تفسير سورة ص

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة ص من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٨٨.

تفسير سورة «ص»
[وهي] مكّيّة بإجماع
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
قرأ أُبَيُّ بن كَعْبٍ والحسن وابن أبي إسحاقَ: «صَادِ» - بِكَسْرِ الدالِ «١» -، والمعنى:
مَاثِلِ القرآن بِعَمَلِكَ، وقارِبْهُ بطاعَتِكَ، وكذا فسَّرهُ الحَسَن «٢»، أي: انظر أينَ عَمَلُكَ مِنْهُ، وقال الجمهورُ: إنه حَرْفُ مُعْجَمٍ يَدْخُلُه مَا يَدْخُل أوائِلَ السور مِنَ الأَقْوَالِ، وَيَخْتَصُّ هذا بأنْ قَالَ بعضُ الناس: معناه: صدق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الضَّحَّاك: معناهُ: صَدَقَ اللَّهُ «٣»، وقال محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ: هو مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ: صمد صادق، ونحوه «٤».
وقوله: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قَسَمٌ قال ابن عباسٍ وغيره: معناه: ذي الشرف الباقي المخلّد «٥»،
(١) وقرأ بها أبو السمال.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٢٩)، و «المحتسب» (٢/ ٢٣٠)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩١)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٦٦)، وزاد نسبتها إلى ابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم، وهي في «الدر المصون» (٥/ ٥١٩). [.....]
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٤٤) برقم: (٢٩٧٠٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٦)، وعزاه لعبد بن حميد.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٤٥) برقم: (٢٩٧١٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٧)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٦)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (١٠/ ٤٧)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩١).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٤٦) برقم: (٢٩٧١٧)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٧)، وابن عطية في في «تفسيره» (٤/ ٤٩١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٦) كلهم عن ابن عبّاس.
54
وقالَ قتادة: ذي التذكرةِ للنَّاسِ والهداية لهم «١»، وقالت فرقةٌ: ذي الذِّكْرِ للأُمَمِ والقَصَصِ والغُيُوبِ، ت: ولا مانَعَ [مِنْ] أَنْ يُرَادَ الجميعُ، قال- عليه السلام «٢» : وأما جَوَابُ القَسَمِ، فَاخْتُلِفَ فيه فقالت فرقة: الجوابُ في قوله: ص إذ هُوَ بمعنى: صدق الله أو صدق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الكوفيُّون والزَّجَّاج «٣» : الجَوَابُ في قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤]، وقَالَ بَعْضُ البصريِّين ومنهم الأخفَشُ: الجوابُ في قوله: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [ص: ١٤]، قال ع «٤» : وهذانِ القولانِ بَعيدانِ، وقال قتادة «٥» والطبري «٦» : الجواب مقدَّرٌ قَبْلَ «بل»، وهذا هو الصحيحُ، وتقديره: والقرآن، ما الأَمْرُ كَما يَزْعُمُونَ، ونَحْوُ هَذَا مِنَ التَّقْدِير، فَتَدَبَّرْهُ، وقال أبو حَيَّان «٧» : الجوابُ: إنك لمن المرسلين، وهو ما أثْبَتَ جَوَاباً للقرآن حينَ أقْسَمَ بهِ، انتهى، وهو حَسَنُ، قال أبو حيان:
وقوله: فِي عِزَّةٍ هي قراءةُ الجمهور، وعن الكسائي «٨» بالغين المعجمة والراء، أي: في غَفْلَةٍ، انتهى.
والعِزَّةُ هنا: المُعَازَّةُ والمُغَالَبَةُ والشِّقَاقُ ونحوُهُ، أيْ: هم في شِقٍّ، والحَقُّ في شِقٍّ، وكَمْ للتكثير، وهي خَبَرٌ فِيه مثالٌ ووعيدٌ، وهِي في مَوْضِعِ نَصْبٍ ب أَهْلَكْنا.
وقوله: فَنادَوْا معناهُ: مُسْتَغِيثين، والمعنى: أنهم فَعلوا ذلك بعد المُعَايَنَةِ، فَلَمْ ينْفعهم ذلك ولم يكُنْ في وَقْتِ نَفْعٍ، ولاتَ بمعنى: ليس، واسمها مقدَّرٌ عند سِيبَوَيْهِ، تقدِيره:
وَلاَتَ الحِينُ حِينَ مَنَاصٍ، والمَنَاصُ: المَفَرُّ، ناصَ يَنُوصَ: إذا فَرَّ وَفَاتَ، قالَ ابن عَبَّاس:
المعنى: ليسَ بِحِينِ نَزْوٍ وَلاَ فِرَارٍ ضبط القوم «٩»، والضمير في عَجِبُوا لكفار قريش.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٤٦) برقم: (٢٩٧١٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٦).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩١).
(٣) ينظر: «معاني القرآن» (٤/ ٣١٩).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩١).
(٥) ذكره الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٤٧) عن قتادة، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٢).
(٦) ينظر: «تفسير الطبري» (١٠/ ٥٤٧).
(٧) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٦٧).
(٨) وقرأ بها حماد بن الزبرقان، وأبو جعفر، والجحدري.
ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٦٧)، و «الدر المصون» (٥/ ٥٢٠).
(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٤٨) برقم: (٢٩٧٢٥)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٦)، وعزاه السيوطي للطيالسي، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن التميمي.
55

[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦ الى ٨]

وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨)
قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ/ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ... الآية، رُوِيَ فِي قَصَصِ هذهِ الآيةِ، أنَّ أشْرَافَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا عِنْدَ مَرَضِ أبي طالبٍ، وقالوا: إن مِنَ القبيحِ علينا أن يموتَ أبو طالب، ونُؤْذِيَ محمَّداً بَعْدَهُ، فتقولُ العربُ: تركُوهُ مُدَّةَ عَمِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ آذَوْهُ، ولكن لِنذهبْ إلى أبي طالب فَيُنْصِفَنَا مِنْهُ ويَرْبِطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رَبْطاً، فَنَهَضُوا إليه، فقالوا: يا أبا طالب: إن محمداً يَسُبُّ آلهتَنا، ويُسَفِّهُ آراءنا، ونحنُ لا نُقَارُّهُ على ذلك، ولكن افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ في حياتِكَ بأن يُقِيمَ في منزلهِ يَعْبُدُ ربَّهُ الذي يَزْعُمُ ويدعُ آلهتنا وسَبَّها، ولا يَعْرِضُ لأحَدٍ منا بشيْءٍ من هذا، فبعث أبو طالب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا محمَّدُ، إن قومَكَ قَد دَعَوْكَ إلى النَّصَفَةِ، وهِيَ أن تَدَعَهُمْ وتَعْبُدَ رَبَّكَ وَحْدَكَ، فَقال: أوَ غَيْرَ ذلكَ يا عَمُّ؟ قال: وما هو؟ قال: يُعْطُونَنِي كَلِمَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ بِهَا العَجَمُ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟! فَإنَّا نُبَادِرُ إلَيْهَا! قَالَ: «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» فَنَفَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا يُرْضِيكَ مِنَّا غَيْرُ هذا؟ قال: «واللَّهِ، لَوْ أَعْطَيْتُمُونِي الأَرْضَ ذَهَبَاً وَمَالاً» «١» وفي روايةِ «لَوْ جَعَلْتُمُ الشَّمْسَ فِي يَمِينِي والقَمَرَ فِي شِمَالِي مَا أرضى مِنْكُمْ غَيْرُهَا» فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ، ويُرَدِّدُونَ هذا المعنى، وعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ يقول: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، فقوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ عبارةٌ عن خروجِهم عَن أبي طالبٍ وانطلاقِهِمْ من ذلكَ الجَمْعِ، هذا قولُ جماعةٍ من المفسرين.
وقوله تعالى: أَنِ امْشُوا نَقَلَ الإمامُ الفخرُ «٢» أَنَّ «أنْ» بمعنى: «أي»، انتهى، وقولهم:
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ يريدون ظهورَ محمَّدٍ وعلوَّه، أي: يُرادُ مِنَّا الانقيادُ لَه، وأنْ نكونَ له أتْبَاعاً، ويريدونَ بِالمِلَّةِ الآخرةِ مِلَّةَ عيسى، قاله ابنُ عبَّاس، وغيره «٣» وذلك أنها ملَّةٌ شُهِرَ فيها التثليث.
(١) أخرجه الطبري (١٠/ ٥٥٣) برقم: (٢٩٧٥٠) وعن السدي برقم: (٢٩٧٥١)، وعن ابن عبّاس مختصرا، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٩٦). ط- دار المعرفة، وعزاه إلى ابن مردويه. [.....]
(٢) ينظر: «تفسير الرازي» (٢٦/ ١٥٦).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٥٢) برقم: (٢٩٧٤٢) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٨)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.
ثم تَوَعَدَّهُمْ- سبحانه- بقوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي: لو ذاقُوهُ، لَتَحَقَّقُوا أنَّ هذه الرسالة [حقّ].
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٩ الى ١٤]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣)
إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
وقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ... الآية، عبارةُ الثعلبيّ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني: مَفاتيح النبوَّة حتى يُعْطُوا مَنِ اختاروا، نظيرَهَا أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢].
قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يعني: أنَّ ذلكَ للَّهِ تعالى يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فَلْيَصْعَدُوا فِيمَا يُوَصِّلُهُمْ إلى السمواتِ، فليأتوا منها بالوحي إلى مَنْ يختارونَ، وهذا أمْرُ توبيخٍ وتَعْجِيزٍ، انتهى، ونحوه كلامُ ع «١».
ثم وعدَ اللَّهُ نبيَّهُ النَّصْرَ، فقال: جُنْدٌ مَّا هُنالِكَ مَهْزُومٌ أي: مَغْلُوبٌ ممنوعٌ مِن الصُّعُودِ إلى السماء، مِنَ الْأَحْزابِ أي: من جملة الأحزابِ، قال ع «٢» : وهذا تأويل قَوِيٌّ، وقالت فرقة: الإشارة ب هُنالِكَ إلى حمايةِ الأصْنَامِ وعَضْدِهَا، أي: هؤلاءِ القومُ جندٌ مهزومٌ في هذهِ السبيلِ، وقال مجاهد: الإشارةُ ب «هنالكَ» إلى يوم بدر «٣»، وهي من الأمورِ المُغَيَّبَةِ أُخْبِرَ بها عليه السلام.
«وما» في قوله: جُنْدٌ مَّا زائدةٌ مؤكِّدةٌ، وفيها تخصيصٌ، وباقي الآية بيِّنٌ.
وقال أبو حَيَّانَ «٤» جُنْدٌ خَبَرُ مبتدإٍ محذوفٍ، أي: هُمْ جُنْدٌ وما زَائِدَة أو صِفَة أُريدَ بها التعظيمُ على سبيل الهُزْءِ بهم/ أو الاسْتِخْفَافِ لأن الصفةَ تُسْتَعْمَلُ على هذين المعنيين، وهُنالِكَ ظرفُ مكانٍ يُشَارُ بهِ إلى البَعِيدِ، في مَوْضِعِ صِفَةٍ ل جُنْدٌ، أي:
كائنٌ هنالك، أو متعلّق ب مَهْزُومٌ، انتهى.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩٥).
(٢) ينظر: المصدر السابق.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٥٥) برقم: (٢٩٧٦٦)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٥) عن مجاهد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٧٠).

[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]

وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
وقوله تعالى: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي: ينتظرُ، إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال قتادة:
تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ بصيحةِ القِيَامَةِ والنفخِ في الصُّور «١»، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وقد رُوِيَ هذا التفسيرُ مرفوعاً، وقالتْ طائِفَةٌ: تَوَعَّدَهُمْ اللَّهُ بِصَيْحَةٍ يُهْلَكُونَ بِهَا في الدنيا، مَّا لَها مِنْ فَواقٍ قرأ الجمهورُ- بفتح الفاءِ-، وقَرأ حمزةُ والكسائي «فُوَاق» - بِضم الفاء «٢» -، قال ابن عباس:
هما بمعنًى، أي: ما لَها من انْقِطَاعٍ وَعَوْدَةٍ، بَلْ هِي مُتَّصِلَةٌ حتى تُهْلِكَهُمْ «٣»، ومنه: فُوَاقُ الحَلْبِ، وهُوَ المُهْلَةُ التي بَيْنَ «الشُّخْبَيْنِ»، وقال ابن زَيْدٍ وغيرُهُ: المعنى مُخْتَلِفٌ «٤»، فالضَّمُّ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى فُوَاقِ النَّاقَةِ، والفتحُ بِمَعْنَى الإفَاقَةِ، أيْ: لا يُفِيقُونَ فيها كما يُفِيقُ المَرِيضُ، والمَغْشِيُّ عَلَيْهِ، والْقِطُّ: الحَظُّ والنصيبُ، والْقِطُّ أَيْضاً الصَّكُّ والكتابُ من السُّلْطَانِ بِصِلة، ونحوهِ، واختلِف في الْقِطِّ هُنَا، ما أرادوا به؟ فقال ابن جُبَيْر: أرادوا به:
عَجَّلْ لَنَا نَصِيبَنَا من الخَيْرِ والنَّعيمِ في دُنْيَانا «٥»، وقال أبو العالية: أرادوا عَجِّل لنا صُحُفَنَا بأيمانِنا «٦» وذلك لمَّا سَمِعُوا في القرآن أَنَّ الصُحُفَ تعطى يوم القيامةِ بالأيْمَانِ والشَّمائِل، وقال ابن عباس وغَيره: أرادوا ضِدَّ هَذَا من العذابِ ونحوهِ «٧»، وهذا نظيرُ قولهم فَأَمْطِرْ
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٥٢)، و «الحجة» (٧/ ٦٦)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٥٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٢٥)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٩٠)، و «العنوان» (١٦٣)، و «حجة القراءات» (٦١٣)، و «شرح شعلة» (٥٦٤)، و «إتحاف» (٢/ ٤١٩).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٥٨) برقم: (٢٩٧٧٧)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥٠)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٩)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٥٨) برقم: (٢٩٧٨٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٦٠) برقم: (٢٩٧٨٩)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥٠)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦).
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٦٠) عن آخرين، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦) عن أبي العالية، والكلبي.
(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٥٩) برقم: (٢٩٧٨٣) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥٠)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٩)، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس.
58
عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] قال ع «١» : وعلى كل تأويل، فكَلاَمُهُم خَرَجَ عَلى جِهَةِ الاستخفاف والهزء.
وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أَي: فَتَأَسَّ به ولاَ تَلْتَفِتْ إلى هؤلاءِ، «والأيْدِ» القُوَّةُ في الدين والشرع والصَّدْعُ به، وال أَوَّابٌ الرَّجَّاعُ إلى طَاعةِ اللَّهِ، وقاله مجاهد وابن زيد «٢» وفسَّره السُّدِّيُّ: بالمسبّح «٣»، وتسبيح الجبال هنا حقيقة، والْإِشْراقِ: ضياءُ الشَّمْسِ وارتفاعُها، وفي هذين الوَقْتَيْنِ كانت صلاَةُ بنِي إسرائيل، قال الثعلبيُّ: وليس الإشْرَاقُ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وإنما هو صَفَاؤُها وضوءها، انتهى. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «٤» : قال [ابن عباس] «٥» : ما كنتُ أعْلَمُ صلاةَ الضحى في القرآن حتى سمعتُ اللَّهَ تعالى يقول: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «٦» قال ابن العربي «٧» : أما صلاةُ الضحى فَهِي في هذه الآيةِ نافلةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، ولا ينبغي أنْ تصلى حتى تتبينَ الشمسُ طَالعةً قَدْ أشْرَقَ نُورُهَا، وفي صلاةِ الضحى أحاديثُ أُصُولُهَا ثلاثةٌ: الأولُ حديثُ أبي ذَرٍّ وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «يُصْبِحُ على كُلِّ سلامى مِنِ ابن آدَمَ صَدَقَةٌ تَسْليمُهُ على مَنْ لَقِيَ صَدَقَةٌ، وأَمْرُهُ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، ونَهْيُهُ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وإمَاطَتُهُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وبُضْعُهُ أهْلَهُ صَدَقَةٌ، ويجزىء مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ من الضّحى» «٨».
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩٦). [.....]
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٦١) برقم: (٢٩٧٩٦) عن مجاهد، وبرقم: (٢٩٨٠٠) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦) عنهما، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٦٠)، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٦٢) برقم: (٢٩٧٩٩) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥١) عن سعيد بن جبير، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦) عن السدي، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٦٠)، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس، ولابن جرير عن مجاهد، ولابن أبي حاتم عن عمرو بن شرحبيل.
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦٢٤).
(٥) سقط في: د.
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٦٢) برقم: (٢٩٨٠٣)، و (٢٩٨٠٤) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥١)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٠)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٦١)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن عطاء الخرساني عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد عن عكرمة عن ابن عبّاس، ولابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عبّاس.
(٧) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦٢٥).
(٨) تقدم تخريجه.
59
الثَّانِي: حديثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجهنيّ عن أبيه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ قَعَدَ في مُصَلاَّهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حتى يُسَبِّحَ رَكْعَتَيْ الضحى لاَ يَقُولُ إلاَّ خَيْراً، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وإنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ» «١».
الثالثُ: حَدِيثُ أمّ هانىء أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلى يَوْمَ الفَتْحِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ «٢»، انْتَهَى.
ت: وَرَوَى أبو عيسى/ الترمذيُّ وغَيْرُهُ عن أَنَسٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«مَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تعالى، حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تَامَّةٍ» «٣»، قَالَ الترمذيُّ: حديثٌ حَسَنٌ، انتهى. قال الشَّيْخُ أَبو الحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ في شرحه للبُخَارِيِّ: وعن زيدِ بْنِ أسْلَمَ قَال: سمعتُ عَبد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يقولُ لأبي ذَرٍّ: أوْصِنِي يَا عَمُّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: «مَنْ صَلَّى الضحى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافِلِينَ، وَمَنْ صلى أَرْبَعَاً، كتب من
(١) أخرجه أبو داود (١/ ٤١١) كتاب «الصلاة» باب: صلاة الضحى برقم: (١٢٨٧)، وأحمد (٣/ ٤٣٩)، والبيهقي (٣/ ٤٩) كتاب «الصلاة» باب: من استحب أن لا يقوم من مصلاه حتى تطلع الشمس.
(٢) أخرجه البخاري (١/ ٤٦٩) كتاب «الصلاة» باب: الصلاة في الثوب الواحد، حديث (٣٥٧)، ومسلم (١/ ٤٩٨) كتاب «صلاة المسافرين» باب: استحباب صلاة الضحى، حديث (٨٢/ ٣٣٦)، وأبو داود (١/ ٤١٢) كتاب «الصلاة» باب: صلاة الضحى، حديث (١٢٩٠- ١٢٩١)، والنسائي (١/ ١٢٦) كتاب «الطهارة» باب: ذكر الاستتار عند الاغتسال، حديث (٢٢٥)، والترمذي (٥/ ٧٣- ٧٤) كتاب «الاستئذان» باب: ما جاء في مرحبا، حديث (٢٧٣٤)، وابن ماجه (١/ ٤٣٩) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في صلاة الضحى، حديث (١٣٧٩)، ومالك (١/ ١٥٢) كتاب «قصر الصلاة في السفر» باب:
صلاة الضحى، حديث (٢٧- ٢٨)، وأحمد (٦/ ٣٤١- ٣٤٢- ٣٤٣- ٤٢٣- ٤٢٥)، ، وأبو عوانة (٢/ ٢٦٩- ٢٧٠)، والدارمي (١/ ٣٣٨- ٣٣٩) كتاب «الصلاة» باب: صلاة الضحى، والحميدي (١/ ١٥٨، ١٦٠) برقم: (٣٣١- ٣٣٢- ٣٣٣)، والبيهقي (٣/ ٤٨) كتاب «الصلاة» باب: ذكر من رواها ثمان ركعات، والبغوي في «شرح السنة» (٢/ ٥١٧) - بتحقيقنا من طرق عن أم هانىء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلّى ثمان ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(٣) أخرجه الترمذي (٢/ ٤٨١) كتاب «الصلاة» باب: ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، من حديث أنس.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وفي الباب من حديث أبي أمامة: أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨/ ٢٠٩)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ١٠٧) كتاب «الأذكار» باب: ما يفعل بعد صلاة الصبح والمغرب.
قال الهيثمي: إسناده جيد.
60
العَابِدِينَ، ومَنْ صلى ستًّاً، لَمْ يَلْحَقْهُ ذَلِكَ اليَوْمَ ذَنْبٌ، وَمَنْ صلى ثَمانياً، كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ صلى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» «١» انتهى.
وَالطَّيْرَ: عطف على الجبال، أي: وسخّرنا الطير، ومَحْشُورَةً معناهُ مجموعةً، والضميرُ في «لهُ» قَالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائد على الله. عزّ وجلّ- ف كُلٌّ على هذا، يُرَادُ بهِ:
دَاوُدُ والجبالُ والطيرُ، وقالت فرقة: هو عائدٌ على داودَ ف كُلٌّ على هذا يُرَادُ بهِ الجبالُ والطير.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢)
وقوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ: عبارةٌ عامَّةٌ لجميعِ مَا وَهَبَه اللَّه تَعالى من قوَّةٍ وجندٍ ونعمةٍ، وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عباس وغيره: هو فَصْلُ القَضَاءِ بَيْنَ الناسِ بالحقِ وإصابتُه وفَهْمُه «٢»، وقال الشعبي: أرادَ قَوْلَ «أمَّا بَعْدُ» فإنه أَوَّلُ مَنْ قَالَها «٣»، قال ع «٤» : والذَّي يُعْطِيهِ اللفظُ أنَّه آتاه فَصْلَ الخطابِ، بمعنى أنَّه إذا خَاطَبَ في نَازِلةٍ، فَصَلَ المعنى وأوْضَحَهُ، لا يأْخذُهُ في ذلك حَصَرٌ وَلا ضعف.
(١) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢/ ٢٣٩- ٢٤٠) كتاب «العيدين» باب: صلاة الضحى، وعزاه إلى البزار.
قال الهيثمي: فيه حسين بن عطاء ضعفه أبو حاتم، وغيره، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: يخطىء ويدلس. ا. هـ.
وفي الباب من حديث أبي أمامة: ذكره الهيثمي أيضا في «مجمع الزوائد» (٢/ ٢٤٠)، وعزاه إلى الطبراني في «الكبير».
قال الهيثمي: فيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه المديني وغيره، وبقية رجاله ثقات. اهـ.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٦٤) برقم: (٢٩٨١٤) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٨١٥) عن مجاهد، و (٢٩٨١٦) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥٢)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٦٣)، وعزاه للحاكم عن السدي، ولابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، ولابن المنذر، عن مجاهد، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، عن أبي عبد الرحمن، ولعبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٦٥) برقم: (٢٩٨٢٦)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥٢)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٦٤)، وعزاه لابن جرير عن الشعبي، ولابن أبي حاتم، والديلمي عن أبي موسى الأشعري.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩٧). [.....]
وقوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ... الآية مخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، واسْتُفْتِحَتْ بالاسْتِفْهَام تَعْجِيباً مِنَ القصَّةِ وتفخيماً لها، والخصم يوصف به الواحد والاثنان والجمع، وتَسَوَّرُوا معناه: عَلَوْا سُورَهُ، وهو جَمْعُ «سُورَةٍ» وهي القطعةُ من البناء، وَتَحْتَمِلُ هذه الآيةُ أن يكون المتسوّر اثنين فَقَطْ، فَعَبَّرَ عَنْهُما بلَفْظِ الجَمْعِ، ويحتملُ أن يكونَ معَ كلِّ واحدٍ منَ الخَصْمَيْنِ جَمَاعَةٌ، والْمِحْرابَ المَوْضِعُ الأرْفَعُ مِنَ القَصْرِ أو المَسْجِدِ، وهو موضع التعبُّد، وإنما فَزِعَ منهم مِنْ حَيْثُ دَخَلُوا من غير الباب، ودون استئذان، ولا خلافَ بَيْن أهلِ التأويلِ أنَّ هذا الخَصْمَ إنما كانوا ملائكةً بَعَثَهُمْ اللَّهُ ضَرْبَ مَثَلٍ لداودَ، فاختصموا إليه في نازلةٍ قَدْ وَقَعَ هُو في نَحْوِهَا، فأَفْتَاهُمْ بِفُتْيَا هِي وَاقِعَةٌ عليه في نازلته، ولَمَّا شَعَرَ وَفَهِمَ المُرَادَ، خَرَّ رَاكِعاً وأَنَابَ، واسْتَغْفَرَ، وأمَّا نَازِلَتُهُ الَّتي وَقَع فِيها، ففيها للقُصَّاصِ تَطْوِيلٌ، فَلَمْ نَرَ سَوْقَ جَمِيعِ ذلكَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ.
ورُوِيَ فِي ذلكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ما معناه أن دَاوُدَ كَانَ في مِحْرَابِهِ يَتَعَبَّدُ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ طَائِرٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، فَمَدَّ يَدَهُ إليْه ليأخذه، فزال مطمعا لَه مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى امْرَأَةٍ لَهَا مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ أنْ لَوْ كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ، وَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ أَنَّهَا امْرَأَةُ أُورِيَّا، وَكَانَ في الجِهَادِ فَبَلَغَهُ أنَّه اسْتُشْهِدَ فَخَطَبَ المَرْأَةَ، وَتَزَوَّجَهَا، فَكَانَتْ أُمَّ سُلَيْمَانَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ الخَصْمَ لِيُفْتِيَ «١»، قَالَتْ فرقةٌ من العلماء: وإنما وَقَعَتْ المعَاتَبَةُ على/ هَمِّهِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْه شَيْءٌ سِوَى الهَمِّ، وكانَ لِدَاوُدَ فِيما رُوِيَ تِسْعٌ وتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَفي كُتُبِ بَنِي إسرائيل في هذه القصة صُوَرٌ لاَ تَلِيقُ، وقد قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ حَدَّثَ بِما قَالَ هؤلاءِ القُصَّاصُ في أَمْرِ دَاوُدَ، جَلَدْتُهُ حَدَّيْنِ لما ارتكب مِنْ حُرْمَةِ مَنْ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ «٢».
وقوله: خَصْمانِ تقديره: نحن خصمان، وبَغى معناه: اعتدى واسْتَطَالَ، وَلا تُشْطِطْ معناه: وَلاَ تتعدّ في حكمك، وسَواءِ الصِّراطِ معناه: وسطه.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٧٠) عن ابن عبّاس برقم: (٢٩٨٥٢)، وبرقم: (٢٩٨٥٣) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٥٢)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٨)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٦٤)، وعزاه لابن أبي شيبة في «المصنف»، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٩٩).
62
وقوله: إِنَّ هَذَا أَخِي [إعرابُ «أخي» ] «١» عَطْفُ بَيَانٍ، وذلك أن مَا جرى من هذه الأشياء صِفةً كالخَلْقِ والخُلُقِ وسَائِر الأوْصَافِ، فَإنَّه نَعْتٌ مَحْضٌ، والعاملُ فيه هو العاملُ في الموصوفِ، وما كان مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ يُوصَفُ بهِ بَتَّةً، فهو بَدَلٌ والعَامِلُ فيه مُكَرَّرٌ أي:
تقديراً يقال: جَاءَنِي أخوك زيدٌ، فالتقديرُ: جَاءَنِي أَخُوكَ، جَاءَنِي زَيْدٌ، ومَا كَان مِنْها مِمَّا لاَ يُوصَفُ بهِ واحتيج إلى أنْ يُبَيَّنَ بِه، وَيَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ.
«والنعجة» في هذه الآيةِ عَبَّرَ بِهَا عَنِ المَرْأَةِ، والنعجةُ في كلام العرب: تقعُ على أنثى بَقَرِ الوَحْشِ، وعلى أُنْثَى الضَّأْنِ، وتُعَبّرُ العَرَبُ بِهَا عن المَرْأَةِ.
وقوله: أَكْفِلْنِيها أي: رُدَّهَا في كَفَالَتِي، وقال ابنُ كَيْسَانَ: المعنى: اجعلها كِفْلِي، أي: نَصِيبي، وَعَزَّنِي معناه: غَلَبَنِي، ومنه قول العربِ: «مَنْ عَزَّ بَزَّ» أي: مَنْ غَلَبَ، سَلَبَ، ومعنى قوله: فِي الْخِطابِ أي: كان أوْجَهَ مِنِّي، فإذَا خَاطَبْتُهُ، كانَ كلامُه أقوى من كلامي، وقُوَّتُهُ أعْظَمَ مِنْ قُوَّتِي.
ويروى أنَّه لَمَّا قَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ، تَبَسّما عند ذلكَ، وَذَهَبَا، وَلَمْ يَرَهُما لحِينه، فَشَعَرَ حينئذ للأمْرِ، ويروى أنّهما ذهبا نحو السّماء بمرأى منه.
والْخُلَطاءِ: الشُّرَكَاءِ في الأمْلاَكِ، والأُمُورِ، وهذا القَوْلُ مِنْ دَاوُدَ وَعْظٌ لِقَاعِدَةِ حَقٍّ، ليُحَذِّرَ الخَصْمَ مِنَ الوُقُوعِ في خلافِ الحقِّ.
وقوله تعالى: «إِلاَّ الذين ءامنوا وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ» : قال أبو حيان «٢» :
وَقَلِيلٌ خبرٌ مقدَّم، و «مَا» زائِدةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، انتهى.
وَرَوَى ابْنُ المبارَكِ في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أشَدُّ الأعْمَالِ ذِكْرُ اللَّهِ على كُلِّ حَالٍ، والإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاةُ الأخِ في المال» «٣» انتهى.
وقوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ معناه: شعر للأمر وعلمه، وفَتَنَّاهُ أي:
ابْتَلَيْنَاهُ وامْتَحَنَّاهُ، وقال البخاريُّ: قال ابن عبّاس: فَتَنَّاهُ أي: اختبرناه، وأسند البخاريّ
(١) سقط في: د.
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٧٧).
(٣) ذكره الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (٦/ ٣٢٦) من طريق الشافعي عن مالك، عن نافع، عنِ ابن عمر، وقال: وهذا موضوع على هؤلاء رقم: (١١٦٣).
63
عن مجاهدٍ قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عَنْ سجدة «ص» أين تَسْجُدُ، فَقَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الأنعام: ٨٤] إلى قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] فَكَانَ داوُد مِمَّن أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أنْ يَقْتَدِيَ بهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١»، انتهى، فتأمَّلَهُ وما فيه مَنَ الْفِقْهِ، وقَرأ أبو عمرٍو في رِوَاية علي بن نَصْرٍ: «فَتَنَاهُ» - بتخفيفِ التاء والنون- على إسنادِ الفعلِ للخَصْمَيْنِ «٢»، أي: امتحناه عَنْ أَمْرِنَا، قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: «رأيتُنِي في النوم أكتُبُ سورَة «ص» فَلَما بَلَغْتُ/ قَوْلَهُ:
وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ سَجَدَ القلمُ، ورَأيتُنِي في مَنامٍ آخَرَ، وشَجَرَةٌ تَقْرَأُ سورة «ص» فلما بَلَغَتْ هَذَا، سَجَدَتْ، وَقَالَتْ: اللَّهُمَّ، اكْتُبْ لِي بِهَا أجْراً، وَحُطَّ عَنِّي بِهَا وِزْراً، وارزقني بِهَا شُكْراً، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَها من عبدك داود، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَسَجَدْتَ أنْتَ يَا أَبا سَعِيد؟ قُلْتُ: لاَ، قال: أَنْتَ كُنْتَ أَحَقَّ بالسَّجْدَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، ثم تَلاَ نبيُّ اللَّهِ الآياتِ حتى بَلَغَ: وَأَنابَ، فَسَجَدَ، وقَالَ كَمَا قَالَتِ الشَّجَرَةُ».
وَأَنابَ مَعْنَاهُ: رَجَعَ، ت: وحديثُ سجودِ الشجرةِ رواهُ الترمذيُّ وابن ماجَه والحاكمُ وابنُ حِبَّان في «صحيحَيْهما»، وقال الحاكم: هو منْ شَرْطِ الصِّحَّةِ، انتهى من «السلاح».
والزُّلْفَى: القُرْبَةُ والمكانةُ الرفيعةُ، والمآب: المرجع في الآخرة من آب يؤوب: إذا رجع.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
وقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ تقديرُ الكلامِ: وقُلْنَا لَهُ يا داوُدُ، قال ع «٣» : ولاَ يُقَالُ: خليفةُ اللَّهِ إلا لرسولِه، وأما الخلفاءُ، فكل واحد
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٤٠٥) كتاب «التفسير» باب: سورة ص: (٤٨٠٧)، (٤٨٠٦) نحوه، وأخرجه ابن أبي شيبة (١/ ٣٧٠) كتاب «الصلاة» باب: من قال في- ص- سجدة وسجد فيها (٤٢٥٥، ٤٢٥٩، ٤٢٦٨) عن ابن عبّاس نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٧١).
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٥٣)، و «الحجة» (٦/ ٧٠)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٢٧)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢١)، وذكرها الأخير عن الشنبوذي. وينظر: «المحتسب» (٢/ ٢٣٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٠٢).
خَليفَةٌ للذي قَبْلَهُ، ومَا يَجِيءُ في الشِّعْرِ مِنْ تَسْمِيَة أحدهِم خليفةَ اللَّه! فذلك تجوُّزٌ وَغُلُوٌّ أَلا ترى أن الصَّحابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- حَرَزُوا هذا المعنى، فقالوا لأبي بَكْرٍ: خليفةُ رسولِ اللَّهِ، وبهذا كَانَ يدعى مدةَ خلافَتِه، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قالُوا: يا خليفةَ خليفةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَطالَ الأمْرُ، وَرأَوْا أنَّهُ في المُسْتَقْبَلِ سَيَطُولُ أكْثَرَ فَدَعَوْهُ أَمِيرَ المُؤمنينَ، وقُصِرَ هَذا الاسْمُ عَلى الخُلَفَاءِ.
وقوله: فَيُضِلَّكَ قالَ أبو حيان «١» : منصوبٌ في جوابِ النَّهْي، (ص) أبو البقاءِ وقيل: مجزومٌ عَطْفاً عَلَى النَّهْيِ وفُتِحَتِ [اللامُ] «٢» لالْتِقَاءِ الساكنين، انتهى.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ: اعْتِرَاضٌ فصيحٌ بين الكلامينِ من أمرِ داود وسليمان، وهو خطاب لنبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وعظة لأمّته، ونَسُوا في هذه الآية مِعْنَاهُ تَرَكُوا، ثم وقفَ تَعالى عَلى الفَرْقِ عندَه بيْنَ المؤمِنينَ العامِلينَ بالصَّالِحَاتِ وبَيْنِ المفْسِدِينَ الكَفَرَةِ وبَيْنَ المتَّقِينَ والفُجَّارِ، وفي هَذَا التوقيفِ حَضٌّ عَلَى الإيمانِ والتقوى، وتَرْغِيبٌ في عَمَل الصالحات، قَال ابنُ العَرَبِيِّ «٣» : نَفَى اللَّهُ تَعَالَى المساواةَ بَيْنَ المؤمِنينَ والكافِرِينَ، وبَيْنَ المتقينَ والفُجَّار فلا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ في الآخرةِ، كَما قَالهُ المفَسِّرون ولاَ في الدُّنْيَا أيْضاً لأنَّ المؤمنينَ المتقينَ معصومُونَ دَماً ومالاً وعرْضاً، والمُفْسِدُونَ في الأرض والفُجَّارُ مُبَاحُو الدَّمِ والمالِ والعِرْضِ، فَلاَ وَجْهَ لِتَخْصِيصِ المفسِّرِينَ بِذَلِكَ في الآخرة دون الدُّنْيَا، انتهى من «الأحكام» وهذا كما قال، وقوله تعالى في الآية الأخرى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
[الجاثية: ٢١] يشهد له، وباقي الآية بيّن.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٩ الى ٣٣]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
وقوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ قال الغَزَّالِيُّ في «الإحْيَاءِ» :
اعْلَمْ أن القرآن مِنْ أَوَّلِه إلى آخِرِه تحذيرٌ وتخويفٌ لاَ يَتَفَكَّرُ فيه مُتَفَكِّرٌ إلا وَيَطُولُ حُزْنُهُ، وَيَعْظُمُ خَوْفُه إنْ كَانَ مُؤْمِناً بِمَا فِيه، وَتَرى النَّاسَ يَهْذُّونَهُ هَذًّا، يُخْرِجُونَ الحُروفَ مِنْ مُخَارِجِها، ويَتَنَاظَرُونَ على خَفْضِها ورَفْعِها وَنَصْبِها، لاَ يَهُمُّهُمْ الالتفات إلى معانيها والعمل
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٧٨).
(٢) سقط في: د.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦٤٦).
65
٩٦- ب بما فِيها، وَهَلْ/ في العِلم غُرُورٌ يَزِيدُ على هذا، انتهى من كِتَابِ ذَمِّ الغُرُور.
واختلفَ المتأولونَ في قَصَصِ هذهِ الخيل المَعْرُوضَةِ على سليمان ع فقال الجمهور: إنّ سليمان ع عُرِضَتْ عليه آلافٌ مِنَ الخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ، فأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عِشَاءً، فَتَشَاغَلَ بجريها وَمَحَبَّتِهَا، حتى فَاتَهُ وَقْتُ صَلاَةِ العَشِيِّ، فَأَسِفَ لِذَلِكَ وَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الخَيْلَ فَطَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعْنَاقَها بالسَّيْفِ، قَالَ الثَّعْلَبيُّ وغيره، وجَعَل يَنْحَرُهَا تَقَرُّباً إلى اللَّهِ تعالى حيثُ اشْتَغَل بِهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وكان ذلكَ مُبَاحاً لَهُمْ كما أُبِيحَ لَنا بهيمةُ الأنْعَامِ، قال ع «١» : فَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَبْدَلَهُ مِنْهَا أَسْرَعَ منها، وهي الرِّيحُ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٢» : والْخَيْرِ هنا هي الخيل وكذلكَ قَرأَها ابنُ مَسْعُود: «إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْلِ» «٣» انتهى، و «الصَّافِنُ» : الذي يَرْفَعُ إحدى يديه وقَدْ يَفْعَلُ ذلكَ برِجْلِهِ وهي علامةُ الفَرَاهِيَة وأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ «٤» :[الكامل]
أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّه مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسِيرَا «٥»
قالَ بَعْضُ العلَماء: الْخَيْرِ هنَا أرادَ به الخَيْلَ، والعَرَبُ تُسَمي الخَيْلَ، الخَيْرَ، وفي مِصْحَفِ ابْن مَسْعُودٍ: «حُبَّ الخَيْلِ» باللامِ.
والضميرُ في تَوارَتْ للشمسِ، وإن كَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْرٌ، لأنَّ المعنى يَقْتَضِيهَا، وأيضاً فَذِكْرُ العَشِيِّ يَتَضَمَّنُهَا، وقالَ بعضُ المفسرينَ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، أَي: الخيلُ دَخَلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، وقال ابنُ عبَّاسٍ والزُّهْرِيُّ: مَسْحُهُ بالسُّوقِ والأَعْنَاقِ لَمْ يَكُنْ بالسَّيْفِ بل بيدهِ تَكْرِيماً لَها ورَجَّحَهُ الطبريُّ «٦»، وفي البخاري: فَطَفِقَ مَسْحاً يمسحُ أعْرَافَ الخَيلِ وعَرَاقِيبَهَا انتهى، وعن بعضِ العلماءِ أَنَّ هذهِ القصةَ لَمْ يَكُنْ فيها فَوْتُ صلاةٍ، وقالوا: عُرِضَ على سليمانَ الخيلُ وهو في الصلاةِ، فأشَارَ إليهم أي: إني في صلاة،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٠٣).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦٤٨).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٠٤). [.....]
(٤) ينظر: «معاني القرآن» (٤/ ٣٣٠).
(٥) البيت بلا نسبة في «الأزهية» ص: (٨٧)، و «أمالي ابن الحاجب» (٢/ ٦٣٥)، و «شرح شواهد المغني» (٢/ ٧٢٩)، و «لسان العرب» (١٣/ ٢٤٨) (صفن)، و «مغني اللبيب» (١/ ٣١٨)، وينظر: «الكشاف» (٢/ ٢٨٤)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٨٨)، و «الدر» (٥/ ٥٣٤).
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٧٩) برقم: (٢٩٨٩٢) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦١)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٨٠)، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
66
فأزَالُوهَا عَنْهُ حتى أَدْخَلُوها في الإصْطَبْلاَتِ، فقالَ هو، لَمَّا فَرَغَ من صلاته: إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخيرِ، أي: الذي عِنْدَ اللَّهِ في الآخِرةِ بسببِ ذِكْرِ ربي، كَأَنه يقول: فَشَغَلَنِي ذلكَ عَنْ رُؤْيَةِ الخيلِ، حتى أُدْخِلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، رُدُّوهَا عَليّ، فَطَفِقَ يَمْسَحُ أعْرَافَهَا وسُوقَهَا، تَكْرمةً لها، أي: لأَنَّها معدَّةٌ للجهَادِ، وهذا هو الراجحُ عند الفخر «١»، قال: ولو كانَ معنى مَسْحِ السُّوقِ والأعناقِ قَطْعَهَا لَكَانَ معنى قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:
٦] قطعَهَا ت: وهَذَا لا يلزمُ للقرينَةِ في الموضعين، اهـ. قال أبو حَيَّان «٢» : وحُبَّ الْخَيْرِ قال الفراء: مفعول به، وأَحْبَبْتُ مُضَمَّنٌ معنى آثَرْتُ، وقيلَ: منصوبٌ على المصدرِ التَّشْبِيهِي، أي: حبًّا مِثْلَ حُبِّ الخير، انتهى.
وقوله تعالى: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي «عن» على كُلِّ تَأويلٍ هنا للمُجَاوَزَةِ من شيءٍ إلى شَيْءٍ، وَتَدَبَّرْهُ فإنه مطّرد.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)
وقوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ... الآية، ت: اعْلَمْ- رَحِمَكَ اللَّهُ- أن الناسَ قَدْ أَكْثَرُوا في قَصَصِ هذهِ الآيةِ بما لاَ يُوقَفُ على صِحَّتِه، وحكى الثعلبي في بعض الروايات أنّ سليمان ع لَما فُتِنَ، سَقَطَ الخَاتَمُ مِنْ يَدِه، وَكَانَ فِيه مُلْكُهُ، فأعاده إلى يده، فَسَقَطَ وأَيْقَنَ بالفتنة، وأَنَّ آصِف بْنَ بَرْخِيَّا قال له: يا نبيَّ اللَّهِ، إنَّكَ مَفْتُونٌ ولذلكَ/ لاَ يَتَمَاسَكُ الخَاتَمُ فِي يَدِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْماً فَفِرَّ إلى اللَّهِ تعالى تَائِباً مِنْ ذَنْبِكَ، وَأَنَا أَقُومُ مَقَامَكَ في عَالَمِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى إلى أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ تعالى عَلَيْكَ، فَفَرَّ سُلَيْمَانُ هَارِباً إلى رَبِّهِ مُنْفَرِداً لِعِبَادَتِهِ، وأَخَذَ آصِفُ الخَاتَمَ، فَوَضَعَهُ في يدِه، فَثَبَتَ، وقيلَ:
إن الجَسَدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هُو آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وهو الذي عندَه عِلْمٌ مِن الكتَابِ، وأقام آصِفُ في ملكِ سليمانَ وعيالِهِ يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ الحسَنةِ، ويَعْمَلُ بِعَمَلِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يوماً إلى أَنْ رَجَعَ سليمانُ إلى منزله تائِباً إلى اللَّه تعالى، ورَدَّ اللَّه تعالى عليه مُلْكَهُ، فأَقَامَ آصِفُ عن مجلسهِ، وجَلَسَ سليمانُ على كُرْسِيِّهِ، وأعادَ الخاتَمَ، وقالَ سَعِيدُ بن المسيِِّب: إن سليمانَ بنَ دَاوُدَ- عليهمَا السلامُ- احتجب عنِ الناسِ ثلاثةَ أَيَّامٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: أَنْ يا سُلَيْمَانُ، احتجبت عنِ الناس ثلاثة أيّام، فلم
(١) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (٢٦/ ١٧٩).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٨٠).
67
تَنْظُرْ في أمُورِ عِبَادِي، ولم تُنْصِفْ مَظْلُوماً مِنْ ظَالِمٍ، وذكر حديثَ الخاتم كما تقدَّم، انتهى، وهذَا الذي نقلناه أشْبَهُ ما ذُكِرَ، وأَقْرَبُ إلى الصَّوَابِ واللَّه أعلم، وقال عِيَاضٌ:
قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ معناه: ابتَلَيْنَاهُ، وابتلاؤه: هُو مَا حُكِي في الصحيحِ أنه قال: «لأَطُوفَنَّ الليلةَ على مِائَةِ امرأة كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجِاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يقل:
«إن شاء الله»
فلم تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلا امرأةٌ جاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ» «١»، الحديث، قال أصحابُ المعانِي: والشِّقُّ هو الجسدُ الذي أُلْقِيَ على كرسيه حين عُرِضَ عليه وهي كانتْ عقوبتُهُ ومحنته، وقيل: بَلْ مَاتَ، وألْقِيَ على كُرْسِيِّهِ مَيِّتاً، وأما عَدَمُ استثْنَائِه فأحْسَنُ الأجوبةِ عنه، ما رُوِيَ في الحديثِ الصحيح أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إنْ شَاءَ اللَّهُ»، ولاَ يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الإخباريُون من تَشَبُّه الشيطانِ به وتسَلُّطِهِ على مُلْكِهِ، وتصرُّفِه في أمَّتِه لأن الشَيَاطِينَ لاَ يُسَلَّطُونَ على مِثْلِ هذا، وقد عُصِمَ الأنبياءُ من مثله، انتهى، ت: قالَ ابن العربي:
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يَعني جسدَه لا أجْسَادَ الشَّيَاطينِ كما يقولُه الضعفاءُ، انتهى من «كتاب تفسير الأفعال» له، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامَه» : وما ذكره بعضُ المفسِّرينَ مِنْ أن الشيطان أخذَ خاتَمَهُ، وجَلَسَ مجلسَه، وحَكمَ الخَلْقَ على لسانِه- قولٌ باطلٌ قَطْعاً- لأن الشياطينَ لا يَتَصَوَّرُونَ بِصُوَرِ الأَنْبِيَاءِ ولا يُمَكَّنُونَ من ذلك حتى يظنَّ الناسُ أنَّهم مع نبيِّهم في حَقٍّ، وهم مَعَ الشياطينِ في بَاطِلٍ ولو شاءَ ربُّكَ لوَهَبَ من المعرفةِ [والدِّينِ] لمنْ قَالَ هذا القولَ ما يَزَعُهُ عن ذِكْرِهِ، ويَمْنَعُهُ مِن أَنْ يَسْطُرَهُ في دِيوَان من بعده، انتهى.
وقوله: وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ... الآية، قال ع «٢» : من المقطوعِ به أنّ سليمان ع إنما قَصَدَ بذلكَ قَصْداً بِرًّا لأن للإنسان أن يرغبَ من فضلِ اللَّهِ فيما لا يَنَالهُ أحدٌ لا سيما بِحَسَبِ المَكَانَةِ والنبوَّةِ.
(١) أخرجه البخاري (٦/ ٤١) كتاب «الجهاد والسير» باب: من طلب الولد للجهاد (٢٨١٩)، (٦/ ٥٢٨) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: قول الله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
(٣٤٢٤)، (٩/ ٢٥٠) كتاب «النكاح» باب: قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي (٥٢٤٢)، (١١/ ٥٣٣) كتاب «الأيمان والنذور» باب: كيف كانت يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ (٦٦٣٩)، (١١/ ٦١٠) كتاب «كفارات اليمين» باب: الاستثناء في الأيمان (٦٧٢٠)، (١٣/ ٤٥٥) كتاب «التوحيد» باب: في المشيئة والإرادة (٧٤٦٩)، ومسلم (٣/ ١٢٧٥، ١٢٧٦)، كتاب «الأيمان» (٧٤٦٩) باب: يمين الحالف على نية المستحلف (٢٣/ ١٦٥٤- ٢٥/ ١٦٥٤) والنسائي (٧/ ٢٥، ٢٦) كتاب «الأيمان والنذور»، باب: إذا حلف فقال له رجل إن شاء الله، هل له استثناء؟ (٣٨٣١).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٠٥).
68

[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٦ الى ٤٨]

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
وقوله تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ... الآية، كَانَ لسليمانَ كُرْسِيٌّ فيه جنودُهُ، وتأتي/ عليه الريحُ الإعصارُ، فَتَنْقُلُهُ من الأرضِ حتى يَحْصُلَ في الهواء، ثم تتولاَّهُ الرُّخَاءُ وهي اللَّيِّنَةُ القويَّةُ لا تَأْتِي فيها دُفْعٌ مُفْرِطَةٌ فَتَحْمِلُهُ غُدُوُّهَا شهر ورواحها شهر، وحَيْثُ أَصابَ: معناه: حيثُ أراد قاله وهْبٌ وغيره «١»، قال ع «٢» : وَيُشْبِهُ أنَّ (أَصَابَ) معدى «صَابَ يَصُوبُ»، أي: حيث وَجَّه جنودَه، وقال الزَّجَّاج «٣» : معناه: قصدَ، قلت:
وعليه اقْتَصَرَ أبو حيَّان فإنه قال: أصاب: أي قَصَدَ وأنْشَد الثعلبيُّ: [المتقارب]
أَصَابَ الكَلاَمَ فَلَمْ يَسْتَطِع... فَأَخْطَا الجواب لَدَى المَفْصِلِ «٤»
انتهى.
وقوله: كُلَّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ من الشَّياطِينَ ومُقَرَّنِينَ معناه: موثقين قد قرن بعضهم ببعض، والْأَصْفادِ القيودُ والأغْلاَلُ، قال الحَسَنُ: والإشارةُ بقوله: هذا عَطاؤُنا... الآية، إلى جميع ما أعطاهُ اللَّه سبحانه مِنَ الملكِ «٥» وأمرَه بأن يَمُنَّ عَلى من يشاءُ ويُمْسِكُ عَمَّنْ يشاء، فكأنه وَقَفَهُ على قَدْرِ النِّعمة، ثم أباح له التصرُّفَ فيه بمشيئته وهذا أصح الأقوال وأجمعها لتفسير الآية، وتقدَّمت قصة أَيُّوبَ في سورة الأنبياء.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٨٤) برقم: (٢٩٩١٧) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٩١٩) عن مجاهد، وبرقم: (٢٩٩٢٠) عن الحسن، و (٢٩٩٢٣) عن وهب بن منبه، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦٥)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٨٧)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، ولابن المنذر عن الضحاك.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٠٦).
(٣) ينظر: «معاني القرآن» (٤/ ٣٣٣).
(٤) ينظر: البيت في «البحر المحيط» (٧/ ٣٨٢)، و «الدر المصون» (٥/ ٥٣٦) والقرطبي (١٥/ ١٣٤).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٨٥) برقم: (٢٩٩٢٩) عن الحسن، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٨٨)، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
69
وقوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ... الآية، النُّصْبُ: المَشَقَّةُ، فيحتمل أن يشيرَ إلى مسّه حين سلَّطَهُ اللَّه على إهلاكِ مالِه وولدِه وجِسْمِه حَسْبَما رُوِيَ في ذلك، وقِيلَ: أشار إلى مسِّه إياه في تعرُّضِه لأَهْلِه وطلبهِ منْهَا أنْ تُشْرِكَ باللَّه فكأَنَّ أَيُّوبَ تشكى هذا الفَصْلَ، وكان عليه أشدَّ مِن مَرَضه، وهنا في الآية محذوفٌ تقديرُه: فاسْتَجَابَ له وقَال: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرُوِيَ أَن أيوب رَكَضَ الأرض فَنَبَعَتْ له عينُ ماءٍ صافيةٌ باردةٌ فشرِبَ منها، فذهَبَ كُلُّ مَرَضٍ في دَاخِلِ جَسَدهِ، ثم اغْتَسَلَ فذهبَ ما كانَ في ظاهِر بَدَنِه، ورُوِيَ أن اللَّه تعالى وَهَبَ له أهلَه ومالَه في الدنيا، ورَدَّ من ماتَ منهم، وما هلكَ من ماشيته وحالِه، ثم باركَ له في جميعِ ذلك، ورُوِيَ أن هذا كلَّه وُعِدَ به في الآخِرَة، والأول أكْثَرُ في قول المفسِّرين.
ت: وعن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ، إذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنُ: اللَّهُمَّ، إني عَبْدُكَ وابْنُ عَبْدِكَ وابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسم هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوِ استأثرت بهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إلاَّ أذْهَبَ اللَّهُ غَمَّه وَأبدَلَه مكَانَ حُزْنِهِ فَرَحَاً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: يَنْبَغي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ؟
قَالَ: أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ»
«١». قال صاحب «السِّلاَح» : رواه الحاكمُ في «المُسْتَدْرَكِ»، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه». ت: وروينَاهُ من طريقِ النوويِّ عنِ ابن السُّنِّيِّ بسندهِ عن أبي موسى الأشعريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «أنا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابنُ أَمَتِكَ في قَبْضَتِكَ»، وفيه: «فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إنَّ المَغْبُونَ لَمَنْ غُبِنَ هَؤُلاَءِ الكلماتِ، فَقَالَ:
أَجَلْ، فَقُولُوهُنَّ/ وَعَلِّمُوهُنَّ مَنْ قَالَهُنَّ، التماس مَا فِيهِنَّ أَذْهَبَ اللَّهُ تعالى حُزْنَهُ وَأَطَالَ فَرَحَه»
«٢» انتهى.
(١) أخرجه أحمد (١/ ٤٥٢)، وابن حبان في «صحيحه» (٣/ ٢٥٣) كتاب «الرقائق» باب: الأدعية ذكر الأمر لمن أصابه هم أو حزن أن يسأل الله ذهابه عنه وإبداله إياه فرحا (٩٧٢)، وابن حبان (٧/ ٤٠٤، ٤٠٥) - الموارد باب: ما يقول إذا أصابه هم أو حزن (٢٣٧٢)، وأبو يعلى (٩/ ١٩٨- ١٩٩) (٣٣١/ ٥٢٩٧)، والحاكم (١/ ٥٠٩) كتاب «الدعاء» والشجري في «أماليه» (١/ ٢٩٩)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ١٣٩)، (١٠/ ١٨٩- ١٩٠).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلّم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه. ا. هـ.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ١٣٩) رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان.
(٢) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٣٣٤). [.....]
70
وقوله: وَذِكْرى معناه: موعِظَةٌ وتذكرةٌ يَعْتَبِرُ بها أُولُو العقولِ، وَيَتَأَسَّوْنَ بِصَبْرِهِ في الشدائدِ، ولا يَيْئَسُونَ من رحمة اللَّه على حال.
ورُوِي أن أيّوب ع كانت زوجَتُهُ مدَّةَ مَرَضِه تَخْتَلِفُ إلَيْه فيتلقَّاها الشيطانُ في صورة طَبِيبٍ، ومرةً في هيئة نَاصِح وعلى غير ذلك، فيقول لها: لو سَجَدَ هذَا المريضُ للصَّنَمِ الفُلاَنِيِّ لَبَرِىءَ، لَوْ ذَبَحَ عَنَاقاً للصَّنَمِ الفُلاَنِيِّ لَبِرىءَ، ويَعْرِضُ عليها وجوهاً من الكفر، فكانَتْ هي ربَّما عرضت شَيْئاً من ذلك على أيوب، فيقولُ لها: لقيتِ عَدُوَّ اللَّهِ في طريقك، فلمَّا أغْضَبَتْهُ بهذا ونحوِهِ حلَفَ عليها لَئِن برىء من مرضِه ليضربنَّها مائةَ سَوْطٍ، فلما بَرِىءَ أَمَرَه اللَّه تعالى أن يأخُذَ ضِغْثاً فيه مائةُ قَضِيبٍ، «والضغثُ» : القبضةُ الكبيرةُ من القضبانِ ونحوِها مَنَ الشجرِ الرَّطْبِ قاله الضَّحَّاكُ «١» وأهلُ اللغة، فيضربُ بهِ ضربةً واحدةً، فَتَبَرُّ يمينُهُ وهذا حكمٌ قد وَرَدَ في شرعِنا عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم [مِثلُه في حدِّ الزنا لرجُلِ زَمِنٍ، فأمَرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] «٢» بِعِذْقِ نَخْلَةٍ فِيهِ شَمَارِيخُ مِائَةٌ أو نَحْوُهَا، فَضُرِبَ ضَرْبَةً «٣»، ذكر الحديثَ أبو داود، وقال بهذا بعضُ فقهاء الأمة، وَلَيْسَ يرى ذلك مالكُ بنَ أنس وأصحابه، وكذلك جمهورُ العلماء على ترك القول به، وأن الحدودَ والبِرَّ في الأيمانِ لا تقع إلا بتمام عَدَدِ الضَّرَبَاتِ، وقرأ الجمهور «أولي الأيدي» «٤» يعني: أولي القوة في طاعةِ اللَّه قاله ابن عباس ومجاهد «٥»، وقالت فرقة: معناه: أولى الأيدي والنِّعَمِ الَّتي أسْدَاها اللَّهُ إليهم من النبوَّة والمكانةِ، وَالْأَبْصارِ عبارةٌ عن البصائِر، أي: يُبْصرونَ الحقائِقَ وينظرونَ بنورِ اللَّهِ تعالى، وقرأ نافع وحده: «بخالصة ذكرى الدّار» «٦»، على
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٩١) برقم: (٢٩٩٥٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عبّاس.
(٢) سقط في: د.
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٥٦٧) كتاب «الحدود» باب: في إقامة الحد على المريض (٤٤٧٢)، وابن ماجه (٢/ ٨٥٩) كتاب «الحدود» باب: الكبير والمريض يقام عليه الحد (٢٥٧٤)، وأحمد (٥/ ٢٢٢).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٠٩)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٨٥)، و «الدر المصون» (٥/ ٥٣٧).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٩٢) برقم: (٢٩٩٦٠) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٩٦٣) عن مجاهد، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٩)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩٣)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد عن مجاهد.
(٦) ينظر: «السبعة» (٥٥٤)، و «الحجة» (٦/ ٧٢)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٢٨)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٩٢)، و «العنوان» (١٦٣)، و «حجة القراءات» (٦١٣)، و «شرح شعلة» (٥٦٥)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢٢).
71
الإضافة، وقرأ الباقون «بِخَالِصَةٍ» على تنوينِ «خالِصَةٍ» ف «ذكرى» على هذه القراءةِ بدلٌ من خالِصَةٍ فيحتملُ أنْ يكونَ معنى الآية: أنا أخلصناهم بأن خَلُصَ لهم التذكيرُ بالدارِ الآخرةِ ودعاءِ الناس إليها وهذا قول قتادةَ «١»، وقيل المعنى: أنا أخْلَصْنَاهم، بأنْ خَلُصَ لهم ذكرَهم للدارِ الآخرة وخوفُهم لها والعملُ بحسب ذلك وهذا قول مجاهد «٢»، وقال ابن زيد: المعنى أنا وَهَبْنَاهُمْ أَفْضَلَ مَا في الدارِ الآخرةِ، وأخْلَصْناهم به، وأعطيناهم إياه «٣»، ويحتمل أن يريدَ بالدارِ دارَ الدنيا على معنى ذكر الثناءِ والتعظيم من الناس.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣)
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
وقوله تعالى: هذا ذِكْرٌ يحتملُ معنييْنِ:
أحدهما: أن يشيرَ إلى مَدْحِ مَنْ ذُكِرَ وإبقاءِ الشَّرَفِ له، فيَتأيَّدُ بهذا قولُ مَنْ قَال: إن الدارَ يرادُ بها الدنيا.
والثاني: أن يُشيرَ بهذا إلى القرآن، أي: ذكرٌ للعالم.
وجَنَّاتِ بدل من لَحُسْنَ مَآبٍ ومُفَتَّحَةً نعت ل جَنَّاتِ، والْأَبْوابُ مفعولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعله، وباقي الآيةِ بيِّن.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٦١]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٩٣) برقم: (٢٩٩٦٩)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦٦)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩٣)، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٩٣) برقم: (٢٩٩٧٠) عن مجاهد، و (٢٩٩٧١) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦٦)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٩)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩٣)، وعزاه لابن المنذر.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٩٤) برقم: (٢٩٩٧٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦٦)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٠٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩٣)، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.
72
وقوله سبحانه: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ... الآية، التقديرُ: الأمرُ/ هذا، ويحتمل أنْ يكونَ التقديرُ: هذا واقعٌ أو نحوَهُ، و «الطغيان» هنا في الكُفْرِ.
وقوله تعالى: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ قرأ الجمهورُ: «غَسَاق» - بتخفيف السينِ «١» - وهو اسم بمعنى السائِل، قال قتادةُ: الغَسَاقُ: ما يَسِيلُ من صديدِ أهلِ النار «٢»، قال- ص-: الغَسَاقُ السَّائِل، وعن أبي عبيدةَ أيضاً: الباردُ المُنْتِنُ بلُغَةِ التُّرْكِ «٣»، انتهى، قال الفخرُ «٤» : هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فيه وجْهَانِ: الأول على التقديمِ والتأخير، والتقديرُ: هذا حميمٌ وغساقٌ أي: منه حميمٌ وغساقٌ، انتهى، ت: والوجهُ الثاني: أنَّ الآيةَ لَيْسَ فيها تقديمٌ ولا تأخير وهو واضح، وقرأ الجمهور وَآخَرُ بالإفرادِ، ولَهُمْ عذابٌ آخَرُ، ومعنى مِنْ شَكْلِهِ أي: من مِثْلِهِ وضَرْبِهِ، وقرأ أبو عمرو وحده: «وأخر» على الجمع «٥»، وأَزْواجٌ معناه: أنواع، والمعنى: لهم حميمٌ وغساقٌ، وأغذية أُخَرُ من ضَرْبِ ما ذُكِرَ.
وقوله تعالى: هذا فَوْجٌ هو مِمَّا يُقَالُ لأهْلِ النارِ، إذا سِيقَ عامَّةُ الكفَّارِ والأتباعِ إليها لأن رؤساءَهم يَدْخلونَ النارَ أولاً، والأظهرُ أنَّ قائلَ ذلكَ لَهُمْ ملائكةُ العذابِ، وهو الذي حكَاه الثعلبيُّ وغَيْرُهُ، ويحتملُ أنْ يكونَ ذلكَ من قولِ بعضِهم لبعض، فيقولُ البعضُ الأخرُ: لاَ مَرْحَباً بِهِمْ أي، لا سَعَةَ مَكَانٍ، ولا خَيْرَ يَلْقَوْنَهُ.
وقوله: بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ حكايةٌ لقولِ الأتبَاعِ لرؤسائِهم، أي: أنتم قَدَّمْتُمُوهُ لنا بإغوائِكم وأسلفتم لنا ما أوجب هذا، قال العراقيّ: [الرجز]
(١) وقرأ حمزة، والكسائيّ، وحفص بتشديد السين.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥١٠)، و «السبعة» (٥٥٥)، و «الحجة» (٦/ ٧٨)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٣٠)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٩٣)، و «العنوان» (١٦٣)، و «حجة القراءات» (٦١٥)، و «شرح شعلة» (٥٦٥)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢٣).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٩٨) برقم: (٢٩٩٩٠)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦٧)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥١٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد عن أبي رزين، ولهناد عن عطية.
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٦٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩٤)، وعزاه لابن جرير عن عبد الله بن بريدة.
(٤) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (٢٦/ ١٩٢).
(٥) ينظر: «السبعة» (٥٥٥)، و «الحجة» (٦/ ٧٨)، و «معاني القراءات» (٥/ ١٩٣)، و «العنوان» (١٦٣)، و «حجة القراءات» (٦١٥)، و «شرح شعلة» (٥٦٦)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢٣). [.....]
73
مُقْتَحِمٌ أَيْ دَاخِلٌ بِشِدَّه... مُجَاوَزٌ لِمَا اقتحم بالشَّدَّهْ
انتهى.
وقوله تعالى: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا... الآية، هو حكايةٌ لقول الأتباعِ أيضاً دَعَوْا على رؤسائِهم بأن يكونَ عذابهم مضاعفا.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٩]
وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
وقوله تعالى: وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ... الآية:
الضميرُ في قالُوا لأشْرَافِ الكفارِ ورؤسائِهم، وهذا مطَّرِدٌ في كل أمة، ورُوِيَ أن قائِلي هذه المقالةِ أهْلُ القَلِيبِ كأبِي جَهْلٍ وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ وعُتْبَةَ بن رَبيعةِ، ومَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وأنَّ الرجالَ الذين يشيرون إليهم هم كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وبِلاَلٍ وصُهَيْبٍ، ومَنْ جرى مجراهم، قاله مجاهد»
وغيره، والمعنى: كنا في الدنيا نَعُدُّهم أشْرَاراً، وقرأ حمزةُ والكسائي وأبو عمرو «اتخذناهم» بِصِلَةِ الألِف «٢»، على أن يكونَ ذلك في موضِع الصفةِ لرجال، وقرأ الباقونَ «أَتَّخَذْنَاهُمْ» بهمزةِ الاسْتِفْهَامِ، ومعناها: تقريرُ أنفسِهِم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسفِ، أي: اتخذناهم سِخْرِيًّا ولم يكونوا كذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سُخْرِيًّا» - بضم السين- من السُّخْرةِ، والاستخدامِ، وقرأ الباقون: «سِخْرِيًّا» - بكسر السين «٣» -، ومعناها المشهورُ من السَّخْرِ الذي هو بمعنى الهُزْءِ، وقولُهُمْ: أَمْ زاغَتْ معادلةٌ لما في قولِهِمْ: مَا لَنا لاَ نَرى والتقديرُ في هذه الآيةِ: أمَفْقُودُونَ هم أَمْ هُمْ معنا، ولكن زاغَتْ عنهم أبصارنا، فلا نراهم، والزَّيْغُ: المَيْلُ.
ثم أخْبَرَ تعالى نبيَّه بقوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ والإشارة
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٦٠٢) برقم: (٣٠٠١٤) وبرقم: (٣٠٠١٥) عن مجاهد، وذكره البغوي (٤/ ٦٨)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥١٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٩٥)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عن مجاهد.
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٥٦)، و «الحجة» (٦/ ٨٢)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٣١)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٩٣)، و «العنوان» (١٦٣)، و «حجة القراءات» (٦١٧)، و «شرح شعلة» (٥٦٦)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢٣).
(٣) ينظر: «الحجة» (٦/ ٨٥)، و «العنوان» (١٦٣)، و «حجة القراءات» (٦١٨)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢٤).
بقوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ إلى التوحيد والمَعَادِ، فهي إلى القرآن وجميعِ ما تَضَمَّنَ، وعِظَمُهُ أنَّ التصديقَ بهِ نجاةٌ والتكذيبُ به هَلَكَةٌ، ووبَّخَهُمْ بقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، ثم أمر ع أن يقولَ محتجًّا على صِحَّةِ رسالتِه: «مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى لولا أنْ اللَّه أخْبَرَنِي بذلك» والملأ الأعلى أَرَادَ بِهِ: الملائكةَ، واخْتُلِفَ في الشَّيْءِ الذي هُوَ اخْتِصَامُهُمْ فِيه فقالت فرقةٌ: اختصامهم في شأن آدَمَ: كقولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] وَيَدُلُّ على ذلك ما يأتي من الآياتِ، وقالت فرقة: بل اختصَامُهم في الكفَّارَاتِ وَغَفْرِ الذُّنُوبِ، ونحوه فإن العَبْدَ إذا فعل حسنَةً، اختلفت الملائكةُ في قَدْرِ ثوابِهِ في ذلك، حتى يَقْضِيَ اللَّهُ بما شاء، وروي في هذا حديثٌ فَسَّرَهُ ابنُ فُورَكَ يتضمَّنُ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ له ربُّهُ- عزَّ وجلَّ- في نومه: «أتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأعلى؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: اختصموا في الْكَفَّارَاتِ والدَّرَجَاتِ، فَأَمَّا الكَفَّارَاتُ: فَإسْبَاغُ الوُضُوءِ في الغَدَوَاتِ البارِدَةِ، ونَقْلُ الأَقْدَامِ إلَى الجَمَاعَاتِ، وانتظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وأَمَّا الدَّرَجَاتُ: فَإفْشَاءُ السَّلامِ، وَإطْعَامُ الطَّعَامِ، وَالصَّلاَةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» الحديثِ «١» قال ابنُ العَرَبي في «أحكامِه» : وقَدْ رَوَاهُ الترمذيُّ صحيحاً، وفيه «قال: سَلْ قَالَ: اللَّهُمَّ، إنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً في قَوْمٍ، فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَعَمَلاً يُقَرِّبُ إلَيَّ حُبِّكَ» قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «إنّها حقّ فارسموها، ثم تعلّموها»، انتهى.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٠ الى ٧٦]
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
وقوله: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ قال الفراء: إن شئْتَ جَعَلْتَ «أَنَّما» في موضِعِ رفعِ، كأنَّهُ قَالَ: مَا يوحى إليَّ إلا الإنْذَارُ، أو: ما يوحى إلَيَّ إلا أَنِّي نَذِيرٌ مُبينٌ، انتهى، وهكذا قال أَبو حَيَّان «٢» :«إن» بمعنى: «ما» وباقي الآيةِ بَيِّنٌ مِمَّا تَقَدَّمَ في «البَقَرَةِ» وغيرِها.
(١) أخرجه أحمد (٥/ ٢٤٣) عن معاذ بن جبل. وفي الباب من حديث ابن عبّاس أخرجه الترمذي (٥/ ٣٦٦- ٣٦٧) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة ص (٣٢٣٣- ٣٢٣٤)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٩١).
وقوله تعالى: بِيَدَيَّ عبارةٌ عن القُدْرَةِ والقُوَّةِ.
وقوله: أَسْتَكْبَرْتَ: المعنى: أَحَدَثَ لك الاسْتكبارُ الآن أم كنتَ قديماً مِمَّنْ لا يليق أنْ تُكَلَّفَ مِثْلَ هذا لِعَلُوِّ مَكَانِك وهذا على جهة التوبيخ له.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٧ الى ٨٦]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)
وقوله تعالى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الآية، «الرّجيم» أي: المرجوم بالقول السّيّئ، واللعنةَ: الإبْعَادُ.
وقوله سبحانه: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ قال مجاهدٌ، المعنى: فالحقُّ أنا «١»، وقرأ الجمهور: «فالْحَقَّ وَالحَقَّ» بِنَصْبِ الاثْنَيْنِ، فأما الثاني، فمنصوبٌ ب «أقول» وأما الأوَّلُ فَيَحْتَمِلُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الإغْرَاءِ، ويحتملُ أنْ ينتصبَ على القَسَمِ، على إسقاط حرف القسم، كأنه قال: فو الحقّ ثم حَذَفَ الحَرْفَ كَمَا تَقُولُ: اللَّهَ، لأَفْعَلَنَّ، تريدُ واللَّهِ ويقوِّي ذلك قولُه: لَأَمْلَأَنَّ وقد قال سِيبَوَيْهِ: قلتُ للخَلِيلِ: ما معْنَى: «لأَفْعَلَنَّ» إذا جاءتْ مبتدأَةً؟ فقال: هي بتقديرِ قَسَمٍ مَنْوِيٍّ، وقالَتْ فرقةٌ: «الحَقَّ» الأول/ منصوبٌ بفعلِ ومُضمر، وقرأ ابن عباس: «فَالحَقُّ وَالحَقُّ» «٢» برفعِ الاثنين، وقرأ عاصمٌ وحمزة: «فَالحَقُّ» بالرفع، وَ «الحقّ» - بالنصب «٣» -، وهي قراءة مجاهد وغيره «٤».
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٦٠٧) برقم: (٣٠٠٣٣)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٧٠)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥١٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٠٠)، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٢) وبها قرأ الأعمش ومجاهد.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٣١)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٥١٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٩٣)، و «الدر المصون» (٥/ ٥٤٧).
(٣) ينظر: «السبعة» (٥٥٧)، و «الحجة» (٦/ ٨٧)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٣٣)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٩٤)، و «العنوان» (١٦٤)، و «حجة القراءات» (٦١٨)، و «شرح شعلة» (٥٦٦)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢٥).
(٤) وقرأ بها الأعمش وأبان بن تغلب.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥١٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٩٣)، وزاد نسبتها إلى طلحة، وخلف، والعبسي، وحمزة، وعاصم.
ثم أمر تعالى نبيَّه [أنْ] يخبرَهم بأنه ليس بسائلٍ منهم عليه أجراً وأنه ليس ممن يتكَلَّفُ ما لم يُجْعَلْ إليه، ولا يَخْتَلِي بغيرِ ما هُوَ فيه، قال الزُّبَيْرُ بن العوّام: نادى منادي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِلَّذِينَ لاَ يَدَّعُونَ، ولاَ يَتَكَلَّفُونَ أَلاَ إنِّي بَرِيءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ وَصَالِحُو أُمَّتِي».
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
وقوله: إِنْ هُوَ يريد القرآن وذِكْرٌ بمعنى تَذْكِرَة، ثم توعَّدَهُمْ بقوله: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ وهذَا على حَذْفٍ تقديرُه: لتعلمنَّ صِدْقَ نَبئه بعد حين، قال ابن زيد: أشار إلى يوم القيامة «١»، وقال قتادة والحَسَن: أشار إلى الآجالِ الَّتي لهم «٢» لأن كُلَّ واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٦٠٩) برقم: (٣٠٠٤١)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٧٠) عن عكرمة، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥١٦)، وابن كثير في «تفسيره» عن عكرمة، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٠١)، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٦٠٨) برقم: (٣٠٠٣٩) عن قتادة والحسن، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٧٠)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥١٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٠١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.
Icon