تفسير سورة الرّوم

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الروم من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ ﴾ هذه السورة مكية بلا خلاف وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشاً إلى الروم وأمر عليهم رجلاً اختلف في اسمه فسار إليهم بأهل فارس فظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم وكان التقاهم باذرعات وبصرى وكان قد بعث قيصر رجلاً أميراً على الروم وفي كتابنا البحر ذكرت حكاية غلب الروم فارس قال ابن عطية والقراءة بضم الغين أصح وأجمع الناس على سيغلبون أنه بفتح الياء يراد به الروم ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضاً سيغلبون بضم الياء وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات " انتهى " * قوله:﴿ أَجْمَعُوۤاْ ﴾[يوسف: ١٠٢] ليس كذلك ألا ترى أن الذين قرؤا غلبت بفتح الغين هم الذين قرؤا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام فليست هذه مخصوصة بابن عمر كما ذكر.﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ تقدم الكلام عليه في يوسف والظاهر أن يومئذٍ ظرف معمول ليفرح والتنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة أي ويوم إذ يغلب الروم فارس يفرح المؤمنون ثم ابتدأ الاخبار بفرح المؤمنين بالنصر وبنصر الله أي الروم على فارس أو المسلمين على عدوهم * وانتصب وعد الله على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدّمت وهو قوله: ﴿ سَيَغْلِبُونَ ﴾ و ﴿ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ ﴾ الكفار من قريش وغيرهم.﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ نفي عنهم العلم النافع للآخرة وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا.﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً ﴾ أي بينا أي ما أدتهم إليه حواسهم فكان علومهم إذن هي علوم البهائم.﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ ﴾ الظاهر أنها معلقة ومتعلقها الجملة من قوله ما خلق إلخ وفي أنفسهم ظرف على سبيل التأكيد لأن الفكر لا يكون إلا في النفس كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد * وبالحق في موضع الحال أي ملتبسة بالحق مقترنة به وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو قيام الساعة ووقف الحساب والثواب والعقاب والمراد بلقاء ربهم الأجل المسمى.﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ هذا تقرير وتوبيخ أي قد ساروا ونظروا إلى ما حل بمن كان قبلهم من مكذبي الرسل.﴿ وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ ﴾ أي قلبوها للزراعة وغير ذلك وعمروها من العمارة أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء أو من العمران أي سكنوا فيها وقرىء عاقبة بالرفع وهي إسم كان * والذين أساؤا من وضع الظاهر موضع المضمر كأنه قال عاقبة مكرهم وخبر كان قوله السوأى وهي الحالة السيئة والسوأى افعل تفضيل مؤنث تذكيره الاسوء ويجوز أن يكون السوأى مصدراً منصوباً باساؤا وان كذبوا هو الخبر أي تكذيبهم بآيات الله وقرىء عاقبة بالنصب على أنه خبر كان واسمها يجوز أن يكون السوأى ويجوز أن يكون ان كذبوا أي تكذيبهم فيكون السوأى مصدر الأساؤا قال الزمخشري: ويجوز أن يكون أن بمعنى أي ووجه آخر وهو أن يكون أساؤا السوأي هنا بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات وان كذبوا عطف بيان لها وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو ارادة الابهام " انتهى " * وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً وأما قوله وإن كذبوا عطف بيان لها أي للسوأى وخبر كان محذوف الخبر فهذا فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف فيتكلف له محذوف لا يدل على دليل وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها لا اقتصاراً ولا اختصاراً إلا أن ورد منه شىء فلا يقاس عليه.﴿ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾ أي لا ينطقون * في روضة والروضة الأرض ذات النبات والماء.﴿ يُحْبَرُونَ ﴾ يسرون حبره سره سروراً تهلل له وجهه وظهر له أثره ومعنى محضرون مجموعون له لا يغيب أحد منهم وجاء في روضة منكراً وفي العذاب معرفاً والتنكيل لإِبهام أمرها وتفخيمه وجاء يجدون بالفعل المضارع لاستعماله لمتجدد لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به متجددات الملاذ أو أنواعها المختلفة وجاء محضرون باسم الفاعل لاستعماله للثبوت فيهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين فهو وصف لهم لازم.﴿ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ﴾ الآية لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض بالحق وهي حالة لمبدأ العالم وفي مصيرهم إلى الجنة والنار وهي حالة الإِنتهاء أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء في هذه الأوقات وقابل بالعشي الإِمساء وبالإِظهار الإِصباح لأن كلاً منهما يتعقب ما قابله فالعشى يتعقبه الإِمساء والإِصباح يتعقبه الإِظهار ولما لم يتصرف من العشى فعل لا يقال أعشى كما يقال أمسى وأصبح وأظهر جاء التركيب وعشياً ولما ذكر الابداء والإِعادة ناسب ذكر يخرج الحي من الميت وتقدم الكلام عليه.﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ أي مثل ذلك الإِخراج والمعنى تساوي الإِبداء والإِعادة في حقه تعالى ثم ذكر آيات من بدء خلق الإِنسان آية آية إلى حين بعثه من القبر فقال:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ أن خلقكم من تراب جعل خلقهم من تراب حيث كان خلق أباهم آدم من تراب. و ﴿ تَنتَشِرُونَ ﴾ تتصرفون في أغراضكم وأسفاركم وإذا للمفاجأة ولما كان بين الخلق وبين الإِنتشار رتب آخر كان العطف بثم المقتضية المهلة والتراخي وبدأ أولاً من الآيات بالنشأة الأولى وهي خلق الإِنسان من التراب ثم كونه بشراً منتشراً وهو خلق حي من جماد ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً وجعل بينهما تواداً وذلك خلق حي من عضو حي وقال:﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم وهو خلق السماوات والأرض واختلاف اللغات والألوان والاختلاف دائم بدوام الإِنسان لا يفارق وقال:﴿ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ لأنها آية مكشوفة للعالم ثم أتبعه بالمنام والابتغاء وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات بخلاف اختلاف الألسنة والألوان وقال:﴿ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ لأنه لما كان من أفعال العباد قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد فنبه على السماع وجعل البال من كلام المرشد ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر وقدمهما على ما هو من الأرض وهو الإِنبات والإِحياء كما قدم السماوات على الأرض وقدم البرق على الإِنزال لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم والإِعراب لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب وقال لقوم يعقلون لأن البرق والإِنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة إذ قد يقع ذلك ببلدة دون أخرى ووقتاً دون وقت وقوياً وضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هداية لمن عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً ثم ختم هذه الآيات بقيام السماوات والأرض وذلك من العوارض اللازمة فإِن كلاً من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ومن علو السماء وثباتها من غير عمد ثم اتبع ذلك بالنشأة الآخرة وهي الخروج من الأرض وذكر تعالى من كل باب أمرين من الأنفس خلقكم وخلق لكم من الآفاق السماء والأرض ومن لوازم الإِنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ومن عوارضه الابتغاء ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ومن لوازمها قيام السماء وقيام الأرض.﴿ وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ عام في كونهم تحت ملكه وقهره.﴿ قَانِتُونَ ﴾ قال ابن عباس: مطيعون أي في تصريفه لا يمتنع عليه شىء يريد فعله بهم من حياة وموت ومرض وصحة وفي طاعة الإِرادة لا طاعة العبادة والضمير في عليه عائد إلى الله تعالى وقيل أهون للتفضيل وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإِعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة هذا وإن كان الإِثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد وقيل الضمير في عليه عائد على الخلق أي والعود أهون على الخلق بمعنى أسرع لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً والإِعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار إنما يدعوه الله تعالى فيخرج فكأنه قال: وهو أيسر عليه أي أقصر مدة وانتقالاً.﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ قال ابن عباس بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله تعالى بضربه هذا المثل ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإِنكم لا تشركونهم في أموالكم ومنهم أموركم ولا في شىء على استواء المنزلة وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسمونكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإِذا كان هذا فيكم فكيف تقولون ان من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير.
﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ﴾ أي لخلق الله والقيم بناء مبالغة من القيام بمعنى الاستقامة. و ﴿ مُنِيبِينَ ﴾ حال من الناس والظاهر أن المشركين كل من أشرك فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم ومن الذين بدل من المشركين فارقوا دينهم أي دين الإِسلام وجعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم.﴿ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾ كل فرقة تشائع امامها الذي كان سبب ضلالها.﴿ كُلُّ حِزْبٍ ﴾ أي منهم فرح بمذهبه مفتون به وكل حزب مبتدأ وقد حذف الخبر.﴿ وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ ﴾ الآية الضر الشدة من مرض أو فقر أو قحط أو غير ذلك والرحمة الخلاص من ذلك الضر.﴿ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ ﴾ أفردوه بالدعاء والتضرع لينجوا من ذلك الضر وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع فإِذا أخلصهم من ذلك الضر أشرك فريق ممن خلص وهذا الفريق هم عبدة الأصنام. و ﴿ إِذَا فَرِيقٌ ﴾ جواب إذا ادامتهم الأولى شرطية والثانية للمفاجأة وتقدم نظيره وجاء هنا فريق لأنه قوله وإذا مس الناس عام للمؤمن والكافر فلا يشرك إلا الكافر وضر هنا مطلق.﴿ أَمْ أَنزَلْنَا ﴾ بمعنى بل والهمزة بل للإِضراب عن الكلام السابق والهمزة للإِستفهام عن الحجة إستفهام إنكار وتوبيخ والسلطان البرهان من كتاب أو نحوه.﴿ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ ﴾ أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم والتكلم مجاز وإذا أذقنا الناس في إصابة الرحمة فرحوا بها وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء وإذا هم جواب وان تصبهم يقوم مقام الفاء في الجملة الإِسمية الواقعة جواباً للشرط ونظيره وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولا نعلم جاءت إذا الفجائية جواباً لأن الشرطية إلا في هذين الموضعين وقرىء: يقنطون مضارع قنط ويقنطون مضارع قنط وحين ذكر إذاقة الرحمة لم يذكر سببها وهو زيادة الإِحسان والتفضل وحين ذكر إصابة السيئة ذكر سبباً وهو العصيان ليتحقق عدله ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم يأس من روح الله وهو أنه تعالى هو الباسط والقابض فينبغي أن لا يقنط وأن يتلقى ما يرد من قبل الله تعالى بالصبر في البلاء والشكر في النعماء وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها حتى تعود إليه رحمة ربه * ووجه مناسبة فآت ذا القربى لما قبله لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض وجعل في ذلك آية للمؤمن أمره نبيه صلى الله عليه وسلم بالإِحسان لمن به فاقة واحتياج لأن من الإِيمان الشفقة على خلق الله تعالى فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله تعالى من المال وصرفه إلى من يصرف إليه في رحم أو غيره من مسكين.﴿ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً ﴾ قال السدي: نزلت في ربا ثقيف كانوا يعملون ويعمله قريش فيهم.﴿ فَلاَ يَرْبُواْ ﴾ أي لا يزكو في المال ولا يبارك الله فيه كقوله:﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ ﴾[البقرة: ٢٧٦] وقرىء: أتيتم بالقصر وآتيتم بالمد فأولئك التفات من الخطاب في آتيتم إلى الغيبة في قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ﴾.
﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك وهي الخلق والرزق والإِماتة والإِحياء ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ ثم نزه نفسه تعالى عن مقالاتهم. و ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ مبتدأ وخبر ومن مبتدأ موصولة ومن شركائكم الخبر ومن شىء مفعول ومن زائدة تقديره شيئاً قال الزمخشري:﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ ﴾ الذين اتخذتموهم أندادا من الأصنام وغيرها.﴿ مَّن يَفْعَلُ ﴾ شيئاً قط من تلك الأفعال حتى يصح ما ذهبتم إليه " انتهى " * استعمل قط في غير موضعها لأنها ظرف للماضي وهنا جعلها معمولة ليفعل. و ﴿ ذَٰلِكُمْ ﴾ إشارة إلى ما تقدم من الخلق والرزق والإِماتة والإِحياء.﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ ﴾ ظهوره بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتقلب عدو كافر وهذه الثلاثة توجد.﴿ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ ﴾ أي من المعاصي وقرىء لنذيقهم بالنون وبالياء وسيروا تقدم الكلام عليه من قبل أن يأتي يوم هو يوم القيامة وفيه تحذير يعم الناس.﴿ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ والمرد مصدر.﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم.﴿ يَصَّدَّعُونَ ﴾ يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير يقال تصدع القوم إذا تفرقوا ومنه الصداع لأنه يفرق شعب الرأس.﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ﴾ وعبر عن حالة الكافر بعليه وهي تدل على الثقل والمشقة وعن حال المؤمن بقوله: فلأنفسهم باللام التي هي كلام الملك ويمهدون يوطئون وهي استعارة من الفرش.﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ﴾ منصوب على الحال.﴿ وَلِيُذِيقَكُمْ ﴾ معطوف عليه على التوهم كأنه قيل ليبشر وليذيق وتبشيرها إذاقة الرحمة وهي نزول المطر ويتبعه حصول الخصب والروح الذي معه الهبوب وإزالة العفونة من الهواء وتذرية الحبوب وغير ذلك وبأمره يعني أن جريانها لما كان مسنداً إليها أخبر أنه بأمره تعالى من فضله بما ينشىء لكم من الريح من التجارات في البحر ومن غنائم أهل الشرك ثم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء وتوعد قريشاً بأن ضرب لهم مثل من أهلك من الأمم الذين أجرموا وكذبوا الأنبياء ولما كان تعالى بين الأصلين المبدأ والمعاد ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة وفي الكلام حذف تقديره فآمن به بعض وكذب بعض.﴿ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ ﴾ وفي قوله:﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا ﴾ تبشير للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بالنصر والظفر إذ أخبر أن المؤمنين بأولئك الأنبياء نصروا وفي لفظة حقاً مبالغة في التحتم وتكريم للمؤمنين وإظهار لفضيلة سابقة الإِيمان حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر والظاهر أن حقاً خبر كان ونصر المؤمنين الإِسم وآخر لكون ما تعلق به فاصلة وللإِهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة.﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ ﴾ هذا متعلق بقوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ ﴾ والجملة التي بينها اعتراض جاءت تأنيساً للرسول عليه السلام وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر وفي إرسالها قدرة وحكمة أما القدرة فإِن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق يصبر بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء وهو ليس بذاته يفعل ذلك بل بفاعل مختار وأما الحكمة ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب وإخراج الماء منه وانبات الزرع ودر الضرع واختصاصه بناس دون ناس وهذه حكمة بالغة مقرونة بالمشيئة والإِثارة تحريكها وتسييرها والبسط نشرها في الآفاق الكسف القطع.﴿ فَتَرَى ٱلْوَدْقَ ﴾ تقدم الكلام عليه والضمير في:﴿ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ الظاهر أنه عائد على السحاب إذ هو المحدث عنه وذكر الضمير لأن السحاب إسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه.
﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً ﴾ أخبر تعالى عن تقلب ابن آدم في أنه بعد الاستبشار بالمطر بعث الله ريحاً فاصفر بها النبات فظلوا يكفرون قلقاً منهم والريح الذي يصفر بها النبات صرصور أو هما مما يصبح به النبات هشيماً والحرور جنب الشمال إذا عصفت والضمير في فرأوه عائد على ما يفهم من سياق الكلام وهو النبات واللام في ولئن مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل إتساعاً تقديره ليظللن والضمير في بعده عائد على الإِصفرار أي من بعد إصفرار النبات يجحدون نعمته وتقدم الكلام على قوله: ﴿ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَهُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ في أواخر النمل إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله: فإِنك.﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ﴾ الآية لما ذكر من دلائل الآفاق ما ذكر ذكر شيئاً من دلائل الأنفس وجعل الخلق من ضعف لكثرة ضعف الإِنسان أول نشأته وطفوليته كقوله تعالى:﴿ خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾[الأنبياء: ٢٧] والقوة التي تلت الضعف هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم وقرىء: ضعف بضم الضاد وفتحها ما لبثوا في الدنيا استقلوها لما عاينوا من أمر الآخرة واخبارهم بذلك هو على جهة التقول بغير علم أي على جهة النسيان والكذب.﴿ يُؤْفَكُونَ ﴾ أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق. و ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون.﴿ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإِيمان وغيره ولكن نص على هذا الخاص تشريفاً وتنبيهاً على محله من العلم وقيل في كتاب الله في اللوح المحفوظ.﴿ فَيَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولي العلم لهم.﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ في إزالة ما سألوه مما هم فيه.﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا ﴾ إشارة إلى إزالة الأعذار والإِتيان بما فوق الكناية من الإِنذار.﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ ﴾ أي مثل هذا الطبع يطبع الله أي يختم على قلوب الجهلة الذين قد حتم عليه بالكفر في الأزل وأسند الطبع إلى ذاته تعالى إذ هو فاعل ذلك ومقدره ثم أمره تعالى بالصبر عليهم وعلى عداوتهم وقواه بتحقيق الوعد بأنه لا بد من إيجاده والوفاء به ونهاه عن الإِهتزاز لكلامهم والتحرك فإِنهم لا يقين لهم ولا بصيرة.
Icon