تفسير سورة عبس

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة عبس من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة عبس
وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية، وقد تكلمت عن قصة ابن أم مكتوم، مع بيان أن القرآن تذكرة فمن شاء فليتعظ به، ثم بينت أصل الإنسان ونشأته، ولفتت نظره إلى طعامه وشرابه لعله يتعظ، ثم لم تهمل الحياة الآخرة وما فيها.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ٣٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤)
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩)
وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
822
المفردات:
عَبَسَ العبوس: تقطيب الوجه من الألم. وَتَوَلَّى: أعرض.
الْأَعْمى: هو ابن أم مكتوم. يَزَّكَّى: يتطهر من الذنوب.
الذِّكْرى: الموعظة. اسْتَغْنى أى: عن الإيمان بالله. تَصَدَّى: أصله تتصدى، أى: تترصد له بالموعظة. يَسْعى: يسرع في طلب الخير بجد.
تَلَهَّى: أصله تتلهى، أى: تنشغل عنه. تَذْكِرَةٌ: موعظة.
صُحُفٍ: جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه. سَفَرَةٍ: جمع سافر، وهو الوسيط بين جماعتين ليصلح ما بينهما. بَرَرَةٍ: جمع بار، وهو من لم يقترف إثما.
فَقَدَّرَهُ: هيأه لما يصلح له. أَنْشَرَهُ المراد: أحياه. وَقَضْباً: كل ما يأكله الإنسان قضبا، أى: غضا طريّا كالبقول. غُلْباً: ملتفة الأغصان.
أَبًّا المراد به: الكلأ والمراعى.
روى أن ابن أم مكتوم، ابن خال خديجة بنت خويلد- وكان أعمى- جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يسأله قراءة القرآن، وتعليمه مما علمه الله، وكان عند النبي رهط من زعماء قريش كعتبة بن ربيعة، وأخيه شيبة، وأبى جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم، والنبي مشغول بدعوتهم إلى الإسلام وبتذكيرهم بالله وباليوم الآخر، وكان صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان هؤلاء ثقة منه بأن إسلامهم سيجر غيرهم من أتباعهم.
فلما جاء ابن أم مكتوم وناداه قائلا: يا رسول الله: أقرئنى القرآن، وعلمني مما علمك الله، وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك كره ذلك منه النبي وعبس في وجهه وقطب، وأعرض عنه
فنزلت هذه الآيات تعاتب النبي عتابا رقيقا على تركه الفقير الأعمى الذي جاء يسأل ويزداد علما ونورا، وعلى توجهه إلى الأغنياء الأقوياء، وفي هذا كسر لقلوب الفقراء، فلدفع هذا عوتب الرسول على عبوسه في وجه الفقير الأعمى.
أليس في هذا العتاب الصريح دليل للمنصف على أن هذا الرسول صادق في كل ما يبلغه عن ربه، وأن هذا القرآن من عند الله لا من عنده؟
823
عبس النبي وأعرض بوجهه لأن جاءه الأعمى، وهو ابن أم مكتوم، جاءه وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك، فعاتبه الله على ذلك قائلا: وما يدريك لعله يتطهر بما يسمعه منك ويتلقاه عنك من الوحى، نعم أى شيء يعلمك بحال هذا السائل لعله يتطهر أو يتعظ فتنفعه موعظتك؟
التفت الله إلى رسوله الكريم معاتبا لائما قائلا ما معناه: إن ما صدر منك كان على هذا التفصيل: فالذي استغنى عن الإيمان بالله وعن طاعته وطاعة رسوله، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق وعن استماع النصيحة فأنت تتعرض له، وتشغل نفسك بوعظه، وأما من جاءك طالبا الهداية خائفا من الله، فأنت عنه تتلهى وتشتغل عنه بسواه، وهذا عتاب للنبي وإنكار لهذا العمل، مع أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ، فمن ركب رأسه، واغتر بدنياه، وأغفل آخرته، وظن أنه غنى عن هداية الله فليس على الرسول عيب ولا لوم في بقائه على حالته.
ثم لما ذكر الله هذه الحادثة أعقبها ببيان وظيفة الرسول وعمله وأن هذه الرسالة التي أرسل بها الرسول ليست محتاجة إلى حيلة ولا موعظة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى ذلك فلست أيها الرسول في حاجة إلى الإلحاح على هؤلاء ليؤمنوا.
كلا.. إنها- آيات القرآن- تذكير ووعظ، لمن غفل عن الله فمن شاء ذكره واتعظ به فليفعل، ومن لم ينفعه وعظه فقد جنى على نفسه.
ثم إن الله تعالى وصف هذه التذكرة بأوصاف تدل على عظم شأنها، فقال: إنها مودعة وثابتة في صحف عالية مكرمة مشرفة، مرفوعة مطهرة عن النقص والعيب، لا تشوبها شائبة خلل في أية ناحية من النواحي، وقد أتت بأيدى ملائكة سفرة بين الله وبين الخلق، وهم كرام على الله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء ٢٦] وأبرار وأطهار، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
فهذا هو حال القرآن جاء تذكرة وموعظة، وكان بالمنزلة العالية المرفوعة المطهرة وجاء على أيدى ملائكة أمناء كرام بررة، فهل يعقل بعد هذا أن يكفر به عاقل؟! قتل الإنسان! ما أشد كفره! وما أفظعه! أفلا ينظر إلى نفسه من أى شيء خلق؟
إنه خلق من نطفة قذرة، ثم كان خلقا سويا قد قدره الله وهيأه ليقوم بما يكلف به،
824
وليؤدى رسالته في عمارة الكون ثم قد هداه الله إلى الخير والشر بما أودع فيه من عقل وغرائز، وبما أرسل له من رسل وكتب، ألا ترى أن الله هداه السبيلين، ثم بعد ذلك أماته فجعل له قبرا يواريه، ثم إذا شاء بعد ذلك أحياه للحساب، فانظر إلى مبدئك ومنتهاك.
كلا أيها الإنسان: ارتدع عما أنت فيه، وثب إلى رشدك وارجع إلى ربك فأنت لم تقض ما أمر به ربك، ولم تعرف ما طلب منك.
إذا كان الأمر كذلك فلينظر الإنسان إلى طعامه كيف يكون؟ ألم يروا أن الله أنزل من السماء ماء وصبه على الأرض صبا، ثم شق الأرض بالنبات، وأحياها بالزرع والخضروات، فأنبت منها قمحا وشعيرا، وعنبا وفاكهة، وبقولا وزيتونا ونخلا،
وحدائق ملتفة الأغصان كثيفة، كل هذا لكم ولأنعامكم!!! [سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
المفردات:
الصَّاخَّةُ: الصوت الشديد الذي يصم الآذان، والمراد هنا: النفخة التي بها تقوم القيامة. وَصاحِبَتِهِ: زوجته. يُغْنِيهِ: يصرفه ويصده عن كل من عداه. مُسْفِرَةٌ: مضيئة متهللة، تقول: أسفر الصبح: إذا أضاء مُسْتَبْشِرَةٌ: فرحة. غَبَرَةٌ: غبار. تَرْهَقُها: تدركها من قرب، والمراد: تعلوها. قَتَرَةٌ: سواد الدخان. الْفَجَرَةُ: الذين خرجوا عن حدود العقل.
825
المعنى:
هكذا الشأن بعد تعداد النعم، والتذكير بآلاء الله- تعالى- التي تقتضي من الإنسان النظر الصحيح والبعد عن الكبر والكفر والفجور، أخذ الله- سبحانه وتعالى- يذكرنا بيوم القيامة وأهواله التي تجعل الإنسان يذهل عن أحب الناس إليه، فإذا وقعت الواقعة وجاءت الصاخة، يوم يفر المرء ويتباعد عن أخيه ولا يأخذ بناصره ولا يواليه يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً «١» وقد كان في الدنيا يستنصر به ويعتز، بل يفر كذلك من أبويه، أمه وأبيه، بل يفر كذلك من الذين يتعلق بهم قلبه أشد من غيرهم كزوجة وبنيه وكيف لا يكون ذلك؟ ولكل امرئ منهم يومئذ شيء يصرفه ويصده عن قرابته وأهله، ويوم القيامة ترى وجوها مضيئة متهللة فارغة البال ضاحكة السن مستبشرة فرحة، تلك هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهناك وجوه أخرى عليها غبرة ويعلوها سواد فهم في هم وحزن وكمد، أولئك هم الكفرة الذين كفروا بالله ورسوله ولم يؤمنوا باليوم الآخر وكانوا في الدنيا فجرة قد خرجوا عن حدود الشرع والعقل والعرف الصحيح، واجترحوا السيئات فكان جزاؤهم ذلك وبئس المصير.
(١) - سورة الدخان آية ٤١.
826
Icon