تفسير سورة الزمر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ﴾؛ معناهُ: هذا تنْزِيلٌ من اللهِ العزيزِ بالنِّقمة لِمَن لا يؤمنُ، الحكيمُ في أمرهِ وقضائه. ويجوزُ أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ وخبرهُ ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ كما يقالُ: نِعَمُ الدُّنيا والدينِ من اللهِ تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي أنزَلنا إليكَ هذا القرآنَ بالحقِّ ولم يُنْزِلهُ بَاطلاً، وقولهُ تعالى: ﴿ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ ﴾؛ أي اعبُدِ اللهَ وحدَهُ لا كما يعبدهُ عبدَةُ الأوثانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ﴾؛ أي إنَّ العبادةَ الخالصةَ للهِ، وفي هذا بيانُ أنَّ غيرَ الخالصِ لا يكون للهِ، والإخلاصُ أن يقصُدَ العبدُ بنيَّتهِ وعملهِ خالقَهُ لا يجعلُ ذلك تعرُّضاً للدُّنيا. وَقِيْلَ: معنى ﴿ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ﴾ أي إن الدينَ الخالصَ من الشِّرك هو للهِ، وما سواهُ من الأديانِ فليس بدينِ اللهِ الذي أمرَهُ بهِ. قال قتادةُ: (الدِّينُ الْخَالِصُ شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾؛ يعني الذين يعبُدون الأصنامَ والملائكةَ والشَّمس والقمرَ والنجومَ يقولون: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ ﴾؛ أي يقولون ما نعبُدهم إلاَّ ليَشفَعُوا لنا إلى اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي بين أهلِ الأديان يومَ القيامةِ.
﴿ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾؛ من أُمور الدينِ، كلٌّ يقولُ: الحقُّ دِيني، فهُم مختلفونَ، وحكمُ الله بينَهم: أن يُعذِّبَ كُلاًّ على قدر استخفافهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ ﴾؛ أي لا يُرشِدُ لدينهِ مَن كذبَ في زعمهِ أنَّ الآلهةَ تشفعُ له الله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي لو أرادَ أن يتَّخِذ لنفسهِ ولَداً كما زعمَ بعضُ الكفَّار أنَّ الملائكةَ بناتُ الله! لَمَا اقتصرَ على الأدوَنِ من البناتِ دون الأعلَى من الذُّكران، وهذا كقولهِ تعالى﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً ﴾[الإسراء: ٤٠]، وقالَ تعالى﴿ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ ﴾[النجم: ٢١].
وَقِيْلَ: معناهُ: لو أرادَ أن يتَّخذ ولَداً كما قالتِ النصارَى في المسيحِ واليهودُ في العزيزِ لاختارَ خلقاً أفضلَ من عيسَى عليه السلام وعُزيرِ. وقولهُ تعالى: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾؛ أي تَنْزيهاً له في كلِّ صفةٍ لا تكون من أرفعِ الصِّفات، وقولهُ: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ﴾؛ لا شريكَ له و " ليس " شيء كمثله.
﴿ ٱلْقَهَّارُ ﴾؛ الغالبُ على خلقهِ الذي لا يحتاجُ إلى ولدٍ وظَهيرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ ﴾؛ أي خلقَ السَّماوات والأرضَ عبرةً للخلقِ، وإقامةً للحقِّ لا للعبثِ والباطلِ، يُدِيرُ الليلَ على النهار، ويديرُ النهارَ على الليلِ، وكلُّ واحدٍ على الآخرِ، ويزيدُ من ساعاتِ أحدِهما في ساعاتِ الآخر. والتكويرُ: هو إدارَةُ الشيءِ على الشيء، ومنه كُورُ العِمَامَةِ، وقد تسمَّى الزيادةُ كُوراً، كما قيلَ في الدُّعَاءِ:" اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الْحَوَر بَعْدَ الْكَوَر "أي من النُّقصان بعدَ الزيادةِ. وقولهُ: ﴿ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى ﴾؛ أي إلى الوقتِ الذي وقَّتَ اللهُ الدنيا إليه وهو انقضاؤُها وفناؤها، وقولهُ: ﴿ أَلاَ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ ﴾؛ أي خالقُ هذه الأشياءِ هو اللهُ الغالب على كلِّ شيء، الغفَّارُ لأوليائهِ وأهلِ طاعتهِ.
قولهُ تعالى: ﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾؛ أي خلقَكم من نفسِ آدمَ وحدَها ثم خلقَ منها زوجَها حوَّاء من ضلعٍ من أضلاعهِ القصيرة.
﴿ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾؛ يعني الإنزالَ ها هنا الإنشاءَ والخلقَ؛ أي وخلقَ لكم من كلِّ صنفٍ من الإبلِ والبقر والضَّأنِ والمعزِ زوجَين ذكراً وأُنثى. وقوله: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ ﴾، أي خلقَكم نُطفةً ثم عَلَقة ثم مُضغَةً إلى أن تخرجوا من البطون.
﴿ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ﴾؛ يعني ظُلمةَ البطنِ وظُلمةَ الرحِمِ وظلمةَ الْمَشِيمَةِ. وَقِيْلَ: ظلمةَ الأصلاب وظلمةَ الأرحامِ وظلمةَ البُطونِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ ﴾؛ الدائمُ الذي لا يزولُ، ولا خالقَ غيرهُ.
﴿ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴾؛ بعدَ هذا البيانِ والبرهان.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ﴾؛ أي إنْْ تكفُروا يا أهلَ مكَّة بنِعَمِ اللهِ، فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنكم، لم يأمُرْكم بالإيمانِ من حاجةٍ له إليكم لا لجلب منفعةٍ ولا لدفعِ مضرَّةٍ، وإنما آمرُكم به لنفعِكم.
﴿ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ ﴾؛ أي لا يرضَى لأوليائهِ وأهلِ طاعته الكُفرَ. وَقِيْلَ: معناهُ: ولا يرضَى لعبادهِ المخلصِين الذي قالَ " فيهم "﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾[الاسراء: ٦٥] فألزمَهم شهادةَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وحبَّبَها إليهم. وقال السديُّ: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أنْ يَكْفُرُواْ)، وهذه طريقةُ مَن قالَ بالتخصيصِ في هذه الآيةِ ومَن أجرَاها على العمومِ فمعناهُ: لا يرضَى الكفرَ لأحدٍ، وكفرُ الكافرِ غيرُ مُرضٍ، وإنْ كان بإرادةٍ، فاللهُ تعالى مقدِّرٌ الكفرَ غيرَ راضٍ به لأنه " ما " يَمدحهُ ولا يُثنِي عليه، قال قتادةُ: (مَا رَضِيَ اللهُ لِعَبْدٍ ضَلاَلَةً وَلاَ أمَرَهُ بهَا وَلاَ دَعَاهُ إلَيْهَا، وَلَكِنْ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾؛ معناهُ: وإن تَشكُروا ما أنعمَ عليكم من التوحيدِ يَرْضَ ذلك الشكرَ لكم ويُثِيبَكم عليه.
﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾؛ أي لا تُؤخَذُ نفسٌ وزراً بذنب أُخرى.
﴿ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ فَيُنَبِّئُكُـمْ ﴾، فيَجزِيكم.
﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، في الدُّنيا.
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾، بعزائمِ القلوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ﴾؛ إذا أصابَ الكافرَ شدَّةٌ في عَيشهِ أو بلاءٌ في جسدهِ دعَا ربَّهُ راجعاً إليه بقلبهِ، قال عطاءُ: (يُرِيدُ عُتْبَةَ بْنَ رَبيعَةَ)، وقال مقاتلُ: (يَعْنِي أبَا حُذيْفَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ). وقولهُ: ﴿ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ ﴾؛ أي ثُم إذا أعطاهُ نِعْمَةً منه؛ أي أغناهُ وأنعمَ عليه بالصحَّة.
﴿ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ ﴾؛ أي نَسِيَ الضرَّ الذي كان يدعُو اللهَ إلى كشفهِ.
﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً ﴾؛ أي رجعَ إلى عبادةِ الأوثان.
﴿ لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾؛ أي ليَزِلَّ عن دينِ الإسلامِ، ويُضِلَّ الناسَ.
﴿ قُلْ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ لهذا الكافرِ: ﴿ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ﴾؛ في الدُّنيا إلى أجَلِكَ، لفظهُ لفظ الأمرِ ومعناهُ التهديدُ والوعيدُ.
﴿ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ ﴾؛ في الآخرةِ فما ينفعُ التمتُّعُ القليلُ من الدنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾؛ معناهُ: هذا خيرٌ أيُّها الكافرُ أم مَن هو قانتٌ؟ وَقِيْلَ: معناهُ: أمَّنْ هو قانتٌ كمَن جعلَ لله أنْدَاداً. وَقِيْلَ: معناهُ: أهذا الخيرُ أم من هو قانتٌ لله؟. والقَانِتُ: هو المواظِبُ على طاعةِ الله تعالى، القائمُ بما يجبُ عليه لأمرِ الله. و ﴿ آنَآءَ ٱلَّيلِ ﴾ ساعاتهُ. وقوله: ﴿ سَاجِداً وَقَآئِماً ﴾ نُصِبَ على الحالِ؛ أي تارةً ساجداً وتارةً قائماً، يفعلُ ذلك حَذِراً من العذاب وطَمعاً في الثواب. وقرأ نافعُ وابن كثير: (أمَنْ) بالتخفيفِ؛ لأن ألِفَ الاستفهامِ دخلت على (مَنْ) هو استفهامُ إنكارٍ، والمعنى: أمَنْ هو قانتٌ كالأوَّلِ. ورُوي أنَّ قوله: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً ﴾ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ ابْنِ عَفَّان رضي الله عنه. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي لا يستوِي العالِمُ والجاهلُ، فكذلكَ لا يستوِي المطيعُ والعاصي.
﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾؛ أي يتَّعِظُ بمواعظِ الله ذوُو العقولِ من الناسِ. وقال مقاتلُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَمَّار بْنِ يَاسِرٍ وَأبي حُذيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ ﴾ يَعْنِي عَمَّارَ ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يَعْنِي أبَا حُذيْفَةَ). وعن ابنِ عبَّاس؛ أنَّهُ قالَ: (مَنْ أحَبَّ أنْ يُهَوَّنَ عَلَيْهِ الْمَوْقِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَرَهُ اللهُ سَاجِداً فِي سَوَادِ اللَّيلِ سَاجِداً أوْ قَائِماً يَحْذرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ﴾؛ أي أطِيعوهُ واجْتَنِبُواْ معاصيَهُ، وتَمَّ الكلامُ ثم قالَ: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي وحِّدُوا اللهَ وأحسِنُوا العملَ.
﴿ حَسَنَةٌ ﴾؛ يعني الجنَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ ﴾؛ أي ارحَلُوا من مكَّةَ، وهذا حثٌّ لهم على الهجرةِ من مكَّة إلى حيث يَأْمَنُونَ، فيه بيانُ أنه لا عذرَ لأحدٍ في تركِ طاعةِ الله تعالى لكونه بأرضٍ لا يتمكَّنُ فيها من ذلكَ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ معناهُ: إنما يُوَفَّى الصَّابرُون على دِينهم فلا يترُكونَهُ بمشقَّةٍ تَلحقُهم. وهذه الآيةُ نزلَتْ في جعفرَ بن أبي طالبٍ وأصحابهِ حين لم يترُكوا دينَهم، ولَمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ صبَرُوا وهاجَرُوا، والمعنى: يُعطَوْنَ أجرَهم كاملاً على صبرِهم على البلاءِ، وهجرانِ أهلِهم وأوطانِهم بغير وزنٍ ولا مقدارٍ، بل يعطون نَعيماً وثواباً لا يهتدِي إليه عقلٌ ولا وصف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ ﴾؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لكفَّار مكَّة: إنِّي أُمرت أن أعبُدَ اللهَ.
﴿ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾، وأُمرتُ أن أعبدَهُ على التوحيدِ والإخلاصِ، لا يشوبُ عبادتَهُ شركٌ. قال مقاتلُ: (وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى مَا أتَيْتَنَا بهِ؟ ألاَ تَنْظُرُ إلَى مِلَّةِ أبيكَ وَجَدِّكَ وَسَادَةِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللاَّتَ وَالْعُزَّى فَتَأْخُذ بهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). أي قُل لَهم إنِّي أمرتُ بالقرآنِ بتوحيدِ الله تعالى، وأن آمُرَ الخلقِ كلهم بذلك، وأُمِرتُ أن أكون أوَّلَ من أسلمَ من أهلِ هذا الزَّمان.
قولهُ تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾؛ بالرُّجوعِ إلى دينِ آبائي.
﴿ قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي ﴾؛ بالتوحيدِ لا أُشرِكُ به شيئاً.
﴿ فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ ﴾؛ هذا أمرُ تَهديدٍ.
﴿ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ بأن صَارُوا إلى النار.
﴿ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ ﴾، يعني الكفارَ هم الذين خَسِرُوا أنفُسَهم وأهليهم من الأزواجِ والخدَمِ بالتخلية في النار. ويقالُ: خُسْرَانُ الأهلِ أن يخسَرُوا أهلَهم من الحور العينِ التي أُعِدَّت لهم في الجنَّة لو أسلَمُوا.
قولهُ تعالى: ﴿ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ ﴾؛ أي أطبَاقٌ من النار تلهبُ عليهم.
﴿ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ﴾؛ أي مِهَادٌ من النار. يريدُ بذلك أنَّهم جُعِلُوا بين أطبَاقِ جهنَّم، فأحاطَت بهم النارُ من كلِّ جانبٍ. وإنما سُمي الذي من تحتَهم ظِلاً لأنه ظُلَلٌ لا يكون أسفلَ منهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ﴾؛ أي ذلك الذي ذُكر من عذاب الكفَّار تخويفٌ للمؤمنين ليخَافوهُ فيتَّقونَهُ بالطاعةِ والتوحيدِ. ثم أمرَهم بذلك فقالَ: ﴿ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ ﴾؛ أي اتَّقُوا عذابي بامتثالِ أوَامِري.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ﴾؛ يعني اجتنَبُوا كلَّ ما يُعبَدُ من دون اللهِ.
﴿ وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي ورجَعُوا إلى طاعةِ الله بعزَائمِهم وأقوالِهم وأفعالهم.
﴿ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ ﴾؛ بالجنَّة.
﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾؛ وذلك لأنَّ القرآن يشتملُ على ذكرِ المباحات والطَّاعات، والمباحات حسَنةٌ، والطاعات أحسَنُ، واستحقاقُ الثواب يتعلَّقُ بفعلِ الأحسنِ. ويجوزُ أن يكون معنى الآيةِ: أن العفوَ عن القصاصِ أحسنُ من استيفاءِ القصاصِ، والصبرُ أحسن من الانتصار، كما قََالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾[البقرة: ٢٣٧]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ﴾[الشورى: ٤٣]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ﴾[البقرة: ١٨٤] فجعلَ الأخذ بأحسنِ الطَّريقَين أعظمُ للصواب. وَقَِيْلَ: معنى ﴿ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ أي أحسنَهُ وكلُّه حسنٌ، قولهُ تعالى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي الذين وصَفْنَاهم.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ ﴾، هم الذين وفَّقَهم اللهُ للصواب.
﴿ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾؛ أي ذوُو العقولِ. وقال عطاءُ عن ابنِ عبَّاس: (أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه آمَنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَدَّقَهُ، فَجَاءَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ وَسَعِيدُ، فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بإيْمَانِهِ فآمَنُوا، فَنَزَلَ فِيْهِمْ ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ ﴾ أيْ يَسْتَمِعُونَهُ مِنْ أبي بَكْرٍ ﴿ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ أيْ حُسْنَهُ، وَكُلُّهُ حَسَنٌ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ ذوُو الْعُقُولِ).
قولهُ تعالى: ﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ ﴾؛ معناهُ: أفمَنْ وجبَتْ عليه كلمةُ العذاب بكُفرهِ كمَن ليس كذلك.
﴿ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ﴾؛ أي سبقَ في علمِ الله أنه من أهلِ النار، أفأنتَ تنقذهُ فتجعلهُ مؤمناً، يعني لا تقدِرُ على ذلك. قال عطاءُ: (يُرِيدُ أبَا لَهَبٍ وَأوْلاَدَهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإيْمَانِ بهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ ﴾؛ بالإيمانِ والطاعة.
﴿ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ ﴾؛ أي لَهم منازلُ في الجنَّة رفيعةً وفوقَُها منازلُ أرفَعُ منها.
﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ ﴾، وعدَهم اللهُ تلك الغُرَف والمنازلَ وعْداً لا يُخْلِفهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾؛ يعني المطرَ.
﴿ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي فأجراهُ في الأرضِ ينابيعَ وهو جمعُ يَنْبُوعٍ، والينبوعُ: المكانُ الذي يَنْبَعُ منه الماءُ. قال مقاتلُ: معناهُ (فَجَعَلَهُ عُيُوناً وَرَكَايَا فِي الأَرْضِ) وَذلِكَ أنَّ أصْلَ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ. وقولهُ: ﴿ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ﴾؛ أي ثم يُخرِجُ بالمطرِ زَرْعاً من بين أحمرٍ وأصفر وأبيض وأخضرٍ.
﴿ ثُمَّ يَهِـيجُ ﴾؛ أي يَيْبَسُ.
﴿ فَـتَرَاهُ ﴾؛ بعدَ الْخُضْرَةِ.
﴿ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ ﴾؛ اللهُ.
﴿ حُطَاماً ﴾؛ أي متكسِّراً متَفَتِّتاً دِقَاقاً.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾؛ أي الذي ذكرَ من صُنعِ الله وقدرتهِ لدلالةِ ذوي العقولِ على سُرعة زوالِ الدُّنيا، وعلى قدرةِ الله على البعثِ بعدَ الموت.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾؛ معناهُ: أفمَن وسَّعَ الله صدرَهُ لقَبولِ الإسلام، فهو على بيانٍ وحجَّة من ربه يُبصِرُ به الحقَّ من الباطلِ، كمَن طبعَ الله على قلبهِ فلم يهتَدِ للحقِّ لقَسوَتهِ، فال قتادةُ: (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبهِ: النُّورُ هُوَ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، فِيْهِ يَأْخُذُ وَبهِ يَنْهَى). وتقديرُ الآيةِ: أفمَن شرحَ اللهُ صدرَهُ للإسلامِ فهو على نورٍ من ربه، كمَن قَسِيَ قلبهُ. وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه أنه قالَ:" تَلاَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ، قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هَذا الانْشِرَاحُ؟ قَالَ: " إذا دَخَلَ نُورٌ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ " قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَمَا عَلاَمَةُ ذلِكَ؟ قَالَ: " الإنَابَةُ إلَى دَار الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَار الْغُرُور، وَالتَّأَهُّب لِلْمَوْتِ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَوْتِ "قِيْلَ: إنَّ هذه الآيةَ نزلت في عمَّار بن ياسرٍ، وقال مقاتلُ: (أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ يَعْنِي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾؛ هم أبُو جهلٍ وأصحابهُ من الكفَّار.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
وَقَِيْلَ: إنَّ قولهُ ﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ يعني عَلِيّاً وحمزةَ، وقولهُ تعالى ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾ هو أبو لَهَبٍ وأولادهُ. وقولهُ ﴿ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾ أي عن ذكرِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ ﴾؛ يعني القرآنَ، سُمي حَديثاً لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُحَدِّثُ به قومَهُ. وقوله: ﴿ كِتَابا ﴾؛ منصوب على البدل من أحسن الحديث. قولهُ: ﴿ مُّتَشَابِهاً ﴾؛ أي يُشبهُ بعضه بعضاً في كونهِ حكمةً ومصلحةً، وفي أنه حقٌّ لا تناقُضَ فيهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾؛ أي مُكَرِّرُ الأنباءِ والقصصِ للإبلاغِ والتأكيدِ، وتُثْنَى تلاوتهُ في الصَّلاةِ وفي غيرِها فلا يمل من سماعهِ. وقولهُ: ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ خَوفاً مما في القرآنِ من الوعيدِ، ومعنى تَقْشَعِرُّ: تأخذُهم قَشْعَرِيرَةٌ وهي تغيُّر يحدثُ في جلدِ الإنسان عند الوجَلِ والخوفِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا "وقال الزجَّاجُ: (إذا ذُكِرَتْ آيَاتُ الْعَذاب اقْشَعَرَّتْ جُلُودُ الْخَائِفِينَ)، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الإنْسَانِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّار ". وعن عبدِالله بنِ عُروةَ قالَ: قُلْتُ لأَسْمَاءَ بنْتِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه: كَيْفَ كَانَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُونَ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ؟ قَالَتْ: (كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللهُ تَعَالَى، تَدْمَعُ عُيُونُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ) فَقُلْتُ لَهَا: إنَّ نَاساً الْيَوْمَ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ خَرُّواْ مَغْشِيّاً عَلَيْهِمْ؟ قَالَتْ: (أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ). ورُوي: أنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه مَرَّ برَجُلٍ مِنْ أهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطٍ فَقَالَ: (مَا بَالُ هَذا؟) فَقَالُواْ: إنَّهُ إذا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَسَمِعَ ذِكْرَ اللهِ سَقَطَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه: (إنَّا لَنَخْشَى اللهَ وَلاَ نَسْقُطُ) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: (إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَدْخُلُ فِي جَوْفِ أحَدِهِمْ! مَا كَانَ هَذا صُنْعَ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى لله عليه وسلم). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي تسكنُ رعدَةُ أعضائِهم إذا سمعوا آياتِ الرَّحمة، وَقِيْلَ: تلينُ جلودُهم وقلوبُهم؛ أي تطمئنُّ وتسكنُ إلى ذكرِ الله للجنَّة والثواب. قال قتادةُ: (هَذَا نَعْتُ أوْلِيَاءِ اللهِ، وَصَفَهُمُ اللهُ بأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بذهَاب عُقُولِهِمْ وَالْغِشْيَانِ عَلَيْهِمْ، إنَّمَا ذلِكَ فِي أهْلِ الْبدَعِ وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ). وقولهُ تعالى: ﴿ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ ﴾؛ يعني أحسنَ الحديثِ وهو القرآنُ، هُدَى اللهُ يهديهِ.
﴿ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ الْكَافِرَ يُلْقَى فِي النَّار مَغْلُولَ الْيَدِ إلَى الْعُنُقِ، لاَ يَتَهَيَّأُ لَهُ أنْ يَتَّقِي النَّارَ إلاَّ بوَجْهِِهِ)، فكان معنى الآيةِ: أفمَن يتَّقي بوجههِ شدَّةَ العذاب يومَ القيامةِ كمَن يدخلُ الجنةَ ويتلذذُ بنعيمِها. قِيْلَ: إنَّ هذه الآيةَ نزلت في أبي جهلٍ، قال الكلبيُّ: (يُنْطَلَقُ بهِ إلَى النَّار مَغْلُولاً، فَإذا دَفَعَتْهُ الْخَزَنَةُ فِيْهَا تَتَلَقَّفُهُ النَّارُ بأَوَّلِ وَجْهِهِ)، وقوله: ﴿ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾؛ أي يقولُ الخزَنة للكفار: ذوقوُا العذابَ بما كنتم تكسَبون في الدُّنيا من الكفرِ والمعاصي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ أي كذبَ الذين من قبلِ كفَّار مكَّة رسُلَهم.
﴿ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾؛ يعني وهم آمِنُون في أنفُسِهم غَافِلون عن العذاب. وفي هذه الآيةِ تحذيرٌ لأهلِ مكَّة لئَلاَّ يسلُكوا طريقةَ مَنْ قَبْلَهُم فينْزِلُ بهم من العذاب ما نزلَ بمَن قبلَهم.
قولهُ تعالى: ﴿ فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي الهوانَ والعذابَ في الحياةِ الدنيا.
﴿ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾؛ مما أصابَهم في الدُّنيا.
﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ ولكنَّهم لم يعلَمُوا ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾؛ أي ولقد ضرَبنا لأهلِ مكَّة في هذا القرآنِ من كلِّ مثَلٍ لَهم فيه من كلِّ وجهٍ ما يحتاجون إليه.
﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾؛ فيؤمِنُوا.
قولهُ تعالى: ﴿ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾؛ قُرْآناً نصَبهُ على الحالِ كما يقالُ: جاءَنِي زيدٌ رجُلاً صالحاً، وقولهُ تعالى: ﴿ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ أي مستقيمٌ وليس مختلِفٌ، وعن ابنِ عبَّاس: (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ؛ أيْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ)، وَقِيْلَ: غيرَ تضَادُدٍ واختلافٍ، لا يخالِفُ الكتبَ المنَزَّلةَ قبلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ ﴾؛ أي وصفَ اللهُ مثلَ آلِهَتِهم التي يعبدونَها من دونِ الله، يقول اللهُ: الذي يعبدُ آلهةً شينٌ في أخلاقِهم وشراسةً، والذي يعبدُ ربّاً واحداً خالصاً في عبادتهِ إياهُ، والمعنى فيه شركاءُ متشَاحُّون، ورجُلاً سَلَماً لرَجُل سلم له من غيرِ منازعٍ، وَقِيْلَ: معناهُ: أنَّ أربَاباً كثيرةً فيه شركاءُ متشَاحُّون سَيِّئةٌ أخلاقُهم، وكلُّ واحدٍ منهم يستخدمهُ بقدر نصيبهِ، يقالُ: رجلٌ شَكِسٌ وَشَرِسٌ، وَضَرِسٌ وضَبسٌ، إذا كان سَيِّءَ الْخُلُقِ ومُخَالفاً للناسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ ﴾؛ (ورَجُلاً سَالِماً) هذه قراءةُ ابنِ كثير وأبي عمرٍو ومجاهد والحسن ويعقوب، واختيار أبي عُبيد؛ لأن السالِمَ " الْخَالِصُ " ضدُّ المشترَكِ، وقرأ الباقون (سَلَماً) من غيرِ ألف بفتحِ اللام وهو ضدُّ المحارب، ولا موضعَ للحرب ها هُنا، والمعنى ورَجُلاً ذا سَلَمٍ لرَجُل، من قولِهم: هو لكَ سَلَمٌ؛ أي مسلم لا منازعَ لكَ فيه. وقوله: ﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾؛ أي هل يستوِي عندكَ شِرْكٌ فيه مختلفون يملكونَهُ جميعاً ورجلٌ خالِصٌ لرجلٍ لا شركةَ فيه لأحدٍ. والمعنى هل يستوِي من يعبدُ آلهةً شتَّى مختلفةً، يعني الكافرَ، والذي يعبدُ ربّاً واحداً، يعني المؤمنَ، وهذا استفهامٌ معناهُ الإنكارُ؛ أي لا يستوِيان. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ﴾؛ أي الشكرُ للهِ دون غيرهِ من المعبودِين، وقولهُ: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ ما يصِيرُون إليه من العقاب، والمرادُ بالأكثرِ الكلَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾؛ إنكَ يا مُحَمَّدُ ميِّتٌ عن قليلٍ وإنَّهم ميِّتون، وَقِيْلَ: معناهُ: إنكَ ستموتُ وإنَّهم سيمُوتون.
﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾؛ يعني الْمُحِقَّ وَالْمُبْطِلَ، والظالِمَ والمظلومَ. قولهُ: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ ﴾، بأن جعلَ له ولَداً وشَريكاً.
﴿ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ ﴾؛ وكذبَ بالصدقِ بالتوحيد والقرآنِ إذْ جاءَ به مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وقولهُ تعالى: ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾؛ لفظَةُ استفهامٍ وهو تقديرٌ وتحقيقٌ؛ أي مثوَاهُم جهنَّمُ.
قولهُ تعالى: ﴿ وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ ﴾؛ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾؛ أبُو بكرٍ رضي الله عنه كَانَ يُصدِّقهُ في كلِّ ما أخبرَ به، فلذلك سُمي صِدِّيقاً، وقولهُ تعالى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾؛ يعني أبا بَكرٍ وأصحابَهُ المؤمنين، وقولهُ تعالى: ﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾؛ يعني لَهم ما يَشاؤُون من الكرامةِ في الجنَّة و ﴿ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ في أقوالِهم وأعمالهم. وقولهُ تعالى: ﴿ لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ ﴾؛ أي ليُكَفِّرَ اللهُ عنهم أقبحَ أعمالِهم التي عمِلُوها في الدُّنيا بحسناتِهم.
﴿ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، قال مقاتلُ: (بالْمََحَاسِنِ مِنْ أعْمَالِهِمْ، وَلاَ يَجْزِيهِمْ بالْمَسَاوئ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾؛ وذلك " أنَّ " المشرِكين من أهلِ مكَّة قالُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّكَ لا تزالُ تشتمُ آلِهَتَنا وتُعِيبُها فاتَّقِها أنْ لا تصيبَكَ بشيءٍ فتُخَبلَكَ! فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. وَقِيْلَ: معناهُ: أليس اللهُ بكافٍ عَبْدَهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يكفِيه عداوةَ من يُعاديهِ. ومن قرأ (عِبَادَهُ) فالمرادُ بالعبادِ الأنبياءَ، وذلك أنَّ الأُمم قصدَتْهم بالسُّوء، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ ﴾[غافر: ٥] فكفَاهم اللهُ شَرَّ مَن عادَاهم، يعني إنه كافِيكَ كما كفَى هؤلاء الرسُلَ قبلَكَ. وقوله تعالى: ﴿ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾، أي بالذين يَعبُدون من دونهِ هم الأصنامُ. ﴿ وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ * وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ﴾؛ وذلك أنَّهم " مع " عبادتَهم غيرَ اللهِ يُقِرُّونَ أن اللهَ خالقُ هذه الأشياءِ، فجعلَ اللهُ إقرارَهم بذلك حجَّةً عليهم. وبيَّن أنه تعالَى إذا أرادَ بعبدهِ ضُرّاً لم تقدر الأصنامُ على دفعهِ عنهُ، وإذا أرادَ بعبدٍ رحمةً لم تقدر الأصنامُ على حبسِها عنه، فكيف يعبدونَها ويتركون عبادةَ اللهِ الذي له هذه الصفاتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ ﴾ أي أمرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يحتجَّ عليهم بأن جميعَ ما تعبُدون من دون اللهِ لا يَمِلكون كشفَ ضُرٍّ، قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (وَالْمَعْنَى: أرَادَنِي اللهُ بفَقْرٍ أوْ مَرَضٍ أوْ بَلاَءٍ أوْ شِدَّةٍ، هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ، أوْ أرَادَنِي برَحْمَةٍ أيْ بخَيْرٍ وَصِحَّةٍ، هَلْ هُنَّ حَابسَاتٌ تِلْكَ الرَّحْمَةَ عَنِّي). قرأ أبو عمرٍو ويعقوب (كَاشِفَاتٌ) و (مُمْسِكَاتٌ) بالتنوينِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ غيرُ واقعٍ، وما لَمْ يقع منهُ فوجهُها التنوينُ، وقرأ الباقونَ بغير تنوينٍ استخفافاً، وكِلاَ الوجهين حسنٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي يكفينِي اللهُ تعالى الذي بيدهِ الضرُّ والرحمةُ.
﴿ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ ﴾؛ أي به يَثِقُ الواثِقُون لا بغيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ ﴾؛ أي على نَاحِيَتِكم التي اختَرتُموها.
﴿ إِنِّي عَامِلٌ ﴾؛ على نَاحِيَتي وجِهَتي.
﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾؛ أي يَفضَحهُ ويُهلِكهُ في الدُّنيا.
﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾؛ وينْزِلُ عليه عذابٌ دائم في الآخرةِ. ويجوز أنْ يكون قولهُ ﴿ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾ ابتداءُ كلامٍ من اللهِ تعالى، وخبرهُ ﴿ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ يعني القرآنَ لتعلَمُوا ما فيه وتعمَلُوا به.
﴿ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ﴾؛ أي فمنفعةُ اهتدائهِ راجعةٌ إلى نفسهِ.
﴿ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾، ومن ضَلَّ فضَلالهُ راجعٌ إليه.
﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ ﴾؛ أي بحفيظٍ؛ أي تُجبرُهم بالإيمانِ، وهذا كان قبل أن يؤمرَ بقتالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا ﴾ معناهُ: اللهُ يقبضُ الأرواحَ عند انقضاءِ آجَالِها، ويقبضُ الأرواحَ التي لم تَمُتْ في منامِها.
﴿ فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ ﴾؛ فيحبسُ الأرواحَ التي قَضَى عليها الموتَ ولا يردُّها إلى الأجسادِ، ويَرُدُّ أرواحَ النائمين إليهم عند الاستيقاظِ.
﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾؛ أي إلى الأجلِ الذي قدَّرَ اللهُ لهم وهو انقضاءُ الأجَلِ.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾؛ إن في رَدِّ الأرواحِ بعد القبضِ لعلاماتٍ.
﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ في قُدرةِ الله تعالى، فيستدلُّون بذلك على قُدرتهِ على البعثِ. قال الزجَّاجُ: (لِكُلِّ إنْسَانٍ نَفْسَانِ؛ أحَدُهُمَا: نَفْسُ التَّمْييزِ؛ وَهِيَ الَّتِي تُفَارقُهُ إذا نَامَ فَلاَ يَعْقِلُ. وَالأُخْرَى: نَفْسُ الْحَيَاةِ؛ إذا زَالَتْ زَالَ مَعَهَا النَّفَسُ، وَالنَّائِمُ يَتَنَفَّسُ). وعن ابن جُريج عن ابنِ عبَّاس أنه قالَ: (إنَّ النَّفْسَ الَّتِي هِيَ الْعَقْلُ وَالتَّمْييزُ، وَالرُّّوحُ هُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي بهِ يَتَحَرَّكُ الإنْسَانُ، فَإذا نَامَ الْعَبْدُ قَبَضَ اللهُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَقْبضْ رُوحَهُ، وَإذا مَاتَ قَبَضَ نَفْسَهُ وَرُوحَهُ). ويقالُ: إن الأشباحَ له نفسٌ وروح وحياةٌ، والبهائمُ لها أرواحٌ، والنباتُ له حياةٌ، فنَمَا النباتُ بحياتهِ، وتحرَّكَ البهائمُ بأرواحِها، وتَمييزُ الإنسان بنفسِه، فإذا نامَ غَرَبَ عنه عقلهُ وفَهمهُ وتَمييزهُ، فإذا انتبهَ عادَ كما كان، وكذلك الميِّتُ إذا بُعِثَ عادَ يبعث كما كانَ." وسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيَنَامُ أهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: " النَّوْمُ أخُو الْمَوْتِ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ لاَ يَنَامُونَ وَلاَ يَمُوتُونَ "وروي أن في التوراةِ مكتوبٌ: يا بن آدمَ كما تنامُ تموتُ، وكما تستيقظُ تُبعَثُ. وقوله ﴿ فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ ﴾ أي يُمسِكُها عن جسدِ، يعني الروحَ التي توفَّاها فلا تعودُ إلى الجسدِ، وقوله ﴿ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ ﴾ يعني النَّفسَ إلى الجسدِ ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي إلى انقضاءِ الأجلِ. قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلف: (قُضِيَ عَلَيْهَا) بضمِّ القاف وكسرِ الضاد وفتح الياء، ورفعِ (الْمَوْتُ) على ما لَمْ يُسمَّ فاعلهُ. وقرأ الباقون: (قََضَى) على الفعلِ الماضي، ونصب (الْمَوْتَ عَلَيْهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ ﴾؛ قال المفسِّرون: إن أرواحَ الأحياءُ والأموات تلتقِي في المنامِ فتعارَفُوا ما شاءَ اللهُ، ثم يُمسِكُ اللهُ أرواحَ الأمواتِ فلا يردُّها، وأرسلَ أرواحَ الأحياءِ إلى الأجسادِ إلى وقتِ انقضاء مدَّة حياتِها. وعن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إذا أوَى أحَدُكُمْ إلَى فِرَاشِهِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبهِ الأَيْمَنِ، وَلْيَقُلْ: باسْمِكَ رَبي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبكَ أرْفَعُهُ، إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإنْ أرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بمَا تَحْفَظُ بهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ ﴾؛ نزلت في أهلِ مكَّة زعَمُوا أن الأصنامَ شفعاؤُهم عند اللهِ، فقالَ تعالى مُنكراً عليهم (أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) أي بل اتَّخَذُوا من دون اللهِ آلهةً يعبدونَها طمَعاً في شفاعتِها.
﴿ قُلْ ﴾، لَهم يا مُحَمَّد: ﴿ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ ﴾، أتَعبدُونَهم وإنْ كانوا لا يقدِرون على شيءٍ من الشفاعةِ ولا يعقِلون الشفاعةَ، فكيف يشفَعُون؟ وَقِيْلَ: ولا يعقِلون أنَّكم تعبدونَهم. ثم أخبرَ أنه لا شفاعةَ إلاَّ بإذنهِ، فقالَ: ﴿ قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾؛ أي لا يشفعُ أحدٌ إلاَّ بإذنهِ، والمعنى لا يملِكُ أحدٌ الشفاعةَ إلاّ بتمليكهِ، وهو إبطالٌ لشفاعةِ الأصنامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾؛ وذلك أنَّ المشرِكين إذا قيلَ لَهم لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ نفَرُوا من ذلك واستَكبَروا. والاشْمِئْزَازُ في اللُّغة: النُّفُورُ وَالاسْتِكْبَارُ. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (اشْمَأَزَّتْ انْقَبَضَتْ عَنِ التَّوْحِيدِ) وقال قتادةُ: (اسْتَكْبَرَتْ)، وقال أبو عُبيدة: (نَفَرَتْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾؛ يعني الأصنامَ التي يعبُدونَها من دون اللهِ.
﴿ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾؛ والمعنى إذا قيل لَهم: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، نفَرُوا من ذلك، وإذا ذُكرت أصنامُهم فرِحُوا بذكرِها. فقيل له: ﴿ قُلِ ﴾؛ لَهم يا مُحَمَّدُ: ﴿ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي خالِقُهما.
﴿ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ﴾؛ أي عالِمُ ما غابَ عن العبادِ، وما علِمَهُ العبادُ.
﴿ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ﴾، أي تقضي بين عبادك.
﴿ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾؛ من الدِّين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ أي لو كان للَّذين ظلَمُوا أنفُسَهم بالشِّركِ ما في الأرضِ جميعاً من المالِ ومثلَهُ معَهُ لفَدَوا به أنفُسَهم لشدَّةِ ما ينْزِلُ بهم من العذاب، ثم لا يُقْبَلُ منهم ذلك الفداءُ، وظهرَ لهم من عقاب الله ما لم يكونوا يتوقَّعون في الدُّنيا أنه ينْزِلُ بهم في الآخرةِ. وذلك أنَّهم لَمَّا كانوا لا يُقِرُّونَ بالبعثِ والنُّشور كانوا لا يتوقَّعون أهوالَ يومِ القيامة، بل كانوا ينتظِرُون ثوابَ اللهِ أن لو قامَتِ القيامةُ كما أخبرَ اللهُ عنهم بقوله﴿ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ﴾[فصلت: ٥٠] فإذا رأوُا العذابَ فقد.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ ﴾؛ وظهرَ لهم عقوباتُ ما كسَبُوا من المعاصِي.
﴿ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾، وحلَّ بهم جزاءُ استهزائِهم بالكتاب والرسول.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ﴾؛ أي إذا أصابَهُ مكروهٌ دعَانَا لنكشِفَ عنهُ.
﴿ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا ﴾، ثم أعطينَاهُ نعمةً منَّا من صحَّة وعافيةٍ، ويُسْرٍ بعد شدَّةٍ.
﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾؛ اللهِ أنَّني أهلٌ لذلك، وقالَ: على علمٍ منِّي فيه بوجُوهِ مُكَاسبَة. وقولهُ: ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي بل النعمةُ والشدَّة بَلِيَّةٌ وامتحانٌ من اللهِ للغنيِّ والفقيرِ، للغنيِّ بالشُّكر وللفقيرِ بالصبرِ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أنَّها من اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ أي قد قالَ تلك الكلمةِ قارونُ حين قالَ﴿ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ ﴾[القصص: ٧٨].
والمعنى: قد قالَها الذين من قبلِ هؤلاء الكفَّار.
﴿ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾؛ أي ما أغنَى عنهم الكفرُ من العذاب شيئاً، والمعنى أنَّهم ظَنُّوا إنما آتَينَاهم لكرامتِهم علينا، ولم يكن كذلك؛ لأنَّهم وقَعُوا في العذاب، ولم يُغْنِ عنهم ما كسَبُوا شيئاً، وقولهُ تعالى: ﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ ﴾؛ أي جزاؤُها. ثم أوعدََ كفارَ مكَّة فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ ﴾؛ أي جزاءُ ما قالُوا وعمِلُوا.
﴿ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾؛ لأن مرجِعَهم اللهُ، فهم لا يُعجِزُونَهُ ولا يَفُوتُونَهُ فيُجازيهم بأعمالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾؛ معناهُ: أوَلَم يعلَمُوا أنَّ الله يوسِعُ الرزقَ على مَن يشاءُ ويُضَيِّقُ على مَن يشاءُ، كلُّ ذلك من عندهِ لا بحَوْلِ الإنسانِ وقوتهِ.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ إنَّ في البَسْطِ والتقتيرِ لآياتٍ لقومٍ يُصدِّقون أنَّها من اللهِ تعالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَحْشِي وَأصْحَابهِ الَّذِينَ قَتَلُواْ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أرْسَلُواْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً يَطْلُبُونَ التَّوْبَةَ، فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ). وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه قالَ:" بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى وَحْشِي يَدْعُوهُ إلَى الإسْلاَمِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَدْعُونِي إلَى دِينِكَ وَأنْتَ تَزْعُمُ أنَّهُ مَنْ قَتَلَ أوْ أشْرَكَ أوْ زَنَى يَلْقَ أثَّاماً، يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدُ فِيْهِ مُهَاناً؟ وَأنَا قَدْ فَعَلْتُ ذلِكَ كُلُّهُ، فَهَلْ تَجِدُ لِي فِيْهِ رُخْصَةً؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ﴾.
فَقََالَ وَحْشِي: هَذا شَرْطٌ شَدِيدٌ لاَ أقْدِرُ عَلَى هَذا، فَهَلْ غَيْرُ ذلَك؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ وَقَالَ وَحْشِي: وَإنِّي فِي شُبْهَةٍ فَلاَ أدْري أيُغْفَرُ لِي أمْ لاَ، فَهَلْ غَيْرُ ذلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ ﴿ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ﴾ فَجَاءَ وَحْشِي فَأَسْلَمَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَذِهِ لَهُ خَاصَّةً أمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ: " بَلْ لِلْمُسْلِمينَ عَامَّةً " ". معنى الآيةِ: قُل يا عبادِي الذي جاوَزُوا الحدَّ في المعاصِي بالكُفرِ والزِّنا والقتلِ ونحوِها: لا تيأَسُوا من رحمةِ اللهِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾؛ أي الصغائرَ والكبائرَ.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ﴾؛ لِمَن تابَ وآمَنَ.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾؛ بمَن تابَ على التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي ارجِعُوا إلى طاعةِ ربكم بالتوبةِ.
﴿ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾، واستَسلِمُوا له من قبلِ أن يأتيَكم العذابُ ثم لا تُمنَعون مما يرادُ بكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ ﴾؛ وهو القرآنُ.
﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾؛ وقتَ مجيئهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ ﴾؛ معناهُ: بَادِرْ واحذرْ من أنْ تقولَ نفسِي، أو حَذار من أن تصيرَ إلى حالةٍ تتحسَّرون فيها على التفريطِ فيما يُنَالُ به ثوابُ اللهِ، قال الفرَّاءُ: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ فِي جَنبِ ٱللَّهِ ﴾: هُوَ الْقُرْبُ؛ أيْ فِي قُرْب اللهِ وَجِوَارهِ). والمعنى: أنْ تقولَ نفسِي: يا حسرَتَا على ما فرَّطتُ في طلب جِوَار اللهِ وقُربهِ وهو الجنَّةُ، وقال عطاءُ: (مَعْنَاهُ: عَلَى مَا ضَيَّعْتُ مِنْ ثَوَابٍ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ ﴾؛ أي وما كنتُ إلاَّ من المستهزِئين القرآنِ والمؤمنين في الدُّنيا وبمَن دعَانِي إلى التوحيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي وخَوفاً أنْ تقولَ لو أنَّ الله نَجَّانِي من العذاب لكنتُ من جُملَةِ المتَّقين الشِّركَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ﴾، الموحدين.
﴿ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أو تقولَ حين ترَى العذابَ أو لِئَلاَّ تقولَ حين ترَى العذابَ: لو أنَّ لي رجعةً إلى الدُّنيا فأكون من الموحِّدين الْمُحسِنينَ. فيُقال لهذا القائلِ: ﴿ بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي ﴾؛ يعني القرآنَ؛ ﴿ فَكَذَّبْتَ بِهَا ﴾؛ أي قُلتَ: ليست من عندِ الله.
﴿ وَٱسْتَكْبَرْتَ ﴾؛ أي وتكبَّرتَ من الإيمانِ بها، وتعظَّمتَ عن الإقرار بذلك.
﴿ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾، وصرتَ من الجاحدِين لنِعَمِ اللهِ، فأصابكَ ما أصابكَ بجنايتِكَ على نفسِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾؛ أي وترَى يا مُحَمَّدُ يومَ القيامةِ الذين كذبُوا على اللهِ في قولِهم: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقولِهم: المسيحُ ابن اللهِ، وقولِهم: الملائكةُ بناتُ الله تعالى، وقولِ عبَدةِ الأصنامِ: مَا نعبُدهم إلاَّ ليقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفَى، ترَى هؤلاءِ تسوَدُّ وجوهُهم وتزرَقُّ أعينُهم. وقوله: ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾؛ تحقيقٌ وتقرير، والْمَثْوَى: هو الْمَنْزِلُ، والمتكبرُ: هو المتعَظِّمُ عن الإيمانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ ﴾؛ أي يُخَلِّصُهم من العذاب بفَوزهم الذي استحقُّوهُ بأعمالِهم، قال المبرِّدُ: (الْمَفَازَةُ: مَفْعَلَةٌ مِنَ الْفَوْز) وَهِيَ السَّعَادَةُ وإنْ جُمِعَ فَحَسَنٌ كَقَوْلِهِمْ السَّعَادَةُ وَالسَّعَادَاتُ، ويقرأ (بمَفَازَاتِهِمْ). وقولهُ: ﴿ لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ ﴾؛ أي لا يُصِيبُهم العذابُ.
﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾؛ لأنَّهم رَضُوا بالثواب.
قولهُ تعالى: ﴿ ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ ﴾؛ أي جميعِ ما في الدُّنيا والآخرةِ من شيءٍ فاللهُ خالِقهُ، وهو المستحقُّ للعبادةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾؛ أي الأشياءُ كلُّها موكلةٌ إليه، فهو القائمُ بحفظِها، المدبرُ لأمُورها، الكفيلُ بأرزاقِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي له خزائنُ السَّماواتِ والأرض، يفتَحُ الرزقَ على من يشاءُ ويغلقه، قال ابنُ عبَّاس: (الْمَقَالِيدُ الْمَفَاتِيحُ) وَاحِدُ الْمَقَالِيدِ مِقْلِيدٌ، كَمَا يُقَالُ مِنْدِيلٌ ومَنَادِيلُ، وقال الضحَّاكُ: (مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ خَزَائِنُهَا). ويجوزُ أن تكون المقاليدُ جمعَ الْمِقْلاَدِ، وهو مِفْعَالٌ من الْمِقْلاَدَةِ؛ أي هو مالكُ الخلقِ وله طاعتُهم وبيدهِ قلوبُهم. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾؛ معناهُ: والذين كفَرُوا بالقرآنِ هم الذين خَسِرُوا حتى صارُوا في النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ ﴾؛ وذلك أنَّ المشرِكين من قُريشٍ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أتُؤمِنُ ببعضِ آلهتنا ونؤمِنُ بإلَهِكَ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. والمعنى أتأمُرونَني أن أعبدَ غيرَ اللهِ أيُّها الجاهلونَ بالنعمةِ. قرأ نافعُ (تَأْمُرُونِي) بنونٍ واحدة خفيفة على التخفيف، وقرأ ابنُ عامرٍ بنُونَين على الأصلِ، وقرأ الباقون بنُونٍ واحدة مشدَّدة على الإدغامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾؛ أي ليَحبَطَنَّ عمَلُكَ الذي عَملتَهُ قبلَ الشِّركِ، وهذا أدبٌ من اللهِ لنَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم وتَهدِيدٌ لغيرهِ، لأنَّ الله قد عصمَهُ من الشِّركِ ومُدَاهَنَتِهِ الكفارَ. قوله تعالى: ﴿ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ ﴾؛ أي وَحِّدْ؛ لأن عبادتَهُ لا تصحُّ إلاّ بتوحيدهِ.
﴿ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ ﴾؛ لإنعامهِ عليكَ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾؛ أي ما عرَفُوا اللهَ حقَّ معرفتهِ، ولا عظَّموهُ حقَّ تعظيمهِ، إذ عبَدُوا الأوثانَ مِن دونهِ، وأمَرُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعبادةِ غيره. ثم أخبرَ عن عظَمتهِ فقالَ: ﴿ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ﴾؛ أي وجميعُ الأرضِ في مَقدُورهِ يومَ القيامةِ كالذي يقبضُ عليه القابضُ في قَبضَتهِ، وهذا كما يقالُ: فلانٌ في قبضةِ فلانٍ؛ أي تحتَ أمرهِ وقبضَتهِ، والقَبْضَةُ في اللغة: ما قَبَضْتَ عليهِ بجمعِ كفِّكَ، أخبرَ اللهُ تعالى عن قُدرتهِ فذكرَ أن الأرضَ كلَّها مع عَظَمتِها وكثافَتِها في مَقدُورهِ، كالشَّيء الذي يَقبضُ عليه القابضُ بكَفَّه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾؛ ذكرَ اليمينَ للمبالَغةِ في الاقدار، يعني أنَّهُ يَطوِيها بقُدرتهِ كما يطوِي الواحدُ منَّا الشيءَ المقدورَ له طَيُّهُ بيمينهِ، قال الأخفَشُ: (مَعْنَاهُ مَطْوِيَّاتٌ فِي قُدْرَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ؛ أيْ مَا كَانَتْ لَكُمْ عَلَيْهِ قُدْرَة وَلَيْسَ الْمُلْكُ لِليَمِينِ دُونَ الشِّمَالِ). وقد يُذكَرُ اليمينُ بمعنى القوَّة كما قالَ الشاعرُ: إذا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ   تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بالْيَمِينثُم نَزَّهَ نفسَهُ عن شِركهم فقالَ: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ قد ذكَرنا أن النفخةَ نفخَتان في قولِ أكثر المفسِّرين وبينَهما أربعون سَنة، فالنفخةُ الأُولى هي نفخةُ الصَّعقِ. والصعقُ: هو الموتُ بصيحةٍ شديدة حالَّةٍ هَائلةٍ، ومنها الصواعقُ وهي التي تأتِي بشدَّةِ الرَّعدِ، وعن عبدِالله بن عمر قالَ:" سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصُّور فَقَالَ: " قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيْهِ فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرَضِ "أي يَمُوتُونَ من الفزَعِ وشدَّة الصوتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ يعني الملَكَ الذي ينفخُ في الصُّور، ثم يُمِيتهُ اللهُ بعدَ ذلك، وقال الحسنُ: (يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ وَمَلَكَ الْمُوْتِ). وعن أبي هُريرة رضي الله عنه:" أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: " مَنِ الَّذِي شَاءَ اللهُ أنْ يَصْعَقَهُمْ؟ قَالَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أسْيَافَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ " ". عن أنسٍ ابن مالك قالَ:" سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: " جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ خُذْ نَفْسَ إسْرَافِيلَ، فَيَأْخُذُهَا؛ ثُمَّ يَقُولُ: خُذْ نَفْسَ مِيكَائِيلَ، فَيَأْخُذُهَا، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ يَا رَب تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مُتْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، فَيَمُوتُ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ بَقِيَ وَجْهُكَ الْبَاقِي الدَّائِمُ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ الْمَيِّتُ الْفَانِي، فَيَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ مُتْ، فَيَبْقَى سَاجِداً يَخْفِقُ بجَنَاحَيْهِ فَيَمُوتُ " ". وقال الضحَّاك: (مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ هُمْ رُضْوَانُ وَالْحُورُ وَمَالِكُ وَالزَّبَانِيَةُ)، وقالُ قتادة: (اللهُ أعْلَمُ بثَنْيَاهُ). وَقِيْلَ: هم عقاربُ النار وحيَّاتُها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ ﴾؛ يعني نفخةَ البعثِ.
﴿ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾؛ ماذا يقالُ لهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾؛ وأضاءَتِ الأرضُ يومئذٍ بعدلِ ربها، فسُمِّيَ العدلُ نُوراً كما سُمِّيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم نُوراً وسُمِّي القرآنُ نوراً. ويقالُ: إن نورَ الأرضِ العدلُ، كما أنَّ نورَ الدينِ العلمُ، وقال بعضُهم: يخلقُ اللهُ تعالى يومئذٍ نوراًً يُضِيءُ لأهلِ القيامة غيرَ الشمسِ والقمر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ ﴾؛ يعني صحائفَ الأعمالِ.
﴿ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (الْمُرَادُ بقَوْلِهِ ﴿ وَٱلشُّهَدَآءِ ﴾ هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ) وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقال عطاءُ: (يَعْنِي الْحَفَظَةَ) وقال السديُّ: (يَعْنِي الَّذِينَ اسْتُشْهِدُواْ فِي طَاعَةِ اللهِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي قُضِيَ بين الرُّسلِ والأُمم بالعدلِ.
﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾؛ أي لا ينقَصُ من حسناتِ أحدٍ ولا يزادُ في سيِّئات أحدٍ. قولهُ: ﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾؛ أي أُعطيت كلُّ نفسٍ بَرَّةٍ أو فاجرةٍ جزاءَ ما عمِلَتْ من خيرٍ أو شرٍّ.
﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾؛ وهو أعلمُ بفعِلهم، لا يحتاجُ إلى كاتبٍ ولا شاهدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً ﴾؛ وذلك أنَّهم يُسَاقُونَ إلى جهنَّم فَوْجاً فَوْجاً، الأوَّلُ فالأولُ، يُسَاقُ كفارُ كلِّ أُمة على حِدَةٍ، والزُّمَرُ: جماعاتٌ في تَفْرِقَةٍ بعضُها على إثْرِ بعضٍ، يُسَاقُونَ سَوْقاً عَنِيفاً، يُسحَبُونَ على وُجُوهِهم إلى جهنَّم.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾؛ عند مجيئِهم.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ ﴾؛ وهم الزَّبَانِيَةُ: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ ﴾، ويخوفونكم.
﴿ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا ﴾، اليوم.
﴿ قَالُواْ بَلَىٰ ﴾، أتونا بالرسالة.
﴿ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ ولكن وجَبتْ كلمةُ العذاب على الكافرين، فيقولُ لَهم الزبانيةُ: ﴿ قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ ﴾؛ ادخُلوا أبوابَ جهنَّم السبعةَ خالِدين فيها. ومعنى قولهِ ﴿ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ هو قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾[هود: ١١٩].
واختلفَ القُراء في قولهِ ﴿ فُتِحَتْ ﴾ فخفَّفها الكوفيُّون، وشدَّدها الباقون على التكثيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً ﴾؛ وذلك أنَّ المؤمنين يُنطَلَقُ بهم إلى الجنَّة فَوْجاً فوجاً بالتلطُّفِ والإكرامِ.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾؛ قال الأخفشُ: (هَذِهِ الْوَاوُ زَائِدَةٌ) وَالْمَعْنَى: فُتِحَتْ أبْوَابُهَا حَتَّى تَكُونَ جَوَاباً لِقَوْلِهِ ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا ﴾.
وقال الزجَّاجُ: (الْقَوْلُ عِنْدِي أنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: حَتَّى إذا جَاؤُهَا وَفُتِحَتْ أبْوَابُهَا وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ خَزَنَتُهَا سَارُوا إلَى السَّعَادَةِ وَوَصَلُواْ إلَى مَقْصُودِهِمْ). وَقِيْلَ: هذه الواوُ واوُ الحالِ تقديرهُ: حتى إذا جاؤُها وَقد فُتحت أبوابُها، وأدخل الواو ها هنا لبيانِ أنَّها قد كانت مفتَّحةً قبل مجيئِهم، وحذفَها من الآية الأُولى لبيانِ أنَّها قد كانت مُغلقةً قبلَ مجيئهم. ويقالُ: زيدَتِ الواوُ ها هنا لأن أبوابَ الجنَّة ثمانيةٌ وأبوابَ جهنَّم سبعةٌ فزيدت الواوُ فَرْقاً بينهما. وحُكي عن أبي بكرِ بن عيَّاش: (أنَّهَا تُسَمَّى وَاو الثَّمَانِيَةِ) وَذلِكَ أنَّ مِنْ عَادَةِ قُرَيْشٍ أنَّهُمْ يَعُدُّونَ الْعَدَدَ مِنَ الْوَاحِدِ إلَى الثَّمَانِيَةِ، فَإذا بَلَغُواْ الثَّمَانِيَةَ زَادُوا فيهَا الْْوَاوَ، فَيَقُولُونَ: خَمْسَةٌ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ﴾[الحاقة: ٧]، وَقَالَ اللهُ﴿ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ﴾[التوبة: ١١٢] فَلَمَّا بَلَغَ الثامن﴿ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ﴾[التوبة: ١١٢]، وَقَالَ تَعَالَى﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾[الكهف: ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾[التحريم: ٥].
وَقِيْلَ: زيادةُ الواوِ في صفة الجنَّة علامةٌ لزيادةِ رحمةِ الله تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ طِبْتُمْ ﴾ أيْ طَابَ لَكُمُ الْمُقَامُ)، وَقِيْلَ: معناهُ ظَفرتُم بصالحِ أعمالكم وكنتم طيِّبين في الدنيا. وَقِيْلَ: طابت لكم الجنَّة فادخلُوها خالِدين. فلما دخَلُوها ﴿ وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾، أي أنْجَزَنا وعدَهُ.
﴿ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ ﴾، وأنزلنا أرضَ الجنَّة.
﴿ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ﴾؛ أي نتَّخذُ فيها من المنازلِ ما نشاءُ، لقولِ الله تعالى ﴿ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ ﴾؛ أي نِعمَ ثوابُ العاملين للهِ في الدُّنيا الجنَّةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ ﴾؛ أي مُحَدِّقِينَ حولَ العرشِ مُحِيطيِنَ به.
﴿ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾؛ إجْلاَلاًَ لعظَمتهِ.
﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾؛ الخلائقِ.
﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي بالعدلِ وانتصفَ بعضُهم من بعضٍ.
﴿ وَقِيلَ ﴾، ويقالُ لهم بعد الفراغِ: ﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى ابتدأ خلقَ الأشياءِ بالحمدِ فقالَ:﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾[الأنعام: ١] فلمَّا بعثَ الخلقَ واستقرَّ أهلُ الجنَّة في الجنةِ، وأهلُ النار في النار، ختمَهُ بقولهِ: ﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾.
Icon