِ الْكِلَاب.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : بَلَغَنِي أَوْ ذُكِرَ لِي أَنَّ أَهْل النَّار اِسْتَغَاثُوا بِالْخَزَنَةِ... الْخَبَر بِطُولِهِ، ذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِكَمَالِهِ فِي التَّذْكِرَة، وَفِي آخِره : ثُمَّ مَكَثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ نَادَاهُمْ " أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ " قَالَ : فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْته قَالُوا الْآنَ يَرْحَمنَا رَبّنَا فَقَالُوا عِنْد ذَلِكَ " رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا " أَيْ الْكِتَاب الَّذِي كُتِبَ عَلَيْنَا " وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ.
رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ " فَقَالَ عِنْد ذَلِكَ " اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " فَانْقَطَعَ عِنْد ذَلِكَ الدُّعَاء وَالرَّجَاء، وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَنْبَح بَعْضهمْ فِي وُجُوه بَعْض، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ.
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
الْآيَة.
قَالَ مُجَاهِد : هُمْ بِلَال وَخَبَّاب وَصُهَيْب، وَفُلَان وَفُلَان مِنْ ضُعَفَاء الْمُسْلِمِينَ ; كَانَ أَبُو جَهْل وَأَصْحَابه يَهْزَءُونَ بِهِمْ.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا
بِالضَّمِّ قِرَاءَة نَافِع وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ هَاهُنَا وَفِي " ص ".
وَكَسَرَ الْبَاقُونَ.
قَالَ النَّحَّاس : وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرو بَيْنهمَا، فَجَعَلَ الْمَكْسُورَة مِنْ جِهَة التَّهَزُّؤ، وَالْمَضْمُومَة مِنْ جِهَة السُّخْرَة، وَلَا يَعْرِف هَذَا التَّفْرِيق الْخَلِيل وَلَا سِيبَوَيْهِ وَلَا الْكِسَائِيّ وَلَا الْفَرَّاء.
قَالَ الْكِسَائِيّ : هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد ; كَمَا يُقَال : عِصِيّ وَعُصِيّ، وَلُجِّيّ وَلِجِّيّ.
وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء الْفَرْق الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرو، وَأَنَّ الْكَسْر بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاء وَالسُّخْرِيَة بِالْقَوْلِ، وَالضَّمّ بِمَعْنَى التَّسْخِير وَالِاسْتِعْبَاد بِالْفِعْلِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : إِنَّمَا يُؤْخَذ التَّفْرِيق بَيْن الْمَعَانِي عَنْ الْعَرَب، وَأَمَّا التَّأْوِيل فَلَا يَكُون.
وَالْكَسْر فِي سِخْرِيّ فِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الضَّمَّة تُسْتَثْقَل فِي مِثْل هَذَا.
حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي
أَيْ اِشْتَغَلْتُمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ عَنْ ذِكْرِي.
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ
اِسْتِهْزَاء بِهِمْ، وَأَضَافَ الْإِنْسَاء إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ ذِكْره ; وَتَعَدِّي شُؤْم اِسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى اِسْتِيلَاء الْكُفْر عَلَى قُلُوبهمْ.
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا
عَلَى أَذَاكُمْ، وَصَبَرُوا عَلَى طَاعَتِي.
أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِكَسْرِ الْهَمْزَة عَلَى اِبْتِدَاء الْمَدْح مِنْ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ وَفَتَحَ الْبَاقُونَ ; أَيْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ.
وَيَجُوز نَصْبه بِوُقُوعِ الْجَزَاء عَلَيْهِ، تَقْدِيره : إِنِّي جَزَيْتهمْ الْيَوْم الْفَوْز بِالْجَنَّةِ.
قُلْت : وَيُنْظَر إِلَى مَعْنَى هَذَا قَوْله تَعَالَى فِي آخِر الْمُطَفِّفِينَ :" فَالْيَوْم الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّار يَضْحَكُونَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : ٣٤ ] إِلَى آخِر السُّورَة، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا : التَّحْذِير مِنْ السُّخْرِيَة وَالِاسْتِهْزَاء بِالضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِين وَالِاحْتِقَار لَهُمْ، وَالْإِزْرَاء عَلَيْهِمْ وَالِاشْتِغَال بِهِمْ فِيمَا لَا يُغْنِي، وَأَنَّ ذَلِكَ مُبْعِد مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
قِيلَ : يَعْنِي فِي الْقُبُور.
وَقِيلَ : هُوَ سُؤَال لَهُمْ عَنْ مُدَّة حَيَاتهمْ فِي الدُّنْيَا.
وَهَذَا السُّؤَال لِلْمُشْرِكِينَ فِي عَرَصَات الْقِيَامَة أَوْ فِي النَّار.
عَدَدَ سِنِينَ
بِفَتْحِ النُّون عَلَى أَنَّهُ جَمْع مُسْلِم، وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَخْفِضهَا وَيُنَوِّنهَا.
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
أَنْسَاهُمْ شِدَّة الْعَذَاب مُدَّة مُكْثهمْ فِي الْقُبُور.
وَقِيلَ : لِأَنَّ الْعَذَاب رُفِعَ عَنْهُمْ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ فَنَسَوْا مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْعَذَاب فِي قُبُورهمْ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْعَذَاب مِنْ النَّفْخَة الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَد قَتَلَهُ نَبِيّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ مَاتَ بِحَضْرَةِ نَبِيّ إِلَّا عُذِّبَ مِنْ سَاعَة يَمُوت إِلَى النَّفْخَة الْأُولَى، ثُمَّ يُمْسَك عَنْهُ الْعَذَاب فَيَكُون كَالْمَاءِ حَتَّى يُنْفَخ الثَّانِيَة.
وَقِيلَ : اسْتَقْصَرُوا مُدَّة لُبْثهمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقُبُور وَرَأَوْهُ يَسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُمْ بِصَدَدِهِ.
فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ
أَيْ سَلْ الْحِسَاب الَّذِينَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ نَسِينَاهُ، أَوْ فَاسْأَلْ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ كَانُوا مَعَنَا فِي الدُّنْيَا ; الْأَوَّل قَوْل قَتَادَة، وَالثَّانِي قَوْل مُجَاهِد، وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْض " عَلَى الْأَمْر.
وَيَحْتَمِل ثَلَاثَة مَعَانٍ : أَحَدهَا : قُولُوا كَمْ لَبِثْتُمْ ; فَأُخْرِجَ الْكَلَام مَخْرَج الْأَمْر لِلْوَاحِدِ وَالْمُرَاد الْجَمَاعَة ; إِذْ كَانَ الْمَعْنَى مَفْهُومًا.
الثَّانِي : أَنْ يَكُون أَمْرًا لِلْمَلَكِ لِيَسْأَلهُمْ يَوْم الْبَعْث عَنْ قَدْر مُكْثهمْ فِي الدُّنْيَا.
أَوْ أَرَادَ قُلْ أَيّهَا الْكَافِر كَمْ لَبِثْتُمْ، وَهُوَ الثَّالِث.
الْبَاقُونَ " قَالَ كَمْ " عَلَى الْخَبَر ; أَيْ قَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ، أَوْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة لَهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ أَيْضًا
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا
الْبَاقُونَ " قَالَ " عَلَى الْخَبَر، عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ التَّأْوِيل فِي الْأَوَّل ; أَيْ مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْض إِلَّا قَلِيلًا ; وَذَلِكَ أَنَّ مُكْثهمْ فِي الْقُبُور وَإِنْ طَالَ كَانَ مُتَنَاهِيًا.
وَقِيلَ : هُوَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُكْثهمْ فِي النَّار ; لِأَنَّهُ لَا نِهَايَة لَهُ.
لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
ذَلِكَ.
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
أَيْ مُهْمَلِينَ كَمَا خُلِقَتْ الْبَهَائِم لَا ثَوَاب لَهَا وَلَا عِقَاب عَلَيْهَا ; مِثْل قَوْله تَعَالَى :" أَيَحْسَبُ الْإِنْسَان أَنْ يُتْرَك سُدًى " [ الْقِيَامَة : ٣٦ ] يُرِيد كَالْبَهَائِمِ مُهْمَلًا لِغَيْرِ فَائِدَة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْق عَبِيدًا لِيَعْبُدُوهُ، فَيُثِيبهُمْ عَلَى الْعِبَادَة وَيُعَاقِبهُمْ عَلَى تَرْكهَا، فَإِنْ عَبَدُوهُ فَهُمْ الْيَوْم لَهُ عَبِيد أَحْرَار كِرَام مِنْ رِقّ الدُّنْيَا، مُلُوك فِي دَار الْإِسْلَام ; وَإِنْ رَفَضُوا الْعُبُودِيَّة فَهُمْ الْيَوْم عَبِيد أُبَّاق سُقَّاط لِئَام، وَغَدًا أَعْدَاء فِي السُّجُون بَيْن أَطْبَاق النِّيرَان.
وَ " عَبَثًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال عِنْد سِيبَوَيْهِ وَقُطْرُب.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر أَوْ لِأَنَّهُ مَفْعُول لَهُ.
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ
فَتُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِكُمْ.
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " تَرْجِعُونَ " بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْر الْجِيم مِنْ الرُّجُوع.
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ
أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ اللَّه الْمَلِك الْحَقّ عَنْ الْأَوْلَاد وَالشُّرَكَاء وَالْأَنْدَاد، وَعَنْ أَنْ يَخْلُق شَيْئًا عَبَثًا أَوْ سَفَهًا ; لِأَنَّهُ الْحَكِيم.
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
لَيْسَ فِي الْقُرْآن غَيْرهَا.
وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَرُوِيَ عَنْ اِبْن كَثِير " الْكَرِيم " بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلَّهِ.
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
أَيْ لَا حُجَّة لَهُ عَلَيْهِ
فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
أَيْ هُوَ يُعَاقِبهُ وَيُحَاسِبهُ.
" إِنَّهُ " الْهَاء ضَمِير الْأَمْر وَالشَّأْن.
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
وَقَرَأَ الْحَسَن وَقَتَادَة " لَا يَفْلَح " - بِالْفَتْحِ - مِنْ كَذَبَ وَجَحَدَ مَا جِئْت بِهِ وَكَفَرَ نِعْمَتِي.
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
ثُمَّ أَمَرَ نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالِاسْتِغْفَارِ لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّة.
وَقِيلَ : أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِهِ.
وَأَسْنَدَ الثَّعْلَبِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن لَهِيعَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن هُبَيْرَة عَنْ حَنَش بْن عَبْد اللَّه الصَّنْعَانِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُ مَرَّ بِمُصَابٍ مُبْتَلًى فَقَرَأَ فِي أُذُنه " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا " حَتَّى خَتَمَ السُّورَة فَبَرَأَ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَاذَا قَرَأْت فِي أُذُنه ) ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ :( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُوقِنًا قَرَأَهَا عَلَى جَبَل لَزَالَ ).
Icon