تفسير سورة العنكبوت

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا عشر آيات من أوّلها إلى قوله تعالى ﴿ وليعلمنّ المنافقين ﴾.
قال الحسن : فإنها مدنية وهي سبع وستون آية، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده ﴿ الرحمان ﴾ الذي شمل جميع العباد بنعمه ﴿ الرحيم ﴾ بجميع خلقه.

وقوله تعالى :﴿ ألم ﴾ سبق القول فيه في أوّل البقرة، ووقوع الاستفهام بعده دليل على استقلاله بنفسه فيكون اسماً للسورة، أو للقرآن، أو لله، أو أنه سرا استأثر بعلمه الله تعالى، أو استقلالِه بما يضمر معه بتقديره مبتدأ أو خبراً وغيره مما مرّ أوّل سورة البقرة، وقيل في ألم أشار بالألف الدال على القائم إلا على المحيط، ولام الوصلة وميم التمام بطريق الرمز إلى أنه تعالى أرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
ولما قال تعالى في آخر السورة المتقدّمة ﴿ وادع إلى ربك ﴾ ( القصص : ٨٧ ) وكان في الدعاء إليه الحراب والضراب والطعان لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد فشق على البعض ذلك فقال تعالى :﴿ أحسب الناس ﴾ أي : كافةً ﴿ أن يتركوا ﴾ أي : أظنوا أنهم يتركون بغير اختبار وابتلاء في وقت ما بوجه من الوجوه.
تنبيه : أن يتركوا سدّ مسدّ مفعولي حسب عند الجمهور ﴿ أن ﴾ أي : بأن ﴿ يقولوا ﴾ أي : بقولهم ﴿ آمنا وهم ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ لا يفتنون ﴾ أي : يختبرون بما تتميز به حقية إيمانهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات فإنّ مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية : فقال الشعبي : نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ثم هاجروا فتبعهم الكفار فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام كانوا يعذبون بمكة.
وقال ابن جريج : نزلت في عمار بن ياسر كان يعذب في الله عز وجل.
وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر كان أوّل قتيل قتل من المسلمين يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم :«سيد الشهداء مهجع وهو أوّل من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة » فجزع عليه أبواه وامرأته فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي وذلك أنّ الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم عزاهم فقال :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾. أي : من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب فذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه ﴿ فليعلمنّ الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ الذين صدقوا ﴾ في إيمانهم علم مشاهدة للخلق وإلا فالله تعالى لا يخفى عليه خافية ﴿ وليعلمن الكاذبين ﴾ فيه أي : فيظهر الله الصادقين من الكاذبين في الإيمان.
( فائدة ) لبعض المحبين :
للهوى آية ( أي علامة ) بها يعرف الصا دق في عشقه من الكذاب
سهر الليل دائماً ونحول ال جسم والموت في رضا الأحباب
﴿ أم حسب ﴾ أي : ظن ﴿ الذين يعلمون السيئات ﴾ أي : الشرك والمعاصي، فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح ﴿ أن يسبقونا ﴾ أي : يفوتونا فلا ننتقم منهم، وهذا ساد مسدّ مفعولي حسب. وأم منقطعة والإضراب فيها لأنّ هذا الحساب أبطل من الأوّل لأنّ صاحب ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه وصاحب هذا يظن أن لا يجازى بمساويه، ولهذا عقبه بقوله تعالى :﴿ ساء ما يحكمون ﴾ أي : بئس الذي يحكمونه، أو حكماً يحكمونه، حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم.
ولما بين بقوله :﴿ أحسب الناس أن يتركوا ﴾ أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وبين في قوله تعالى :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾ أن من ترك ما كلف به يعذب عذاباً بين أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله بقوله تعالى :﴿ من كان يرجو لقاء الله ﴾ أي : الملك الأعلى، قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب والرجاء بمعنى الخوف، وقال سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله ﴿ فإن أجل الله ﴾ أي : الوقت المضروب للقائه ﴿ لآت ﴾ أي : لجاءٍ لا محالة فإنه لا يجوز عليه إخلاف الوعد، فإن قيل : كيف وقع فإن أجل الله لآت جواباً للشرط ؟ أجيب : بأنه إذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء آتياً لا محالة كما تقول من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة، وقال مقاتل يعني : يوم القيامة لكائن ومعنى الآية أن من يخشى الله تعالى ويأمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم كما قال تعالى :﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ﴾ ( الكهف : ١١٠ ) ﴿ وهو السميع ﴾ أي : لما قالوه ﴿ العليم ﴾ يعلم من صدق فيما قال ومن كذب فيثيب ويعاقب على حسب علمه، قال الرازي : وههنا لطيفة وهي أنّ للعبد أموراً هي أصناف حسناته عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم، وعمل لسانه وهو يسمع، وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله تعالى لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر كما وصف في الخبر في وصف الجنة اه.
( تنبيه ) : لم يذكر الله تعالى من الصفات غير هذين الصفتين كالعزيز والحكيم وذلك لأنه سبق القول في قوله ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناً ﴾ وسبق الفعل بقوله تعالى :﴿ وهم لا يفتنون ﴾ وبقوله تعالى :﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا ﴾ وبقوله تعالى :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾ ولا شك أن القول يدرك بالسمع، والعمل منه ما يدرك بالبصر ومنه ما لا يدرك به كما علم مما مرّ والعلم يشملها.
ولما بين تعالى أنّ التكليف حسن واقع وإن عليه وعداً وإيعاد ليس لهما دافع بين أن طلب الله تعالى ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه بقوله تعالى :﴿ ومن جاهد ﴾ أي : بذل جهده في جهاد حرب أو نفس حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة ﴿ فإنما يجاهد لنفسه ﴾ لأنّ منفعة جهاده له لا لله تعالى فإنه غني مطلق كما قال تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : المتصرّف في عباده بما شاء ﴿ لغنيّ عن العالمين ﴾ أي : الأنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى :﴿ من عمل صالحاً فلنفسه ﴾ ( فصلت : ٤٦ ) وقوله تعالى :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ﴾ ( الإسراء : ٧ )
فينبغي للعبد أن يكثر من العمل الصالح ويخلصه لأنّ من عمل فعلاً يطلب به ملكاً ويعلم أنّ الملك يراه يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن عمله لنفسه لا لأحد يكثر منه، نسأل الله الكريم الفتاح أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يفعل ذلك بأهلينا وذريتنا ومحبينا بمحمد وآله.
ولما بين تعالى حال المسيء مجملاً بقوله تعالى :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ﴾ إشارة إلى التعذيب مجملاً، وذكر حال المحسن بقوله تعالى :﴿ ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ﴾ وكان التقدير فالذين جاهدوا والذين عملوا السيئات لنجزينهم أجمعين.
ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء عطف عليه قوله تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا ﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات ﴾ أي : في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم وفي ذلك إشارة إلى أن رحمته تعالى أتم من غضبه وفضله أتم من عدله وأشار بقوله تعالى :﴿ لنكفرنّ عنهم سيئاتهم ﴾ إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد من أن يزل عن الطاعة لأنه مجبول على النقص :«فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم تؤت الكبائر، والجمعة، إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان » ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المختار، فالصغائر تكفر بعمل الصالحات، وأما الكبائر فتكفر بالتوبة.
ولما بشرهم بالعفو عن العقاب أتم البشرى بالامتنان بالثواب فقال عاطفاً على ما تقديره ولنثبتنّ لهم حسناتهم ﴿ ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ﴾ أي : أحسن جزاء ما عملوه وهو الصالحات، وأحسن نصب بنزع الخافض وهو الباء.
ولما كان من جملة العمل الصالح الإحسان إلى الوالدين ذكر ذلك بقوله تعالى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾ أي : وإن عليا ﴿ حسناً ﴾ أي : برّاً بهما وعطفاً عليهما أي : وصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً لأنهما سبب وجود الولد وسبب بقائه بالتربية المعتادة والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه، فيطيعهما ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى كما قال : تعالى :﴿ وإن جاهداك لتشرك بي ﴾ وقوله تعالى ﴿ ما ليس لك به علم ﴾ أي : لا علم لك بإلهيته موافق للواقع فلا مفهوم له أو أنه إذا كان لا يجوز أن يتبع فيما لا يعلم صحته فبالأولى أن لا يتبع فيما يعلم بطلانه ﴿ فلا تطعهما ﴾ في ذلك كما جاء في الحديث :«لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى » ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إليّ مرجعكم ﴾ أي : من آمن منكم ومن كفر ومن برّ والديه ومن عق، ثم تسبب عنه قوله تعالى :﴿ فأنبئكم بما كنتم تعلمون ﴾ أي : أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس :«روي أنها لما سمعت بإسلامه قالت له : يا سعد بلغني أنك قد صبأت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضِّح وهو بكسر الضاد المعجمة وبحاء مهملة الشمس والريح، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحب أولادها إليها فأبى سعد ولبثت ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ولا تأكل ولا تشرب فلم يطعها سعد بل قال : والله لو كانت مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية وهي التي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره صلى الله عليه وسلم «أنْ يداريها ويترضاها بالإحسان ».
وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمّه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إنّ من دين محمد صلة الأرحام وبرّ الوالدين وقد تركت أمك لا تأكل ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك وهي أشد حباً لك منا فاستشار عمر فقال : هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر فقال عمر : أمّا إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال : نعم فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدّاه وأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت رضي تعالى الله عنه وأرضاه ونفعنا به في الدنيا والآخرة.
ولما كان التقدير فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدين ولكنه طواه لدلالة السياق عليه عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا ﴾ تحقيقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات لندخلهم في الصالحين ﴾ أي : الأنبياء والأولياء بأن نحشرهم معهم، أو ندخلهم وهم الجنة، والصلاح منتهى درجات المؤمنين ومنتهى أنبياء الله والمرسلين.
ولما بين سبحانه وتعالى المؤمن بقوله تعالى :﴿ فليعلمنّ الله الذين صدقوا ﴾ وبين الكافر بقوله تعالى :﴿ وليعلمنّ الكاذبين ﴾ بين أنه بقي قسم ثالث مذبذب بقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله ﴾ بأن عذبهم الكفرة على الإيمان ﴿ جعل فتنة الناس ﴾ أي : له بما يصيبه من أذيتهم في منعه عن الإيمان إلى الكفر ﴿ كعذاب الله ﴾ أي : في الصرف عن الكفر إلى الإيمان ﴿ ولئن ﴾ لام قسم ﴿ جاء نصر ﴾ أي : للمؤمنين ﴿ من ربك ﴾ أي : بفتح وغنيمة ﴿ ليقولنّ ﴾ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين ﴿ إنا كنا معكم ﴾ في الإيمان فأشركونا في الغنيمة وأما عند الشدّة فيجبنون كما قال الشاعر :
وما أكثر الأصحاب حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
قال الله تعالى :﴿ أو ليس الله بأعلم ﴾ أي : بعالم ﴿ بما في صدور ﴾ أي : قلوب ﴿ العالمين ﴾ من الإيمان والنفاق.
﴿ وليعلمنّ الله الذين آمنوا ﴾ أي : بقلوبهم ﴿ وليعلمنّ المنافقين ﴾ فيجازي الفريقين، واللام في الفعلين لام قسم.
ولما بين الفرق الثلاثة وأحوالهم ذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بقوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا ﴾ أي : ظاهراً وباطناً ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : ظاهراً وباطناً لم تتحملون الأذى والذل ؟ ﴿ اتبعوا سبيلنا ﴾ أي : الذي نسلكه في ديننا تدفعوا عن أنفسكم ذلك، فقالوا : نخاف من عذاب الله تعالى على خطيئة اتباعكم فقالوا لهم اتبعونا ﴿ ولنحمل خطاياكم ﴾ إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة، قال الجلال المحلي : والأمر بمعنى الخبر وهو أولى من قول البيضاوي : وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كان تشجيعاً للمؤمنين على الاتباع وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله ﴿ وما هم ﴾ أي : الكفار ﴿ بحاملين من خطاياهم ﴾ أي : المؤمنين ﴿ من شيء إنهم لكاذبون ﴾ في ذلك، قال الزمخشري : وترى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم افعل هذا وإثمه في عنقي وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم ؟ !.
ومنه ما يحكي أن أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه فلما قضاها قال يا أمير المؤمنين بقيت الحاجة العظمى قال : وما هي ؟ قال شفاعتك يوم القيامة فقال : له عمرو بن عبيد رحمه الله إياك وهؤلاء فإنهم قطاع الطريق في المأمن، فإن قيل كيف سماهم الله تعالى كاذبين وإنما ضمنوا شيئاً علم الله تعالى أنهم لا يقدرون على الوفاء به وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذباً لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى شبه حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنهم، ويجوز أن يراد أنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف.
تنبيه : من الأولى : للتبيين، والثانية : مزيدة، والتقدير : وما هم بحاملين شيئاً من خطاياهم.
فإن قيل قال الله تعالى :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ﴾ ثم قال الله تعالى :﴿ وليحملنّ ﴾ أي : الكفرة ﴿ أثقالهم ﴾ أي : أثقال ما اقترفته أنفسهم ﴿ وأثقالاً مع أثقالهم ﴾ أي : أثقالاً بقولهم للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا وبإضلالهم مقلديهم فكيف الجمع بينهما ؟ أجيب : بأن قول القائل حمل فلان عن فلان يريد أن حمل فلان خف فإن لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً فقوله تعالى :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم ﴾ يعني : لا يرفعون عنهم خطيئة بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزاراً بسبب إضلالهم كقوله صلى الله عليه وسلم :«من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء » وقال تعالى في آية أخرى :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾ ( النحل، ٢٥ ) من غير أن ينقص من أوزار من تبعهم شيء ﴿ وليسألن يوم القيامة ﴾ أي : سؤال توبيخ وتقريع ﴿ عما كانوا يفترون ﴾ أي : يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، واللام في الفعلين لام قسم وحذف فاعلهما الواو ونون الرفع.
ولما كان السياق للبلاء والامتحان والصبر على الهوان ذكر من الرسل الكرام عليهم السلام من طال صبره على البلاء ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد بقوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحاً ﴾ أي : أوّل رسل الله إلى المخالفين من العباد وهو معنى ﴿ إلى قومه ﴾ وعمره أربعون سنة فإنّ الكفر كان قد عمّ أهل الأرض وكان عليه السلام أطول الأنبياء ابتلاء بهم، ولذلك قال الله تعالى مسبباً عن ذلك ومتعقباً :﴿ فلبث فيهم ﴾ أي : بعد الرسالة ﴿ ألف سنة إلا خمسين عاماً ﴾ يدعوهم إلى توحيد الله تعالى فكذبوه ﴿ فأخذهم الطوفان ﴾ أي : الماء الكثير فغرقوا ﴿ وهم ظالمون ﴾ قال ابن عباس مشركون، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيت لهم وتهديد لقريش، قال ابن عباس : كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسون سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة، وأما قبره عليه السلام فروى ابن جرير والأزرقي حديثاً مرسلاً «أنّ قبره بالمسجد الحرام »، وقيل ببلدة البقاع يعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك.
وعن وهب أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة، والآية تدلّ على خلاف قول الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة ويسمونه العمر الطبيعي، قال الرازي : ونحن نقول ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي وأمّا العمر الطبيعي فلا يدوم عنده ولا نجده فضلاً عن مائة أو أكثر، فإن قيل : هلا قال تسعمائة سنة وخمسين ولم جاء التمييز أولاً بالسنة وثانياً بالعام ؟ أجيب : عن الأوّل بأن ما أورده الله تعالى أحكم لأنه لو قيل كما ذكر لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك وكأنه قال تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره، وعن الثاني : بأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض نتيجة المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك، والطوفان لغة : ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام أو نحو ذلك قال العجاج :
وعمّ طوفان الظلام الأثأبا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
﴿ فأنجيناه ﴾ أي : نوحاً عليه السلام ﴿ وأصحاب السفينة ﴾ أي : الذين كانوا فيها من الغرق، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمسة نسوة، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم » ﴿ وجعلناها ﴾ أي : السفينة أو الحادثة والقصة ﴿ آية ﴾ أي : عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي ﴿ للعالمين ﴾ أي : لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسولهم فإنه لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا أشهر في تطبيق الماء جميع الأرض بطولها والعرض وإغراق جميع ما عليها من حيوانٍ إنسانٍ وغيره.
ولما ذكر تعالى قصة نوح وكان بلاء إبراهيم عليه السلام عظيماً في قذفه في النار وإخراجه من بلاده اتبعه به بقوله تعالى :﴿ وإبراهيم ﴾ وهو منصوب إما باذكر ويكون ﴿ إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ﴾ أي : خافوا عقابه بدل اشتمال لأنّ الأحيان تشمل ما فيها، وإمّا معطوفاً على نوحاً، وإذ ظرف لأرسلنا أي : أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغاً صلح فيه لأنْ يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى ﴿ ذلكم ﴾ أي : الأمر العظيم الذي هو إخلاصكم في عبادتكم له وتقواكم ﴿ خير لكم ﴾ أي : من كل شيء ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي : في عداد من يتجدّد له علم فينظر في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل.
ولما أمرهم بما تقدّم ونفى العلم عمن جهل خيريته دل عليه بقوله :﴿ إنما تعبدون من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ أوثاناً ﴾ أي : أصناماً لا تستحق العبادة لأنها حجارة منحوتة لا شرف لها ﴿ وتخلقون ﴾ أي : تصوّرون بأيديكم ﴿ إفكاً ﴾ أي : شيئاً مصروفاً عن وجهه فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع، ومربوب وأنتم تسمونه رباً، أو تقولون كذباً في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله، ثم إنّ الله تعالى نفى عنها النفع بقوله تعالى :﴿ إن الذين تعبدون ﴾ ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح ﴿ من دون ﴾ أي : غير ﴿ الله ﴾ الذي له الملك كله ﴿ لا يملكون لكم رزقاً ﴾ أي : شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم فتسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فابتغوا ﴾ أي : اطلبوا ﴿ عند الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ الرزق ﴾ أي : كله فإنه لا شيء منه إلا وهو بيده، فإن قيل : لم نكرة الرزق في قوله تعالى :﴿ لا يملكون لكم رزقاً ﴾ ؟ وعرفه في قوله تعالى :﴿ فابتغوا عند الله الرزق ﴾ أجيب : بأنه نكرة في معرض النفي أي : لا رزق عندهم أصلاً وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي : كل رزق عنده فاطلبوه منه، وأيضاً الرزق من الله معروف لقوله تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ ( هود، ٦ ) والرزق من الأوثان غير معلوم فنكره لعدم حصول العلم به ﴿ واعبدوه ﴾ أي : عبادة يقبلها وهي ما كانت خالصة من الشرك ﴿ واشكروا ﴾ أي : أوقعوا الشكر ﴿ له ﴾ خاصة على ما أفاض عليكم من النعم، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إليه ﴾ وحده ﴿ ترجعون ﴾ أي : معنى في الدنيا والآخرة فإنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه، وحساً بالنشر والحشر بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي.
ولما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال :﴿ وإن تكذبوا ﴾ أي : وإن تكذبوني ﴿ فقد ﴾ أي : فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه قد ﴿ كذّب أمم ﴾ أي : في الأزمان الكائنة ﴿ من قبلكم ﴾ أي : من قبلي من الرسل فجرى الأمر فيهم على سنن واحد لم يختلف قط في نجاة المطيع للرّسول، وهلاك العاصي له، ولم يضرّ ذلك الرسول شيئاً وما أضروا به إلا أنفسهم ﴿ وما على الرسول ﴾ أن يقهركم على التصديق بل ما عليه ﴿ إلا البلاغ المبين ﴾ الموضح مع ظهوره في نفسه بلا مرية بحيث لا يبقى فيه شك بإظهار المعجزة وإقامة الأدلة على الوحدانية.
تنبيه : في المخاطب بهذه الآية والآيات بعدها إلى قوله تعالى :﴿ فما كان جواب قومه ﴾ وجهان الأوّل : أنه قوم إبراهيم عليه السلام لأنّ القصة له فكأنّ إبراهيم عليه السلام قال لقومه : إن تكذبوني فقد كذب أمم من قبلكم، وإنما أتيت بما عليّ من التبليغ فإنّ الرسول ليس عليه إلا التبليغ والبيان، فإن قيل : إنّ إبراهيم عليه السلام لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمّة واحدة ؟ أجيب : بأن قبل قوم نوح أيضاً كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم، وأيضاً فإنّ نوحاً عليه السلام عاش أكثر من ألف سنة وكان القرن يموت وتجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع من الاتباع فكفى بقوم نوح أمما ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه وأعقابهم على التكذيب.
الثاني : أنّ الآية مع قوم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه القصص أكثرها المقصود منه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب فقال في أثناء حكاياتهم : يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي والبقاعي.
وهذه الآية تدل كما قال ابن عادل : على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنّ الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين.
﴿ أو لم يروا ﴾ أي : ينظروا ﴿ كيف يبدئ الله ﴾ أي : الذي له كل كمال ﴿ الخلق ﴾ أي : يخلقهم الله تعالى ابتداء نطفة ثم مضغة ثم علقة ﴿ ثم ﴾ هو لا غيره ﴿ يعيده ﴾ أي : الخلق كما كان ﴿ إنّ ذلك ﴾ أي : المذكور من الخلق الأوّل والثاني ﴿ على الله ﴾ أي : الجامع لكل كمال، المنزه عن كل شائبة نقص ﴿ يسير ﴾ فكيف ينكرون الثاني ؟، فإن قيل : متى رأى الإنسان بدء الخلق حتى يقال أو لم يروا كيف يبدأ الله الخلق ؟.
أجيب : بأنّ المراد بالرؤية العلم الواضح الذي هو كالرؤية فالعاقل يعلم أنّ البدء من الله تعالى لأنّ الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أوّل فهو من الله تعالى، فإن قيل علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق ولم يقل أو لم يروا أنّ الله خلق أو بدأ الخلق والكيفية غير معلومة ؟ أجيب : بأنّ هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يكُ شيئاً مذكوراً وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن قيل : لمَ أبرز اسمه تعالى في أن ذلك على الله يسير ولم يقل إن ذلك عليه كما قال : ثم يعيده من غير إبراز ؟.
أجيب : بأنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكون ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحيّ القادر بقدرة كاملة لا يعجزه شيء، محيط بذرات كل نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة، وقرأ حمزة والكسائي وخلف تروا بالتاء على الخطاب على تقدير القول، والباقون بالياء على الغيْبة.
ولما ساق تعالى هذا الدليل الذي حاجَّ به الخليل قومه قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء الذين تعبدوا بما تقلدوا بمذاهب آبائهم ﴿ سيروا ﴾ إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتتأمّلوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع ﴿ في الأرض ﴾ إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم ﴿ فانظروا ﴾ أي : نظر اعتبار ﴿ كيف بدأ ﴾ ربكم الذي خلقكم ورزقكم ﴿ الخلق ﴾ من الحيوان والنبات والزروع والأشجار وغير ذلك مما تضمنته الجبال والسهول ﴿ ثم الله ﴾ أي : الحائز لجميع صفات الكمال ﴿ ينشئ النشأة الآخرة ﴾ بعد النشأة الأولى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وألف بعد الشين ممدودة قبل الهمزة، والباقون بسكون الشين والهمزة بعد الشين، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة، فإن قيل : أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء فقال كيف يبدأ الله. وأضمره عند الإعادة وههنا أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة فقال ثم الله ينشئ ؟ أجيب : بأنه في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله تعالى بفعل حتى يسند إليه البدء فقال : كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده اكتفاء بالأولى، وفي الثانية : كان ذكر البدء مسنداً إلى الله تعالى فاكتفى به ولم يبرزه، وأمّا إظهاره عند الإنشاء ثانياً فقال ثم الله ينشئ مع أنه كان يكفي أن يقول ثم ينشئ النشأة الآخرة فلحكمة بالغة وهي أنه مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه حتى يفهم به صفات كماله ونعوت جلاله فيقطع بجواز الإعادة فقال : ثم الله مظهراً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته فيعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته.
فإن قيل : قال في الأولى ﴿ أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ﴾ بلفظ المستقبل وههنا قال :﴿ فانظروا كيف بدأ الخلق ﴾ بلفظ الماضي فما الحكمة ؟ أجيب : بأن الدليل الأوّل هو الدليل النفسي الموجب للعلم وهو موجب للعلم ببدء الخلق، وأمّا الدليل الثاني : فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق فانظروا إلى الأشياء المخلوقة فيحصل لكم العلم بأنّ الله بدأ خلقاً، ويحصل من هذا القدر العلم بأنه ينشئ كما بدأ ذلك.
فإن قيل قال في هذه الآية :﴿ إنّ الله على كل شيء قدير ﴾ وقال في الأولى :﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾ فما فائدته ؟ أجيب بأنّ فيه فائدتين الأولى أن الدليل الأوّل هو الدليل : النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التامّ ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التامّ لأنه بالنظر إلى نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده منه فيتم علمه بأنّ كل شيء من الله تعالى فقال عند تمام الدليل :﴿ إنّ الله على كل شيء قدير ﴾ وقال عند الدليل الواحد إنّ ذلك وهو الإعادة على الله يسير، الثانية : أنّ العلم الأوّل أتم وإن كان الثاني أعمّ وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل قولك لمن يحمل مائة رطل إنه قادر عليه، فإذا سألت عن حمله عشرة أرطال تقول ذلك سهل يسير عليه فتقول : كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التامّ بأنّ هذه الأمور عند الله سهلة يسيرة فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ونفس كونه مقدوراً كافٍ في إمكان الإعادة.
ولما تم الدليل على الإعادة أنتج لا محالة أنه :﴿ يعذب ﴾ أي : بعدله ﴿ من يشاء ﴾ تعذيبه أي : منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة ﴿ ويرحم ﴾ أي : بفضله ورحمته ﴿ من يشاء ﴾ رحمته فلا يمسه سوء، فإن قيل : لم قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أنّ رحمته سابقة كما قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى :«سبقت رحمتي غضبي » ؟ أجيب : بأنّ السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا تحقيق قوله :«رحمتي سبقت غضبي » ﴿ وإليه ﴾ وحده ﴿ تقلبون ﴾ أي : تردون بعد موتكم بأيسر سعي.
﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ ربكم عن إدراككم ﴿ في الأرض ﴾ كيف انقلبتم في ظاهرها وباطنها واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ ولا في السماء ﴾ لأنّ الخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء فقال الفراء معناه : ولا مَنْ في السماء بمعجز إن عصى كقول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :
فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء
أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر ( من ) يريد أنه لا يعجز أهل الأرض من في الأرض ولا أهل السماء من في السماء فالمعنى أنّ من في السماء عطف بتقدير إن يعصى وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية، وقال قُطْرب : وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها كقول القائل : ما يفوتني فلان هنا ولا في البصرة أي : ولا في البصرة لو كان بها وكقوله تعالى :﴿ إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ﴾ ( الرحمان : ٣٣ ) أي : على تقدير إن تكونوا فيها.
وقال ابن عادل : وأبعد من ذلك من قدر موصولين محذوفين، أي : وما أنتم بمعجزين مَنْ في الأرض من الجنّ والأنس ولا مَنْ في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقهما، وعلى قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي : وما أنتم بمعجزين أي : فائتين ما يريد الله تعالى، وقال البقاعي : ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمروذ وبنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لاسيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه السلام من قبلها ومن بعدها. ولما أخبرهم بأنهم مقدور عليهم وكان ربما يتوهم أن غيرهم ينصرهم صرح بنفيه في قوله تعالى ﴿ ومالكم ﴾ أي : أجمعين وأشار إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله تعالى :﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره وأكد النفي بإثبات الجار بقوله ﴿ من ولي ﴾ أي : قريب يحميكم لأجل القرابة ﴿ ولا نصير ﴾ ينصركم من عذابه.
ولما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان هدد كل من خالفه على سبيل التفصيل بقوله تعالى :﴿ والذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما أظهرت لهم أنوار العقول ﴿ بآيات الله ﴾ أي : بسبب دلائل الملك الأعظم المرئية والمسموعة التي لا أوضح منها ﴿ ولقائه ﴾ بالبعث بعد الموت الذي أخبر به وأقام الدليل عليه ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ يئسوا ﴾ أي : متحققين يأسهم من الآن بل من الأزل لأنهم لم يرجوا لقاء الله يوماً ولا قال قائل منهم : ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين ﴿ من رحمتي ﴾ أي : من أن أفعل بهم من الإكرام بدخول الجنة وغيرها فعل الراحم ﴿ وأولئك لهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم بالغ ألمه، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى :﴿ أولئك ﴾ مرة واحدة ؟ أجيب : بأن ذلك كرّر تفخيماً للأمر فاليأس وصف لهم لأنّ المؤمن دائماً يكون راجياً خائفاً، وأمّا الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف.
وعن قتادة : أن الله تعالى ذمّ قوماً هانوا عليه فقال :﴿ أولئك يئسوا من رحمتي ﴾ وقال ﴿ لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ ( يوسف : ٨٧ ) فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته وأن لا يأمن عذابه وعقابه، فصفة المؤمن أن يكون راجياً لله خائفاً.
ثم إنّ الله تعالى أخبر عن فظاظة قوم إبراهيم وتكبرهم بقوله تعالى :﴿ فما كان جواب قومه ﴾ لما أمرهم بالتوحيد وتقوى الله تعالى ﴿ إلا أن قالوا ﴾ أي : قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين ﴿ اقتلوه أو حرّقوه ﴾ بالنار، فإن قيل : كيف سمى قولهم اقتلوه أو حرّقوه جواباً مع أنه ليس بجواب ؟ أجيب عنه من وجهين : أحدهما : أنه خرج مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف مع أن السيف ليس بجواب وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف، وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان صلابتهم وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلاً، وذلك أن من لا يجيب غيره وسكت لا يعلم أنه يقدر على الجواب أم لا لجواز أن يكون سكوته عن الجواب لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه، ثم إنهم استقرّ رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملئوا ما بين الجبال وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال وقذفوه فيها بالمنجنيق ﴿ فأنجاه الله ﴾ بما له من كمال العظمة ﴿ من النار ﴾ أي : من إحراقها وأذاها ونفعته بأن أحرقت وثاقه ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : ما ذكر من أمره وما اشتملت عليه قصته من الحكم ﴿ لآيات ﴾ أي : براهين قاطعة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مرّ عليها من طائر وإخمادها مع عظمتها في زمان يسير وإنشاء روض مكانها، وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم الذي ألقي فيه إبراهيم عليه السلام بالنار وذلك لذهاب حرقها ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ أي : يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمّل فيها.
﴿ وقال ﴾ أي : إبراهيم عليه السلام غير هائب لتهديدهم بقتل أو غيره ﴿ إنما اتخذتم ﴾ أي : أخذتم باصطناع وتكلف وأشار إلى عظمة الله وعلوّ شأنه ﴿ من دون الله ﴾ الذي كل شيء تحت قهره ﴿ أوثاناً ﴾ أي : أصناماً تبعدونها وما مصدرية ﴿ مودّة بينكم ﴾ أي : تواددتم على محبتها ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرّة، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جدّاً لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس على ما فيها من الإلباس وعظيم البأس، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة مودّة بالنصب والتنوين وبينكم بنصب النون فنصب مودّة على أنه مفعول له أي : لأجل مودّة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع مودّة من غير تنوين وكسر النون على أنّ مودّة خبر مبتدأ محذوف أي : هي مودّة، والباقون بنصب مودّة من غير تنوين وكسر النون وهذا أيضاً كإعراب المنوّنة. ولما أشار إلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضر أتبع ذلك ما يعقبه من الضرّ البالغ معبراً بأداة البعد بقوله :﴿ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ﴾ فينكر كل منكم محاسن أخيه ويتبرأ منه وتلعن الأتباع القادة وتلعن القادة الأتباع كما قال تعالى :﴿ ويلعن بعضكم بعضاً ﴾ وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها ضرر لا نفع لها وتقرّون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم ﴿ ومأواكم ﴾ أي : جميعاً أنتم والأوثان ﴿ النار وما لكم من ناصرين ﴾ يحمونكم منها.
ثم بين تعالى أوّل من آمن بإبراهيم بقوله تعالى :﴿ فآمن له ﴾ أي : لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات ﴿ لوط ﴾ وكان ابن أخيه هاران وهو أوّل من صدّقه من الرجال ﴿ وقال ﴾ أي : إبراهيم عليه السلام لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها ﴿ إني مهاجر ﴾ أي : خارج من أرضي وعشيرتي على وجه يهمّ فمنتقل ومنحاز ﴿ إلى ربي ﴾ أي : إلى أرض ليس فيها أنيس ولا عشير ولا من ترجى نصرته ولا من تنفع مودّته فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدّسة فكانت هجرتان، ومن ثم قالوا لكل نبيّ هجرة ولإبراهيم عليه السلام هجرتان، وهو أوّل من هاجر في الله وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة، قال مقاتل وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة.
فإن قيل : لمَ لَمْ يقل : إني مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أنّ المهاجرة توهم الجهة ؟ أجيب : بأنّ هذا القول ليس في الإخلاص كقوله إلى ربي لأنّ الملك إذا صدر منه أمر برواح الأخيار ثم إن واحداً منهم سار إلى ذلك الموضع لغرض نفسه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن ليس مخلصاً لوجهه فلذا قال مهاجر إلى ربي يعني يوجهني إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة وإنما هو طلب لله، ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل ودّه من ذوي رحمه وأنسابه بقوله :﴿ إنه هو ﴾ أي : وحده ﴿ العزيز ﴾ أي : فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه ﴿ الحكيم ﴾ فهو إذا أعز أحداً منعته حكمته من التعرّض له بالإذلال بفعل أو مقال.
ولما كان التقدير فأعززناه بما ظنّ بنا عطف عليه قوله :﴿ ووهبنا له ﴾ أي : بعظيم قدرتنا شكراً على هجرته ﴿ إسحاق ﴾ من زوجته سارة رضي الله تعالى عنها التي جمعت إلى العقم في شبابها اليأس في كبرها ﴿ ويعقوب ﴾ من ولده إسحاق عليهما السلام فإن قيل لِمَ لَمْ يذكر إسماعيل عليه السلام وذكر إسحاق وعقبه ؟ أجيب : بأن هذه السورة لما كان السياق فيها للامتحان وكان إبراهيم عليه السلام قد ابتلي في إسماعيل بفراقه مع أمّه ووضعهما في مضيعة من الأرض لا أنيس فيها لم يذكره تصريحاً في سياق الامتنان وأفرد إسحاق لأنه لم يبتل فيه بشيء من ذلك ولأن الامتنان به لكون أمّه عجوزاً عقيماً أكبر وأعظم لأنها أعجب، وذكر إسماعيل تلويحاً في قوله تعالى ﴿ وجعلنا ﴾ أي : بعزتنا وحكمتنا ﴿ في ذرّيته ﴾ من ولد إسحاق وإسماعيل عليهما السلام ﴿ النبوّة ﴾ فلم يكن بعده نبيّ أجنبي عنه بل جميع الأنبياء من ذرّية إسحاق إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرّية إسماعيل قاله بعض العلماء، فإن قيل إن الله تعالى جعل في ذرّيته النبوة أجابة لدعائه والوالد يسوّي بين أولاده فكيف صارت النبوّة في ولد إسحاق عليه السلام أكثر ؟.
أجيب : بأنّ الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى يوم القيامة قسمين والناس أجمعين فالقسم الأوّل من الزمان : بعث الله تعالى فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤوا تترى واحداً بعد واحد مجتمعين في عصر واحد كلهم من ذرّية إسحاق عليه السلام، ثم في القسم الثاني : من الزمان : أخرج من ذرّية ولده إسماعيل عليه السلام واحداً اجتمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم النبيين وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة ولا يبعد أن تبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل ذلك المقدار ﴿ والكتاب ﴾ فلم ينزل كتاب إلا على أولاده، فإن قيل : لم أفرد الكتاب مع أنها أربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ؟ أجيب : بأنه أفرده ليدلّ مع تناوله جنسية الكتب الأربعة أنه لا شيء يستحق أن يكتب إلا ما أنزل فيها أو كان راجعاً إليها ولو جمع لم يفد هذا المعنى ﴿ وآتيناه أجره ﴾ على هجرته ﴿ في الدنيا ﴾ بما خصصناه به مما لا يقدر عليه غيرنا من سعة الرزق ورغد العيش وكثرة الولد والحزم في الشيخوخة وكثرة النسل، والثناء الحسن والمحبة من جميع الخلق وغير ذلك.
قال الرازي : وفي الآية لطيفة وهي أنّ الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذييه بالنار كان وحيداً فريداً فبدل الله تعالى وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته.
ولما كان أوّلاً بعث إلى قومه وأقاربه الأقربين ضالين مضلين من جملتهم آزر بدل الله تعالى أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذرّيته الذين جعلت فيهم النبوّة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له ولا مال وهما غاية المذلة الدنيوية آتاه الله تعالى من المال والجاه حتى كان له من المواشي ما علم الله تعالى عدده حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق الذهب وأما الجاه فصار بحيث تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وهذا الكلام لا يقال إلا للمجهول عند الناس.
﴿ وإنه في الآخرة ﴾ أي : التي هي الدار ومحلّ الاستقرار ﴿ لمن الصالحين ﴾ أي : الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة، قال ابن عباس : مثل آدم ونوح.
وفي إعراب قوله تعالى :﴿ ولوطاً ﴾ ما تقدّم في إعراب نصب إبراهيم ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ قال لقومه ﴾ أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه حين فارق عمه الخليل إبراهيم عليهما السلام منكراً ما رأى من حالهم وقبيح فعالهم مؤكداً له ﴿ أئنكم لتأتون الفاحشة ﴾ وهي أدبار الرجال المجاوزة للحدّ في القبح فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها ثم علل كونها فاحشة استئنافاً بقوله :﴿ ما سبقكم بها ﴾ وهي حالة مبينة لعظيم جراءتهم على المنكر أي : غير مسبوقين به وأغرق في النفي بقوله :﴿ من أحد ﴾ وزاد بقوله :﴿ من العالمين ﴾ أي : كلهم من الأنس والجنّ أي : فضلاً عن خصوص الناس.
ثم كرّر الإنكار تأكيداً التجاوز قبحها الذي ينكرونه بقوله :﴿ أئنكم لتأتون الرجال ﴾ إتيان الشهوة وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر بقوله ﴿ وتقطعون السبيل ﴾ أي : طريق المارّة بالقتل وأخذ المال بفعلكم الفاحشة بمن يمرّ بكم فترك الناس الممرّ بكم أو تقطعون سبيل النساء بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث ﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ أي : تفعلون في متحدّثكم فعل الفاحشة بعضكم ببعض وهو مما تنكره الشرائع والمروءآت والعقول وأنتم لا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى من غير أن يستحي بعضكم من بعض، قال ابن عباس : المنكر هو الحذف بالحصا والرمي بالبنادق والفرقعة ومضع العلك والسواك بين الناس وحلّ الأزار والسباب والتضارط في مجالسهم والفحش والمزاح، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها كانوا يتحابقون، وقيل : السخرية بمن يمرّ بهم، وقيل المجاهرة في ناديهم بذلك العمل وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء «من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له » ولا يقال للمجلس نادياً إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسمّ نادياً، وعن مكحول في أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحلّ الإزار والصفير والحذف واللوطية، ودلّ على عنادهم بقوله تعالى مسبباً عن هذه الفضائح بالنهي عن تلك القبائح ﴿ فما كان جواب قومه ﴾ أي : الذين فيهم قوّة ونجدة بحيث يخشى شرّهم ويتقى أذاهم لما أنكر عليهم ما أنكر ﴿ إلا أن قالوا ﴾ عناداً وجهلاً واستهزاءً ﴿ ائتنا بعذاب الله ﴾ وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجراءة ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ أي : في استقباح ذلك وأنّ العذاب نازل بفاعليه، فإن قيل : قال قوم إبراهيم عليه السلام اقتلوه أو حرّقوه وقال قوم لوط :﴿ ائتنا بعذاب الله إنّ كنت من الصادقين ﴾ وما هدّدوه مع أنّ إبراهيم كان أعظم من لوط فإنّ لوطاً كان من قومه ؟ أجيب : بأنّ إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدّد صفات نقصهم بقوله لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يغني والسب في الدين صعب فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرّم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم فقالوا له : إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه فإن كنت صادقاً فائتنا بالعذاب. فإن قيل : إنّ الله تعالى قال في موضع آخر :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم ﴾ ( النمل، ٥٦ ) وقال هنا :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ﴾ فكيف الجمع ؟ أجيب : بأنّ لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرّراً على النهي والوعيد فقالوا أولاً : ائتنا. ثم لما كثر ذلك منه ولم يسكت عنهم قالوا : أخرجوا.
ولما أيس منهم طلب النصرة من الله بأن ﴿ قال ﴾ أي : لوط عليه السلام معرضاً عنهم مقبلاً بكليته على المحسن إليه ﴿ رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ انصرني على القوم ﴾ أي : الذين فيهم من القوّة ما لا طاقة لي بهم معه ﴿ المفسدين ﴾ أي : العاصين بإتيان الرجال ووصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعاراً بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.
ولما دعا لوط على قومه بقوله رب إلى آخره استجاب الله تعالى دعاءه وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين كما قال تعالى :﴿ ولما جاءت ﴾ وأسقط أن لأنه لم يتصل القول بأوّل المجيء بل كان قبله السلام والضيافة وعظم الرسل بقوله تعالى :﴿ رسلنا ﴾ أي : من الملائكة تعظيماً لهم في أنفسهم ﴿ إبراهيم بالبشرى ﴾ أي : بإسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لإسحاق عليهما السلام.
﴿ قالوا ﴾ أي : الرسل عليهم السلام لإبراهيم عليه السلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم ﴿ إنا مهلكوا أهل هذه القرية ﴾ أي : قرية سدوم، والإضافة لفظية لأنّ المعنى على الاستقبال، ثم عللوا ذلك بقولهم :﴿ إنّ أهلها كانوا ظالمين ﴾ أي : عريقين في هذا الوصف فلا حيلة في رجوعهم عنه، فإن قيل : قال تعالى في قوم نوح :﴿ فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ﴾ ( العنكبوت، ١٤ ) ففي ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولم يقل فأخذهم وكانوا ظالمين وهنا قال :﴿ إنّ أهلها كانوا ظالمين ﴾ ولم يقل وهم ظالمون ؟ أجيب : بأنه لا فرق في الموضعين في كونهما مهلكين وهم مصرون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله تعالى عن الماضي حيث قال فأخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون وههنا الإخبار من الملائكة عن المستقبل حيث قالوا :﴿ إنا مهلكوا ﴾ فذكروا ما أمروا به فإنّ الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، وهم كانوا ظالمين في وقت الأمر وكونهم يبقون كذلك لا علم لهم به.
ولما قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذلك ﴿ قال ﴾ لهم مؤكداً تنبيهاً على حالة ابن أخيه ﴿ إنّ فيها لوطاً ﴾ ولم يقل عليه السلام إن منهم لوطاً لأنه نزيل عندهم فلذا جاء بالتصريح بالسؤال عنه ﴿ قالوا ﴾ أي : الرسل عليهم السلام له :﴿ نحن أعلم ﴾ منك ﴿ بمن فيها ﴾ أي : من لوط وغيره ﴿ لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾ أي : الباقين في العذاب وهم الفجرة لتعم وجهها معهم الغبرة، وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم بعدها، والباقون بفتح النون وتشديد الجيم بعدها.
﴿ ولما أن جاءت رسلنا لوطاً ﴾ أي : المعظمون بنا ﴿ سيء ﴾ أي : حصلت له المساءة والغم ﴿ بهم ﴾ أي : بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء لما رأى من حسن أشكالهم وهو يظنّ أنهم من الناس لأنهم جاؤوا من عند إبراهيم عليه السلام إليه على صورة البشر، روي أنهم كانوا يجلسون مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصاً فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به، قيل : إنه كان يأخذه معه وينكحه ويغرّمه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك، ولهذا يقال : أجور من قاضي سدوم.
﴿ وضاق ﴾ أي : بأعمال الحيلة في الدفع عنهم ﴿ بهم ذرعاً ﴾ أي : ذرعه أي : طاقته والأصل في ذلك أنّ من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها يضرب مثلاً في العجز والقدرة. ولما رأوه على هذه الحالة خففوا عليه ﴿ قالوا ﴾ له ﴿ لا تخف ﴾ إنا رسل ربك لإهلاكهم ﴿ ولا تحزن ﴾ أي : على تمكنهم منا أو على أحد ممن يهلك فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليه بسببه فإنهم وصلوا في الخبث إلى حدّ لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر، ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد :﴿ إنا منجوك ﴾ أي : مبالغون في إنجائك وقولهم :﴿ وأهلك ﴾ منصوب على محل الكاف ﴿ إلا امرأتك كانت من الغابرين ﴾ فإن قيل : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك فكيف كانت من الغابرين معهم ؟.
أجيب : بأنّ الدال على الشرّ كفاعله كما أنّ الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم، فإن قيل ما مناسبة قولهم إنا منجوك لقولهم لا تخف ولا تحزن فإنّ خوفه ما كان على نفسه ؟ أجيب : بأنّ لوطاً لما ضاق عليهم وحزن لأجلهم قالوا له : لا تخف أي : علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له : يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا إنا منجوك وأهلك، وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم.
ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية قالوا له :﴿ إنا منزلون ﴾ أي : لا محالة ﴿ على أهل هذه القرية رجزاً ﴾ أي : عذاباً ﴿ من السماء ﴾ فهو عظيم وقعه، شديد صدعه، واختلف في ذلك الرجز فقيل : حجارة وقيل : نار، وقيل : خسف، وعلى هذا يكون المراد أنّ الأمر بالخسف والقضاء به من السماء، وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي.
تنبيه : كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم عليه السلام فقدموا البشارة على إنزال العذاب ثم قالوا إنا منجوك ثم قالوا إنا منزلون ولم يعللوا التنجية فلم يقولوا إنا منجوك لأنك نبيّ أو عابد وعللوا الإهلاك فقالوا :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ أي : يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء كقولهم هناك إنّ أهلها كانوا ظالمين.
ولما كان التقدير ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم فتركناها كأن لم يسكنها أحد عطف عليه قوله تعالى :﴿ ولقد تركنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ منها ﴾ أي : من تلك القرى ﴿ آية ﴾ أي : علامة على قدرتنا على كل ما نريد ﴿ بينة ﴾ أي : ظاهرة، قال ابن عباس : منازلهم الخربة، وقال قتادة هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة، وقال مجاهد هو ظهور الماء الأسود على وجه الأرض.
فائدة : اتفق القراء على إدغام الدال في التاء.
تنبيه : في هذه الآية إشارة إلى غفلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الانخلاع من الهوى وإنما يكون ذلك ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي : يتدبرون فعد من لم يستبصر بذلك غير عاقل.
تنبيه : ههنا أسئلة :( الأوّل ) كيف جعل الآية في نوح وإبراهيم عليهما السلام بالنجاة فقال :﴿ فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية ﴾ ( العنكبوت، ١٥ ) وقال :﴿ فأنجاه الله من النار إنّ في ذلك لآيات ﴾ ( العنكبوت، ٢٤ ) وجعل ههنا الهلاك آية، ( الثاني ) : ما الحكمة في قوله تعالى في السفينة ﴿ جعلناها آية ﴾ ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة، ( الثالث ) : ما الحكمة في قوله تعالى هناك ﴿ للعالمين ﴾ وقال ههنا :﴿ لقوم يعقلون ﴾ ؟ أجيب عن الأوّل : بأنّ الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنّ في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر إلهي عجيب وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً والغرق لم يبق له بعده أثر محسوس في البلاد فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة لوط لم تكن بأمر يبقى في أثره للحس، والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي ههنا البلاد وهناك السفينة.
وههنا لطيفة : وهي أنّ الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وآخر آيات الهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة، وعن الثاني بأنّ الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأمّا الآية ههنا الخسف وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وبزمان دون زمان فهي بينة لا يمكن الجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك فيقال له فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كانت تحصل لهم النجاة ولو سلط الله تعالى عليهم الريح العاصفة كيف تكون أحوالهم، وعن الثالث بأنّ السفينة موجودة معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حالة نوح وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة منه ولا يثق أحد بمجرّد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرّعاً إلى الله تعالى طالباً للنجاة، وأمّا أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من مر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أنّ ذلك من الله تعالى وإراداته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان.
ولما كان شعيب عليه السلام أيضاً قد ابتلي بتكذيب قومه اتبع قصته بقصة لوط بقوله تعالى :﴿ وإلى مدين ﴾ أي : ولقد أرسلنا أو بعثنا إلى مدين ﴿ أخاهم ﴾ أي : من النسب والبلد ﴿ شعيباً ﴾ ومدين قيل : اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقيل : اسم ماء نسب القوم إليه فاشتهر في القوم، قال الرازي : والأوّل كأنه أصح لأنّ الله تعالى أضاف الماء إلى مدين بقوله تعالى :﴿ ولما ورد ماء مدين ﴾ ( القصص : ٢٣ ) ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية والأصل في الإضافة التغاير والحقيقة، فإن قيل : قال تعالى في نوح :﴿ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ﴾ ( المؤمنون : ٢٣ ) فقدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه، وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً، فما الحكمة في ذلك ؟.
أجيب : بأنّ الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأنّ الرسل لا تبعث إلى غير معينين وإنما تبعث الرسل إلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل الله تعالى إليهم من يختاره، غير أنّ قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاصة ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بنبيهم عليه السلام فقيل قوم نوح وقوم لوط فأمّا قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله قال تعالى :﴿ وإلى عاد أخاهم هوداً ﴾ ﴿ وإلى مدين أخاهم شعيباً ﴾ ﴿ فقال ﴾ أي : فتسبب عن إرساله وبعثه أن قال :﴿ يا قوم اعبدوا الله ﴾ أي : الملك الأعلى وحده ولا تشركوا به شيئاً فإنّ العبادة التي فيها شرك ظاهر أو خفي عدم لأنّ الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً.
فإن قيل : لم يذكر عن لوط عليه السلام أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك ؟ أجيب : بأنّ لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وكان إبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يحتج لوط إلى ذكره وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها وإن كان هو أبداً يأمر بالتوحيد إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأمّا شعيب فكان بعد انقراض ذلك الزمن وذلك القوم فكان هو أصلاً في التوحيد فبدأ به.
ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال :﴿ وارجوا اليوم الآخر ﴾ أي : وافعلوا ما ترجون به العاقبة فأقيم المسبب مقام السبب، أو أمروا بالرجاء والمراد اشتراط ما يسوّغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط، وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف ﴿ ولا تعثوا في الأرض ﴾ حال كونكم ﴿ مفسدين ﴾ أي : متعمدين الفساد.
ولما تسبب عن هذا النصح وتعقبه تكذيبهم تسبب عنه وتعقبه إهلاكهم تحقيقاً لأنّ أهل السيئات لا يسبقوننا قال تعالى :﴿ فكذبوه ﴾ في ذلك، فإن قيل ما حكاه الله تعالى عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يكذب ولا يصدق فإنّ من قال لغيره : اعبد الله لا يقال له كذبت ؟ أجيب : بأنّ شعيباً كان يقول الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرّم فلا تقربوه، وهذه فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبر به ﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ أي : الزلزلة الشديدة، وعن الضحاك صيحة جبريل لأنّ القلوب رجفت بها ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ أي : في بلدهم أو دورهم فاكتفى بالواحد ولم يجمع لأمن اللبس ﴿ جاثمين ﴾ أي : باركين على الركب ميتين فإن قيل : قال تعالى في الأعراف وههنا : فأخذتهم الرجفة وقال في هود : فأخذتهم الصيحة والحكاية واحدة ؟ أجيب : بأنه لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة لأنّ جبريل لما صاح تزلزلت الأرض من صيحته فرجفت قلوبهم، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب.
فإن قيل ما الحكمة في أنه تعالى إذا قال فأخذتهم الصيحة قال في ديارهم وحيث قال فأخذتهم الرجفة قال في دارهم ؟ أجيب : بأنّ المراد من الدار هو الديار والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن اللبس كما مرّ، وإنما اختلف اللفظ للطيفة وهي أنّ الرجفة هائلة في نفسها فلم تحتج إلى تهويلها، وأمّا الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أخذت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى تعلم هيئتها، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كلامه فلم تحتج إلى معظم لأمرها.
ولما كان معنى ختام قصة مدين فأهلكناهم عطف على ذلك المعنى قوله تعالى :﴿ وعاداً ﴾ أي : وأهلكنا أيضاً عاداً ﴿ وثموداً ﴾ مع ما كانوا فيه من العتو والتكبر والعلوّ لأنّ من المقاصد العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضاً في الخير والشرّ على نسق والجري بهم في إهلاك المكذبين وإنجاء المصدقين طبقاً عن طبق، وقرأ حمزة وحفص في الوصل وثمود بغير تنوين على تأويل القبيلة وفي الوقف بسكون الدال، والباقون بالتنوين وفي الوقف بالألف ﴿ وقد تبين لكم ﴾ أي : ما حل بهم من مساكنهم أي : ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدّة الأجسام وسفه الأحلام وعلوّ الاهتمام وتقرب الأذهان وعظم الشأن عند مروركم بتلك المساكن ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام فصرفوا في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا فأملوا بعيداً وبنوا مشيداً ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً من أمر الله ﴿ وزين لهم الشيطان ﴾ البعيد من الرحمة، المحترق باللعنة بقوّة احتياله ومحبوب ضلاله ومحاله ﴿ أعمالهم ﴾ أي : الفاسدة من الكفر والمعاصي فأقبلوا بكليتهم عليها ﴿ فصدّهم ﴾ أي : فتسبب عن ذلك صدّهم ﴿ عن السبيل ﴾ أي : منعهم عن سلوك الطريق الذي لا طريق إلا هو لكونه يوصل إلى النجاة، وغيره يوصل إلى الهلاك. ولما كان ذلك ربما ظنّ لفرط غباوتهم قال :﴿ وكانوا مستبصرين ﴾ أي : معدودين بين الناس من البصراء العقلاء.
ولما كان فرعون ومن ذكر معه من العتوّ بمكان لا يخفى لما أوتوا من القوّة بالأموال والرجال قال :﴿ وقارون ﴾ أي : وأهلكنا قارون وقومه لأنّ وقوعه في أسباب الهلاك أعجب لكونه من بني إسرائيل ولأنه ابتلي بالمال والعلم فكان ذلك سبب إعجابه فتكبر على موسى وهارون عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه ﴿ وفرعون وهامان ﴾ وزيره الذي أوقد له على الطين فباع سعادته ليكونه ذنباً لغيره ﴿ ولقد جاءهم ﴾ من قبل ﴿ موسى بالبينات ﴾ أي : بالحجج الظاهرات التي لم تدع لبساً ﴿ فاستكبروا ﴾ أي : طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم أفعال من يطلب ذلك ﴿ في الأرض ﴾ بعد مجيء موسى عليه السلام إليهم أكثر مما كانوا قبله ﴿ وما كانوا سابقين ﴾ أي : فائتين بل أدركهم أمر الله، مِنْ سبق طالبه إذا فاته.
﴿ فكلاً ﴾ أي : فتسبب عن تكذيبهم أنّ كلاً ﴿ أخذنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ بذنبه ﴾ أي : أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا ﴿ فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ﴾ أي : ريحاً عاصفاً فيها حصباء كقوم لوط وعاد ﴿ ومنهم من أخذته الصيحة ﴾ أي : التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود ﴿ ومنهم من خسفنا به الأرض ﴾ أي : غيبناه فيها كقارون وجماعته ﴿ ومنهم من أغرقنا ﴾ بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وقومه وعذاب قوم صالح المعدّ في الإغراق والمعدّ في الخسف فتارة يهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط أو من الأرض كعاد ﴿ وما كان الله ﴾ أي : الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا له ﴿ ليظلمهم ﴾ أي : فيعذبهم بغير ذنب ﴿ ولكن كانوا أنفسهم ﴾ لا غيرها ﴿ يظلمون ﴾ بارتكاب المعاصي ولم يقبلوا النصح مع هجرهم، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم،
ولما بين تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلاً وعذب من كذب آجلاً ولم ينفعه معبوده مثل تعالى اتخاذه ذلك معبوداً باتخاذ العنكبوت بيتاً فقال :﴿ مثل الذين اتخذوا ﴾ أي : تكلفوا أن اتخذوا ﴿ من دون الله ﴾ أي : الذي لا كفء له فرضوا بالدون الذي لا ينفع ولا يضرّ عوضاً عمن لا تكيفه الأوهام والظنون ﴿ أولياء ﴾ ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها في الضعف والوهن.
﴿ كمثل العنكبوت ﴾ أي : الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال ﴿ اتخذت بيتاً ﴾ أي : تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى ويحميها البلاء كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم ليقوهم ويحفظوهم بزعمهم فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره وتعبها الشديد في شأنه في غاية الوهن ﴿ وإن ﴾ أي : والحال إن ﴿ أوهن البيوت ﴾ أي : أضعفها ﴿ لبيت العنكبوت ﴾ لا يدفع عنها حرّاً ولا بردا كذلك الأصنام لا تنفع عابديها ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أي : لو كانوا يعلمون أنّ هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن، وأيضاً أنه إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت فقد تبين أنّ دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون أي : لو كان لهم نوع مّا من العلم لانتفعوا به ولعلموا أنّ هذا مثلهم فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثلهم، ولقائل أن يقول مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر وكان أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت كذلك الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان، فإن قيل : لم مثل تعالى باتخاذ العنكبوت ولم يمثل بنسجها ؟ أجيب : بأنّ نسجها فيه فائدة لولاه لما حصلت وهو اصطياد الذباب به من غير أن يفوتها ما هو أعظم منه واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت. تنبيه : نون العنكبوت أصلية والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعة على عناكب وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث فمن التأنيث قوله تعالى ﴿ اتخذت ﴾ ومن التذكير قول القائل :
على هطالهم منهم بيوت كأن العنكبوت هو ابتناها
وهذا مطرد في أسماء الأجناس تذكر وتؤنث، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيوت بضم الباء، والباقون بكسرها.
ولما كان ضرب المثل بالشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء قال الله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ يعلم ما ﴾ أي : الذي ﴿ يدعون ﴾ أي : يعبدون ﴿ من دونه ﴾ أي : غيره ﴿ من شيء ﴾ أي : سواء كان صنماً أم إنسياً أم جنياً ﴿ وهو العزيز ﴾ في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه، وقرأ أبو عمرو وعاصم يدعون بالياء التحتية، والباقون بالفوقية.
ولما ذكر مثلهم وما تتوقف صحته عليه كان كأنه قيل : على وجه التعظيم : هذا المثل مثلهم فعطف عليه قوله تعالى إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعلوّ شأنها :﴿ وتلك الأمثال ﴾ أي : العالية عن أن تنال بنوع احتيال، ثم استأنف قوله تعالى ﴿ نضربها ﴾ أي : بما لنا من العظمة بياناً ﴿ للناس ﴾ أي : تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها، وهكذا حال التشبيهات كلها هي طرق إلى إفهام المعاني المحتجبة في الأستار تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها، روي أنّ الكفار قالوا كيف يضرب خالق الأرض والسماوات الأمثال بالهوام والحشرات كالذباب والبعوض والعنكبوت ؟ فقال الله تعالى مجهلاً لهم :﴿ وما يعقلها ﴾ أي : حق تعقلها فينتفع بها ﴿ إلا العالمون ﴾ أي : الذين هيئوا للعلم وجعل طبعاً لهم بما بث في قلوبهم من أنواره وأشرق في صدورهم من أسراره، فهم يضعون الأشياء مواضعها، روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«العالم الذي عقل عن الله وعمل بطاعته واجتنب سخطه » قال البغويّ : والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأوّل يريد أمثال القرآن التي يشبه بها أحوال كفار هذه الأمّة بأحوال كفار الأمم المتقدّمة.
ولما قدّم تعالى أنه لا معجز له سبحانه ولا ناصر لمن خذله استدل على ذلك بقوله تعالى :﴿ خلق الله ﴾ أي : الذي لا يدانى في عظمته ﴿ السماوات والأرض بالحق ﴾ أي : الأمر الذي يطابقه الواقع، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل، أو بسبب أنه محق غير قاصد به باطلاً فإنّ المقصود بالذات من خلقهما إفاضة الجود والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله تعالى :﴿ إنّ في ذلك لآية ﴾ أي : دلالة ظاهرة على قدرته تعالى ﴿ للمؤمنين ﴾ وأُختص المؤمنون بذلك لأنهم المنتفعون به.
ثم خاطب تعالى رأس أهل الإيمان بقوله تعالى :﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب ﴾ أي : القرآن الجامع لكل خير لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولما أرشد تعالى إلى مفتاح العلم دلّ على قانون العمل بقوله تعالى :﴿ وأقم الصلاة ﴾ أي : التي هي أحق العبادات، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنّ الصلاة تنهى ﴾ أي : توجد النهي وتجدّده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها ﴿ عن الفحشاء ﴾ أي : عن الخصال التي بلغ قبحها ﴿ والمنكر ﴾ وهو ما لا يعرف في الشرع، فإن قيل : كم من مصلّ يرتكب الفحشاء ؟ أجيب : بأنّ المراد الصلاة التي هي الصلاة عند الله تعالى المستحق بها الثواب بأن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح متقياً لقوله تعالى :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ ( المائدة، ٢٧ ) ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح، فقد روي عن حاتم : كأنّ رجليّ على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت من فوقي وأصلي بين الخوف والرجاء، ثم يحوطها بعد أن يصليها ولا يحبطها فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال ابن مسعود وابن عباس : إن الصلاة تنهى وتزجر عن معاصي الله عز وجل فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله تعالى إلا بعداً، وقال الحسن وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه، وقيل من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما، فقد روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال :«إن صلاته لتردعه ».
وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال : إنّ صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب، وقال ابن عوف : معنى الآية إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها، وعلى كل حال فإنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها، وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها كما تقول : إن زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكر وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم، وقيل : المراد بالصلاة القرآن كما قال تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ ( الإسراء : ١١٠ ) أي : بقراءتك وأراد به من يقرأ القرآن في الصلاة فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر، روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله ويصبح سارقاً قال :«ستنهاه قراءته ».
ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله أتبع ذلك بقوله تعالى :﴿ ولذكر الله أكبر ﴾ أي : لأنّ ذكر المستحق لكل صفات كمال أكبر من كل شيء فذكر الله تعالى أفضل الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم :«ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا : وما ذاك يا رسول الله قال : ذكر الله » وسئل صلى الله عليه وسلم أي : العبادة أفضل عند الله درجة يوم القيامة قال :«الذاكرون الله كثيراً، قالوا يا رسول الله ومن الغازين في سبيل الله فقال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكر الله كثيراً أفضل منه درجة ».
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على جبل في طريق مكة يقال له جمدان فقال :«سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات » أو والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات وسماها بذكر الله كما قال تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ ( الجمعة : ٩ ) وإنما قال ولذكر الله أكبر ليستقلّ بالتعليل كأنه قال والصلاة أكبر لأنها ذكر الله، وعن ابن عباس : ولذكر الله تعالى إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته، وقال عطاء : ولذكر الله أكبر من أن يتقى معه معصية.
﴿ والله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿ يعلم ﴾ أي : في كل وقت ﴿ ما تصنعون ﴾ من الخير والشرّ فيجازيكم على ذلك.
ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله تعالى :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب ﴾ أي : اليهود والنصارى ظناً منكم أنّ الجدال ينفع أو يزيد في اليقين أو يردّ واحداً عن ضلال مبين ﴿ إلا بالتي ﴾ أي : بالمجادلة التي ﴿ هي أحسن ﴾ كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم والدعاء إلى الله تعالى بآياته والتنبيه على حججه كما قال تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾ ( المؤمنون، ٩٦ ) ﴿ إلا الذين ظلموا منهم ﴾ بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد الله مغلولة، وعن قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ ( التوبة : ٢٩ ) ولا مجادلة أشدّ من السيف.
ولما بين تعالى عن موجب الخلاف أمر بالاستعطاف بقوله تعالى :﴿ وقولوا ﴾ أي : لمن قبل الإقرار بالجزية إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم ﴿ آمنا بالذي أنزل إلينا ﴾ أي : من هذا الكتاب المعجز ﴿ وأنزل إليكم ﴾ من كتبكم أي : لأنه في أصله حق وإن كان قد نسخ، منه ما نسخ وإن حدثوكم بشيء منه وليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، لما روى أبو داوود أنه صلى الله عليه وسلم قال :«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم » أي : فإن هذا أدعى إلى الإنصاف وأنفى للخلاف.
ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين أتبعه بما يجمعه بقوله تعالى :﴿ وإلهنا وإلهكم واحد ﴾ أي : لا إله لنا غيره، وإن ادّعى بعضكم عزيراً والمسيح ﴿ ونحن له ﴾ خاصة ﴿ مسلمون ﴾ أي : خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ولا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه إلى أنبيائهم من التوراة وغيرها ﴿ أنزلنا إليك الكتاب ﴾ أي : القرآن مصدّقاً لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله تعالى ﴿ فالذين آتيناهم الكتاب ﴾ أي : التوراة كعبد الله بن سلام وغيره ﴿ يؤمنون به ﴾ أي : بالقرآن ﴿ ومن هؤلاء ﴾ أي : أهل مكة أو ممن في عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين ﴿ من يؤمن به ﴾ وهم مؤمنو أهل مكة وأهل الكتابين ﴿ وما يجحد ﴾ أي : ينكر، قال قتادة : والجحود : إنما يكون بعد المعرفة ﴿ بآياتنا ﴾ أي : التي جاوزت أقصى غايات العظمة حتى أنها استحقت الإضافة إلينا ﴿ إلا الكافرون ﴾ أي : اليهود ظهر لهم أنّ القرآن حق والجائي به محق وجحدوا ذلك وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني أنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة وبإنكارها تلحقون بهم وتعطلون مزاياكم فإنّ الجاحد بآية يصير كافراً.
﴿ وما ﴾ أي : وأنزلنا إليك الكتاب والحال أنك ما ﴿ كنت تتلو ﴾ أي : تقرأ أصلاً ﴿ من قبله ﴾ أي : هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، وأكد استغراق الكتب بقوله تعالى :﴿ من كتاب ﴾ أصلاً ﴿ ولا تخطه ﴾ أي : تجدّد وتلازم خطه وصور الخط، وأكده بقوله :﴿ بيمينك ﴾ فإن قيل ما فائدة قوله بيمينك ؟ أجيب : بأنه ذكر اليمين التي هي أقوى الجارحتين وهي التي يزاول بها الخط زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً، ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه كان أشّد لإثباتك أنه تولى كتبه فكذلك النفي، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة القوية التي ينشأ عنها ملكه فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ولذلك قال تعالى :﴿ إذاً ﴾ أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ ﴿ لارتاب ﴾ أي : شك ﴿ المبطلون ﴾ أي : اليهود فيك وقالوا : الذي في التوراة أنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأوّلين وكتبه بيده.
فإن قيل : لم سماهم مبطلين ولو لم يكن أمياً وقالوا ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه بيده فإنه رجل كاتب قارئ ؟ أجيب : بأنه سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب فكأنه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمياً لارتابوا أشدّ الريب فحينئذٍ ليس بقارئ ولا كاتب فلا وجه لارتيابهم، وأيضاً سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم وما جاؤوا به لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى على أنّ المنزل إليهم معجز وهذا المنزل معجز فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا وهو أمي ومبطلون حيث لم يؤمنوا وهو غير أمي.
ولما كان التقدير ولكنه لا ريب لهم أصلاً ولا شبهة لقولهم أنه باطل قال تعالى :﴿ بل هو ﴾ أي : القرآن الذي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير ﴿ آيات ﴾ أي : دلالات ﴿ بينات ﴾ أي : واضحات جدّاً في الدلالة على صدقك ﴿ في صدور الذين أوتوا العلم ﴾ أي : المؤمنين يحفظونه فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم، وقال ابن عباس وقتادة : بل هو يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته ووصفه في كتبهم ﴿ وما يجحد ﴾ وكان الأصل به ولكنه أشار إلى عظمته بقوله تعالى :﴿ بآياتنا ﴾ أي : ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجهله أحد ﴿ إلا الظالمون ﴾ أي : المتوغلون في الظلم المكابرون.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى ههنا ﴿ إلا الظالمون ﴾ ومن قبل قال ﴿ إلا الكافرون ﴾ ؟ أجيب : بأن ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ثم إنّ العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً ولكن الحكمة هنا أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد صلى الله عليه وسلم فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك أبلغ فمنعهم عن ذلك استنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم : إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أوّل الأمر بالمشركين حكماً وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي : مشركين كما قال تعالى :﴿ إنّ الشرك لظلم عظيم ﴾ ( لقمان : ١٣ ) فهذا اللفظ ههنا أبلغ.
ولما كان التقدير جحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم ولم يعدوها آيات فضلاً عن كونها بينات عطف عليه قوله تعالى :﴿ وقالوا ﴾ موهمين مكراً إظهاراً للنصفة بأدنى ما يدل على الصدق ﴿ لولا ﴾ أي : هلا ﴿ أنزل عليه ﴾ أي : محمد صلى الله عليه وسلم على أيّ وجه كان من وجوه الإنزال ﴿ آية ﴾ تكون بحيث تدل قطعاً على صدق الآتي بها ﴿ من ربه ﴾ أي : الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهم السلام ليستدل بها على صدق مقاله وصحة ما يدعيه من حاله، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص آيات بالجمع لأنّ بعده ﴿ قل إنما الآيات ﴾ بالجمع إجماعاً، والباقون آية بالإفراد لأنّ غالب ما جاء في القرآن كذلك.
ولما كان هذا إنكاراً للشمس بعد شروقها ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها أشار إليه بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء ﴿ إنما الآيات عند الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ينزل أيتها شاء فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره فإنما الإله هو لا سواه ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل ﴿ وإنما أنا نذير مبين ﴾ أي : فليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيته من الآيات وليس لي أن أقترح عليه الآيات فأقول أنزل علي آية كذا دون آية كذا على أنّ المقصود من الآيات الدلالة على الصدق وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ولم يذكر البشارة لأنه ليس من أسلوبها.
وقوله تعالى :﴿ أولم يكفهم ﴾ جواب لقولهم لولا أنزل عليه آيات من ربه أي : إن كانوا طائعين للحق غير متيقنين آية مغنية عن كل آية ﴿ أنا أنزلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ عليك الكتاب ﴾ أي : القرآن الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاً لك ﴿ يتلى عليهم ﴾ أي : تتجدّد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وفي كل زمان من كل مقال مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك فأعظم به آية باقية لا تزول ولا تضمحل إذ كل آية سواه منقضية ماضية وتكون في مكان دون مكان، فالقرآن أتم من كل معجزة لوجوه :
الأوّل : أنّ تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبان وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب، وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال ائت بآية من مثله.
الثاني : أنّ قلب، العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، وههنا لطيفة : وهي أنّ آيات نبينا صلى الله عليه وسلم كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأنّ من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأنّ الخسوف إذا وقع عمّ وذلك لأنّ نبوّته كانت عامّة لا تختص بقطر دون قطر، وغاض بحر ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر، وانهدمت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عامّا، الثالث : أنّ غير هذه المعجزة يقول الكافر المعاند هذا سحر وعمل يد والقرآن لا يمكن هذا القول فيه، وقال أبو العباس المرسي : خشع بعض الصحابة من سماع بعض اليهود يقرأ التوراة فعوتبوا إذ تخشعوا من غير القرآن وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله تعالى فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء.
ولما كان هذا القرآن أعظم من كل آية يقترحونها قال تعالى :﴿ إن في ذلك ﴾ أي : إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال ﴿ لرحمة ﴾ أي : نعمة عظيمة في كل لحظة وتطهيراً لخبث النفوس في كل لمحة ﴿ وذكرى ﴾ أي : عظيمة مستمرّاً تذكرها. ولما عمّ بالقول خص من حيث النفع فقال ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ لأنهم المنتفعون بذلك.
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون : نحن لا نصدق أنّ هذا الكتاب من عند الله فضلاً عن أن نكتفي به قال تعالى :﴿ قل ﴾ أي : جواباً لما قد يقولونه من نحو هذا ﴿ كفى بالله ﴾ أي : الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات ﴿ بيني وبينكم شهيداً ﴾ أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ونصحتكم وأنذرتكم وأنهم قابلوني بالجحد والتكذيب وقد صدقني بالمعجزات، وروي أنّ كعب بن الأشرف وغيره قالوا يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله فنزلت، ثم وصف الشهيد وعلل كفايته بقوله :﴿ يعلم ما في السماوات ﴾ أي : كلها ﴿ والأرض ﴾ أي : كذلك لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما تنسبونه إليه من التقوّل عليه وبما أنسبه أنا إليه من هذا القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عنه فهو شاهدي، والله في الحقيقة هو الشاهد لي فيه بالثناء عليّ والشهادة لي بالصدق لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه.
ولما بين تعالى الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكامل الشامل لهما والإنكار العامّ فقال :﴿ والذين آمنوا بالباطل ﴾ أي : وهو ما يعبد من دون الله ﴿ وكفروا بالله ﴾ أي : الذي يجب الإيمان به والشكر له لأنّ له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ هم الخاسرون ﴾ أي : العريقون في الخسارة فإنهم خسروا أنفسهم أبد الآبدين، فإن قيل : قوله ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ يقتضي الحصر في من آمن بالباطل وكفر بالله فمن يأتي بأحدهما دون الآخر لا يكون كذلك ؟ أجيب : بأنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر لأنّ المؤمن بما سوى الله تعالى مشرك لأنه جعل غير الله مثله وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله تعالى كذلك ومن كفر بالله تعالى وأنكره فيكون قائلاً بأنّ العالم واجب الوجود إله فيكون قائلاً بأنّ غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به.
فإن قيل : إذا كان الإيمان بما سواه كفراً به فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي في قول القائل قم ولا تقعد وأقرب مني ولا تبعد ؟ أجيب : بأنّ فيه فائدة غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأوّل كقول القائل : أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أنّ القول بالباطل قبيح.
ولما أنذرهم صلى الله عليه وسلم وأوعد بالعذاب إن لم يؤمنوا أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ ويستعجلونك بالعذاب ﴾ نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين ويجعلون تأخيره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب ﴿ ولولا أجل مسمى ﴾ قد ضرب لوقت عذابهم فلا تقدّم فيه ولا تأخر ﴿ لجاءهم العذاب ﴾ وقت استعجالهم لأنّ القدرة تامّة والعلم محيط ﴿ وليأتينهم بغتة ﴾ أي : فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه.
ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله تعالى مبدلاً :﴿ يستعجلونك بالعذاب ﴾ أي : يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزاً ولو كان في غير وقته الأليق به ولو علموا ما هم صائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلاً عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه ﴿ وإنّ جهنم ﴾ التي هي من عذاب الآخرة ﴿ لمحيطة بالكافرين ﴾ أي : ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب أو هي كالمحيطة بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم، وأتى بالظاهر موضع المضمر تنبيهاً على ما استحقوا به عذابها وتعميماً لكل من اتصف به.
ثم ذكر تعالى كيفية إحاطة جهنم بقوله عز وجل :﴿ يوم يغشاهم العذاب ﴾ أي : يلحقهم ويلصق بهم ﴿ من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ فعلم بذلك إحاطته من جميع الجوانب، فإن قيل : لم خص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدّام ؟ أجيب : بأنّ المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإنّ من يدخلها تكون الشعلة قدّامه وخلفه ويمينه ويساره، وأمّا النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة بل تنطفئ الشعلة التي تحت القدم ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ ولم يقل من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم ومن تحتهم بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق ؟ أجيب : بأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرأس أم من موضع آخر عجب لأنّ طبع النار الصعود إلى فوق فلهذا لم يخصه بالرؤوس، وأمّا بقاء النار تحت القدم فهو عجب وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطفئ بالدوس، وأمّا فوق فعلى الإطلاق وقوله تعالى ﴿ ونقول ﴾ قرأ نافع والكوفيون بالياء أي : الموكل بالعذاب من ملائكته بأمره، والباقون بالنون أي : نأمر بالعذاب.
ولما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ﴿ ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾ جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق اسم المسبب على السبب فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال.
ولما ذكر تعالى حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتدّ عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من العبادة قال تعالى :﴿ يا عبادي الذين آمنوا ﴾ فشرفهم بالإضافة إليه ﴿ إن أرضي واسعة ﴾ أي : في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق إن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم، قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة يقول الله تعالى : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها فإنّ أرض المدينة واسعة آمنة وقال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا وفيها، وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة، وكذا يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تتهيأ له العبادة ولكن صارت البلدان في زماننا كلها متساوية فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
وقرأ بفتح الياء ابن عامر، والباقون بتسكينها، وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا : نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج، وقال مطرف بن عبد الله : أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا، روى الثعلبي عن الحسن البصري مرسلاً :«من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبراً استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما ».
تنبيه : قوله تعالى :﴿ يا عبادي ﴾ لا يدخل فيه الكافر لوجوه : الأوّل : قوله تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ ( الحجر : ٤٢ ) والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يدخل في قوله تعالى يا عبادي. الثاني : قوله تعالى :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ ( الزمر : ٥٣ ) الثالث : أنّ العباد مأخوذ من العبادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله تعالى ﴿ يا عبادي ﴾ وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه، الرابع : الإضافة بين الله تعالى والعبد يقول العبد إلهي ويقول الله عبدي، فإن قيل : إذا كان عباده لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله ﴿ الذين آمنوا ﴾ مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال : يا أيها المكلفون المؤمنون، يا أيها الرجال العقلاء تمييزاً بين الكافر والجاهل ؟ أجيب : بأنّ الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرّد بيان أنّ فيه الوصف كما يقال : الأنبياء المكرمون، والملائكة المطهرون، مع أن كل نبيّ مكرم، وكل ملك مطهر، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة، ومثله قولنا، الله العظيم فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون ولما كانت الإقامة بمكة قبل الفتح موِدّية إلى الفتنة قال تعالى :﴿ فإياي ﴾ أي : خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها ﴿ فاعبدون ﴾ أي : وحدون وإن كان بالهجرة وكانت هجرة الأهل والأوطان شديدة، فإن قيل : قوله تعالى :﴿ يا عبادي ﴾ يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة ؟ أجيب : بأنّ فيه فائدتين أحداهما : المداومة أي : يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل، الثانية : الإخلاص أي : يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري، فإن قيل ما معنى الفاء في فاعبدون ؟ أجيب : بأن الفاء جواب شرط محذوف لأنّ المعنى إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرضي فأخلصوها في غيرها.
ولما أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن بعدت وشق عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان خوّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة بقوله تعالى :﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ أي : كل نفس مفارقة ما ألفته حتى بدناً طالما لبسته وأنسها وأنسته فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة من الأجل شيئاً وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً فإذا قدّر الإنسان أنه ميت سهلت عليه الهجرة فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وقد ورد «أكثروا من ذكر هادم اللذات أي : الموت فإنه ما ذكر في قليل أي : من العمل إلا كثره ولا ذكر في كثير أي : من أمل الدنيا إلا قلله ».
ولما هوّن أمر الهجرة حذر من رضي في دينه بنقص شيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزّود للمعاد بقوله تعالى :﴿ ثم إلينا ترجعون ﴾ على أيسر وجه فنجازي كلاً منكم بما عمل، وقرأ أبو بكر بالياء التحتية، والباقون بالتاء الفوقية.
﴿ والذين آمنوا وعملوا ﴾ أي : تصديقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات لنبؤنّهم ﴾ أي : لننزلنهم ﴿ من الجنة غرفاً ﴾ أي : بيوتاً عالية، قال البقاعي : تحتها قاعات واسعة، وقرأ حمزة والكسائي بعد النون بثاء مثلثة ساكنة وبعدها واو مكسورة وبعد الواو ياء مفتوحة أي : لنثوينهم أي : لنقيمنهم من الثواء وهو الإقامة يقال : ثوى الرجل إذا أقام فيكون انتصاب غرفاً لإجرائه مجرى لننزلنهم، أو بنزع الخافض اتساعاً أي : في غرف أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم كقوله :﴿ لأقعدنّ لهم صراطك ﴾ ( الأعراف : ١٦ )، والباقون بعد النون بباء موحدة وبعدها واو مشدّدة وبعد الواو همزة مفتوحة وعلى هذه القراءة فانتصابها على أنها مفعول ثان لأنّ بوّأ يتعدّى لاثنين، قال الله تعالى :﴿ تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾ ( آل عمران : ١٢١ ) ويتعدّى باللام قال تعالى :﴿ وإذ بوّأنا لإبراهيم ﴾ ( الحج : ٢٦ ).
ولما كانت العلالي لا تروق إلا بالرياض قال تعالى :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار إلا أن يكون فيه بساتين كبار وزروع ورياض وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي.
ولما كانت بحالة لا نكر فيها يوجب هجرة في لحظة ما كنى عنه بقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ أي : لا يبغون عنها حولاً، ثم عظم أمرها وشرف قدرها بقوله تعالى :﴿ نعم أجر العاملين ﴾ أي : هذا الأجر وهذا في مقابلة قوله تعالى للكافر :﴿ ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾ ( العنكبوت : ٥٥ ).
ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة بقوله تعالى :﴿ الذين صبروا ﴾ أي : أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرّت عندهم فكانت سجية لهم فأوقفوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها فإنّ الإنسان قل أن ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه، ثم رغب في الاستراحة بالتفويض إليه بقوله تعالى :﴿ وعلى ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم وحده لا على أهل ولا وطن ﴿ يتوكلون ﴾ أي : يوجدون التوكل إيجاداً مستمرّاً لتجديد كل مهم يعرض لهم.
ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة لا مال ولا أهل قال عاطفاً على ما تقديره فكأين من متوكل عليه كفاه ولم يحوجه إلى أحد سواه فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طلباً لرضاه. ﴿ وكأيّن من دابة ﴾ أي : كثير من الدواب العاقلة وغيرها ﴿ لا تحمل ﴾ أي : لا تطيق أن تحمل ﴿ رزقها ﴾ أي : لا تدخر شيئاً لساعة أخرى لأنها قد لا تدرك نفع ذلك وقد تدركه وتتوكل، وعن الحسن : لا تدخر إنما تصبح فيرزقها الله تعالى، وعن ابن عيينة : ليس شيئاً يخبأ إلا الإنسان والنملة والفارة، وعن بعضهم قال : رأيت البلبل يدخر في حنية، ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها أو لا تجده أو لا تطيق حمله لضعفها، ثم كأنه قيل فمن يرزقها فقيل ﴿ الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة المتصف بكل كمال ﴿ يرزقها ﴾ على ضعفها وهي لا تدخر ﴿ وإياكم ﴾ مع قوتكم وادخاركم واجتهادكم لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وعدم ادخارها، وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم فإنه هو المسبب وحده فإنّ الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون فصار الإدخار وعدمه غير معتدّ به ولا منظوراً إليه، وقرأ ابن كثير بعد الكاف بألف وبعد الألف همزة مكسورة، والباقون بعد الكاف همزة مفتوحة وبعدها ياء مشدّدة، ووقف أبو عمرو على الياء، ووقف الباقون على النون، وحمزة في الوقف يسهل الهمزة على أصله.
تنبيه : كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي : التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم ثم لم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأنّ كأي تستعمل غير مركبة كما يقول القائل : رأيت رجلاً كأيّ رجل يكون وحينئذٍ لا يكون كأي : مركباً فإذا كان كأيّ ههنا مركباً كتب بالنون للتمييز ﴿ وهو السميع ﴾ لأقوالكم نخشى الفقر والضيعة ﴿ العليم ﴾ بما في ضمائركم.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فعن ابن عمر أنه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقط الرطب بيده ويأكل فقال : كل يا ابن عمر قلت : لا أشتهيه يا رسول الله قال : لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده فقلت : يا رسول الله إن الله المستعان فقال : يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافاً مضاعفة ولكني أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت ﴿ وكأين من دابة ﴾ ( العنكبوت : ٦٠ ).
وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون «هاجروا إلى المدينة » فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «كان لا يدخر شيئاً » وقال صلى الله عليه وسلم :«لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً » وقال صلى الله عليه وسلم :«أيها الناس ليس شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، وإنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته ».
﴿ ولئن ﴾ اللام لام قسم ﴿ سألتهم ﴾ أي : كفار مكة وغيرهم ﴿ من خلق السماوات والأرض ﴾ وسوّاهما على هذا النظام العظيم ﴿ وسخر الشمس والقمر ﴾ لإصلاح الأقوات ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع ﴿ ليقولنّ الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال لما تقرّر في نظرهم من ذلك وتلقوه من آبائهم موافقة للحق في نفس الأمر ﴿ فأنى ﴾ أي : فكيف ومن أيّ وجه ﴿ يؤفكون ﴾ أي : يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك، فإن قيل : ذكر في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير ؟ أجيب : بأنّ مجرد خلق السماوات والأرض آية ظاهرة بخلاف خلق الشمس والقمر فإنهما لو كانا في موضع واحد لا يتحرّكان ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء فإذاً الحكمة الظاهرة في تحريكهما وتسخيرهما.
ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند من لم يتأمّل حق التأمّل فيقول : ما بال الخلق متفاوتين في الرزق قال تعالى :﴿ الله ﴾ أي : بما له من الإحاطة بصفات الكمال ﴿ يبسط الرزق ﴾ بقدرته التامّة امتحاناً ﴿ لِمنْ يشاء من عباده ﴾ على حسب ما يعلم من بواطنهم ﴿ ويقدر ﴾ أي : يضيق ﴿ له ﴾ بعد البسط أو لمن يشاء ابتلاء فظهر من ذلك قدرته وحكمته وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم علماً لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك كما قال تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ بكل شيء ﴾ أي : من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف يمنع أو يساق وغير ذلك ﴿ عليم ﴾ يعلم مقادير الحاجات والأرزاق فهو على ذلك كله قدير يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وإفقار غني فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال.
ولما قال الله تعالى :﴿ الله يبسط الرزق ﴾ ذكر اعترافهم بذلك بقوله تعالى :﴿ ولئن ﴾ اللام لام قسم ﴿ سألتهم من نزل من السماء ماءً ﴾ بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو ﴿ فأحيا به الأرض ﴾ الغبراء وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات فقال :﴿ من بعد موتها ﴾ فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن لها شيء من ذلك ﴿ ليقولنّ الله ﴾ معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك فلما ثبت أنه الخالق بدءً وإعادة كما يشاهد في كل زمان قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾ يا أفضل الخلق متعجباً منهم في جمودهم كيف يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون ؟ ! ﴿ الحمد لله ﴾ الذي لا سميّ له وليس لغيره إحاطة من الأشياء فلزمتهم الحجة بما أقروا به من إحاطته وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم ﴿ بل أكثرهم لا يعقلون ﴾ فيناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يلزمه سائر الفروع، ومنهم من كان دون ذلك فكان نفي العقل عنه مقيداً بالكمال.
ولما تبين بهذه الآيات أنّ الدنيا مبنية على الفناء والزوال والتقلع والارتحال وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون :﴿ وما هذه الحياة الدنيا ﴾ فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى هذا الاعتراف فهذا الاسم كاف في الإلزام بالاعتراف بالأخرى ﴿ إلا لهو ﴾ وهو الاستمتاع بلذات الدنيا ﴿ ولعب ﴾ وهو العبث وسميت بهما لأنها فانية، وقيل : اللهو الإعراض عن الحق، واللعب : الإقبال على الباطل، فإن قيل : قد قال تعالى في الأنعام :﴿ وما الحياة الدنيا ﴾ ( آل عمران، ١٨٥ ) ولم يقل ﴿ وما هذه الحياة ﴾ وقال ههنا :﴿ وما هذه الحياة ﴾ فما فائدته أجيب بأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا فأحيا به الأرض من بعد موتها فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال ﴿ يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴾ ( الأنعام : ٣١ ) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال تعالى :﴿ وما الحياة الدنيا ﴾، فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه هناك اللعب على اللهو وههنا أخر اللعب عن اللهو ؟ أجيب : بأنه لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوعد يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهمّ إلا لمانع يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً وكان الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.
ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها بقوله تعالى :﴿ وإن الدار الآخرة لهي ﴾ أي : خاصة ﴿ الحيوان ﴾ أي : الحياة التامّة الباقية، فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى هناك ﴿ ولدار الآخرة خير ﴾ وقال ههنا :﴿ وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان ﴾ ؟ أجيب : بأنه لما كان الحاصل هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازع قوي فقال : الآخرة خير.
ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة، والحيوان مصدر حيي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً وبه سمي ما فيه حياة حيواناً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ههنا.
ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كليهما فنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذه الحالة وعدوا الآخرة عدماً لا وجود لها بوجه قال تعالى :﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أي : لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في الأنعام :﴿ أفلا يعقلون ﴾ وقال ههنا :﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ ؟ أجيب : بأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع.
﴿ فإذا ﴾ أي : فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا ﴿ ركبوا ﴾ البحر ﴿ في الفلك ﴾ أي : السفن ﴿ دعوا الله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ مخلصين ﴾ بالتوحيد ﴿ له الدين ﴾ معرضين عن الشركاء بالقلب واللسان حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو ﴿ فلما نجاهم ﴾ أي : الله سبحانه وتعالى موصلاً لهم ﴿ إلى البرّ إذا هم ﴾ أي : حين الوصول إلى البرّ ﴿ يشركون ﴾ كما كانوا فهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد مقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده فإذا زالت عادوا إلى كفرهم.
قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدّ عليهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب، وقال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء انتهى، فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة ولهذا تجد الفقراء أقرب إلى كل خير.
وفي اللام في قوله تعالى :﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ وجهان : أظهرهما أن اللام فيه لام كي أي : يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة فيكون ذلك فعل من لا عقل له أصلاً وهم يتحاشون عن مثل ذلك، والثاني : كونها للأمر ﴿ وليتمتعوا ﴾ باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالكسر وهي محتملة للوجهين المتقدّمين، والباقون بالسكون وهي ظاهرة في الأمر فإن كانت اللام الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله، فإن قيل كونها للأمر مشكل إذ كيف يأمر الله تعالى بالكفر وهو متوعد عليه ؟ أجيب : بأن ذلك على سبيل التهديد كقوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ ( فصلت : ٤٠ ) وإن كانت للعلة فقد عطف كلاماً على كلام فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة ﴿ فسوف يعلمون ﴾ يومئذٍ ما يحلّ بهم من العقاب.
ولما كان الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لاسيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذكرهم حالهم عند الأمر العظيم بقوله تعالى :﴿ أولم يروا ﴾ أي : أهل مكة بعيون بصائرهم ﴿ أنا جعلنا ﴾ بعظمتنا لهم ﴿ حرماً ﴾ وقال ﴿ آمناً ﴾ لأنه لا خوف على من دخله، فلما أمن كل من دخله كان كأنه هو نفسه الآمن وهو حرم مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصينة بحصن الله وآمنة موجبة للتوحيد والإخلاص لأنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص فما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلتم وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها ؟ والأصنام التي قلتم في حال الخوف أنها لا أمن لها كيف آمنتم بها في حال الأمن ﴿ و ﴾ الحال أنه ﴿ يتخطف الناس من حولهم ﴾ أي : من حول من فيه من كل جهة قتلا وسبياً مع قلة من بمكة وكثرة من حولهم فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفاً ومن حوله آمناً أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد ﴿ أفبالباطل ﴾ من الشياطين والأديان وغيرهما ﴿ يؤمنون ﴾ والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه ﴿ وبنعمة الله ﴾ التي أحدثها لهم من الإنجاء وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ يكفرون ﴾ حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاة وغيرها شركهم بعبادة غيره.
﴿ ومن أظلم ﴾ أي : أشدّ وضعاً للأشياء في غير مواضعها ﴿ ممن افترى ﴾ أي : تعمد ﴿ على الله كذباً ﴾ أي : أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون ﴿ إذا فعلوا فاحشة وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ﴾ ﴿ أو كذب بالحق ﴾ أي : النبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن المعجز المبين على لسان هذا الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع ﴿ لما ﴾ أي : حين ﴿ جاءه ﴾ من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل بل سارع إلى التكذيب أوّل ما سمعه وقوله تعالى :﴿ أليس في جهنم مثوىً للكافرين ﴾ استفهام تقرير لمثواهم كقوله :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
قال بعضهم : ولو كان استفهاماً ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل، وحقيقته أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي فرجع إلى معنى التقرير، والمعنى أما لهذا الكافر المكذب مثوى في جهنم حتى اجترأ مثل هذه الجراءة ؟.
﴿ والذين جاهدوا ﴾ أي : أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دلّ عليه بالمفاعلة ﴿ فينا ﴾ أي : بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدّة والرخاء ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن وشدائد المحن مستحضرين لعظمتنا ﴿ لنهدينهم ﴾ مما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه هداية تليق بعظمتنا ﴿ سبلنا ﴾ أي : طريق السير إلينا وهي الطريق المستقيمة والطريق المستقيمة هي التي توصل إلى رضا الله عز وجل، قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإنّ الله تعالى قال ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾ وقال الحسن : الجهاد مخالفة الهوى، وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به، وقال سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا، وقال أبو سليمان الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا، وعن بعضهم : من عمل بما يعلم وفق لما لم يعلم، وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لم نعلم إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم، وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعة، وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة، والباقون بضمها ﴿ وإن الله ﴾ أي : بعظمته وجلاله وكبريائه ﴿ لمع المحسنين ﴾ أي : المؤمنين بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة والثواب في عقباهم، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشريّ من أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين » فهو حديث موضوع، ورواه ابن عادل عن أبي أمامة عن أبي بن كعب.
Icon