ﰡ
(١) - اللهُ أَعْلَمُ بِمُرادِهِ.
(٢) - إِنَّ هذا القُرآنَ الكَريمَ أَنزَلَهُ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ العَزِيزُ القَاهِرُ لِكُلِّ شَيءٍ، الحَكِيمُ في خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ وَتدْبِيرِهِ.
(٣) - وَقَدْ خَلَقَ اللهُ العَزِيزُ السَّماواتِ والأَرضَ وَمَا فِيهنَّ مِنْ أَشياءَ باهرةٍ، بَدِيعٍ دَقِيقٍ، وَأَوْجبَ عَلَى خَلْقِهِ أن يَتَمعَّنُوا في هذا الخَلقِ العَظِيمِ البَدِيعِ، لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى وُجُودِ الخَالِق وَعَظَمتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَلَى أَنَّ هذا الخَلْقَ لم يُخْلَقْ عَبَثاً، وَإِنَّما خُلِقَ بِالحَقِّ، لِحِكْمَةٍ يَعْرِفُها وَيَقَدِّرُهَا اللهُ تَعَالى وَحْدَهُ، والمُؤمِنُونَ هُمْ وَحْدَهُمْ الذِينَ يُفَكِّرُونَ في هذا الخَلْقِ، وَيَتَوَصَّلُون بِفِكْرِهِمْ إِلى الإِيمانِ بِخَالِقِه.
(٤) - وَإِنَّ في خَلْقِ اللهِ النَّاسَ عَلَى أَطْوارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وفي أَحسَنِ صُورةٍ وَتَقويمٍ، وفي خَلْقِ الحَيوانَاتِ والدَّوابِ... لأَدِلَّةً وَبَرَاهِينَ عَلَى وُجُودِ الخَالِق، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، لِقُومٍ يَتَفَكَّرُونَ في هذا الخَلْقِ فَيُؤْمِنُونَ بِوُجودِ خَالِقِهِ إِيماناً يَقِيِنيّاً.
يَبُثُّ - يَنْشُرُ وَيُفَرِّقُ.
(٥) - وَإِنَّ في تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الخَلْقِ، وَتَقَارُضِهِما الطُّولَ والقِصَرَ، وَفِيمَا أَنزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ مَطَرٍ مِنَ السَّماءِ تَحيَا بِهِ الأَرضُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيَخْرُجُ بِهِ فِيها مِنَ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُجدِبَةً يَابِسَةً، وَفي تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَتَوْجِيهِهِا إِلى الجهَاتِ المُخْتَلِفَةِ... ِإنَّ في ذلِكَ كُلِّهِ لأَدِلَّةً وَحُجَجاً للهِ عَلَى خَلْقِهِ، بِأَنَّهُ لم يَخْلُقهُمْ عَبَثاً وَبَاطِلاً، وَإِنَّما خَلَقَهُم لِيَعْبُدُوهُ.
تَصرِيفِ الرِّيَاحِ - تَقْلِيبِها في مَهَابِّها وَأَحْوالِها.
(٦) - هذِه آياتُ القُرآنِ، بِمَا فِيها مِنَ الحُجَجِ وَالبَيِّنَاتِ، نَتلُوهَا عَلَيكَ وَهِيَ مُتَضَمِّنةٌ الحَقَّ، فإِذا كَانُوا لا يُؤْمِنُون بِها، وَلاَ يَنْقَادُونَ إِليها، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ، وَبِأَيَّةِ آيةٍ وَحُجَّةٍ يُؤْمِنُ هَؤُلاءِ وَيُصَدِّقونَ، بَعْدَ حَدِيثِ اللهِ، وَبَعْدَ حُجَجِهِ وَبَراهِينهِ وَآيَاتِهِ؟
وَيْلٌ - هَلاَكٌ وَحْسَرَةٌ وَشِدَّةُ عَذَابٍ.
أَفَّاكٍ أثيمٍ - كَذَّابٍ كَثِيرِ الإِثْمِ.
(٨) - يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُقرأُ عَلَيهِ ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى كُفرِهِ، وَجُحُودِهِ، عِنَاداً واسْتِكْباراً، كَأَنَّهُ لَم يَسْمَعْها. فَأَخْبِرْهُ يَا أَيَّهُا الرَّسُولُ، بِأَنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ، يَومَ القِيَامَةِ عَذَاباً مُوجِعاً أَلِيماً.
(٩) - وَإِذا وَصَلَ إِلى هذا الجَاحِدِ العَنيدِ المُسْتكْبِر، خَبَرُ شيءٍ من آياتنا، جَعَلَها هُزواً وسُخْرِيةً. وهؤلاءِ الأَفّاكُونَ الآثِمُونَ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ التي وَرَدَتْ في الآيتينِ السَّابِقَتينِ لَهُمْ عَذَابٌ في نَارِ جَهَنَّمَ مُذِل مهِينٌ، جَزاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهم وَاسْتِهزائِهِمْ بِالْقرآنِ، واستِكبَارِهِمْ فِي الأَرضِ.
(هذهِ الآيةُ نَزَلَتْ في أبي جَهْلِ، فَحِينَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ الكَريمَ ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم﴾ دَعَا أَبْو جَهْلِ بِتَمْرٍ وَزبدٍ، وَقَالَ لأَصْحَابِهِ: تَزَقَّمُوا مِنْ هذا، مَا يَعِدُكُمْ مُحَمَّدٌ إِلاَّ شَهْداً. وَحِينَ سَمِعَ قَولَه تَعَالَى ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ أَيْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: (إِنْ كَانُوا تِسْعَةَ عَشَر فَأَنَا أَلقاهُمْ وَحْدي).
(١٠) - وَسَيَصِيرُون فِي الآخِرةِ إِلى نَارِ جَهَنَّمَ التي تَنْتَظِرُهُمْ، وَلَنْ تُغنَي عَنْهُمْ أَوْلاَدُهُم وَلاَ أَمْوالُهُمْ التي كَسبُوها في الحَياةِ الدُّنيا، ولنْ تُفِيدَهُم الآلهةُ التِي عَبَدُوها، مِنْ دُونِ اللهِ شيئاً، وَسَيُعَذَّبُونَ عَذَاباً أليماً لا يُقدَّرُ قَدرُهُ.
لا يُغْنِي عَنْهُمْ - لاَ يَدفَعُ عَنْهُمْ.
(١١) - هذا القُرآنُ، الذِي أَنزلَهُ اللهُ تَعَالى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، هُوَ هُدًى يَهدِي إِلى الحَقِّ، وإِلى صِراطِ اللهِ المُستَقِيمِ. والذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ، التِي أَنزَلَها عَلَى رُسُلِه، لَهُم في الآخِرةِ العَذَابُ الأَليمُ المُوجعُ.
رِجْزٍ - أَشَدِّ العَذَابِ.
(١٣) - وسَخَّرَ اللهُ تَعَالَى لِعِبادِهِ ما في السَّماواتِ مِنْ نُجومٍ وَكَواكِبَ، وَمَا في الأَرضِ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَدَوابَّ وَأَشْجَارٍ، وَنَباتَاتٍ، وَريَاحٍ، وَأَمْطَارٍ.. لِتَقُومَ بِهِ مَعَايِشُهُمْ وَمَصَالِحُهُمْ، وَفي كُلِّ ذلكَ آياتٌ تدلُّ أَصْحَابَ العُقولِ السَّليمةِ عَلَى أَنَّ الخَالِقَ الرَّازِقَ، المُسَخِّرَ لِكُلِّ ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.
(١٤) - يَأْمرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ - وَكَانَ ذَلِكَ في بَدْءِ أَمرِ الإِسْلامِ - بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أَذى المُشْرِكِينَ، وَأهْلِ الكِتَابِ، الذِينَ لاَ يَخَافُونَ عَذَابَ اللهِ وَنِقَمَهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَألُّفاً لِقًُلُوبِهِمْ، فَإِذَا صَفَحُوا عَنْهُمْ فِي الدُّنيا، فَإِنَّ اللهَ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
ثُمَّ لمَّا اسْتَمَرَّ هؤلاءِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، شَرَعَ اللهُ تَعَالى الجِهَادَ لِلْمُؤمِنين، وَدَفْعَ الأَذى عَنْ دِينِهِمْ وَعَنْ أَنفُسِهِمْ.
" وَرَوَى ابنُ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هذِهِ الآيةِ هُوَ أَنَّ يَهُودِياً اسمُهُ فَنْحَاصُ سَمِعَ قَولَ اللهِ تَعالى ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾. فًقالَ اليَهُودِيُّ: أَحتَاجَ رَبُّ محمَّدٍ؟ فََلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ذَلِكَ استَلَّ سَيْفَهُ، وَخَرَج في طَلَبِ اليَهُودِيِّ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، عََلَيهِ السَّلامُ، بِهذِه الآيةِ إِلى رَسُولِ اللهِ، فأرسَلَ الرَّسُولُ يَطْلُبُ عُمَرَ، فَلَمَّا جَاءَهُ أَمَرَهُ بِوَضْعِ سَيفِهِ "
لاَ يَرجُونَ أَيَّامَ اللهِ - لاَ يَتَوقَّعُونَ وَقَائِعَهُ بِأَعْدَائِهِ.
(١٥) - مَنْ عَمِلَ مِنْ عِبَادِ اللهِ عَمَلاً صَالِحاً يُرضِي اللهَ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، لأَنَّ عَلَيهَا وَحْدَها تَعُودُ عَاقِبةُ عَمَلِه، وَاللهُ تَعَالى غَنيٌّ عَنْ عَمَلِ العِبَادِ. وَمَنْ أَسَاءَ العَمَلَ في الدُّنيا، وَعَصَى رَبَّه، واسترسَلَ في كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ، فَإِنَّ مَضَرَّةَ ذَلكَ تَعُودُ عليهِ، ثُمَّ يَصيرُ الخَلْقُ جميعاً إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُحَاسِبُ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْراً فَخَيراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً.
(١٦) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ إِنزَالِ الكُتُبِ عَلَيهم، وَإِرسَالِ الرُّسُلِ إِليهِم، وَمِنْ جَعْلِهِ المُلْكَ فِيهِمْ، وَمِنْ رِزْقِهِ إِيَّاهُمْ طَيِّباتِ المآكِلِ وَالمَشَارِبِ، وَمِنْ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ في أُمَّةٍ منَ الأَنبياءِ مِثْلُمَا كَانَ فِيهِمْ.
(١٧) - وَقَدْ آتَاهُمُ اللهُ تَعَالَى أَحْكَاماً وَمَوَاعِظَ مُؤيِّدَةً بِالمُعْجِزاتِ، وَهذا يَسْتَدعِي أُلْفَتَهُمْ واجتِماعَهُمْ، وَلكِنَّهُم لَمّا جَاءَهُمُ العِلْمُ اخْتَلَفُوا. وَكَانَ سَبَبَ اختِلافِهِمُ الحَسَدُ، والاعتِداءُ، وَالتَنَافُسُ على الرِّئاسَةِ. وَربُّكَ يا محمَّدُ يَقْضي يَومَ القِيَامةِ بَينَ هؤُلاءِ المختَلِفينَ مِنْ بَني إِسرائيلَ فِيما كَانُوا يَختَلِفُونَ فيهِ في الدُّنيا.
(وفي هذَا تَحذيرٌ للمُسلِمينَ مِنْ أَنْ يَخْتَلِفُوا كَمَا اختَلَفَ بَنُوا إِسرائيل) بَغْياً بَينَهُمْ - حِسَداً وَعَدَاوةً.
(١٨) - لَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ يَا مُحمَّدُ، بَعْدَ اختِلافِ أَهلِ الكِتَابِ، عَلَى مِنهَاجٍ وَاضِحٍ مِنْ أَمْرِ الدِّين شَرَعَهُ لَكَ، ولمنْ قَبلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، فاتَّبعْ مَا أَوْحى إِليكَ رَبُّكَ، وَلا تَتَّبعْ مَا دَعَاكَ المُشرِكُونَ الجَاهِلُونَ إِليهِ مِن عِبَادةِ آلهتِهم، فَهؤلاءِ لا يَعلَمُونَ طَرِيقَ الحقِّ.
شَريعةٍ مِنَ الأَمرِ - طَرِيقَةٍ وَمِنهَاجٍ مِنْ أمرِ الدِّينِ.
(١٩) - وهؤُلاءِ الجَاهِلُونَ لاَ يَدْفَعُونَ عَنْكَ شَيئاً ممّا أَرادَهُ اللهُ بِك إِنِ اتَّبعْتَ أَهْوَاءَهُمْ، وَتَرَكْتَ شَرْعَ رَبِّكَ. والكَافِرونَ يَتَولَّى بَعْضُهُمْ بَعْضاً في الدُّنيا، وَيُظَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، أَمَّا في الآخِرةِ فلا يُغني أَحَدٌ عنْ أَحَدٍ شَيئاً. أَمَّا المُتَّقُون المهتَدُون فإِنَّ اللهَ وَليُّهُم يَنْصُرُهُم وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ.
لَن يُغْنُوا - لَنْ يَدْفَعُوا عَنْكَ.
(٢٠) - إِنَّ هذا القُرآنَ هُدى ودَلائِلُ للنَّاسِ فِيمَا يحتَاجُونَ إِليهِ في أَمرِ دِينِهم، وَهُوَ بَيِّنَاتٌ تُبَصِّرُهُم، وَتُعَرِّفُهُم بِواجِبَاتِهِمْ نَحْوَ رَبِّهمْ، وَهُوَ هُدًى يَهدِيهم إِلى مَا فيهِ خَيرهُمُ وَصَلاحُ أمرِهِم، وَفيهِ الرَّحمةُ لِقومٍ يُوقِنُونَ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ العَالمينَ.
بَصَائِرُ للنَّاسِ - بَيِّنَاتٌ تُبَصِّرُهُمْ سَبيل الفَلاَحِ.
(٢١) - أيَظُنُّ الذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، وَاكتَسَبُوا الآثَامَ وَالمَعَاصِيَ في الدُّنيا، فَكَفُروا باللهِ، وكَذَّبوا رسُلَهُ، وخَالَفُوا أوامِرَه.. أَن يُسَاوِيَهُمُ اللهُ بالذِينَ آمنُوا بِهِ، وَصَدَّقوا رُسُلَه، وَعَمِلُوا الأَعمالَ الصَّالحةَ في الدُّنيا؟ إِن اللهَ تَعَالى لا يُسَاوِي بَينَ هؤُلاءِ وَهؤُلاءِ في الدُّنيا، وَفي رَحمةِ اللهِ ورِضْوانِهِ في الآخِرةِ. وَجَعَلَ اللهُ الكَفَرَةَ الفَجَرةَ في ذُلِّ الكُفْرِ وَالمَعَاصي في الدُّنيا، وفي لَعْنَةِ اللهِ وَعَذَابِهِ الخَالِدِ في نَارِ جَهنَّمَ في الآخِرَةِ، فَشَتَّانَ مَا بينَ هؤلاءِ وَهؤلاءِ، وَسَاءَ مَا ظَنَّهُ، وَمَا قَدَّرَهُ هؤُلاءِ المُجرِمُونَ، تَعَالى اللهُ مِنْ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ بِالمُؤْمِنينَ الأَطْهَارِ.
اجترَحُوا السَّيئَاتِ - اكتَسَبُوا الكَفْرَ والمَعَاصِي.
(٢٢) - لَقَد خَلَقَ اللهُ تَعَالى السَّماواتِ والأَرضَ بِالحقِّ والعَدْلِ، وَلَم يَخْلُقْهُما لِلْعَبثِ واللهُوِ، وَمِنَ العَدْلِ أَنْ لاَ يُسَوِّيَ في المُعَامَلَةِ بَينَ الكَفَرَةِ المُجْرِمين، وَبَينَ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَاللهُ تَعَالَى يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِأَعْمَالِها، وَلاَ يَظْلِمُ أَحداً شَيئاً، فَلا يَحْمِلُ عَلَى نَفْسٍ مَا لم تَعْمَلْهُ مِنْ سُوءٍ، وَلاَ يُنْقِصُهَا أجرَ عَمَلٍ عَمِلَتْهُ.
(٢٣) - أَفَلا تَرَى إِلى حَالِ هذا الذِي اتَّبعَ هواهُ، وَأَتبَعَ نَفْسَهُ هَوَاها، فَلا يَهوَى شَيْئاً إِلا فَعَلَه، لاَ يَخَافُ رَبّاً، وَلا يَخشَى عِقَاباً، وَأَضَلَّهُ اللهُ فَلَمْ يَجْعَلْهُ يَسْلكُ سَبيلَ الرَّشَادِ، لأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّه لا يَهْتَدِي وَلَو جَاءَتْهُ كُلُّ آيةٍ.
وَخَتَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى سَمْعِهِ فَأَصْبَحَ لاَ يَتَأَثَّر بما يُتلى عَلَيهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَخَتَم عَلَى قَلبِهِ فَلَم يَعُدْ يُبصِرُ حُجَجَ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلَمْ يَعُدْ يَنْتَفِعُ بِها. فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أن يُوَفِّقَ مِثْلَ هذَا الضَّالِّ، الخَاضِعِ لهوَاهُ، إِلى الهُدَى، وَإِصَابَةِ الحقِّ إِنْ لم يَهدِهِ اللهُ، أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ وَتُدْرِكُونَ؟
أَفَرأَيْتَ - أَخْبرنِي.
غِشَاوَةً - غَطَاءً حَتَّى لاَ يُبْصِرَ.
(وَجَاءَ في الحَدِيثِ: " يَقُولُ تَعَالى يُؤْذِيني ابنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنا الدَّهْرُ، بِيَدي الأَمرُ أقلَّبُ ليلَهُ وَنَهارَهُ ").
(وَفي رِوَايةٍ: " لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالى هُوَ الدَّهرُ "). (أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
(٢٥) - وَإِذا قُرئَتْ عَلَى هؤلاءِ المُشْرِكِينَ آيَاتُ القُرآنِ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ البَعْثَ حَقٌّ، وأَنَّ الله سَيُعِيدُ خَلْقَ العِبَادِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُم عَلَى أعْمالِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الأَبدَانِ بَعْدَ فَنَائِها إِلى مَا كَانَتْ عَلَيهِ، فإِنَّ هؤُلاءِ المُشْرِكِينَ لاَ يَجِدُونَ حُجَّةً يَدْحَضُونَ بِها ذلِكَ إِلاَّ قَوْلَهُمْ: إِذَا كَانَ مَا تَقُولُونَهُ حَقّاً، فَابعَثُوا لَنَا آباءَنا الأَوَّلِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَأَعِيدُوهُمْ إِلى الحِيَاةِ حَتَّى نُصَدِّقَ مَا تَقُولُونَ.
(٢٦) - فَقُلْ يَا أَيُّها الرَّسُولُ لِهؤلاءِ المُشْرِكينَ، المُنكِرينَ لِوُقُوعِ البَعْثِ وَالمَعَادِ، والحِسَابِ والجَزَاءِ، عَلَى الأَعْمَالِ... إِنَّ اللهَ هُوَ الذي أَحْيَاكُمْ وأَخْرَجَكُمْ إِلى الوُجُودِ مِنَ العَدَمِ، وَسَتَعِيشُونَ مَا قُدِّرَ لَكُمْ مِنْ حَيَاةٍ، ثُمَّ إذا انقَضَتْ آجَالُكُمْ أَمَاتَكُمْ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُحْييكُمْ وَيحشُرُكُمْ إِليه جَميعاً يَومَ القِيَامةِ. وَيوْمُ القِيامَةِ آتٍ لاَ شَكَّ فيهِ وَلا رَيبَ، وَلا شَكَّ وَلا رَيبَ في نَشْرِكُمْ وَحَشْرِكُم إِلى رَبِّكُم لِيُحَاسِبَكُمْ عَلَى أَعمالِكُم، وَلكِنَّ أَكثرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُدْرةَ اللهِ وَلِذلِكَ فَإِنَّهُم يُنْكِرُونَ البَعْثَ، وَيَسْتَبعِدُونَ عَوْدَةَ الأَجْسَادِ إلى الحِيَاةِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ تُراباً.
(٢٧) - وَاللهُ تَعَالى هُوَ مَالكُ السَّماواتِ والأَرضِ، وَهُوَ الحَاكِمُ فيهما في الدُّنيا والآخِرةِ، وَلا تَملِكُ الأَصْنَامُ والأَوثانُ والأندادُ شيئاً. وَيومَ تقومُ السَّاعةُ يَبْعَثُ اللهُ الخَلاَئقَ مِن القُبُورِ، ويحشُرُهُمْ إِليهِ، وَحينئذٍ يُدركُ الكَافِرُونَ، المُنكِرُونَ لِلْبَعْثِ، أَنَّهُم قَدْ خَسِروا خُسراناً مُبيناً بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ كُتًُبَهُ وَرُسُلَهُ.
(٢٨) - وفِي اليَومِ الذِي تَقُوُمُ فيهِ السَّاعةُ، تَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثيةً عَلَى رُكَبِهَا، مِنْ شِدِّةِ الهَوْلِ في ذَلِكَ اليَومِ، وَتُدْعَى كُلُّ أُمَّةٍ إِلى كِتابِ أَعمالِها الذِي أودعَ فيهِ الملائِكةُ الكَاتِبونَ أعمالَ الخَلائقِ، وَيُقالُ لَهُمْ: هذِه هيَ أعمالُهُم في الحيَاةِ الدُّنيا، وَسَيُجْزَونَ بِها.
جَاثِيةً - بَارِكَةً عَلَى الرُّكَبِ، لِشِدَّةِ الهَوْلِ.
كِتَابِها - صَحَائِفِ أعمالِها.
(٢٩) - وَيُقَالُ لَهُمْ: هذا هُوَ كِتَابُنَا الذِي سَجَّلْنا فِيهِ جَميعَ أعْمالِكُم في الحَيَاةِ الدُّنيا، مِنْ غَير زِيَادَةٍ ولا نُقْصَانٍ، وَقَدْ أَمَرْنا الملائكَةَ الحَافِظِينَ بِنَسْخِ أَعْمَالِكُمْ وَإِثباتِها في صَحَائِفِكُمْ، فَهُوَ وَفْقَ مَا عَمِلْتُم بالضَّبْط.
نَسْتَنْسِخُ - نَأْمُرُ المَلائِكَةَ بِنسخٍ.
(٣٠) - فَأَمَّا الذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُم، وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُم الأَعْمَالَ الصَّالحةَ، فإِنَّ اللهَ يُكَافِئُهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بأَنْ يُدْخِلَهُمْ الجَنَّةَ، والظَّفْرُ بِدُخُولِ الجَنَّةِ فَوْزٌ عَظِيمٌ لا يَعْدِلُهُ فَوْزٌ.
(٣١) - وأَمَّا الذِين كَفَروا، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وأَنكَرُوا كُتَبَه وَشَرْعَهُ فَيُقالُ لَهُم، عَلَى سَبِيلِ التَّقريعِ والتَّوبيخِ: ألم تَكُنْ رُسُلُ رَبِّكُم يَتلُونَ عَلَيكم آيَاتهِ فَكُنْتُم تَستَكبِرُونَ عَنِ الإِيمَانِ بِها، وَكُنتمُ قَوْماً مُجرِمِينَ في أَفعالِكُمْ.
(٣٣) - وَظَهَرَتْ لَهُم في ذلِكَ المَوقِفِ قَبَائِحُ أَعْمَالِهِمْ، وَأَحَاطَ بِهِم العَذَابُ الذِي كَانُوا يَسْخَرونَ مِنهُ، وَيَسْتَهزِئُونَ بهِ، وَيَسْتَبعِدُونَ وَقُوعَهُ حاقَ بِهِمْ - نَزَلَ بِهِمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ.
(٣٤) - ويُقَالُ لَهُم: إِنَّكُمْ نَسِيتُم لِقَاءَ هذا اليَومِ فَلَمْ تَعْمَلُوا لَهُ عَمَلاً يَنْفَعُكُم، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ سُبَحَانَهُ وَتَعَالى سَيُدْخِلُكُمُ النَّارَ لِيُجَازِيَكُمْ عَلَى أَعمالِكُمُ السَّيِّئةِ، وَسَيَنْساكُم فِيها لِتَخلُدُوا في العذَابِ، كَما نَسِيتُمْ أَنَّكُمْ ستُحْشَرُونَ إِلى اللهِ، وأَنَّكُمْ سَتُلاَقُونَهُ في هذا اليَومِ الشَّدِيدِ الهَولِ، وَلَنْ تَجِدُوا مَنْ يُنْقِذكُمْ مِنْ هذا العَذَابِ.
نَنْسَاكُمْ - نَتْرُكُكُمْ في العَذَابِ.
مَأْوَاكُمُ النَّارُ - مَنْزِلُكُمْ وَمَقَرُّكُمْ
(٣٥) - ويُقالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقريعِ والتَّوبيخِ: إِنَّ الذِي حَلَّ بِكُمْ مِنْ عِذَابِ اللهِ إِنَّما سَبَبُهُ أَنَّكُم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ مَوْضُوعاً لِلْهُزْءِ والسَّخْريَةِ، وَخَدَعَتْكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا فَاطْمَأْنَنْتُمْ إِليها، فأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرينَ، فَاليَومَ لا تُخْرَجُونَ منَ النَّارِ، ولا تُرَدُّونَ إِلى الدُّنيا لِتَتُوبُوا وَتَعْمَلُوا صَالحاً. وَلا يُطَلبُ مِنْهُمْ في ذَلِكَ اليَومِ أَنْ يَسْتَرْضُوا رَبَّهم الكَرِيمَ بالاعْتِذارِ إِليهِ لِيُزيلُوا عَتَبَهُ عَلَيهِمْ، لِفَواتِ أَوانِ ذَلِكَ.
غَرَّتْكُمْ - خَدَعَتْكُم بِبَهْرَجِها.
يُستَعْتَبُونَ - يُطْلَبُ مِنْهُم الرُّجُوعُ إِلى مَا يُرْضِي اللهَ.
(٣٦) - فَلِلَّهِ الحَمْدُ والثَّنَاءُ عَلَى أَنْعُمِهِ وَأَفْضَالِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، وَخَالِقُهُما وَمَالِكُهُما، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ في هذا الوُجُودِ.
(٣٧) - وَلِلهِ العظِيمِ وَحْدَهُ الجَلاَلُ والسُّلْطَانُ، فِي السَّمَاواتِ والأَرضِ، وَكُلُّ شَيءٍ خَاضِعٌ لَهُ، فَقِيرٌ إِليهِ، وَهُوَ العَزِيزُ الذِي لا يُمَانَعُ ولا يُغَالَبُ، وَهُوَ الحَكِيمُ في أَفْعَالِهِ وَأَقْوالِهِ.
لَهُ الكِبْرِيَاءُ - لَهُ العَظَمَةُ وَالمُلْكُ وَالجَلاَلُ.