ونقول : لا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدد مكان الآية في كل سورة، وقيل إن باقي سور القرآن الكريم وعددها مائة وثلاث عشرة بدأت بالبسملة.
ولم تبدأ سورة التوبة بالبسملة حتى نعرف أن الأمر ليس رتابة انتهاء سورة وابتداء أخرى، بحيث تجيء " بسم الله الرحمن الرحيم " مع بداية كل سورة، ولكن أسماء السور توقيفية، أي أن سيدنا جبريل عليه السلام هو الذي يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما في القرآن الكريم، ونعلم أن رسول الله كان يراجع القرآن كله مع جبريل في كل رمضان، وراجعه في عامه الأخير مرتين مع جبريل، وكل ما جاء بالقرآن الكريم توقيفي كما أبلغه الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن عظمة الشرع أن ينتقل بالمؤمن من شيء إلى شيء، ليجد فجوة يتوقف العقل عندها، وهنا يأتي دور الإيمان ليمنع العقل من التوقف عند أي فجوة ؛ لأن المشرع وهو الله سبحانه وتعالى يريد ذلك، ولو جاءت الآيات على رتابة واحدة لما انتبه الإنسان إلى قيم الإيمان.
على سبيل المثال نحن في الحج نُقبِّل حجرا ونرجم حجرا، وجاء هذا كأمر من الله سبحانه وتعالى بأن هذا حجر يُقدس وذاك حجر يُرجم ويداس ؛ لنعلم أنه لا شيء في هذا الكون مقدس لذاته، ولكن التقديس لأمر الله وبتوجيه منه سبحانه وتعالى ؛ إن قال : قََبِّلوا، قبلنا، وإن قال : ارجموا، رجمناه.
وفي الجيش مثلا عندما يأتي الضابط ويقول للجنود : قف، فيقف الجنود، حتى الذي وضع لقمة في فمه يتوقف عن مضغها. والحكمة من ذلك هي الانضباط، والانضباط الإيماني أكبر ؛ لذلك إذا صادف المؤمن أشياء في منهج الله يقف فيها العقل يقول : هذه إرادة الله وسأنفذها لأن الحق تبارك وتعالى أمر بها.
والمثال لنا هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؛ حينما أُخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُسري به إلى بيت المقدس، وعُرج به إلى السماء : لم يقس المسألة بعقله ولكنه قال : أَوَ قال ذلك ؟ قالوا نعم ؛ قال : فأنا أشهد إن قال ذلك لقد صدق. قالوا فتصدقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ؟ قال نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك أصدقه، بخبر السماء ؛ قال أبو سلمة : فبها سُمِّي أبو بكر الصديق.
ومن العلماء من قال : إن سورة الأنفال كانت عهودا، وسورة براءة هي نقض لهذه العهود، ونقض العهد يأتي بعد العهد ذاته. فجاءت سورة التوبة مكملة لسورة الأنفال، ولذلك نجد في سورة الأنفال أن الحق سبحانه وتعالى قال مشرعا لتوزيع أموال الغنائم :﴿ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَللِرَّسُولِ ﴾( الأنفال : ٤١ ).
وجاءت سورة التوبة لتفصل كيف يتم التوزيع لأموال الصدقات فقال الله جل جلاله :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾( التوبة : ٦٠ ).
إذن فكان من الطبيعي أن تأتي سورة التوبة بعد سورة الأنفال ؛ لأن سورة التوبة متممة لسورة الأنفال. وسورة التوبة تتعرض للقطيعة، وتبدأ بقول الله تبارك وتعالى :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. ( ١ ) ﴾( التوبة )وهذه البداية لا تتناسب مع قوله تعالى :﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ١ ) ﴾، لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان وهذه براءة، وقيل في عدم تسميتها براءة وتسميتها سورة التوبة لأن القطعية هنا بين الله وبعض عباده الذين ضلوا واختاروا الكفر والنفاق ؛ ولأنه رب رحيم أراد أن يفتح لعباده الذين أبقوا باب الرجوع إليه بالتوبة ؛ فسميت السورة سورة " التوبة " وقد بدأت السورة بقوله تعالى : " براءة " واسمها التوبة حتى تسبق التوبة البراءة. ولذلك نجد فيها آيات التوبة في قول الله تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ.. ( ١١٧ ) ﴾( التوبة )
وفي آية أخرى :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا... ( ١١٨ ) ﴾( التوبة )
وفي آية ثالثة :﴿ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ... ( ١٥ ) ﴾( التوبة )
إذن فعلى الرغم من أن السورة بدأت بالبراءة إلا أنها جاءت بالتوبة رحمة منه ؛ وقبولها منه تعالى رحمة بالناس.
فالله يَشْرع التوبة ويفتح بابها فضلا منه ورحمة، فلو لم يشرعها الله ما قبلت توبة أبدا، ولو عن معصية واحدة. والذي ييأس من التوبة وغفران الذنوب يشتد في المعاصي وينغمس فيها ويحدث نفسه بأنّه مادامت معصية واحدة سوف تدخله النار، فلا فرق بين معصية وألف. ولابد –إذن- أن يرتكب كل يوم جريمة ؛ لأن ذنبا واحدا أخرجه من الرحمة، وشاء سبحانه وتعالى أن يفتح باب التوبة ليمنع شراسة الإجرام في المجتمع، فكل عاص يمكنه أن يعود بالتوبة إلى الإيمان، ويعيش المجتمع في أمان وسلام. وهكذا كان تشريع التوبة رحمة، وقبولها من الله رحمة. ولذلك بعض الناس يقول : إن الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا... ( ١١٨ ) ﴾( التوبة ).
ونتساءل كيف تاب الله عليهم ليتوبوا ؟ نقول : تاب عليهم أي شرع لهم التوبة، فإن تابوا قبل الله توبتهم.
إذن فالمسألة تشريع وقبول. ومادام سبحانه وتعالى يقبل التوبة فهو تواب. إذن فقد قدم الحق هنا للإنسان أسلوبين يصحح بهما مساره، قد شرع التوبة، وأذن بقبولها. ومن عظمته لم يقل عن نفسه إنه تائب ولكنه تواب. فإذا فعل الإنسان معصية وتاب، قبل الله توبته، وإن غلبه الشيطان أو غلبته نفسه وارتكب معصية أخرى وتاب قبل الله توبته أيضا لأنه تواب رحيم.
وأخذت سورة التوبة حيزا مع المشركين وحيزا مع اليهود والنصارى، وحيزا مع المنافقين، وكما حددت المؤمنين في آخر السورة، حددت أيضا مواقف كل من هؤلاء، وقد كان بيان موقف هؤلاء ضروريا ؛ لأن المنافق مثلا متعارض الملكات، والكافر منسجم الملكات، فالمنافق ينطق لسانه عكس ما في قلبه، والكافر إنما ينطق بما في قلبه، ولكن المنافق والكافر يتفقان في عداوة المؤمن. ولذلك فضح الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأعداء وأظهر ما في أعماق الكافرين والمنافقين وخصومتهم للإسلام، وحاز المنافقون قسطا وافرا من السورة لأنهم ادعوا الإيمان واقتربوا من المسلمين، وخصومة القريب أشد على النفس، فما بالنا بخصومة الإنسان مع نفسه ؟ !
هكذا كان حال المنافقين الذين عاشوا بين المسلمين وملكاتهم متعارضة وخصومتهم للمؤمنين أشد ؛ لأنهم يتظاهرون بالإيمان، ويضمرون الكفر. ولذلك كانت معظم آيات هذه السورة تفضح حال المنافقين وتظهر ما أضمروه من بغض وعداوة لأنهم أشد خطرا على الدين من الكفار.
والله سبحانه وتعالى يعطينا في هذه السورة صورة لتمرد نوع من خلق الله من بني الإنسان.
وهم هؤلاء الذين يكذبون بالله ونعمته ويضمرون الكفر والحقد ويتظاهرون بأنهم مع المسلمين علما بأنهم لم يتساووا مع الجمادات وسائر خلق الله من غير بني الإنسان حتى الحيوان، فإن هؤلاء جميعا يسبحون الله الخالق ويسجدون له ؛ سجود إقرار بالربوبية، أما المنافقون فهم من بني الإنسان الذين تمردوا على خالقهم، ولذلك اقرأ إن شئت في تصنيف الأجناس في الكون : الجماد، النبات، الحيوان، الإنسان، حيث يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ ﴾( الحج : ١٨ )
وهذه هي الجمادات، ثم يأتي الخبر بالنسبة للنبات والحيوان فيقول الحق جلّ علا :﴿ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ﴾( الحج : ١٨ )، ثم جاء الخبر في الإنسان فقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾( الحج : ١٨ ) : أي أن الأمر في التسبيح والطاعة والسجود لله انقسم عند الإنسان لأن له أغيارا.
ونجد رحمة الربوبية في أنه، كما جعل للمؤمن رزقه، فقد جعل للكافر رزقه أيضا، وبين الله عز وجل أنه يرزق الكافر رغم أنه أراد بالسورة القطع بينه سبحانه وتعالى وبين الذين نقضوا العهود، فإنه شاء أن يسمي السورة " سورة التوبة " ؛ ليفتح لهم باب التوبة فقد يتوبون ويرجعون إلى الإيمان.
وقبل أن نصنف ما جاء في سورة التوبة لبيان موقف المشركين، والموقف من أهل الكتاب، والموقف من المنافقين، يحسن بنا أن نفصل الكلام في مسألة التسمية –البسملة- لأنها شغلت بال العلماء كثيرا.
ونعلم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " وردت في القرآن الكريم مائة وأربع عشرة مرة ؛ منها مائة وثلاث عشرة مرة في بداية السور، ومرة في سياق آيات سورة النمل ؛ في قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( ٣٠ ) ﴾( النمل )، وهي آية مجمع عليها، أنها آية من سورة في القرآن الكريم، ولكن ماذا عن البسملة في أوائل سور القرآن الكريم ؟.
اتفق العلماء على أنها آية من آيات القرآن الكريم، ولكن كان الخلاف بينهم حول : هل هي آية من كل سورة ؟ واتفق الجمهور على أنها آية قد نزلت للفصل والابتداء، ولا يصح أن نقول : إنها للفصل فقط، بل نقول : هي للفصل والابتداء، وهناك من يقول : إنها في الفاتحة للابتداء، أما الفصل فلا يوجد قبل الفاتحة سورة أخرى في المصحف، وعلى ذلك فهي للفصل بين الفاتحة وسورة البقرة. ولمثل هذا القائل نرد قائلين : إن المدقق في علوم القرآن الكريم يعلم أن ترتيب المصحف غير ترتيب النزول، فالمصحف له ترتيب، والقرآن نزل منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفاتحة –على سبيل المثال- نزلت بعد سورة المدثر، فهي فاصلة بين المدثر والفاتحة.
وحين نتصفح المصحف الشريف نجد أن ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ آية من الفاتحة، ولكنها ليست آية من كل سورة. ففي ترقيم آيات الفاتحة نجد ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ الآية الأولى. ونجد ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ هي الآية الثانية، بينما في باقي السور، تجد أن الآية الأولى تبدأ بعد قوله تعالى :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وذلك لأن جمهور العلماء عَدَّ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ آية في سورة الفاتحة.
وجزى الله خيرا صاحب المعجم المفهرس الذي وضع معجما لآيات القرآن الكريم بحيث إذا أحببت أن تعرف موقع آية في المصحف تستطيع أن تحصل على موقعها بين الكلمات في هذا المعجم، إلا أنه من عجيب الأمر واستيلاء النقص على البشر، شاء الحق تبارك وتعالى لهذا الرجل الطيب الباحث، أن ينسى وضع ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ في الإحصاء، وجاء بكلمة الله في ٩٨٠ آية بالرف
﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١ ) ﴾.
والبراءة – كما قلنا- هي انقطاع العصمة، والعصمة استمساك، والحق تبارك وتعالى يقول :
﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ ( آل عمران : ١٠١ )
وهو أيضا يقول :﴿ لا عاصم اليوم من أمر الله ﴾ ( هود : ٤٣ ).
إذن فالبراءة يلزم منها أنه كان هناك عهد واستمساك به، وجاءت البراءة من الاستمساك بهذا العهد الذي عهده رسول الله معهم، وكانوا معتصمين بالمعاهدة، ثم جاء الأمر الإلهي بقطع هذه المعاهدة. وكلمة " براءة " تجده في " الدَّيْنِ " ويقال : " برئَ فلان من الدَّيْنِ ". أي أن الدَّيْنَ كان لازما في رقبته، وحين سَدَّده وأدَّاه يقال : " برئ من الدَّين ". ويُقال : " برئ فلان من المرض " إذا شُفي منه أي أن المرض كان يستمسك به ثم انقطع الاستمساك بينه وبين المرض.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد قريشا وعاهد اليهود، ولم يُوَفِّ هؤلاء بالعهود، وكان لزاما أن ينقض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العهود. وإذا سأل سائل : لماذا لم ينقض هذه العهود من البداية، ولماذا تأخر نقضه لها إلى السنة التاسعة من الهجرة. رغم أن مكة قد فتحت في العام الثامن من الهجرة ؟.
لقد حرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة من الأصنام والوثنية، وبعد أن استقرت دولة الإسلام بدأ تحرير " المكين " وهو الإنسان الذي يحيا بجانب البيت الحرام، وكان لابد من تصفية تجعل المؤمنين في جانب، والكفار وأهل الكتاب والمنافقين في جانب آخر، وقد حدث هذا في العام التاسع من الهجرة حتى لا يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والمكان محرر والمسجد محرر والناس محررون، ولذلك أوضح سبحانه وتعالى بهذه الآية لأصحاب العهود التي كانت بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم : أنتم لستم أهلا للأمان ولا للوفاء بالعهود ؛ لذلك نحن قد قطعنا هذه العهود. وهذه القطيعة ليست من إرادة بشرية من محمد وأصحابه ولكنها قطيعة بأمر الله تعالى، فقد يجوز أن يعرف البشر شيئا ويَغيب عنهم أشياء. لكن العالم الأعلى قال :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ( التوبة :( ١ ) )، ولم يقل براءة من الله وبراءة من الرسول، ذلك لأنها براءة واحدة، والبراءة صادرة من الله المشرع الأعلى، ومبلغة من الرسول الخاتم، والبراءة موجهة إلى المشركين الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلف مع قبيلة خزاعة، وكانت هناك قبيلة مضادة لها اسمها قبيلة بكر متحالفة مع قريش. وقد أعانت قريش قبيلة بكر على قبيلة خزاعة، فذهب إلى المدينة شاعر من خزاعة هو عمرو بن سالم الخزاعي وقال القصيدة المشهورة ومنها هذه الأبيات :
يا رب إني ناشٌد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلَدا
كنتَ لنا أبا وكنا ولدا ** ثُمَّتَ أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نَصْرا عتدا ** وادع عباد الله يأتوا مددَا
إن قرشا أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا
هم بيتونا بالوتير هُجَّدا ** وقتلونا ركَّعا وسُجَّدا
فلما سمع رسول الله صلى الله عله وسلم ذلك قال : نصرت يا عمرو بن سالم، لانصرت إن لم أنصرك.
إذن فالمشركون هم الذين نقضوا العهد أولا، وصاروا لا يؤمن لهم جانب لأنهم لا يحترمون عهدا أو معاهدة، ونزل قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١ ) ﴾ ( التوبة ).
الخطاب هنا للمسلمين، والبراءة من المشركين.
والخطاب هنا للمشركين. وتساءل البعض : كيف يتأتى أن يكون خطاب الحق في الآية الأولى للمسلمين بالبراءة من المشركين، ثم يأتي خطاب من الله للمشركين ؟. وقال بعض العلماء أنه مادامت البراءة قد صدرت من الله، فكأن الله تعالى يقول للمؤمنين قولوا للمشركين :﴿ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ ( التوبة : ٢ ).
ولكننا نرد على هذا بأن المعاهدة تكون بين اثنين، ولذلك لابد أن يكون هناك خطاب للذين قطعوا، وخطاب للمقطوعين، ويتمثل خطاب الذين قطعوا في قوله تعالى :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١ ) ﴾ ( التوبة )
وخطابه للمقطوعين يتمثل في قوله سبحانه وتعالى :﴿ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ ( التوبة : ٢ ).
ومن سماحة هذا الدين الذي أنزله الحق تبارك وتعالى ؛ أن المولى سبحانه يعطي مهلة لمن قطعت المعاهدة معهم، فأعطاهم مهلة أربعة أشهر حتى لا يقال إن الإسلام أخذهم على غرة، بل أعطاهم أربعة أشهر ومن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر فسوف يستمر العهد إلى ميعاده.
﴿ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ ( التوبة : ٢ ).
وكلمة " فسيحوا " تعطي ضمانا إيمانيا، ف " ساح " معناها سار ببطء، وهناك " ساح الشيء " و " سال الشيء " عندما تقول : " سال الماء " أي تدفق وسال، وأنت تشاهده سائلا. وإن قلت : " ساح السمن " أي سار ببطء لا يدرك حتى صار سائلا. ولماذا قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ ؟.
والإجابة : أن سماحة الإسلام تمنع أن تأخذكم على غرة، وعلى الذين قطع الإسلام معهم العهد أن يسيروا وهم مطمئنون وفي أمان ولا يتعرض لهم أحد. ووقف العلماء عند تحديد أربعة الأشهر، ونظر بعضهم إلى تاريخ النزول، وقد نزلت هذه الآية في شوال ؛ إذن فتكون الأشهر الأربعة هي : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقال علماء آخرون : إن ساعة النزول لا علاقة لها بالأشهر الأربعة، وإن الأشهر الأربعة تبدأ من ساعة الإبلاغ أي في الحج ؛ لأن الله تعالى يقول :
﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ ﴾ ( التوبة : ٣ ).
وعلى ذلك فتكون من يوم العاشر من ذي الحجة إلى يوم العاشر من ربيع الآخر. وقال بعض العلماء : إن نزول هذه الآية كان في عام النسيء الذي كان الكفار يؤخرون ويقدمون في الأشهر الحرم، والذي قال فيه الله سبحانه وتعالى :
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ ( التوبة : ٣٧ ).
وأضاف صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو بكر حيث قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " ١ أي أنه صلى الله عليه وسلم حسب من بداية الكون إلى هذا الوقت فرجع بالأمر إلى نصابه وألغى النسيء ؛ هذا النسيء الذي كانوا يقررونه أيام الشرك لتقديم أو لتأخير الأشهر الحرم ؛ لأنهم كانوا إذا أتت الأشهر الحرم ويريدون الحرب يؤجلون الشهر الحرام حتى يمكنهم الاستمرار في الحرب. ولذلك كان الحج في هذه السنة في شهر ذي القعدة. ومادام الحج في شهر ذي القعدة، تنتهي الشهور الأربعة في العاشر من ربيع الأول. وقيل إن اختيار أربعة الأشهر جاء ليوافق ما شرعه الله في قوله سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ ( التوبة : ٣٦ )، فيكون عدد الأشهر مناسبا لعدد الأشهر الحرم. ولكن هذه المرة فيها ثلاثة أشهر حرم فقط هي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والشهر الرابع هو رجب فكيف يقال أربعة ؟.
ونقول : إن الأشهر الأربعة الحرم التي فيها رجب هي الأشهر الحرم الدائمة، أما الأشهر الأربعة التي ذكرت في هذه الآية فهي أربعة أشهر للعهد تنتهي بانتهائها، ولكن أربعة الأشهر الحرم الأصلية تبقى محرمة دائما، ولقد شرع الله عز وجل الأشهر الحرم ليحرم دماء الناس من الناس ؛ ذلك أنّ الحروب بين العرب كانت تستمر سنوات طويلة دون نصر حاسم. فجعل الله الأشهر الحرم حتى يجنح الناس إلى السلم، ويتحكم فيها العقل وتنتهي الحروب.
وهنا يبلغنا الحق تبارك وتعالى أنه قد أعطى المشركين أربعة أشهر يسيرون فيها آمنين، لماذا ؟ لأن الذي يكون ضعيفا مع خصمه ينتهز أي فرصة يقدر عليه فيها ليستغلها ويقضي عليه، ولا يمهله أربعة أشهر حتى ولا أربعة أيام. ولكن القوي لا يبالي بمد الأجل لخصمه لأنه يستطيع أن يأتي به في أية لحظة. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ﴾ ( التوبة : ٢ ).
ويقال فلان أعجز فلانا، أي جعله ضعيفا عاجزا. ولذلك فإن كل شيء مُعجز شرف للمُعجَز، والمثال : عندما جاء القرآن الكريم معجزا للعرب وكان ذلك شرفا لهم لأنهم كانوا أمة بلاغة وفصاحة. والله لا يتحدى الضعيف وإنما يتحدى القوي، فلغة القرآن أعجزت الفصيح والبليغ. وحين يعطي الحق سبحانه وتعالى هذه المهلة للمشركين إنما كانت ببنود معينة، وكان أمير الحج في هذا العام سيدُنا أبو بكر وكان هو الذي سيبلغ البراءة. وهي أنه لا يدخل المسجد الحرام مشرك ولا يحج مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولن يدخل الجنة إلا من آمن، هذه هي البنود.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطنته النبوية كان يعر ف أن العرب لا يقبلون نقض العهود والمواثيق إلا من أهلها : فأرسل صلى الله عليه وسلم سيدنا عليا بن أبي طالب ليعلن نقض العهود ؛ لأنه علم أن الكفار كانوا سيقولون : لا نقبل نقض العهد من أبي بكر ؛ بل لابد أن يكون من واحد من آل الناقض.
وحينما قال المولى سبحانه وتعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ﴾ ( التوبة : ٢ )، أعطى هذه المهلة الطويلة، لأنهم مهما فعلوا في هذه المهلة، فالله غالب على أمره. فلن يفوت أو يغيب شيء عنه سبحانه وتعالى، ومهما حاولوا أن يجدوا حلفاء لهم فلن يستطيعوا شيئا مع الله، صحيح أنهم ضعفاء في هذه الفترة، وصحيح أنَّ الضعيف قد تكون قدرته على القوي مميتة لأنه يعرف أن فرصته واحدة، وإن لم يقدر على خصمه فسوف ينتهي، لكن الله غالب على أمره. وأراد الشاعر العربي أن يعبر عن ذلك فقال :
وضعيفة فإذا أصابت فرصة | قتلت كذلك قدرة الضعفاء |
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾ ( التوبة : ٢ )، الإخزاء هو الإذلال بفضيحة وعار ولا يكون ذلك إلا لمن كان متكبرا متعاليا. أي أن الله قادر على أن يخزي الكفار بفضيحة وعار مهما بلغت قوتهم وكبرهم.
﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣ ) ﴾ :
وبعض الناس يقول مادام الله تعالى قد قال :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾( التوبة : ١ )
فلماذا يعيد سبحانه وتعالى :﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ ( التوبة : ٣ )
ونقول : إن البراءة جاءت إعلاما بالمبدأ، والأذان جاء لإبلاغ البراءة، و " أذان " معناها إعلام يبلغ للناس كلهم، تماما كأذان الصلاة ؛ فهو إعلام للناس بدخول وقت الصلاة. والأذان مأخوذ من الأذن. لأن الإنسان حين يعلم الناس بشيء لابد أن يخطب فيهم فيسمعون كلامه بآذانهم، ولذلك تجد الأذن هي الوسيلة الأولى للإدراك ؛ فقبل أن ترى تسمع، وقبل أن تتكلم لابد أن تسمع، فإن لم تسمع من يتكلم لا تقدر أنت على الكلام. ولذلك يقول الحق جل جلاله :
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ ﴾ ( البقرة : ١٨ ) : أي لا يسمعون، وماداموا لا يسمعون لا يتكلمون. وقد يأتي بعض الناس ويقول : إنَّ وسيلة الإعلام قد تعتمد على العين ويقرأ منها الإنسان. ولكن من يقول ذلك ينسى أن الإنسان لا يستطيع أن يقرأ إذا سمع ألفاظ الحروف، وحين يقال له : هذه ألف وهذه باء وهذه تاء فهو يتعلم. إذن كل بلاغ إنما يبدأ بالأذن، والأذن هي أول آلة إدراكية تؤدي مهمتها فور ولادة الإنسان، لأنك إن أشرت بأصبعك إلى عيني طفل مضى على ولادته أيام لا يتأثر. ذلك أن العين لا تبدأ في أداء مهمتها قبل بضعة أيام، ولكن إن صرخت بجوار الطفل يسمع وينزعج.
والله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن وسائل الإدراك يأتي بالسمع أولا فيقول جل جلاله :﴿ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ﴾ ( النحل : ٧٨ )، لأن الأذن تبدأ عملها فورا – كما قلنا- والعين لا تبدأ عملها إلا بعد أربعة أو خمسة أيام. والأذن نستقبل بها أصواتا متعددة فيوقت واحد. ولكن مجال الرؤية محدود.
وأنت حين لا تريد أن ترى شيئا تبعد عينيك عنه. ولكن الأصوات تصل إلى أذنك من كل مكان دون أن تستطيع منعها. ولذلك يأتي السمع مفردا، والأبصار متعددة ؛ لأن هذا يرى شيئا وهذا يرى شيئا. لكنك بالأذن تسمع نائما أو متيقظا، وتأتيك الأصوات ويتوحد المدرك من السمع ؛ فهي آلة الاستدعاء والإيقاظ. ولذلك حين تكلم الله عن أهل الكهف يريد أن ينيمهم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. رغم أن أقصى ما ينامه الإنسان هو يوم أو بعض يوم، قال سبحانه وتعالى عنهم في هذا الشأن :
﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا( ١١ ) ﴾ ( الكهف )، وكان الضرب على الآذان حتى لا يوقظهم صوت عال لإنسان أو حيوان. وهم عندما قاموا :﴿ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ﴾ ( الكهف : ١٩ )، لأن الإنسان عادة لا ينام أكثر من هذه المدة، وهذا يدل على أنهم حين استيقظوا كانوا على الهيئة التي ناموا عليها لم يتغير فيهم شيء، مما يدل على أن الله أوقف تأثير الزمن عليهم، ولولا أن الله قد ضرب على آذانهم لأيقظهم صوت الرعد أو الحيوانات المفترسة أو غيرها من الأصوات. وأثبت لنا العلم الحديث أن مَنْ يرقد في الفراش بسبب المرض مدة طويلة يخاف الأطباء من إصابته بقروح الفراش، فلا يخاف الطبيب على المريض من المرض فقط، بل يخاف أيضا من آثار الرقود على الجسد، والله يلفتنا إلى هذه الحقيقة فيقول :
﴿ ونُقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ﴾ ( الكهف : ١٨ )ولأن الأذن هي وسيلة السمع، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ إذا السماء انشقت( ١ ) وأَذنت لربها وحُقت( ٢ ) ﴾ ( الانشقاق )، وهذا القول يدل على أن السماء فور سماعها من الله أمره بأن تنشق، تستجيب على الفور وتطيع أمره بالانشقاق وذلك يوم القيامة، وإذا كان الذي بلغ الآذان من الله ورسوله إلى كل الناس يوم الحج هو علي بن أبي طالب ؛ فكيف يقال ؟.
﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ( التوبة : ٣ ).
نقول : إن الله تعالى أعلم رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم عليا، وعلي هو الذي قال نادى وبلَّغ، إن الله طلب البلاغ إلى الناس. مع أن البراءة كانت للمشركين.
ونقول : إن الإعلام كان لكل الناس للمؤمن وغير المؤمن حتى يعرف جميع الناس موقفهم ؛ فيعرف المؤمن أن العهد قد قطع، ويعرف غير المؤمن أن العهد قد قطع، فلا يؤخذ أحد على غرة، وليرتب كل إنسان موقفه في ضوء البلاغ الصادر من الله عز وجل ؛ والله سبحانه وتعالى أراد اعتدال الميزان بأيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك فهو يخاطب لا المؤمنين وحدهم، بل كان الخطاب للعالم كله، وإن كان المؤمنون هم الذين سيجاهدون لتنسجم حركة الأرض مع منهج السماء. ومن هذا يستفيد المؤمن والكافر ؛ لأن الكل سينتفع بالعدل والأمانة والنزاهة التي يضعها المنهج على الأرض.
ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالمنهج لإصلاح الكون كله فقال سبحانه وتعالى :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ ( النساء : ١٠٥ ) : أي أن الحكم بين الناس جميعا هو المطلوب من رسول الله صلى اله عليه وسلم حسب منهج السماء.
وقوله سبحانه وتعالى :
﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ ﴾ ( التوبة : ٣ )، وهذا القول فيه تعميم في المكان وتعميم في المكين، فيوم الحج يجتمع الناس كلهم في مكان واحد.
وقد يتساءل البعض : لماذا سمي الحج الأكبر ؟ نقول : لأنه الحج الوحيد الذي اجتمع فيه الكفار والمؤمنون. وبعد ذلك لم يعد هناك حج للكفار أو المشركين.
وبعض المفسرين يقولون : إن كلمة الحج الأكبر جاءت لتميز بين الحج الأصغر وهي العمرة وبين الحج الذي يكون فيه الوقوف بعرفات، ونقول : إن العمرة لا يطلق عليها الحج الأصغر.
وقيل إنَّ يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة. ولكن بعض العلماء قالوا : إنه يوم النحر ؛ لأن فيه مناسك كثيرة : رمي الجمرات والتقصير وطواف الإفاضة ؛ لذلك سمي يوم النحر بالحج الأكبر لكثرة مناسكه، وقيل : إنها أيام الحج كلها وأنها قد سميت بيوم الحج على طريقة العرب في أداء الحدث الواحد بظرفه الملائم، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى : يوم حنين ؟. وحنين استغرقت أياما فكأن اليوم يراد به الظرف الجامع لحدث كبير، فكأن أيام الحج كلها يطلق عليها " يوم الحج ".
أو أن الإعلان قاله سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم عرفة، وبلغ هذا الإعلام كل من سمعه إلى غيره، والآية الكريمة تقول :﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ ( التوبة : ٣ ).
وهذا إذن من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن رسوله إلى علي كرم الله وجهه، ومن علي للمؤمنين، ومن المؤمنين ؛ من سمع لمن لم يسمع، أن الله بريء من المشركين، وكان هذا إعلانا بالقطيعة، ولكن الله برحمته لا يغلق الباب أمام عباده أبدا، ولذلك يقول :﴿ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ ( التوبة : ٣ )
أي فتح لهم باب التوبة فإن تابوا عفا الله عنهم، وإن لم يتوبوا فالقول الفصل هو :﴿ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾( التوبة : ٣ ).
إذن فالحق سبحانه وتعالى قادر عليهم وقادر أن يأتي بهم مهما كانوا، وعلى النبي والمبلغين عنه أن يبشروا الكفار بالعذاب الأليم، والبشارة إعلام بخبر سار، والإنذار إخبار بسوء. فهل العذاب بشارة أم إنذار ؟. نقول : إن جمال أسلوب القرآن الكريم، يبشر الكفار فيتوقعون خبرا سارا : ثم يعطيهم الخبر السيئ بالعذاب الذي ينتظرهم ؛ تماما كما تأتي إلى إنسان يعاني من العطش الشديد، ثم تأتي بكوب ماء مثلج وعندما تصل إليه ويكاد يلمس فمه تفرغه على الأرض، فيكون هذا زيادة في التعذيب وزيادة في الحسرة، فالنفس تنبسط أولا ثم يأتي القبض.
وفي هذا يقول الشاعر :
كما أبرقت قوما عطاشا غمامةٌ
فلما رأوها أقشعت وتجلت
وهكذا تكون اللذعة لذعتين، ابتداء مطمع، وإنتهاء ميئس بينما في الإنذار لذعة واحدة فقط وانظر إلى قوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا ﴾ ( الكهف : ٢٩ )
حين تسمع " يغاثوا " تتوقع الفرج فيأتي الجواب :﴿ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾ ( الكهف : ٢٩ ).
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾( التوبة : ٣ )، والعذاب من الله يوصف مرة بأنه عظيم ومرة أخرى يوصف بأنه مهين وثالثة يوصف بأنه أليم، والسبب هو أن الوصف يختلف باختلاف المُعذَّبين، وسيأخذ كل مسيء وعاص وكافر من العذاب ما يناسبه، فهناك إنسان يحتمل العذاب ولا يحتمل الإهانة، وهناك إنسان يحتمل الإهانة ولا يحتمل الألم، فكأن كل واحد من الناس سيأتيه العذاب الذي يتعبه، فإن كان لا يتعبه إلا العذاب العظيم جاءه، وإن كان لا يتعبه إلا الإهانة جاءته، وإن كان لا يتعبه إلا الألم جاءه.
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٤ ) ﴾ :
هذا استثناء، ولكنه استثناء مشروط بأن هؤلاء كانوا أمناء على العهد وموفين به ولم ينقصوا منه شيئا، أي لم يصدوا لكم تجارة ولم يستولوا على أغنام ولم يسرقوا أسلحتكم ولم يغروا بكم أحدا ولم يظاهروا عليكم أحدا ؛ وهؤلاء هم بنو ضمرة وبنو كنانة، فلم يحدث منهم شيء ضد المؤمنين فجاء الأمر بأن يستمر العهد معهم إلى مدته. ولقائل أن يقول : إن المستثني يقتضي مستثنى منه، ونقول : المستثنى منه هم المشركون في قوله الحق تبارك وتعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا ﴾ ( التوبة : ٤ )
والإنقاص معناه تقليل الكمّ إمّا في الذوات، وإما في متعلقات الذوات، والإنقاص في الذوات يكون بالقتل، والإنقاص في متعلقات الذوات يكون بمصادرة التجارة أو الماشية، وسرقة السلاح.
إذن ففي الإنقاص هنا مرحلتان ؛ مرحلة في الذوات أي بالقتل، ومرحلة في تابع الذوات وهي الأشياء المملوكة، ولذلك قال : " لم ينقصوكم شيئا " أي شيء كان، سواء في الذوات أو في المعاصي أو متعلقات الذوات، وأيضا لم يغروا عليكم أحدا ولم يشجعوا أحدا على أي عمل ضد الرسول.
﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا ﴾ ( التوبة : ٤ ).
ويظاهر أي يعادل، وكلها مأخوذة من مادة الظهر، وهو يتحمل أكثر من اليد، فالإنسان لا يقدر أن يحمل جوال قمح بيده مثلا، ولكنه بقدر أن يحمله على ظهره.
ولذلك يقول المثل العامي : من له ظهر لا يضرب على بطنه. إذن فالظهر للمعونة.
والحق يقول :﴿ فأيّدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ﴾ ( الصف : ١٤ )
أي عالين.
والحق سبحانه وتعالى حين قص علينا نبأ تآمر بعض من نساء النبي – صلى الله عليه وسلم- عليه، قال :﴿ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ ( التحريم : ٤ ).
فظهير في الآية الكريمة أي معين. ويأتي الحق هنا إلى منطقة القوة في الإنسان، لذلك يقال : فلان يشد ظهري. أي يعاونني بقوة. ظهر فلان على فلان. أي غلبه وتفوق عليه، ويقال : وعلا ظهره. أي استولى على منطقة القوة منه ؛ لذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في سورة الكهف عن ذي القرنين ذكر بعض اللقطات وقال :
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ( ٩٣ ) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ( ٩٤ ) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ( ٩٥ ) ﴾ ( الكهف )، فالله سبحانه وتعالى لفتنا هنا إلى حقيقة علمية لم نعرفها إلا في العصر الحديث. فالسد إذا كان كله من مادة صلبة ؛ يتعرض للانهيار إذا ما جاءت هزة أثرت في كل جوانبه، أما إذا كان هناك جزء من بناء صلب على الحافة، وجزء صغير في المنتصف وجزء ثالث، ثم رابع، ويفصل بي كلِّ جزء ردم من تراب فالردم فيه تنفسات بحيث يمتص الصدمة، وهي نفس فكرة الإسفنج التي نحيط بها الأشياء التي نخاف عليها من الكسر لنحفظها، فلو أن الصندوق من الخشب أو الحديد أو أي مادة صلبة لتحطم الشيء الموضوع فيه بمجرد اصطدامه بالأرض صدمة قوية، ولكن إذا أحطناه بوسادة من الإسفنج فهي تمتص الصدمات. وأنواع السدود التي تتلقى الصدمات يقال عنها : السد الركامي.
ونلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ﴾ ( الكهف : ٩٥ )، وهذا يدلنا على أن القوي يجب أن يعين الضعيف معونة لا تحوجه له مرة أخرى ؛ لذلك يقال : لا تعط الجائع سمكة، ولكن علمه أن يصطاد السمك ليعتمد على نفسه بعد ذلك ؛ وهذه هي المعونة الصحيحة، ولذلك نجد أن ذا القرنين رفض أن يأخذ مقابلا لبناء الردم ؛ لأنها مهمة الأقوياء في الأرض من أصحاب الطاقة الإيمانية أن يمنعوا الظلم بلا مقابل حتى يعتدل ميزان الحياة ؛ لأن الضعيف قد لا يملك ما يدفعه للقوي. ولو أن كل قوي أراد ثمنا لنصرة الضعيف لاختل ميزان الكون وطغى الناس، ولكن الأقوياء في عالمنا يريدون أن يظلموا بقوتهم ؛ لذلك يختل ميزان الكون الذي نعيش فيه. ولننظر إلى تفويض الله لذي القرنين وكيف أحسن ذو القرنين الحكم بين الناس، وأقام العدل فيهم وكيف ترصد الظالمين، قال القرآن الكريم على لسان ذي القرنين :
﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ( ٨٧ ) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ﴾ ( الكهف : ٨٧-٨٨ ).
هكذا أقام ذو القرنين العدل، بتعذيب الظالم وتكريم المؤمن صاحب العمل الصالح.
وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان ذي القرنين : " أعينوني " يعطينا كيفية إدارة العدل في الكون، فذلك الذي أعطاه الله الأسباب إن أراد أن يعين الضعفاء فعليه أن يشركهم في العمل معه، ولا يعمل هو وهم يتفرجون وإلاَّ تعودوا على الكسل فتفسد همة كل منهم. ولكن إذا جعلهم يعملون معه سيتعلمون العمل ثم يتقنونه فتزداد مهارتهم وقوتهم في مواجهة الحياة ؛ لذلك نجد أن ذا القرنين أشرك معه الضعفاء، وقال لهم :﴿ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ﴾( الكهف : ٩٦ ).
إذن فقد جعلهم يعملون معه ويبنون، وهذه أمانة القوي فيما آتاه الله تعالى من القوة، بل إننا نجده قد تفاهم معهم رغم أن الحق تبارك وتعالى قال فيهم :
﴿ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾ ( الكهف : ٩٣ )، كيف تفاهم معهم ؟ لعله استخدم لغة الإشارة وتحايل ليفهموا مقصده. ويدلنا القرآن على تفهمهم له أن قال الحق على لسانهم :﴿ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ( ٩٤ ) ﴾ ( الكهف ).
قد تمَّ بناء السد بمعاونة هؤلاء الضعفاء، وكان بناء هذا السد بصورة تتحدى طاقة العدوان في كل من يأجوج ومأجوج، وقد حاول كل منهما أن يصعد فوق السد ليتغلب عليه، ولكنه كان فوق طاقة كل منهما فلم يستطيعا اختراقه، وهذا وضحه لنا المولى سبحانه وتعالى في قوله :
﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ( ٩٧ ) ﴾ ( الكهف )
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾ ( التوبة : ٤ ) : أي لم يعينوا ولم يساعدوا أحدا من أعدائكم حتى يتغلب عليكم، وسماحته سبحانه وتعالى بإتمام مدة العهد تعني أن هذه المدة كانت أكثر من أربعة أشهر.
وهكذا يعطينا سبحانه جلال عدالته، فسمح لمن كان العهد معهم أقل من أربعة أشهر، أن يأخذوا مهلة أربعة أشهر، والحق سبحانه وتعالى لا يحب نقض العهد ؛ لذلك طلب من المؤمنين أن يعطوا المشركين الذين عاهدوهم مدة العهد ولو كانت أكثر من أربعة أشهر ؛ حتى يتعلم المؤمن أن يُوفيَ بالعهد مادام الطرف الآخر يحترمه. وزيادة المدة هناك ؛ أو زيادة المهلة نابعة من قوة الله تعالى وقدرته ؛ لأن كل من في الأرض غير معجزي الله، فإن طالت المدة أو قصرت فلن تعطي المشركين ميزة ما، فالله يستطيع أن ينالهم في أي وقت وفي أي مكان.
ويختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٤ ) ﴾ ( التوبة ) : والمتقون هم الذين يجعلون بينهم وبين أي شيء، يغضب الله وقاية. وإن تعجب بعض الناس من قول الحق سبحانه وتعالى : " واتقوا الله " وقوله : " واتقوا النار " فإننا نقول : إن معنى ﴿ اتقوا الله ﴾ أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجبروت لله وقاية، اتقوا صفات الجبروت في الله حتى لا يصيبكم عذابه، فلله صفات جلال منها المنتقم والجبار والقهار، وله صفات جمال مثل الرحيم، والوهاب، الرزاق، الفتاح، إذن اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية لكم وحماية من أن تتعرضوا لغضب الله تعالى، والإنسان يتقي صفات الجلال في الله بأن يتبع منهجه ويطيعه في كل ما أمر به لينال من فيض صفات الجمال. وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ واتقوا النار ﴾ أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية حتى لا تمسكم النار.
﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٥ ) ﴾ :
و " انسلخ " يعني انقضت وانتهت الأشهر الحرم، ومادة " سلخ " و " انسلخ " تدور كلها حول نزع شيء ملتصق بشيء، فتقول : " سلخت الشاة " أي نزعت الجلد عن اللحم، والجلد يكون ملتصقا باللحم التصاقا شديدا. فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن الأشهر الحرم هي زمان، والزمان ظرف، فالناس مظروفون في الزمان والمكان، فكأن الأشهر الحرم تحيطهم كوقاية لهم من المؤمنين، فإذا مرت الأشهر الحرم تزول هذه الوقاية عنهم بعد أن كانت ملتصقة بهم. والانسلاخ له معنيان : فمرة يقال ينسلخ الشيء عن الشيء، ومرة يقال : ينسلخ الشيء من الشيء، ولذلك تجد في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى :
﴿ واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ ( الأعراف : ١٧٥ )
وهذه الآية الكريمة التي نزلت في ابن باعوراء الذي أعطاه الله العلم والحكمة والآيات، ولكنه تهاون فيها وتركها، فكأنه هو الذي انسلخ بإرادته وليست هي التي انسلخت منه، وصار بذلك مقابلا للشاة، ونحن نسلخ جلد الشاة من الشاة.
والحق سبحانه وتعالى أيضا يقول :﴿ وآية لهم الليل نسلَخ منه النهار ﴾ ( يس : ٣٧ )
فكأن الليل مثل الذبيحة، ثم يأتي النهار فيسلخ منه الظلمة ويزيلها عنه ويأتي بالضياء، فكأن الليل ثوب أسود يأتي عليه ثوب أبيض وهو النهار، فإذا جاء ميعاد الليل رفع الثوب الأبيض أو سلخ النور عن ظلمة الليل، لتصبح الدنيا مليئة بظلام الليل، وكأن النور هو الذي يطرأ على الظلمة فيكسوها بياضا، أي أن الضوء هو الذي يأتي ويذهب، بينما الظلمة موجودة، فإذا جاءها ضوء الشمس صارت نهارا، وإذا انسلخ منها صارت ليلا.
وماذا يحدث عندما تنتهي الأشهر الحرم ؟ يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ ( التوبة : ٥ )، فكأن الله سبحانه وتعالى بعد أن أعطى للمشركين مهلة أربعة أشهر، والذين لهم عهد أكثر من ذلك يتركون إلى أن تنتهي مدة العهد، ومن بعد ذلك يكون عقاب المشرك هو القتل، لماذا ؟ لأنه لا يجتمع في هذا المكان دينان.
ولقائل أن يقول : وأين هي حرية التدين ؟ ونقول : فيه فرق بين بيئة نزل فيها القرآن بلغة أهلها، وعلى رسول من أنفسهم، أ ي يعرفونه جيدا ويعرفون تاريخه وماضيه، وبيئة لها أحكامها الخاصة بحكم التنزيل، فأولئك الذين نزل القرآن في أرضهم وجاءت الرسالة على رسول منهم وهو موضع ثقة يعرفون صدقه وأمانته ويأتمنونه على كل نفيس وغال يملكونه، وكان كل ذلك مقدمة للرسالة، وكانت المقدمة كفيلة إذا قال لهم إنني رسول الله لم يكذبوه ؛ لأنه إذا لم يكن قد كذب عليهم طوال أربعين سنة عاشها بينهم، فهل يكذب على الله ؟ الذي لا يكذب على المخلوق أيكذب على الله ؟ هذا كلام لا يتفق مع العقل والمنطق ؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى ﴿ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ( التوبة : ١٢٨ ) : أي ليس غريبا عليكم، تعرفونه جيدا حتى إنكم كنتم تأتمنونه على أغلى ما تملكون، وتلقبونه بالأمين في كل شؤون الدنيا، فكيف ينقلب الأمين غير صادق عندكم ؟ كما أن القرآن الكريم وهو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بلغتكم وأسلوبه من جنس ما نبغتم فيه، فكان إعجازا لكم، وتحداكم الله تعالى بأن تأتوا بسورة من مثله فعجزتم وأنتم ملوك البلاغة والفصاحة، فكأن الإعجاز من أمانة الرسول وصدقه، والإعجاز من بلاغة القرآن وتحديه يقتضي منكم الإيمان فيكون عدم الإيمان هنا مكابرة تقتضي عقابا صارما.
فإن سأل سائل : أين هي حرية التدين ؟ وأين تطبيق قول الحق تبارك وتعالى ؟
﴿ لا إكراه في الدين ﴾ ( البقرة : ٢٥٦ ).
نقول : نعم، لا إكراه في أن تؤمن بالله وتؤمن بدينه، ولكن مادمت قد آمنت فلابد أن تلتزم بما يوجبه هذا الإيمان، أما عند التفكير في مبدأ التدين فأنت حر في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن.
ولكن إذا آمنت فالواجب أن نطلب منك أن تلتزم. ثم عن الحق سبحانه وتعالى شاء ألاَّ يجتمع في الجزيرة العربية دينان أبدا.
ولكن في أي مكان آخر مثل فارس، الروم، فهم لن يعرفوا إعجاز القرآن الكريم كلغة، ولكن يسمعون أنَّه معان سامية بقوانين فعالة تنظم الحياة وترتقي بها.
أما الذين يعرفون الرسول وفصاحة المعجزة التي جاء بها، فلن يُقبل منهم إلاَّ أن يسلموا، ولا يُقبل منهم أن يظلوا في أرض الرسالة دون إسلام، وإن أرادوا أن يظلوا على الشرك فليرحلوا بعيدا عن هذه الأرض.
وهناك من يقول : إنَّ الإسلام انتشر بالسيف أو الجزية، ونقول : إن الإسلام انتشر بالقدوة، أما السيف فكان دفاعا عن حق اختيار العقيدة في البلاد التي دخلها الإسلام فاتحا، والجزية كانت لقاء حماية من يريد أن يبقى على دينه.
ونجد في حياتنا اليومية من يستخدم ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ في غير موضعها، فحين يقول مسلم لآخر : لماذا لا تصلي ؟ يرد عليه بهذا القول :﴿ لا إكراه في الدين ﴾.
ونقول : إن ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ مسألة تخص قمة التدين، أي مسألة اعترافك بأنك مسلم أو غير ذلك، لكن مادمت قد أعلنت الإسلام وحُسبت على المسلمين، فعليك الالتزام بما فرضه عليك الدين فلا تشرب الخمر ولا تزن، إذن ف ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ تعني لا إكراه على اختيار الإسلام، ولكن لابد من الحرص ممن أعلنوا الإسلام على مطلوبات الدين.
إذن فلماذا أُكره العرب على الإسلام ؟
قيل في ذلك سببان : الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، والثاني أنَّ المعجزة جاءت بلسانهم.
ويتابع الحق سبحانه وتعالى قوله :﴿ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾ ( التوبة : ٥ ).
فإن عز عليكم أن تقتلوهم فخذوهم أسرى ؛ ماداموا لم يدافعوا عن أنفسهم بقتالكم، ولم يهددوكم في حياتكم، وهنا يحقن الدم ويستفاد بهم كأسرى.
وإن خفتم من شرورهم فاحصروهم في مكان مراقب. إذا قاموا بأي حركة معادية يكون من السهل عليكم كشفها، وإنزال العقاب بهم. والحصر هنا تقييد الحركة مع السماح لهم بحركة محدودة بحيث لا يغيبون عن نظركم.
ثم يتابع المولى سبحانه وتعالى قوله :﴿ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ ( التوبة : ٥ )
أي ارصدوا حركاتهم حتى تأمنوا مكرهم، وحتى لا يتصل بعضهم بالبعض الآخر، وينشئوا تكتلا يعادي الإسلام. ارصدوا حركاتهم، وارصدو كلامهم، وارصدوا أفعالهم، ولا تجعلوهم يخرجون عن رقابتكم وافعلوا ما بوسعكم لتكونوا في مأمن من شرورهم، ولكن لا تخرجوا بالاستطلاع إلى حيز استذلالهم، فالاستدلال غير الاستذلال.
وقد يتساءل البعض : لماذا هذا الاختلاف في العقوبة حيث هناك القتل وهناك الحصر وهناك الرصد لهم في طرقهم ومسالكهم ؟ نقول : إن العقوبة تختلف باختلاف مواقع المشركين من العداء للإسلام، فهناك أئمة الكفر الذين يحاربون هذا الدين ؛ ويدعون الناس لعدم الإيمان، ويحرضون على قتال المسلمين وقتلهم وإيذائهم ولا ينصلحون أبدا، ولا يكفون أذاهم عن المؤمنين أبدا : أولئك جزاؤهم القتل.
وهناك من لا يؤذون المسلمين، وإنما يجاهرون بالعداء للدعوة، هؤلاء شأنهم أقل ؛ فنأخذهم أسرى. وهناك من الكفار من لا يفعل شيئا إلا أنه غير مؤمن ؛ فهؤلاء نراقب حركاتهم ليتقي المسلمون شرّهم ليكونوا على استعداد بصفة دائمة لمواجهتهم إذا ما انقلبوا ليؤذوا المسلمين ويهاجموهم ويقاتلوهم.
إذن فلن توضع عقوبة واحدة تشمل الجميع. لأن الجميع متساوين في عدائهم للإسلام ؛ فأئمة الكفر لهم حكم، والذين عداوتهم للإسلام أقل لهم حكم آخر. ثم تأتي رحمة الله سبحانه وتعالى ؛ لأنه سبحانه وتعالى رحيم بعباده فلا ييئسهم أبدا من الرجوع إليه فيقول :﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٥ ) ﴾ ( التوبة ).
ويفتح سبحانه باب التوبة أمام عباده جميعا ولا يغلقه أبدا، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيما يرويه عنه أبو حمزة أنس بن مالك –خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط١ على بعيره وقد أضله في أرض فلاة )٢ : أي أنك وأنت مسافر في صحراء جرداء بعيدة تماما عن أي عمران ثم جلست لتستريح ومعك الجمل الذي تسافر عليه ؛ عليه الماء والطعام وكل ما تملك من وسائل الحياة، ثم غفلت عن الجمل فانطلق شاردا وسط الصحراء، وتنبهت فلم تجده ولا تعرف مكانه، وفجأة وأنت تمضي على غير هدى وجدت الجمل أمامك، فكيف تكون فرحتك ؟ إنها بلا شك فرحة كبيرة جدا لأنك وجدت ما ينجيك من الهلاك، وهذه الفرحة تملأ النفس وتغمرها تماما، كذلك يفرح الله بتوبة عباده، لذلك يوضح سبحانه وتعالى بأنه إن تاب هؤلاء الكفار من عدائهم لدين الله ورسوله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فَلْيُخَلِّ المسلمون سبيلهم وليتركوهم أحرارا.
وهنا نجد ثلاثة شروط : أولها التوبة والعودة إلى الإيمان. وإقامة الصلاة، هذا هو الشرط الثاني ثم يأتي الشرط الثالث وهو إيتاء الزكاة، ولابد أن يؤدي الثلاثة معا ؛ لأن التوبة عن الكفر هي دخول في حظيرة الإيمان، والدخول إلى حظيرة الإيمان، يقتضي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثم إقامة الصلاة ثم إيتاء الزكاة ثم صوم رمضان ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
ولو نظرت إلى أركان الإسلام الخمسة تجد أن المسلم قد يؤدي بعضها ولا يؤدي البعض الآخر، فالمسلم الفقير الذي لا يجد إلا ضروريات الحياة تسقط عنه الزكاة ويسقط عنه الحج، والمسلم المريض مرضا مزمنا يسقط عنه الصوم، وتبقى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ وهذه يكفي أن يقولها المسلم في العمر مرة، ويبقى ركن إقامة الصلاة لا يسقط أبدا، لا في الفقر ولا في الغنى ولا في الصحة ولا في المرض ؛ لأن الصلاة هي الفارقة بين المسلم وغير المسلم، وهي عماد الدين لأنها تتكرر كلَّ يوم خمس مرات، فالمريض عليه أن يصلي بقدر استطاعته. فإن لم يستطع أن يؤديها واقفا فجالسا وإن لم يستطع أن يؤديها جالسا فراقدا.
إننا نعلم أن كل صلاة إنما تضم كل أركان الإسلام ؛ ففي كل صلاة نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ وكل صلاة فيها زكاة ؛ لأن الزكاة إخراج بعض المال للفقراء، والمال يأتي من العمل، والعمل محتاج لوقت، والصلاة تأخذ بعض وقتك الذي يمكن أن تستخدمه في العمل فيعطيك رزقا تزكي به، فكأنك وأنت تصلي أعطيت بعض مالك لله سبحانه وتعالى ؛ لأنك أخذت الوقت الذي كان يمكن أن تعمل فيه فتكسب مالا للزكاة، فكأن الصلاة فيها زكاة الوقت.
إن الوقت هو ما نحتاج إليه في حركة الحياة للحصول على المال فتكون في الصلاة زكاة. ونأتي بعد ذلك للصوم وأنت في الصوم إنما تمتنع عن شهوة
٢ رواه البخاري ومسلم..
ولكن ماذا إن استجار واحد من المشركين بالمسلمين ؟
وهنا ينزل قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٦ ) ﴾ :
وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى المهلة التي هي الأشهر الأربعة أو مدة العهد إذا كان هناك عهد. وبعد أن بين أن الكفار تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وقرنوا الإيمان بالعمل ؛ فالحق سبحانه وتعالى يغفر لهم ما قد سلف منهم، وبين الله سبحانه وتعالى عظمة الإسلام والرحمة التي نزل بها هذا الدين ؛ فيخبرنا أن الذين لم يتوبوا من الكفار وظلوا على حالهم ولم نقدر عليهم بأي عقوبة من العقوبات التي جاءت، ثم جاء أحدهم مستجيرا بالمؤمنين فماذا يكون سلوكنا معه ؟.
جاء الحكم من الله تعالى بأنه مادام قد استجار بك فأجره، وإذا أجرته أسمعه كلام الله تعالى وحاول أن تهديه إلى الإيمان وإلى الطريق المستقيم ؛ فإن آمن واقتنع وأعلن إسلامه أصبح واحدا من المسلمين، وإن لم يسمع كلام الله ولم يقتنع فلا تقتله ؛ ولكن أبلغه مأمنه، أي اسأله من أين جاء ؟ فإذا قال لك اسم القبيلة التي ينتمي إليها أو حدد المكان الذي جاء منه فتأكد أنه سوف يكون آمنا حتى يبلغ المكان الذي يجد فيه الأمان. وهذه هي المرحلة الأخيرة من علاقة الإيمان بالكفر، وهي مرحلة الإجازة والتأمين للمستجيرين بالمؤمنين.
فالله سبحانه وتعالى تفضل على خلقه في الأرض فأرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد أن مرت فترة طويلة على إرسال من سبقوه من الرسل. وكان الناس قد نسوا منهج السماء، بل وحرَّف أهل الكتاب ما نزل إليهم من تعاليم.
وكان لابد أن تتدخل السماء بإرسال خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد جعل في الإيمان مناعات متعددة، توجد أولا في النفس، فحين تستشرف النفس إلى معصية، فالضمير الإيماني يردعها عن تلك المعصية ويتوب الإنسان ويرجع إلى الله تعالى من ذات نفسه وبضميره الإيماني وتلك هي النفس اللوامة. ومعنى وجود اللوم في النفس هو أن الإيمان مازال موجودا فيها، وهذا الإيمان هو الذي يكبح الشهوة ويمنع النفس من الركون إلى المعصية ويرد صاحبه إلى الطريق الصحيح والمنهج السوي.
وهب أن نفسا ولعت بمخالفة المنهج ولم تعد نفسا لوامة، وتظل ترتكب المعاصي حتى تعتاد على المعصية، ويموت فيها الوازع الإيماني، فتجده قد عشقت –والعياذ بالله- مخالفة المنهج، بل أصبحت نفسا أمارة بالسوء، وهنا ينقل الله المناعة الإيمانية من النفس إلى المحيطين بها من عباد الله، فتجد المحيطين بها من عباد الله، فتجد المحيطين بمرتكب المعاصي يردعونه عن المعصية، ويقفون منه مواقف الإيمان من الردع والمقاطعة الجفوة حتى يفيء إلى ربه ويعود إلى رشده. وتلك مرحلة ثانية من مراحل الإيمان. أما إذا فسد المجتمع كله ولم تعد هناك طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا بد أن تتدخل السماء برسالة جديدة وبرسول جديد مؤيد بمعجزة من السماء ليوقظ الناس من هذا السباب الذي شمل الأفراد والمجتمعات.
وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وواجه هذا المجتمع الذي انتشر فيه الكفر أفرادا وجماعات كان لابد أن يحدث تصادم بين الإيمان ومجتمع الكفر ؛ ذلك أن العداوة الشرسة واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه المواجهة للرسول إنما جاءت من المنتفعين بالفساد في الأرض. والمنتفعون بالفساد هم السادة الذين استفادوا من ضياع الحق وانتشار الباطل فأخذوا حقوق غيرهم واستعبدوا الناس، واستأثروا هم بالمنافع وبما فيه الخير لهم ومنعوا ذلك عن باقي عباد الله.
والمنتفعون بالفساد يكرهون أي مصلح جاء ليعدل ميزان حركة الحياة في الكون. فلا بد أن يقفوا في وجهه، ليدافعوا عن سيادتهم وعن منافعهم وأموالهم التي حصلوا عليها بالباطل والظلم، ومن استعبادهم للناس. وكانت الجزيرة العربية في ذلك الوقت مكونة من قبائل متعددة، وكانت لكل قبيلة قانونها الذي يضعه شيخها ليستأثر لنفسه بكل شيء.
ومعنى ذلك أنه لا توجد رابطة تربط بين هذه القبائل، ولا يوجد قانون عام يحكمها ؛ وكل قبيلة لها عزوتها ولها شوكتها ولها حروبها. وكل فرد في قبيلة لابد أن يكون مقاتلا يحمل سلاحه مستعدا للحرب في أي وقت، لأنه مهدد في أي لحظة أن تغير عليه قبيلة أخرى، إلا قبيلة واحدة هي قريش. فقد أخذت السيادة ولا يعتدي عليها أحد ولا تهاجَم قوافلها، ولا تستطيع قبيلة في الشمال أو في الجنوب أن تهاجم تجارتها ؛ لأن هذه القبائل كلها ستأتي في يوم من الأيام قاصدة حج بيت الله الحرام في مكة. وخلال الحج تكون هذه القبائل في حاجة إلى الأمان من قريش ؛ ولذلك حرصت كل قبائل العرب أن تحافظ على علاقتها مع قريش، لأن السيادة على بيت الله الحرام التي جعلها الله لقريش هي الضمان. وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحماية البيت الحرام من أي عدوان، حتى عندما جاء أبرهة بأفياله ليهدم الكعبة ؛ جعله الله هو وجيشه كعصف مأكول مصداقا لقوله الحق تبارك وتعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( ١ ) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ( ٢ ) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ( ٣ ) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ( ٤ ) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ( ٥ ) ﴾ ( الفيل ).
فإذا قرأت السورة التي بعد سورة الفيل مباشرة تجد أنها :
﴿ لإِيلافِ قُرَيْشٍ ( ١ ) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ( ٢ ) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ( ٣ ) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ( ٤ ) ﴾ ( قريش ).
فكأن حفظ الكعبة من الهدم كان حفظا من الله سبحانه وتعالى لسيادة قريش. ولذلك كان من الواجب أن تستقبل قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان والشكر وفهم هذه النعمة وتقديرها، بدلا من أن تقف من الإسلام هذا الموقف المتعنت وتحاربه هذه الحرب الرهيبة، ولكن بدلا من ذلك فقد حدث العكس، وأحست قريش كذبا بأن الإسلام جاء ليهدد سيادتها فقامت تحاربه.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تكن النداءات بالإسلام بعيدا عن هذه السيادة ؟ لأن الحق قد أراد أن تكون صيحة الحق في جبروت الباطل وأن يواجه الإسلام في أول أيامه جبروت سادة الجزيرة العربية كلهم جميعا حتى يمحص الله قلوب المسلمين الأوائل. فهم من يحملون من بعد ذلك دعوة الإسلام في العالم ؛ فلا يعتنق الإسلام منافق أو ضعيف الإيمان، بل يعتنقه أولئك الذين في قلوبهم إيمان حقيقي، ويتحملون كل مظاهر الاضطهاد والتعذيب بقوة إيمانهم.
لقد شاء الحق تبارك وتعالى أن يبدأ الإسلام في مكة ولم يجعل الله له النصر من مكة، وشاء سبحانه وتعالى أن يجعل نصر الإسلام من المدينة ؛ لأن قريشا لو انتصرت دعوة واحد منها فهم سيحاولون احتواءه ليسودوا به الدنيا، وحينئذ سيقال : هم قوم قد تعصبوا لواحد منهم لتظل لهم السيادة، ويكون اعتناق الإسلام نفاقا وليس إيمانا حقيقيا. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى انتصار الإسلام من المدينة ليعلم الناس جميعا ؛ أن العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم لم تخلق الإيمان برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد عليه الصلاة والسلام.
ولذلك شاء الحق سبحانه وتعالى أن تكون هناك مواجهة شرسة بين حملة الإيمان وبين سادة الكفر. وهذه المواجهة أخذت عدة مراحل :
المرحلة الأولى كانت الدعوة للإيمان، والدعوة إلى المحبة، والدعوة إلى المساواة. وعدم مقابلة التعذيب والقتل بالعنف. وهذه البداية لم تعجب سادة قريش بل جعلتهم يستهينون بالمؤمنين ويمعنون في إيذائهم وتعذيبهم ويعتقدون أنهم سيقضون عليهم، فلما وجدوا الدعوة تقوى رغم كل ما تواجهه من مراحل التعذيب والبطش ؛ ازدادوا تنكيلا بالمؤمنين، فهاجر بعض من المؤمنين إلى الحبشة، وأصبحوا يبحثون عمن يحميهم ويستجيرون به ؛ وشاء الحق تبارك وتعالى ذلك حتى لا يدخل الإسلام إلا من أُشرب قلبه حب الإسلام واستهان بكل الصعاب والاضطهاد والقتل والتشريد ؛ وهؤلاء هم الذين سيصبحون مأمونين على الدعوة. وبعد ذلك ظل الكفر على كفره، وظل الإيمان يأخذ إليه بهدوء بعض الأفراد، وحاول الكفار أن يستميلوا المؤمنين بالحيلة بعد أن فشلت القوة والبطش والإرهاب ؛ فقالوا : نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة فيها ما يسمى بالعرف الحديث " قطع العلاقات "، فقال الحق عز وجل :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ١ ) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( ٢ ) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( ٣ ) و لا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ( ٤ ) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( ٥ ) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( ٦ ) ﴾ ( الكافرون )، وكان هذا إعلانا بمرحلة ثانية تتسم بأنه لا مهادنة ولا حلول وسط بين الكفر والإيمان ؛ لأنه لو قابل المؤمنون عبادتهم لآلهة- الكفار ؛ فهذا اعتراف منهم بأن آلهتهم حق، ولو قبلوا أن يعبدوا الإله الواحد ويشركوا به آلهة أخرى لكان ذلك تفريطا، ولا يمكن أن يحدث ذلك. وكان النهي هنا في هذه الآية الكريمة يشمل الحاضر والمستقبل. وهذا ما يسمى في السياسة الدولية باسم قطع العلاقات، بل إن قطع العلاقات الدولية إنما يكون بسبب طارئ، أما الخلاف بين المسلمين الأوائل وأهل الشرك فلم يكن صراعا بين فكر بشر وفكر آخرين، ولكن المسألة كانت صراعات بين منهج تريده السماء لأهل الأرض، وبين المنتفعين بالفساد في الأرض ؛ لذلك كان لابد أن يكون القطع نهائيا، فلا لين ولا مهادنة ولا حلول وسط بين الكفر والإيمان، وهكذا فشلت حيلة الكفار في تمييع وتضييع قضية الدين، وضاع مكرهم، وبقي الوجود الإيماني قويا متحدا في مواجهة جبروت الكفار بعد أن كان مهددا.
ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الثالثة، مرحلة اعتراف الكفر بقوة الإيمان، فقد كان الكفار يواجهون المؤمنين بالقهر والتعذيب، والمؤمنون يواجهون هذا بالصبر والاحتمال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحدثت المواجهة المسلحة بين الإيمان والكفر في غزوة بدر، وانتصر المؤمنون وأصبح لهم كيان يحميهم، فلم يعودوا هم القلة الضعيفة المستذلة والمستكينة، بل أصبحت لهم قوة ولهم قدرة، وإن لم تصبح لهم سيطرة. ولكنهم أصبحوا قوة قادرة على مواجهة الكفار أو قوة مساوية لهم ؛ تستطيع أن تصد الاعتداءات وتواجه الضربة بالضربة.
وحين أصبح للإيمان هذه القوة والقدرة على حماية أنفسهم والمساواة والكيان تجاه الكفار، كانت هذه بداية المرحلة التي أعطت الإسلام تفرغا لنشر الدعوة خارج محيط مكة، وأمن المسلمون وهم ينشرون دعوتهم من هجوم الكفار وتنكيلهم بهم بعد صلح الحد
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) ﴾ :
أي لقد جربتم العهود مع المشركين، وفي كل مرة يعاهدونكم ينقضون عهدهم، وقد نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاهدة الحديبية، إذن فالله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أننا يجب ألا نأمن لعهود المشركين لأنهم لا يحفظون العهد ولكنهم ينقضونه، وعلى ذلك فعلة نقض العهد أنهم لم يستقيموا للعهد من قبل. ويكون بقاء العهد هو الأمر العجيب.
و " كيف " هنا للاستفهام عن الحالة، يقال : كيف حالك ؟ تقول : بخير والحمد لله. إذن : ف " كيف " يُسأل بها عن الحال، والحال قد يكون عاما، أي كيف حالك وحال أسرتك وأولادك ومعيشتك إلى آخره، وقد يكون خاصا أن تسأل عن مريض فتقول : كيف حال فلان ؟ فيقال : شُفي والحمد لله. أو تسأل عن معسر فتقول : كيف حاله ؟ فيقال : فرّج الله ضائقته. أو تسأل عن ابن ترك البيت هاربا فيقال : عاد والحمد لله.
إذن ف " كيف " إن أطلقت تكون عامة، وإن خصصت تكون خاصة، ولكنها تُطلق مرة ولا يراد بها الاستفهام، بل يراد بها التعجب ؛ إما تعجب من القبح، وإما تعجب من الحسن. كأن يقال لك : كيف سب فلان أباه ؟ هنا تعجب من القبح لأن ما حدث شيء قبيح ما كان يصح أن يحدث. وتأتي لإنسان اخترع اختراعا هاما وتقول : كيف وصلت إلى هذا الاختراع ؟ وهذا تعجب من الحسن. والتعجب من القبح يكون تعجب إنكار والتعجب من الحسن يكون تعجب استحسان كأن نقول : كيف بنيت هذا المسجد ؟ وفي هذه الآية الكريمة يقول سبحانه وتعالى :
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ﴾ ( التوبة : ٧ )، وهذا تعجب من أن يكون للمشركين شيء اسمه عهد ؛ لأنهم لا يعرفون إلاَّ نقض العهد ؛ ولا يتمسكون بالعهود ولا يحترمونها، إذن يحق التعجب من أن يكون لهم عهد بينما في الحقيقة لا عهد لهم.
وهذا التعجب للاستهزاء والإنكار، فأنت مثلا إذا جاء أحد يهددك، فقلت له : من أنت حتى تهددني ؟. يكون هذا استهزاء واستنكارا لأنك لا تعرفه، وأيضا تستهزئ أن يملك القدرة على أن ينفذ تهديده لك. ومرة تكون استفهاما حقيقيا، كأن تسأل إنسانا لا تعرفه : من أنت ؟ فيقول لك : أنا فلان بن فلان. وأحيانا تكون الإجابة عن الكيفية بالكلام، وأحيانا لا ينفع الكلام فلا بد أن يجاب بالفعل.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ ( البقرة : ٢٦٠ )، كيف هذه تحمل معنى التعجب الاستحساني ؛ لأنك إذا بعثت الحياة في ما لا حياة فيه ؛ فهذه مسألة عجيبة تستوجب الاستحسان. ولم يجب سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم باللفظ، بل أجاب بتجربة عملية، ودار حوار بين الحق سبحانه وتعالى وخليله إبراهيم عليه السلام فسأله المولى سبحانه :﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ ( البقرة : ٢٦٠ ) رد إبراهيم عليه السلام :﴿ قَالَ بَلَى ﴾ ( البقرة : ٢٦٠ ) أي أنني يا رب آمنت، وأضاف القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام :﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ ( البقرة : ٢٦٠ ).
والإيمان هو اطمئنان القلب، فكيف يقول إبراهيم آمنت ؟ أليس في ذلك تناقض ؟ وأقول : إن إبراهيم واثق من أنَّ الله سبحانه خلق الكون كله ولكنه يريد أن يعرف كيفية الإحياء وكيف يحدث، حينئذ لم يجبه الحق سبحانه وتعالى بالكلام، بل أراه تجربة عملية، فقال له :
﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ ( البقرة : ٢٦٠ ) : أي عليك أن تختار أربعة طيور وتضمها إليك وتتأكد من شكلها حتى إذا ماتت وأحييت تكون متأكدا من أنها هي نفس الطير.
﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ ) ﴾( البقرة : ٢٦٠ ) : أي قطع هذه الطيور بنفسك، وضع على كل جبل قطعة، وبعد ذلك ادعُها أنت تأتك سعيا أي مشيا، حتى لا يقال إنها طيور قد جاءت من مكان آخر، بل تجيئك نفس الطيور سيرا، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعطي القدرة لمخلوق عندما يستدعي الميت أن يأتيه حيا، فما بالك بقدرة الله عز وجل ؟.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ﴾ ( التوبة : ٧ ).
وهذا استفهام للإنكار والتعجب من أن المشركين ليس لهم عهد، بل تمردوا وتعودوا دائما على نقض العهود ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) ﴾ ( التوبة : ٧ ) : أي أن الله عز وجل وهو يخبر المؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا عهد لهم، لا يطالب المؤمنين أن يواجهوا المشركين بالمثل، بل يأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يحافظوا على العهد مادام الكافرون يحافظون عليه، إلى أن يبدأ الكافرون في نقض العهد وهنا يلزم سبحانه المؤمنين أن يقابلوا ذلك بنقض مماثل وهذا ما يفسره قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) ﴾ ( التوبة : ٧ )، والمتقي هو الطائع لله فيما أمر وفيما نهى ويجعل بينه وبين صفات الجلال من الله وقاية ؛ إذن فأساس التقوى هو أن لا ينقض المؤمن عهدا سواء مع مؤمن أو مع كافر، وإنما الذي يبدأ بالنقض هو الكافر، وعلى المؤمن أن يحترم العهد والوعد.
﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) ﴾ :
نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يقل كيف يكون للمشركين عهدا، بل اكتفى ب " كيف "، لأن غدرهم صار معروفا، وكانت " كيف " الأولى استفهاما عن أمر مضى.
والتساؤل هنا يوضح لنا أنهم سيخونون العهد دائما، كما فعلوا في الماضي، فكأن الذي يخبر في الماضي يخبر أيضا عن المستقبل ويعلم ما يكون منهم. ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله :﴿ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾ ( التوبة : ٧ ).
ومعنى :" يظهروا "، أي يتمكنوا منكم، وإن هم تمكنوا من المؤمنين لا يرقبون فيهم إلاّ ولا ذمّة، و " يرقب " من الرقيب الذي يراقب الأشياء. إذن فهم لا يراقبون بمعنى لا يراعون، أي أنهم لو تمكنوا من المؤمنين لا يراعون ذمة ولا عهدا ولا ميثاقا، بل يستبيحون كل شيء. وهذا إخبار من الحق سبحانه وتعالى عما في نفوس هؤلاء الكفار من حقد على المؤمنين.
ونلاحظ أن كلمة " يرقبون " غير " ينظرون "، وغير " يبصرون "، وهي أيضا غير " يلمحون " وغير " يرمقون "، مع أنها كلها تؤدي معنى الرؤية بالعين، ولكن يرقب تعني يتأمل ويتفحص باهتمام حتى لا تفوته حركة، لذلك إذا قلنا : إن فلانا يراقب فلانا، أي لا تفوته حركة من حركاته وهو ينظر لكل حركة تصدر منه. أما كلمة " نظر " فتعني رأى بجميع عينيه، وكلمة " لمح " تعني رأى بمؤخر عينيه، و " رمق " أي رأى من أعلى. وقوله سبحانه وتعالى : " لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمّة " يعني لا يراعون فيكم عهدا، ولا يمنع الواحد منهم وازع من أن يفعل أي شيء مهما كان قبيحا ؛ والمثال : أن يرفع الرجل القوي يده ليضرب طفلا صغيرا لا يتحمل ضربته، هنا يمسك أحدهم بيده ويطلب منه أن يراعي أن الطفل صغير لا يتحمل الضرب، وأنه ابن فلان قريبه، وأنهم جيران ؛ فلا يراعي هذا كله، وإنما ينهال على الطفل ضربا.
وقوله سبحانه وتعالى : " إلاّ " هي في الأصل اللمعان أي البريق، و " إلاّ " أيضا هي الصوت العالي، واللمعان والصوت العالي لافتان لوسائل الإعلام الحسية، وهي الأذن والعين، والإنسان إذا عاهد عهدا فهذا العهد يصبح أمرا واضحا أمامه يلفت عيونه كما يلفتها الشيء اللامع، ويلفت أذنه كما يلفتها الصوت العالي، وسُمي العهد والكلام " إلاّ " لأنه معلوم بالعين والأذن.
هذا هو المعنى اللغوي، لكن المعنى الاصطلاحي لكلمة " إلاّ " هو الغضب، بأن تشد شيئا كأنك تغصبه على عدم الالتصاق بشيء آخر، ولذلك سُمي سلخ جلد الشاة غصبا لأن اللحم ملتَصَق بالجلد، وسُمي أخذ المال غصبا ؛ لأن صاحب المال متمسك بماله تمسك الشاة الحية بجلدها. وإذا أُطلق الغصب في الفقه لا ينصرف إلى المعنى اللغوي وهو اللمعان والصوت العالي، وللعلماء في هذا المعنى أكثر من رؤية، وكل واحد منهم أخذ لقطة من ال " إل " وأصله اللمعان، أَلَّ.. يؤلّ.. إلاًّ، بمعنى لمع.. يلمع.. لمعا. وال " أل " أيضا هو الصوت العالي، وقال ابن عباس والضحاك رضي الله عنهما : إن " إلاّ " هي القرابة ؛ لأن القرابة سبب للتراحم ؛ فأنت يعز عليك أن تخون قريبا لك، لأن القرابة لا تحتاج إلى عهد، وقيل إن " إلاّ " هي العهد.
وقال سيدنا الحسن : إن " إلاّ " هي الجوار وما يوجبه من حقوقه. وقال قتادة : إن " إلاّ " هي الحلف والتحالف. وقال أبو عميرة : إن " إلاّ " هو اليمين أو القسم.
والمعاني كلها تلفتنا إلى وجود نوع من التراحم، بحيث لا تتملك الإنسان القسوة أو انفلات الانفعال، وليجعل الإنسان لنفسه من يقول له : " اهدأ إنه جارك أو من قوم بينهم وبين من تعاهدون صلة قرابة " ؛ لأن الذي يجعل الإنسان لا يميل إلى الشر ولا يستشري فيه ساعة يحفزه الأمر ؛ هو مراعاة الملابسات كلها، وهكذا يتدخل الحوار، ولكن قد توجد قرابة أو عهد أو قسم أو جوار ليمنع البطش بقسوة، أي إن " إلاّ " هو الأمر الذي يمنع الرد بقسوة على شيء قد يكون وقع خطأ. والمعنى أيضا هو عدم احترام للقرابة أو الجوار أو العهد أو القسم، فإذا تمكن رجل قوي من طفل صغير لم يراع فيه أيا من هذه الأشياء.
ويريد الحق أن نعلم أن المشركين إذا تمكنوا من المؤمنين فهم لا يراعون فيهم قرابة ولا عهدا ولا حلفا ولا جورا ولا قسما ولا أي شيء. إذن فكيف يكون للمشركين عهد ؟ وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يراعون فيهم شيئا أبدا.
ثم يضيف الحق سبحانه وتعالى قوله :﴿ وَلاَ ذِمَّةً ﴾( التوبة : ٨ )، والذمة هي الوفاء بالأمانة التي ليس عليها إيصال ولا شهود، فإذا اقترض واحد مبلغا من شخص آخر وكتب إيصالا عليه بذلك المبلغ، فهذا الإيصال هو الضامن للسداد، وكذلك إن كان هناك شهود فشهادتهم تضمن الحق لصاحبه. ولكن إن لم يكن هناك إيصال ولا شهود، يصبح الأمر موكولا إلى ذمة المقترض ؛ إن شاء هذا المدين اعترف بالقرض، وإن شاء أنكره، وهناك ذمة أخرى هي التي بينك وبين نفسك، والمثال على ذلك قد تعاهد نفسك بأن تعطي فلانا كل شهر مبلغا من المال، وهذا أمر ليس فيه عهد مكتوب أو شهود لكنه متروك لذمتك، إن شئت فعلته، وإن شئت لم تفعله. وما في الذمة – إذن- هو شيء إنْ لن تفعله تُفضح، مثال ذلك : أن تقرر بينك وبين نفسك أن تساعد أسرة ما، وهذا أمر خاضع لإرادتك، فلا عهد يجبرك على ذلك ولا قرابة ولا جوار، لا شيء إلا ذمتك، ولذلك فأنت تراعي الوفاء بما وعدت به نفسك لتحافظ على سمعتك ورؤية الغير لك. وكذلك أيضا حين تأخذ دينا بلا إيصال منك أو شهود عليك، ولكنك تحرص على أن ترده لأنه في ذمتك.
﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) ﴾ ( التوبة ).
وهكذا نعرف أن " كيف " هنا تعجب من أن يكون للمشركين الآن أو في المستقبل عهد لأنهم يحترفون نقض العهود ولو تمكنوا من المؤمنين فهم ينكلون بهم أبشع تنكيل دون مراعاة لأي اعتبار، وقد يقول قائل : إنهم معنا على أحسن ما يكون ؛ بشاشة وجه وحسن استقبال إلى آخره، فكيف إذا تمكنوا منا انقلبوا إلى وحوش لا ترحم ؟. ونقول : إن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يظهر وما يخفى، وقد علم ما يدور في خواطر المؤمنين فرد عليهم حتى لا يترك هذه الأشياء معلقة داخل نفوسهم، ولذلك يريد سبحانه وتعالى على هذا الخاطر :﴿ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) ﴾ ( التوبة ) : أي أن الله عز وجل ينبه المؤمنين ويحضهم ألا يصدقوا الصورة التي يرونها أمامهم من المشركين ؛ لأنها ليست الحقيقة، بل هو خداع ونفاق، فهم يقولون القول الحسن، ويقابلونك بوجه بشوش وألفاظ ناعمة، لكن قلوبهم مليئة بالحقد عليكم أيها المسلمون بحيث إذا تمكنوا منكم تظهر مشاعرهم الحقيقية من البغض الشديد والعداوة، ولا يرقبون فيكم إلاّ ولا ذمّة. فإذا قال الله سبحانه وتعالى :﴿ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾( التوبة : ٨ ).
فعلى المؤمنين أن يصدقوا ما جاء من الحق، ويكتشفوا أن اللسان الحلو وحسن الاستقبال ليس إلا خداع، من هؤلاء الأعداء، وهو سبحانه بهذا الكشف إنما يعطينا مناعة بألاَّ ننخدع بما نراه على وجوههم ؛ فهذا مجرد أمر استقبالي، لا يمثل ماضيا أو حاضرا، وحين يبرم سبحانه وتعالى أمرا استقباليا فهو يخبر به عباده المؤمنين، ولذلك نجده سبحانه وتعالى يرد بنفس الأسلوب على هذه الخواطر والمثال : في قوله سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ ( التوبة : ٢٨ )، والبلاغ هنا نهي عن دخول المشركين المسجد الحرام أو اقترابهم منه، ومن الطبيعي أن تدور الخواطر هنا في نفوس عدد من المؤمنين الذين يستفيدون من المشركين في مواسم الحج، لأنهم أمة تعيش على اقتصاد الحج، حيث يبيعون السلع لهؤلاء القوم ليكسبوا قوت العام، فإذا ما تم منع المشركين من الحج أو الاقتراب من المسجد الحرام، فمن أين يأتي الرزق الذي يحصلون عليه من البيع لهم ؟ ولابد أن يفكر المؤمنون : من أين سنأكل ؟ نحن نحضر بضاعتنا وننتظر طوال الموسم حتى الحج ؛ فإذا نقص عدد الحجاج فلمن نبيع ؟.
فيرد الله سبحانه وتعالى على هذه الخواطر بقوله تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ ( التوبة : ٢٨ ) : أي لا تخافوا الفقر، لأن الله يعلم ما سوف يحدث، والله هو الغني وعنده مفاتيح كل شيء وسوف يغنيكم من فضله ويفتح لكم باب الرزق مما يعوضكم وزيادة. وهكذا يرد الله سبحانه وتعالى على الخواطر التي تدور في نفس المؤمن ساعة نزول القرآن ؛ حتى تطمئن قلوب ونفوس المؤمنين فيقول عز وجل :
﴿ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) ﴾ ( التوبة )، وفي هذا القول رد على الخواطر التي دارت في نفوس المؤمنين ؛ وهم يرون المشركين يستقبلونهم بألفاظ ناعمة ووجوه تملؤها البشاشة، فأوضح لهم الحق سبحانه وتعالى : لا تنخدعوا فما في القلوب عكس ما هو على الوجوه.
وقوله تعالى : وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨ ) } ( التوبة )، يبين أنهم بعيدون عن المنهج، فالفسق هو الخروج عن الطاعة، وهل الكافر والمنافق له طاعة ؟.
نقول : إنك إن نظرت لهؤلاء تجدهم خارجين حتى عن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم ؛ فهم لا يلتزمون بمنهج الباطل الذي يعتنقونه، إذن فهم فاسقون حتى في المنهج الذي ينتسبون إليه، فإذا كانوا كذلك مع منهج الباطل، فكيف بهم مع منهج الحق ؟.
وقوله تعالى :﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ يوضح بأنه قد تكون هناك قلة ملتزمة، وهذا احتياط قرآني جميل، كما أنها ردت على السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن أن هؤلاء كافرون- وليس بعد الكفر ذنب- فكيف يقال إنَّهم فاسقون أي عاصون أو خارجون عن الطاعة وهم غير مؤمنين أصلا ؟
نقول : إنهم خارجون حتى عن مناهج الكفر التي اختاروها لأنفسهم، ولذلك يبين الله سبحانه وتعالى وضعهم حين يقول :
﴿ اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٩ ) ﴾.
وكان المفروض - إذن- أن يكونوا قد دفعوا الثمن، لأن المشتري هو الذي يدفع الثمن، ولكن هنا عُكست القضية ؛ فجعل الحق سبحانه وتعالى الثمن هو ما يشترونه، مع أن الثمن هو الذي يدفع، فتكون القضية مخالفة لواقع البيع والشراء، والذي يجب أن نلاحظه أيضا هو أن الثمن يساوي السلعة. فأنت تأخذ السلعة وتعطي للبائع ثمنا يساويها، لأن ثمن كل شيء يجب أن يكون مناسبا له، فإذا اشتريت شيئا بسيطا دفعت له ثمنا بسيطا، وإذا اشتريت شيئا ثمينا دفعت فيه ثمنا غاليا.
هذا كله ملحوظ حتى في الأعمال، وقد تكون ممن يرغبون في مشاكسة الغير، وقد تجد من يشاكس غيره ؛ يطلب أحد من أتباعه أن يسب فلانا ويعطيه عشرة جنيهات، فإذا أراد أن يجعل التابع يضرب خصمه، يقول له : اضرب وأعطيك خمسين، وإن أراد أن يقتل التابع خصمه فهو يعطيه الألوف من الجنيهات، وغالبا ما يقول هؤلاء الذين بلا إيمان، كل ذمة قابلة للانصهار بالذهب، لكن المختلف قيمة هو الكمية التي تصهر أي ذمة، فهناك من تنصهر ذمته بريال، وآخر تنصهر ذمته بعشرين أو ثلاثين، وهناك من تنصهر ذمته بملايين.
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن هؤلاء الكفار قد حوّلوا الإيمان إلى سلعة تباع وتشترى، فهم قد باعوا إيمانهم، وبدلا من أن يتقاضوا عنه ما يساوي الإيمان والإيمان أغلى من كنوز الدنيا كلها ؛ باعوا إيمانهم بثمن قليل، أي أنهم حتى لم يقدروا قيمة الإيمان فباعوه رخيصا. كيف باعوا الإيمان بثمن رخيص ؟.
نقول مثلا : إن الذي يرتشي يفعل ذلك ويريد أن يعوّج ميزان الحق، والذي يغير ميزان الحق يشكك الناس في العدالة، وإذا شك الناس في العدالة ؛ فقدوا سندهم الأمني ؛ لأن كل مظلوم أمله أن يرفع الأمر للقضاء فينصفه، أو أن يرفع أمره للمسئول فيعطيه حقه ؛ فإذا أحس الناس بأن الحق قد ضاع نتيجة أنه أصبح هناك ثمن للإيمان.
وإن دفع اختلت الموازين، في هذه الحالة يفسد المجتمع كله، فكأنهم باعوا فساد المجتمع كله بثمن قليل جدا.
كما أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الحساب يوم القيامة ؛ وكيف أن المؤمنين سيخلدون في الجنة وينعمون بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسيدخل هؤلاء الكافرون النار وبذلك يكونون قد باعوا إيمانهم مقابل ثمن رخيص مهما كان المال الذي سيحصلون عليه ؛ لأن مال الدنيا كلها لا يساوي يوما في الجنة ؛ لأن الدنيا موقوتة بزمن، ومتاعها محدود وقليل، فكأنهم باعوا الخلود في النعيم بمتعة وقتية قد لا تستمر إلا أياما أو سنوات. وحينئذ يعرف الكافرون أن الثمن الذي تقاضوه قليل جدا بالنسبة لما خسروه. وليتهم جعلوا الإيمان ثمنا يدفعونه للحصول على متاع قليل في الدنيا، ولكنهم زادوا على ذلك أنهم صدوا عن سبيل الله.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ﴾( التوبة : ٩ ).
والصد يحدث حين تكون هناك دعوة معروضة بأدلتها فتمنع الناس من أن يستمعوا إليها، لأنك تعرف أنهم لو سمعوها لاعتنقوها واقتنعوا بها، ولذلك نجد الكفار مثلا حين نزل القرآن والعرب أمة بلاغة وأمة بيان ؛ عرفوا أنه لو سمع الناس القرآن لأحسوا بإعجازه وبلاغته وحلاوته ولآمنوا به، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى على ألسنتهم في القرآن :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( ٢٦ ) ﴾ ( فصلت ).
لأن الكفار يعرفون أن الناس لو استمعوا للقرآن لآمنوا به، ولذلك فهم ينهونهم عن السماع، وإن قرأ أحد القرآن يأمرون بعضهم البعض باللغو فيه حتى لا يفهم شيئا، وهذه شهادة من الكفار بأن الآذان لو استقبلت القرآن لآمنت، واللغو هو نوع من الصد عن سبيل الله، وكان هناك نوع آخر من الصد عن سبيل الله أنهم كانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم يعرفون أن حلاوة الدعوة ستجعل من يستمع إلى دعوة الرسول يؤمن بها. ولذلك فهم يصدون الناس عن كلام الله تعالى وعن الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون لأهل الحجيج : لا تصدقوا الرجل الذي يقول إنه نبي، وهذه شهادة منهم أن الآذان لو استقبلت القرآن لسحبت أفئدتهم إلى الإيمان، وهذه شهادة ضدهم وليست لهم ؛ لأنهم واثقون أن سماع الحجيج لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستبعدهم عن الكفر ؛ لذلك كانوا يخافون من أن يتأثر الناس بهذا الدين الذي هو دين الحق فيؤمنوا به وهذا ما جعلهم يصدونهم عنه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٩ ) ﴾( التوبة )، وساء أي قبح، وليس هو قبح الآن فقط، ولكنه قبح حاليا وعظمت العقوبة عليه مستقبلا.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٩ ) ﴾( التوبة )، يرينا دقة القرآن الكريم في أن السيئ منهم ليس عملا واحدا ولكنه أعمال متعددة ؛ قول وفعل، أي أنهم يصدون الناس بالكلام ويمنعونهم باستخدام القوة في بعض الأحيان. وباستخدام الحق لكلمة " يعملون " ؛ يلفتنا إلى أن أعمالهم ليست قوة وليست فعلا فقط، فهناك القول وهناك الفعل وكلاهما عمل ؛ القول عمل اللسان، والفعل عمل الجوارح. فلو قال الحق : ساء ما كانوا يفعلون، لقلنا فعلوا ولم يقولوا : ولو قال : ساء ما كانوا يقولون، لقلنا : قالوا ولم يفعلوا. وسبحانه أوضح لنا أن القول والفعل كلاهما عمل، وقال سبحانه :
﴿ يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون( ٢ ) ﴾ ( الصف )
ليبين لنا أن هناك فرقا بين القول والفعل ؛ القول أداته اللسان، والفعل أداته بقية الجوارح، والمعنى في قوله تعالى :﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ أي ساء قولهم وفعلهم.
﴿ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( ١٠ ) ﴾ :
ومن لا يرقب إلاًّ ولا ذمة في غيره إنما يظلمه، فإذا كان بيني وبينك قرابة، أو عهد، أو إيمان، فإن لم تراع ذلك تكون قد اعتديت على حقوقي عندك، وليتك قد اقتصرت في الاعتداء على حقوق الغير، لكنك – أيضا- اعتديت على نفسك، لأنك أعطيتها متاعا قليلا في الدنيا، وتصلى في الآخرة نارا، إذن فقد ظلمت نفسك. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ ( آل عمران : ١٣٥ ).
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ( النحل : ١١٨ )
وأليس الذي فعل فاحشة، يظلم نفسه ؟ بلى، ظلمها في الآخرة بعد أن أعطاها شهوة في الدنيا، أي أنه أخذ متعة عاجلة بعذاب آجل. لكن الذي يظلم نفسه ظلما شديدا وبيِّنا هو الذي يرتكب إثما دون أن يأخذ متعة في الدنيا، فلا هو أخذ متعة دنيا ولا أخذ متعة آخرة، مثل الذي يتطوع لشهادة الزور، هو يأخذ عذابا في الآخرة ولم يأخذ متعة في الدنيا.
وقد يقول قائل : إن هذه الآية مكررة لأن الله تعالى قال من قبل :﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ ( التوبة : ٨ ).
ونقول : إن الموضوع يختلف، ففي الآية الثامنة من سورة التوبة يبين الحق أنهم إن تمكنوا من المؤمنين فلن يراعوا قرابة ولا جوارا ولا حلفا، وإن أظهروا عكس ذلك. أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فهم يظلمون أنفسهم ويبيعون إيمانهم بثمن قليل، وهناك فرق بين ظلم الغير وظلم النفس.
وهم في صدهم عن سبيل الله تعالى وعدوانهم على المؤمنين، لم يحصلوا على فائدة دنيوية، بل حاربوا الإيمان وحاربوا الدين فأخذوا الإثم ولم يستفيدوا شيئا، فكأنهم لا يرقبون إلاًّ ولا ذمة حتى مع أنفسهم. ولذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بأنهم هم المعتدون، لأنهم دون أن يُعتدى عليهم تطوعوا بالعدوان على دين الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين ثم قاموا بالعدوان على أنفسهم.
﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) ﴾ :
وهذه الآية الكريمة تؤكد لنا أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأن الباب مفتوح دائما لتوبة المشركين والكافرين مهما كانت ذنوبهم، وهكذا تكون رحمة الله تعالى. ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال : " فإن تابوا " ولم يقل إذا تابوا، لأنه لو قال : إذا تابوا تكون توبتهم مؤكدة، ولكن قوله : " فإن تابوا " فيها شك، لأن ما فعلوه ضد الإيمان كثير، والذي نأمله فيهم قليل، ولكن التوبة تفترض أن يباشر التائب بعدها مهمته الإيمانية، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ ( التوبة : ١١ ).
إذن فالمهمة الإيمانية بعد التوبة إنما تكون بشهادة أن " لا إله إلا الله محمد رسول الله "، وبطبيعة الحال لابد من مباشرة الصلاة لأنها تجمع كل أركان الإسلام، وهي عمل يومي، وليست عملا مطلوبا من الإنسان مرة واحدة كالحج، وليست كالصوم، فالصوم مدته شهر واحد من السنة. إذن لكي تتأكد التوبة فلابد أن يؤدي التائب الصلاة في وقتها كل يوم فهي العمل اليومي الذي لا يؤجل ولا يتأخر عن وقته، والصلاة قرنت غالبا بالزكاة في آيات القرآن الكريم ؛ لأن الزكاة تضحية بالمال، والمال ناتج عن العمل، والعمل ناتج الوقت، والصلاة تضحية بالوقت، فكأن الصلاة –كما قلنا- فيها زكاة.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) ﴾ ( التوبة ).
إنه لابد أن نلاحظ في التفصيل هنا المراحل الإيمانية التي بينها الله عز وجل لنا ؛ المرحلة الأولى وهي تحمل الاضطهاد والصبر، والمرحلة الثانية أنه لا مهادنة بين الإيمان والكفر، وهذه حسمت محاولة الكفار تمييع قضية الإيمان بأن نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، وكانت هذه عملية مرفوضة تماما الآن وفي المستقبل وحتى قيام الساعة. ثم جاءت مرحلة المعاهدات ثم نقض العهود ثم مهلة الأشهر الأربعة الحرم التي أعطيت للكافرين. وكل هذه مسائل مقننة، ولم تكن الأمة العربية تعرف التقنينات.
إذن فكل هذه التقنينات جاءت من السماء، التقنينات في الأمم تأخذ أدوارا طويلة، ولا يوجد قانون بشري يولد سليما وكاملا، بل كل قانون يوضع ثم تظهر له عيوب في التطبيق، فيعدّل ويطور ويفسر ويحتاج إلى أساطين القانون الذين يقضون عمرهم كله في التعديلات والتفصيلات، فكيف ترتب هذه الأمة العربية الأمية التي لم يكن لها حظ من علم ولا ثقافة كل هذه التقنينات ؟.
نقول : إنها لم ترتب، وإنما رتب لها ربها الذي أحاط بكل شيء علما، فكل هذه المراحل التي مر بها الإيمان نزلت فيها تقنينات من السماء تبين للمؤمنين ما يجب أن يفعلوه.
﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ ( التوبة : ١١ )
ونحن عادة نعرف أخوة النسب، فهذا أخي من أبي وأمي، أو هذا أخي من الأب فقط، أو هذا من الأم فقط، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وجاء إخوة يوسف ﴾ ( يوسف : ٥٨ )، هذه أخوة النسب، ونحن نعلم أن مادة الأخوة تأتي مرة لتعبر عن أخوة النسب، وتأتي مرة كلمة " إخوان " لتعبر عن الأخوة في المذهب والعقيدة، وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يرفع الإيمان إلى مرتبة النسب، فقال عز وجل :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ ( الحجرات : ١٠ ).
ليدلنا على أنهم ماداموا قد دخلوا معنا في حظيرة الإيمان فلهم علينا حق أخوة النسب فيما يوجد من تواد وتراحم، وترابط وحماية بعضهم البعض دائما، وحب ووفاق إلى آخر ما نعرفه عن حقوق الأخوة بالنسب.
ولكن نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ ( التوبة : ١١ )
ولم يقل إخوانكم، لماذا ؟.
نقول : ليس من المعقول أن يخرجوا من كل ما كانوا فيه من آثام بالتوبة، ثم يصبحوا في نفس التو واللحظة إخوة، لكن ذلك يحدث عندما يتعمق إيمانهم، ويثبت صدق توبتهم حينئذ يصبحون إخوة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) ﴾ ( التوبة )، كيف يكون التفصيل لمن يعلم ؟ ومادام يعلم فلماذا التفصيل ؟.
ونقول : إن المعنى هنا أن الله سبحانه وتعالى يفصل الآيات لمن يريدون أن يعلموا العلم الحقيقي الذي يأتي من الله، لأن هذا العلم له أثر كبير على مستقبل الإيمان، ولذلك فغير المسلمين الذين يهتمون بدراسة الدين الإسلامي دراسة جادة للبحث عن العلم الحقيقي ينتهون إلى إعلان إسلامهم، لأنهم ماداموا أهل علم وأهل مواهب وأهل طموح في فنونهم، ومادامت شهوة العلم قد غلبتهم، وأرادوا أن يدرسوا منهج الإسلام بموضوعية، لذلك تجدهم يعلنون الإسلام لأنهم ينظرون النظرة الحقيقية للدين الذي يدرسونه، وهم يأخذون الإسلام من منبعه الإيماني وهو القرآن الكريم والسنّة النبوية، ولا يأخذون الإسلام من المنسوبين للإسلام، أي من المسلمين، لأن المسلمين قد يكون فيهم عاص، وقد يكون فيهم سارق، وقد يكون فيهم مُرتشٍ، وقد يكون فيهم كذاب، وقد يكون فيهم منافق، ولو أخذوا الإسلام عن المسلمين لقالوا : ما هذا ؟ معصية وسرقة وكذب ورشوة ونفاق ؟ !.
إنني أقول دائما لمن لم يدرس الإسلام من أهل البلاد الأخرى : لا تنظر إلى المنسوبين للإسلام، ولكن انظر إلى الإسلام في جوهره ومنهجه :( القرآن والسنة ) ؛ هل جرم الرشوة والسرقة والكذب والنفاق وجعل لها عقوبة أو لا ؟ نعم جرّمها.
إذن فهذه الأفعال كلها التي وجدتها في عدد من المسلمين واستنكرتها ليست من الإسلام في شيء، ولكنك إذا ذهبت إلى الإسلام لتعرفه من منابعه العلمية وهي معزولة عن المنسوبين إليه لانتهيت إلى الإيمان.
ولذلك لو عرف المسلمون الذين ينحرفون عن المنهج، ماذا يفعلون بالإسلام وكيف يسيئون إليه ؛ لعلموا أنهم يفعلون شيئا خطيرا ؛ لأن الإسلام منهج وسلوك، وليس منهجا نظريا فحسب، بل هو منهج عملي يطبق في الحياة ؛ ولذلك فإذا كان القرآن الكريم يمثل قواعد المنهج، فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل المنهج العملي التطبيقي للإسلام. ويقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ ﴾ ( الأحزاب : ٢١ ).
والمسلم حين يطبق منهج الإسلام يلفت نظر غير المسلم إلى هذا الدين ويحببه فيه١، وحين يفعل ما لا يرضاه الإسلام ينُفَرِّ غير المسلم من الدين، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( ٢ ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( ٣ ) ﴾ ( الصف )، لأن فعلك حين يختلف مع الدين الذي تدعوا إليه وتؤمن به، فهو يتحول إلى حجة ضد الدين، فيقول غير المسلم : لقد رأيت المسلم يغش، ورأيته يسرق، ورأيت يده تمتد إلى الحرمات، إذن فكل منحرف عن الدين إنما يحمل فأسا يهدم به الدين، ويكون عليه وزر عمله، ووزر من اتخذوه قدوة لهم٢.
ولقد قلنا : إننا حين ننظر إلى التمثيل الدبلوماسي في العالم الإسلامي، نجد اثنتين وسبعين دولة إسلامية لها سفارات في معظم دول العالم، وأتساءل : كم من أفراد هذه السفارات يتمسك بالمظهر الإسلامي ؟ أقل القليل. وكم من الجاليات الإسلامية في الدول الأجنبية يتمسكون بتعاليم الدين ؟ أقل القليل. ولو أنهم تمسكوا جميعا بتعاليم الإسلام لعرفت دول العالم أن لهذا الدين قوة ومناعة تحميه. وأن هذه المناعة هي التي منعت الحضارة المادية المنحرفة من أن تؤثر في هؤلاء، ولكان لفتة قوية لشعوب العالم لكي تدرس هذا الدين، ولكنك تجدهم يذوبون ويتهافتون على الحضارة المادية للدول التي يقيمون فيها، مما يجعل شعوب هذه الدول تقول : لو كان دينهم قويا لتمسكوا به، ولم يتهافتوا على حضارتنا.
وإذا درسنا تاريخ الإسلام نجد أنه لم ينتشر بالقتال أو بالسيف ؛ لكنه انتشر بالأسوة الحسنة، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١١ ) ﴾( التوبة ) : أي نبينها لقوم يبحثون عن العلم الحقيقي، الذي بينه الله عز وجل في منهجه، ولذلك نجد مثلا أنه إذا وصلت أمة من الأمم إلى كشف جديد فأهل العلم في الإسلام يعرفون أنه ليس كشفا جديدا ؛ لأن الإسلام ذكره منذ وقت طويل.
فمثلا في القانون في ألمانيا وصلوا على مادة في القانون سموها : " سوء استغلال الحق " فأنت لك حقوق، ولكنك قد تسيء استغلالها. وبدأت الدولة في ألمانيا تتجه نحو تشريع قوانين تهدف لمنع إساءة استغلال الحقوق ووضع شروح لهذه القوانين وتطبيقها إلى آخره، وذهب محام مسلم من بني سويف ليحصل على الدكتوراه في ألمانيا، فاطلع على هذه المسألة، وقد كان يحضر محاضرة يلقيها صاحب قانون نظرية " سوء استغلال الحق "، فقام المحامي المسلم وقال له : أنت تقول إنَّك واضع هذه النظرية ؟ فقال المحاضر الألماني : نعم. فقال المحامي : لقد جاءت هذه النظرية منذ أربعة عشر قرنا في منهج الإسلام. وارتبك المحاضر الألماني ارتباكا شديدا، وجاء بالمستشرقين ؛ ليناقشوا هذا المحامي المسلم، وجاءوا بكتب السيرة النبوية، وأخرج المحامي للمستشرقين قصة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول : إن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان جالسا فجاءه صحابي يشكو من أن أحد الصحابة له نخلة في بيته، والبيت مملوك للصحابي الشاكي، والنخلة مملوكة لصحابي آخر، وقد تعوَّد أن يأتي الصحابي صاحب النخلة إليها كثيرا ليشذبها ويلقحها ويطمئن عليها، وكأنه قد جعلها " مسمار جحا " كما يقول المثل الشعبي، فتعرضت عورة أسرة الصحابي صاحب البيت إلى الحرج، فذهب يشكو الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحضر الرسول صاحب النخلة وأوضح له بما معناه : " إما أن تهب النخلة لصاحب البيت، وإما أن تبيعها له بالمال، أو أن تقطعها٣ ".
لقد أوضح له الرسول صلى الله عليه وسلم : أن النخلة حقك ولكن أسأت استعمال الحق بكثرة ذهابك إلى مكانها بسبب وبغير سبب، مما عرَّض عورة صاحب البيت للمتاعب٤. وكان هذا الفعل هو المثل الحي لسوء استغلال الحق. وكان من أمانة العلم أن يعدل أستاذ القانون الألماني في محاضرته ويقول : لقد ظننت أنني قد جئت بشيء جديد، ولكن الإسلام سبقني إليه منذ أربعة عشر قرنا. وفعلا تم التعديل. واعترف العالم الألماني بأن الإسلام قد سبقه في نظرية " سوء استغلال الحق " منذ ألف وأربعمائة سنة.
ولذلك تجد أن صفة الأمية في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أمته٥، كانت شهادة تفوق ؛ لأ
٢ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". أخرجه مسلم في صحيحه "٢٦٧٤" وأحمد في مسنده (٢/٣٩٧) الترمذي (٢٦٧٤) وابن ماجه (٢٠٦). قال الترمذي: حديث حسن صحيح..
٣ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لفلان في حائطي عذقا وإنه قد آذاني وشق علي مكان عذقه فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بعني عذقك الذي في حائط فلان. قال: لا، قال: فهبه لي، قال: لا. قال: فبعنيه بعذق في الجنة، قال: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت الذي هو أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام".
أخرجه أحمد في مسنده (٣/٣٣٨) والحاكم في مستدركه (٢/٢٠) والبزار (٢٠٠٠) في كشف الأستار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٣/١٢٧): "فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه كلام قد وثق"..
٤ وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدب عدم الاطلاع على عورات المسلمين، فعن سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فقال:" لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". أخرجه البخاري في صحيحه (٦٢٤١) ومسلم (٢١٥٦)..
٥ قال تعالى: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل﴾
(الأعراف: ١٥٧). قال القرطبي في تفسيره: (الأمي): منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها. لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها. قاله ابن العربي. وقال ابن عباس: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب. قال تعالى: ﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك﴾ (العنكبوت: ٤٨)..
﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ :
ونكثوا الأيمان : أي لم ينفذوا بنود العهود، والله سبحانه وتعالى يعطينا هنا حيثية قتال الكفار بعد كل المراحل التي حاربوا فيها الإيمان، فهم قد نقضوا العهود، ولم يكتفوا بذلك بل طعنوا في الدين. أي عابوا في الدين عيبا مقذعا. وعندما يقال : إنَّ فلانا طعن في فلان، فلا بد أنه قد تجاوز مرحلة السب إلى مرحلة أكبر بكثير. وهنا يأمرنا الحق-سبحانه وتعالى- إما بقتالهم، وإما أن يعلنوا الإيمان. وهذا حق للمسلمين لأنهم قدموا من قبل كل سبل المودة، لكن أئمة الكفر رفضوها.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾، أي : أن القتل يأتي أولا لزعماء
الكفار الذين يحرضون أتباعهم على محاربة دين الله، فالأتباع ليسوا هم الأصل، ولكن أئمة الكفر ؛ لأنهم هم الذين يخططون وينفذون ويحرضون١.
وهم- كما يقال في العصر الحديث- مجرمو حرب ؛ والعلم كله يعرف أن الحرب تنتهي متى تخلص من مجرمي الحرب ؛ لأن هؤلاء هم الذين يضعون الخطط ويديرون المعارك ويقودون الناس إلى ميادين القتال، تماما كأئمة الكفر، هؤلاء الذين اجترأوا على أساليب القرآن الكريم، ومنعوا القبائل التي تأتي للحج من الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا الدين بكل السبل من إغراء وتحريض، وتهديد ووعيد.
والأمر العجيب أنك ترى من يبرر لك قتل مجرمي الحرب ويستنكر قتل أئمة الكفر، والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ﴾( التوبة : ١٢ ).
ويقول الحق عز وجل في ذات الآية :﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾( التوبة : ١٢ ) وفي هذا سيأتي المستشرقون ومن يميلون إليهم بقلوبهم ويُحسَبون علينا بقوالبهم وظواهرهم ليقولوا : إن هناك تناقضا، فالله يقول :﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ أي أثبت أن لهم إيمانا، ثم قال :﴿ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾ فكيف يثبت لهم الأيمان ثم ينفيها عنهم ؟ والنفي والإثبات لا يجتمعان في وصف الشخص الواحد ؛ ونقول : إنهما لا يجتمعان عند من يفكر تفكيرا سطحيا، أو يأخذ الأمور بظواهرها. ولكن من يعرف مرامي الألفاظ، يعلم أن نفي الشيء وإثباته في القرآن الكريم يعني : أن الجهة منفكة. فالله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ ( الأنفال : ١٧ ).
فقوله :﴿ وَمَا رَمَيْتَ ﴾ نفي للرمي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، و﴿ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ إثبات للرمي. ويجيء نفي الشيء وإثباته في آية واحدة، والفاعل والفعل واحد. وهذه تسمى في الأسلوب انفكاك الجهة، أي أن كل جهة تطلب معنى مختلفا عن الجهة الأخرى، تماما مثلما يقال : إن فلانا يسكن أعلى مني. فهذا قول صحيح، ولكنه في ذات الوقت يسكن أسفل بالنسبة لمن فوقه، فهو عال وأسفل في نفس الوقت ؛ عال عمن تحته وأسفل ممن فوقه.
أو نقول :-كمثال آخر- فلان أب وابن. هنا يبدو تناقض ظاهري، أي أنه أب لابنه، وابن لأبيه، فهو أب من جهة الابن، وابن من جهة أبيه، ولا يوجد تعارض. وهذا ما نسميه انفكاك الجهة.
إذن فلا يوجد أدنى تعارض بين نفي الرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباته له ؛ لأن رسول الله أخذ حفنة من الحصى ورمى بها جيش الكفار٢، هذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من البشر، لكن قدرة الله سبحانه وتعالى أخذت هذا الحصى وأوصلته إلى كل جندي من جيش الكفار، وفي قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٦ ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ( الروم : ٦-٧ )، لقد قالوا : إن الله نفى العلم وأثبته لنفس الأشخاص، ونقول : لا، إنه نفي العلم الحقيقي، وأثبت لهم ظاهر العلم، وهذا مختلف عن ذلك تماما، وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ ( التوبة : ١٢ )
أثبتت الآية أن لهم إيمانا، وفي آخر الآية ينفي عنهم الإيمان فيقول :
﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾( التوبة : ١٢ ).
ونقول : فائدة الأيمان أو العهد أن يُحافظ عليه، ومن لا يحافظ على يمينه أو عهده يكون لا أيمان له ؛ لأن أيمانه أي عهده لا قيمة له ؛ لأنه مجرد من الوفاء. وعندما يحلف الكذاب نقول : هذا لا يمين له. وهؤلاء أيمانهم لم تأخذ قداسة الأيمان، فكأنهم لا أيمان لهم، كأن يكون لك ابن اقترب امتحانه وتجبره على المذاكرة، وتجلس تراقبه فيقلب الكتاب ولكنه لا يفهم شيئا. وإن حاولت أن تحسب حصيلة المذاكرة لم تجد شيئا، فتقول : ذاكرت وما ذاكرت، وهذا نفي للفعل وإثباته ولا تناقض بينهما : لأن الجهة منفكة.
ونفي الإيمان في آخر الآية معناه : أنهم لا وفاء لهم، وما داموا بلا وفاء فلا قيمة لأيمانهم. وقوله تعالى :
﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ ( التوبة )هذا أمر بقتالهم لا بقتلهم، فيكون المعنى : قاتلوهم، فإن لم يقتلوا فقد يجعلهم القتال ينتهون عن عدائهم للدين ؛ لأنهم حين يرون البعض منهم قد قتل وهم أضعف من المواجهة، هنا ستخف حدة محاربتهم للإسلام، وتنتهي اللجاجة في أمر الدين.
٢ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يعني يوم بدر فقال: "يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من الترب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين". أخرجه أبو نعيم (ص٤٠٤) والبيهقي (٣/٢٩) كلاهما في دلائل النبوة، وذكره ابن كثير في تفسيره (٢/٢٩٤)..
﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( ١٣ ) ﴾ :
في هذه الآية الكريمة يحض المولى سبحانه وتعالى على جهاد، وقتال أئمة الكفر، وعدم تركهم يستشرون في حربهم للدين، ومنع الناس عن الإيمان، وصدهم عن سبيل الله. و " أَلاَ " تسمى أداة تحضيض، مثل قولنا : ألا تذهب إلى فلان، وهي حث على الفعل، لأن التحضيض نوع من أنواع الطلب. وقوله تعالى :﴿ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ أي نقضوا عهودهم، وقوله تعالى :﴿ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾ أي : هم الذين بدؤوا بالعداوة ومحاولة إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة، و﴿ همّوا ﴾، أي عقدوا لنية على العمل، وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي : أنهم هم الذين بدؤوا بعداوة المسلمين والصد عن الإسلام من أول أن بدأ يدعو إليه سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم. والبدء هو : العمل الأول، و " المرة " هو فعل لا يتكرر ؛ لأنه إن تكرر نقول :﴿ مرتين ﴾، مثل قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ الطلاق مرتان ﴾ ( البقرة : ٢٢٩ ).
هم إذن الذين بدؤوا الفعل الأول بالعداوة. والإسلام-كما نعلم- قد واجه قوتين في مرحلتين مختلفتين من مراحل الدعوة للإسلام : قوة المشركين من قريش، وقوة اليهود، وأما قريش فقد هموا بأن يخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة، وقد يقول قائل : لكن المؤمنين هم الذين بدؤوا القتال في بدر. وأقول : لم يذهب المسلمون إلى بدر للقتال، بل ذهبوا من أجل العير تعويضا عن مالهم الذي تركوه في مكة، ولكن الكفار قالوا : لن نرجع حتى نستأصل محمدا ومن معه، وجاءوا بالنفير ليقاتلوا في بدر١.
إذن فعلى الرغم من سلامة العير بحيلة من أبي سفيان٢ إلا أن قريشا هي التي أرادت القتال فجمعوا لجند والفرسان ؛ ليقاتلوا المسلمين.
وكذلك فعل اليهود، فقد نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول من المدينة. كما حاول المشركون إخراجه من مكة، وكان بينه صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود معاهدة، وهذه المعاهدة كانت من أوائل أعمال رسول الله في المدينة، فهل حافظ اليهود على هذه العهود ؟. لا، فقد تعهدوا ألا يعينوا عدوا عليه، ونكثوا أيمانهم ونقضوا العهد فأعانوا قريشا على المسلمين.
وكذلك فعل بنو النضير، فقد أرادوا اغتياله صلى الله عليه وسلم، وذلك بإلقاء صخرة عليه، بل وتمادى اليهود في غزوة الأحزاب وأعانوا قريشا ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفقوا معهم على أن يدخلوهم من أرضهم بالمدينة ليفاجئوا رسول الله وجيش المسلمين من الخلف.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ لها أكثر من حيثية، ونقضهم العهود وبدؤُهم القتال يجعلكم يقاتلونهم ؛ لتأمنوا شرهم.
﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ( التوبة : ١٣ )، وقوله تعالى :﴿ ألا تقاتلون ﴾ حث على القتال، أي : ما الذي يمنعكم من قتالهم إلا أن تكونوا خائفين منهم، ولذلك يقول تبارك وتعالى :
﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ( التوبة : ١٣ )، وهنا يلفت الحق سبحانه وتعالى نظر المؤمنين إلى أنهم إن كانوا أمام حالين، خشية من البشر وإيذائهم، فالأحق بالخشية هو الأشد والأعظم والأدوم عقابا. ولأنكم إذا ما قارنتم قوة هؤلاء بقوة الله، فالله أحق بالخشية قطعا. وإذا كنت بين اختيارين فأنت تقدم على أخف الضررين، فكيف يخاف المؤمنون ما يمكن أن يصيبهم على أيدي الكفار ؟ ولا يخشون ما يصيبهم من الله.
وأوضح الله سبحانه وتعالى أنه لا خشية من الكفار في آية أخرى من ذات السورة، هي قوله سبحانه وتعالى :
﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ( ٥٢ ) ﴾( التوبة ).
وهكذا أزال الحق سبحانه وتعالى الخوف من نفوس المؤمنين، فماذا سيحدث لكم من جنود الكفر ؟ إما أن تستشهدوا فتدخلوا الجنة وإما أن تنتصروا. وقوله تعالى :﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾ استفهام استنكاري معناه : ما كان يصح أبدا أن تخشوهم وتخافوهم ؛ لأنهم لو كانوا أقوى منكم وتغلبوا عليكم فزتم بالشهادة ؛ ولو كانوا أضعف منكم وتغلبتم عليهم فزتم بالنصر. وكلاهما أمر جميل مُحبَّب لنفوس المؤمنين وأقدامهم في مواقف القتال والنزال.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بالحكم النهائي فيقول :
﴿ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ( التوبة : ١٣ )أي : راجعوا إيمانكم، فإن كنتم مؤمنين بالله فأنتم راغبون في الشهادة. وإن كنتم مؤمنين بالله القادر القوي القهار فأنتم تعرفون الله وقدرته وقوته، وهي لا تقارن بالقوة البشرية. فإما أن تنتصروا عليهم فتكون لكم فرحة النصر، وإما الاستشهاد وبلوغ الجنة، وكلتا النتيجتين خير، أما ما يصيب الكفار فهو ينحصر في أمرين : إما أن يصيبهم بعذاب من عنده.
إذن ففي أي معركة يدخلها الإيمان مع الكفر، نجد أن الجانب الفائز هم المؤمنون، سواء استشهدوا أم انتصروا. والخاسر في أي حال هم الكفار ؛ لأنهم إما أن يعذبوا بأيدي المؤمنين، وإما أن يأتيهم عذاب من الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة. وهكذا وضع الله المقاييس التي تنزع الخشية من نفوس المؤمنين في قتالهم مع الكفار، فلا تولوهم الأدبار أبدا في أي معركة ؛ لأنه مهما كبرت قوة الكفار المادية، فقوة الحق تبارك وتعالى أكبر. ويقول المولى سبحانه :
﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾ ( البقرة : ٢٤٩ ).
وهكذا لا يحسب حساب للفارق في القوة المادية، فهذه خشية لا محل لها في قلوب المؤمنين في جانب الإيمان، لأن الله مع الذين آمنوا.
٢ وذلك أن أبا سفيان غيَّر طريقه إلى مكة ومعه قافلة قريش، فأخذ طريق الساحل وترك بدرا وانطلق حتى أسرع، قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا، ولكنهم لم يستمعوا له. انظر سيرة النبي (٢/٢٥٧-٢٥٨).
﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ( ١٤ ) ﴾ :
وقوله تعالى :﴿ فقاتلوا ﴾ في الآية السابقة كانت حثا للمؤمنين على القتال، و ﴿ قاتلوهم ﴾ الثانية في هذه الآية، للتحريض والترغيب في القتال، وأمر إيماني للمؤمنين بأن يقاتلوا الكفار. ثم يأتي المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية بالحكمة من الأمر بالقتال فيقول :﴿ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ ونتساءل : إذا كان الله يريد أن يعذبهم فلماذا لا يأتي بآية من عنده تخضعهم للعذاب ؟.
نقول : لو انتصر المؤمنون بحدث كوني غير القتال لقال الكفار : حدث كوني هو الذي نصرهم. ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن ينهزم هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين ؛ لأن الكفار ماديون لا يؤمنون إلا بالأمر المادي ؛ ولو أنهم كانون مؤمنين بالله لانتهت المسألة، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُريَ الكفار بأس المؤمنين لتمتلئ قلوبهم هيبة وخوفا من المؤمنين، ويحسبوا لهم ألف حساب، فلا تحدثهم أنفسهم بأن يجترئوا على الإيمان وعلى الدين أو أن يستهينوا بالمؤمنين.
ولقائل أن يقول : إن الحق هنا يأمر فيقول :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾.
وفي آية أخرى يقول :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ ( الأنفال : ٣٣ ).
فكيف يثبت الله العذاب وينفيه ؟ ونقول : لقد نزلت الآيتان في الكفار. وسبحانه وتعالى يقول :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ ولو قال : قاتلوهم تعذبوهم بأيديكم لاختلف المعنى، ولكن الآيتين تثبت إحداهما العذاب والأخرى تنفيه، ونقول : إن الجهة منفكة، فقوله تعالى :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ أي : لا ينزل الله تعالى عليهم عذابا من السماء ما دمت فيهم، وقد وضح هذا في قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٢ ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ٣٣ ) ﴾( الأنفال ).
فقد سبق أن طلب الكفار عذابا من السماء ينزل عليهم إن كان القرآن هو الحق ؛ فرد الحق سبحانه وتعالى بأنه لا يعذبهم مادام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ؛ لأنه أرسله رحمة للعالمين. ولكن عدم تدخل السماء بالعذاب بعد بعث رسول الله بالرسالة، لا يعني أن العذاب قد انتهى بالنسبة للكفار. وائتمن سبحانه المؤمنين على نصرة منهجه ودينه وهو معهم. ولكن العذاب يتم بالأسباب الأرضية، ولا يوجد تناقض. لأن العذاب من السماء قد يكون استئصالا لكل الكافرين ؛ صغارا وكبارا، كأن يغرقهم الطوفان، أو تأتي الصيحة فتبيدهم عن آخرهم، أو تجيئهم ريح صرصر عاتية تدمرهم، أو تصيبهم الرجفة فتجمدهم، وفي كل هذه الحالات لا يبقى أحد من الكفار ؛ ولكن القتال البشري لا يقضي على الكفار نهائيا، فالإسلام يمنعنا من قتال النساء والصبيان١، ومن قتال الذين لم يقاتلونا٢.
إذن فالعذاب بعد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عذاب استئصال وإبادة كما كان في الأمم السابقة. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد عذَّب الأمم السابقة بتلك الوسائل، فكان على الرسول من السابقين على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الرسالة، وإن لم يؤمن قومه برسالته تتدخل السماء ضدهم بألوان العذاب السابقة. ولكن الحق تبارك وتعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده أن تدعو لدين الله، وتؤدب من يختصم الإيمان، ويدخل في عداوة مع المؤمنين فمنهم من يفر أو يقع في الأسر ويبقي المرأة والطفل دون تعذيب.
﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ ﴾ ( التوبة : ١٤ ).
وما الفرق بين العذاب والخزي ؟ نقول : قد نجد واحدا له كِبْرٌ وجَلَدٌ، وإن أصابه العذاب فهو يتحمله ولا يظهر الفزع أو الخوف أو الضعف، ويمنعه كبرياؤه الذاتي من أن يتأوه، ولمثل ذلك هناك عذاب آخر وهو الخزي، والخزي أقسى على النفس من العذاب ؛ لأن معناه الفضيحة، كأن يكون هناك إنسان له مهابة في الحي الذي يسكن فيه، مثل فتوة الحي، ثم يأتي شاب ويدخل معه في مشاجرة أمام الناس ويلقيه على الأرض، هذا الإلقاء لا يعذبه ولا يؤلمه، وإنما يخزيه ويفضحه أمام الناس، بحيث لا يستطيع أن يرفع رأسه بين الناس مرة أخرى، والخزي أشد هنا إيلاما لنفسه من العذاب. ولا يريد سبحانه أن يعذب الكفار بأيدي المؤمنين فقط، بل يريد لهم الافتضاح أيضا، بحيث لا يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم. وجاء الحق سبحانه وتعالى بنتيجة ثالثة لهذا القتال فقال :﴿ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ ( التوبة : ١٤ ).
وعلى هذا فعندما يقاتل المؤمنون الكفار يصيب الكفار العذاب والخزي والهزيمة. إذن ﴿ يعذبهم الله بأيديكم ﴾ مرحلة، ﴿ ويُخزيهم ﴾، مرحلة ثانية ﴿ وينصركم عليهم ﴾ مرحلة ثالثة، ثم تأتي المرحلة الرابعة :
﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ( ١٤ ) ﴾( التوبة )أي : أن النصر الذي سيحققه المؤمنون بعون الله تعالى في قتالهم مع الكفار سيشفي صدور المؤمنين الذين استذلهم الكفار واعتدوا عليهم، فكأن هذا النصر يشفي الداء، الذي ملأ صدور أولئك المؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، أي : يخرج الغيظ والانفعال المحبوس في الصدور، فكأن قتال المؤمنين للكفار لا يحقق فقط العذاب والخزي للكفار والنصر للمؤمنين عليهم، ولكنه يعالج –أيضا- قلوب المؤمنين التي ملأها الألم والغيظ من سابق اعتداء الكفار عليهم ومحاولتهم إذلالهم واخذ حقوقهم. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) ﴾.
وهكذا يرى الذين غدروا بالعهد وتعاونوا ضد أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرون انتقام الله تعالى لهم، فتشفى صدور المؤمنين ويذهب منها الغيظ. والشفاء – كما نعلم - إنما يكون من داء، والدواء ضرورة للشفاء، وكأن انتقام الله عز وجل فيه شفاء لصدور المؤمنين من كفار قريش الذين أعانوا أبناء بكر على أبناء خزاعة حلفاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعذبهم الله بأيديكم، وينصركم عليهم، ويخزهم سبحانه وتعالى.
٢ يقول عز وجل: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين﴾ (الممتحنة: ٨).
قال القرطبي في تفسيرها: "هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم" وذكر أقوال من ذهب إلى أنها منسوخة بآية ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ ثم قال: "وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة؟ قال: نعم". أخرجاه البخاري ومسلم..
﴿ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٥ ) ﴾ أي : أنه سبحانه يعلم كل متطلبات الأحكام، ولكل أمر عنده حكمة، فالقتال أراده الله عز وجل لِيَدُكَّ به جبروتهم، والتوبة حكمتها لمنع تمادي الكفار في الشر ؛ لأن مشروعية التوبة هي رحمة من الحق سبحانه وتعالى بخلقه، ولو لم يشرع الله التوبة لقال كل من يرتكب المعصية : ما دامت لا توجد توبة، ومادام مصيري إلى النار، فلآخذ من الدنيا ما أستطيع، وبذلك يتمادى في الظلم ويزيد في الفساد والإفساد ؛ لأنه يرى أن مصيره واحد مادامت لا توجد توبة، ولكن تشريع التوبة يجعل الظالم لا يتمادى في ظلمه، وبهذا يحمي الله المجتمع من شروره، ويجعل في نفسه الأمل في قبول الله لتوبته والطمع في أن يغفر له ؛ فيتجه إلى العمل الصالح عَلَّهُ يُكفِّر عما ارتكبه من الذنوب والمعاصي ؛ وفي هذا حماية للناس ومنع لانتشار الظلم والفساد.
إذن فالقتال له حكمة، والتعذيب له حكمة، والخزي له حكمة، والتوبة لها حكمة، وسبحانه وتعالى حين يعاقب، إنما يعاقب عن حكمة، وحين يقبل التوبة فهو يقبلها عن حكمة.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ ) ﴾ :
ساعة تسمع " أم " فاعلم أنها إضرابية، أي : ما كان الله سبحاه ليترككم حتى يعلم –علم الواقع- من منكم يؤمن إيمانا يؤهله للجهاد في سيبل الله ؛ فإن ظننتم أن الله تارككم بدون ابتلاء وبدون أن يختبركم ويمحصكم١، فيجب أن تعرضوا عن ذلك وتفهموا ما يقابله.
إذن فالابتلاء أمر ضروري لمن أراد الله تعالى له أن يتحمل أمر الدعوة ليواجه شراسة التحلل والفساد، لذلك يُصفِّي الله من آمنوا حتى يقف كل واحد منهم موقف الانتماء إلى الله مضحيا في سبيل الله. وساعة يقول الحق عز وجل في شيء كلمة ﴿ وَلَمَّا يَعْلِمَ ﴾ فليس معنى ذلك أنه لم يعلم وسيعلم، لا، فسبحانه يعلم كل شيء أزلا، ولكن العلم الأزلي لا يكون حجة على البشر. ودائما أضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نجد عميد إحدى الكليات أحيانا يعلن عن جائزة علمية يريد أن يعطيها للمتفوقين، فيقول له المدرس الذي يشرف على تحصيل التلاميذ : إن فلانا هو الأول وهو يستحق الجائزة، فيقول العميد : ولكني أريد أن تعقد امتحانا، ليكون حجة على غير المتفوقين ؛ وهذا هو علم الواقع العملي الذي أراده الحق عز وجل من الابتلاء، وسبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلا، ولكن العلم الواقعي هو حجة على المخالفين.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ﴾ ( التوبة : ١٦ ) : أي بدون ابتلاء أو تمحيص. وقوله تعالى :
﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ﴾( التوبة : ١٦ ).
" وَلَمَّا " للنفي، ومثلها مثل قولنا : " لما يأت " أي : أنه لم يتحقق المجيء حتى الآن، وتختلف " لما " عن " لم "، ف " لم " لا تؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، فما يأتي بعدها لن يتحقق أبدا، أما " لما " فتؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، أي أن ما بعدها... لم يتحقق إلى لحظة نطقها، ولكنه قد يتحقق بعد ذلك. فإن قلت : " لما يثمر بستاننا " أي : أن البستان الذي تملكه لم يثمر، ولكنه قد يتمر بعد ذلك. وسبحانه وتعالى يقول :
﴿ قَالَتِ الأعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ ( الحجرات : ١٤ ).
ومعنى القول الكريم : أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم إلى الآن، ولكنه سوف يدخل بعد ذلك، وهذه بشارة لهم. فقد قالت الأعراب : " آمنا " فأوضح الحق سبحانه وتعالى : بل أسلمتم ولم يدخل الإيمان في قلوبكم ؛ لأن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، والإسلام انقياد لما يتطلبه إيمان القلب من سلوك، أي : أنتم قد سلكتم سلوك الإسلام، ولكنه سلوك سطحي لم يأت من ينابيع القلب. وقول الحق هنا :
﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ﴾( التوبة : ١٦ ) لا يعني أن علمه متصل بوقت الكلام، فعلم الله تعالى موصول أزلي وسبحانه مُنزَّهٌ عن الأغيار.
إذن فالعم المراد هنا هو علم الواقع الذي سوف يكون حجة عليكم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو لم يختبركم لقلتم : لو أمرتنا يا رب بالقتال لقاتلنا، ولو أمرتنا بالصبر في الحرب لصبرنا، ولَكُنَّا أكبر المجاهدين.
ولذلك جاءت الابتلاءات كتجربة عملية، ومن هذه الابتلاءات مواجهة العدو في الحرب، فمن هرب ثبت له التقصير في المواجهة، ومن لم يصبر على الابتلاءات عرف نقص إيمانه وأصبح ذلك علما واقعا.
﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ ( التوبة : ١٦ ).
إذن فالله يريد بعلم الواقع التمييز بين صدق الجهاد وبين الفرار منه، وأن يكون هناك سلوك إيماني واضح ؛ يبين أن هؤلاء القوم لم يتخذوا من دون الله ولا رسوله وليجة، و " الوليجة " من فعيلة، بمعنى فاعل، و " والجة " يعني " داخلة "
﴿ ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾( الحج : ٦١ )أي : يُدخل الليل على النهار ويُدخل النهار على الليل، والمراد ب " الوليجة " الشيء الذي يدخل في شيء ليس منه، وهي من الكلمات التي تطلق ويستوي فيها الفرد المذكر والمؤنث، والمثنى والمثناة وجمع المذكر وجمع المؤنث، وتقول : " امرأة وليجة "، و " رجل وليجة "، و " امرأتان وليجة "، و " رجلان وليجة "، و " نساء وليجة " و " رجال وليجة ". كما تقول : " رجل عدل " و " امرأة عدل "، و " رجلان عدل "، و " امرأتان عدل "، و " رجال عدل "، و " نساء عدل "، لا تختلف في كل هذه الحالات.
والمراد بالوليجة هنا بطانة السوء٢ التي تدخل على المؤمنين الضعاف، وتتخلل نفوسهم ليفشوا أسرار المؤمنين ويبلغوها للكفار. ولذلك شاء الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا ﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا ﴾ أي : أن يعلم سبحانه وتعالى واقعيا من جاهدوا، ولم يتخذوا بطانة سوء من الكفار يدخلونهم في شؤونهم دخولا يجعلهم يكتشفون أسرارهم.
﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ ( التوبة : ١٦ )، فالممنوع هنا-إذن- أن يتخذ المؤمنون الكفار وليجة ؛ لأن الكافر من هؤلاء سيأخذ أسرارهم ويفشيها لعدوهم. وبذلك يتعرض المؤمنون للخطر. وعلى المؤمن أن يجعل الله عز وجل هو وليجته، وأن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو وليجته، وأن يجعل المؤمنين هم وليجته، ويسمح لهم أن يتداخلوا معه، وهم مأمونون على ما يعرفونه من بواطن الأمور، أما الأعداء والخصوم من الكفار فهم غير مأمونين على شيء من أسرار المؤمنين. ويذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :
﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٦ ) ﴾ ( التوبة )، والمعنى : إن كنتم تحسبون أنكم تتداخلون مع الكفار وتعطونهم أسرار المؤمنين ولا أحد يعرف، فاعلموا أن الله تعالى يسمع ويرى، وان الله خبير لا تخفى عليه خافية، فلا تخدعوا أنفسكم وتحسبوا أنكم إن أخفيتم شيئا عن عيون الخلق قد يخفى على الله أبدا ؛ فلن يخفى شيء عن عيون الخالق ؛ لأنكم عن عمَّيتُم على قضاء الأرض، فلن تُعمُّوا على قضاء السماء٣.
٢ عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله عز وجل". أخرجه البخاري في صحيحه (٧١٩٨) وأحمد (٣/٨٩-٨٨) والنسائي في سننه (١٥٨/٧)..
٣ عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون لي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" أخرجه البخاري (٢٦٨٠) ومسلم (١٧١٣).
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) ﴾
وكأن هذه الآية قد جاءت حيثية للبراءة التي حَمَّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ليعلنها يوم الحج الأكبر١ ؛ لأن البراءة هي القطيعة، ومعناها ألاَّ يدخل المسجد مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ؛ فكأن البراءة من الله عز وجل ورسوله من المشركين مَنْعٌ لهم من دخول المسجد الحرام، وكان عدد من المشركين قد جعلوا من المسجد الحرام منتدى لهم، وكانوا يجلسون فيه للتسامر والتجارة ولغير ذلك، كما كانوا يقومون بسقي الحجيج من شراب الزبيب الذي لم يختمر ؛ ومعهم حجاب البيت، ويطعمون زوار بيت الله الحرام.
كل ذلك كان يحدث في مكة من الكفار ولكن هذا انتهى بالبراءة التي أعلنها علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ الذي أوحى إليه ربه أن يفعل ذلك، ولم يعد للمشركين حق في ﴿ أن يَعْمُروا مساجد الله ﴾. والعبارة لها معنيان ؛ المعنى الأول هو الجلوس في هذه المساجد بحيث تكون عامرة بزوارها، والمعنى الثاني هو المحافظة على بناية المسجد ونظافته وإصلاحه. وقد منع الله المشركين من كلا النوعين من العمارة٢. والكلام هنا عن المسجد الحرام ؛ لقوله تعالى :
﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾( التوبة : ٢٨ ).
نقول : إنًّ المسجد الحرام هو مكان تتجه إليه كل اتجاهات الناس في كل بقاع الأرض حين يقيمون الصلاة لأن كل مكان يسجد فيه إنسان مسلم يسمى مسجدا، وبتعدد الساجدين، يعتبر المسجد الحرام مساجد، أو لأن جهات السجود تتعدد في المسجد الحرام ؛ فواحد يسجد شمال الكعبة، وآخر جنوب الكعبة وثالث شرق الكعبة ؛ هذا في الجهات الأصلية، وهناك الجهات الفرعية ؛ فهناك أناس يتجهون شمال شرق، وأناس يتجهون جنوب شرق، وغيرهم يتجه جنوب غرب، وتعدد الجهات الفرعية في الاتجاه إلى الكعبة ؛ إذن فكل جهة متجهة هي مسجد وهناك ممن لا يرون الكعبة في بقاع الأرض يتجهون إليها.
وحين تسمع قول الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) ﴾ ( التوبة ).
نلحظ أنَّ " كان " هنا جاءت منفية ومنها نفهم المعنى : ليس مقبولا في عرف العقل أو المنطق أو الدين أن يقرب الكفار المسجد، ولا أن يرعى مشرك المسجد أو يصونه ؛ لأن المسجد للعبادة، والعبادة تقتضي معبودا هو الله سبحانه وتعالى، والكفار يشركون بالله، فمن المنطق-إذن- ألا يكون لهم دخل بالمساجد، إذن فمنعهم من المسجد إقامة وعمارة وزيارة هو شيء منطقي بشهادتهم على أنفسهم بالكفر، وهي سبب منعهم من الاقتراب من مساجد الله.
والشهادة إما أن تكون شهادة قول ؛ وإما أن تكون شهادة حال، أما شهادة القول فذلك لأنهم كانوا يقولون لليهودي : على أي دين أنت ؟ فيرد بديانته، وكذلك القول للنصراني، وحين يسأل المشرك ؛ فهو يقر بشركه٣، هذه هي شهادة القول. أما شهادة الحال فهي أنهم يسجدون للأصنام ويعبدونها من دون الله.
فكيف يكون الإنسان مشركا ثم لا نقول له : ليس لك علاقة بالمسجد ؛ ارفع يدك عنه ؛ وما أغنى الإسلام عن أن يبني له مشرك مسجدا أو يعمر كافر بيتا من بيوت الله وما أغنى الله أن يزوره في بيته من هو غير مؤمن به سبحانه.
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾( التوبة : ١٦ ).
وقد نسوا الشهادة الأولى بالحق حينما أشهدهم الله سبحانه وتعالى على أنفسهم ؛ فالحق سبحانه هو القائل :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( ١٧٢ ) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( ١٧٣ ) ﴾( الأعراف ).
هم إذن قد أقروا لحظة الخلق الأولى بوحدانية الله وعاهدوا الله تعالى على ذلك، لكنهم كفروا بتلك الشهادة وأشركوا به سبحانه ووضعوا في بيت الله الحرام أصناما. وادعوا الكذب وقالوا :
﴿ ما نعبدهم إلا ليُقرّبونا إلى الله زُلفى ﴾( الزمر : ٣ )
وهذا هو الإشراك بعينه، وهذه هي شهادتهم على أنفسهم بالكفر.
﴿ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾( التوبة : ١٧ )
والمسجد –كما نعلم- هو المكان الذي نسجد فيه، وكل بقعة في الأرض بالنسبة للمسلمين تصلح للسجود وتعتبر مسجدا، وهذا مما خص به الله تعالى أمة الإسلام، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فَلْيُصَل، وأُحلَّتْ لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة٤ ".
فهذا الحديث يبين أن مما خص الله به الأمة المحمدية أن جعل لها كل بقاع الأرض صالحة لأداء الصلاة فيها، كما جعل لها الأرض أيضا طهورا، ويكفي المسلم أن يتيمم من الأرض ويصلي عليها، ولكنْ هناك فارق بين مكان يصلح لك أن تصلي فيه، وأن تباشر نشاط حياتك، وبين مكان مخصص للعبادة، فالحقل الذي تزرع فيه، لك أن تصلي فيه وتزرع، والمصنع لك أن تصلي فيه، ولك أن تصنع، وكذلك المدرسة لك أن تتعلم فيها، ولك أن تصلي فيها، وهذه كلها مساجد بالمعنى العام، وهي أماكن سجود لله تعالى، لكن كلمة " مسجد " إذا أطلقت انصرفت إلى الحيز المحدود من المكان الذي أخرج من نشاطات الحياة كلها، وخُصّ بأن يكون للصلاة والسجود فقط، فإذا حيزت مكانا بخط أبيض من الجير، أو حيزته بسلك وقلت : هذا مسجد، فلا يزاول فيه نشاط إلاَّ الصلاة، هذا هو المسجد الاصطلاحي الشرعي، وكل بيت الله بنيته في أي مكان يسمى مسجدا، وقبلة المساجد المنتشرة في بقاع الأرض هي المسجد الحرام ؛ فهي أماكن حيزت للمسجدية، أو للعبادة، أو للصلاة وليست لغير ذلك من حركات الحياة، ولكن تحييز المكان كان باختيار البشر. وقبلته المسجد الحرام وهو المسجد الجامع الأكبر باختيار الله تعالى، والحق سبحانه وتعالى هو القائل :
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٦ ) ﴾( آل عمران )
ولأن هذا البيت الحرام هو باختيار لله، وموضوع للناس. فلنا أن نسأل : هل الناس هم الذين وضعوه ؟ لا، بل وضعه غير الناس، لأن تعريف الناس هم آدم وذريته، ولابد إذن أنه موضوع قبل آدم، وبمنطق القرآن الكريم وجد البيت من قبل آدم، وإذا تعمقنا قليلا، نجد أن هذا البيت الحرام هو ﴿ هدى للعالمين ﴾ ومن العالمين الملائكة.
وهكذا نرى أن قول بعض القوم : إن إبراهيم هو الذي حدد مكان وقواعد البيت، قول لا يثبت صدقه، لأن البيت هو المكان لا المكين، فالبيت ليس هو الحجر أو المبنى، وهو ما نسميه الكعبة، فالكعبة هي " المكين " أما البيت فهو المكان الذي أقيمت فيه الكعبة ؛ لأنه جاء سيل وأزال الكعبة، جعلها أرضا مسطحة فأين نصلي ؟ نصلي إلى اتجاه المكان، فالسيل يُذهب المكين لكن المكان باق.
وعندما جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام كان أثر البيت ضائعا، وأمره ربنا أن يرفع البيت، ولم يقل له : حدد المكان، بل أمره أن أمره أن يبني البعد الثالث ؛ لأن كل حيز له بعدان ؛ الطول والعرض، وإن كان دائرة فله المحيط، وإن كان مثلثا يكون من ثلاثة أضلاع. لكن الارتفاع يدخل بالشيء إلى الحجم، وقد رفع الخليل إبراهيم القواعد من البيت. بعد أن حدد المولى سبحانه وتعالى له المكان وأظهره له :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ﴾( البقرة : ١٢٧ )فكأن البيت مخصص قبل الرفع، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن مجيء هاجر وابنها إسماعيل الرضيع، وإسكان إبراهيم عليه السلام لهما في هذا المكان قال :﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ ( إبراهيم : ٣٧ ). وقد رفع إبراهيم عليه السلام القواعد وساعده ابنه إسماعيل بعد أن كبر واشتد عوده، ولكن ساعة أن أسكنه وأمه بجانب البيت كان طفلا صغيرا. إذن فالبيتية والمكانية موجودة، ولكن إبراهيم أقام المكين وهو البعد الثالث أي الارتفاع.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ﴾( الحج : ٢٦ )أي أظهرنا وحددنا المكان، وهو الذي سيبني فيه سيدنا إبراهيم بالأحجار ليبرز البيت، فالبيت-إذن- كان موجودا من قبل.
ونلحظ أن المساجد المنتشرة في الأرض لابد أن يكون لها متجه واحد، لإله واحد، وحدد الحق هذا المكان بالقبلة إلى الكعبة. وبعض المتحللين يحاول أن يقلب الفهم في قول الحق :﴿ فأينما تُولّوا فثم وجه الله ﴾( البقرة : ١١٥ ).
يقولون : إننا إن اتجهنا إلى أي مكان سنجد وجه الله تعالى، ونقول : الصحيح أن وجه الله تعالى في كل الوجود، ولكن إياك أن تفهم أن تحديد الله للكعبة لتكون متجهنا، أنها هي وجه الله، لا، لكننا مأمورون بالاتجاه لها في الصلاة. وأنت إذا نظرت أيضا إلى المسلمين في كل الدنيا سوف تجد أن كل مسلم في الأرض يتجه للكعبة في صلاته، ومادامت الكعبة مركزا، وكلنا نتجه إليه ؛ فسوف تجد من يتجه وهو شرقه، وواحد يتجه وهو غربه، وواحد يتجه وهو شماله، وواحد يتجه وهو جنوبه.
إذن ﴿ فأينما تُولّوا فثم وجه الله ﴾، ومادمنا قد عرفنا أن المساجد محيزة ومخصصة للعبادة ؛ فلا يجوز أن يأتي إليها مشرك، ولا نقبل أن يساهم في إصلاحها ولا نظافتها مشرك ؛ لأن الله غني عن ذلك، وعلينا أيضا ألا نناقش أمورنا الدنيوية في مسجد، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا، ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم " ٥.
كأنه لم يكفهم حب الدنيا خارج المسجد ويطمعون في الدقائق التي يخصصونها للصلاة، فيجرجرون الدنيا معهم إلى المسجد، وأقول لهم : لماذا لا تتركون مصالح الدنيا في تلك الدقائق ؟ إن الواحد منكم إنما يحيا في سائر الدنيا في نعمة الله. إذن فليجعل نصيبا من وقته لله صاحب النعمة.
إذن لا بد أن نعرف أننا قد خصصنا مكانا لعبادة الله، فلا بد أن نصحب هذا التخصيص في المكانية إلى التخصيص في المهمة التي يدخل الإنسان من أجلها للمسجد، فيتجه إلى الله ؛ لأن المسجد خاص لعبادة الله ؛ ومع أن الأرض كلها تصلح للصلاة، لكنك حين تأتي إلى المسجد اصحب معك أخلاق التعبد. ويجب أن يكون الانفعال، والتفاعل، والحركة والنشاط كله في الله، ول
٢ قال القرطبي في تفسير الآية: "اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقيل: أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك بل أهله المؤمنون"..
٣ قاله السدى. نقله ابن كثير والقرطبي في تفسيريهما للآية..
٤ متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٥) ومسلم (٥٢١).
.
٥ أخرجه الحاكم في المستدرك (٣٢٣/٤) من حديث أنس رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي..
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ١٨ ) ﴾ :
الإيمان : هو إيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وقمة الإيمان شهادة أن " لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ". وكانت هناك حساسية عند أهل قريش من مسألة الرسول هذه، وأنه محمد بن عبد الله، وبعضهم قد قال : القرآن جميل ورائع فلماذا جاء على لسان محمد ؟ وكان اعتراض كفار قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول الذي حكاه القرآن عنهم :
﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾( الزخرف : ٣١ )
إذن فالمشكلة عندهم لم تكن في القرآن ذاته، بل كانت في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم١.
ويرد الحق سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾( الزخرف : ٣١ )، أي أن رحمة الله تعالى خاصة به، لا يقسمها إلا هو بمشيئته، يقسمها كيف يشاء كما قسم بينهم معيشتهم وأعطاهم الرزق المادي، وإذا كان المولى سبحانه قد قسم رزقهم في الأدنى، فكيف يريدون هم أن يتصرفوا في الأعلى ؟ لقد قالوا ما جاء في القرآن على ألسنتهم :
﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٢ ) ﴾( الأنفال ).
وكان المنطق الصواب أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ولكنهم بغبائهم طلبوا الموت بدلا من الهداية. فقد كانت عصبيتهم – إذن- ضد شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان على من يعلن إيمانه بالله منهم أن يشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم.
والحق تبارك وتعالى يقول :
﴿ إنّما يَعمر مساجد الله مَن آمن بالله واليوم الآخر.. ( ١٨ ) ﴾( التوبة ).
وهذا القول يحمل في مضمونه إيمانا برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله يقول بعدها :﴿ وأقام الصلاة ﴾ وإقامة الصلاة لا تصح منهم إلا إذا آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي قال لنا إنها خمس٢، وهو الذي علمنا كيف نؤديها وماذا نقول فيها، وهو الذي نشهد له ونحن نصلي ؛ في الإقامة وفي التشهد، إذن فساعة نقيم الصلاة لابد أن نكون مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى ذلك فقوله تعالى :﴿ وأقام الصلاة ﴾ يقتضي ضرورة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. واشترط سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الإيمان به وباليوم الآخر وإقامة الصلاة وفي طيها الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إيتاء الزكاة، وطلب منا ألا نخشى غيره، والخشية هي الخوف. وسبحانه وتعالى قد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾( الأنفال : ٥٨ ).
إذن فهناك خوف من أشياء أخرى، ونقول : إن الحق حين قال :﴿ ولَمْ يخش إلا الله ﴾ أي لم يخش في دينه إلا الله، لكن لا مانع من الخشية التي تجعلك تعد لعدوك وتحذر عدوانه عليك. وانظر إلى دقة القرآن الكريم وعظمته، فقد جمع في آية واحدة بين الإيمان بالله واليوم الآخر والصلاة والزكاة، ولم يأت فيها ذكر الإيمان بالرسول ؛ لأنه مسألة مطوية في أركان الإيمان. ومن يفعل ذلك يدخل في زمرة من وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾( التوبة : ١٨ ).
ولقائل أن يقول : كيف بعد أن آمنوا بكل هذا نقول : عسى ؟.. إذن فما حكم الذي لم يؤمن ؟.
ونقول : إن " عسى " و " لعل " أفعال رجاء، وذكرها يعني الرجاء في أن يتحقق ما يأتي بعدها، ومراتب الرجاء بالنسبة للنفس وبالنسبة للغير وبالنسبة لله تختلف، أنت تقول مثلا : اسأل فلانا لعله يعطيك، هذه مرتبة من الرجاء، وتقول : لعلِّي أعطيك، وهذه أقرب إلى التحقيق من أن أرجو غيري أن يعطيك.
إذن فهي مرحلة أعلى في الإجابة، وأن تقول : لعل الله يعطيك مرحلة ثالثة وعالية من الرجاء ؛ لأنك ترجو الله ولا ترجو أحدا من البشر. والله سبحانه وتعالى كريم يعطي بسخاء. ولكن إذا قال الله سبحانه وتعالى عن نفسه. لعلي أعطيك، فيكون هذا توقعا للعطاء.
إذن فمراحل الرجاء ؛ رجاء لغيرك من غيرك، ورجاء منك لغيرك، ورجاء من الله لسواك، وقول من الله بالرجاء. فإذا قال الله سبحانه وتعالى :
﴿ عسى ربكم أن يرحمكم ﴾( الإسراء : ٨ )
نقول : إنه الرجاء المحقق ؛ لأنه سبحانه وتعالى كريم يحب أن يرحمنا ولا شيء يمنعه من أن يحقق ذلك. إذن فيكون الرجاء قد تحقق. وقوله تعالى :
﴿ فعسى٣ أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾( التوبة : ١٨ ).
والهداية إما أن تكون إلى سبيل يؤدي لغاية، أي يهدينا الله للمنهج، فإن عملنا به نصل إلى الجنة، لأن المنهج هو الطريق للجنة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الكفار :﴿ ولا ليَهديَهم طريقا( ١٦٨ ) إلاَّ طريقَ جهنم ﴾( النساء : ١٦٨-١٦٩ ).
إذن فالهداية مرة تكون للمنهج فنؤمن به ونعمل به، وإما لطريق يوصل إلى غاية. والذين ذكرهم الله في هذه الآية الكريمة هم كل :
{ من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يَخشَ إلا الله ) ( التوبة : ١٨ )، وماداموا قد فعلوا ذلك ؛ فهذا هو تطبيق المنهج ؛ وبذلك فَهُمَْ -إن شاء الله- لابد أن تكون نهايتهم الجنة.
٢ عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني بما افترض عليَّ من الصلاة. فقال: "افترض الله على عباده صلوات خمسا" الحديث أخرجه أحمد (٣/٢٦٧) والحاكم في مستدركه (١/٢٠١) وصححه والدارقطني في سننه (١/٢٢٩)..
٣ قال ابن كثير في تفسيره (٢/٣٤١): كل عسى في القرآن هي واجبة، وقال محمد بن إسحق: وعسى من الله حق..
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) ﴾ :
جاءت هذه الآية ردا على كفار مكة الذين أسروا في غزوة بدر، وكان منهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تحدث إليه بعض من الصحابة يدعونه للإسلام وللجهاد في سبيل الله فقال : إننا نسقي الحجيج ونرعى البيت، ونفك العاني، ونقوم بعمارة البيت الحرام١ قال العباس ذلك ولم يكن قد أسلم بعد. وما قاله العباس هو موجز رأي أهل الشرك من قريش، الذين جعلوا هذه المسائل مقابل الإيمان بالله والجهاد في سبيله. وجاء قول الحق ليؤكد أن الكفة غير راجحة فقال :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ.. ١٩ ) ﴾.
وكلمة ﴿ سِقاية ﴾ تطلق ثلاث إطلاقات : فهي المكان الذي يجتمع فيه الماء ليشرب منه الناس والذي نسميه : السبيل. وكذلك تطلق السقاية : على الإناء الذي نشرب منه الماء، والذي يرفع إلى الفم كالكوب والكأس أو يسمى صواع الملك، وفي قصة يوسف عليه السلام يأتي القول الكريم :
﴿ فلما جهّزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه.. ( ٧٠ ) ﴾( يوسف ).
أما المعنى الثالث : فهو الحرفة نفسها ؛ فنقول : هذه خياطة، وهذه حدادة، وهذه سقاية، أي أنه عمل يتصل بسقاية الناس، فالسقاية -إذن- هي المكان الواسع الذي يتجمع فيه الماء، أو الإناء الذي نستعمله في الشرب، أو الحرفة التي يقوم بها السقا.
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾( التوبة : ١٩ ).
فإن كنتم تفتخرون بأنكم سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام وتجعلون هذا في مقابل الإسلام، فذلك لا يصلح أبدا كمقابل للإيمان، ولا تتساوى كفة الإيمان بالله واليوم الآخر أبدا مع كفة سقاية الحجيج، وعمارة المسجد الحرام. ومن يقدر ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وله مطلق المشيئة في أن يتقبل العمل أو لا يتقبله. والمؤمن المجاهد في سبيل الله إنما يطلب الجزاء من الله، أما من يسقي الحجاج ؛ ويعمر بيت الله دون أن يعترف بوحدانية الله كالمشركين- قبل الإسلام- فهو يطلب الجزاء ممن عمل من أجلهم، ولأنه سبحانه هو معطي الجزاء، فهو جل وعلا يوضح لنا : أن هذين العملين لا يستويان عنده، أي لا يساوي أحدهما الآخر في الجزاء.
ويقال٢ : إن سيدنا الإمام عليا رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، مر على طلحة بن شيبة ؛ والعباس ووجدهما يتفاخران، أي : يفاخر كل منهما الآخر بالمناقب التي يعتز بها ؛ ليثبت أنه أحسن وأفضل منه. وكانت المفاخرة من طبع العرب حتى في الأشياء التي ليس لهم فيها فضل، والممنوحة لهم من الله عز وجل مثل الشكل والنسب إلى آخره، لأن أحدا لا يختار أباه وأمه ليتفاخر بهما، وإنما كل ذلك هو عطاء من الله سبحانه وتعالى.
لقد كان العرب مثلا يجلسون أمام مكان ممتلئ بالماء يتفاخرون أيهم يغطس في الماء، ويبقي رأسه تحت الماء مدة أطول، أي : أيهم أطول نفسا من الآخر، مع أن هذه مسألة خاضعة لبنية الجسم وتكوينها من الله الخالق، وليس لأحد يد فيها، فهناك من أعطاه الله رئتين أقوى من الآخر، وهو الذي يستطيع أن يغطس مدة أطول، ولكن هذه المسألة كانت من أوجه التفاخر عند العرب.
جلس طلحة والعباس يتفاخران، فقال طلحة بن شيبة : بيدي مفتاح الكعبة، ولو شئت أن أنام فيها لنمت.
فرد عليه العباس : وأنا معي سقاية الحاج، ولو شئت ألا أسقي أحدا لاستطعت. ومر الإمام علي كرم الله وجهه عليهما وهما يتفاخران، فلما سمع كلامهما قال : ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد فنزلت الآية :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ﴾( التوبة : ١٩ )ولم يكد العباس يسمع هذه الآية حتى قال : " إنّا قد رضينا، إنّا قد رضينا "، قال ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكم، وفي هذا القول إشارة إلى أن المفاخرة التي كانت بين العباس وطلحة لم تكن في موضعها.
وكلمة ﴿ عند الله ﴾ في الآية الكريمة تفيد : أن المقاييس عند الله تختلف عن المقاييس عند البشر ؛ لأن المقاييس عادة تختلف حتى بين الناس، فلك مقاييس وللناس مقاييس. وقد تجامل نفسك في مقاييسك. وقد يجاملك الناس في مقاييسهم، أو قد يقسون عليك. وكل مقياس يكون فيه هوى ؛ لأن كل إنسان إنما يؤثر نفسه. وكل إنسان يحاول أن يأخذ كل شيء. ولكن المقاييس التي لا هوى فيها والتي ليس فيها إلا العدل المطلق هي مقاييس الله، ولذلك نجدها تَجُبُّ كل شيء، وليس فيها أي فرصة للطعن.
ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
( التوبة : ١٩ ).
وهذه أوجدت الحل لمشكلات متعددة يثيرها بعض الناس حول الهداية، وكيف أنها من الله سبحانه وتعالى وليست من العبد لقوله تعالى :
﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء ﴾( القصص : ٥٦ ).
نقول : نعم، إن مشيئة الهدى من الله سبحانه وتعالى، لكنه سبحانه قد أوضح لنا من لا يدخلهم في مشيئة هديه، فقال :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾( البقرة : ٢٦٤ ).
وقال سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾( البقرة : ٢٥٨ )
وقال سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾( المائدة : ١٠٨ )
وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى هذه الحقائق في الكثير من آيات القرآن الكريم. وبعض الناس يقول : إن الهدى من الله، ولو أن الله هداني ما قتلت، وما سرقت وما ارتشيت، ونقول : هذا فهم خاطئ، ولنرجع إلى القرآن الكريم، فالحق تبارك وتعالى يقول :﴿ والله لا يهدي ﴾ أي نفى ما يستوجب الهداية عمن ظلم أو فسق أو كفر ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يهدي من قدم الكفر ؛ أو قدم الظلم أو قدم الفسق ؛ فكأن الكافر أو الظالم أو الفاسق، هو الذي يمنع الهداية عن نفسه. ولو قدم الإنسان الإيمان لدخل في هداية الله تعالى، فكأن خروج الإنسان عن مشيئة هداية الله هي مسألة من عمل الإنسان وباختياره، فقد يختار الإنسان طريق الغواية، ويترك طريق الهداية، لذلك لا يهديه الله ؛ لأنه سبحانه لا يهدي إلا المؤمن به. وإن اختار الإنسان طريق الهداية، فالحق يعطيه المزيد من الهدى، لأنه آمن بالله ؛ فاختار طريق الهداية، واستقبل منهج الله بالرضى. وهكذا فهم قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾( فاطر : ٨ )
لإذن فالحق يهدي من استمع إلى القرآن بروح الإيمان، واستقر في يقينه أن له ربا، واعتقد أن له إلها، وقد فصلنا ذلك في مسألة القضاء والقدر، وقلنا : إن الذين يقرؤون القرآن لفهم قضية الهداية عليهم أن يستقرئوا كل الآيات المتعلقة بالموضوع، فسبحانه وتعالى قد أوضح أنه لا يهدي الكافر ؛ إذن فهو يهدي المؤمن، وأوضح أنه لا يهدي الظالم، إذن فهو يهدي العادل، وأوضح أنه جل وعلا لا يهدي الفاسق، إذن فهو يهدي الطائع، فلا يقولن أحد : إن الله لم يَشَأْ أن يهديني ؛ لأن هذا فهم خاطئ لمعنى الهداية من الله ؛ فسبحانه وتعالى قد بيَّن لنا من شاء هدايته ومن شاء إضلاله، وهو يهدي من قدم أسباب الهداية، وأسلم مقاليد زمامه للإيمان، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخيرا مردّا( ٧٦ ) ﴾( مريم )
﴿ والذين اهتدوا زادهم الله هدى وآتاهم تقواهم( ١٧ ) ﴾( محمد )
إذن فالله أخبرنا مسبقا بمن يستحق هدايته ومن لا يدخل فيها، وأنت باختيارك طريقك، إما أن تؤمن ؛ فتدخل في الهداية، وإما أن تختار طريق الكفر والظلم والعياذ بالله ؛ فتمتنع عن الهداية. فإذا جاء أحد يجادلك ؛ ويقول لك : إن الله سبحانه وتعالى قد قال :
﴿ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.. ( ٤١ ) ﴾( سورة المدثر )
لك أن تقول : لقد بين الله عز وجل من شاء له الهداية، ومن شاء له الضلال، ولقد ضربنا لذلك مثلا - ولله المثل الأعلى- فقلنا : إن الهداية قد وردت في القرآن الكريم على معنيين : المعنى الأول هو الدلالة على الطريق، وهذه هداية للجميع٣، فقد دل الله المؤمن والكافر على طريق الإيمان برسله وكتبه، أي : بيّن لهم ما يرضيه وما يغضبه وما يوجب رحمته وما يوجب لعنته، فالهداية الأولى – إذن- وردت بمعنى الدلالة للجميع، أي : أنها هداية عامة. ثم هناك هداية ثانية خاصة للمؤمنين، وهي التي بيّنها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم( ١٧ ) ﴾( سورة محمد )أي : أعانهم على منهجه ؛ فيسرّ لهم الطاعة وصعّب عليهم المعاصي، فإذا امتثل المؤمن لمنهج الله وأطاعه، فالحق عز وجل يشرح صدره بذلك، ويحبب الطاعة إليه، فيزداد طاعة. وإذا شرع في ارتكاب المعصية ؛ بغّضها له وجعلها ثقيلة على نفسه حتى يتركها٤.
وضربنا لذلك مثلا بالرجل الذي يقود سيارته ذاهبا لمكان معين. وعند مفترق الطرق وجد رجلا من رجال المرور، فدله على الطريق، هذه دلالة عامة. وعندما يقدم الرجل الشكر لجندي المرور. فرجل المرور يُزيد من الإيضاح له : لا تتبع طريق ؛ كذا لأن فيها متاعب ومصاعب، واتبع طريق كذا وكذا تصل في سرعة ويسر، وهذه زيادة في الدلالة، أو زيادة في الهداية. لكن إن قال سائق السيارة لنفسه : إن هذا رجل مرور لا يعرف شيئا، وتجاهل شكره، فرجل المرور يتركه وشأنه.
إذن فالحق سبحانه وتعالى قد هدى المؤمن والكافر إلى طريق الإيمان، فمن اتخذ طريق الإيمان أعانه الله تعالى عليه. ومن اتخذ طريق الكفر- والعياذ بالله - تركه الله يعاني ويضل. ولذلك لابد لنا أن نتذكر دائما أن الهداية هدايتان ؛ هداية دلالة لكل الناس، وهداية معونة للمؤمنين فقط، وفي الدلالة العامة يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وهديناه النّجدين ﴾( البلد : ١٠ )
أما دلالة المعونة : فهي التي يقول فيها المولى عز وجل :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم ﴾( محمد : ١٧ )
وما يكشف لنا أن الهداية عامة، أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن قوم ثمود وهم الذين بعث الله إليهم أخاهم صالحا، قال سبحانه :
﴿ وأمّا ثمودُ فهديناهم ﴾( فصلت : ١٧ )
ولو كانت الهداية هنا بمعنى أنهم أصبحوا مهتدين، وسلكوا سبيل الإيمان ما قال الله سبحانه بعدها :
﴿ فاستحبّوا العَمَى على الهدى ﴾( فصلت : ١٧ )
إذن :﴿ فهديناهم ﴾ في هذه الآية الكريمة معناها دللناهم على طريق الإيمان ولكنهم اختاروا طريق العمى والكفر.
٢ ذكره ابن كثير في تفسيره (٢/٣٤) من قول محمد بن كعب القرطبي وعزاه لابن جرير بسنده. وفيه ابن لهيعة. فيه كلام..
٣ ومن هذه الهداية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب في حديث طويل: "لأن يهدي الله بك رجلا واحد خير لك من أن يكون لك حمر النعم". أخرجه البخاري (٢٩٤٢)، ومسلم (٢٤٠٦) في صحيحيهما..
٤ وهذا قوله تعالى: ﴿ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون(٧)﴾ (الحجرات)..
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) ﴾
وفي سورة الأنفال تصنيف آخر في قوله تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٧٤ ) ﴾( الأنفال )
وفي هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال كان تصنيف المؤمنين بعد الهجرة مباشرة، وانتهت الهجرة، وأصبح الجميع سواء، فجاء التصنيف الجامع في آية التوبة.
لقد أوضح المولى سبحانه وتعالى أن هذه الأعمال لم تكن مقبولة من المشركين، أما إن قام بها المؤمنون فلهم درجة عند الله. وفي هذه الآية الكريمة يصفهم الحق بأنهم ﴿ أعظم درجة ﴾، و﴿ أعظم ﴾ صيغة أفعل التفضيل، وهي تعطي قدرا زائدا عن الأصل المتعرف به، فيقال : فلان أعلم من فلان. وبهذا يكون الشخص الثاني عالما، ولكن الشخص الأول أعلم منه. ويقال : فلان أكرم من فلان، أي أن الموصوف الثاني كريم، والموصوف الأول أكرم منه. والله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لنا الفوز عنده، فقال :
﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) ﴾( التوبة )
فهؤلاء هم الذين يحصلون على أكبر الأجر عند الله تعالى، وهم المؤمنون المهاجرون، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والفوز حكم يؤدي إلى أن تأخذ ما تحبه نفسك. فقال الحق موضحا ما يفوزون به :
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) ﴾( التوبة : ٢٠ )
ومادام هؤلاء هم الفائزون، فالفوز إنما يكون في مضمارين اثنين. فالذين يصنعون أمورا خاصة بالدنيا قد يفوزون فيها بدرجة من النعيم، ولكن نعيمهم على قدر إمكاناتهم ؛ وهو نعيم غير دائم ؛ لأنه إما أن يزول عنهم بذهاب النعمة، وإما أن يزولوا هم عنه بالموت، إذن فهو نعيم ناقص.
أما الذي يؤمن ويهاجر ويجاهد ويعمل لآخرته، فسوف يفوز بنعيم لا على قدر إمكاناته، ولكن على قدر إمكانات الله، ولا مقارنة بين إمكانات الله وإمكانات خلقه. وفوق ذلك فهو نعيم دائم لا يتركك فيزول عنك، ولا تتركه لأنك في الجنة خالد لا تموت.
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ( ٢١ ) ﴾
إذن فهذا قمة الفوز للقوم الذين يبشرهم الله في هذه الآية بالرحمة منه وبالرضوان المقيم. والبشارة - كما نعلم- هي نوع من الإعلام بشيء سوف يأتي مستقبلا، أي، أنك حين تبشر إنسانا فأنت تخبره بشيء قادم يسره.
إذن ففائدة البشارة أن تغري الإنسان بسلوك السبيل الذي يحققها، فأنا أبشرك بالنجاح إن استقمت وذاكرت واستمعت للأساتذة، ويشجعك كلامي لتجتهد حتى تحقق هذه البشارة، فكأن البشارة تجعلك تتخذ الوسيلة التي توصلك إليها.
ولذلك فقد قلنا : إن الأسباب والمسببات والعلة والمعلول والشرط والجواب ؛ كلها يجب أن تحرر بشكل آخر ؛ لأننا كنا نتعلم أن الشرط سبب في الجواب ؛ كقولك : " إن تذاكر تنجح "، وعلى ذلك فالشرط هو المذاكرة، وسبب الجواب هو النجاح، ونقول : لا، إن الجواب هو السبب في الشرط لأنك لا تذاكر إلا إذا تمثل لك النجاح بكل ما يحققه لك من فرحة، إذن فالشرط سبب في وجود الجواب واقعا. والجواب سبب في وجود الشرط دافعا، أي : أن الدافع لمذاكرتك وما يمثله لك النجاح من قيمة مادية ومعنوية. وكل إنسان يرغب في النجاح، لكن النجاح لا يتحقق بالدعاء فقط، بل بالمذاكرة التي تحقق النجاح كواقع. بمعنى أنك لا تذاكر إلا وقد تمثل لك النجاح بمواهبه ومزاياه ويفرح أهلك بك، وبفرحك بنفسك. ولهذا نقول : إن السبب هو الذي يوجد أولا في الذهن.
ومثال آخر : لنفترض أنك تريد أن تسافر إلى الطائف. فتكون الطائف هي الغاية، وتكون أنت قد خططت للوسيلة وفي ذهنك الغاية، إذن فالجواب يوجد دافعا، والشرط يوجد واقعا. وقوله تعالى :﴿ يُبشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ أي : يخبرهم بالنهاية السارة التي سوف يصلون إليها ليتحملوا مشقة التكاليف التي يأمرهم بها المنهج ؛ لأن الجنة محفوفة بالمكاره١، ولأن التشريع الإلهي تقييد لحرية الاختيار في العبد، والمؤمن مقيد بأوامر الله تعالى في " افعل " و " لا تفعل ".
ولكن غير المؤمن إنما يتبع هواه في كل حركاته، ويفعل ما يشاء له من الهوى ويطيع نزواته كما يريد، أما المؤمن فحريته فقط فيما لم يرد فيه تشريع من الله تعالى، أما ما يخضع للمنهج فهو مقيد الحركة فيما قضى الله به. فكأن الإيمان جاء ليقيد، ولكن إذا قارنا بين الجزاءين، نجد أن الذي يتبع شهواته في الدنيا إنما يحصل على لذة موقوتة، وعمره في الدنيا محدود، إذن فهو الخاسر، لأن الذي قيد حركته بمنهج الله يأخذ اطمئنانا في الدنيا ونعيما مقيما لا يزول ولا ينتهي في الآخرة٢. والمثال الذي أضربه دائما هو الطالب الذي لا يذهب إلى المدرسة ولا يذاكر، ولكن يقضي وقته في اللعب واللهو، وهو قد أعطى نفسه ما تريد، ولكنه أخذ متعة محدودة، ثم بعد ذلك يعيش في شقاء بقية عمره.
أما الذي قيد حياته بالمذاكرة، فقد منع شهوات نفسه من اللعب واللهو. وتكون الثمرة أنه يحقق لنفسه مستقبلا مريحا ومرموقا بقية عمره.
إذن فكل من الطالب الذي يجتهد وذلك الذي يلهو ويلعب، كل منهما أخذ لونا من المتعة. ولكن أحدهما أخذ متعة قصيرة جدا، ثم أصبح من صعاليك الحياة، أما الثاني فقد قيد نفسه سنوات معدودة ليتمتع بمستقبل ناجح.
كذلك أنت في الدنيا، إن قيدت نفسك بالتكاليف " افعل " و " لا تفعل "، فظاهر الأمر أنك قَيَّدْتَ حريتك، وإن فعلت ذلك برضا، فالله يعطيك راحة واطمئنانا ومتعة في النفس. ولذلك نجد الصلاة وهي التي يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم على الأقل ؛ هذه الصلاة في ظاهرها غنها تأخذ بعضا من الوقت كل يوم، ولكنها تعطي راحة نفسية، كما أنها تعطي اقتناعا يفوق التصور إن خشع فيها الإنسان وأداها بحقها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " يا بلال أرِحْنا بالصلاة " ٣
كما قال صلى الله عليه وسلم ضمن حديث رواه عنه أنس بن مالك رضي الله عنه " وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة " ٤.
لأن التكليف ينتقل من المتعة إلى الراحة. ويتمتع الإنسان فيها بتجليات ربه وفيوضاته فترتاح نفسه وتهدأ. وانظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ يبشرهم ربهم ﴾، تجد البشارة هنا آتية من رب خالق. والرب هو المالك، والمدبر الذي يرتب لك أمورك، وهو مأمون عليك.
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ ﴾ ( التوبة : ٢١ )
والرحمة والرضوان من صفات الله تعالى وهي صفات ذاتية في الله، ومتعلقات العبد فيها أنه سبحانه يهبها لمن يشاء.
ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله :
﴿ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ( ٢١ ) ﴾( التوبة )
ونجد أن هذا ترقٍّ وتدرجٌ في النعمة، فقد بشرهم الله سبحانه وتعالى أولا بالرحمة، وهي ذاتية فيه، ثم بنعمة دائمة في الحياة. ولنلحظ أن هناك فارقا بين النعمة والمنعم. ونضرب مثلا لذلك - ولله المثل الأعلى- إذا دعاك إنسان في بيته وقت الطعام ثم جاء بطبق فيه تفاح، لابد أن يكو التفاح في الطبق يكفي كل الجالسين بحيث يأخذ كل واحد منهم تفاحة، فإذا أمسك صاحب البيت بتفاحة وأعطاها لأحد الجالسين، فهذا مظهر من مظاهر رعاية خاصة من صاحب البيت، وتمييز لشخص ضيفه عن بقية الضيوف، وهذه تمثل درجة أعلى من الكرم والاهتمام، فهي تمثل الرحمة والرضوان. أما التفاح نفسه فهو النعمة، ومثله مثل الجنات.
وهكذا نرى أن هناك اختلافا في التكريم. والمؤمنون حين يرتقون في درجة الإيمان ؛ يعيشون دائما مع النعمة والمنعم ؛ فإذا جاء الطعام قالوا : " باسم الله "، وإذا أكلوا قالوا : " الحمد لله "، ولكنهم إذا ارتقوا أكثر في الإيمان عاشوا مع المنعم وحده، ولذلك يباهي الله بعباده الملائكة٥ ؛ يباهي بعبادتهم وطاعتهم التي يلتزمون بها على أي حالة يكونون عليها، ولو نزل بهم أشد البلاء وسلبت منهم النعم، وهؤلاء من أصحاب المنزلة العالية. ولذلك " فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل٦ " ؛ ليرى الحق سبحانه وتعالى من يحبه لذاته وإن سلب منه نعمة، وهذه منزلة عالية. فمن عبد الله ليدخل الجنة أعطاها له، ومن عبده سبحانه ؛ لأنه يستحق أن يعبد، فسوف يرتقي في الجنة ليرى وجه الله في كل وقت ؛ وأما الآخرون فيرونه لمحات، ولذلك يكون الجزاء في الآخرة على قدر العمق الإيماني للعبد، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل صالحا ولا يُشرك بعبادة ربه أحدا ﴾( الكهف : ١١٠ ).
وقال أحد الصالحين :" إني لا أشرك بك أحدا حتى الجنة، لأن الجنة أحد "
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ﴾ وقد ترحم ولكنك لا تنال الرضوان، فوضح المولى سبحانه وتعالى ذلك وأضاف " الرضوان " إلى " الرحمة "، ولذلك يقول الحق عز وجل :﴿ برحمة منه ورضوان ﴾ والرضوان هو ما فوق النعيم. وبعد الرضوان يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وجنات لهم فيها نعيم مقيم ﴾.
ولقائل أن يقول : هل هناك جنة ليس فيها نعيم ؟ ولماذا ذكرت النعيم ؟ والجنة وجدت أصلا لينعم فيها الإنسان.
ونقول لمثل هذا القائل : انتبه والتفت جيدا إلى المعنى : فالمتحدث هو الله سبحانه وتعالى. وقد يكون عند الإنسان نعمة واسعة، ولكن يحيا في الكثير من المنغصات، مما يجعله لا يستمتع بالنعمة، كمرض يملؤه بالألم، أو ابن عاق يكدر حياته، أو زوجة تملأ الحياة كدرا ونكدا، قد يحدث كل ذلك فلا يستمتع الإنسان بما يملك من نعمة الله ؛ لأن المكدرات قد أحاطت به. وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن جنة الآخرة ليس فيها منغصات الدنيا، بل هي صفاء واستمتاع، يعطي فيها الحق سبحانه وتعالى لعبده ما تشتهيه نفسه ويبعد عنه جميع المنغصات، وقد يخاف الإنسان ألا يدوم مثل هذا النعيم، لذلك يطمئن الله العبد المؤمن أنه ﴿ نعيم مقيم ﴾، قد ينظر إنسان إلى أن الإقامة مقولة تحمل التشكيك، فقد تستغرق الإقامة زمنا طويلا ثم تنتهي، وشاء الله - عز وجل - أن يطمئن المؤمن بوعد حق، فوعد المؤمنين بالخلود الأبدي في الجنة. فيقول سبحانه وتعالى :
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾.
٢ وهذا في مثل قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)﴾ (النحل)
أما الذي خرج عن منهج الله وأعرض عنه فقد قال عنه القرآن: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)﴾ (طه)..
٣ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥/٣٦٤) وأبو داود في سننه (٤٩٨٥) عن رجل من أسلم، قاله أحمد واللفظ فيه..
٤ حديث أنس أخرجه أحمد في مسنده (٣/٢٨٥-١٩٩-١٢٨) والنسائي في سننه (٧/٦١) والحاكم في مستدركه (٢/١٦٢٠) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وتمام الحديث "حبب إليَّ من الدنيا النساء والطيب...".
٥ أخرج ابن ماجه في سننه (٨٠١) عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبشروا.. هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة: يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى" وقد أخرج أحمد في مسنده (٢/١٩٦)، قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات..
٦ أخرجه أحمد (١/١٧٢) والترمذي (٢٣٩٨) وابن ماجه (٤٠٢٣) من حديث سعد بن أبي وقاص. قال الترمذي: حسن صحيح..
وحين يقول المولى سبحانه وتعالى :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات ﴾ فنحن نلحظ مقابلة الجمع بالجمع، وهي كما علمنا من قبل تقتضي القسمة آحادا، فإذا دخل الأستاذ الفصل وقال لتلاميذه : أخرجوا أقلامكم، فكل تلميذ لا يخرج أقلاما، بل يخرج كل تلميذ قلمه. وإذا قلنا : اركبوا سياراتكم فليس معنى هذا أن يركب كل واحد كل السيارات، ولكن معناه أن يركب كل واحد سيارته.
وقول الحق ﴿ جنات ﴾ ليس معناه أن يدخل كل مؤمن كل الجنات، ولكن المعنى والمقصود أن يدخل كل منهم جنته على حسب الأعمال التي اكتسبها والمنزلة التي وصل إليها١.
ومن المهم أن نعلم أن صاحب الجنة عالية المنزلة لن يتلقى حسدا من صاحب الجنة متوسطة المنزلة. وصاحب الجنة الدنيا لن يحسد من هو أعلى منه، وكذلك لن يزهو صاحب الجنة عالية المنزلة على غيره. وكل واحد منهم يفرح بمكانة الآخر. مثلما يحدث أحيانا في الدنيا حين يتفوق إنسان في دراسته فقد نجد من هو أقل درجة منه يفرح له بصفاء نفس، وكذلك لا يزهو متفوق بمكانته على الأدنى منه، وإذا كان ذلك هو ما يحدث في الدنيا، فما بالنا بالآخرة ؟ حيث يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ( ٤٧ ) ﴾( الحجر )أي : أن كلا من أهل الجنة يفرح بمنزلته، ويفرح بمنزلة الأعلى منه ؛ لأنه سينال من فيوضات الخير، التي عند الأعلى منزلة. عندما يأتي لزيارته وقد قالوا في قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ولمن خاف مقام ربه جنّتان( ٤٦ ) ﴾( الرحمن )إن كل من علت منزلته في الجنة له جنة خاصة به، وجنة أخرى ليتكرم بها على من هم دونه، وكأنها مضيفة لمن يحبهم، إذن ففي الآخرة يفرح أهل الجنة بمن هم أعلى منهم، لأنهم سينالون منهم خيرا.
وفي الدنيا إذا أراد الإنسان أن ينال نعم كل الخلق، فلا بد أن يفرح بالنعمة عند صاحبها ؛ لأنه حين يفرح بالنعمة عند صاحبها أتت إليه واستفاد منها، وعلينا أن نوقن بأن النعمة تعشق صاحبها أكثر من عشق صاحبها لها، لأنها تعرف أن الله قد أرسلها إليه، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ تُؤْتي أكلها كلّ حين بإذن ربِّها ﴾( إبراهيم : ٢٥ ).
وأنت حين تبذر بذرة الشجرة، تعطيك الشجرة الثمار، وهي التي تعطيك نتاجها. ولست أنت الذي تنتزعه منها، ولذلك نقول دائما : إن الرزق يعرف عنوانك جيدا ولكنك لا تعرف مكانه أبدا، فأنت تبحث عن الرزق في كل مكان وقد لا تجده. ولكن ما قسمه الله لك من الرزق تجده يسعى إليك ويأتيك حتما.
وأهل الجنة لا يعرفون الحقد ولا الحسد ولا الغل. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم جالسون معه ذات يوم : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ".
ودخل الرجل وعرفه الصحابة، فأرادوا أن يعرفوا ماذا يعلمه هذا الصحابي حتى يستحق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. قالوا له : ونحن نريد أن نعرف ماذا تفعل لنكون معك. فقال الرجل : إني لأصلي كما تصلون وأصوم كما تصومون وأزكي كما تزكون. ولكني أبيت وليس في قلبي غل لأحد. فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له : لقد قال الرجل كذا وكذا. فقال صلى الله عليه وسلم : " وهل فضلت الجنة على الدنيا إلا بهذا٢ ".
فالله سبحانه وتعالى يقول فيها :
﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غلّ ﴾( الحجر : ٤٧ )
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٦٦) وابن المبارك في الزهد(٦٩٤) وعزاه الهيثمي في المجمع (٨/٧٩) لأحمد والبزار بنحوه. وقال"رجال أحمد رجال الصحيح". وليس فيه"وهل فضلت الجنة على الدنيا إلا بهذا". وقد تتبعه عبد الله بن عمرو ليستطيع عمله ثم قال له: لم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هو إلا ما رأيت... غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) ﴾
والولي هو الذي يليك وينجز ما تحبه وتلجأ إليه في كل أمر، وتأخذ منه النصيحة، كما أنه القادر أن يجيرك حين تفزع إليه، ويكو دائما بمثابة المعين لذلك، والقريب الذي يسمع منك، إذا استغث يغيثك وينصرك، ويكون معك في كل أمورك. إن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هنا : إن أردتم أن يكون بناء الإسلام قويا لا خلل فيه، فإياكم أن يكون انتماؤكم غير انتماء الإيمان، فهو فوق انتماء النسب والحسب وغير ذلك، وإن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق، فما يطلبه الخالق فوق ما يطلبه المخلوق ؛ لأنك إن أغضبت المخلوق في رضا الخالق تكون أنت الفائز ؛ ويقذف الله في قلب كل من حولك رضاهم عنك، وسيقال عنك صاحب مبدأ وضمير، ولا ترضى أن تغضب الله ليرضى عنك أحد. وإن أسخطت الله لإرضاء مخلوق مهما كان، تجد أن الله يجعل هذا المخلوق يسخط عليك ويحتقرك١. فإن شهدت زورا لصالح بشر. يعرف عنك هذا الذي شهدت زورا في حقه أنك شاهد زور فلا يأمنك، وإن جئت بالصدفة لتشهد عنده فهو لا يقبل شهادتك ويحتقر كلامك.
ولذلك قال الحكماء : شاهد الزور قد يرفع رأسك على الخصم بشهادته، ولكنك تدوس بقدمك على كرامته لأنه سقط في نظرك.
والانتماء إذن هو انتماء لله، فإن صادفك قريب يريد منك أن تفعل ما يغضب الله فلا تطعه، ولكن لا تكن فظا معه. وخصوصا مع الوالدين لأن الله سبحانه وتعالى يقول عنهما :
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾( لقمان : ١٠ )
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ ﴾( التوبة : ٢٣ )
إذن فالذي يربط كل شيء هو الكفر أو الإيمان. وقد أعطانا صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - المثل الخالد. فقد كان سيدنا مصعب بن عمير أكثر الفتيان تدللا في مكة، وكانت حياته في مكة قبل إسلامه غاية في الترف، وكان يرفل٢ في الثياب الفاخرة، فلما هاجر إلى المدينة عاش ظروف الفقر المادي الصعب، لدرجة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رآه في الطريق ساترا عورته بجلد شاة فلفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر الصحابة إلى حالته هذه وكيف فعل الإيمان بمصعب حيث فضل الإيمان على نعيم الدنيا كلها. لقد رأى مصعب - رضي الله عنه - أن شرفه بالانتماء إلى الإسلام أكبر من فاخر الثياب، وترف العيش٣ وانطبق عليه قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾( التوبة )
وأعطانا سيدنا مصعب ومن معه المثل العظيم في الانتماء الإيماني، والمجاهدة في سبيل الله بالمال والنفس، وكيف نجعل اختيارنا مع منهج الله، هذا المنهج الذي يقيد الإنسان فيما له اختيار فيه. فالإنسان مقهور في أشياء ومخير في أشياء.
ونعلم أن التكليف لا يأتي في الأمور التي نحن مقهورون عليها. وإنما يأتي فيما لا فيه اختيار. فإذا ما كان لنا اختيار، فلنراع أن نختار بين البدائل في إطار منهج الله تعالى، ولا نخرج بعيدا عن هذا الإطار. وكان المسلمون الأوائل يضحون بالبيت والمال والولد، ويهاجرون في سبيل الله. واستقبلوا كل هذه التضحيات الصعبة بصدور مؤمنة، وصبر واحتمال شديدين، لأنهم وثقوا في البشارة من الله سبحانه وتعالى بأن لهم الجنة والرضوان، والنعيم المقيم ؛ خالدين فيه لا يفارقهم ولا يفارقونه. وبهذا أقيم بناء الإسلام.
وبعد أن بيَّن لنا الحق أسس الانتماء للدين، وجزاء هذا الانتماء، حذرنا أن ننحرف لنرضى أبا أو إخوة أو أقارب، فقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) ﴾ ( التوبة ).
ويريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعرف أن الانتماء لله لا يعلو عليه شيء، فإذا مِلْنا عن الحق لنرضي أقارب، أو لنحتفظ بمال أو منصب، فذلك ظلم للنفس ؛ لأن جزاء الحق ونعيمه أكبر، فلا ينصرن أحد الباطل، ولا يجعل أحدنا الإيمان خادما لكفار لا يؤمنون بالله. ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الصورة بقوله تعالى :﴿ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ ﴾، وكلمة " استحب " أي : طلب الحب ومثلها مثل " استخرج " أي : طلب إخراج الشيء. وإذا قلنا " استجاب الله " معناها : أجاب.
إذن ف " استحب " معناها : أحب، ولكن " استحب " فيها افتعال. و " أحب " فيها اندفاع بلا افتعال.
وقول الحق تبارك وتعالى :﴿ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ ﴾ يدل على أن الكفر مخالف للفطرة الإيمانية للإنسان، لأن الإنسان بفطرته مؤمن محب للإيمان، فإن حاول أن يحب غير الإيمان، لابد أن يتكلف ذلك ؛ وأن يفتعله لأنه غير مفطور عليه ؛ وليس من طبيعته. ولذلك يقول القرآن الكريم :
﴿ كيف تكفرون بالله ﴾( البقرة : ٢٨ )وهذا التساؤل والتعجب يوضح لنا أن الذين يحكّمون المنطق والفكر والعقل يصعب عليهم الكفر بالله، لماذا ؟ ؛ لأن الكون وجد أولا، ثم وجد الإنسان، فكان من الواجب حين نأتي إلى كون لم نصنع فيه شيئا أن نسأل : من الذي أوجده ؟ وكان من الطبيعي أن يبحث العقل عن الموجد، وخصوصا أن في الكون أشياء، لا قدرة للبشر على إيجادها ؛ كالشمس، والأرض، والماء، والهواء، والنبات، والحيوان. وكلها تمثل الاستقبال الجامع لمقومات حياتك.
كان من الطبيعي- إذن- أن نسأل : من الذي أوجد هذا الكون ؟ خصوصا أنا نفتش عمن اخترع لنا اختراعا بسيطا مثل : مصباح الكهرباء وندرس تاريخ حياته، وكيفية اكتشافه، لمجرد أنه أضاف إلى حياتنا أتيمن الذي أوجد طططاختراعا استفدنا منه، فما بالنا بمن خلق هذا الكون ؟. ولقد رحمنا سبحانه وتعالى من ضلالات الحيرة، فأرسل لنا رسولا برحمة منه ؛ لينبهنا ويقول لنا : إن هذا الكون من خلق الله القادر العظيم. لماذا إذن لا نصدق الرسول، ونتبع المنهج الذي أنزل إلينا ؟
ولقد ضربنا مثلا- ولله المثل الأعلى- بشخص سقطت به الطائرة وسط الصحراء وبقي حيا، لكن لا ماء ولا طعام، ثم أخذته سِنَةٌ من النوم واستيقظ ليجد الطعام والشراب، وكل ما يحتاج إليه حوله ؛ ألا يفكر قبل أن يأكل من كل هذا : من الذي جاء به ؟ وأنت أيها الإنسان قد جئت إلى هذا الكون العظيم وقد أُعِدَّ إعدادا مثاليا لحياتك، وهو إعداد فوق القدرة البشرية، فكان يجب أن تفكر من الذي أوجد هذا الكون ؟.
إذن فالإيمان ضرورة فطرية، وضرورة عقلية أيضا، وإن ابتعدت عن الإيمان فهذا يحتاج إلى تكلف ؛ لأنك تبتعد عن منطق الفطرة والعقل ؛ لتحقق شهوات نفسك. وما دمت قد اتبعت هواك وخضعت لشهوات النفس، فهذا لون من التكلف الذي يصيب ملكاتك بالخلل، وعقلك بالخبل، فحب الكفر لا يكون عاطفيا، أو فطريا، كما لا يكون منسجما مع العقل السليم، بل هو حب متكلَّف. فالذي يفعل حلالا يحيا وملكاته كلها منسجمة، والذي يفعل حراما يعيش وملكاته مضطربة٤، والمثال : حين ينظر الرجل إلى زوجته، فهو ينظر إلى حلاله ويشعر أن ملكاته منسجمة، ولكن إن نظر إلى امرأة أخرى، فهو يشعر باضطراب الملكات. فالسلوك المتفق مع الإيمان سلوك سوي. أما السلوك الخارج عن منهج الإيمان فهو الذي يحتاج إلى تكلف، وهذا التكلف يعارض الطباع الإنسانية. بينما توابع الإيمان من الاستقامة لا تكلف شيئا، فالمؤمن يكون مستقيما فلا يرتشي، ولا يسرق، ولا يدخل بنفسه إلى مزالق الهوى أو الشهوة، ويحيا حياة طيبة، فإن فتح " دولابه " الخاص، وأخذ منه شيئا فهو يأخذ ما يريد بهدوء واطمئنان، لكن المنحرف من يدخل إلى غير حجرته ليأخذ شيئا من " دولاب " ما، حتى ولو كان " دولاب " الأب النائم، لذلك نجده يسير على أطراف أصابعه متلصصا ليفتح " دولاب " أبيه.
إذن : فالاستقامة لا تحتاج إلى تكلف، ولكن الانحراف هو الذي يحتاج إلى تكلف، ولذلك قال الله سبحانه :﴿ استحبّوا ﴾ ولم يقل ؛ " أحبوا "، لأن الحب أمر فطري، فالإنسان - مثلا- يحب ابنه حبا فطريا عاطفيا، والحب العاطفي لا يقنن. فأنت لا تستطيع أن تقول : سأحب فلانا وسأكره فلانا ؛ لأن العاطفة لا تأتي بهذه الطريقة ؛ لذلك أنت تحب ابنك عاطفيا، حتى وإن كان فاشلا في دراسته. لكنك تحب ابن عدوك عقليا إن كان متفوقا، إذن فالحب العقلي هو الذي يقنن له.
وكذلك أنت تكره الدواء المر بعاطفتك، لكنك تحبه بعقلك إن كان فيه شفاؤك، فتبحث عنه وتدفع المال من أجله، وتحرص على أن تتناوله، وكلنا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه " ٥.
ووقف عند هذه سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال : يا رسول الله : أنا أحبك عن مالي وأحبك عن ولدي، ولكن كيف أحبك عن نفسي ؟ فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث قائلا : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه ".
وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاثا، فعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن هذا تكليف. والتكليف لا يأتي إلا بالحب العقلي الذي يمكن أن يقنن. وقد يتسامى المؤمن في الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصير حبا عقليا وعاطفيا. ولكن الحب العقلي هو مناط التكليف، أما الحب العاطفي فلا يكلف به. ولم يقنن الحق سبحاه وتعالى لانفعالات العواطف، لأنه سبحانه وتعالى لا يمنع العواطف أن تنفعل انفعالاتها الطبيعية، فأنت تحب من يسدي إليك معروفا، وهناك من تحبه دون أن تعرف السبب. وهناك من تبغضه دون أن يكون قد عاداك أو آذاك٦، وكل ذلك متروك لك، ولكن الله سبحانه وتعالى نهى أن يؤدي ذلك إلى عدوان على الحق، فقال سبحانه وتعالى :
﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا ﴾( المائدة : ٨ )أي : لا يدفعكم كره قوم على أن تخرجوا عن طريق الحق وتظلموهم، فإن كرهتموهم فتمسكوا بالعدل معهم.
إذن فالله سبحانه وتعالى لم ينه عن الحب أو الكره ؛ ولكنه نهانا عن أن نظلم من نكره أو نجامل من نحب على حساب الحق والعدل.
ويعطينا سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صورة حية لهذا ؛ فقد قتل أبو مريم الحنفي زيد بن الخطاب شقيق سيدنا عمر في معركة اليمامة، ثم دخل الإسلام ؛ فكان كلما مر أمام سيدنا عمر قال له : إلو وجهك بعيدا عني، فإني لا أحبك. فقال له أبو مريم الحنفي : أو عدم حبك لي يمنعني حقا من حقوقي.
قال : لا. فقال الرجل : إنما يبكي على
.
٢ يرفل: يتبختر في مشيته ويجرُّ ذَيله..
٣ عن عمر بن الخطاب قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب (جلد) كبش فقد تنطَّق به فقال صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون" أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (١/١٠٨) قال العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء (٤/٢٩٥) إسناده حسن..
٤ عن النواس بن سمعا الأنصاري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: "البرُّ حُسْن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". أخرجه مسلم (٢٥٥٣) والترمذي (٢٣٨٩) وقال: حسن صحيح/ وأحمد في مسنده(٤/١٨٢)..
٥ أخرجه البخاري في صحيحه (٦٦٣٢) وأحمد في مسنده (٤/٢٣٣) وفي إسناد أحمد بن لهيعة ولكن تابعه حيوة عن زهرة بن معبد. وباقي الحديث هنا مروى بالمعنى..
٦ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". أخرجه مسلم في صحيحه(٢٦٣٨) وأحمد في مسنده(٢/٢٩٥-٥٢٧-٥٣٩) وأبو داود (٣٨٣٤).
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٢٤ ) ﴾ :
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغه للمؤمنين. وقد جاء سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بمراحل القرابة، فذكر أولا صلة النسب من آباء وأبناء وإخوة، ثم الزواج، وهو وسيلة التكاثر، ثم الأهل والعشيرة، ثم الأموال التي نملكها فعلا، ثم الأموال التي نريد أن نكسبها، ثم المساكن التي نرضى بها، وبعد ذلك ذكر التجارة التي تزيد من المال. وفرَّق الله سبحانه بين الأموال التي في حوزتنا وبين التجارة ؛ لأن التجارة قد تأتي لنا بأموال فوق الأموال، والإنسان لا يحصل لا على سكن إلا إذا كان عنده فائض من المال. ويذكرنا الحق سبحانه وتعالى هنا إن كانت أي مسألة من هذه الأشياء، وهي زينة الحياة الدنيا أحب إليكم من الله ورسوله والجهاد في سبيل الله ﴿ فتربّصوا ﴾أي انتظروا حتى يأتيكم أمر الله، وحينئذ ستعرفون القيمة الحقيقة للدنيا وقيمة ما عند الله تعالى من رضاء ونعيم.
ولهذه الآية الكريمة أسباب نزول، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أُمِرَ بالهجرة من مكة إلى المدينة، أمر المسلمين بالهجرة، فتركوا أموالهم التي اكتسبوها بمكة وتجارتهم ومساكنهم، وآباءهم وأبناءهم، وإخوانهم وأزواجهم وعشائرهم، التي تستطيع حمايتهم، تركوا كل هذا وهاجروا لأرض جديدة.
ولكن من المسلمين من ركنوا للدنيا فبقوا بجوار أموالهم وأزواجهم وأبنائهم المشركين، وكانت الواحدة من النساء المشركات تتعلق بقدمي زوجها المسلم الذي يريد الهجرة حتى لا يتركها فكان قلبه يرقُّ لها، ومنهم من كان يخشى ضياع ماله وكساد تجارته، التي بينه وبين المشركين، فنزلت هذه الآية١.
إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح قيمة الانتماء الإيماني ويدرب المؤمنين عليه. فقد كان المسلم لا يتم إيمانه حتى يهاجر، ويصارم٢ أهله وأقاربه ويقاطعهم فشق ذلك عليهم. وقالوا : يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في ديننا قطعننا آباءنا وأبناءنا وأزواجنا وأقاربنا، وخفنا على أموالنا وتجارتنا من الفساد، وخفنا على مساكننا أن تخرب، وبذلك نضيع، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة، وكأنها تأمرهم بأن كسب الإيمان أعلى من أي كسب آخر، فأنزل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة :
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٢٤ ) ﴾( التوبة ).
ولما نزلت هذه الآية الكريمة أخذها الصحابة مأخذ الجد وهاجروا ؛ وقاطعوا آباءهم وأبناءهم، حتى إن الواحد منهم كان يلقى أباه أو ابنه فلا يكلمه، ولا يدخله بيته، ولا ينزله في منزله إن لقيه، ولا ينفق عليه، إلى أن نزلت الآية الكريمة :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ ( لقمان : ١٥ )أي : أن المعروف معهم يقتصر فقط في المعاملة وفي الإنفاق على المحتاج.
أما الطاعة لهم فيما يغضب الله فهي محرمة. وحاول بعض المستشرقين أن يطعن في القرآن، فمنهم من قال : إن هناك تعارضا بين آيات القرآن الكريم، فالآيتان اللتان ذكرناهما ؛ الأولى تطلب مقاطعة الآباء والأبناء إن استحبوا الكفر على الإيمان، والآية الثانية تطلب مصاحبتهم بالمعروف أو عدم القطيعة، وآية ثالثة تقول :
﴿ لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾( المجادلة : ٢٢ )ولم يفطن هؤلاء إلى أن هناك فرقا بين الود والمعروف، فالود هو عمل القلب، فأنت تحب بقلبك، وتود بقلبك، ولكن المعروف ليس من عمل القلب لأنك قد تصنع معروفا في إنسان لا تعرفه، وقد تصنع معروفا في عدوك حين تجده في مأزق، ولكنك لا تحبه ولا توده.
إذن : فالمنهي عنه يكون بينك وبين من يحادون الله ورسوله حب ومودة، أما المعروف فليس منهيا عنه ؛ لأن الله يريد للنفس الإيمانية أن تعترف بفضل الأبوة، فإن وجدت أباك وهو غير مؤمن في مأزق فاصنع معه معروفا وساعده، ولكن عليك ألا تطيعه فيما يغضب الله ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في النفس الإيمانية أن تحترم من له فضل عليها. والأب والأم من أسباب الوجود الفرعي في الحياة، لذلك جاء الأمر بمصاحبتهما بالمعروف في الدنيا، شرط ألا نقبل منهما دعوتهما للكفر إن كانا من أهل الكفر، لأن إيمانك بالله لابد أن يكون هو الأقوى. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ". ٣ أ
وذلك حتى لا يكون مقياس الحب هو النسب أو القربى، وإنما يكون القرب من الله سبب الحب، والبعد عن الله سبب الكره. فقضية الإيمان تَجُبُّ قضية العاطفة. ففي معركة بدر كان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ابنه فلم يكن قد أسلم بعد وكان مع الكفار، فلما أسلم ابن أبي بكر وآمن ؛ قال لأبيه : لقد رأيتك يوم بدر فوليت وجهي عنك حتى لا أقتلك. فرد سيدنا أبو بكر رضي الله عنه : لو أني رأيتُكَ لقتلتُكَ. وهذا منطقي مع الإيمان لأن الموازنة النفسية اقتضت أن يقارن ابن أبي بكر بين أبيه وبين صنم يعبده ؛ فرجحت كفة أبيه، ولكن أبا بكر حين رأى ابنه قارن بين ربه وابنه فرجحت كفة ربه.
وإذا كان ذلك عن القرابة، وكيف تَجُبُّ الإيمان بالعاطفة، فلماذا عن المال ؟
يتابع المولى سبحانه وتعالى :﴿ وأموالٌ اقترفتموها ﴾ أي : أخذتموها بمشقة، وهي مأخوذة من " القرف " وهي القشر، وأنت إن أردت إزالة القشر عن حبة نبات ما، قد تجد شيئا من المشقة ؛ لأن هناك التصاقا بين القشرة والحبة، والحق هنا يقول :﴿ وأموالٌ اقترفتموها ﴾ أي : أخذتموها بجهد ومشقة، وهو غير المال الموروث الذي لم يتعب فيه صاحبه، وإنما ورثه عن غيره، وفي هذه الحالة قد يكون أمره هينا على صاحبه. أما المال الذي كسبه الإنسان بعرق جبينه وكدِّه٤ فصاحبه أكثر حرصا عليه من المال الموروث. ويقال : " فلان اقترف كذا "، أي : أنه قام بجهد حتى حصل عليه، ويقال : " اقترف الكذب " و " اقترف السرقة "، بمعنى أنه قد بذل جهدا ليكذب، أو بذل جهدا ليسرق، أي : قام بعملية فيها مجهود.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ وسبحانه هنا يوضح لهم : انتظروا أمر الله الذي سوف يأتي، لأنه سبحانه وتعالى لا يهدي فاسقا خرج عن الإيمان، ولا يهدي من جعلوا حبهم للعلاقات الدنيوية فوق حب الله فخرجوا عن مشيئة هداية الله تعالى، فسبحانه لا يهديهم كما لا يهدي الظالمين أو الكافرين ؛ لأن هؤلاء هم من قدموا الظلم والكفر والفسق، فكان ذلك سببا في أن الله لم يدخلهم في مشيئة هداية المعونة على الإيمان، أما هداية الدلالة فقد قدمها لهم.
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبعث الطمأنينة الإيمانية في نفوس المؤمنين، فيوضح لهم : إن كنتم تريدون بالآباء والأبناء والعشيرة والأقربين والمال قوة، فاعلموا أن قوة المؤمن من ربه، وإياك أن تنظر إلى ولي آخر غير الله ؛ لأن ولاية البشر عرضة للتغير والتبدل، حيث إن الإنسان حدث يتقلب بين الأغيار، فالغني فيها قد يصبح فقيرا، والسليم قد يصبح مريضا، والقوي قد يصير ضعيفا، ولكن الولاية الدائمة، إنما تكون من قادر قاهر لا يتغير، فإذا كان الله وليك فهو القادر دائما، والقاهر دائما، والغالب دائما، والموجود دائما، والناصر دائما، ولكن إذا كانت الولاية من إنسان لإنسان فالأغيار في الدنيا تجعل الصديق ينقلب عدوا، والمعين يصبح ضعيفا لا يملك شيئا، والموجود يصبح لا وجود له بالموت، إذن : فلا بد أن تجعل ولايتك مع الله سبحاه وتعالى : لأنه هو الدائم الباقي. ولهذا يعلِّم المولى-عز وجل- عبده المؤمن أن يكون دائما يقظا، فطنا، لبيبا، فيقول سبحانه وتعالى :
﴿ وتوكل على الحي الذي لا يموت ﴾( الفرقان : ٥٨ )أي : لا تتوكل على من قد تصبح غدا فتجده ميتا، ولكن توكل على الحي الموجود دائما، العزيز الذي لا يقهر، القوي الذي لا يغلب. وينبه الحق سبحانه وتعالى المؤمنين : إن كنتم تخشون حين نعزلكم عن مجتمع الكفر لما فيه من عزوة كاذبة بالآباء والأبناء والإخوان والأقارب والمال، فاعلموا أن الله هو الذي ينصر، وهو الولي، ولكن الكافرين لا مولى لهم ؛ لأنهم يتخذون موالي من أغيار، والأغيار لا ثقة فيها ؛ لذلك يقال : إذا وصل الإنسان إلى القمة فهذه نهاية الكمال، لأنه مادام قد وصل إلى القمة وكل شيء في الدنيا يتغير، فلابد أن يتغير هو. ويقول القائل :
إذا تمَّ شيء بَدَأ نقصُه *** ترقَّبْ زوالا إذا قيلَ تمَّ
لأن كل شيء ابن أغيار لابد أن ينزل إلى أسفل، ويوضح الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه إذا كان قد طلب منهم أن يعزلوا أنفسهم عن مجتمع الكفر ؛ فأفقدهم بذلك قوة ونصيرا، فهم في مَنَعة أكبر ؛ لأنهم حينئذ يكونون مع الله، والله هو النصير، وليس هذا كلاما نظريا، وإنما هو كلام مؤكد بالوقائع التي شهدتموها.
٢ يصارم أهله: يقاطعهم قطعا بائنا..
٣ متفق عليه. أخرجه البخاري (١٦) ومسلم (٤٣) عن أنس بن مالك.
٤ الكدّ: الشدة والتعب في تحصيل الشيء..
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ﴾ :
وقوله :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾ يلفتنا إلى أن النصر يكون من عند الله وحده، والدليل على أن النصر من عند الله أنه سبحانه وتعالى قد نصر رسوله والذين معه في مواطن كثيرة، و﴿ مَوَاطِنَ ﴾ جمع " موطن " والموطن هو ما استوطنت فيه. وكل الناس مستوطنون في الأرض، وكل جماعة منا تُحيز مكانا من الأرض ليكون وطنا لها، والوطن مكان محدد نعيش فيه من الوطن العام الذي هو الأرض ؛ لأن الأرض موطن البشرية كلها، ولكن الناس موزعون عليها، وكل جماعة منهم تحيا في حيز تروح عليه وتغدو إليه وتقيم فيه.
والله سبحانه هنا يقول :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾، ومادام الحديث عن النصر، يكون المعنى : إن الحق سبحانه وتعالى قد نصركم في مواطن الحرب أي مواقعها، مثل يوم بدر، ويوم الحديبية، ويوم بني النضير، ويوم الأحزاب، ويوم مكة، وكل هذه كانت مواقع نصر من الله للمسلمين، ولكنه في هذه الآية يخص يوما واحدا بالذكر بعد الكلام عن المواطن الكثيرة، فبعد أن تحدث إجمالا عن المعارك الكثير يقول :﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ إذن : فكثرة عدد المؤمنين في يوم حنين كان ظرفا خاصا، أما المواطن الأخرى، مثل يوم بدر فقد كانوا قلة، ويوم فيتح مكة كانوا كثرة، ولكنهم لم يعجبوا ؛ ولم يختالوا بذلك، إذن : ففي يوم حنين اجتمعت لهم الكثرة مع الإعجاب، وبذلك يكون حنين له مزية، فهو يوم خاص بعد الحديث العام.
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ هذا الإعجاب ظرف ممدود على اليوم نفسه، إذن فيوم حنين ليس معطوفا على ﴿ مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾ ولكنه جملة مستقلة بنفسها ؛ لأن الكثرة والإعجاب بالكثرة لم تكن في بقية المواطن، وهذه دقة في الأداء اللغوي تتطلب بحثا لغويا. فكلمة﴿ مَوَاطِنَ ﴾ هي ظرف مكان، و﴿ يَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ هي ظرف زمان، فكيف جاز أن نعطف ظرف الزمان على ظرف المكان ؟
ونقول : هذا هو ما يسميه العرب " احتباك " ؛ لأن كل حدث مثل " أكل " و " شرب " و " ضرب " و " ذاكر " ؛ كل حدث لابد له من زمان ولابد له من مكان، فإذا قلت : أكلت، نقول : متى ؟ في الصبح، أو في الظهر، أو في العصر، أو في العشاء ؟ وأين ؟ في البيت، أو في الفندق، أو في المطعم، أو في الشارع.
إذن : فلابد لكل حديث من ظرف زمان وظرف مكان، فإذا راعيت ذلك أخذت الظرفية المطلقة ؛ ظرفية حدوث الفعل، وظرفية زمان حدوث الفعل. فإذا قلت : أكلت الساعة الثالثة ولم أسألك أين تم الأكل ؟ أو إذا قلت : أكلت في البيت ولم أسألك عن موعد الأكل ظهرا أو عصرا أو ليلا، يكون الحدث غير كامل الظرفية.
ومعلوم أن الزمان والمكان يشتركان في الظرفية، ولكنهما يختلفان، فالمكان ظرف ثابت لا يتغير. والزمان دائم التغير، فهناك الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء. والزمان يدور، هناك ماض وحاضر ومستقبل، وهكذا يشترك الزمان والمكان في الظرفية، ولكن الزمان ظرف متغير، أما المكان فهو ظرف ثابت.
وجاءت الآية هنا بالاثنين، ف﴿ يَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ هو زمان ومكان لحدث عظيم، وأخذت الآية ظرف المكان في ﴿ مواطن كثيرة ﴾ وظرف الزمان في ﴿ يوم حنين ﴾ فإذا قيل : لم يحضر ظرف الزمان والمكان في كل واحدة، نقول : لا، لقد حضر ظرف المكان في ناحية وظرف الزمان في ناحية ثانية، وهذا يسمونه - كما قلنا - " احتباك ". وقد حذف من الأول ما يدل عليه الثاني، وحذف من الثاني ما يدل عليه الأول، فكان المعنى : لقد نصركم الله يوم مواطن كذا وكذا وكذا. فإذا عطفت عليها يوم حنين يكون المعنى " ومواطن يوم حنين "، أي : جاء بالاثنين هنا. ولكن شاء الله سبحانه وتعالى ألا يكون هناك تكرار، فأحضر واحدة هنا وواحدة هناك، وهذا يظهر واضحا في قوله تعالى :
﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ ( آل عمران : ١٣ ).
فمادامت الأخرى ﴿ كَافِرَة ﴾ تكون الأولى " مؤمنة " ٌ، ولكن حذفت " مؤمنة " لأن " كافرة " تدل عليها، ومادامت المؤمنة تقاتل في سبيل الله، فالفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان. وحذفت تقاتل في سبيل الشيطان ؛ لأن ﴿ تقاتِل في سبيل الله ﴾ دلَّتْ عليها. وذلك حتى لا يحدث تكرار. ونجد أن المؤمن الذي يستمع إلى كلام الله تعالى لابد أن يكون عنده عمق فهم، وأن يكون كله آذانا صاغية حتى يعرف وينتبه إلى أنه حذف من واحدة ما يدل على الثانية. إذن : فيكون ظرف الزمان موجودا في واحدة، وظرف المكان موجودا في واحدة، وكلاهما يدل على الآخر. والمثال على ذلك أنه بعد أن انتهت هذه الغزوة، وعاد المسلمون إلى المدينة مجهدين لم يخلعوا ملابس الحرب، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ١.
فانطلق المسلمون-دون أن يستريحوا- إلى أرض بني قريظة، وهم اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة، وخانوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحالفوا مع الكفار ضد المسلمين، وبينما الصحابة في طريقهم إلى بني قريظة كادت الشمس تغيب، فقال بعض الصحابة : إن الشمس ستغيب ولابد أن نصلي العصر، وصلوا. وفرقة ثانية من الصحابة قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منا ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة ولم يُصلُّوا حتى وصلوا إلى هناك.
ونقول : إن الفريقين استخدما المنطق ؛ لأن الصلاة تحتاج إلى ظرف زمان وظرف مكان، فالذي نظر إلى ظرف الزمان قال : الشمس ستغيب، وصلى، والذي نظر إلى ظرف المكان الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لم يُصَلِّ. وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفريقين، واحترم اجتهادهما في : ظرفية الزمان، وظرفية المكان. وفي هذا يروي نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر حتى نأتيهم، وقال بعضهم : بل نصلي، لم يُرَدْ منا ذلك، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ﴾ والغنى هو عدم الحاجة إلى الغير، وحنين٢ هو موضع في واد بين مكة والطائف، تجمَّع فيه الكفار الذين ساءهم فتح المسلمين لمكة، فأرادوا أن يقوموا بعملية مضادة تُضيّع قيمة هذا النصر. فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف، واختاروا مالك بن عوف ليكون قائدهم في هذه المعركة. واستطاع مالك بن عوف أن يجمع أربعة آلاف مقاتل، وانضم إليهم عدد من الأحزاب المحيطين بهم. ووضع مالك خطته على أساس أن يخرج الجيش ومعه ثروات المشاركين في الجيش من مال، وبقر وإبل. وأن يخرج مع الجيش النساء والأطفال. وذلك حتى يدافع كل واحد منهم عن عرضه وماله فلا يفر من المعركة، ويستمر في القتال بشجاعة وعنف ؛ لأنه يدافع عن نسائه وأمواله وأولاده. وبذلك وضع كل العوامل التي تضمن له النصر. بينما المؤمنون عندما تبدأ المعركة سيقاتلون مدافعين عن دين الله ومنهجه.
واجتمع الكفار ونزلوا بواد اسمه " وادي أوطاس ". وكان فيهم رجل كبير السن ضرير. اسمه " دريد بن الصِّمة ". وكان رئيسا لقبيلة " جشم ". فلما وصل إلى مكان المعركة سأل : بأي أرض نحن ؟ نحن بوادي أوطاس. فابتسم وقال : لا حزنا ضرس ولا سهلا دهس، أي أنها أرض مناسبة ليس فيها أحجار مدببة، تتعب الذي يسير عليها، وليست أرضا رخوة تغوص فيها أقدام من يسير عليها، من " الحزن " فالحزن هو : الخشونة والغلظة، و " ضرس " هو : التعب أثناء السير، وأيضا ليست أرضا سهلة منبسطة رملية تغوص فيها الأقدام.
وعندما سمع العجوز بكاء الأطفال وثغاء٣ الشاة، قال : أسمع بكاء الصبيان وخوار البقر. فقالوا له : إن مالك بن عوف استصحب ذراريه واصطحب كل أمواله، فقال : أما الأموال فلا بأس، وأما النساء والذراري فهذا هو الأرعن-أي : لا يفهم في الحرب- أرسلوه لي، فأحضروه له. فلما حضر قال : يا مالك ما حملك على هذا ؟ قال : وماذا تريد ؟ قال : ارجع بنسائك وذراريك إلى عُليَّا دارك، فإن كان الأمر لك ؛ لحقك من وراءك. وإن كان الأمر عليك لم تفضح أهلك وذراريك. فقال له مالك : لقد كبرت وذهب عملك وعقلك. وأصر على رأيه. ثم بدأ مالك بن عوف يرتب الجيش في الشِّعاب وتحت الأشجار حتى لا يراهم المسلمون عند مجيئهم. فيتقدمون غير منتبهين للخطر، وحينئذ يتم الهجوم عليهم من كل جهة ومن كل مكان.
وعندما جاء جيش المسلمين لم ينتبهوا إلى وجود الكفار المختفين عن الأعين. وحينئذ أعطى مالك بن عوف إشارة البدء بالهجوم، فخرج الكفار من كل مكان. وفاجأوا المسلمين بهجوم شديد، قال المتحدث : فو الله ما لبث المسلمون أمامهم إلا زمن حلب شاة، حتى إنه من قسوة المعركة وضرواتها وقوة المفاجأة انهزم جيش المسلمين في الساعات الأولى للمعركة، ووصل بعض الفارين من القتال إلى مكة ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة إلا تسعة بينهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ممسكا بالدابة التي يركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيدنا علي بن أبي طالب وكان يحمل الراية. وسيدنا الفضل، وكان يقف على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيدنا أبو سفيان بن الحارث بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقف على يساره. وكان معهم أيمن بن أم أيمن وعدد من الصحابة٤.
وهنا نتساءل : لماذا حدثت هذه الهزيمة للمسلمين في بداية المعركة ؟ لأنهم عندما خرجوا إلى الحرب قالوا : نحن كثرة لن نهزم من قلة، وبذلك ذهبوا إلى الأسباب وتناسوا المسبب، فأراد الله أن يعاقبهم عقابا يخزيهم ويُعْلي من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث، قال للعباس-وكان العباس صاحب صوت عال : إذن في الناس، فقال العباس بصوت عال : يا معشر الأنصار-يا أهل سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة. فلما سمع الناس نداء العباس، قالوا : لبيك لبيك. وكان الذي يقول : " لبيك " يسمعه من هم وراءه ويقولون مثله، حتى عاد عدد كبير من المؤمنين إلى القتال، وحمى القتال واشتدت الحرب وصار لها أوار٥، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم : الآن حمى الوطيس، أي اشتدت الحرب، ثم قال عليه الصلاة والسلام : " أنا النبي لا كذب، أنا عبد المطلب ".
ويروي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب، فقد جاء في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلا قال له : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، إن هوزان كانوا قوما رُماةً، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فل
٢ حنين: اسم موضوع بأوطاس، عرف باسم رجل اسمه: حنين بن قانية بن مهلائيل من العماليق، كما في معجم البكري..
٣ ثغاء الشاة: صوت الغنم والماعز وضجيجها..
٤ انظر: زاد المعاد في هدى خير العباد (٢/١٨٧-١٨٥).
٥ الأوار: الدخان واللهب..
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ﴾ :
أي : أن الله تبارك وتعالى أنزل سكينته أولا على رسوله وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه، ثم أنزلها على المؤمنين الذين فروا من المعركة ثم عادوا إلى القتال مرة أخرى، وقوله تعالى :
﴿ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾( التوبة : ٢٦ )
وقد حدّثونا عن أن الملائكة نزلت وثبَّتت المؤمنين، وألقت الرعب في قلوب الكافرين وأنزلت العذاب بهم. والذين آمنوا هم الذين شهدوا بذلك ؛ لأنهم وصفوا كائنات على جياد بُلْق١ ولم يكن عندهم مثلها.
وإذا حدثنا القرآن الكريم بأن الملائكة قد نزلت وأن هناك من رآهم٢، فعلى الإنسان منا أن يقف موقف المؤمن، وأن يثق في القائل وهو صادق فليؤمن بما قال ولا يبحث عن الكيفية. وإن كان منكم من يقف أمام هذه المسألة فعليه ألا يقف وقفة الرافض لوجودها، ولكن وقفة الجاهل لكيفيتها ؛ لأن وجود الشيء مختلف تماما عن إدراك كيفية وجوده.
وهناك أشياء كثيرة في الكون، موجودة وتزاول مهمتها، ونحن لا ندرك كيفية هذا الوجود. وليس معنى عدم إدراكنا لها أنها غير موجودة. وكل الاكتشافات التي قدمها لنا العلم المعاصر كانت موجودة. ولكننا لم نكن ندرك كيفية وجودها من قبل. فالجاذبية الأرضية كانت موجودة. لكننا لم نكن ندرك وجودها ولا كيفية عملها، وكذلك الكهرباء كانت موجودة في الكون منذ بداية الخلق، ولكننا لم نكن درك وجودها حتى كشف الله تعالى لنا وجودها فاستخدمناها، والميكروبات كانت موجودة في الكون تؤدي مهمتها ولم نعرفها، حتى كشف لنا الله عنها فرفنا كيفية وجودها وكيفية هذا الوجود، فكل هذه الأشياء كانت موجودة في كون الله منذ خلق الله الكون. ولكننا لم نكن ندرك وجودها. وعدم معرفتنا لن ينقص من هذا الوجود شيئا ؛ ولذلك إذا حُدِّثت بشيء لا يستطيع عقلك أن يفهمه فلا تنكر وجوده ؛ لأن هناك أشياء لم نكن نعرف عنها شيئا، ثم أعطانا الله تعالى العلم فوجدنا أنها تعيش بقوانين مادية محددة. إذن : فوجود الشيء يختلف تماما عن إدراك هذا الوجود.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ﴾ كلمة ﴿ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ تعطي العذر لكل من لم ير، ويكفي أن الله قال ليكون هذا حقيقة واقعية. والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وما يعلم جنودَ ربك إلاّ هوََ ﴾( المدثر : ٣١ ).
وحين كان يقال لنا : إنّ لله خلقا هم الجن، كما أن له خلقا آخرين هم الملائكة، والجن يروننا ونحن لا نراهم. كان البعض يقف موقف الاستنكار. وكذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يَجْري من ابن آدم مَجْرى الدم " ٣.
وكان بعض الناس ينكرون هذا الكلام ويتساءلون : كيف يدخل الشيطان عروق الإنسان ويجري منها مجرى الدم ؟ ! وعندما تقدمنا في العلم التجريبي واكتشفنا الميكروبات ورأينا من دراستها أنها تخترق الجسم وتدخل إلى الدم في العروق، هل يحس أحد بالميكروب وهو يخترق جسمه ؟ هل علم أحد بالميكروب ساعة دخوله للجسم ؟ طبعا لا، ولكن عندما يتوالد ويتكاثر ويبدأ تأثيره يظهر على أجسامنا نحس به، وهذا يدل على أن الميكروب بالغ الدقة مبلغا لا تحس به شعيرات الإحساس الموجودة تحت الجلد. ومن فرط دقته يخترق هذه الشعيرات أو يمر بينها ونحن لا ندري عنه شيئا، ويدخل إلى الدم ويجري في عروق يحكمها قانون هو : أن مربع نصف القطر يوزع على الكل، ومثال ذلك ما يحدث في توزيع المياه، فنحن نأتي بماسورة رئيسية نصف قطرها ثماني بوصات وندخلها إلى قرية، تكون كمية الصب هي ٨*٨.. أي ٦٤ بوصة مربعة، حينما نأتي لنوزعها على مواسير أخرى فرعية نأخذ منها ماسورة نصف قطرها أربع بوصات، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصتان، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصة أو نصف بوصة، المهم أن مربع أنصاف أقطار المواسير الفرعية يساوي ما تصبه الماسورة الكبيرة.
وهكذا عروق الدم، فالدم يجري في شرايين واسعة وأوردة وشعيرات دقيقة.. ولكن دقة حجم الميكروب تجعله يخترق هذه الشعيرات فلا ينزل منها دم، وعندما تضيق هذه الشرايين تحدث الأمراض التي نسمع عنها، من تراكم الكوليسترول أو حدوث جلطات، فيتدخل الطب ليوسع الشرايين ؛ لأنها مواسير الدم. وهناك جراحات تجرى بأشعة الليزر أو غيرها من الاكتشافات الحديثة تخترق هذه الأشعة الجلد بين الشعيرات ؛ لأنها أشعة دقيقة فلا تقطع أي شعيرة ولا تُسيل أي دماء.
إذن : فكل ما في داخل الجسم محسوب بإرادة الله تعالى، ولكل ميكروب فترة حضانة يقضيها داخل الجسم دون أن نحس به، ثم بعد ذلك يبدأ تأثيره فيظهر المرض وتأخذ عمليات توالد الميكروب في الدم ومقاومة كرات الدم البيضاء له فترة طويلة، بينما نحن لا نحس ولا ندرك ما يحدث.
فإذا كان " الميكروب " وهو من مادتك، أي : شيء له كثافة وله حجم محدد ولا تراه إلا بالميكروسكوب فننجد له شكلا مخيفا، وهو يتوالد ويتناسل وله دورة حياة، إذا كان هذا " الميكروب " لا تحس به وهو في داخل جسمك ؛ فما بالك بالشيطان الذي هو مخلوق من مادة أكثر شفافية من مادة الميكروب، هل يمكن أنن تحس به إذا دخل جسدك ؟ لا، وإذا كان الشيء المادي قد دخل جسدك ولم تحس به، فما بالك بالمخلوق الذي خلقه الله تعالى من مادة أشف وأخف من الطين. ألا يستطيع أن يدخل ويجري من ابن آدم مجرى الدم ؟ !.
فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم ". فلا تتعجب ولا تُكذِّب لأنك لا تحس به. فالله أعطاك في عالم الماديات ما هو أكثر كثافة في الخلق ويدخل في جسدك ولا تحس به.
إذن : فالعلم أثبت لنا أن هناك موجودات لا نراها. ولو أننا باستخدام الميكروسكوبات الإلكترونية الحديثة فحصنا كل خلية في جسم الإنسان فإننا سنرى العجب، سنرى في جلد الإنسان الذي نحسبه أملسَ آبارا يخرج منها العرق، وغير ذلك من تفاصيل بالغة الدقة لا تدركها العين، فإذا حدّثنا الله سبحانه وتعالى بأن هناك ملائكة تنزل وتقاتل، فنحن نصدق، وقد جعل الحق تبارك وتعالى لنا ما يطمئن بشريتنا فقال :﴿ جنودا لم تَروها ﴾، فإن قال واحد : إنّه رآها، وقال آخر : لم أرَ شيئا، نقول : إن قول الحق :﴿ لَمْ تَرَوْها ﴾ أي : لم تروْها مجتمعين، فهناك من لمحها، وهناك من لم يرها.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وعَذَّبَ الذين كَفروا ﴾ أي : بالقتل أو بالأسر أو بسلب أموالهم، وقوله تعالى :﴿ وذلك جزاء الكافرين ﴾ أي : أن ما لحق بهم من هزيمة كان جزاءً لهم على كفرهم. ولكن البعضَ يتساءل : لماذا لم ينزل الجزاء وتتم الهزيمة من أول لحظة في القتال ؟ نقول : إن الله أراد أن يزيد عذابهم، فلو أنه ألحق بهم الهزيمة من أول لحظة، لكان ذلك أخف على أنفسهم وأقل عذابا، ولكنه أعطاهم أولا فرحة النصر حتى تأتي الهزيمة أكثر قسوة وأكثر بشاعة، والشاعر يقول :
كَما أدركَتْ قَوْمًا عِطاشاً غَمامَةٌ ***فلمَّا رأوْهَا أقشعتْ٤ وتجلَّت
فحين تمر سحابة علة قوم يعانون من شدة العطش، هم يحلمون أن تمطر عليهم، لكن الحلم يتبدد تماما كالمسجون الذي يعاني من عطش شديد. فيطلب من السجان شربة ماء فيقول له السجان : سأحضرها لك. وفعلا يذهب السجان ويحضر له كوب ماء مثلج فيعطيه له ويمسك المسجون الكوب بيده ونفسه تمتلئ فرحا. وإذا بالسجان يضربه بشدة على يده فيسقط الكوب على الأرض، فيصاب المسجون بصدمة شديدة. وهذه أبشع طرق التعذيب. ولو أن السجان رفض إحضار كوب الماء من أول الأمر لكان ذلك أقل إيلاما للسجين. لكن بعد أن يحضر كوب الماء للمسجون ويضعه في يده ثم يحرمه منه فهذا أكثر عذابا. وهكذا أراد الله أن يزيد من عذاب الكافرين فأعطاهم مقدمات النصر وحلاوته أولا، ثم جاءت من بعد ذلك مرارة الهزيمة، لتسلبهم كل شيء، وبذلك تجتمع لهم فجيعتان : فجيعة الإيجاب، وفجيعة السلب.
٢ قال القرطبي في تفسير الآية(٤/٣٠٢٨): ﴿وأنزل جنودا لهم لم تروها﴾ وهم الملائكة، يقوّون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويُضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. وروي أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم، أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: تلك الملائكة..
٣ متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه (٢٠٣٥ ومواضع أخرى)، ومسلم (٢١٧٥) عن صفية بنت حُيًّ زوج النبي صلى الله عليه وسلم..
٤ أقشعت: انقشعت وذهبت عن وجه السماء.
﴿ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٢٧ ) ﴾ :
وهذه هي عظمة الخالق، الرحمن الرحيم، فهو يفتح الباب دائما لعباده ؛ لأنه هو خالق هذا الكون، وكل من عصى يفتح الله أمامه باب التوبة، وهذه مسألة منطقية، لأن الذي يكفر والذي يعصى لا يضر الله شيئا، ولكنه يؤذي نفسه ويحاول أن يفتري على نواميس الحق، وحين يعلم العاصي أنه لا ملجأ له إلا الله، فالله عز وجل يفتح له باب التوبة.
وبعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا في هذه السورة أن الله ورسوله بريء من المشركين، وكشف عن طبيعتهم بأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، ويصفي هذه المسائل تصفية عقدية في ﴿ براءة من الله ورسوله ﴾، وطلب منا أن ننهي العقود التي بيننا وبينهم.. فمن نقضَ العهد انتهى عهده، ومن حافظ عليه حافظنا نحن على العهد إلى مدته، ثم طلب من المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام، وصفَّى أي ضغينة أو ذنب بفتح باب التوبة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٢٨ ) ﴾.
أي : أنه لا يكفي أن يقطع المؤمنون كل عهودهم مع المشركين، بل لابد أن يبرؤوا أيضا من المشركين أنفسهم ؛ لأنهم نجس، والنجس هو الشيء المستقذر الذي تعافه النفس وتنفر منه، وقد يكون المشرك من هؤلاء مقبولا من ناحية الشكل والملبس، ولكن هذا هو القالب، والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم إنما يتكلم عن المعاني وعن الخلق. فالله عز وجل لا ينظر إلى القوالب، بل إلى القلوب، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه : " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن إلى قلوبكم " ١.
فقد تكو الصورة مقبولة شكلا، لكن العقيدة التي توجد في قلوب تلك الأجساد قذرة ونجسة، وسبحانه لا يأخذ بالظاهر ولا بالصور، بل بالقيم. وأنت إذا ما نظرت إلى القيم وإلى العقائد الحقة الصادقة، تجد كل عقيدة تنبئ عن تكوين مادتها، وعلى سبيل المثال، حينما تكون فرحا، يتضح ذلك على أساريرك، ومن سيقابلك سيلحظ ذلك ويعرف أنك مبتهج، وإن كنت غاضبا أو تعاني من ضيق، فهذا يتضح على أساريرك.
إذن : فالمادة تنفعل بانفعال القيم، ومادامت القيم فاسدة فالمادة التي يتكون منها جسده تكون متمردة على صاحبها ؛ لأن المادة بطبيعتها عابدة مسبحة لله، وكذلك الروح بطبيعتها عابدة مسبحة لله تعالى، ولا ينشأ الفساد إلا بعد أن توضع الروح في المادة، ثم تتكون النفس من الاثنين معا، المادة والروح، فإن غلَّبت النفس منهج الله صارت مطمئنة، وإن تأرجحت النفس بين الطاعة والمعصية، فإما أن تطيع فتكون نفسا لوامة، وإما أن تكفر وتتخذ طريق الشر فتكون نفسا أمارة بالسوء. أما قبل أن تنفخ الروح في المادة، فكل منها مسبح لله تعالى ؛ لأن كل شيء في الوجود عابد مسبح، والنفس في كل سلوكها مقهورة لإرادة صاحبها بتسخير من الله عز وجل، وحين يأتي الموت، تنتهي الإرادة البشرية وتسقط سيطرة الإنسان على جسده، بل إن هذا الجسد يشهد على صاحبه يوم القيامة. والإنسان في الحياة الدنيا يعيش وإرادته تسيطر على مادته بأمر من الله، فاليد قد تضرب إنسانا، وقد تعين إنسانا آخر وقع في عسرة، ولسان المسلم يشهد أن لا إله إلا الله، ولسان الكافر يشرك مع الله آلهة أخرى.
إذن : فمادة الإنسان خاضعة لإرادة صاحبها في دنيا الأغيار، فإذا انتقل إلى الآخرة فلا تأثير له على المادة، وتحرر المادة من طاعة صاحبها في المعصية، وتتمرد عليه، وتشهد على صاحبها بأنه كان يستخدمها في المعصية.
والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٠ ) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢١ ) ﴾( فصلت ).
فكأن جوارح الإنسان تقول له يوم القيامة : لقد أتعبتني في الدنيا وأكرهتني على فعل أشياء لم أكن لأفعلها لأنني عابدة مسبحة لله، وإنما أمرتني به يخرج عن طاعة الله عز وجل، وسبق أن ضربت المثل بقائد الكتيبة الذي يصدر أوامر خاطئة فيطيعه الجنود، فإذا ما عادوا إلى القائد الأعلى شكوا له مما كان قائد الكتيبة يكرههم عليه، كذلك أبعاض الجسم تشهد عليه عند خالقها يوم القيامة. فإن كنت عابدا مُسبِّحا كانت جوارحك معك. وإن كنت غير ذلك كانت جوارحك ضدك، ، فاللسان مثلا عابد مسبح في ذاته، فإذا أكرهته على أن يشرك بالله فهو مُكرَهٌ في الدنيا، ويصير شاهدا عليك يوم القيامة.
والحق سبحانه وتعالى ينادي يومئذ قائلا :
﴿ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ( ١٦ ) ﴾ ( غافر ).
وهنا يقول الحق عز وجل :﴿ إنّما المشركون نَجَسٌ ﴾ أي : أن عقيدتهم الفاسدة تتضح على تصرفاتهم، وسبحانه وتعالى يربب المعاني الإيمانية في النفوس أي يزيدها، ومثال ذلك : نحن نرجم إبليس كمنسك من مناسك الحج نرجم قطعة من الحجر رمزنا إليها بالشيطان، ونحن لا نرى الشيطان، وقد وضعنا له رمزا وأرسينا في أعماقنا أن الشيطان عدو لنا ويجب أن نرجمه لنبتعد عن مراداته، وبذلك أبرزنا هذه المعاني في أمر حسي ؛ لنوضح للنفس البشرية أن الشيطان عدو لنا، وكلما وسوس الشيطان لنا بأمر نرجمه بأن نبين لأنفسنا قضايا الإيمان الناصعة فيهرب منا. وكل منا عليه أن يتذكر الشيطان سوف يضحك على العاصين والكافرين في يوم القيامة، ويقول ما أورده الحق سبحانه وتعالى على لسانه :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾( إبراهيم : ٢٢ )وفي هذا القول سخرية ممن صدقوه ؛ لأن السلطان إما سلطان القهر بأن تأتي لإنسان بما هو أكبر منه وتقهره على فعل شيء بالقوة، وإما سلطان الإقناع، بأن تقنع إنسانا بأن يفعل شيئا. والشيطان ليس له سلطان القهر والحجة.
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول :﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ فإنه يوضح لنا أن نجسهم يحتم علينا أن نمنعهم من دخول الأماكن التي لا يدخلها إلا الإنسان الطاهر. وجعل الحق سبحانه وتعالى النجاسة المعنوية مثلها مثل النجاسة المادية، ولذلك قال العلماء : ما دام الحق قد وصفهم بأنهم نجس فلابد أن يكون فيهم نجس مادي، ولذلك إذا اقتربت منهم تجد رائحة غير طيبة، لأنهم لا يتطهرون من حدث، ولا يغتسلون من جنابة. وعندما ذهبنا إلى الجزائر بعد تحريرها من فرنسا، لم نجد في البيوت حمامات ؛ لأن الواحد من المستعمرين لا يذهب إلى الحمام إلا كل عشرين يوما مثلا، لذلك جعلوا الحمامات بعيدا عن المساكن، ولكن بعد أن تحررت الجزائر صار في البيوت حمامات ؛ لأن الثقافة الإسلامية مبنية على الطهارة، ويتوجب على المسلم أنه كلما دخل الإنسان الحمام تطهر، وكلما كان جنبا اغتسل.
ولقد قال البعض : لو أنني سلَّمت على مشرك ويده رطبة.. فلابد أن أغسل يدي٢. فإذا كانت يده جافة فيكفي أن أمسح على يدي. وفي هذا احتياط وتأكيد على اجتناب هؤلاء المشركين. وإذا كنا نجتنبهم أجسادا وقوالب، ألا يجدر بنا أن نجتنبهم قلوبا ؟.
وقد أنزل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة في العام التاسع من الهجرة وهو العام الذي صدر فيه منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام والبراءة من هؤلاء المشركين، وتساءل العلماء : هل الممنوع والمحرم اقتراب المشرك من المسجد الحرام، أم من الحرم كله ؟ وحدد الإمام الشافعي التحريم على المشركين بالوجود في المسجد الحرام. ومع احترامنا لاجتهاد الإمام الشافعي نقول : إن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ فلا يقرَبوا ﴾ ولم يقل : فلا يدخلوا. وتحريم الاقتراب يعني ألا يكونوا قريبين منه، وأقرب شيء للمسجد الحرام هو كل الحرم، ولو كان المراد هو المسجد فقط لمنع الحق دخولهم إليه بالنص على ذلك٣.
وهكذا نرى كيف يمكن أن يجتهد الإنسان ويبحث في المعاني ليستخرج المضمون الحق، ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾. وفي هذا القول الكريم حديث عن الغيب. والغيب-كما عرفنا- هو ما يغيب عنك وعن غيرك، أما الشيء الذي يغيب عن غيرك فلا يكون غيبا، فإذا سرق منك مال مثلا فأنت لا تعرف من الذي سرق، والسارق في هذه الحالة غيب عنك، ولكنه ليس غيبا عن غيرك ؛ فالسارق يعرف نفسه ؛ والذي دبر له الجريمة يعرفه، ومن رآه وستر عليه يعرفه. وأنت-أيضا- لا تعرف مكان المسروقات، ولكن السارق يعرف المكان الذي خبأها فيه.
إذن : فهي غيب عنك وليست غيبا عن غيرك. وهذه لعبة الأفاقين والنصابين الذين يُسخِّرون الجن، فمادام الشيء معروفا ومعلوما لغيرك من الناس ؛ فالكشف عنه مسألة سهلة، ولكنّ هناك غيبا عنك وعن غيرك، وهذا هو ما يفرد به الحق سبحانه وتعالى في قوله سبحانه وتعالى :
﴿ عالم الغيب فلا يُظهر عل غيبه أحدا( ٢٦ ) إلاّ من ارتضى من رّسول... ( ٢٧ ) ﴾ ( الجن ).
ولكن هناك غيب عن الناس جميعا، ولكنه لن يظل غيبا إلى آخر الزمان، فمثلا الكهرباء كانت غيبا واكتشفناها، وتفتيت الذرة كان غيبا وعرفناه، وقوانين الجاذبية كانت غيبا ثم دخلت في علم الإنسان فأصبحت معلومة له وليس هذا هو الغيب الذي يقصده الله سبحانه وتعالى في قوله :﴿ عالم الغيب ﴾، فهذا غيب يختص نفسه به، فلا تقل : إن فلانا يعلم الغيب، ولكن قل : إنَّه مُعلَّم غيب، والمسائل الغيبية : إما أن يحجبها الزمان أو يحجبها المكان، فالآثار المطمورة مثلا، تعبِّر عن شيء ماض واندثر، وفيه أخبار الأمم السابقة، ولا يعرفها أحد، وستره حجاب الزمن الماضي، إلى أن يتم الكشف عنها نهائيا ويهيئ الله لها من يفكُّ ألغازها
أما إبلاغ الله رسوله من أبناء الأمم السابقة مما جاء في القرآن الكريم فهو اختراق لحجاب الزمن الماضي، نحو قوله تعالى :
﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٤ ) ﴾( آل عمران ).
ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ٤٤ ) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( ٤٥ ) ﴾( القصص ).
وقوله سبحانه :﴿ وما كنت ﴾ في آيات أخرى دليل على أن الله سبحانه وتعالى أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بما كان مستورا في الزمن الماضي. أما الشيء الذي سوف يحدث في المستقبل، فهو محجوب عنك بحجاب الزمن المستقبل، وقد اخترق القرآن الكريم حجاب المستقبل في آيات كثيرة كلها تبدأ بحرف السين، وحرف السين دليل على أن الشيء لم يحدث بعد، وقوله تعالى :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ﴾( فصلت : ٥٣ ).
دليل على أنه من الزمن المستقبل يكشف الله لنا عن آياته الموجودة في الأرض، وقوله تعالى :
﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( ٣ ) ﴾( الروم ).
وهذا اختراق لحجاب المستقبل ؛ لأن النصر حدث بعد نزول هذه الآية بتسع سنوات. إذن : فالذي يحدث في المستقبل محجوب عنك بالزمن المستقبل، ولكن هناك شيئا يحدث في الحاضر ولا نعرفه وهو محجوب عنك بحجاب المكان، فما يحدث في مكان لست موجودا فيه لا تعرفه، فأنت إن كنت جالسا في مكة مثلا، فأنت لا تعرف ما يحدث في المدينة المنورة
٢ قال الحسن البصري: من صافح مشركا فليتوضأ، ذكره القرطبي في تفسيره(٤/٣٠٣٠)، قال ابن كثير(٢/٣٤٦) "دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح"المؤمن لا ينجس". وأما نجاسة بدنه فالجمهور اتفق على أنه ليس بجنس البدن والذات، لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ.. رواه ابن جرير"..
٣ قال القرطبي في تفسيره(٤/٣٠٣١): "قال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر؛ لأن قوله عز وجل: ﴿إنما المشركون نَجَس﴾ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة"..
﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) ﴾ :
وهنا يعود الحق سبحانه وتعالى إلى التحدث عن القتال، ونعلم أن الذين تحدث عنهم المولى سبحانه وتعالى في هذه السورة، هم المشركون وأحوالهم، والأمر بإلغاء المعاهدة معهم، وإبعاد ذواتهم عن المسجد الحرام، وتقتيل من يحاول البقاء ليحض على الشرك ؛ حتى لا يجتمع في جزيرة العرب دينان١.
وعرفنا من قبل السبب، وأما الذين يتحدث عنهم الله في هذه الآية فهم غيرهم... فرغم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل لمشركي العرب محمدا صلى الله عليه وسلم وهو رسول من أنفسهم، فهم يعرفونه حق المعرفة، كما أن المعجزة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم من جنس فصاحتهم، فإذا كذبوا فهم مخطئون، ورغم هذا كذبوه ولم يؤمنوا به، أما خارج الجزيرة فالرسول ليس منهم، والقرآن لم ينزل بلغتهم، وكان عليهم أن يأخذوا من المنهج التطبيق المناسب. وهكذا نرى أن مصادمة الإيمان لم تكن من مشركي مكة فقط، بل كانت أيضا من بعض يهود المدينة وبعض من نصارى نجران، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حدد في هذه السورة موقف الإيمان من المشركين به، فقد أراد أيضا أن يحدد موقف الإيمان من أهل الكتاب.
ونحن نعرف أن هناك فرقا بين أهل الشرك وأهل الكتاب، فالمشركون لم يكونوا يؤمنون بالله إلها واحدا بل له شركاء معه، ولكن أهل الكتاب يؤمنون بالله ويؤمنون برسول وبكتاب سماوي، وهم بذلك أقرب إلى الإيمان. ولذلك نجد القرآن الكريم يعرض لنا مثل هذه القضية كطبيعة فطرية، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حزن هو وصحابته حين غُلِبَتْ الروم في أدنى الأرض٢.
لماذا حزن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن الروم سيقفون أيضا ضده ؟ لقد حزن صلى الله عليه وسلم لأنهم يؤمنون أن للكون خالقا واحدا وأن له رسلا يوحى إليهم وأن له كتبا منزلة، لكن الأمر يختلف بالنسبة للمشركين، فهم يكفرون بالله وهذه قمة الكفر. صحيح أن بعضا من أهل الكتاب وقفوا مع المشركين في موقف العداء لرسول الله، لكن قلبه صلى الله عليه وسلم معهم لأنهم أهل إيمان بالقمة. ويُسَرِّي الحق عن رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول :
﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( ٣ ) ﴾ ( الروم )
وهذا يبرز سؤال يقول : متى سيغلبون ؟ تأتي الإجابة من الحق تبارك وتعالى :
﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾( الروم : ٤ )والبضع بالنسبة للزمن هو فترة تترواح من ثلاث لتسع سنوات، ولم يحدد الحق سبحانه وتعالى البضع هنا ؛ لأن المعارك لها أولويات ونهايات، لهذا جاء قول الحق تبارك وتعالى مراعيا لما تستغرقه هذه المراحل كلها، وجاء القول بأن نصر الروم على الفرس يأتي بعد بضع سنين. وبالله قولوا لي : كيف يتحكم نبي أمي في جزيرة تسكنها أمة أمية، ولا علم لهذا الرسول بأخبار الأمم وكيف لهذا النبي أن يأتي بأخبار نصر أمة على أخرى ؟ ويظل هذا الخبر في الكتاب الذي يحمل منهج رسالته قرآنا يُتلى ويتعبد به إلى قيام الساعة ؟ لقد قالها بثقة في حدوث ما جاء في القرآن في المستقبل القريب ؛ لأنها جاءته عن ربه، وهو واثق أن قائل هذا الخبر قادر على إنفاذ ما يقول.
وإلا، فماذا كان يحدث لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ثم مر بضع سنين ولم يأت نصر الروم ؟ وماذا يكو موقف الذين آمنوا به كرسول منن عند الله ؟.
إذن : هو صلى الله عليه وسلم لم يكن ليجازف وينطقها إلا بثقة في أن القائل هو الحق سبحانه وتعالى الذي شاء أن ينزل بالخبر في آية قرآنية تُتلى، وتُكتب، وتُحفظ، ويُصلَّى بها في كل وقت إلى أن تقوم الساعة. وينزلها سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم وقت أن كان ضعيفا لا يعرف ميزان القوى، ولا يعلم هل ستستعد الروم لتنتصر أم لا ؟.
ثم ألم يكن من الممكن أن يتصالح الروم والفرس ؟ كل ذلك لم يكن في حسبان محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الخبر جاء من الله سبحانه وتعالى القادر على إنفاذ ما يقول. ألم يكن هناك إخبار عن أمور خالفت النواميس ؟ نعم كانت هناك أمور خارجة عن النواميس وجاء بها الخبر من الله سبحانه وتعالى.. ألم يقل زكريا عليه السلام حين بُشِّر بالولد :
﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ( ٨ ) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ( ٩ ) ﴾ ( مريم )أي : مادام الله سبحانه وتعالى قد قال تأكد الحدوث.
وكان المؤمنون أقرب إلى الروم لأنهم أهل كتاب ؛ ولأن لهم صلة بالسماء، ومن له صلة بالسماء يمتلئ بالحنين إلى أخبار السماء، ويتسمع أخبار المؤمنين في القمة العقدية. ومن العجيب أ هذه الآية تصدق في الروم وفارس، فينتصر الروم على الفرس، وتصدق في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فينتصر رسول الله وأصحابه في بدر. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( ٤ ) بِنَصْرِ اللَّهِ.. ( ٥ ) ﴾ ( الروم )وفي الآية الكريمة التي ننحن بصدد خواطرنا عها يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) ﴾( التوبة ).
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد وصفهم هنا بأنهم لا يؤمنون بالله مع أهم أهل إيمان. والمعنى أنهم لا يؤمنون بالله الإيمان الذي يعطي الله جلال الصفات وكمالها ؛ لأن بعضهم قال : إن الله له ابن اسمه عزيز، وقال البعض الآخر : المسيح ابن الله، إذن فهم لم يؤمنوا بالله حق الإيمان تسبيحا وتنزيها لذاته الكريمة عَمّا لا يليق بها، وكذلك يختلف إيمانهم باليوم الآخر عن الإيمان الحق به، إنه إيمان لا يتفق مع مرادات الله تعالى، فهم يقولون مثلا : إن النعيم في الآخرة ليس ماديا ولكنه نعيم روحي. ونقول : عندما يحدثنا الله عن نعيم الآخرة فلابد أن نعرف هذا النعيم حتى نفهم المعنى، ونتساءل : ما هو النعيم الروحي ؟ هل النعيم الروحي هو خواطر في النفس فقط لا علاقة لها بالحقيقة ؟ أيكون هذا هو نعيم الآخرة ؟
لقد أوضح المولى سبحانه وتعالى بما لا يدع مجالا للظن أو الشك أنه قد أعد جنة للمؤمنين وأعد نارا للكافرين، وحكى لنا الحق سبحانه وتعالى عن هذه الحياة بما فيها من ثواب ومن عقاب، بما يقنعنا أن فيها نعيما مثل الذي نعرفه، فإذا كان هذا النعيم الروحي ولا نعلم شيئا عنه، فكيف يغرينا الله عز وجل بشيء لا نعلمه ؟ إذن : فإيمان هؤلاء الناس باليوم الآخر ليس إيمانا كما يريده الله.
فيسبحانه حين يحدثنا عن الجنة إنما يحدثنا عن أشياء من جنس ما نعرف وليس من جنس ما لا نعرف. وصحيح أن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن لنا بعض صور النعيم في الجنة، وقال : إنها مثل كذا وكذا. قال الحق جل جلاله :
﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ( ٣٥ ) ﴾ ( الرعد ).
إذن : فالله عز وجل يعطي مثلا فقط. ومعلوم أن اللفظ في اللغة لابد أن يوضع لمعنى معروف. ولذلك فعندما يحدثنا الله عن نعيم الجنة لابد أن يحدثنا بكلام نعرف معانيه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الجنة :
" فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ٣.
إذن : فلا توجد في اللغة ألفاظ تعبر عن نعيم الجنة، لأن المعنى غير معروف لنا، ولكن الله أراد أن يحببنا فيها فأعطانا صورة نفهمها عن النعيم، فيقول عز وجل :﴿ مثل الجنة ﴾ وهو يريدنا أن نعرف أن فيها نعيما خاليا من كل المنغصات التي تكون في المَثل. فمثلا الخمر في الدنيا فيها خصلتان ؛ الأولى أنها تغتال العقول٤ والثانية : أنها لا تشرب بقصد اللذة، والذي يشرب الخمر لا يشربها مثلما يشرب كوب عصير المانجو أو عصير الليمون الذي يستطعمه ويشربه على مهل، ولكنه يسكب الكأس في فمه دفعة واحدة ؛ لأن طعمها غير مستساغ وليقلل زمن مرور الخمر على الحس الذائق، ومعنى هذا أن طعمها غير مستطاب، ثم إنها تذهب بوعي الشارب لها فيفقد السيطرة على سلوكه، ويعتذر في الصباح عما فعل أثناء احتسائه للخمر ويقول خجلا : " لم أدر موقع رأسي من موقع قدمي " هذه خمر الدنيا، ولكن الخمر في الجنة لا غَوْل فيها.. أي : لا تغتال العقول، حلوة المذاق، ولذلك يصفها الله سبحاه وتعالى ويقول :
﴿ لذَّةٍ للشّاربين ﴾( محمد : ١٥ )أي : أنها مختلفة عن تلك الخمر التي حرمها الله في الدنيا. وتتجلى الحكمة في معنى الاستطعام في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهنَّ طعم الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا الله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلْقَى في النار " ٥.
ومن رحمة الله تعالى بخلقه أنه لم يجعل الطعام وقودا للطاقة فقط، بل يغري الناس على وقود الطاقة لاستبقاء الحياة بأن يستلذ الإنسان الطعام، ويطيل أمد اللذة ساعة تناوله، لا أن ينتظر النفع بعد أن يهضم الطعام. فكأن الإيمان لا يستمر إلا لمن يحب في الله ويكره في الله ؛ فذلك يعطيه الطاقة التي تستبقي إيمانه ؛ كما تستبقي طاقة الطعام حياة الإنسان. وشاء الله سبحانه وتعالى أن يعطينا في تصوير الجنة لمثل لما في الجنة، لا بتشخيص وتحديد لما في الجنة فعلا، ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٧ ) ﴾( السجدة ).
وإذا كانت النفس لا تعلم شيئا، فهي لا تملك ألفاظا تضع فيها ما لا تعلمه، فإذا خاطبها الله تعالى بواقع الجنة فهي لن تفهم، لذلك شاء الحق تبارك وتعالى أن يخاطبها بواقع المثل، فيقول عز وجل :
﴿ وبشِّرِ الّذِين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ أنّ لهُمْ جنّاتٍ تجْرِي مِنْ تحْتِها الأنْهارُ كُلّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثمرةٍ رِزْقًا قالُوا هذا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتشابِهًا ولهُمْ فِيها أزْواجٌ مُطهّرةٌ وهُمْ فِيها خالِدُون ( ٢٥ ) ﴾( البقرة ).
إذن : فهو رزق يشبه الرزق الموجود في الدنيا ولكن ليس هو٦، أما أن يقال : إن نعيم الجنة هو النعيم الروحي أو نعيم الخواطر أو ما نسميه آمال النفس، كأن يتخيل إنسان جائع أنه أكل كمية كبيرة من اللحم أو السمك ؛ فتسعد روحه بذلك من غير واقع يحدث، فكل هذا غير حقيقي، ولكنهم يقولون هذا الكلام ؛ لأنهم إذا ما تصوروا نعيم الجنة كالخواطر، فسوف يكون عذاب النار مقابلا أيضا لنعيم الجن
٢ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، فذكر المسلمون ذلك لأبي بكر رضي الله عنه فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنهم سيهزمون فذكر أبو بكر لهم ذلك فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهروا كان لك كذا وكذا وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فجعل بينهم أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته-أراه قال: دون العشرة- قال: فظهرت الروم بعد ذلك فذكر قوله تعالى: ﴿ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون﴾ قال: فغلبت الروم ثم غلبَتْ بَعْدُ ﴿لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله﴾ قال سفيان: وسمعت أنهم ظهروا يوم بدر. أخرجه الترمذي في سننه (٣١٩٣) وقال: حسن صحيح ل غريب. والحاكم في مستدركه (٢/٤١٠) من حديث ابن عباس وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي..
٣ عن سهل بن سعد الساعدي قال: "شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: فيها ما لا عين رأت ولا أذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قرأ هذه الآية: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون﴾ أخرجه مسلم في صحيحه(٢٨٢٥) وأحمد (٣٣٤/٥) من طريق ابن وهب عن أبي صخر صخر به إلى سهل بن سعد، وأخرجه الحاكم في مستدركه (٢/٤١٣) من طريق عبد الله بن سويد عن أبي صخر به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي..
٤ تغتال العقول: تسْكرها وتذهب بها..
٥ متفق عليه. أخرجه البخاري(١٦) ومسلم (٤٣) عن أنس بن مالك..
٦ قال القرطبي في تفسيره (١/٢٨٤): ﴿من قَبْل﴾ يعني في الدنيا، وفيه وجهان، أحدهما: أنهم قالوا: هذا الذي وعدنا به في الدنيا والثاني: هذا الذي رزقنا في الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك. وقيل ﴿من قَبْل﴾ يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بالطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أُتوا منها في آخر النهار، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول. وقال ابن عباس: ﴿وأتوا به متشابها﴾: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجّبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) ﴾
هذا الادعاء فيه مساس بجلال الله تعالى، فالإنسان يتخذ ولدا لعدة أسباب ؛ إمّا لأنه يريد أن يبقى ذِكْره في الدنيا بعد أن يرحل، والله سبحانه وتعالى دائم الوجود، وإمّا لكي يعينه ابنه عندما يكبر ويضعف، والله سبحانه وتعالى دائم القوة، وإما ليرث ماله وما يملك، والله تبارك وتعالى يرث الأرض ومن عليها. وإما ليكون عزوة له، والله جل جلاله عزيز دائما. وهكذا تنتفي كل الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الادعاء. ولا يعقل أن يرسل الله سبحانه رسولا ليبين للناس منهج الحق فإذا به يقول للناس : إنَّه ابن الله. إذن فهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل بالله.
ويسوق الحق تبارك وتعالى قول كل من اليهود والنصارى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾.
وهكذا نجد أنهم لم ينزهوا الله وأخلُّوا بالإيمان الحق. ولابد أن نعلم أمن من قالوا : إن عُزَيْزا ابن الله ليسوا هم كل اليهود، بل جماعة منهم فقط هي التي جعلت عُزَيْزا ابنا لله لما رأى أفرادها على يديه نعمة أفاءها الله تعالى عليه، فقالوا : هذه نعمة عظيمة جدا لا يمكن أن يعطيها ربنا لشخص عادي، بل أعطاها لابنه. ذلك أن اليهود بعد سيدنا موسى عليه السلام قتلوا الأنبياء، وعاقبهم الله بأن رفع التوراة من صدور الحافظين لها، ولكن طفلا لم يعجبه مشهد قتل الأنبياء فخرج شاردا في الصحراء مهاجرا وهاربا، فقابله شخص في الطريق فسأله : لماذا أنت شارد ؟ فقال : خرجت أطلب العلم. وكان هذا الشخص هو جبريل عليه السلام، فعلَّمه أن لله توراة، فحفظها فصار واحدا من أربعة، هم فقط من حفظوا التوراة : موسى، وعيسى، وعزيز، واليسع، ولأن الكتب قديما لم تكن تكتب على ورق رقيق مثل زماننا، بل كانت تكتب على الأحجار وسعف النخيل، لذلك كان وزن التوراة يقدر بسبعين حِمْل بعير، وحين رجع عزيز حافظا للتوراة، اندهش قومه وقالوا : لابد أنه ابن الله، لأن الله أعطاه التوراة وآثره على القوم جميعا١. ونشأت جماعة من اليهود تؤمن بذلك، وكان منهم سلاّم بن مشكم، وشاس بن قيس، ومالك ابن الصيف، ونعمان بن أوفى. وحينما أنزل الله قوله :﴿ وقالت اليهود عُزيز ابن الله ﴾ لم ينكر اليهود المعاصرون لهذا النزول تلك المسألة ولَم يكذبوها، فكأن هناك من اليهود الذين كانوا بالمدينة من كان يؤمن بذلك، وإلا لاعترضوا على هذا القول، وهذا دليل على أن ما جاء بالآية يصدق بعضهم أو هم عالمون بأن قوما منهم قد قالوا ذلك. وكذلك قالت النصارى عن عيسى عليه السلام، فجاء قول الحق تبارك وتعالى :﴿ وقالت النصارى المسيح ابنُ الله ﴾.
ويتابع الحق :﴿ ذلك قولهم ﴾ فيوضح لنا سبحانه أن النبوة لله جاءت فيها مشبهة، كان يجب أن يلتفتوا إليها وينزهوا الله عن ذلك ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يصف عباده بأنهم عباد الله، وأن الخلق كلهم خلق اله تعالى.
فالمولى سبحانه وتعالى وهو الخالق والقادر على كل شيء خلق كل الخلق من عدم ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ولكن الشبهة عند بعض من أتباع المسيح جاءت من أنه أوجد من دون أب، ونقول لهم : لو أن هذا الأمر جاء لكم من هذا الطريق، فكان من الأوْلى أن تجيء ذات الشبهة في خلق آدم ؛ لأن قصارى ما في المسيح أنه جاء من غير أب، ولكن آدم جاء من غير أب ومن غير أم، فأيهما كان أوْلى أن يكون ابن إله ؟
ولذلك يقول القرآن الكريم :﴿ إنَّ مثَل عيسى عند الله كمثَل آدم ﴾. والحق سبحانه وتعالى يخلق الشيء-أي شيء- بأسباب، وكل الأسباب مخلوقة له، والولد منا-في جمهرة الناس- ينشأ من اجتماع الأب والأم، والشيء المراد بين شيئين له صور منطقية أربعة : إما أن يوجد بوجود شيئين ذكر وأنثى، وإما أن يوجد بانعدام الشيئين مثل آدم، وإما أن يوجد بوجود واحد من الشيئين وهو الذكر مثل حواء، فقد خلقها الله من آدم مصداقا لقوله :﴿ وخلق منها زوجها ﴾، وإما بوجود واحد من الشيئين وهي الأنثى وخلق عيسى عليه السلام منها بدون وجود الذكر. وليعلمنا الله سبحانه وتعالى جميعا أن الأسباب لا دخل لها في التكوين، وأن المسبِّب هو القادر على أن يوجد من غير أب وأم كما أوجد آدم، وأن يوجد من أب وأم كما أوجد جمهَرة الناس، وأن يوجد من أم دون أب كما أوجد عيسى، وأن يوجد من دون آدم كما أوجد حواء.
إذن : فالقسمة دائرة بقدرة الله وإرادته، ولا دخل لأحد إلا إرادة الحق سبحانه وتعالى، فالأسباب ليست هي الفاعلة في ذاتها، بل إرادة الخالق سبحانه وتعالى هي الفاعلة، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى :
﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ( ٤٩ ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( ٥٠ ) ﴾( الشورى )أي : قد يوجد الذكر والأنثى ولا يعطي لهما الحق عز وجل أولادا، وهذه طلاقة قدرة من الله تعالى، فإياك أن تقول إنها بأسباب، بل سبحانه وتعالى يَهَبُ لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء ذكورا، ويجمع لمن يشاء بين الذكور والإناث، ويجعل من يشاء عقيما، وكان استقبال الناس للمواليد يختلف ؛ فالعرب كانوا يحبون إنجاب الذكر ؛ لأنه قوي ويحقق العزوة ويركب الخيل، ويحارب الأعداء. ولم يكونوا يحبون الفتاة لأنها قد تأتي منها الفضائح، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( ٥٨ ) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( ٥٩ ) ﴾ ( النحل ).
وجاء الإسلام ليوضح : أنه مادام لا دخل لك في الإنجاب والإنسال، فَدع الأمر لمن يهب الأبناء. وقد سمى الحق تبارك وتعالى الأبناء " هبة " ليذكرك أن الإنجاب شيء أعطاه سبحانه لك بلا مقابل منك، فالذكور هبة، والإناث أيضا هبة. فلا تفضل تلك الهبة عن هذه الهبة. ودائما أقول للذي ينجب بنات، ويذهب هو وزوجته إلى الأطباء : لو استقبلتم هبة الله في الإناث كما تستقبلونها في الذكور، فإن الحق سبحانه وتعالى يجزيكم جزاء لا يخطر لكم على البال، فيحسن الله كل ابنة لكم في عين رجل صالح ويتزوجها، فإن كُن عشر بنات فهن يأتين بعشرة رجال أزواج يعاملون الأب والأم لكل زوجة معاملة الأب والأم، وهكذا يرزق الله من يرضى بقسمة الله في الإنجاب، ويصبح أزواج البنات أطوع من الأبناء الذكور، فالذي يرضى بالهبة في الإناث يوضح له الله : رضيتَ بهبتي فيك ولم تكن على سنة العرب من كراهة الإناث ؛ لذلك أهبك من أزواج البنات أبناء لم تتعب في تربيتهم ويكونون أكثر حنانا وولاء من أي أبناء تنجبهم أنت. ولذلك إذا ما وجدت إنسانا قد وُفِّقَ في زيجات بناته، من رجال يصونون أعراضهم ويحسنون معاملة أهل الزوجة، فاعلم أن الأب قد استقبل ميلاد الأنثى بالرضا ؛ لأنها هبة الله. ويقول المولى سبحانه وتعالى :
﴿ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾( الشورى : ٥٠ ).
إذن : فالعقم أيضا هبة إلهية ؛ لأن الإنسان إذا ما استقبل العقم برضا الله ؛ لَوَجَدَ في كل رجل يراه ابنا له ؛ لأنه استقبل الهبة في المنع برضا، مثله مثل من استقبل الإناث كاستقبال الذكور. إذن : مادامت المسألة هبة من الله فيجب أن تستقبل عطاء الله ومنعه بالرضا.
وعيسى عليه السلام جاء بنسبة طلاقة القدرة من الخالق سبحانه وتعالى ؛ لأن القسمة العقدية والعقلية لا تتم إلا به، ولن تتكرر، لأن آدم وُجِدَ أولا، ومن وجدوا بعد آدم جاء كل منهم من أبوين، وكذلك حواء وُجدت من قبلهم، فهذه ثلاث صور قد وجدت في الكون وبقيت صور ناقصة، هي أن يوجد إنسان من أم دون أب، فأتمها الله عز وجل بعيسى عليه السلام :
﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم ﴾
وقول الحق ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى القول بأن المسيح ابن الله أو عزيز ابن الله، ويضيف الحق عز وجل توضيحا ﴿ قولهم بأفواههم ﴾. ونسأل : وهل يوجد قول بغير أفواه ؟ إن كل قول إنما يكون بالأفواه ؛ حتى قول المؤمنين بأن الله واحد وأن محمدا رسول الله هو قول بالأفواه. ونقول : هناك قول بالفم فقط دون أن يكون له معنى من المعاني، وهناك قول بالفم أيضا وله معنى، إلا أنه غير حقيقي، وكاذب.
ولنعرف أولا : ما هو القول ؟ إنه كلام يعبر به كل قوم عن أغراضهم ؛ كأن تقول للطفل : اجلس، ولابد أن يكون الطفل فاهما لمعنى الجلوس، وإن قلتها بالعربية لطفل إنجليزي فلن يفهم معناها.
إذن : فاللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والغرض هو معنى متفق عليه بين المتكلم والسامع، ولابد أن يعرف الاثنان ما يشير إليه اللفظ من موضوعات. فإن لم يعرف السامع اللفظ الذي يتكلم به المتكلم فهو لا يفهم شيئا.
وهكذا نعلم أن الفهم بين المتكلم والمخاطب يشترط فيه أن يكونا عليمين باللفظ، فإذا تكلم متكلم بشيء لا علم للسامع به ؛ فهو لا يفهم. وكانوا يضربون لنا المثل قديما بعلقمة النحوي وكان مشهورا في النحو والألفاظ واللغة، ويتقعر في استخدام الكلمات، ولا يتكلم إلا باللغة الفصيحة الشاذة التي لا يعرفها الناس، وكان عند علقمة خادم، فمرض علقمة النحوي مرة وذهب إلى طبيب اسمه " أعجز " ليشكو له علة عنده، وقال علقمة للطبيب : قد أكلت من لحوم هذه الجوازئ فقصأت منها قصأة أصابني منها وجع الوابية إلى دأبة العنق، ولم يزل يمني حتى خالط الخلب وأملت منه السراسيب. ولم يكن الطبيب متخصصا في اللغة ولا معاجم عنده، فوقف مستغربا من كلمات علقمة وقال له : أعدْ عليَّ ما قلته فإني لم أفهم، فأعاد علقمة عليه ما قاله بغضب ولوم لأنه لم يفهم لغته، وعرف الطبيب تقعر علقمة فقال له : هات القلم والورقة لأكتب لك الدواء، وكتب له : خذ حرقة وسلقة ورهرقة واغسله بماورس واشربه بماء ماء. فقال علقمة : أعِدْ عليَّ فو الله ما فهمت شيئا، فقال الطبيب : لعن الله أقلَّنا إفهاما لصاحبه. وعرف علقمة أنه متقعر في اللغة ويأتي بألفاظ ليست من الألفاظ الدائرة على ألسن الناس. وقال أساتذتنا لنا : ولم يؤدبه عن هذا إلا غلامه أي خادمه، فقد استيقظ علقمة ذات ليلة وقال : يا غلام أصعقت العتاريف، ولأن الغلام لم يفهم فقد رد قائلا : زقفيلا، وقال علقمة للغلام : وما زقفيل ؟ قال : وأنت ما أصعقت العتاريف ؟ فقال له : يا بني لقد أردت أصاحت الديكة ؟ فقال : وأنا أردت لم تَصِحْ.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ذلك قولهم بأفواههم ﴾ إذن : القول هو اللفظ الملفوظ من الفم، وهذا القول إما أن يكون له معنى، وإما ليس له معنى. مثل كلمة " زقفيل " التي قالها خادم علقمة، هذه الكلمة ليس لها وجود في اللغة فهي قول باللسان ليس له معنى. وقد يكون لقول له معنى ؛ إلا أنه كلام باللسان لا
﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) ﴾ :
و " الحَبر " هو لقب عند اليهود، وهو العالم. ويقال في اللغة " حِبر " أو " حَبْرُ " أي رجل يدقق الكلام ويزنه بأسلوب عالم. والرهبان عند النصارى والمقصود بهم المنقطعون للعبادة، فالحَبر عالِم اليهود، والراهب عابد النصارى، أنا عالم النصارى فيسمى " قسيس " ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ قِسّيسين ورُهبانا ﴾( المائدة : ٨٢ ).
فإن قصدنا عالم الدين المسيحي قلنا : " قسيس "، وإن قصدنا رجل التطبيق أي العابد قلنا : " الراهب " والراهب هو من يقول : إنه انقطع لعبادة الله فوق ما طلب الله من جنس ما طلب، ونعلم أنه لا رهبانية في الإسلام١، ولكن الإنسان يستطيع أن يتقرب إلى الله كما يحلو له من جنس ما طلب الله منه، فإن كان الحق عز وجل قد أمر بإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم، فالمسلم الذي يرغب في زيادة التقرب إلى الله يمكنه أن يصلي ضعف عدد مرات الصلاة، وإذا كان الحق سبحانه قد فرض أن تكون الزكاة بمقدار اثنين ونصف في المائة، فالعبد الصالح قد يزيد ذلك بضعفه أو أضعافه. وهذه زيادة من جنس ما فرض الله تعالى وزيادة، وهذا يعني في الإسلام الدخول إلى مقام الإحسان٢، واقرأ إن شئت قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ١٥ ) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( ١٦ ) ﴾( الذاريات )أي : أنهم قد دخلوا إلى مقام الإحسان أي ارتقوا فوق مقام الإيمان. ويزيدنا الحق علما بمقام الإحسان فيقول :
﴿ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( ١٧ ) وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ١٨ ) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( ١٩ ) ﴾( الذاريات ).
وسبحانه لا يطلب منا في فروض الدين ألا نهجع٣ إلا قليلا من الليل، بل نصلي العشاء وننام إلى الفجر. لكن إنْ قام الإنسان منَّا وتهجد فذلك زيادة عما فرض الله ولكنه من جنس ما فرض الله. وكذلك الاستغفار فمن تطوع به فهو خير له. وكذلك الصدقة على غير المحتاج، فهنا زيادة في العطاء على ما فرضه الله من الزكاة حُدِّدَتْ من قبل في قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ والذين في أموالهم حق معلوم( ٢٤ ) ﴾ ( المعارج )، والرهبانية كانت رغبة من بعضهم في الدخول إلى مقام الإحسان، ولكن الحق لم يفرضها عليهم ؛ لأنه هو الذي خلق وعلم أزلا قدرات من خلق، لذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم ﴾ ( الحديد : ٢٧ ).
هم إذن قد ابتدعوها ابتغاء رضوان الله وزيادة في العبادة، وليس في ذلك ملامة عليهم، ولكنها ضد الطبيعة البشرية ؛ لذلك لم يراعوا الرهبانية حق رعايتها، ويقول المولى سبحانه وتعالى هنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا ﴾ فهل معنى ذلك أنهم يقولون للحبر أو الراهب " رب " ؟ لا، ولكن كانت معاملتهم لهم كمن يعامل ربه ؛ لأن الله هو الذي يُحل ويحرم ب " افعل " و " لا تفعل "، فإذا جاء هؤلاء الأحبار وأحلّوا شيئا حرمه الله أو حرّموا شيئا أحلّه الله، فهم إنما قد أخذوا صفة الألوهية فوصفوهم بها ؛ لأن التحليل والتحريم هي سلطة الله، فلذلك عندما دخل عدي بن حاتم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم في عنق الرجل صليبا من الذهب أو من الفضة قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخلع هذا الوثن "، ومن أدب الرجل مع الرسول خلع الصليب. وقال صلى الله عليه وسلم : " إنكم لتتخذون الأحبار والرهبان أربابا ". فقال الرجل : نحن لا نعبدهم. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو لا تطيعونهم فيما حرموا وأحلوا ؟ قال : نعم. قال : تلك هي العبادة٤.
﴿ اتَّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابا من دون الله والمسيحَ ابن مريم ﴾ ولسائل أن يسأل : وما معنى عطف المسيح على الأرباب، وعلى الأحبار والرهبان ؟ والإجابة : إن الذي يحلل ويحرم إن لم يكن رسولا، فهو إنسان يطلب السلطة الزمنية، وذلك لا يتأتى من الرسول ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليلفت الناس إلى عبادة الله بما شرعه الله، وعيسى عليه السلام هو رسول لم يقم إلا بالبلاغ عن الله، ولكن البعض أخطا التقدير وظن أنه ابن الله، ولذلك يتابع الحق قوله :
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ وهكذا يذكر الحق أن الأمر لم يصدر منه سبحانه وتعالى إلا بأن يعبد من يؤمن بالرسالات الإله الواحد. ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول :
﴿ خير ما قلته أنا والنبيون : لا إله إلا الله ﴾٥.
وأنت حين تنظر إلى " لا إله إلا الله " تجد النفي في " لا " والاستثناء من النفي والإثبات في " إلا "، وهذا نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له وحده، وحين نقول : " الله واحد " فهذا يتضمن الإثبات فقط. ويأخذ الفلاسفة الذين يملكون قوة الأداء والبيان من هذه القضية " الإثبات والنفي "، أو " الموجب والسالب "، ويقولون : كل التقاء بين موجب وسالب إنما يعطي طاقة، والطاقة يمكن استخدامها في الإنارة أو تدار بها آلة، وكذلك الطاقة الإيمانية تحتاج إلى " سالب وموجب "، ويقول الشاعر إقبال :
إنما التوحيد إيجابٌ وسلبٌ *** فيهما عزمٌ ومضاء
ويقول سبحانه وتعالى تذييلا للآية الكريمة :﴿ سبحانه عمّا يُشركون ﴾ وحين تسمع كلمة ﴿ سبحانه ﴾ فاعرف أنها للتنزيه، فلا ذات مثل ذات الله، ولا صفة مثل صفات الله، فالله غني وأنت غني، فهل غناك الحادث مثل غنى الله الأزلي ؟ وأنت حي والله حي، فهل حياتك الموقوتة مثل حياته ؟ فحياته ذاتية وحياتك موهوبة، فسبحانه حي بذاته، ولذلك يجب أن تفرق بين اسمه " الحي " واسمه " المحيي "، فهو حي في ذاته، ومُحْي لغيره، وإن كانت الصفة لله تعالى في الذات فهي لا تتعدى إلى الغير، إن الله يوصف بها ولا يوصف بنقيضها، فتقول " حي " ولا تقول المقابل، ولكن إن قلت : " محيي " فأنت تأتي بمقابل وتقول " مميت ". وتقول : " قابض وباسط " و " رحيم وقهار ".
إذن : فصفة الذات يتصف الله بها ولا يتصف بمقابلها، وأما صفة الفعل فيتصف بها ويتصف بمقابلها لأنها في غيره، فسبحانه هو مُحي لغيره، ومميت لغيره، لكنه حي في ذاته. إذن فكلمة ﴿ سبحانه ﴾ تعني التنزيه ذاتا، وصفات، وأفعالا، وإذا جاء فعل من الله، ويأتي مثله فعل من البشر، نقول : إن فعل الله عز وجل غير فعل البشر لأن فعل الله بلا علاج٦، ولكن فعل البشر بعلاج، بمعنى أن كل جزئية من الزمن تأخذ قدرا من الفعل، كأن تنقل شيئا من مكان إلى مكان، فأنت تأخذ وقتا وزمنا على قدر قوتك، أما فعل الله عز وجل فلا يحتاج إلى زمن، وقوته سبحانه وتعالى لا نهائية :
ولذلك حين قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أسْرِيَ بي إلى بيت المقدس، قال من سمعوه : أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ؟ ٧ لكن لم يلتفت أحد منهم إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يقل : لقد ذهبت إليها بقوتي، بل قال : لقد أسريَ بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. إذن : فالذي أسرَى هو اله القوي القادر ولا يحتاج الله إلى زمن.
إذن : ف﴿ سبحانه ﴾ هي تنزيه لله سبحانه وتعالى عن أي شيء يوجد في البشر. ولا تقارن قدرة الله سبحانه وتعالى بقدرة البشر مهما كان، بل إن العمل ينسب لقدرة صاحبه، وكلما زادت القوة زادت القدرة والله هو القوي. وقوله تعالى :﴿ سبحانه عمّا يشركون ﴾ هو تنزيه لله، ولا تجد بشرا يقول لبشر حتى من الكفار الذين يعاندون الإيمان، لا يقول واحد منهم لآخر ﴿ سبحانك ﴾ لأن التنزيه أمر يختص به الله عز وجل.
والناس تضع أسماء أولادها، فالأسماء مقدور عليها من البشر، ولكنك لا تجد كافرا معاندا محاربا لدين الله عز وجل يسمي ابنه " الله " فالمؤمن لا يجرؤ على هذه التسمية لأنه يؤمن بالله، والكافر لا يجرؤ عليها أبدا بقدرة الله وقهره. لذلك فكلمة ﴿ سبحانه ﴾ ولفظ الجلالة " الله " لفظان يختص بهما الله وحده بالقدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، وسبحانه القائل :
﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ( ٦٥ ) ﴾( مريم ).
إذن : فالله سبحانه وتعالى - بالقدرة والقهر- حجز ألسنة البشر جميعا أن يقول أحدهم لأحد : " سبحانك "، أو أن يسمي أحد ابنه " الله ".
والله عز وجل يقول هنا :﴿ لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون ﴾، وموقف المشركين وأهل الكتاب واقع تحت هذه الآية ؛ لأن منهج السماء لا يأتي إلا إذا عَمَّ الفساد والله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان الخليفة في الأرض أن يكون صالحا ومصلحا، وأقلُّ درجات الصلاح أن تترك الصالح فلا تفسده، فإن استطعت أن ترتقي به فهذا هو الأفضل. فإن كانت هناك بئر يشرب منها الناس، فالصلاح أن تترك هذا البئر ولا تردمها، والأصلح من ذلك أن تحمي جدرانها بالطوب حتى لا تنهار الأتربة وتسُدُّها، وأن تحاول أن تسهل حصول الناس على الماء من البئر، والأصلح منه أن تصنع خزّانا عاليا، ومن هذا الخزان تمتد المواسير ليصل الماء إلى الناس في منازلهم بدون تعب، هذا إصلاح لأنك بذلك إنما تأخذ بأسباب الحق القائل عن تميز الفكر ؛ عند ذي القرنين :
﴿ وآتيناه من كل شيء سببا( ٨٤ ) فأتبعَ سببا( ٨٥ ) ﴾ ( الكهف )أي : أن الله سبحانه وتعالى أعطى لذي القرنين الأسباب، وهو زَادَ باجتهاده أسبابا أخرى ؛ إذن : فالحق سبحانه وتعالى يريد من الإنسان أن يُصلح في الأرض حتى يسعد المجتمع بأي إصلاح في الأرض ويستفيد منه الكل، ولذلك يعطي الحق سبحانه وتعالى اختيارات في أشياء ولا يعطيها في أشياء أخرى، فالإنسان له اختيار في أن يصلي أو لا يصلي، يتصدق أو لا يتصدق، يعمل أو لا يعمل إلى آخر ما نعلمه، ولكن الكون الأعلى محكوم بالقهر، فالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء وكل هذا له نظام دقيق، فلا الشمس ولا القمر ولا النجوم، ولا غيرها من الكون الأعلى يخضع لاختيار الإنسان، وإلا لفسد الكون. وكل شيء مقهور سليم بالفطرة ولا يحدث فساد إلا في الشيء الذي فيه اختيار للإنسان، لأن الاختيار قد يتبع الشهوة وهوى النفس، حتى المخلوقات المقهورة كالحيوانات التي سخرها الله للإنسان لا يأتي منها الشر. بل إن مُخلّفاتها تُستخدم في زيادة خصوبة الأرض. ولكن الأشياء التي صنعها الإنسان ملأت أجواء الدنيا بالسموم ولوثت الجو ؛ لأن الأولى مخلوقة بهندسة إلهية، والثانية بشرية علم صانعها أشياء وغابت عنه أشياء.
وقد يعتقد الناس أن هناك بعضا من الاكتشافات قد حلَّتْ مشكلات الكون، ثم بعد ذلك تمر السنوات يعرفون أنها جاءت بالشقاء للبشرية، ولعل تلوث البيئة الذي بدأ يؤثر على حياة الكون أخيرا يلفتنا إلى ذلك، حت
٢ قال علي بن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (ص: ٤٨): "الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته، فكأن جزاء ذلك النظر إلى الله عيانا في الآخرة.. وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها"
.
٣ الهجوع: النوم ليلا..
٤ عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة براءة (اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)..
٥ أخرجه الترمذي في سننه (٣٥٨٥) والبيهقي في سننه(٤/٢٨٩-٨٩) قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه..
٦ أي أن فعل الله سبحانه وتعالى يتم في الكون بدون معالجة أو تهيئة أسباب بل الأمر بالنسبة لله: كن فيكون..
٧ أخرج أحمد في مسنده (١/٣٠٩) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي، فقعد معتزلا حزينا. قال: فمر عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: ما هو؟ قال: إنه أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه" الحديث، وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه" أخرجه أحمد في مسنده (٣/٣٧٧). والبخاري في صحيحه (٤٧١٠)، ومسلم (١٧٠).
وقد قال ابن إسحاق: فلما أصبح غدا على قريش، فأخبرهم الخبر فقال أكثر الناس: هذا والله الإمر البين، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟ (سيرة النبي لابن هشام: ٢/٤). والإمر هو الشيء العظيم العجيب المنكر. .
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) ﴾ :
لكن هل يستطيعون أن يطفئوا نور الله ؟ لا ؛ لأن الإنسان في الأمر الحسّي لا يستطيع أن يطفئ النور ؛ لأن هناك فرقا بين مصدر النور وبين أداة التنوير، فالإنسان يمكنه أن يحطم الدائرة الزجاجية التي تحمل النور، لكن لا أحد بإمكانه أن يطفئ " المُنوِّر " والمُنوِّر الأعلى هو الله، ولا أحد يستطيع إطفاءه. ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ ﴾ أي : لا يريد الله شيئا ﴿ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ﴾، وسبحانه قد أرسل الرُّسُل حاملة لمنهج النور ولم يرسل الرسل لينتصر عليهم الكفر، ولذلك يقول لنا :﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ ﴾ أي لا يريد ﴿ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾.
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) ﴾ :
والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بالقيم التي تهدي إلى الطريق المستقيم، جاء بالدين الحق. فكلمة " دين " أخذَتْ واستعملت أيضا في الباطل، ألم يأمر الحق سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول الكفار ومشركي مكة :
﴿ لكم دينكم ولي دين ( ٦ ) ﴾( الكافرون ).
فهل كان لهم دين ؟ نعم كان لهم ما يدينون به مما ابتكروه واخترعوه من المعتقدات ؛ لكن ﴿ دين الحق ﴾ هو الذي جاء من السماء.
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ ولنلحظ أن الحق سبحانه وتعالى جاء بهذا القول ليؤكد أن الإسلام قد جاء ليظهر فوق أي ديانة فاسدة، ونحن نعلم أن هناك ديانات متعددة جاءت من الباطل، فسبحانه القائل :
﴿ ولوٍ اتّبع المؤمنون أهواءهم لفسدت السماوات والأرض( ٧١ ) ﴾( المؤمنون ).
ونتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾، فلو أن الفساد كان في الكون من لون واحد، كان يقال ليظهره على الدين الموجود الفاسد، ولكنَّ هناك أديان متعددة ؛ منها البوذية وعقائد المشركين، وديانات أهل الكتاب والمجوس الذين يعبدون النار أو بعض أنواع من الحيوانات، وكذلك الصابئة١. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يظهر دينه ؛ الذي هو دين الحق على دين واحد، من أديان الباطل الموجودة، ولكن يريد سبحانه أن يظهره على هذه الأديان كلها، وأن يعليه حتى يكون دين الله واقفا فوق ظَهْر هذه الأديان كلها، والشيء إذا جاء على الظَّهر أصبح عاليا ظاهرا.
والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فما استطاعوا أن يَظهروه ﴾( الكهف : ٩٧ )أي : أن يأتوا فوق ظهره. وكل الأديان هي في موقع أدنى بكثير من الدين الإسلامي. بعض الناس يتساءل : إذن كيف يكون هناك كفار ومجوس وبوذيون وصابئون وأصحاب أديان أخرى كاليهودية والنصرانية، فما زالت ديانتهم موجودة في الكون وأتباعها كثيرون، نقول : لنفهم معنى كلمة الإعلاء، إن الإعلاء هو إعلاء براهين وسلامة وتعاليم، بمعنى أن العالم المخالف للإسلام سيصدم بقضايا كونية واجتماعية، فلا يجد لها مخرجا إلا باتباع ما أمر به الإسلام ويأخذون تقنيناتهم من الإسلام، وهم في هذه الحالة لا يأخذون تعاليم الإسلام كدين، ولكنهم يأخذونها كضرورة اجتماعية لا تصلح الحياة بدونها. وأنت كمسلم حين تتعصب لتعاليم دينك، فليس في هذا شهادة لك أنك آمنت، بل دفعك وجدانك وعمق بصيرتك لأنْ تؤمن بالدين الحق، ولكن الشهادة القوية تأتي حين يضطر الخصم الذي يكره الإسلام ويعانده إلى أن يأخذ قضية من قضايا الإسلام ليحل بها مشكلاته، هنا تكون الشهادة القوية التي تأتي من خصم دينك أو عدوك. ومعنى هذا أنه لم يجد في أي فكر آخر في الكون حلا لهذه القضية فأخذها من الإسلام.
فإذا قلنا مثلا : إن إيطاليا التي فيها الفاتيكان الذي يسيطر على العقائد المسيحية في العالم الغربي كله، وكانت الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان تحارب الطلاق وتهاجم الإسلام لأنه يبيح الطلاق، ثم اضطرتهم المشكلات الهائلة التي واجهت المجتمع الإيطالي وغيره من المجتمعات الأوروبية إلى أن يبيحوا الطلاق، لأنهم لم يجدوا حلا للمشكلات الاجتماعية الجسيمة إلا بذلك.
ولكن هل أباحوه لأن الإسلام أباحه، أم أباحوه لأن مشاكلهم الاجتماعية لا تُحلُّ إلا بإباحة الطلاق ؟ وساعة يأخذون حلا للقضية لهم من ديننا ويطبقون الحل كتشريع، فهذه شهادة قوية، يتأكد لهم بها صحة دين الله ويتأكد بها قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ﴾، وبالله لو كان الإظهار غلبة عقدية، بمعنى ألاَّ يوجد على الأرض أديان أخرى، بل يوجد دين واحد هو الإسلام لما قال الحق هنا :﴿ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ﴾ ولما قال في موضع آخر من القرآن :﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل من المعارضين للإسلام من يظهر الإسلام على غيره من الأديان لا ظهور اقتناع وإيمان، لا، بل يظلون على دينهم ولكن ظروفهم تضطرهم إلى أن يأخذوا حلولا لقضاياهم الصعبة من الإسلام. ومثال آخر من قضية أخرى، هي قضية الرضاعة، يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ والوالدات يُرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة ﴾( البقرة : ٢٣٣ )، وقامت في أوربا وأمريكا حملات كثيرة ضد الرضاعة الطبيعية، وطالبوا الناس باستخدام اللبن المجفف والمصنوع كيميائيا بدلا من لبن الأم، وكان ذلك في نظرهم نظاما أكمل لتغذية الطفل، ثم بعد ذلك ظهرت أضرار هائلة على صحة الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه. واضطر العالم كله إلى أن يعود إلى الرضاعة الطبيعية وبحماسة بالغة. هل فعلوا ذلك تصديقا للقرآن الكريم أم لأنهم وجدوا أنه لا حلَّ لمشكلاتهم إلا بالرجوع إلى الرضاعة الطبيعية ؟.
كذلك الخمر نجد الآن حربا شعواء ضد الخمر في الدول التي أباحتها من قبل وتوسعت فيها، ولكن شنُّوا عليها هذه الحرب بعد أن اكتشف العلم أضرارها على الكبد والمخ والسلوك الإنساني، هذا هو معنى ﴿ ليُظهره على الدين كله ﴾ أي : يجعله غالبا بالبرهان والحجة والحق والدليل على كل ما عداه. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ فقد ظهر هذا الدين وغلب في مواجهة قضايا عديدة ظهرت في مجتمعات المشركين والكفرين الذين يكرهون هذا الدين ويحاربونه، وهو ظهور غير إيماني ولكنه ظهور إقراري، أي رغما عنهم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) ﴾ :
وبعد أن شرح لنا المولى سبحانه ما يدور في ذواتهم، وانحرافهم عن منهج الله تعالى، والغرق في حب الدنيا وحب الشهوات، وهم قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وحرَّفوا تعاليم السماء حتى يأكلوا أموال الناس بالباطل، ولكن هل الأموال تؤكل ؟ طبعا لا، بل نشتري بالمال الطعام الذي نأكله، فلماذا استخدم الحق سبحانه وتعالى عبارة ﴿ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ ﴾ ؟ أراد الحق سبحانه وتعالى بذلك أن يلفتنا إلى أنهم لا يأخذون المال على قدر حاجتهم من الطعام والشراب، ولكنهم يأخذون أكثر من حاجتهم ليكنزوه١.
ولذلك يأتي قوله تعالى في ذات الآية أنهم ﴿ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾. هم إذن أكلوا أموال الناس بالباطل، مصداقا لقوله سبحانه﴿ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ﴾ ومعنى ذلك أنَّ هناك أكْلا من أموال الناس بالحق في عمليات تبادل المنافع، فالتاجر يأخذ مالك ليعطيك بضاعة، ويذهب التاجر ليشتري بها بضاعة وهكذا، وقانون الاحتياط هنا في أن يكون هناك رهبان وأحبار محافظون على تعاليم الدين، ولا يأكلون أموال الناس بالباطل، وهذا ظاهر في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ﴾ ولم يقل جل جلاله : كل الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، بل قال ﴿ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ﴾ ؛ لأنه قد يوجد عدد محدود من الأحبار والرهبان ملتزمون، والله لا يظلم أحدا ؛ لذلك جاء بالاحتمال. فلو أن الله سبحانه وتعالى عمَّم ووُجد منهم من هو ملتزم بالدين. فمعنى ذلك أن يكون القرآن الكريم لم يُغطِّ كل الاحتمالات، ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى في قرآنه يصون الاحتمالات كلها.
إذن : فاستيلاء بعض من هؤلاء الأحبار والرهبان على أموال الناس لا يكون بالحق، أي لا يحصلون فقط على ما يكفيهم، بل بالباطل أي بأكثر مما يحتاجون. وهم يأخذون المال ليصدوا به عن سبيل الله، وهم في سبيل الحصول على الأموال الدنيوية ؛ يُغيِّرون منهج الله بما يتفق مع شهوتهم للمال، وما يحقق لهم كثرة الأموال التي يحصلون عليها، ولهذا تأتي العقوبة في ذات الآية فيقول المولى سبحانه وتعالى :
﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾
والكنز مأخوذ من الامتلاء والتجمع، ولذلك يقال : " الشاة مكتنزة "، أي مليئة باللحم وتجمَّعَ فيها لحم كثير.
إذن : فيكنزون أي يجمعون، وقول الحق سبحانه وتعالى﴿ يَكنزون الذهب والفضة ﴾ ؛ وهذان المعدنان هما أساس الاقتصاد الدنيوي، فقد بدأ التعامل الاقتصادي بالتبادل، أي سلعة مقابل سلعة، وهي ما يسمى عمليات المقايضة، وعندما ارتقى التعامل الاقتصادي اخترعت العملة التي صارت أساسا للتعامل بين الناس والدول. والعملة من بدايتها حتى الآن ترتكز على الذهب والفضة. وحتى عندما وجدت العملة الورقية، كان لابد أن يكون لها غطاء من الذهب لكي تصبح لها قيمة اقتصادية ؛ لأنَّ العملة الورقية لا يكون لها قيمة إلا بما يغطيها من الذهب والفضة.
ومن إعجاز القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن الذهب والفضة وهما معدنان، يجعلهما الأساس في النقد والتجارة، ولقد وجدت معادن أخرى أغلى من الذهب وأغلى من الفضة كالماس مثلا. لكن لا يزال الأساس النقدي في العالم هو الذهب والفضة. وعلى مقدار رصيد الذهب الذي يغطي العملة الورقية ترتفع قيمة عملة أي بلد أو تنخفض.. فمثلا في مصر في عهد الاحتلال البريطاني كان النقد المتداول ثمانية ملايين جنيه، ورصيدنا من الذهب عشرة ملايين جنيه فيكون الفائض من الذهب مليوني جنيه، وبذلك كانت قيمة الجنيه المصري تساوي جنيها من الذهب مضافا إليه قرشان ونصف القرش. والذي يهبط بالنقد إلى الحضيض أن يكون رصيد الذهب قليلا وكمية النقد المتداولة كثيرة، وهكذا يبقى الذهب هو الحجة والأساس في الاقتصاد العالمي.
إذن : فالحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أراد أن يلفتنا إلى أن الذهب والفضة هما أساس التعامل في تسيير حركة العالم الاقتصادية، وأن هذا التعامل يقتضي الحركة الدائمة للمال، لأن وظيفة المال هي الانتفاع به في عمارة الأرض، ولو أنك لم تحرك مالك وكنت مؤمنا، فإنه ينقص كل عام بنسبة ٢، ٥% وهي قيمة الزكاة. ولذلك يفنى هذا المال في أربعين سنة. فإن أراد المؤمن أن يُبقي على ماله ؛ فيجب أن يديره في حركة الحياة ليستثمره وينميه ولا يكنزه حتى لا تأكله الزكاة ؛ وهي نسبة قليلة تُدفع من المال. ولكن إذا أدار صاحب المال ما يملكه في حركة الحياة ؛ فسينتفع به الناس وإن لم يقصد أن ينفعهم به ؛ لأن الذي يستثمر أمواله مثلا في بناء عمارة ليس في باله إلا ما سيحققه من ربح لذاته، ولكن الناس ينتفعون بهذا المال ولو لم يقصد هو نفعهم ؛ فمن وضع الأساس يأخذ أجرا، ومن جاء بالطوب يأخذ قدر ثمنه، ومن أحضر أسمنتا أخذ، ومن جاء بالحديد أخذ، والمعامل التي صنعت مواد البناء أخذت، وأخذ العمال أجورهم ؛ في مصانع الأدوات الصحية وأسلاك الكهرباء وغيرها، والذين قاموا بتركيب هذه الأشياء أخذوا، إذن : فقد انتفع عدد كبير في المجتمع من صاحب العمارة، وإن لم يقصد هو أن ينفعهم. ولذلك فإن الذي يبني العمارة يقدم للمجتمع خدمة اقتصادية ينتفع بها عدد من الناس، وكذلك من يقيم مشروعا استثماريا.
إذن : سبحانه وتعالى لا يريد من المال أن يكون راكدا، ولكنه يريده متحركا ولو كان في أيدي الكافرين ؛ لأنه إذا تحرك أفاد الناس جميعا فيحدث بيع وشراء وإنتاج للسلع وإنشاء للمصانع، وتشغيل للأيدي العاملة إلى غير ذلك، ولكن إن كنز كل واحد منا ماله فلم يستثمره في حركة الحياة، فالسلع لن تستهلك، والمصانع ستتوقف، ويتعطل الناس عن العمل.
وكما يحث الإسلام على استثمار المال، يطالبنا أيضا بألا يذهب المال إلى الناس بغير عمل ؛ حتى لا يعتادوا على الكسب مع الكسل وعدم العمل.
ولذلك قيل : إذا كثر المال ولم تكن هناك حاجة إلى مشروعات جديدة، فلا تترك الناس عاطلين ؛ بل عليك أن تأمرهم ولو بحفر بئر ثم تأمرهم بطمّها أي ردمها، في هذه الحالة سيأخذ العمال أجر الحفر والردم، فلا تنتشر البطالة ويتعود الناس أن يأكلوا بدون عمل ؛ لأن هذا أقصر طريق لفساد المجتمع.
إذن : فالحق سبحانه وتعالى يريد من المال أن يتحرك ولا يكنز ؛ ولذلك قال المولى سبحانه وتعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ لأنهم بكنزهم المال إنما يُوقفون حركة الحياة التي أرادها الله تعالى لكونه. وأنت ترى العالم الآن يعيش في غائلة البطالة ؛ لأن المال لا يتحرك لعمارة الكون، بل هناك من يكتنزون فقط.
ولقائل أن يقول : ولكن الناس الآن يتعاملون بالنقد الورقي، بينما ذكر الله سبحانه وتعالى الذهب والفضة ؛ نقول : إن العملة الورقية ليست نقدا بذاتها، ولكنها استخدمت لتعفي الناس من حمل كميات كبيرة وثقيلة من الذهب والفضة، قد لا يقدرون على حملها، إذن فهي عملية للتسهيل، وهي منسوبة إلى قيمتها ذهبا، إذن : فالذين يكنزون العملة الورقية ولا ينفقونها فيما يعمر بها الكون وتتم عمارته تنطبق عليهم الآية الكريمة٢.
ولكن الكنز في هذه الآية لا يأتي فقط بمعنى الجمع، ولكنه أيضا بمعنى أنهم لا يؤدون حق الله فيها. ولذلك فإن المال الذي أخرجت زكاته لا يُعدّ كنزا، لأنه يتناقص بالزكاة عاما بعد آخر ؛ أما المال المكنوز فهو المال الذي لا تُؤدّى زكاته.
والذي يملك مالا مهما كانت قيمته ويؤدي حق الله فيه لا يعتبر كانزا للمال.
بل الكنز في هذه الحالة ما لم يؤد فيه حق الله٣.
وإذا عُدنا إلى نص الآية الكريمة :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا ﴾ نتساءل : لماذا لم يقل الله : ولا ينفقونهما مع أنهما معدنان ؟ ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى استخدم أسلوب الجمع ؛ لأن الذهب يطلق إطلاقات كثيرة، فهناك من يملك ألف دينار من الذهب، وغيره يملك مائة دينار من الذهب، وثالث ليس لديه إلاّ دينار ذهبيّ واحد وكذلك الفضة، ومادام الجمع هنا موجود فلابد أن تستخدم ﴿ يُنْفِقُونَهَا ﴾.
ولم تقل الآية الكريمة : والذي يكنز ولكنها قالت :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ﴾، إذن : فالمخاطبون متعددون، فهذا عنده ذهب، وهذا عنده ذهب، وثالث عنده فضة، إذن فلابد من استخدام صيغة الجمع. ويلفتنا القرآن الكريم إلى هذه القضية في قوله تعالى :﴿ وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾( الحجرات : ٩ ).
ولم يقل " اقتتلا " لأن الطائفة اسم الجماعة مكونة من أفراد كثيرين، فإذا جاء القتال لا تقوم طائفة وتمسك سيفا وتقاتل الثانية، وإنما كل فرد من الطائفة الأولى يقاتل كل فرد من الطائفة الثانية، إذن فهما طائفتان ساعة السلام، ولكن ساعة الحرب يتقاتل كل أفراد الطائفة الأولى مع كل أفراد الطائفة الثانية. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ اقْتَتَلوا ﴾، ولم يقل " اقتتلا ". أما في حالة الصلح فقد قال سبحانه وتعالى :﴿ فأصلحوا بينهما ﴾( الحجرات : ٩ ) واستخدم هنا " المثنى " لأننا ساعة نصلح بين طائفتين، لا نأتي بكل فرد من الطائفة الأولى ونصلحه على كل فرد من الطائفة الثانية، ولكن نأتي بزعيم الطائفة الأولى ونصالحه على زعيم الطائفة الثانية فيتم الصلح. ولذلك هنا تجب التثنية.
وكذلك في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ﴾ لم يقل ولا ينفقونهما، ولكن قال سبحانه وتعالى :﴿ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ والإنفاق في سبيل الله يشمل مجالات متعددة، ففي سبيل الله تحدث حركة في المجتمع يستفيد منها الناس، فحين تُخرج الزكاة يستفيد منها الناس، وحين تُجهّز بها جيوش المسلمين يستفيد منها الناس، ونظرية عدم كنز المال ربما ظهرت حديثا في الاقتصاد العالمي ولكنها موجودة منذ نزول القرآن الكريم.
فأنت إذا أنفقت ولم تكنز حدث رواج في السوق. والرواج معناه إيجاد العمل ووسائل الرزق. وإيجاد الحافز الذي يؤدي إلى ارتق
٢ قال القرطبي في تفسيره (٤/٣٠٤٩): "الكنز أصله في اللغة الضم والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة" أي يضمه لنفسه ويجمعه. وخص الذهب والفضة بالذكر لأنه مما لا يطلع عليه بخلاف سائر الأموال. قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها". والحديث الذي ذكره القرطبي هنا أخرجه أبو داود في سننه (١٦٦٤) والحاكم في مستدركه (١/٤٠٩) (٢/٣٣٣) وصححه وأقره الذهبي في الموضع الأول..
٣ قال ابن عمر: ما أُدِّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبعين أرضين، وكل ما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. ذكره القرطبي في تفسيره. وقال: "ومثله عن جابر، وهو الصحيح".
وحين مات أحد الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبحثوا في ثيابه فوجدوا فيها دينارا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " هذه كيّة من النار "، لأن صاحبه كان حريصا على أن يكنزه، كما وجدوا مع صحابي آخر دينارين كنزهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هاتان كيّتان " ١.
كان هذا قبل أن تشرع الزكاة، أما إذا كان صاحب المال قد أدى حق الله فيه فلا يُعدّ كنزا، وإلا لو قلنا : إنّ الإنسان إذا أبقى بعضا من المال لأولاده حتى ولو أدى زكاته فإن ذلك يعتبر كنزا، لو قلنا ذلك لكنا قد أخرجنا آيات الميراث في القرآن الكريم عن معناها، لأن آيات الميراث جاءت لتورث ما عند المتوفى. والمال المورَّث المفترض فيه أنه قد أتى عن طريق حلال وأدى فيه صاحبه حق الله، لذلك لا يعتبر كنزا.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾، لماذا خصَّ الله هذه الأماكن بالعذاب ؟ لأن كل جارحة من هذه الجوارح لها مدخل في عدم إنفاق المال في سبيل الله. كيف ؟ مثلا : تجدون الوجه هو أداة المواجهة، وإذا رأيت إنسانا فقيرا متجها إليك ليطلب صدقة، وأنت تعرف أنه فقير وقد جاءك لحاجته الشديدة، فإن كان أول ما تفعله حتى لا تؤدي حق الله أن تشيح بوجهك عنه، أو تعبس ويظهر على وجهك الغضب، فإن هذا الفقير يحس بالمهانة والذلة، لأن الغني قد تركه وابتعد عنه، فإذا لم تنفع إشاحة الوجه واستمر الفقير في تقدمه من الغني، فإنه يعرض عنه بأن يدير له جنبه ليحس بعدم الرضا، فإذا استمر الفقير واقفا بجانبه فإنه يعطي له ظهره.
إذن : فالجوارح الثلاث قد تشترك في منع الإنفاق في سبيل الله، وهي الوجه الذي أداره بعيدا، ثم أعطاه ظهره. هذه هي الجوارح الثلاث التي تشترك في منع حق الله عن الفقير، ولذلك لابد أن تُعذَّب فَتُكْوى الجباه والجنوب والظهور.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ هذا ما كَنزتم لأنفسكم ﴾، أي : هذا ما منعتم فيه حق الله، فإن كنز الإنسان مالا كثيرا فسيكون عذابه أشد ممن كنز مالا قليلا ؛ لأن الكَيَّ سيكون بمساحة كبيرة، أما إن كان الكنز صغيرا فتكون الكية صغيرة. ولهذا لا يجب أن يغتر المكتنز بكمية ما كنز ؛ لأن حسابه سوف يكون على قدر ما كنز.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فذوقوا ما كنتم تَكنزون ﴾ أي : أن عذابكم في الآخرة سيكون بسبب كنزكم المال، فالمال الذي تفرحون بكنزه في الدنيا كان يجب أن يكون سببا في حزنكم ؛ لأنكم تكنزون عذابا لأنفسكم يوم القيامة، ومهما أعطاكم كنز المال من تفاخر وغرور في الحياة الدنيا، فسوف يقابله في الآخرة عذاب، كُلٌّ على قدر ما كنز.
وقد يقول قائل: وما دينار أو ديناران حتى يكوى بهما بالنار؟ والجواب: إن هذا رجل من أهل الصُّفّة أي من الفقراء المعدمين الملازمين لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأكل من صدقات المسلمين، بينما هو يكتنز الذهب ولو دينارا في طيات ثيابه فكأنه أخذ حق غيره وحرم مجتمع المسلمين مما يكتنزه ومن جهده في العمل، فلو بهذا الدينار أتى بقدوم واحتطب كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره لكان أنفع لنفسه ولأهله ولغيرهم؛ ولهذا استحق الوعيد..
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ٣٦ ) ﴾ :
والشهر : هو دورة القمر كما هو معلوم، ونحن نعرف أن الكون فيه شمس وقمر وفيه نجوم، هذه هي الأشياء المرئية لنا، وهناك كواكب أخرى بعيدة عنا تستطيع أن تأخذ مليون شمس في جوفها، كل هذا يعطيك فكرة عن مدى اتساع الكون، فلا تعتقد أن الشمس هذه موجودة بذاتها، بل هي تأخذ أشياء من كواكب أعلى منها كثيرة، ولكن ما نراه بأعيننا محدود، وهناك ما لا يمكننا أن نراه ؛ لأنه غير منظور لنا. وأنت إذا نظرت إلى مصباح كهربائي، فنور المصباح ليس ذاتيا، بل إن وراءه أجهزة كثيرة تمده بالكهرباء من أسلاك وكابلات وأكشاك، ثم محطة توليد الكهرباء التي تولد التيار الكهربائي، ثم المصانع التي أنتجت الآلات التي تعمل في محطة الكهرباء، إذن : فوراء هذا المصباح الصغير حجم هائل من العمل والأجهزة المختلفة.
ونحن نرى الشمس فيها ضياء، والقمر فيه نور، فما الفرق بين الضياء والنور ؟
الضياء : فيه نور وفيه حرارة. والنور : فيه ضوء وليس فيه حرارة. ولذلك يسمون ضوء القمر " الضوء الحليم "، أي : أنك عندما تجلس في ضوء القمر لا تحتاج إلى مظلة تحميك منه، ولكن إن جلست تحت ضوء الشمس فأنت تحتاج إلى مظلة تحميك من حرارة الشمس الشديدة.
والحق سبحان وتعالى يسمي الشمس سراجا وهَّاجا، والسراج فيه حرارة وفيه ضوء. أما القمر فسماه منيرا ؛ لأن أشعة الشمس تنعكس عليه فينير، وهذان الكوكبان العلويان-الشمس والقمر- وضع الله فيهما موازين الزمن. والزمن له حالات كثيرة تتطلب موازين وقياسات مختلفة، وأساس الزمن هو اليوم والليلة، وأساس اليوم هو صباح وظهر وعصر ومغرب، وهناك الفجر الصادق والفجر الكاذب والشروق، وهناك أوقات يتساوى فيها الشيء وظله، وأوقات يكون الظل مثْلَيْ الشيء. والليل فيه الظلام، ويأتي بعد النهار والليل-في مقاييس الزمن- الشهورُ، وبعد الشهور تأتي السنوات.
إذن : فمقاييس الزمن محتجة لآلات تقاس بها، وأنت تعرف بداية اليوم بشروق الشمس. إذن فالشمس معيار اليوم. وأنت تعرف بداية الليل بغروب الشمس. وهكذا فالشمس تعطينا بداية ونهاية الليل والنهار، ولكنها لا تعطينا شيئا عن الشهور، فإذا نظرت إلى الشمس فإنك لا تعرف هل أنت في أول الشهر أو في منتصفه أو في آخره. ولكنك إذا نظرت إلى القمر عرفت، ففي أول الشهر يكون القمر هلالا، وفي منتصفه يكون بدرا، وفي آخره المحاق١. والشهور عند الله اثنا عشر شهرا.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الإنسان، ويجعله خليفة في الأرض ؛ خلق له كونا مُعَدّا إعدادا حكيما لاستقباله، فقدَّر في الأرض الأقوات وجعل الشمس والقمر وأنزل المطر، فكل ما يقيم حياة الإنسان كان موجودا في الكون قبل أن يأتي الإنسان إليه. والإنسان جعله الله خليفة في الأرض وله حركة، وهي الأحداث التي تقع منه أو تقع فيه أو تقع عليه، والأحداث تتطلب زمانا ومكانا، ولذلك خلق الله لها الزمان والمكان. إذن : فالحياة كلها تفاعل بين حركة الإنسان الخليفة وبين الزمان والمكان.
وكما أعدَّ الله سبحانه وتعالى للإنسان في كونه مقومات حياته اليومية.. أنزل له القيم التي تحفظ له معنويات حياته، وأراد بها الحق سبحانه وتعالى أن تتساند حركة الإنسان ولا تتعاند، ومعنى التساند أنْ تتحد حركة الناس جميعا في إيجاد النافع لمزيد من الإصلاح في الأرض، أما إن تعاندت حركات البشر ضد بعضها البعض، فإن الفساد يظهر في الأرض ؛ لأن كل واحد يريد أن يهدم ما فعله الآخر.
ولكي تتساند حركات الإنسان في الكون ؛ فلا بد من مُشرّع واحد-وهو المشرع الأعلى- يعطي قوانين الحركة البشرية لكل الناس. وإن ابتعد الناس عن تشريعات الله تعالى، وأخذوا يُقنّنون لأنفسهم، تجد قوانين البشر تتبع أهواءهم، وكل واحد يحاول أن يحصل على مَيْزات لنفسه، ويأخذ حقوق الآخرين ؛ فتفسد الحياة، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ ﴾( المؤمنون : ٧١ ).
إن اتباع الحق لأهوائهم سيُخضعُ الكون لأهواء البشر، هذا يريد وهذا لا يريد، والحق سبحانه يريد في الكون حركة السلام والأمن والاطمئنان، وهذه لا تتم إلا إذا التزم كل إنسان بمنهج الله ؛ حينئذ يوجد سلام دائم ومستوعب شامل، مستوعب لسلام الإنسان مع نفسه، ولسلام الإنسان مع الكون، ولسلام الإنسان مع الله، لكن الإنسان الذي خلقه الله مُخيَّرا وأنزل له المنهج بالتكليف، في إمكانه أن يطيع هذا المنهج أو أن يعصيه. وإن عصى الإنسان المنهج فهو يفسد في الأرض وينشر فيها الظلم والفساد.
وأراد الحق سبحانه أن يضع للسلام ضمانا، وهو أن توجد قوة تقف أمام الفساد في الأرض، لذلك شاء الحق أن يكون للحرب وجود ف هذا الكون ؛ لتتصارع الإرادات، فمادام للإنسان اختيار، ومادام هناك من يعصى ومن يطيع، فلابد أن يحدث الصراع. أما الأمور التي لا اختيار للإنسان فيها فهي لا تعكر السلام في الكون، فلن تقوم ثورة –مثلا- لكي تشرق الشمس، أو تشتعل حرب لإنزال المطر، لأن هذه الأمور تسير بقوانين القهر التي أرادها الله لها، وتعطي نفعها للجميع، ولكن الفساد يأتي من انحراف الناس عن منهج الله، ومادام في الكون حراس للمنهج من البشر، بحيث إذا انحرف إنسان ضربوا على يده حتى يعود إلى الطريق السليم٢ ؛ فإن الحياة المطمئنة الآمنة تبقى. ولكن إن عمَّ الفساد، ولم يوجد في المجتمع من يقف ضده تعاندت حركات الحياة وتعب الناس في حياتهم وأرزاقهم.
ولكي يسود السلام في الكون ؛ وضح الحق سبحانه في الزمن وفي المكان حواجز أمام طغيان النفوس، عَلَّها تفيق وتعود إلى الحق، فجعل في الزمان أشهرا حُرما يمتنع فيها القتال، ويسود فيها السلام بأمر السماء، وأراد الحق أن يكون هذا السلام القسري فرصة تجعل هؤلاء المتحاربين يفيقون إلى رشدهم وينهون الخلاف بينهم، كذلك خصَّ الله بعض الأماكن بتحريم القتال فيها، فإذا التقى الناس في هذه الأماكن كانت هناك فرصة لتصفية النفوس وإنهاء الخلاف.
والإنسان في حربه مع أخيه الإنسان يُنهك بنيران ونتائج الحرب، تنهكه دما، وتنهكه مالا، وعتادا، ويصيب الضعف الإنسان نتيجة هذه الإنهاكات منتصرا كان أم مهزوما، ولكنه أمام عزة نفسه في مواجهة خصمه يريد أن يستمر في الحرب حتى لا يظهر أمام الخصم بأنه قد ذُلَّ.
فيشاء الله برحمته لخلقه أن يجعل في الزمان وفي المكان ما يحرم فيه القتال ؛ حتى لا يقال : إن قبيلة ما أو جماعة قد أوقفت القتال خوفا من خصومها، أو لأن خصومها هم الأقوى، ولك ليقول الناس : إنهم أوقفوا الحرب بأمر من الله
وبهذا يحتفظ كل طرف من الأطراف المتحاربة بكرامته، فيسهل الصلح وتسلم الأرواح والنفوس.
وكذلك إن لجأ واحد من المتحاربين إلى المكان أو الأماكن التي يحرم الله فيها القتال، أمن على نفسه، وفي هذا منه للشر أن يستمر، وصون للنفوس من المهانة والذلة والانكسار أمام الغير ؛ لذلك أراد الله أن يوضح لنا : أنا خالقكم، وأنا الرحيم بكم، وسأجعل لكم من الزمان زمانا أحرم فيه القتال، وأجعل لكم مكانا مَنْ دخله كان آمنا، فاستتروا وراء ذلك وكُفُّوا عن القتال.
وهذه هي بعض من رحمة الله، يعطي بها الله سبحانه للناس فرص الحياة، وهذا من عطاءات الربوبية، وعطاء الربوبية من الله لخلقه جميعا، المؤمن منهم والكافر، والطائع والعاصي، وكل نعم الكون من عطاءات ربوبية الله.
إن عطاءات الله سبحانه لا تفرق بين المؤمن والكافر، فالأرض مثلا لا تعطي الزرع للطائع وتمنعه عن العاصي، والشمس لا تضيء وتسقط دفئها وحرارتها للمؤمن دون الكافر ؛ فَنعَمُ الكون المادية كلها من عطاء ربوبية الله سبحانه وتعالى لخلقه.
الأسباب-إذن- هي للناس جميعا، ولهم أن يتخذوا الأزمان المواتية لحركة الحياة كما يحبون، فيسيرون الزراعات على أي تقويم، ويحددون المواسم على حسب ما يفيدهم، وهم يحددون بذلك مصالحهم المادية التي هي من عطاءات الربوبية. ولكن الله رب قَيِّم، ولذلك فهناك عطاء ألوهية لله في المنهج الذي أرسل به الرسل للناس فأوضح : أنا أختار الزمان الذي أجده مناسبا للقيم والمعاني السامية، وأختار الأماكن المناسبة للقيم والمعاني السامية.
وأراد الحق سبحانه وتعالى برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يشيع اصطفاء المكان والزمان لكل الزمان والمكان.
والشهور والأزمان عند الله هي اثنا عشر شهرا، ومادام قد قال :﴿ عند الله ﴾، فهناك " عند " غير الله ؛ وهناك " عند " الناس.
وأوضح سبحانه لخلقه : قَدِّروا أزمانكم بمصالحكم، وهذا ما يحدث في الواقع المعاش.. إنك تجد من يزرع حسب التقويم القبطي، حيث تكون شهور الصيف فيه ثابتة، وكذلك شهور الشتاء والربيع والخريف ؛ لأن التقويم القبطي قائم على التقويم الشمسي.
ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد للقيم أزمانا مخصوصة ؛ لذلك قال :﴿ إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ﴾ وأوضح سبحانه : لا تجعلوا زمن القيم كالأزمان التي تجعلونها لمصالحكم.
وأراد الله سبحانه أن تعم القِيَم كل الزمن، ولا تكون مقصورة على أزمان معينة، ولذلك اختار سبحانه أزمانا للصلاة مثلا، فصلاة الصبح لها وقت، وصلاة الظهر لها وقت، والعصر لها وقت، والمغرب لها وقت، والعشاء لها وقت. ولكن أوقات الصلاة رغم أنها محددة فهي تشمل الزمن كله ؛ فالصلاة تقام مثلا في أسوان، وبعد دقائق في الأقصر، وبعد دقائق في القاهرة، وبعد دقائق في الإسكندرية، ثم تندرج إلى دول أوربا، وهكذا. فكأنها لا تتوقف عند فترة معينة، بل هي مستمرة حسب اختلاف الأوقات في الدول المختلفة، فصلاة الفجر-على سبيل المثال- قبل شروق الشمس. والشمس تشرق في كل دقيقة على بقعة مختلفة من الأرض. فكأن الصلاة دائمة على سطح الأرض. بل أكثر من ذلك نجد أننا في الوقت الذي نصلي فيه نحن الظهر، قد يصلي غيرنا العصر في شمال أوربا، والمغرب في أمريكا، والعشاء في كندا مثلا، فكأن الصلاة تقام في كل وقت على ظهر الأرض ؛ ذلك لأن الكون كله مُسبِّح لله.
ونأتي بعد ذلك إلى اختيار الله ليوم وقفة عرفات، ولشهر الصوم وغير ذلك من الأوقات، فشهر رمضان يأتي مرة في الصيف، كما يأتي في الشتاء وفي الربيع، وفي الخريف. كذلك الحج يأتي في فصول السنة المختلفة. وهكذا شاء عدل الله أن تكون الأيام المفضلة عنده مُوزَّعة على الزمن كله. وجعل الحق سبحانه وتعالى وحدة الزمن هي اليوم، واليوم يتكون من الليل والنهار، والأيام وحدتها الشهر، والشهور وحدتها العام، وجعل من مهمة الشمس أن تحدد لنا اليوم، ومن مهمة القمر أن يحدد لنا الشهر ؛ فهو في أول الشهر هلال،
٢ عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نُؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم ونجوا جميعا". أخرجه البخاري في صحيحه(٢٦٨٦-٢٤٩٣) واحمد في مسنده (٤/٢٧٠-٢٦٩-٢٦٨) والترمذي في سننه (٢١٧٣) وقال: حسن صحيح، وانظر شرح ابن حجر العسقلاني لهذا الحديث في فتح الباري (٥/٢٩٦-٢٩٥) ففيه كلام قيم جدا..
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٣٧ ) ﴾ :
والنسيء هو التأخير، فكأنهم إذا ما دخلوا في قتال وجاء شهر حرام قالوا : ننقله إلى شهر قادم، واستمروا في قتالهم ؛ وهم بذلك قد أحلّوا الشهر الذي كان محرما وجعلوا الشهر الذي لم تكن له حرمة ؛ شهرا حراما، وهنا يوضح الحق سبحانه أن هذا العمل زيادة في الكفر ؛ لأنه أدخل في المحلل ما ليس منه، وأدخل في المحرم ما ليس منه ؛ لأن الكفر هو عدم الإيمان فإذا بَدّلْتَ وغَيّرْتَ في منهج الإيمان، فهذا زيادة في الكفر.
ثم يقول سبحانه :﴿ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا ﴾ و ﴿ يُضَلُّ ﴾ هنا مبنية للمجهول ؛ ومعنى ذلك أن هناك من يقوم بإضلال الذين كفروا، وهذه مهمة الشيطان، لأن هناك فرقا بين الضلال والإضلال، فالضلال في الذات والنفس، أما الإضلال فيتعدى الغير، فهناك ضال لا يكتفي بضلال نفسه، بل يأتي لغيره ويضله ويغويه على المعصية بأن ينزلها له. ولذلك هناك جزاء على الضلال، وجزاء أشد على الإضلال، فإذا كان هناك إنسان ضال فهو في نفسه غير مؤمن، أي أن ضلاله لم يتجاوز ذاته، ولم ينتقل إلى غيره. ولكن إذا حاول أي يغري غيره بالضلال والمعصية يكون بذلك قد ضلَّ وأضلَّ غيره. ويتخذ بعض المستشرقين هذه القضية مطعنا في القرآن-بلا وعي منهم أو فهم- فيقولون : إن القرآن يقول :﴿ ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى... ( ١٨ ) ﴾ ( فاطر )، ثم يأتي في آية أخرى فيقول :﴿ ولَيحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهمْ... ( ١٣ ) ﴾ ( العنكبوت ).
فكيف يقول القرآن : إن أحدا لا يتحمل إلا وزره، ثم يقول : إن هناك من سيتحمل وزره ووزر غيره ؟.
ونقول لهم : أنتم لم تفهموا المعنى، فالأول : هو الضَّالُّ الذي يرتكب المعاصي ولكنه لم يُغْرِ بها غيره، أي : أنه عصى الله ولم يتجاوز المعصية. أما الثاني : فقد ضلَّ وأضلَّ غيره.. أي : أنه لم يكتف بارتكاب المعصية بل أخذ يغري الناس على معصية الله. وكلما أغرى واحدا على المعصية كان عليه نفس وِزْر مرتكب المعصية.
وهنا يقول الحق :﴿ يُضلّ به الذين كفروا يُحلّونه عاما ويُحرّمونه عاما ﴾ وطبعا التحليل والتحريم هنا حدث منهم لظنهم أن هذه مصلحتهم، أي أنهم أخضعوا الأشهر الحرم لشهواتهم الخاصة، وخرجوا من مرادات الله في كونه، يوم خلق السماوات والأرض.
ولكن لماذا يُحلّونه عاما ويُحرّمونه عاما ؟ تأتي الإجابة من الحق :﴿ لِيُواطِئوا عِدّة ما حرّم الله ﴾ أي : ليوافقوا عذّة ما أحلّ الله حتى يبرروا ويقولوا لأنفسهم : نحن لسنا عاصين، فإن كان الله يريد أربعة أشهر حرم، فنحن قد التزمنا بذلك ! ولكن تشريع الله ليس في العدد فقط ولكن في المعدود أيضا، وقد حدد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشهر الحرم١.
وكان عمر بن لحي أو نعيم بن ثعلبة هما أول٢ من قاما بعملية النسئ هذه، فأحلَّ شهر المحرم، وحرَّم غيره.
وهؤلاء الذين قاموا بهذا العمل كانوا يعرفون أن هناك أربعة أشهر حرم بدليل أنهم أحلوا وحرموا. ولو لم يعرفوها ما أحلوا ولا حرموا، ولكن هم أرادوا أن يُخضعوا تشريع الله لأهوائهم. وهذا هو المغزى من تحليل شهر المحرم وتحريم شهر آخر، وأرادوا بذلك إخضاع مرادات الله لشهوات نفوسهم ؛ لأن المحرم ثابت فيه التحريم، وهو شهر حرام سواء قام الإنسان بتأجيله أم لم يؤجله، فهو شهر حرام بمشيئة الله لا بمشيئة الناس. ولذلك حكم الحق سبحانه على النسئ بأنه زيادة في الكفر ؛ لأنك حين تؤخر حرمة شهر المحرم إلى شهر غيره، تكون قد قُمتَ بعمليتين ؛ أحللت شهرا حراما وهذا كفر، وحرمت شهرا حلالا وهذا كفر آخر.. أي : زيادة في الكفر. ثم يقول الحق سبحانه :﴿ لِيُواطِئوا عِدّة ما حرّم الله ﴾ وقد حكم الله عليهم بالكفر بأنهم أحلوا ما حرمه الله.
ثم يقول الحق :﴿ زُيّن لهم سوءُ أعمالهم ﴾ والتزيين : هو أمر طارئ أو زائد على حقيقة الذات مما يجعله مقبولا عند الناس، فالمرأة مثلا لها جمال طبيعي، ولكنها تتزين بأن تبالغ في إظهار مفاتنها حتى تكون أجمل في عيون الرجال، هذا هو التزيين. إذن : فالتزيين تغيير في المظهر وليس في الجوهر. وهناك تزيين في أشياء كثيرة، تزيين في الفكر مثلا، بأن يكون هناك استعداد للقتال فيأتي القائد فيزين للمقاتلين دخول المعركة، ويقول : أنتم ستنصرون في ساعات، ولن يصاب منكم أحد وسيفرّ عدوكم ؛ هذا تزيين محمود.
ولذلك أراد الحق أن يكشف لنا حقيقة التزيين الذي قاموا به حين حللوا حرمة الأشهر الحُرُم، وكشف لنا سبحانه أن هذا لون من التزيين غير المحمود فقال :﴿ زُيّن لهم سوءُ أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ وما دام قد زُيِّنَ لهم السوء فهذا العمل قد خرج عن منطقة الهداية، وخرج عن نطاق التزيين المحمود إلى التزيين السيئ. وما داموا قد خرجوا عن هداية الله فلن يعينهم الله ؛ لأنه سبحانه لا يعين من كفر، ولا يعين من ظلم، ولا يعين من فسق.
ولذلك قال سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ أي : أنهم بكفرهم قد أخرجوا أنفسهم عن هداية الله، فالحق سبحانه لم يمنع عنهم الهداية، بل هم الذين منعوها عن أنفسهم بأن كفروا فأخرجوا أنفسهم عن مشيئة هداية الله لهم، وهذا ينطبق على هداية المعونة، ونحن نعلم أن لله سبحانه هداية دلالة وهداية معونة ؛ هداية الدلالة هي للمؤمن وللكافر، ويدل الله الجميع على المنهج، ويريهم آياته، وتبلغ الرسل منهج السماء الذي يوضح الطريق إلى رضاء الله والطريق إلى سخطه وعذابه.
فمن آمن بالله دخل في مشيئة هداية المعونة، فيعينه الله في الدنيا ويعطيه الجنة في الآخرة. أما من يرفض هداية الدلالة من الله، فالله لا يعطيه هداية المعونة، لأن الكفر قد سبق من العبد. وكذلك الظلم والفسق، فيكون قد منع نفسه هداية المعونة بارتكابه لتلك الآثام.
ولذلك يقول الحق سبحاه وتعالى :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين( ٣٧ )( التوبة ){ والله لا يهدي القوم الظالمين( ١٩ ) ﴾( التوبة )﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾( التوبة ).
إذن : هم الذين قدَّموا الكفر والظلم والفسوق، فمنعوا عن أنفسهم هداية المعونة التي قال الحق عنها :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم ﴾( محمد : ١٧ ).
٢ اختلف العلماء في تحديد أول من نسأ الشهور على العرب، فكونه عمرو بن لحي هو قول ابن عباس. أما كونه نعيم بن ثعلبة فهو قول الكلبي. وقد قال ابن إسحاق: إنه القَلَمّس وهو حذيفة بن عبد ذكره ابن كثير في تفسيره(٢/٣٥٧) وانظر تفسير القرطبي (٤/٣٠٦٤) والقلمس في اللغة هو: الرجل الداهية. انظر لسان العرب..
﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( ٣٨ ) ﴾ :
وساعة تسمع ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ فهذا نداء خاص بمن آمن بالله ؛ لأن الله لا يكلف من لم يؤمن به شيئا، فلا يوجد حكم من أحكام منهج الله فيه تكليف لكافر أو غير مؤمن. ولكن أحكام المنهج موجهة كلها للمؤمنين. ولذلك ساعة تسمع :﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ تعرف أ الله يخاطب أو يأمر من آمن به، لأنك أنت الذي آمنت باختيارك، ودخلت على الإيمان برغبتك، فالحق سبحانه لم يأخذك إلى الإيمان قهرا، ولكنك جئت للإيمان باختيارك، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لك : ما دُمْتَ قد آمنت بي إلها قادرا قَيّوما، له مطلق صفات الكمال، فاسمع مني ما أريده لحركة حياتك.
ولا يحسب أحد أنه قادر على أن يدخل في الإيمان ولا ينفذ المنهج١، ولا يحسب أحد أنه قادر أن يضر الله شيئا، وسبق أن ضربنا المثل بالمريض الذي يختار أبرع الأطباء، ولم يجبره أحد على أن يذهب إليه، وأجرى الطبيب الكشف على المريض، وحدد الداء وكتب الدواء، ولكن المريض بعد أن خرج من العيادة أمسك بتذكرة الدواء ومزقها، أو أنه اشترى الدواء ولم يتناوله. أيكون بذلك قد عاقب الطبيب أم عاقب نفسه ؟ إن الطبيب لن يتأثر ولن يضره شيء مما فعله هذا المريض، ولكنه هو الذي سيزداد عليه المرض ويقود نفسه إلى الهلاك، وكذلك الإنسان إن لم يتبع منهج الله، فإنه يضع نفسه ويُغرقها في الشقاء، لأن الحق سبحانه قد وضع هذا المنهج وفيه علاج لكل أمراض الإنسان، فإن عمل به الإنسان نجا من بلاء الدنيا، وإذا عمل به مجتمع لن يظهر فيه الشقاء. بل يمتلئ بالرخاء والطمأنينة، ومن لم يعمل به فلن يضر الله شيئا، بل يحصل على الشقاء ويهلك نفسه.
وحين يخاطب الله سبحانه الذين آمنوا يوضح : خذوا مني هذا التكليف ففيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولهذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى لا يذكر أمرا من أوامره بأي تكليف أو نهيا من نواهيه، إلا مسبوقا بقوله سبحانه :﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ مثل قوله تعالى :
﴿ يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام... ( ١٨٣ ) ﴾( البقرة )
وقوله سبحانه :
﴿ يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص... ( ١٧٨ ) ﴾( البقرة ).
وهذه التكليفات لم تأت مبينة للمعلوم، فمن الذين يكتب ؟ إنه الحق سبحانه، كما أنها صيغة مبينة لما لم يُسَمَّ فاعله، أي : أن الكتابة أتت من كثير. ونقول : صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب، فلماذا لم يقل : يأيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم. ولماذا يقول :﴿ { يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام ﴾ ؟. ونقول : لأن الله وإن كان قد كتب، إلا أنه لم يكتبها على كل خلقه، بل كتبها على الذين آمنوا به، وأنت بإيمانك أصبحت ملتزما بعناصر التكليف٢، فكأن الحق سبحانه لم يكتب ثم يلزمك، ولكن التزامك في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في الإيمان. وبذلك تكو كل هذه الأحكام قد كُتبت عليننا باختيار كل منا، فمن لم يَخْتَرْ الإيمان ليس مكتوبا عليه أن ينفذ أحكام الإيمان، لأنها لا تُنفذ إلا بالعقد الإيماني بيننا وبين الحق سبحانه ؛ وقد احترم سبحانه دخولنا في هذا العقد، فلن ينسبه لذاته العلية فقط، بل شمل أيضا كل مَنْ دخل في الإيمان.
ولذلك فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من الله، نقول له : إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي كَلَّف. ثم إن معرفة الحكمة لا تكون إلا من المساوي للمساوى، فإن ذهب المريض إلى الطبيب وكتب له الدواء، وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده ؛ فالطبيب يرفض المناقشة، ويقول للمريض : ادخل كلية الطب واقْضِ فيها سبع سنوات، واحصل على الدرجات العلمية، ثم تَعالَ وناقشني.
إذن : فأنت تربط على التكليف بأمر المكلف، مع أن المكلف من البشر قد يخطئ. أما إذا جئننا بمجموعة من الأطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه ؛ ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون، فكل منهم يقبل مناقشة الآخر، لأنه مُساوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره، لكن إنْ أردت أن تسأل عن الحكمة في تكليف من الله فلن تجد مساويا لله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المناقشة مرفوضة.
إذن : فالمكلف لابد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف، ومنزلة الحق أنك آمنت به، ولهذا أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانيا، فإذا قيل : إن الله فرض الصوم حتى يشعر الغني بألم الجوع ؛ ليعطف على الفقير، نقول : لا، وإلا سقط الصوم عن الفقير ؛ لأنه يعرف ألم الجوع جيدا. وإذا قيل لنا : إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا. نقول : إن هذا غير صحيح، وإلا لما أسقط الله فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالى :
﴿ ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر... ( ١٥٨ ) ﴾( البقرة ).
فإذا كان الله قد أباح للمريض أن يفطر، فكيف يأتي إنسان ويقول : إن علة فرض الصوم هي شفاء الأمراض ؟ كما أن هناك بعض الأمراض لا يُسمح معها بالصوم.
إذن : فنحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم، ومادام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أنه القول صادر من الله سبحانه، ولا شيء غير ذلك فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيمانا، مثلما ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للإنسان ؛ لأن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي يأكلها مع القمامة، ونحن لا نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب، بل نمتنع عن أكله لأن الله قد أمرنا بذلك، ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قلَّلَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم الخنزير ؛ لأننا نأخذ التكليف من الله، وليس من أي مصدر آخر.
ونعود إلى خواطرنا حول الآية الكريمة :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ ﴾، ونجد كلمة :﴿ ما لكم ﴾ تأتي حين نتعجب من حال لا يتفق مع حال، وكأن حرب المؤمنين للكفار أمر متوقع وتقتضيه الحال ؛ لأن المؤمنين حين يقاتلون الكفار إنما يدخلون شيئا من اليقين على أهل الاستقامة، فأهل الاستقامة إن لم يجدوا من يضرب على أيدي الكافرين فقد ينحرف منهم من تراوده نفسه على الانحراف، أما إن وجد من يضرب على أيدي الكفار، فإنه بفعله هذا يربب في المؤمن إيمانه ؛ لأنه يرى عدوه وهو يتلقى النكال. كأن تقول للتلميذ : ما لك تهمل في مذاكرتك وقد قَرُبَ الامتحان ؟ أي : أن المفروض إذا قرب الامتحان لابد أن يجتهد الطالب في المذاكرة. فإن أهمل التلميذ عمله فنحن نتعجب من سلوكه ؛ لأنه لا يتفق مع ما كان يجب أن يحدث. وبذلك نستنكر أن يحدث مثل هذا الإهمال، مثلما نستنكر ونتعجب من مريض يترك الدواء بينما هو يتألم.
ويتعجب الحق سبحانه هنا من تثاقل المؤمنين حين يُدْعَوْنَ إلى القتال ؛ لأن قوة الإيمان تدعو دائما إلى أ يكون هناك استعداد مستمر للقتال، وهذا الاستعداد يخيف الكفار ويمنع عدوانهم واستهتارهم بالمؤمنين أولا، كما أنه ثانيا يجعل المؤمنين قادرين على الرد والردع في أي وقت. ويعطي ثالثا شيئا من اليقين للمجتمع المؤمن عندما يرى أن هناك من يضرب على يد الكافرين إذا استهانوا بمجتمع الإيمان وحاولوا أن يستذلوا المؤمنين.
إذن : فَلِكَيْ يبقى المجتمع المؤمن قويا وآمنا، لابد أن يوجد استعداد دائم للقتال في سبيل الله ورغبة في الشهادة، وهنا يقول الحق :﴿ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ فكأن الاستعداد المستمر للقتال في سبيل الله أمر لابد أن يوجد بالفطرة وبالعقل، فإذا ضَعُفَ هذا الاستعداد أو قلَّ صار هذا الأمر موطنا للتعجب ؛ لأن المؤمنين يعرفون أن مجتمع الكفر يتربص بهم دائما، وعليهم أن يكونوا على استعداد دائم مستمر للمواجهة، ويستنكر الحق أن يتثاقل المؤمنون إذا دُعوا للقتال في سبيل الله أو أن يتكاسلوا.
وقوله سبحانه :﴿ انْفِرُوا ﴾ من " النفرة " وهي الخروج إلى أمر يهيج استقرار الإنسان، فحين يكون الإنسان جالسا في مكانه، قد يأتي أمر يهيجه فيقوم ليفعل ما يتناسب معه الأمر المهيج، فأنت مثلا إذا رأيت إنسانا سيسقط في بئر، فهذا الأمر يهيجك، فتنطلق من مكانك لتجذبه بعيدا، ومنه النُّفْرة التي تحدث بين الأحباب الذين يعيشون في وُدٍّ دائم، وقد يحدث بينهم أمر يُحوّل هذا الود إلى جَفْوة.
إذن : فكلمة ﴿ انْفِرُوا ﴾ تدل على الخروج إلى أمر مهيج، وهو المنطق الطبيعي الذي يجب أن يكون ؛ لأن عمل الكفار يهيج المؤمنين على مواجهتهم. وقول الحق سبحانه :﴿ انْفِرُوا ﴾ يدل على الاستفزاز المستمر من الكفار للمؤمنين. ويقول الحق تعالى :﴿ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ ﴾.
والثقل معناه : أن كتلة الشيء تكون زائدة على قدرة من يحمله، فإن قلت : إن هذا الشيء ثقيل فهذا يعني أن وزنه مثلا أكبر من قوة عضلاتك فلا تستطيع أن تحمله. أما التثاقل فهو عدم موافقة الشيء لطبيعة التكوين. كأن تقول : فلان ثقيل أي وزنه ضخم ولا يستطيع أن يقوم من مكانه إلا بصعوبة، ولا أن يتحرك إلا بمشقة.
ولكن التثاقل معناه تكلف المشقة، أي : لك قدرة على الفعل، ولكنك تتصنع أنك غير قادر، كأن يكون هناك – على سبيل المثال – شيء وزنه رطل، ثم تدَّعي أنه ثقيل عليك ولا تستطيع أن تحمله.
إذن : فقوله تعالى :﴿ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ ﴾ أي : تكلفتم الثقل بدون حقيقة، فأنتم عندكم قدرة على القتال ولكنكم تظاهرتم بأن لا قدرة لكم.
وهكذا نعرف أن الموقف يقتضي النفرة ليواجهوا الكفر، لأن المنهج الذي ارتضوه لأنفسهم والتزموا به يحقق السلامة والأمن والاطمئنان لهم ولغيرهم، وكأن التثاقل إلى الأرض له مقابل، فالنفرة تكون في سبيل الله، والمقابل في سبيل الشيطان أو في سبيل شهوات النفس.
لقد تحدث العلماء في المسائل التي تجعل الإنسان يُقبل على المعصية، وهي النفس التي تُحدّث الإنسان بشيء، فالإنسان يقبل على المعصية بهذين العاملين فقط. فما الفرق بين الاثنين ؟ وكيف يتعرف الإنسان على ذلك ؟ قال العلماء : إذا كانت النفس تُلِحُّ عليك أن تفعل معصية بعينها بحيث إذا صرفتها عنها عادت تُلحُّ عليك لاقتراف المعصية لتحقق متعة عاجلة، فهذا إلحاح من النفس الأمّارة بالسوء.
ولكن الشيطان لا يريد منك ذلك، إنه يريدك مخالفا لمنهج الله على أي لون، فإذا استعصى عليه أن يجذبك إلى المال الحرام، فهو يزين لك شهوة النساء، فإذا فشل جاء من ناحية الخمر. إذن : فهو يريدك عاصيا بأي معصية، ولك النفس تريدك عاصيا بنفس المعصية التي تشتهيها. وهذا هو الفرق.
وهكذا نعرف أن هناك واقعين، واقعا يدعو المؤمنين إلى قتال الكفار الذين يفسدون منهج الله في الأرض، وواقعا يدعوهم إلى أن يتثاقلوا عن هذا القتال، وذلك إما بسبب جب الدنيا لتحقيق شهوة النفس أ
٢ ويتضح هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة..." الحديث أخرجه البخاري في صحيحه(١٤٩٦) ومسلم (١٩). قال ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري (٣/٣٥٩): "قوله:"فإن هم أطاعوا لك بذلك" أي: شهدوا وانقادوا.. واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دُعُوا أولا إلى الإيمان فقط، ثم دُعُوا إلى العمل"..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ إذن : فلا تظنوا أنكم بتباطئكم ؛ وعدم رغبتكم في القتال ستضرون الله شيئا ؛ لأن الله قادر على أن يأتي بخلق جديد، وهو على ذلك قدير، لذلك يقول :﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :
﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( ٣٨ ) ﴾( محمد )، فلا تظنوا أنكم بما معكم من ثراء أو قوة قادرون على عرقلة منهج الله بالبخل أو التخاذل ؛ لأنه سبحانه قادر على أن يستبدلكم بقوم غيركم، يملكون حمية القتال والتضحية في سبيل الله ؛ لأنه القادر فوق كل الخلق.
وقوله سبحانه :﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ هو حيثية للأحكام التي سبقتها من قوله :﴿ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا ﴾ وإن ظن واحد منهم أن هذا كلام نظري، فالحق سبحانه يضرب لهم المثل العلمي من الواقع الذي شاهدوه وعاصروه حينما اجتمع كفار قريش ليقتلوه فنصره الله عليهم، فقال له جل جلاله :
﴿ إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٠ ) ﴾.
وخصص المستشرقون بابا كبيرا للبحث في مجال النحو بالقرآن الكريم، وجاءوا إلى مسألة الشرط والجزاء، ومن يقرأ نقدهم فورا يتعرف على حقيقة واضحة هي جهلهم بعمق أسرار اللغة العربية، فهم قد أخذوا ظاهر اللغة العربية، ولا يملكون فيها مَلَكة أو حُسْن فهم، وقالوا : إن أساليب الشرط في اللغة العربية تقتضي وجود جواب لكل شرط، فإن قلت : إن جاءك زيد فأكرمه، تجد الإكرام يأتي بعد مجيء زيد، وإن قلت : إن تذاكر تنجح، فالنجاح يأتي بعد المذاكرة. إذن : فزمن الجواب متأخر عن زمن الشرط.
وهم قدموا كل تلك المقدمات ليشككونا في القرآن. ونقول لهم : إن كلامكم عن الشرط وجوابه صحيح، ولكن افهموا الزائد، فحين في الأمر نجد أن الجواب سبب في الشرط ؛ لأنك حين تقول : إن تذاكر تنجح، فالطالب إن لم يستحضر امتيازات النجاح فلن يذاكر، بل لابد أن يتصور الطالب في ذهنه امتيازات النجاح ليندفع إلى المذاكرة، إذن : فالجواب سبب دافع في الشرط، ولكن الشرط سبب في الجواب ولكنه سبب واقع، فتصوَّر النجاح أولا هو سبيل لبذل الجهد في تحقيق النجاح، وهكذا تكون الجهة منفكة ؛ لأن هذا سبب دافع، وهذا سبب واقع.
وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ تَنْصُرُوهُ ﴾ فعل مضارع، زمنه هو الزمن الحالي، ولكن الحق يتبع المضارع بفعل ماض هو :﴿ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ فهل يكون الشرط حاضرا أم مستقبلا، والجواب ماضيا ؟ ونقول : إن المعنى : إلا تنصروه فسينصره الله. بدليل أنه قد نصره قبل ذلك. وهذا ليس جواب شرط، وإنما دليل الجواب، فحين يكون دليل الجواب ماضيا، فهو أدل على الوثوق من حدوث الجواب، فحين دعاهم الله لينفروا فتثاقلوا، أوضح لهم سبحانه : أتظنون أن جهادكم هو الذي سينصر محمدا وينصر دعوته ؟ لا ؛ لأنه سبحانه قادر على نصره، والدليل على ذلك أن الله قد نصره من قبل في مواطن كثيرة، وأهم موطن هو النصر في الهجرة، وقد نصره برجل واحد هو أبو بكر على قريش وكل كفار مكة، وكذلك نصره في بدر بجنود لم تروها، إذن : فسابقة النصر من الله لرسوله سابقة ماضية، وعلى ذلك فليست هي الجواب، بل هي دليل الجواب.
ونرى في قوله تعالى :﴿ إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ أن نصر الله له ثلاثة أزمنة، ف﴿ إذْ ﴾ تكررت ثلاث مرات، فسبحانه يقول :﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ أي : أننا أمام ثلاثة أزمنة : زمن الإخراج، وزمن الغار، والزمن الذي قال فيه رسول الله صلى اله عليه وسلم لأبي بكر :﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، وقد جاء النصر في هذه الأزمنة الثلاثة ؛ ساعة الإخراج من مكة، وساعة دخل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار، وساعة حديثه مع أبي بكر.
ولسائل أن يسأل : هل أخرج الكفار رسول الله من مكة، أم أن الله هو الذي أخرجه ؟ ونقول : إن عناد قومه وتآمرهم عليه وتعنُّتهم أمام دعوته، كل ذلك اضطره إلى الخروج، ولكن الحق أراد بهذا الخروج هدفا آخر غير الذي أراده الكفار، فهم أرادوا قتله، وحين خرج ظنوا أن دعوته سوف تختنق بالعزل عن الناس، فأخرجه الله لتنساح الدعوة، وأوضح لهم سبحانه : أنتم تريدون إخراج محمد بتعنتكم معه، وأنا لن أمكنكم من أن تخرجوه مخذولا، وسأخرجه أنا مدعوما بالأنصار. وقالوا : إن الهجرة توأم البعثة. أي : أن البعثة المحمدية جاءت ومعها الهجرة، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخذته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، بعد ما حدث له في غار حراء، قال له ورقة : ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. قال ورقة بن نوفل ذلك لرسول الله قبل أن يثبت من النبوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمُخْرجيَّ هم ؟ قال ورقة بن نوفل : نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عُودي١.
إذن : فالهجرة كانت مقررة مع تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لماذا ؟ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أول من أعن على مسامع سادة قريش رسالة الحق والتوحيد. ففكرة الهجرة مسبقة مع البعثة ؛ ولأن البعثة هي الصيحة التي دوَّت في آذان سادة قريش وهم سادة الجزيرة. ولو صاحها في آذان قوم ليسوا من سادة العرب لقالوا : استضعف قوما فصاح فيهم، ولكن صيحة البلاغ جاءت في آذان سادة الجزيرة العربية كلها، فانطلقوا في تعذيب المسلمين ليقضوا على هذه الدعوة. وشاء الله سبحانه وتعالى ألا ينصره بقريش في مكة ؛ لأن قريشا ألفَتْ السيادة على العرب، فإذا جاء رسول لهداية الناس عامة إلى الإسلام، لقال من أرسلَ فيهم : لقد تعصبتْ له قريش لتسود الدنيا كما سادت الجزيرة العربية. فأراد الحق سبحانه أن يوضح لنا : لا. لقد كانت الصيحة الأولى في آذان سادة العرب، ولا بد أن يكون نصر الإسلام والانسياج الديني لابد من هذه البلدة بل من بلد آخر ؛ حتى لا يقال : إن العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن الإيمان برسالة محمد هو الذي خلق العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويلاحظ في أمر الهجرة أن فعلها " هاجر ". وهذا يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، وإنما هاجر، والمهاجرة مفاعلة من جانبين، فكأن قومه أعنتوه فخرج، والإخراج نفسه فيه نصر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وحده من بيته، الذي أحاط به شباب أقوياء من كل قبائل العرب ليضربوه ضربة رجل واحد، وينثر عليهم التراب فتغشى أبصارهم، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينتظره في الخارج٢ وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أ يثبت لهم أهم لن ينالوا من محمد ؛ لا بتآمر خفي، ولا بتساند علني. وهذا نصر من الله.
ويتابع الحق سبحانه :﴿ إذْ هما في الغار ﴾، ويتأكد في الغار نصر آخر. ذلك أن قصاص الأثر الذي استعانت به قريش واسمه كرز بن علقمة من خزاعة قد تتبع الأثر حتى جاء عند الغار، وقال : هذه قدم محمد وهو أشبه بالموجود في الكعبة، أي أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلام، ثم قال : هذه قدم أبي بكر أو قدم ابنه وما تجاوزا هذا المكان. وكان قصاص الأثر يتعرف على شكل القدم وأثره على الأرض. وأضاف : إنهما ما تجاوزا هذا المكان، إلا أن يكونا قد صعدا إلى السماء أو دخلا في جوف الأرض. وبالرغم من هذا التأكيد فإنهم لم يدخلوا الغار، ولم يفكر أحدهم أن يقلب الحجر أو يفتش عن محمد وصاحبه، مع أن هذا أول ما كان يجب أن يتبادر إلى الذهن، فمادامت الآثار الأقدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله. لكن أحدا لم يلتفت إلى ذلك.
وجاء واحد منهم وأخذ يبول، فجاء بعورته قبالة الغار، وهذا هو السبب في قول أبي يبكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطنة النبوة : لو رأونا ما استقبلونا بعوراتهم٣ وهذا دليل على أن العربي كان يأنف أن تظهر عورته، أو هي كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم ألا يُريه عورة غيره، وليأخذها القارئ كما يأخذها، وهي على كل حال فيض إلهامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك جعل الحق سبحانه العنكبوت ينسج خيوطه على مدخل الغار، وجعل الحمام يبني عُشّا فيه بيض، وجعل سراقة بن مالك يقول : لا يمكن أن يكون محمد وصاحبه دخلا الغار، وإلا لكانا قد حطَّما عُشَّ الحمام، وهتكا نسيج العنكبوت.
ونحن نعلم أن أوهي البيوت هو بيت العنكبوت، فالحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾( العنكبوت : ٤١ ).
ويظهر الإعجاز الإلهي هنا في : أن الله سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين الأقوياء بأوهى البيوت، وهو بيت العنكبوت، وقدرة الله تجلَّتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ، وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور، وإنْ أهيجَ هاج. وهذا نصر، ثم هناك نصر ثالث نفسي وذاتي، فحين قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد في ثقة بربه : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ٤.
هذا الرد لا ينسجم مع سؤال أبي بكر ؛ لأن أبا بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ في الغار، وكان الرد الطبيعي أن يقال : " لن يرونا "، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى اللازم الأعلى فقال : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما "، لأنه مادام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في معية الله، والله لا تدركه الأبصار، فمن في معيته لا تدركه الأبصار.
وتكون كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعوَّد أبو بكر منه الصدق في كل ما يقول، تكون هي الحجة على صدق ما قال، فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه أسري به إلى بيت المقدس وعُرج به إلى السماء، قال أبو بكر : إن كان قد قال فقد صدق٥ فحين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر فيما يحكيه سبحانه :﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾، فلا بد أن يذهب الحزن عن أبي بكر، وقد خشي سيدنا أبو بكر حين دخل الغار ووجد ثقوبا، خشي أن يكون فيها حيات، أو ثعابين، فأخذ يمزق ثوبه ويسد به تلك الثقوب ؛ حتى لم يَبْقَ من الثوب إلا ما يستر العورة، فسدَّ الثقوب الباقية بيده وكعبه٦.
إذن : فأبو بكر يريد أن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ؛ لأنه إن حدث شيء لأبي بكر فهو صحابي، أما إن حدث مكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالدعوة كلها تُهدم. إذن : فأبو بكر لم يحزن عن ضعف إيمان، ولكنه حزن خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصاب بمكروه.
ويأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول :﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ اختلف العلماء٧ في قوله تعالى ﴿ عليه ﴾، هل المقصود بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أو أن المقصود بها أبو بكر ؟ وما دامت السكينة قد نزلت، فلا بد أنها نزلت على قلب أصابه الحزن. ولكن العلماء يقولون : إن الضمائر في الآيات تعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحق قال :﴿ إلاّ تنصروه ﴾ أي محمدا عليه الصلاة والسلام، وسبحانه يقول :﴿ فقد نصره الله ﴾ أي محمدا صلى الله عليه وسلم، ويقول أيضا :﴿ إذْ أخرجه ﴾ أي محمدا صلى الله عليه وسلم، فكل الضمائر في الآية عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يأتي قول الله سبحانه وتعالى :﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ إذن : فلا بد أن يعود الضمير هنا أيضا على رسو
٢ ليس المعنى هنا أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج البيت أو في مكان قريب منه، ولكن المقصود أنه صلى الله عليه وسلم خرج وحده من بيته ليلا واخترق صفوف أربعين قويا قد شهروا سيوفهم لقتله إن هو خرج من بيته وكان وحده، فالثابت في السيرة أن أبا بكر كان في بيته مع أهل بيته وقت الظهيرة وجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم متخفيا وقال له: "إني قد أذن لي في الخروج" فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: نعم. وتواعدا ثم خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. أخرجه البخاري (٣٩٠٥) وأحمد (٦/٢١٢-١٩٨) وأبو نعيم في دلائل النبوة(ص ٢٧٠) وسيرة ابن هشام (٢/٩٧).
٣ قد جاء هذا في أحاديث فيها مقال، فعند الطبراني من حديث أسماء بنت أبي بكر "فقال أبو بكر – لرجل مواجه الغار -، يا رسول الله إنه ليرانا. فقال: كلا إن ملائكة تسترنا بأجنحتها فجلس ذلك الرجل فبال مواجه الغار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان يرانا ما فعل هذا" فيه يعقوب بن حميد وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو حاتم وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. قال الهيثمي في المجمع (٦/٥٤) وعند أبي يعلى الموصلي في مسنده من حديث أبي بكر الصديق قال صلى الله عليه وسلم: "لو رآنا لم يستقبلنا بعورته" وفيه موسى بن مطير وهو متروك. وانظر فتح الباري (٧/١١)..
٤ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٤٦٦٣) ومسلم في صحيحه (٢٣٨١).
٥ سبق هذا الحديث قريبا وقد خرجناه هناك. ومن حديث أبي الدرداء قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر "هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين) إني قلت: يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت" أخرجه البخاري (٤٦٤٠-٣٦٦١) وابن أبي عاصم في السنة (٢/٥٧٦)..
٦ قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئا فحمله فأدخله، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعل يضربه ويلسعنه الحيات والأفاعي" سبق إيراد جزء منه من حديث ضبة بن محصن ص ٥١١٩..
٧ انظر: تفسير القرطبي (٤/٣٠٧٤) وابن كثير (٢/٣٥٨)، وقد رجح القاضي أبو بكر بن العربي أن سكينة الله إنما نزلت على أبي بكر..
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤١ ) ﴾ :
وهكذا يفتح الحق باب الوصول إليه ؛ ليهبّوا إلى نصرة الرسول ويزيل الضباب من أذهانهم، ويفتح لهم باب الوصول إليه لأنهم خلق الله وعياله، فهو سبحانه يريد منهم أن يكونوا جميعا مهديين، وأن يشاركوا في نُصرة الدعوة إليه.
والقتال في سبيل الله قد يكون مشقة في ظاهر الأمر، ولكنه يَهَبُ الدعوة انتشارا واستقرارا. وحين يقوم المسلمون بنصر الدعوة إلى الله، ففي هذا القيام مغفرة وتوبة، وهو رحمة من الله بهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل :
" الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة " ١
ويقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي : " قالت السماء : يا ربي إئذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم، لأنه طَعَمَ خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار : يا رب ائذن لي أن أغرِقَ ابن آدم لأنه طَعِمَ خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض مثلهما ".
فماذا قال الحق سبحانه وتعالى ؟ قال : " دعوني وعبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم " ٢، وهكذا نرى رحمة الله بخلقه.
وبعد أن لام الحق سبحانه المسلمين، لأنهم لم يتحمسوا للجهاد، يفتح أمامهم باب التوبة فقال :﴿ انفروا ﴾ أي : اخرجوا للقتال، وهذا أمر من الله يوقظ به سبحانه الإيمان في قلوب المسلمين، وفي الوقت نفسه يفتح أمامهم باب التوبة لتباطئهم عن الخروج للقتال في غزوة تبوك. ولذلك قال ﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ والنفرة : هي الخروج إلى شيء بمهيج عليه، والمثال هو التباعد بين إنسان وصديق له كان بينهما وُدّ، ثم حدث من هذا الصديق سلوك أو قول يُهيج على الخروج عليه، فينفر منه الإنسان. والحق سبحانه هنا يأمر :﴿ انفروا ﴾ والذي يهيج على النفور هو رفعة دين الله وكلمته، وحين ترفعون كلمة الله إنما يفتح لكم باب الارتفاع بها فقال :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾. والخفيف : هو الصحيح السليم القوي الذي لا تتعبه ولا ترهقه الحركة. والثقيل : هو المريض أو كبير السن.
والله يريد من الجميع أن يسارعوا إلى القتال، لينجوا من العذاب الأليم، وينالوا توبته ورضاه.
ولكن الصحيح خفيف الحركة يمكنه أن يقاتل، فماذا يفعل المريض ؟ يفعل مثلما فعل سيدنا سعيد بن المسيّب وكان مريضا، إذ قالوا له : إن الله أعفاك من الخروج إلى المعركة في قوله تعالى :
﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ﴾( الفتح : ١٧ )، فقال : والله أكَثِّرُ سواد المسلمين وأحرس متاعهم٣ ومن الممكن أن يكون المريض متميزا بالذكاء وصحة العقل، ويمكن أن يُستشار في مسألة ما. وقد يكون المريض أسْوة في قومه، فإذا خرج للقتال هاج قومه وخرجوا معه، ويمكن أن يكون المريض أو الضعيف حافزا للأقوياء على القتال. فحين يرى الأقوياء المريض وهو يخرج للقتال، فإنهم يخجلون أن يتخلفوا هم.
واختلف العلماء٤ في تفسير قوله تعالى :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ فبعضهم قال : إن هذه إشارة إلى ذات الإنسان، فهناك ذات خفيفة وذات ثقيلة في الوزن لا تستطيع الحركة بسهولة، وقال آخرون : إن الفرد الواحد يمكن أن يكون فيه الوضعان، وقوله تعالى :﴿ انفروا ﴾ هو أمر للجماعة، و ﴿ خفافا ﴾ جمع " خفيف "، و ﴿ ثقالا ﴾ جمع " ثقيل "، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة إلى آحاد.
والمعنى : أن ينفر كل واحد من المسلمين سواء كان خفيفا أم ثقيلا. وسبق أن ضربنا المثل حينما يدخل الأستاذ على الطلبة ويقول : أخرجوا كتبكم، ومعنى هذا الأمر أن يُخرج كل تلميذ كتابه، وإن قلت : اركبوا سياراتكم، فمعنى ذلك أن يركب كل واحد منكم سيارته.
إذن فالآية تعني : لينفر كل واحد منكم سواء كان ثقيلا أو خفيفا.
ولكن : كيف يكون الإنسان ثقيلا وخفيفا في وقت واحد ؟ نقول : يكون خفيفا أي : ذا نشاط للجهاد، وثقيلا أي : أنه سيدخل في مشقَّة تجعل المهمة ثقيلة على نفسه. والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ كُتب عليكم القتال وهو كُره لكم ﴾( البقرة : ٢١٦ )والدخول فيما هو مكروه٥ في سبيل الله أمر يرفع درجات الإيمان.
إذن : فالآية تحتمل أكثر من معنى، فهي تحمل المعنى العام : أن يكون البعض خفيفا ثقيلا في ذاته، أو : أن يجمع القتال بين الخفة في الحركة والثقل في المشقة، أو : أن يكون الذي يملك دابة هو الخفيف ؛ لأن الدابة تزيل المشقة وأسرع في الطريق، والثقيل هو من يجاهد ماشيا، لأنه سيتحمل طول المسافة. وساعة يشحن الحق سبحانه وتعالى قلوب المؤمنين، فهو يطلب منهم ما يكلفهم به بقوة، ثم تتجلى رحمته فيخفف التكليف. ولو جاء الحكم خفيفا في أول التشريع، ثم يُصعَّد ؛ فإن هذا الأمر يكون صعبا على النفس، ولكن عندما يأتي الحكم ثقيلا، ثم يخفف يكون أقرب إلى النفس، والمثال في قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾( الأنفال : ٦٥ )
وهنا يعطي الحق مقياسا لقدرة المؤمن بالنسبة للكافر. فالعشرون يغلبون مائتين، أي : أن النسبة هي واحد من المؤمنين إلى عشرة من الكافرين، ولذلك فعندما نزلت هذه الآية كان على المؤمن الواحد أن يقتل عشرة من الكافرين، لكن الحق سبحانه وتعالى قد علم أن هذا الأمر شديد على نفوس المؤمنين بأن يواجه المؤمن الواحد عشرة من الكفار، فإنه لا يقدر على ذلك إلا أولوا العزم، فقال سبحانه :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾( الأنفال : ٦٦ )وما دام هناك ضعف فلابد أن يُخفف الأمر بالنسبة للمؤمنين في مواجهة الكفار أثناء القتال. ونقل الحق سبحانه وتعالى النسبة من : واحد إلى عشرة، إلى : واحد من اثنين، فقال سبحانه وتعالى :
﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ٦٦ ) ﴾( الأنفال ).
لذلك : مَنْ فَرَّ من قتال اثنين يكون قد فرَّ من الزحف ؛ ولكن إن فرّ من مواجهة ثلاثة لا يُحسب فارّا٦ ؛ لأنهم أكثر من النسبة التي قررها الله. وقول للحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ هو أمر يشمل الجميع على اختلاف أشكالهم، أي : أنها تحمل أمرا عاما لكافة المسلمين٧. ولك هناك قول آخر في سورة التوبة، أعفى بعض حالات معينة من المؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم لله، فيقول سبحانه :
﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ( ٩٢ ) ﴾( التوبة )أي : ليس على هؤلاء الذين جاءت الآيتان الكريمتان٨ بذكرهم أيُّ حرج في أن يقعدوا عن القتال. وكان هذا هو الاستثناء من القاعدة العامة التي فرضت على كل مؤمن أن يقاتل في سبيل الله، وهو ما جاءت به الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ والمال هو الذي يجعلك تُعِدُّ السلاح للحرب، وحين يذهب الجيش إلى القتال لابد أن يكون مُزوّدا بالسلاح، وبالمركبات وهي مثل الخيل على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضا لابد من الزاد الذي يكفي لأيام القتال، لذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بذكر المال أولا، ثم بعد ذلك ذكر الأنفس والأرواح، ومن يملك القوة والمال فعليه أن يجاهد بهما، ومن يملك عنصرا من الاثنين، القوة أو المال، فعليه أن يجاهد به. فإن كان ضعيفا فعليه أن يعين بماله القوي القادر على القتال بأن يوفر له الأسلحة والخيول والدروع وغير ذلك من وسائل القتال.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَجَاهِدُوا ﴾، و " جاهد " و " قاتل " مبنية على المفاعلة، بمعنى : إن قاتلك واحد من الكفار، فلابد أن تبذل كل جهدك في قتاله، و " جاهد " مثل " شارك "، فهل تقول : شارك زيد ثم تسكت، أم تقول : شارك زيد عَمْرا ؟ إذن : فهناك مفاعلة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٢٠٠ ) ﴾ ( آل عمران ).
وهذا القول هو أمر بالصبر على القتال. ولكن هَبْ أن عدوك صبر مثلك، هنا يأتي أمر آخر من الحق سبحانه وتعالى :﴿ صَابِرُوا ﴾ أي : اغلبه في الصبر بأن تصبر أكثر منه. وكذلك ﴿ جاهدوا ﴾ أي : اغلبوهم في الجهاد، بأن تجاهدوا أكثر منهم.
ونعود إلى قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾ وسبيل الله هو : الطريق الموصل إلى الغاية التي هي رضا الله والجنة. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ذلكم خير لكم ﴾، و " ذا " اسم إشارة ويشير إلى المفرد المستفاد من قوله تعالى :﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ﴾ إذن : ف " ذا " تشير إلى الجهاد بالمال والنفس، و ﴿ لكم ﴾ تشير للخطاب ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يخاطب جماعة.
وبعض من لا يفهم اللغة يقول :﴿ ذلكم ﴾ كلمة واحدة خطابا أو إشارة، ونقول لهم : لا، بل هي كلمتان ؛ إشارة وخطاب. والإشارة هنا لشيء واحد، والخطاب لجماعة. ومثال هذا أيضا قول الحق سبحانه على لسان امرأة العزيز في قصة يوسف عندما جمعت امرأة العزيز النسوة، وأخرجت يوسف عليهن، وصارت هناك جماعة من النسوة، وهناك يوسف -أيضا- :
﴿ فذلكنّ الذي لمتنّني فيه ﴾( يوسف : ٣٢ )
و " ذا " المقصود بها يوسف، و " لكُنَّ " هن : النسوة المخاطَبات.
ومثال آخر أيضا هو قول الحق سبحانه :
﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾( القصص : ٣٢ )
و " ذان " إشارة لاثنين، وهما معجزتان من معجزات موسى عليه السلام ؛ العصا واليد البيضاء، وحرف الكاف للمخاطب وهو موسى عليه السلام.
إذن : فقول الحق :﴿ ذلكم ﴾ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها مكون من كلمتين : الإشارة لواحد والخطاب لجماعة.
وقوله تعالى :﴿ ذلكم خير ﴾.. عن أي خير يتحدث سبحانه ؟.
إن نفرتم وجاهدتم بأموالكم وأنفسكم فهو خير، ولابد أن يكون خيرا من مقابل له. والمقابل له هو القعود عن الجهاد بأموالكم وأنفسكم.
إذن : فالجهاد خير من القعود.
وكلمة ﴿ خير ﴾ تستعمل في اللغة استعمالين ؛ الاستعمال الأول أن يراد بها الخير العام، كقوله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
٢ أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (٤/٥٢) من قول بعض السلف ولفظه: " ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن يخسف به، واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفا، فيقول الله تعالى للأرض والسماء: كُفّا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لنم تخلقاه، ولو خلقتماه لرحمتماه، ولعله يتوب إليّ فأغفر له، ولعله يستبدل صالحا فأبدله له حسنات"..
٣ قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثَّرت السواد وحفظت المتاع. ذكره القرطبي في تفسيره(٤/٣٠٧٦) وتكثير السواد: تكثير أعدادهم..
٤ اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على عشرة أقوال. ذكرها القرطبي في تفسيره (٤/٣٠٧٥) ثم قال: والصحيح في معنى الآية أن الناس أُمروا جملة، أي: انفروا خفَّت عليكم الحركة أو ثقلت..
٥ قال القرطبي في تفسيره (١/٩٥٢): "إنما كان الجهاد كرها؛ لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى".
٦ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (١١١٥١) مرفوعا من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه. قال الهيثمي في المجمع (٥/٣٢٨): "رجاله ثقات" وقد أخرجه سعيد بن منصور في سننه (٢٥٣٨) موقوفا على ابن عباس من طريق ابن أبي نجيح عن عطاء عنه..
٧ قال القرطبي (٤/٣٠٧٧): "وذلك إذا تعيَّن الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعقر، فإذا كا ذلك وجب جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا، شبابا وشيوخا، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مُكثِّر"..
٨ قيل: إن آية {انفروا خفافا وثقالا﴾ منسوخة بهاتين الآيتين، وقيل: الناسخ لها قوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(التوبة: ١٢٢) قال القرطبي (٤/٣٠٧٦): "والصحيح أنها ليست بمنسوخة" قلت: فالجهاد أحوال حسب ظروف المعركة، فمنها ما يتوجب فيها القتال على كل أحدكما بيَّنا ويكون الجهاد حينئذ فرض عين، ومنها ما لا يتوجب فيها القتال فيكون فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين وذلك إذا كان العدو خارج الحدود ولم يغز البلاد ويحتلها..
﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) ﴾ :
والعَرَضُ هو ما يقابل الجوهر، والجوهر هو ما لا تطرأ عليه أغيار، فالصحة عَرَض والمرض عرض ؛ لأن كليهما لا يدوم، إذن فكل ما يتغير يسمى عَرَضا يزول. ويقال : الدنيا عَرَض حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر١.
إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ﴾ أي : لو كان أمرا من متاع سهل التناول، ومحببا للنفس ؛ وليس فيه مشقة السفر والتضحية بالمال والنفس ؛ لأسرعوا إليه. ﴿ وَسَفَرًا قَاصِدًا ﴾، والقاصد هو المقتصد الذي في الوسط ؛ وبعض الناس يسرف في الكسل، فلا يستنبط الخير من السعي في الأرض ومما خلق الله، وبعض الناس يسرف في حركة الدنيا ويركض كركض الوحوش في البرية، ولا يكون له إلا ما قسمه الله. وأمزجة الناس تترواح ما بين الإسراف والتقتير، أما المؤمن فعليه أن يكون من الأمة المقتصدة. والحق هو القائل :
﴿ منهم أمة مقتصدة ﴾ ( المائدة : ٦٦ )لأن المؤمن لا يأخذه الكسل فيفقد خير الدنيا، ولا يأخذه الإسراف فينسى الإيمان. إذن : فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لو كأنه هناك متاع من متاع الدنيا أو سفر بلا مشقة ولا تعب لاتبعوك، فهم لم يتبعوك ؛ لأنه ليست هناك مغانم دنيوية ؛ لأن هناك مشقة، فالرحلة إلى تبوك، ومقاتلة الروم، وهم أصحاب الدولة المتحضرة التي تخضع رأسها برأس دولة الفرس، وهذه أيضا مشقة، والعام عُسْر والحر شديد، ولو أن الأمر سهل مُيسَّر لاتبعوك.
ويتابع سبحانه :﴿ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ﴾ أي : أن المشقة طويلة، ثم يقول :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ هم إذن لم يتبعوك ؛ لأن المسألة ليست عرضا قريبا ولا سفرا سهلا، بل هي رحلة فيها أهوال، وتضحيات بالمال والنفس، وحين تعود من القتال سوف يحلفون لك ؛ أنهم لو استطاعوا لخرجوا معكم للقتال.
وقد قال الحق ذلك قبل أن يأتي أوان الحلف، وهذه من علامات النبوة، لكي يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين مِنْ صادقي الإيمان. وسبحانه وتعالى يفضح غباء المنفقين ؛ لذلك قال :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ﴾ واستخدام حرف السين هنا يعني أنهم لم يكونوا قد قالوها بعد، ولكنهم سيقولونها في المستقبل، ولو أنهم تنبهوا إلى ذلك لامتنعوا عن الحلف. ولقالوا : إن القرآن قال سنحلف. ولكن الله أعماهم فحلفوا، وهكذا يأتي خصوم الإسلام ليشهدوا – رغم أنوفهم – للإسلام. ومثال آخر على نفس الأمر ؛ عندما حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة ؛ قال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ( البقرة : ١٤٢ ).
وقوله هنا ﴿ سيقول ﴾ معناها أنهم لم يقولوا بعد، وإلا ما استخدم فيها حرف السين. وهذه الآية نزلت في قرآن يتلى ولا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.. ورغم أنه كان في استطاعتهم ألا يقولوا ذلك القول، ولو فعلوا لساهموا في التشكيك بمصداقية القرآن، ولهدموا قضية الدين التي يتمنون هدمها، ولكنهم مع ذلك قالوا :﴿ ما ولاّهم عن قبلتهم ﴾ وجاءوا مثبتين ومصدقين للقرآن.
وفي هذه الأيام نجد شيئا عجيبا ؛ نجد من يقول : أنا لا أتبع إلا ما جاء في القرآن، أما السنة فلستُ مطالبا بالالتزام بها. ونقول لمن يردد هذا الكلام : كم عدد ركعات الصبح وركعات الظهر والعصر والمغرب والعشاء ؟ وسوف يرد قائل : صلاة الصبح ركعتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع. ونقول : من أين أتيت بهذا ؟ يقول : من السنة.
نقول : إذن فلابد من اتباع السنة حتى تستطيع أن تصلي، ولن تفهم التطبيق العملي لكثير من الأحكام إلا باتباع السنة.
ويجبر الحق سبحانه هذا الذي يحارب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعو إلى عدم الالتزام به ؛ يجبره سبحانه على الاعتراف بضرورة اتباع السنة، وبهذا يصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يوشك الرجل يتكئ على أريكته يُحدّث بحديثي، فيقول : بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما كان فيه حراما حرّمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله " ٢
وقد قالوا ذلك القول طَعْنا في الكتاب، ولكنهم من حيث لا يدرون أكدوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لم يمتلكوا الذكاء ؛ لأن الذكاء الذي لا يهدي للإيمان هو لون من الغباء وعَمى البصيرة، وكذلك كان حال من حلفوا بعدم استطاعتهم الخروج للقتال ؛ فقد سبقهم قول الله :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ وجاءوا من بعد ذلك وحلفوا ؛ ليؤكدوا صدق القرآن. وهم في حلفهم يدّعون عدم استطاعتهم للقتال، مع أن لديهم المال والقدرة.
ويقول الحق عنهم :﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ وما داموا قد حلفوا بالله كذبا، فقد أدخلوا أنفسهم في الهلاك، فهم لم يكتفوا بعدم الجهاد ؛ بل كذبوا وفضح الله كذبهم.
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٤/١٣٢) والترمذي (٢٦٦٤) وابن ماجه (١٢) والدارقطني(٤/٢٨٦) في سننهم من طريق الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب. قال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه. واللفظ للدارقطني..
﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) ﴾ :
وكلمة ﴿ عفا ﴾ تدل على أن هناك أثرا قد مُحي، تماما كما يمشي إنسان في الرمال، فتُحدث أقدامه أثرا، ثم تأتي الريح فتملأ مناطق هذا الأثر بالرمال وتزيله. وهي تُطلق في الدين على محو الله سبحانه وتعالى لذنوب عباده فلا يعاقبهم عليها. وما دام الإنسان قد استغفر من ذنبه وقال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه١، فلا يجب أن يحرجه أحد بعد ذلك، ولا أن يعايره أحد، فقد استغفر عند من يملك الملك كله، وهو وحده سبحانه الذي يملك العفو والمغفرة٢، فلا يُدخلنّ أحدكم نفسه في هذه المسألة، ولا يجب أن يحرج إنسان مذنبا مادام قد استغفر مَنْ يملك العفو، ومن يسمع مستغفرا عليه يقول : عفا الله عنك. ولا أحد يعرف إن كان الله قد عفا عنه أم لا، فَلْتُعِنْهُ بالدعاء له، ومن يعاير مذنبا نقول له : تأدب، لأنه لم يرتكب الذنب عندك، ولكنه ارتكبه عند ربه، وإذا كان من يستغفر من ذنبه لا يُحرج به بين الناس، فما بالنا بعفو الله سبحانه القادر وحده على العفو.
وهنا يقدم الحق سبحانه العفو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أذن لهم بالقعود عن القتال، ثم يأتي القرآن بعد ذلك ليؤكد أن ما فعله رسول الله بالإذن لهم بالقعود كان صوابا، فيقول في موضع آخر من نفس السورة :
﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾( التوبة : ٤٧ ).
إذن : فلو أنهم خرجوا لكانوا سببا في الهزيمة، لا من أسباب النصر. وصوَّبَ الحق عمل الرسول، وهو صلى الله عليه وسلم له العصمة.
وهنا نحن أمام عفو من عفو الله، على الرغم من عدم وجود ذنب يُعفى عنه، وهنا أيضا إذن من الرسول لهم بالقعود، ونزل القرآن ليؤكد صوابه.
وهناك من فهم قول الحق :﴿ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ على أنها استفهام استنكاري، وكأن الحق يقول : كيف أَذِنْتَ لهم بالعفو ؟.
إذن : فرسول الله بين أمرين : بين عفو لا يُذكر بعده ذنب، واستفهام يفيد عند البعض الإنكار.
ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى أيَّد رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :
﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾( التوبة : ٤٧ )، فكأن الرسول قد هُدي إلى الأمر بفطرته الإيمانية، وقد أشار القرآن إلى ذلك، ليوضح لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم وفطرته سليمة، وكان عليه أن يقدم البيان العقلي للناس، لأنه الأسوة حتى لا يأتي من بعده واحد من عامة الناس ليفتي في مسألة دينية ويقول : أنا رأيت بفطرتي كذا، بل لابد أن يتبين الإنسان ما جاء في القرآن الكريم والسنة قبل أن يفتي في أمر من أمور الدين.
وعلى سبيل المثال : اختلف الأمر بين المسلمين في مسألة الفداء لأسرى بدر٣ ونزل القول الحق :﴿ لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٦٨ ) ﴾( الأنفال )وأيَّد الله حكم رسوله وأبقاه. إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم هُدي إلى الأمر بفطرته الإيمانية، ولكن هذا الحق لا يباح لغير معصوم.
وقد أباح الله سبحانه الاستئذان في قوله :
﴿ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾( النور : ٦٢ ).
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ وهكذا يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم بالمقدمات والبحث والفطرة، ورأى أن الإذن لهؤلاء المتخلفين هو أمر يوافق مراد الحق سبحانه ؛ لأنهم لو خرجوا مع جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالا٤، لعدم توافر النية الصادقة في الجهاد ؛ لذلك ثبطهم٥ الله، وأضعف عزيمتهم حتى لا يخرجوا. والعفو هنا جاء في شكلية الموضوع، حيث كان يجب التبيُّن قبل الإذن، فيقول الحق سبحانه :
﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ أي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يأذن لهم لكانوا قد انكشفوا، ولكن إذنه لهم أعطاهم ستارا يسترون به نفاقهم، فهم قد عقدوا النية على ألا يخرجوا، ولو فعلوا ذلك لافتُضِحَ أمرهم للمسلمين جميعا، فشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسترهم٦.
٢ فهذا شأن الرب الغفور القائل سبحانه ﴿ومَن يغفر الذنوب إلا الله﴾ (آل عمران: ١٣٥)، أما شأن الناس فقد قال الله عنهم ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (١٠٠)﴾ (الإسراء: ١٠٠)، فهم بالإضافة لتصيدهم لأخطاء الناس، لو كانت الرحمة بأيديهم وكلفوا إعطاء الناس منها لبخلوا بها..
٣ أخرجه مسلم في صحيحه (١٧٦٣) وأحمد في مسنده (١/٣١-٣٠) من حديث عمر بن الخطاب من حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟". فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال:.. أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم.. فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها" وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر وأخذوا الفداء، ولكن نزل وحي الله ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ (الأنفال: ٦٧).
٤ الخبال: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف (الأكاذيب)..
٥ التثبيط: التخذيل وإضعاف العزيمة على الخروج..
٦ قال قتادة وعمر بن ميمون: ثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه، ولم يكن له أن يمضي شيئا بوحي، وأخذه من الأسارى الفدية، فعاتبه الله..
﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) ﴾ :
ويلفتنا سبحانه : أن الذين طلبوا ذلك الإذن بالقعود فضحوا أنفسهم، فقد استأذنوا بعد مجيء الأمر من الله ﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾، وكل مؤمن بالله واليوم الآخر – في تلك الظروف – لا يمكن أن يتخلف عن الجهاد في سبيل الله. والمؤمن الحق لن يقدم الأعذار ليتخلف، حتى وإن كانت عنده أعذار حقيقية، بل سيحاول إخفاءها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج معه مجاهدا بل إنه يسرع إلى الجهاد، حتى ولو كان الله قد أعطاه رخصة بعدم الجهاد.
وهذه الآية – إذن – تحمل التوبيخ للذين استأذنوا، بل وتحمل أكثر من ذلك، فالمؤمن إذا دُعي للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمر من الله لا يكون تفكيره كالشخص العادي ؛ لأن الإنسان في الأمور العادية إذا طُلب منه شيء أدار عقله وفكره ؛ هل يفعله أو لا يفعله ؟ ولكن المؤمن إذا دُعي للجهاد في سبيل الله، ومع رسول الله، لا يدور في عقله الجواب، ولا تأتي كلمة " لا " على خاطره أبدا، بل ينطلق في طريقه إلى الجهاد.
وكيف يكون الأمر بالخروج إلى القتال صادرا من الله، ثم يتحجج هؤلاء بالاستئذان بعدم الخروج ؟.
إذن : فمجرد الاستئذان دليل على اهتزاز الإيمان في قلوبهم ؛ لأن الواحد منهم في هذه الحالة قد أدار المسألة في عقله، يخرج للجهاد أو لا يخرج، ثم اتخذ قرارا بالتخلف. والغريب، هؤلاء استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم الخروج، مع أن أمر الجهاد صادر من الله سبحانه وتعالى، ولم تكن المسألة تحتاج إلى أن يأذن لهم الرسول بالتخلف. إلا أنهم كانوا يبحثون عن عذر يحتمون به.
والمثال من حياتنا اليومية أننا نجد أولاد البلد يسخرون من البخيل الذي لا يكرم ضيفه ويدَّعي أنه سيكرمه، فتجده ينادي ابنه ويقول له أمام الضيف : انزل إلى السوق وابحث لنا عن خروف نذبحه للضيف ولا تتأخر فنحن منتظرون عودتك.. وما إن يقول الضيف أدبا منه : لا. تجد البخيل يصرف ابنه. ويتخذ من رفض الضيف حجة لعدم إكرامه، وكأنه يريد ذلك، ولكن الواقع يقول : إنه لا يريده من أول الأمر.
ونعلم جميعا أن الإنسان لا يستأذن في إكرام ضيوفه. والمثال : هو إبراهيم عليه السلام عندما جاءته الملائكة في هيئة رجال، وأراد أن يكرمهم فلم يستأذنهم في أن يذبح لهم عجلا، بل جاء به إليهم مذبوحا ومشويا١، هذا سلوك مَنْ أراد إكرام الضيف بذبيحة فعلا، أما مَنْ يريد أن يبحث عن العذر، فهو يتخذ أساليب مختلفة يتظاهر فيها بالتنفيذ، بينما هو في حقيقته لا يريد أن يفعل، مثلما يقال لضيف : أتشرب القهوة أم أنت لا تحبها ؟ أو يقال له : هل تريد تناول العشاء أم تحب أن تنام خفيفا ؟ أو يقال : هل تحب أن تنام عندنا أم تنام في الفندق، وهو أكثر راحة لك ؟.
وما دام هناك من سأل الرسول : أأخرج معك للقتال أم أقعد، فهذا السؤال يدل على التردد، والإيمان يفترض يقينا ثابتا ؛ لأن التردد يعني الشك، وهو الذهاب والرجوع على التوالي، وهو يعني أن صاحب السؤال متردد ؛ لأن طرفي الحكم عنده سواء.
إذن : فالمؤمنون بالله لا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دُعوا إلى الجهاد ؛ لأن مجرد الاستئذان في الخروج إلى الجهاد لا يليق بمؤمن.
وقوله تعالى :﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ أي : أن الله يعلم ما في صدورهم من تقوى، فهم إنْ خدعوا الناس، فلن يستطيعوا خداع الله ؛ لأنه مُطَّلع على ما تُخفي الصدور.
﴿ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ( ٤٥ ) ﴾.
وهكذا أصدر الله حكمه فيمن أقدموا على الاستئذان، فما دام الإنسان قد تردد بين أن يخرج للجهاد أو لا يخرج، فهذا يكشف عن اهتزاز إيمانه، وهذا الاهتزاز يعني وجود شك في نفسه، فيما أعد الله له في الآخرة ؛ لأنه كان واثقا في داخله يقينا أنه سيدخل الجنة بلا حساب إن استشهد، ما تردد ثانية واحدة، ولا أدار الأمر في رأسه هل يذهب أو لا يذهب ؟ فما دامت الجنة هي الغاية، فأيّ طريق موصل إليها يكون هو الطريق الذي يتبعه من في قلبه يقين الإيمان، وكلما كان الطريق أقصر كان ذلك أدعى على فرح الإنسان المؤمن ؛ لأنه يريد أن ينتقل من شقاء الدنيا إلى نعيم الآخرة، حتى ولو كان يحيا في نعيم في الدنيا، فهو يعرف أنه نعيم زائل وهو لا يريد هذا النعيم الزائل، بل يريد النعيم الباقي الذي لا يزول.
والتردد والاستئذان هنا معناهما : أن الشك قد دخل في قلب الإنسان، ومعنى الشك-كما نعلم- هو وجود أمرين متساويين في نفسك لا يرجح أحدهما حتى تتبعه. والنسب الكلامية والقضايا العقلية تدور بين أشياء متعددة، فأنت حين تجزم بحكم فلا بد أن يكون له واقع يؤيده ؛ لأنكر إن جزمت بشيء لا واقع له فهذا جهل، والجهل-كما نعلم- أن تعتقد أن شيئا ما هو حقيقة، وهو غير ذلك ولا واقع له. فإذا أنت على سبيل المثال قلت : إن الأرض مبسوطة، ثم جاءوا لك بصورة الأرض كروية وأصررت على أنها مبسوطة، فهذا جهل وإصرار عليه. وفرق بين الجاهل والأمي، فالأمي الذي لم يكن يعرف أن الأرض كروية، ثم علم حقيقة العلم وصدقها فهو متى عرف الواقع صدقه وآمن به. ولكن الجاهل يؤمن بما يخالف الواقع. فإن جئت له بالحقيقة أخذ يجادل فيها مصرا على رأيه. ولذلك نجد مصيبة الدنيا كلها ليست في الأميين، ولكن من الجهلة لأن الأمي يحتاج إلى مجهود فكري واحد، أن تنقل له المعلومة فيصدقها، أما الجاهل فإقناعه يقتضي مجهودين : الجهد الأول : أن تخرج ما في عقله من معلومات خاطئة، وأوهام ليست موجودة في الواقع، والجهد الثاني : أن تقنعه بالحقيقة.
وإذا كان هناك واقع في الحياة تستطيع أن تدلل عليه فهذا هو العلم. فإن لم تستطع التدليل عليه فهذا هو التلقين، والمثال : أننا حين نلقن الطفل الصغير أن الله أحد، وهو لم يبلغ السن التي تستطيع عقليا أن تدلل له فيها على ذلك. ولكنك قلت له : إن الله أحد، وجزم بها الطفل، وهذه حقيقة واقعة، ولكنه لا يستطيع أن يدلل عليها. وهو في هذه الحالة يقلد أباه أو أمه أو من لقنه هذا الكلام حتى ينضج عقله ويستطيع أن يدلل على ما اعتقده في صغره بالتلقين.
إذن : فالعلم يقتضي أن تؤمن بقضية واقعة عليها دليل، ولكن إن كنت لم تصل إلى مرحلة الجزم ؛ تكون في ذهنك نسبتان ؛ وليست نسبة واحدة. فإن لم ترجح نسبة على الأخرى، فهذا هو الشك. وإن ظننت أنت أن أحدهما راجحة فهذا هو الظن، فإن أخذت بالنسبة الراجحة فهذا هو الوهم.
الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ﴾ ولو استقر في قلوبهم الإيمان اليقيني بالله وباليوم الآخر، وأن مردهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم سوف يحاسبون على ما قدموا، واعتبروا أن تضحيتهم بالمال والنفس عمل قليل بالنسبة للجزاء الكبير الذي ينتظرهم في الآخرة، لو كان الأمر كذلك لما استأذنوا، ولكن ما دام الشك قد دخل قلوبهم فمعنى هذا أن هناك ريبة في أمر ملاقاة الله في اليوم الآخر. وهل هذا الأمر حقيقة يقينية ؟ ولأنهم يرتابون في هذه المسألة فهل يضحون بأموالهم وأنفسهم من أجل لا شيء، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى :﴿ وارتابت قلوبهم ﴾.
إذن : فالارتياب محله القلب، والعلم أيضا محله القلب، ويمر كل من الارتياب والعلم على العقل ؛ لأن العقل هو الذي يصفّى مثل تلك المسائل بعد أن يستقبل المحسّات ويناقش المقدمات والنتائج، فإن صفّى العقل هذه الأمور واستقر على الإيمان، هنا يصبح الإيمان قضية يقينية ثابتة مستقرة في القلب، ولا تطفوا مرة أخرى إلى العقل لتناقش من جديد، ولذلك سمّوها عقيدة، أي عقدت الشيء حتى يستقر في مكانه ولا يتزحزح.
إن الطفل-مثلا- إن قرّب يده إلى شيء مشتعل فأحس بلسعة النار. هنا يعرف أن النار محرقة ولا يحاول تكرار نفس التجربة، ولا يناقشها في عقله ليقول : لن تلسعني النار في هذه المرة، بل تستقر في ذهنه المسألة، وتنتقل من قضية حسية إلى قضية عقدية لا تخضع للتجربة من جديد ولا يحتاج فيها إلى دليل.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وارتابت قلوبهم ﴾، وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾والقلب هو محل القضايا التي انتهت من مرحلة التفكير العقلي، وصارت قضايا ثابتة لا يبحثها العقل من جديد.
وقوله هنا ﴿ وارتابت قلوبهم ﴾ معناه : أن الإيمان عندهم لم يصل إلى المرتبة التي لا يطفوا فيها مرة أخرى للتفكير العقلي.. أيؤمن أو لا ؟، أي : لم يصل إلى مرتبة اليقين، بل مازال في مرحلة الشك الذي يعيد القضايا من القلب إلى العقل لمناقشتها من جديد، ولذلك يصفهم الحق سبحانه وصفا دقيقا فيقول :﴿ فهم في ريبهم يترددون ﴾ أي : أن الإيمان عندهم يتردد بين العقل والقلب، فينزل إلى القلب ثم يطفو إلى العقل ليناقش من جديد، ثم ينزل إلى القلب مرة أخرى، وهكذا يتردد الأمر بين العقل والقلب، ولا يستقر في مكان، وهم بذلك على غير يقين من الآخرة، وما أعد الله لهم فيها من جزاء. ويشكّون في لقاء الله في اليوم الآخر. ويريد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لنا الصورة أكثر فيقول :
{ ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين( ٤٦ ).
ولقائل أن يقول : ألم يكن من الجائز أن يعدوا كل شيء للقتال في آخر لحظة ؟ نقول : لا، فالذاهب إلى القتال لا يمكن أن يستعد في آخر لحظة. بل لا بد أن يشغل نفسه بمقدمات الحرب من سلاح وزاد وراحة وغير ذلك، ولو لم يشغل نفسه بهذه المسائل قبل الخروج بفترة وتأكد من صلاحية سلاحه للقتال ؛ ووجود الطعام الذي سيحمله معه ؛ وغير ذلك، لما استطاع أن يخرج مقاتلا. فليست المسألة بنت اللحظة، بل كان عدم استعدادهم للقتال يعدّ كشفا للخميرة المبيّتة في أعماقهم بألا يخرجه، وسبحانه قد اطلع على نواياهم، وما تخفى صدورهم، وقد جازاهم بما أخفوا في أنفسهم. لذلك يقول :
﴿ ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ وسبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد من خلقه، الخلق هم الذين في اجتياح دائم إليه سبحانه ؛ لذلك ثبط هؤلاء عن الخروج، وكره سبحانه خروجهم للقتال، و " ثبطهم " أي جعلهم في مكانهم، ولم يقبل منهم أن يعدوا العدة للقتال كراهية منه سبحانه أن يخرجوا بنشاط إلى القتال. والكره : عملية وجدانية. والتثبيط : عملية نزوعية.
وأضرب هذا المثل دائما-ولله المثل الأعلى- أنت ترى الوردة، فتدر ك بعينك جمالها، فإن مددت إليها لتقطفها، هنا يتدخل الشرع ليقول لك، لا ؛ لأن هذا نزوع إلى ما لا تملك. وإن أردت أن تحوز وردة مثلها، فإما أن تشتريها وإما أن تزرع مثلها، إذن : فالمشروع يتدخل-فقط- في الأعمال النزوعية.
وكراهية الله لنزوعهم تجلت في تثبيطهم وخذلهم وردّهم عن الفعل، وزين لهم في نفسوهم ألا يخرجوا للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لحكمة أرادها الحق سبحانه، فوافقت ما أذن فيه رسول الله في التخلف، وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ وإذا كان التثبيط من الله، فكأنه أوضح لهم : اقعدوا بإذن الله من الإرادة الإلهية. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم بالقعود والتخلف لمّا استشفّ تراخيهم، أو أن الشياطين أوحت لهم بالقعود، فالحق هو القائل سبحانه :
﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ ( الأنعام : ١١٢ ).
وهكذا نجد أن كلمة :﴿ قيل ﴾ قد بنيت لما لم يسمّ فاعله لإمكان أمن يتعدد القائلون، فالله بتثبيطه لهم كأنه قال لهم : اقعدوا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم : اقعدوا، والشياطين حينما زينوا لهم القعود ؛ كأنهم قالوا لهم : اقعدوا. وقولهم لبعض زيّن لهم القعود، وهكذا أعطتنا كلمة واحدة عطاءات متعددة.
وهل ينفي عطاء عطاء ؟. لا، بل كلها عطاءات تتناسب مع الموقف.
﴿ ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا معه القاعدين ﴾ والمقصود بالقاعدين هنا : هم الذين لا يجب عليهم الجهاد من النساء والأطفال والعجائز، فكأنهم قد تخلوا بعدم خروجهم عن رجولتهم التي تفرض عليهم الجهاد. وهذه مسألة ما كان يصح أن يرتضوها لأنفسهم. وفي موقع آخر من نفس السورة قال الحق سبحانه :
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم ﴾( التوبة : ٨٧ ) وقد كانت الرجولة تفترض فيهم أن يهبوا للقتال، ولكنهم ارتضوا لأنفسهم ضعف النساء والأطفال. ونجحد الشاعر العربي عندما أراد أن يستفز أفراد قبيلته الذين تكاسلوا عن القتال معه، فقال :
وما أدري ولست أخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء١ |
٢ ويقوي هذا قوله تعالى:﴿لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خير منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن﴾ (الحجرات: ١١) فلو كانت النساء من القوم لم يقل:﴿ولا نساء من نساء﴾..
والخبال مرض عقلي ينشأ معه اختلال موازين الفكر، فتقول : فلان مخبول، أي : أنه يحكم فالقضايا بدون عقل، وإذن فقوله تعالى :﴿ ما زادكم إلا خبالا ﴾ أي أنهم لن يكونوا إلا مصدر لبلبلة الأفكار لو خرجوا معكم للقتال، فلا تستطيعون اتخاذ القرار السليم. فكأنهم عين عليكم، وضدكم وليسوا معكم، وقد يكونون من عوامل الهزيمة التي لم يردها الله لكم، وليسوا من عوامل النصر، فكأن عدم خروجهم هو دفع لشر، كان سيقع لو أنهم خرجوا معكم. وشاء الحق عدم خروجهم حفاظا على قوة المؤمنين وقدرتهم على الجهاد.
وقوله تعالى :﴿ ولأوضعوا خلالكم ﴾ أي : أنهم كانوا سيحدثون فرقة بين صفوف المؤمنين ويفرّقونهم، وسيتغلغلون بينهم للإفساد ؛ لأن الخلال هو الفرجة بين الشيئين أو الشخصيين، فيدخل واحد منهم بين فريق من المؤمنين فيفسد، وآخر يفسد فريقا آخر، وهكذا يمشون خلال المؤمنين ليفرقوا بينهم.
ولكن التساؤل : هل كانوا سيخرجون معهم أو فيهم ؟ هم كانوا سيدخلون في الفرج بين المؤمنين ليبلبلوا أفكارهم. ونقول : إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وعندما تسمع كلمة " فيكم " اعلم أنها تغلغل ظرف ومظروف ؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن من يوضح لنا الظرف والمظروف، قال الحق :﴿ ولصلبنكم في جذوع النخل( ٧١ ) ﴾ ( طه ).
هل كان فرعون سيصلب السحرة في داخل الجذوع أم على الجذوع ؟ وإن كان أهل اللغة قد قالوا : إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. فإننا لا نرضى هذا الجواب، لأننا إن رضيناه في أساليب البشر، لا يمكن أن نقبله في أساليب كلام الله ؛ لأن هناك معنى " في " الظرفية، ومعنى آخر في استخدام حرف " على ". ولو قال الحق سبحانه وتعالى :" لأصلبنكم على جذوع النخل "، فإن لها معنى أن يكون الصّلب على الجذع ؛ أي : أنه صلب عادي، ولكن قوله تعالى :﴿ ولأصلبنكم في جذوع النخل ﴾ معناه : أن عملية الصلب ستتم بقوة بحيث تدخل أجزاء من جسم المصلوب في المصلوب فيه، أي : أن جنود فرعون كانوا سيدقّون على أجساد السحرة حتى تدخل في جدع النخل، وتصبح هذه الأجساد وجذوع النخل وكأنها قطعة واحدة، هذه صورة لقسوة الصلب وقوته.
ولكن إذا قلنا : على جذوع النخل لكان المعنى أخفّ، ولكان الصّلب أقل قسوة، فكأن القرآن الكريم قد استعمل ما يعطينا دقة المعنى. بحيث إذا تغيّر حرف اختل المعنى. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر من القرآن الكريم :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم... ( ١٣٣ ) ﴾ ( آل عمران )أي : أن سرعتنا في العمل الصالح تنتهي بنا إلى المغفرة، إذن : فنحن قبل أن نسرع إلى الصالح من الأعمال لم نكن في المغفرة، وعندما نسارع نصل إليها.
ثم نجد قول الحق سبحانه وتعالى أيضا :{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات... ( ٩٠ ) ( الأنبياء ).
ولم يقل : يسارعون إلى الخيرات ؛ لأن عملهم الآن خير، وهم سيسارعون فيه ؛ أي سيزيدونه ؛ إذن : إن سارعت إلى شيء كأنه لم يكن في بالك، ولكنك سارعت في الخير أولا ثم تزيد في فعل الخير.
وإذا تدبرنا قول الحق سبحانه :﴿ ولأوضعوا خلالكم ﴾ نجد أن " أوضع " تعني : أسرع بدرجة بين الإبطاء والسرعة، فيقال : " أوضعت الدابة ؛ أي مشت بخطى غير بطيئة وغير سريعة في نفس الوقت، ولو نظرت إلى حالة هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للقتال، لرأيتهم وهم يزينون لهم الفساد، ويعملون على أن تصاب عقول المقاتلين بالخبل، ولوجدت أن هذا الأمر يتطلب آخر البطء وأول السرعة في الحركة، كانوا يحتاجون إلى البطء ؛ لأنهم كانوا سيهمسون في آذان المؤمنين بتزيين الباطل وهذا يقتضي بطئا، ثم ينتقل الواحد منهم إلى مؤمن ثان ليقوم معه بنفس العملية، ولا بد أن يسرع إلى التواجد بجانب المؤمن الآخر. إذن : فالحركة هنا تحتاج إلى البطء في الوسوسة ؛ وسرعة في الانتقال من مؤمن لآخر.
وهذا أدق وصف ينطبق على ما كان سيحدث.
ولكن ما هدف هؤلاء المنافقين من أن يضعوا الخبل في عقول المؤمنين ؟ ويفرقوهم جماعات ؟ الهدف : أن ينالوا من وحدتهم وقوتهم، ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ يبغونكم الفتنة ﴾ أي : يطلبون لكم الفتنة ؛ لأن الإنسان الشرير حين يرى خيرا يقوم به غيره، يجد الملكات للإيمانية في أعماقه تصيبه بنوع من احتقار النفس، فيحاول التقليل من شأن فاعل الخير بأن يسخر مما يفعله أو يستهزئ به، وهذا أوضح ما يكون في مجالس الخمر، حين يحس الجالسون في هذه المجالس بالذنب الشديد ؛ إن وجد بينهم إنسان لات يشرب الخمر، فتجدهم يحاولون أن يغروه بكل طريقة، لكي يرتكب نفس الإثم، فإذا رفض أخذوا يعيرونه ويستهزئون به، ويسخرون منه ويدعون أنه لن يبلغ مبلغ الرجال، وغير ذلك من أساليب السخرية. وأيضا تجد الكذاب يحاول دفع الناس إلى الكذب، والسارق يغري الناس بالسرقة، والمرتشي يحاول نشر الرشوة بين جميع زملائه، فإذا وجد إنسان نزيه وسيط هؤلاء الذين يرتكبون هذه الألوان من السلوك السيئ، فهم يضطهدونه ويسخرون منه. والمثال : حين يقوم إنسان للصلاة بين عدد من تاركي الصلاة، تجدهم يحاولون السخرية منه، فهذا يقول له : خذني على جناحك، وهذا يقول له مستهزئا : يجعلنا الله من بركاتك. ويبين لنا القرآن الكر يم هذه القضية ليعطينا المناعة الإيمانية فيقول :
﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون( ٢٩ ) وإذا مروا بهم يتغامزون( ٣٠ ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين( ٣١ ) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون( ٣٢ ) وما أرسلوا عليهم حافظين( ٣٣ ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( ٣٤ ) على الأرائك ينظرون( ٣٥ ) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون( ٣٦ ) ﴾.
وهذه الآيات تعطينا صورة لما يحدث عندما يعم الفساد في الأرض، فالذين سخروا من المؤمنين يضحكون ضحكات ستزول حتما طال الوقت أو قصر يتبعها عذاب في الآخرة، أما أهل الإيمان فهم يخشون الله في الدنيا، فيثيبهم الله في الآخرة، ويضحكون ضحكة خالدة مستمرة.
إذن : فقوله تعالى :﴿ يبغونكم كالفتنة ﴾ أي : إنهم من فرط حقدهم عليكم وعلى إيمانكم، ويحاولون أن يفتنوكم في دينكم حتى تنزلوا إلى مستواهم، تماما كأنماط السلوك التي بيّناها من قبل.
ثم يبيّن الحق سبحانه وتعالى أن الصف الإيماني لن يكون في منعة مما كان سيفعله هؤلاء المنافقون، فصحيح أنهم لم يخرجوا مع المؤمنين، ولكن هناك بين المؤمنين من كان يستمع لهم، ويقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ﴾ وسمعت لفلان، أي : سمعت أذنى ما قاله، وسمعت من فلان، أي : لصالح شخص آخر، أي : من يستمع منهم أو من يستمع أخباركم فهو ينقلها إليهم.
إذن : فاللام تأتي بالمعنيين، فمن المؤمنين من كان سيسمع لهؤلاء المنافقين مما يحدث بلبلة في فكرهم، ومن هؤلاء المبلبلين للأفكار جواسيس لهم ينقلون إليهم أخبار المؤمنين، ويعملون لحسابهم، وهناك من المؤمنين من سيسمع لهم أولا، فإذا أصيبوا بالخبل بدأوا في نقل أخبار المؤمنين إليهم، وهكذا جاءت " اللام " فاصلة بين " سمعت له " أو " سمعت من غيره لصالحه " يزيد الله سبحانه هذا الأمر إيضاحا في قول الحق تبارك وتعالى :{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ( ١٠٥ ) ( النساء )، فنجد السطحي التفكير يقول : إن هذا تحذير من مخاصمة الخائنين ؛ خوفا من أن ألاّ يقدر عليهم، أو أن يزدادوا في إثمهم بسبب هذه الخصومة. ونقول : عنك لم تفهم المعنى، فالمعنى الواضح هو : لا تكن لصالح الخائنين خصيما، أي : لا تترافع في الخائنين أو تدافع عنهم.
وقوله تعالى ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ لأن الذي كان سيسمع، والذين سيسمع لصالحهم، كلاهما ظالم والله عليم بهم.
﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقبلّوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ( ٤٨ ) ﴾ والحق سبحانه وتعالى يريد أن يذكر المؤمنين بالوقائع السابقة التي ارتكبها المنافقون والكفار تجاه الإسلام والمسلمين من : مؤامرات على الإسلام، ومحاولات فلإيقاع بين المسلمين ؛ والتآمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ ابتغوا الفتنة من قبل ﴾ له صلى الله عليه وسلم دليل على تلك الوقائع السابقة١. أما قوله تعالى :﴿ وقلبوا لك الأمور ﴾. فالتقليب : هو جعل أسفل الشيء عاليه، وعاليه أسفله ؛ حتى لا يستتر منه شيء. وهذا مظهر نراه في السوق ؛ عندما تذهب عند الفاكهي ونجد ما هو موجود في أعلى الفاكهة منتقى بعناية، فإذا اشتريت منه ملأ لك الكيس من الصنف الرديء الذي أخفاه أسفل القفص. وهكذا يأتي لك بالأسفل أو بالشيء الرديء المكشوف عورته. والذي لا يمكن أن تشتريه لو رأيته ويضعه لك٢.
وهكذا يفعل المنافقون حين يقلبون الأمر على الوجوه المختلفة حتى يصادفون ما يعطيهم أكبر الشر للمؤمنين دون أن يصابوا بشيء. والمثال الواضح : عندما تآمرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا من كل قبيلة بشاب ليضربوه ضربة رجل واحد ليضيع دمه بين القبائل.
لكن الحق سبحانه يأتي إلى كل هذه الفتن ويجعلها لصالح المؤمنين، ولذلك يقول جل جلاله :﴿ حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ﴾ فالتآمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة قتله جعل الأمور تؤدي إلى هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة وخروجه منها مما جعله الله سبحانه وتعالى سببا في إظهار الحق وانتشار الإسلام ؛ لأن الله لا يرسل رسولا ثم يخذله، فما دام قد أرسل رسولا فلا بد أن ينصره٣، فأريحوا أنفسكم، ولا تبغوا الفتنة ؛ لأن السابق من الفتن انقلب عليكم وأدى إلى خير كثير المؤمنين.
وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون( ١٧٣ ) ( الصافات ) ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ وهو قضية كونية عقدية، فإذا رأيت قوما مؤمنين التحموا بقتال قوم كافرين وانهزموا، فاعلم أنهم ليسوا من جنود الله حقا، وأن شرطا شروط الجندية لله قد اختل. ولذلك علينا أن نحاسب أنفسنا أولا.
فمثلا في غزوة أحد، عندما طلب رسول اله صلى الله عليه وسلم من الرماة ألا يتركوا أماكنهم فخالفوه٤، هنا اختل شرط من شروط الجندية لله وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فماذا كان يحدث للإسلام لو أن هؤلاء الرماة خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتصروا ؟ لو حدث ذلك لهانت أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام على المؤمنين. ويوم حنين، حين اعتقد المؤمنون أنهم سينتصرون بكثرتهم وليس بإيمانهم، وكانت النتيجة أن أصيبوا بهزيمة قاسية أول المعركة ؛ لتكون لهم درسا إيمانيا. ولذلك إذا رأيت إيمانا انهزم أمام الكفر، فاعلم أن شرطا من شروط الجندية الإيمانية قد اختل. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :
{ وكأيّن من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا كثير لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين( ١٤٦ ) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين( ١٤٧ ) ( آل عمران )
إذن : فأول شيء فعله هؤلاء المقاتلين ؛ أنهم عرفوا أن الذنوب يمكن أن تأتي إليهم بالهزيمة، فاستغفروا الله وتابوا إليه وحاربوا فنصرهم الله، وإذا حدث ولم ينتصر المؤمنون ؛ فمعنى هذا أن هناك خللا في إيمانهم ؛ لأن الله لا يترك قضية قرآنية لتأتي حادثة كونية فتكذبها.
٢ وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم مر على صبرة فأدخل يده فيها. فنالت أصابعه بللا. فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء ي رسول الله. قال:"أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني" أخرجه مسلم في صحيحه (١٠٢) وأحمد في مسنده (٢/٢٤٢) والترمذي في سنته (١٣١٥) عن أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح..
٣ وفي هذا يقول عز وجل:﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾(غافر: ٥١)..
٤ عن البراء لبن عازب قال:"لقين المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا، وإن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا" ولكنهم خالفوه صلى الله عليه وسلم فوقع سبعون قتيلا من المسلمين. ، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه (٤٠٤٣) وأحمد في مسنده (٤/٢٩٤).
﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( ٤٩ ) : هؤلاء هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيء عدم الخروج للجهاد، ومنهم من قال هذه العبارة : لا تفتني بعدم إعطاء الإذن، ولكن ما موضوع الفتنة ؟ هل هو عذاب، أم سوء، أم شرك وكفر – والعياذ بالله - ؟ إن كل ذلك- وغيره- تجوز فيه الفتنة. والقول :{ ائذن لي ولا تفتني ﴾ ظاهره أنه أمر، ولكنه ليس أمرا ؛ لأن الأمر إذا جاء في الأدنى للأعلى فلا يقال إنه أمر، بل هو دعاء أو رجاء، وإن جاء من المساوي يقال : " مساوله " أما إن جاء من الأعلى إلى الأدنى ؛ فهذا هو ما يقال له أمر، وكلها طلب للفعل.
وكان الجد بن قيس -وهو من الأنصار- قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ائذن لي ولا تفتني ؛ لأن رسول الله إن لم يأذن له فسيقع في فتنة مخالفة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم١.
وقيل : إن هذا الأنصاري لم يكن جلد٢ على الحرب وشدائدها، وقيل : إنه كان على ولع بحب النساء وسمع عن جمال بنات الروم، وخشي أنة يفتن بهن، خصوصا أن المعركة ستدور على أرض الروم. ومن المتوقع أن يحصل المقاتلون على سبايا من بنات الروم.
وقوله تعالى :﴿ ائذن لي ولا تفتني ﴾ أوقعه في الفتنة فعلا ؛ لذلك جاء قول الحق :﴿ ألا في الفتنة سقطوا ﴾. وكان هذا النصاري سمينا، وشكا من عدم قدرته على السفر الطويل والحر، فجاء الرد : إن كنتم من الحر والبرد تفرون فالنار أحق بالفرار منها ؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾.
وفي آية أخرى قال سبحانه :
{ قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون( ٨١ ) ( التوبة ).
إذن : فجحيم النار أشد قسوة وحرارة من نار القتال٣ وحر الدنيا مهما اشتد أهون بكثير من نار الآخرة وهي تحيط بالكافرين.
٢ الجلد: الشدة والقوة والصبر على القتال..
٣ وذلك قوله سبحانه وتعالى:﴿فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول ا الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون﴾ (التوبة: ٨١)..
وما يزال الحديث عن المنافقين، فبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى كيف حاول المنافقون الهروب من الحرب لأسباب وأعذار مختلفة، أراد سبحانه وتعالى أن يزيد الصورة توضيحا في إظهار الكراهية التي تخفيها قلوب المنافقين بالنسبة للمؤمنين. وهنا يقول سبحانه :
﴿ إن تصبك حسنة ﴾ والمقصود بالحسنة هنا هي : الانتصار في الحرب، والنصر في الحرب هو من جهة نظر المنافقين ينحصر في حصول المؤمنين على الغنائم، وهذه مسألة تسوء المنافقين وتحزنهم ؛ لأن الهم الأول للمنافقين هو الدنيا، وهم يريدون الحصول على أكبر نصيب منها. وبما أنهم لم يخرجوا للجهاد والتمسوا الأعذار غير الصحيحة للهروب من الحرب ؛ لذلك فهم يحزنون إذا انتصر المؤمنون ؛ لأنهم حينئذ لن يكون لهم حق في الغنائم. وفي هذه الحالة يقولون : يا ليتنا كنا معهم ؛ إذن لأصبنا الغنائم وأخذنا منها. أما إذا كانت الدائرة على المسلمين وهزموا في الحرب، فهذه سيئة بالنسبة لكل مؤمن، ولكن المنافقين يعتبرون الهزيمة لهل الإيمان حسنة، وسيقولون لولا أنفسهم : لقد كنا أكثر رجاحة في الفكر واحتطنا للأمر، ولم نخرج معهم لذلك نجونا مما أصابهم. والمصيبة في الحرب تكون في : الأرواح، والرجال، والمال، والعتاد بالإضافة إلى مرارة الهزيمة. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ﴾ وكأنهم قد احتاطوا قبل أن يبدأ القتال فلمن يخرجوا، وهم كمنافقين يمكن أن يفرحوا إن أصابت المسلمين كارثة أو مصيبة، وهي هنا الهزيمة في الحرب. وسيقولون :﴿ قد أخذنا أمرنا من قبل ﴾ أي : قاموا بالاحتياط فلم يخرجوا للقتال، بينما لم يحتط محمد وصحبه وجيشه. ثم يديرون ظهورهم ليخفوا فرحتهم.
وحين يقول الحق :﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم ﴾ يوضح لنا أن أي نصر للإيمان بحزن المنافقين في نفوسهم، ويصير هذا القول قرآنا يتلى ويتعبد به ويسمعونه بآذانهم، بالله لو لم تحزنهم الحسنة التي ينالها المؤمنون، ألم يكن ذلك دافعا لأن يقولوا : نحن لم نفرح ولم نحزن ؟.
بالله حين يفاجئهم القرآن بالكشف عن خبايا نفوسهم بالقرآن ؛ ألم يمن ذلك داعيا لهدايتهم ؟
لقد عرف محمد صلى الله عليه وسلم الغيب الذي في قلوبهم وفضح ضمائرهم وسرائرهم بعد أن أطلعه الحق على ذلك. ومع أن هذا أضمروا النفاق في قلوبهم وانتظروا مساءة تحل بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه. ويرد الحق سبحانه وتعالى عليهم :
﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون( ٥١ ) ﴾.
إذن : فالمصائب نوعان ؛ نوعن لي فيه غريم، ونوع لا يوجد لي غريم فيه ؛ النوع الأول الذي يكون لي فيه غريم يمتلئ قلبي عليه بالحقد، ويرغبنا الحق سبحانه وتعالى في عدم الحقد والعفو عن مثل هذا الغريم، فيقول :
﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين( ١٣٤ ) ﴾ ( آل عمران ).
وهنا ثلاث مراحل : الأولى كظم الغيظ، والثانية هي العفو، والثالثة هي أن تحسن، فترقى إلى مقام من يحبهم الله وهم المحسنون.
وكذلك يقول الحق :{ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( ٤٣ ) ( الشورى ) أي : من صبر على ما أصابه، وغفر بغريمه وعدوه، فالصبر والمغفرة من الأمور التي تحتاج إلى عزم وقوة حتى يطوع الإنسان على العفو وعدم الانتقام.
أما المصائب التي ليس للإنسان فيها غريم لا تحتاج إلى ذلك الجهد من النفس، وإنما تحتاج إلى صبر فقط، إذ لا حيلة للإنسان فيها. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا اللون من المصائب :
﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك لمن عزم الأمور ( ١٧ ) ﴾ ( لقمان )لأن العزم المطلوب هنا أقل، ولذلك لم تستخدم " لام التوكيد " التي جاءت في قوله تعالى :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( ٤٣ ) ﴾ ( الشورى }.
ولابد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه عن المشاعر البشرية حين قال :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾ ( آل عمران ).
هذه الآية الكريمة تمثل مراحل ما يحدث في النفس، فالمطلوب أو لا أن يكظم الإنسان غيظه، أي أن الغيظ موجود في القلب، ويتجدد كلما رأى الإنسان غريمه أمامه، ويحتاج هذا من الإنسان أن يكظم غيظه كلما رآه، ثم يرتقي المؤمن في انفعاله الإيماني، فيأتي العفو، وهذه مرحلة ثانية وهي أن يخرج الغيظ من قلبه، ويحل بدلا منه العفو.
ثم تأتي المرحلة الثالثة :﴿ والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾أي : أن هذا إحسان يحبه الله ويجزي عليه، وهو أن تحسن لمن أساء إليك، فتنال حب الله، وهذا من كمال الإيمان ؛ لأن العبيد كلهم عيال الله، واضرب لنفسك المثل -ولله المثل الأعلى- هب أنك دخلت البيت، ووجدت أحد أولادك قد ضرب الثاني، فمع من يكون قلبك وأنت رب البيت ؟ لا بد أن يكون قلبك مع المضروب، لذلك تربت على كتفه وتصالحه، وقد تعطيه مالا أو تشتري له شيئا لترضيه، أي أنك تحسن إليه.
وما دمنا عيال الله، فإن اجترأ عبد على عبد فظلمه فالله يقف في صف المظلوم. إذن فمن أساء إليك إنما يجعل الله إلى جانبك. أفلا يستحق في هذه الحالة أن ترد له هذه التحية بالإحسان إليه ؟.
إن الولد الظالم يرى أخاه المظلوم وقد انتفع بعطف أبيه، وقد يحصل الابن المظلوم على شيء يريده، والظالم في هذه الحالة إنما يحلم أن يكون هو الذي حدث عليه الاعتداء ليحصل على بعض من الخير.
والحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوصينا حين تأتي المصائب أن نرد على الكافرين ونقول :
﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله علينا ﴾ وهكذا ترد المسائل كلها إلى حكمة خالق الكون ومدبر أمره ؛ فقد يحدث لي شيء أكرهه ؛ ولكنه في حقيقة الأمر يكون لصالحي، فإن ضربني أبي لأنني أهمل مذكراتي، أيكون ذلك عقابا أم لصالحي ؟ إن أنت نظرت إلى المستقبل والنجاح الذي سوف تحققه في الحياة إن ذاكرت، فهذا العقاب لصالحك وليس ضدك، وكذلك لا بد أن نأخذ أحداث الله في كونه بالنسبة للمؤمنين، فإن هزموا في معركة، فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى الخير في دينهم ؛ وإلى أنهم لا بد أن يعرفوا أن النصر له أسباب وهم لم يأخذوا بها ؛ فلهذا انهزموا.
ولله المثل الأعلى، فنحن نجد الأستاذ -وهو يأخذ الكراسات من التلاميذ ليصحح لهم أخطاءهم- يعاقب المخطئ منهم، وفي هذا تربية للتلاميذ.
إذن : إن رأيتم مصيبة قد نزلت بنا وظننتم أنها تسيئنا فاعلموا أننا نثق فيمن أجراها، وأنه أجراها لحكمة تأديبية لنا، وأن كل شيء مكتوب لنا لا علينا، الذي كتبه وهو الحق سبحانه وتعالى وهو القائل :﴿ لأغلبن أنا ورسلي.. ( ٢١ ) ﴾ ( المجادلة ).
إذن : فنحن نعلم بإيماننا أن كل ما يصيبنا من الله هو الخير، وأن هناك أحداثا تتم للتأديب والتهذيب والتربية، لنسير على المنهج الصحيح فلا نخرج عنه، فالإنسان لا يربي إلا من يحب، أما من لا يحب فهو لا يهتم بتربيته، فما بالنا بحب الخالق لنا ؟ إن الأب إن دخل إلى البيت ووجد في فنائه عددا من الأولاد يلعبون الورق ؛ وبينهم ابنه، فهو ينفعل على الابن، ولكن إن دخل ووجد أولاد الجيران يلعبون الورق فقد لا يلتفت إليهم، فإذا أصابت المسلمين ما يعتبره المنافقون والكافرون مصيبة يفرحون بها ؛ فهذا من غبائهم ؛ لأن كل ما كتبه الله هو لصالح المؤمنين به، إما أدبا وإما ثوابا وإما ارتقاء في الحياة، ولذلك فهو خير٢، ومن هنا كانت الآية الكريمة ﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾ وما كتب الله للمؤمنين إنما في صالحهم.
ثم يزيد الحق سبحانه وتعالى المعنى تأكيدا ؛ فيقول سبحانه :﴿ هو مولانا ﴾ وما دام الحق سبحانه : هو الذي يتولى أمور المؤمنين وهو ناصرهم، فالمولى الأعلى لا يسيء إلى من والاه، ثم يأتي الإيضاح كاملا في قوله تعالى :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ ؛ لأن الله الذي آمنت به هو إله قادر حكيم، فإذا جرت عليك أمور فابحثها ؛ إن كانت من فعل نفسك، هنا عليك أن تلوم نفسك، أما إن كانت من مجريات الله عليك، فلا بد أن تفهم أنها تحدث لحكمة.
والحق سبحانه وتعالى قد يعطي الكافر مقومات حياته، ولكنه يعطي المؤمن مقومات حياته المادية والقيمية معا. وبهذا المفهوم نعرف أنه إن أصابنا شيء نكرهه، فليس معنى ذلك أن الله تخلى عنا، ولكنه يريد أن يؤدبنا أو يلفتنا لأمر ما، فإنه لو لم يؤدبنا أو يلفتنا لكان قد تخلى عنا حقا.
والحق سبحانه تعالى حين يخطئ المؤمن تجده سبحانه يلفته إلى خطئه، وفي هذه الحالة يعرف المؤمن أن الله لم يتركه ؛ لذلك لا يقولن أحد : إن الله تخلى عنا، فهذا ضعف في الإيمان وبالتالي فإنه ضعف في التوكل. ولكن قل : إن الله حين يؤدبك فهو لا يتخلى عنك، فساعة تأتي المصيبة اعلم أنه لا يزال مولاك. وما دام مولاك يحاسبك على أي خطأ ويصوبه لك، فثق به سبحانه وتوكل عليه.
وعلى سبيل المثال : لنفترض أن إنسانا اتكل عليك في أمر من الأمور، ثم أخطأت أنت في هذا الأمر، لا بد أن يأتي لينبهك إلى ما أخطأت فيه ويقترح عليك وسيلة لإصلاح الخطأ، وفي هذه الحالة ستجد نفسك ممتلئة بالثقة في هذا الإنسان، فما بالنا بالله سبحانه وتعالى حين نتوكل عليه ويصوب لنا كل أمر ؟.
ولكن إياكم أن تنقلوا التوكل من القلوب إلى الجوارح. لذلك يقال : الجوارح تعمل والقلب تتوكل. فأنت تحرث الأرض وتضع فيها البذور ويرويها، وهذا من عمل الجوارح لا بد أن تؤديه، وبعد ذلك تتوكل على الله وتأمل في محصول وفير ينبته الزرع، فلا تأتي آفة أو ظاهرة جوية مثل مطر غزير أو ريح شديدة ؛ فتضيع كل ما عملته، وبعد إتقانك لعلمك يأتي دعاؤك لله سبحانه وتعالى أن يحفظ لك ناتج عملك.
أما الذين لا يعلمون بجوارحهم ويعلنون أنهم متوكلون على الله، فنقول لهم : أنتم كاذبون ؛ لأن التوكل ليس من عمل الجوارح بل من عمل القلوب، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل.
لكن على من نتوكل ؟ إنك حين تتوكل على الحي الذي لا يموت، فلن يضيع عملك، أما إن اتكلت على إنسان مثلك حتى وإن كان ذا قوة، فقد تنقلب قوته ضعفا، وقد يكرهك أو يذلك، وقد تصيبه كارثة فيموت.
ويبلغ الحق سبحانه رسوله أن يرد على الذين يفرحون في مصائب المسلمين ليكشف لهم أن فرحهم بالمصيبة هو فرح الأغبياء. فيأتي قوله الحق :
﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون( ٥٢ ) ﴾.
٢ عن صهيب الرومي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٩٩) وأحمد في مسنده (٤/٣٣٢/٣٣٣) والدرامي في سننه (٢/٣١٨) وأبو نعيم في حلية الأولياء (١/١٥٤)..
وجاء سبحانه بعد ذلك بالقول ﴿ فتربصوا ﴾ أي : تمهلوا وانتظروا وترقبوا نهايتكم. أما نهايتكم فاستدامة عذاب في الدنيا وفي الآخرة. وأسباب العذاب مجتمعة لكم في الدنيا، وأسباب الخير ممتنعة عنكم في الآخرة، ونتيجة تربصنا لكم أن نرى السوء يصيبكم، وتربصكم لنا يجعلكم ترون الخير وهو يسعى إلينا، إذن فنتيجة المقارنة ستكون في صالحنا نحن.
وبعد أن بين الله ذلك يطرأ على خاطر المؤمن من سؤال : ألا يصدر من هؤلاء الأقوام فعل خير ؟ وألا يأتي إليهم أدنى خير ؟ ونحن نعلم أن الحق سبحانه يجزي دائما على أدنى خير.
ونقول : إن الحق شاء أن يبين لنا بحسم مسألة الخيانة العظمى وهي الكفر والعياذ بالله، وبين أن كل كافر بالله لا يقبل منه أي عمل طيب ؛ لأن الكفر يحبط أي عمل، وإن كان لعلمهم خير يفيد الناس، فالحق يجازيهم ماديا في الدنيا، ولكن ليس لهم في الآخرة إلا النار١، ويقول :
﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين( ٥٣ ) ﴾.
لذلك ضرب الله مثلا بأعمال الذين كفروا في قوله تعالى :
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب( ٣٩ ) ﴾ ( النور )، ويعطينا الله سبحانه مثلا آخر في قوله تعالى :{ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد( ١٨ ) ( إبراهيم ).
ويقول الحق سبحانه وتعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( ٢٠ ) } ( الشورى ).
وهذا ما يشرح لنا ما استغلق على بعض العلماء فهمه في قول الحق :{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره( ٨ ) ( الزلزلة ).
فقد تساءل بعض من العلماء : أيجزي الحق سبحانه هؤلاء الكفار في الآخرة أم في الدنيا ؟ وقد استغلق عليهم الأمر لأن الآية عامة. ونقول : إن الحق يعطي في الدنيا الجزاء لمن عمل للدنيا، ويعطي في الآخرة لمن عمل للدنيا والآخرة وفي قلبه الله. ولذلك فالذين يحسنون اتخاذ الأسباب المخلوقة لله بمنح الربوبية ينجحون في حياتهم. والذين يتقدمون دنيويا في زراعة الأرض وانتقاء البذور والعناية بها يعطيهم الله جزاء عملهم في الدنيا، ولا يبخس منه شيئا ؛ ولكن الحق سبحانه يقول أيضا :
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا( ٢٣ ) ( الفرقان ).
هذا القول يوضح عطاء الآخرة، ولذلك فالخير الذي يعمله غير المؤمن لا يجزى عليه في الآخرة١ ؛ لأنه عمل وليس في باله الله، فكيف ينتظر جزاءه لم يؤمن به ؟.
إن الله سبحانه يجزي من آمن به وعمل من أجله. ولكن من كفر بالله حبط كل عمله. وهذا أمر طبيعي ؛ لأنك ما دمت قد عملت الخير وليس في بالك الله، فلا تنتظر جزاءا منه. إن عملت للإنسانية أعطيتك الإنسانية، وإن عملت للمجتمع أعطاك المجتمع وصنعوا لك التماثيل وأطلقوا اسمك على الميادين والشوارع، وأقيمت باسمك المؤسسات، وتحقق لك الخلود في الدنيا، وهذا هو جزاؤك. ولكن إن كنت مؤمنا بالله، راجيا ثوابه تجيء يوم القيامة لتجد يد الله ممدودة لك بالخير الذي قدمته.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا :﴿ قل أنفقوا طوعا أوكرها ﴾ والطوع : هو الفعل الذي تقبل عليه بإرادتك دون أن تكون مكرها، فكيف لا تجازى على خبر فعلته بإرادتك ؟
ولا بد لنا أن نفرق بين " طوع " وطائع "، وكذلك نفرق بين هذا وبين الفعل الذي تقوم به حين يحملك غيرك ويكرهك أن تفعله. والأفعال كلها إما أن تكون بالطواعية وبالإرادة، وإما أن تكون بالإكراه. ولو كان الحق قد قال : أنفقوا، طاعة لما قال :﴿ لن يتقبل منكم ﴾ ؛ لأن الطاعة معناها انصياع عابد لإرادة معبود، ولكن قوله هنا :﴿ طوعا ﴾ يكشف أن ما ينفقونه هو أمر اختياري من عندهم. وكانت أحوال المنافقين كذلك، فمنهم من قدم أولاده للجهاد، ومن هو من قدم بعضا من ماله، وكانوا يفعلون ذلك طائعين لأنفسهم ويستترون بمثل هذه الأفعال حتى لا يفتضح نفاقهم، وكان الواحد منهم يتقدم إلى الصف الأول من صفوف الصلاة في المسجد، ويفعل ذلك طوع إرادته، خوفا من افتضاح نفاقة لا طاعة الله، فطاعة الله هي طاعة عابد لمعبود، أما مثل تلك الأفعال حين تنبع من طوع النفس فهي للمظهر وليست للعبادة.
﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها ﴾ هل هذا أمر بالإنفاق ؟ أو هل الله يريد منهم أن ينفقوا فعلا، خاصة أنه سبحانه لن يتقبل منهم ؟ لا ليس هذا أمرا بالإنفاق بل هو تهديد ووعيد. مثلما تقول لإنسان : اصبر، فذلك ليس أمرا بالصبر ولكن تهديد بمعنى : اصبر فسترى مني هولا كثيرا. وهذا مثل قوله تعالى :﴿ فاصبروا أولا تصبروا... ( ١٦ ) ﴾ ( الطور ).
وقوله تعالى :﴿ اعلموا ما شئتم.. ( ٤٠ ) ﴾ ( فصلت )أي : أنكم إن صبرتم فإن ذلك لن يغير شيئا من الجزاء الذي سوف تلاقونه، فالأمر سواء. ولو كان قوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ أمرا ؛ لكان كل من عمل معصية داخلا في الطاعة ؛ لأن الله أمره أن يفعل ما يشاء. ولكن هذا أمر تهديدي، أي : افعلوا ما شئتم فأنتم عائدون إلى الله وسيحاسبكم على ما عملتموه : ولن تستطيعوا الفرار من الله سبحانه.
وقوله تعالى :﴿ أنفقوا ﴾ هو-إذن- أمر تهديدي ؛ لأنه لن يجديكم أن تنفقوا طوعا أو كرها.
وكلمة ﴿ كرها ﴾ وردت في القرآن الكريم في أكثر من سورة، فهي في سورة آل عمران، وفي سورة النساء، وفي سورة التوبة وفي سورة الأحقاف، وفي سورة الرعد وفي سورة فصلت، قد ذكرت ﴿ كرها ﴾ بفتح الكاف وقرأها بعضهم بضم الكاف. وقال البعض : إن " كرها : بفتح الكاف " كرها " بضم الكاف بمعنى واحد. نقول لهم : لا، إن المعنى ليس واحد، فمثلا قول الحق سبحانه وتعالى :{ حملته أمه كرها وضعته كرها... ( ١٥ ) ( الأحقاف ) فالكره هنا ليس للحمل ولا للوضع، ولكن للمشقة التي تعانيها الحامل أثناء حملها وعند الولادة. فلم يكرهها أحد على هذا الحمل. ولكن البعض يقول : إن الحمل يحدث وليس للمرأة علاج أن تحمل ولا أن تضع، فلا توجد امرأة تقول لنفسها :" سوف أحمل الليلة " ؛ لأن الحمل يحدث دون أن تعي هي حدوثه، فالحمل يحدث باللقاء بين الرجل والمرأة. والمرأة لا تستطيع أن تختار ساعة الحمل ولا أن تختار ساعة الولادة، ولا تستطيع أن تقول : سألد اليوم أو لن ألد اليوم. فكل هذا يحدث إكراها بغير اختيار منها. ولذلك نقول لمن يقولون أن " كرها " بفتح الكاف و " كرها " بضم الكاف بمعنى واحد : لا ؛ لأن " الكره " بضم الكاف هو ما لا يريده الإنسان لأن فيه مشقة، والكره بفتح الكاف هو ما فيه إكراه من الغير. إذن فكرها بفتح الكاف تختلف من معناها عن " كرها " بضم الكاف٢.
الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ قل انفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ﴾ أي : لن يقبل الله منكم ما تنفقونه. ولكن ما الفرق ؟ لقد كان المنافقون يدفعون الزكاة ويقبلها الرسول منهم ولم يرضها أدبا منه صلى الله عليه وسلم، فكل عمل يؤدي ثم يذهب إلى الرقيب الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى. ولكن حدث أن واحدا من هؤلاء هو ثعلبة طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا له بالغنى، فلما دعا له ورزقه الله الرزق الوفير بحل عن الزكاة، وحاول أن يتهرب من دفعها٣ ؛ فنزل القول الكريم :
﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدق ولنكونن من الصالحين( ٧٥ ) فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون( ٧٦ ) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون( ٧٧ ) ﴾ :
وعندما نزلت هذه الآية جاء ثعلبة ليدفع الزكاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها منه. وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ثعلبة إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبل منه الزكاة. وبعد أبي بكر جاء إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فلم يقبلها منه. ومات ثعلبة في عهد عثمان٤. هذا هو عدم القبول.
ولكن هناك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من دفع الزكاة من المنافقين وقبلت منه، ولكن الله لم يتقبلها منه. إذن : فكل عمل قد يقبل من فاعله، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يتقبله أو قد لا يتقبله. إذن فالآية معناها : أن الله لن يتقبل من هؤلاء المنافقين إنفاقهم في الخير ولو تقبله في الشر.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى السبب في ذلك فيقول :
﴿ إنكم كنتم قوما فاسقين ﴾ وكما قلنا : إن كلمة الفاسق مأخوذة من " فسقت الرطبة " أي انفصلت القشرة عن الثمرة. وقشرة البلح مخلوقة لتحفظ الثمر. وعلمنا أن المعاني في التكليف الشرعي قد أخذت من الأمور الحسية ؛ ولهذا تجد أن الدين سياج يمنع الإنسان من أن يخرج على حدود الله ويحفظه من المعصية، والإنسان حين ينفصل عن الدين إنما يصبح كالثمرة التي انفصلت عن سياجها.
فالذي يشرب الخمر أو يرتكب الجرائم أو الزنا يعاقب على المعصية، أما إن كان الإنسان منافقا بعيدا عن الإيمان بالله فطاعته لا تقبل. وهب أن الإنسان مؤمن بالله ولكنه ضعيف أمام معصية ما، هنا نقول : لا شيء يجوز على شيء، وإن له ثواب إيمانه وعليه عقاب معصيته.
٢ وإلى هذا ذهب الفراء فقد قال: إن الكره ما أكرهت نفسك عليه، الكره ما |أكرهك غيرك عليه. نقله ابن منظور في لسان العرب..
٣ وذلك أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة قليل ما تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فقال ثعلبة: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم ارزق ثعلبة مالا" وتدرج به الأمر حتى ترك الصلاة والجمعة ثم منع الزكاة وقال: ما هذه إلا جزية. وبعد ما نزلت آية التوبة(٧٥) أتى ثعلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يقبل صدقته فقال:"إن الله قد منعني أن أنقبل صدقتك" فجعل ثعلبة يحثو التراب على رأسه. حديث طويل أخرجه الطبراني في مجمعه الكبير (٧٨٧٣) من حديث أبي أمامة. قال الهيثمي في المجمع (٧/٣٢): فيه علي بن يزيد الألهاني وهو متروك" وانظر أسباب النزول للواحدي (ص١٤٥).
٤ عندما ولى عثمان الخلافة، أتاه ثعلبة فسأله أن يقبل صدقته، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبلها ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها؟! فلم يقبلها عثمان. انتظر: أسباب النزول للواحدي (١٤٥، ١٤٦)..
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( ٥٤ ) ﴾.
إذن : فالفسق نوعان : فسق عام، وفسق خاص. وقد يقول البعض : إنك إن ارتكبت معصية فصلاتك وزكاتك معصية فصلاتك وزكاتك وكل عباداتكم لا تنفعك.
ونقول : لا فما دامت القمة سليمة ؛ إيمانا بالله وإيمانا بالرسول عليه الصلاة والسلام وتصديقا بالمنهج، فلكل عمل عبادي وثوابي، ولكل ذنب عقابه ؛ لأن الحق سبحانه مطلق العدالة والرحمة، ولا يمكن أن يضع كل الشرور في ميزان الإنسان. فمن كان عنده خصلة من خير فسوف يأخذ جائزتها وثوابها، ومن كان عنده خصلة من شر فسوف ينال عقابها.
وقوله الحق هنا ﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾، هذا القول الكريم هو حيثية للحكم بعدم قبول نفقاتهم، وفي هذا تحديد لعموم الفسق وهو الكفر، لا في خصوص الفسق، وحدد الحق ثلاثة أشياء منعت التقبل منهم : الكفر بالله ورسوله وهو كفر القمة، ثم قيامهم إلى الصلاة وهم كسالى، ثم الإنفاق بكراهية.
ونفعهم المنع على أنه رد الفعل إلى ما ينقص العمل أو ينافيه ؛ كأنه يريد إنسان القيام فتقعده، أي أنك رددت إرادة القيام إلى القعود، وهو ما ينافيه، أو أن يحاول إنسان ضرب آخر فتمنع يده، فتكون بذلك قد منعت غيره من أن يعتدي عليه. إذن فالمنع مرة يأتي للفاعل ومرة للمفعول. فأنت حين تمنع زيدا من الضرب تكون قد منعت الفاعل، وحين تمنع عنه الضرب تكون قد كون قد منعت المفعول، وكل فلسفة الحياة قائمة على المنع، الذي يوجزه الفعل ورد الفعل، تجد ذلك في الإنسان وفي الزمان والمكان.
وإذا بحثت هذه المسألة في الإنسان تجد أن حياته تقوم على التنفس والطعام والشراب، والتنفس هو الأمر الذي لا يصبر الإنسان على التوقف عنه، فإن لم تأخذ الشهيق انتهت حياتك، وإن كتمت الزفير انتهت حياتك. وإذا منعت الهواء من الدخول إلى الرئتين يموت الإنسان، وإذا منعت خروج الهواء من الرئتين يموت الإنسان أيضا.
وحركة العالم كله مبنية على الفعل وما يناقضه. فإذا حاول إنسان أن يضرب شخصا آخر وأمسكت يده، وقلت له : سيأتي أبناؤه أو إخوته أو عائلته ويضربونك، حينئذ يمتنع عن الفعل خوفا من رد الفعل. والعالم كله لا يمكن أن يعيش في سلام إلا إذا كان هناك خوف من رد الفعل١ ؛ القوي يواجه قويا، والكل خائف من رد فعل اعتدائه على الآخر. ولكن إذا واجه قوى ضعيفا، تجد القوى يفتك بالضعف.
وهكذا العالم كله، فالكون إما ساكن وإما متحرك. وتجد الكون المتحرك فيه قوى متوازية تعيش في سلام خوفا من رد الفعل. وكذلك تجد العالم الساكن ؛ فالعمارة الشاهقة تستمد ثباتها وسكونها من أن الهواء لا يأتي من وجهة واحدة، ولكن من جهات متعددة تجعل الضغط متوازنا على كل أجناب العمارة. ولكن لو فرغت الهواء من ناحية وجعلته يهب من ناحية أخرى لتحطمت العمارة، تماما كما تفرغ الهواء من إناء مغلق فيتحطم.
وقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ لا يعني أن ألسنتهم لم تنطق بالشهادة، لا، فقد شهد المنافقون قولا، ولكن هناك فرق بين قولة اللسان وتصديق الجنان ؛ فالإيمان محله القلب، والمنافقون جمعوا بين اللسان، يشهد وقلب ينكر، فأعطاهم الر سول حق شهادة اللسان، فلم يتعرض لهم ولم يأسرهم ولم يقتلهم، وأعطاهم نفس الحقوق المادية المساوية لحقوق المؤمنين، كل ذلك احتراما لكلمة " لا إله إلا الله محمد رسول الله " التي نطقوا بها ؛ ولأن باطنهم قبيح، فالحق سبحانه يجازيهم بمثل ما في باطنهم، فلا يأخذن ثوابا على ما يفعلون ظاهرا وينكرونه باطنا. وهكذا كان التعامل معهم منطقيا ومناسبا. فما داموا قد أعطوا ظاهرا، فقد أعطاهم الله حقوقا ظاهرة ؛ ولأنهم لم يعطوا باطنا طيبا، فلم يعطهم الله غيبا من ثوابه وغيبا من جنته وعاقبهم بناره.
ونأتي إلى السبب الثاني في قوله تعالى :﴿ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ﴾ الكسل : هو التراخي في أداء المهمة. إذن فهم يصلون رياء، فإن كانوا مع المؤمنين ونودي للصلاة قاموا متثاقلين. وإن كانوا حيث لا يراهم المؤمنون فهم لا يؤدون الصلاة. إذن فسلوكهم مليء بالازدواج والتناقض.
والسبب الثالث :﴿ ولا ينفقون إلا وهم كارهون ﴾ والنفقة هي بذل ما عندك من فضل ما أعطاه الله لك ؛ سواء أكان ذلك مالا أو عملا أو جاها أم قوة، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع ؛ لأن كل مجتمع به أعراض كثيرة، تجد القوي والضعيف، والغني والفقير، والعالم والجاهل، الصحيح والمريض. ولو أن كل إنسان تحرك في حياته على قدر حاجته فقط لهلك الضعفاء والمرضى والعاجزون والفقراء. ولكن لابد أن يعمل كل إنسان على قدر طاقته، وليس على قدر حاجته، ولا بد أن يأخذ من ناتج عمله على قدر حاجته ومن يعول، فأنت تأخذ حاجتك من ثمرة طاقتك، ثم تفيء على غيرك بفضل الله عليك، خصوصا على هؤلاء الذين لا يقدرون على الحركة في الحياة، فالصحيح يعطي المريض من قوته ما يعينه على الحياة. والغنى يعطي الفقير من ماله من يعينه على الحياة. والقادر على الحياة يعطي من لا يقدر عليها، وهذا هو المجتمع المتكافل.
ومثل هذا السلوك هو لصالح الجميع ؛ لأن الغني اليوم قد يكون فقيرا غدا، والقوي اليوم قد يكون ضعيفا غدا، فلو أحس الإنسان بأنه يعيش في مجتمع متكافل فهو لن يخشى الأحداث والأغيار. وهذا هو التأمين الصحيح للقادر والغني ويشعر فيه كل إنسان بالتضامن والتكافل، فلا ينشغل الفقير خوفا من الأحداث المتغيرة، وإن مات فلن يجوع عياله، وإن افتقر الغني فسوف يجد المساندة، وإن مرض الصحيح فسوف يجد العلاج.
إذن : فالنفقة أمر ضروري لسلامة المجتمع، ونجد أن السوق توصف بأنها نافقة، وهي يتم فيها بيع كل السلع وشراؤها. فمن أراد أن يبيع باع، ومن أراد أن يشتري اشترى، إذن فالحركة فيها متكافئة. وأنت حين تذهب إلى السوق لتبيع أو تشتري، فإما أن تأخذ مالا نقديا مقابل ما بعت، وإما أن تدفع مالا ثمنا لما اشتريت. وقديما كان الإنسان يبادل السلعة بسلعة أخرى. وبعد اختراع النقود أصبح الإنسان يشتري السلع بثمن، وما ينفق ماله ويقدمه عند الله، فالحق سبحانه يأتي له بكل خير. وقد أراد الحق سبحانه للمنافقين العذاب الباطني في الدنيا، والعذاب الواقع أمام الكل في الآخرة، وبين لهم أن إنفاقهم طوعا أو كرها لن يأتي لهم بالخير.
ولكن من نظر إلى المنافقين قد يجد أنهم يستمتعون بالمال والولد. ولا يلتفت الإنسان الناظر إليهم إلى أن المال والولد هما أدوات عذابه. وقد يقول إنسان : إن الله قد قال :
﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا... ( ٤٦ ) ﴾ ( الكهف ).
ونقول لمن يقول ذلك : أكمل الآية :
﴿ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( ٤٦ ) ﴾ ( الكهف )
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة... ( ١٥ ) ﴾ ( التغابن ).
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون( ٥٥ ) ﴾.
وإياكم أن تروا واحدا من هؤلاء ممن رزقهم الله المال والولد ثم تقولون : كيف يكون عذابهم في الدنيا وهم يملكون المال والولد ؟ ومثل هذا التعجب يعني استحسان المال والولد، والظن أن فيهما الخير كله، لكنك إن نظرت بعمق إلى المال والولد وكل حطام الدنيا فستجده لا يستحق الإعجاب، وإياك أن تغتر بشيء يمكن أن يترك، ويمكن أن يموت سببا في عذابك، فالمال والولد قد يجعلان الإنسان متلفتا إلى النعمة ويلهيانه عن المنعم. وإن لم يلتفت الإنسان إلى المنعم لا يذكره. وإن لم يذكر الله أهمل منهجه.
والمال والولد في الحياة الدنيا قد يكونان سببين في أن يخاف الإنسان ترك الدنيا. فإن لم يكن لك إيمانا بما عند الله في الآخرة، فقد تخاف أن يترك المال والولد. والذي لا يؤمن باليوم الآخر ؛ فالدنيا هي كل زمنه ؛ وإن فاتها كان ذلك مصيبة له، وإن فاتته كان ذلك مصيبة عليه. وإن آمن الإنسان بالله واليوم الآخر لقال : لئن فاتتني الدنيا فلي عند الله خير منها. ويريد الحق سبحانه أن يمنع عن المؤمنين به فتنة النعمة التي تلهي عن المنعم، فيقول سبحانه :
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾ والآية الكريمة تدلنا على أن للمال وحده إعجابا، وللأولاد وحدهم إعجابا، فمن عنده مال معجب بما عنده. ومن ليس عنده مال وعنده أولاد معجب بهم أيضا. فإذا اجتمع الاثنان معا يكون الإعجاب أكبر وأشمل. والحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن اجتماع المال والولد يجب أن يثير الإعجاب في نفوسنا، بل إن سياق الآية يحذرنا من أن نعجب بمن عنده المال وحده، أو بمن عنده الأولاد وحدهم، ولذلك كرر الحق سبحانه وتعالى كلمة :﴿ لا ﴾ فقال :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾.
وأفهمنا الحق سبحانه وتعالى أنه إذا أمد الكافر أو المنافق بالمال والولد ؛ فذلك ليس رفعة من شأنه، وإنما ليعذبه بهما في الدنيا والآخرة. فقال :﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها ﴾، واللام هنا في " ليعذبهم " هي لام تدخل على الفعل واسمها " لام العاقبة ". وهي تعني أننا ربما نقوم بالفعل لهدف معين، ولكن قد تكون عاقبته شيئا آخر تماما غير ذلك الذي قصدناه، بل ربما تكون عكس الذي قصدناه.
وعندما نقرأ القرآن نجد قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدو وحزنا... ( ٨ ) ﴾ ( القصص ).
هل التقط آل فرعون موسى عليه السلام ليكون لهم عدوا ؟ أم ليكون قرة عين لهم ؟
هم قد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الذي حدث كان عكس ما قصدوه ساعة قيامهم بفعل الالتقاط، فبدلا من أن يصبح موسى قرة عين، أصبح عدوا لفرعون، بل كان سببا في زوال ملكه، إذن هذه هي لام العاقبة.
والله سبحانه وتعالى أعطى لبعض الكفار أموالا وأولادا، وهذا في ظاهره رفعة في الدنيا، ولكنهم بدلا من أن يستخدموا هذه النعمة في التقرب إلى الله ألهتهم عن الإيمان بالله، ووصل بهم الأمر إلى أن يدخل الحق العذاب. ولم يرد الحق العذاب لهم، ولكنهم بحركتهم وفتنتهم بالمال والولد استحقوا أن يدخلوا في العذاب. والعمل غير الشرعي في تنمية المال أو إرضاء الأولاد هو الذي أوصلهم إلى العذاب.
﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ﴾ وأول ألوان العذاب : أن تلهيهم تلك النعم عن المنعم. وتبعدهم عن منهج الله فيصيرون في عداء مع المؤمنين بمنهج الله، ويخافون إعلان هذا العداء ؛ لذلك حينما كان يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب واحد من المنافقين أو اليهود كانوا يرتعدون ويتساءلون١ : هل اكتشف الرسول أمرنا أم كشف الله له بعض خبايانا ؟ وكانوا في خوف أن يفتضح أمرهم، فيعاملهم المشركين ويرشدهم.
وثانيا : كانوا يخافون من أن يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام في حرب ؛ لأنهم ما داموا قد أعلنوا الإيمان فهم مطالبون ببذل المال، وأن يذهب أولادهم الذين بلغوا سن القتال مع جيش المسلمين، وكانوا يقولون بينهم وبين أنفسهم : ما لنا نبذل المال ونضحي بالأولاد في سبيل ما لا نؤمن به. وهم بمشاعرهم تلك يختلفون عن مشاعر المؤمنين الذين يلبون نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعا في الجنة أو النصر. وهذا لون من ألوان العذاب.
وهناك لون آخر من العذاب : عندما يخرج هؤلاء المنافقون إلى إحدى الغزوات، فهم يخافون على أنفسهم من القتل أو الأذى بالأسر أو سبي النساء، فيكونون في عذاب نفسي طوال الرحلة إلى الغزوة وفي أثناء الحرب.
ولون ثالث كمن ألوان العذاب : أن عابد يجمع المال من حرام ومن حلال، لا يهمه من أين جاء المال ؟ ولكن يهمه أن يأتي، والذي يكسب حلالا يكون واضح الحركة في الحياة، والذي يكسب حراما هو لص يخاف أن ينكشف أمام الناس، ويعيش في عذاب أليم دائم من أن يأتي يوم يكشف الله ستره فيعرف الناس أنه ارتشى، أو أنه اختلس، أو أنه زور وزيف. أو أنه فعل شيئا يحقره في أعين الناس أو يعرضه للعقوبة ؛ كأن يكون قد تاجر في المخدرات أو في الأعراض. أو في غير ذلك، وخوفه من انكشاف أمره يجعله يعيش في عذاب دائم وصراع مستمر.
وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين الحلال والحرام نضرب هذا المثل : أنت إن أعجبك شيء في بيت جارك، طلبته منه أعطاك إياه، فأنت لا تخشى أن يعرف الناس ما حدث. ولكن إذا أعجبك شيء في بيت جارك وأردت أن تسرقه، فأنت لا تأتي في النهار ولا أمام الناس، بل تأتي ليلا وتحرص على ألا يراك أحد. ولا تدخل من باب الشقة، بل تظل تدور وتخطط لتجد منفذا تدخل منه دون أن يراك أحد. وتضع خطة للسرقة. وتدخل المنزل على أطراف أصابعك وأنت ترتعد. فإذا شعرت وأنت تنفذ الخطة بصوت أقدام تنزعج وتجري لتختبئ وتأخذ الشيء وتكون حريصا على إخفائه وإن رآه أحد عندك انزعجت، وكل هذا عذاب يمر به كل من يجمع المال الحرام، إذن فجمع المال الحرام عذاب.
وكل من يربي أولاده من مال حرام لا يبارك الله له فيهم، فإما أن ينشأ الواحد منهم عذابا لأبيه في تربيته فيرسب في الامتحانات. ويتلف المال في الإنفاق بلا وعي. فكلما أعطيته أكثر احتاج إلى المزيد من المال أكثر. ومثل هذا الابن لا يطيع أباه، ويكون العذاب الأكبر حينما ينشأ أحد أبناء هذا الإنسان ويكون الابن مؤمنا إيمانا صادقا بالله، فيرفض أن يأكل أو يلبس من مال أبيه، أو أن يناقشه من أين جاء بهذا المال ويسمع منه ما يكره، ويتمرد دائما عليه.
وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو عامر عدوا لله ورسوله. وكان ابنه حنظلة٢ مؤمنا، وكلمات رأى أبو عامر ابنه كان قلبه يغلي بالغيظ، وعندما نودي للقتال، وسمع حنظلة نداء الجهاد بعد أن فزع من الاستمتاع مع زوجته٣ فلم يصبر إلى أن يغتسل من الجنابة، بل سارع إلى الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهد في المعركة. ولكن كيف عرف الصحابة قصة حنظلة، مع أن هذه المسألة تكون سرا بين الرجل وزوجته لا يعرفه أحد ؟ لقد عرف المؤمنون بخبر حنظلة حين رأى رسول الله صلى الله عله وسلم بإشراقات الله أن الملائكة تنزل من السماء وتغسل حنظلة. ولما كان الشهيد لا يغسل٤، فقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس غسلا من الشهادة، وإنما هو غسل حتى لا يقبل الشهيد على الله وهو جنب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما حدث لحنظلة، وعندما عاد إلى المدينة بعث إلى زوجة حنظلة وسألها : ماذا حدث ساعة خروج حنظلة إلى المعركة ؟ فقالت : إنه عندما سمع نداء القتال، خرج بدون غسل٥. وتأمل كيف نزلت الملائكة لتغسل شهيدا هو ابن عدو لله ورسوله. وكيف يكون هذا غيظا في قلب الأب.
وقصة أخرى : سيدنا عبد الله بن أبيّ ؛ والده عبد الله بن أبيّ كان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي انسحب يوم أحد ومعه ثلث المقاتلين من المعركة٦. ويسمع عبد الله أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، يطلبون منه الإذن بقتل والده ابن أبيّ، وانظروا إلى الإيمان. فها هو الابن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول له : يا رسول الله إن كنت آمرا بقتل أبي فأمرني أنا بقتله ؛ حتى لا ألقى قاتله من المسلمين وفي قلبي غل عليه ٧. وعندما يسمع الأب أن ابنه يطلب أن يكون هو قاتله، أليس عذابا هذا في قلبه ؟ وهكذا نرى أن الأموال والأولاد الذين كان من المفروض أن يكونوا نعمة يصبحون نقمة، أليس هذا عذابا في الدنيا ؟
ولكن غير المؤمنين لا يلتفتون إلى واهب النعمة، ولا إلى الجزاء الذي ينتظرهم في الآخرة، ولا يتنبهون إلى حكمة الخلق التي تؤكد أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن الله قد أعد الأرض بكل ما فيها من إمكانات ومن خيرات لتكون في خدمة هذا الخليفة، أي : أنه أقبل على عالم كامل من كل شيء ؛ معدا له إعدادا فوق قدراته وطاقاته.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي : " خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تشغل بما هو لك عما أنت له ".
أي لا تشتغل بالنعمة عن المنعم، تماما كما يدخل الإنسان إلى وليمة كبيرة، فيجد المائدة معدة بكل ألوان الطعام، وصاحب المائدة واقف فلا يحييه ولا يسلم عليه ويذهب مباشرة إلى الطعام، فيحس الناس أن هذا الإنسان جاحد بكرم الضيافة. بينما نجد رجلا آخر يدخل فيسلم على صاحب الوليمة ويشكره على كرمه ويشيد به، الأول : انشغل بالنعمة، والثاني : لم ينسه انشغاله بالنعمة أن يشكر من أعدها له.
ومثال آخر : إن الصحة هي من أثمن النعم. أما المرض فإنه أقسى ما يمكن أن يصاب به الإنسان ؛ لأن الصحة هي التي تجعل الإنسان يتمتع بنعم الحياة، أما المرض فيحرمه من هذه النعمة. ولذلك فعندما يمرض الإنسان يعوضه الله بأنه بدلا من أن يكون في معية النعمة، يكون في معية المنعم وهو الله سبحانه. ولذلك يقول في حديث قدسي :
" عبدي فلان مرض فلم تعدني. فيقول له : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول له : أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده٨.
قولوا لي بالله : أيضيق أي مريض عندما يعرف الصحة كانت نعمة من الله وفرقته، ولكن المرض جعله مع المنعم، وهو الله سبحانه وتعالى ؟ لا، بل إن ذلك يخفف عند وطأة المرض، ويجعله أن الأنس بالله يخفف عنه الآلام. ولكنك للأسف تجد الإنسان غير منطقي مع نفسه، فالعالم خلق من أجل الإنسان. والإنسان خلق ليعبد الله. ولكنك تجده لا يلتفت لما خلق من أجله، بل يلتفت للأشياء التي خلقت له. وقد كان من المنطقي أن ينشغل بما خلق من أجله.
وإذا أخذنا مثلا منطق الإنسان مع الزمن، نجد أن الزمن إما أن يكون حاضرا أو ماضيا أو مستقبلا. فإذا أردنا أن نذهب إلى ما لا نهاية نقول : إن الزمن حاضر وأزلي وأبدي. والأزلي : هو القديم بلا بداية. والأبد : هو المستقبل بلا نهاية والحاضر : هو ما نعيش فيه.
والوجود الذي تراه أمامك خلقه الحق سبحانه واجب الوجود وبكلمة " كن " جاء كل " ممكن الوجود " ؛ لأن كل وجود يحتاج إلى موجد هو وجود ممكن، وسيأتي له عدم. أما الوجود غير المحتاج إلى موجد فهو وجود لا ينتهي أي : أن واجب الوجود هو وجود الله وحده سبحانه و
٢ هو: حنظلة بن الراهب عبد عمروا بن صيفي الأوسي وكنية أبيه أبو عامر، وحنظلة من أهل الصفة..
٣ جاء في مستدرك الحاكم("/٢٠٤) أن هذه كانت أول ليلة له مع زوجته، وترك جنينا في أحشائها ولد عام ٤ هـ هو عبد الله، وأصبح من أعلام التابعين وشجعانهم، ولاه أهل المدينة أمرهم فقاتل جيش يزيد ابن معاوية قتالا شديدا حتى قتل عام٦٣هـ. انظر الأعلام للزركلي (٤/٩٩)..
٤ عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهداء أحد: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم... أخرج البخاري في صحيحه (١٣٤٣) وأبو داود (٣١٣٨) والترمذي (١٠٣٦) وابن ماجة (١٥١٤) و النسائي (٤/٦٢) في سننهم. وقد أخرج أحمد في مسنده عن جابر أيضا (٣/٢٩٩):" لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة ولم يصل عليهم".
٥ أخرجه أبو نعيم في حلية الأوليا ء (١/٣٥٧) والحاكم في المستدرك (٣/٢٠٤) وصححه والبيهقي في دلائل النبوة (٣/٢٤٧) والبيهقي في سننه الكبرى (٤/١٥). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن صاحبكم-يعني حنظلة- لتغسله الملائكة، فاسألوا أهله ما شأنه" فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة. فقال صلى الله عليه وسلم:"لذلك غسلته الملائكة"..
٦ قال ابن إسحاق: حتى إذا كانوا بالشوط-بين المدينة وأحد- انخزل عنه عبد الله بن أبي سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني (يقصد محمدا صلى الله عليه وسلم)، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب. انظر سيرة النبي لابن هشام(٣/٨).
٧ أورده ابن كثير في تفسير آية ﴿ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ (المنافقون: ٨) بنحو ألفاظه وعزاه لابن إسحاق..
٨ أخرج مسلم في صحيحه (٢٥٦٩) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده. أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟" الحديث..
﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون( ٥٦ ) ﴾.
لماذا أتى الله بهذه الآية بعد أن حذرنا من أن نعجب بأموال المنافقين وأولادهم ؟ لأن هذه ليست نعمة لهم ولكنها نقمة عليهم، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشحننا ضد المنافقين وأن يجعلنا نحذر منهم كل الحذر، ويضرب لنا المثل باليمين، واليمين لا ينطق بها الإنسان عادة إلا بعد شبهة إنكار. فإذا جئت لإنسان بخبر وصدقه فأنت لا تضطر لأن تحلف له.
ولكن إذا أنكره فأنت تحلف لتزيل شبهة الإنكار لنفسه، ولذلك فأنت حين تروي الخبر لأول مرة لا تحلف، فإذا أنكره سامعك حلفت.
ولكن لماذا يحلف المنافقون دون سابق إنكار ؟.
إنهم يسمعون القرآن الذي ينزل من السماء مملوءا بالغضب عليهم، وهم يشعرون في داخل صدورهم أن كل مسلم في قلبه شك من ناحية تصرفاتهم، فيبدأ كلامهم بالحلف حتى يصدقهم المؤمنون١، والمؤمنون قد متعهم الله بمناعة إيمانية، في صدورهم ؛ فلا يصدقون ما يقوله المنافقون، حتى يأخذ حذرهم ويكونوا بمنجاة مما يدبره هؤلاء المنافقون من أذى، ولذلك حذر سبحانه وتعالى المؤمنين من تصديق كلام المنافقين حتى ولو حلفوا.
ولو لم يعط الله المؤمنين هذه المناعة الإيمانية لصدقوا قول المنافقين بقداسة اليمين. وبماذا حلف المنافقون ؟ لقد حلفوا بأنهم من المؤمنين والحقيقة أنهم في مظاهر التشريع يفعلون كما يفعل المؤمنون، ولكن قلوبهم ليس فيها يقين أو صدق.
وما داموا على غير يقين وغير صدق، فلماذا يحلفون ؟ نقول : إن هذا هو تناقض الذات، وأنت تجد المؤمن غير متناقض مع نفسه ؛ لأنه مؤمن بقلبه ومؤمن بذاته، ومؤمن بجوارحه، ولا توجد ملكات تتناقض فيه، والكافر أيضا غير متناقض مع نفسه ؛ لأنه يعلن صراحة أنه لا يؤمن بالله ولا برسوله، فليس هناك تناقض بين ظاهره وباطنه، وصحيح أن فيه ملكة واحدة، ولكنها فاسدة، ولكن ليس فيه تناقض بين ما يفعل ظاهرا وما في قلبه.
أما المنافق فتتناقض ملكاته. فهو يقول بلسانه :" أنا مؤمن وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ". لكن قلبه يناقض ما يقوله، فلا يشهد بوحدانية الألوهية لله، ولا يصدق رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة " المنافقون " :
{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون( ١ ) ( المنافقون ).
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى ﴿ إن المنافقين لكاذبون ﴾، مع أنهم شهدوا بما شهد به الله، وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله ؟ نقول : إن الحق أراد أن يفضحهم، فهم قد شهدوا بألسنتهم فقط ولكن قلوبهم منكرة. وفضح الله ما في قلوبهم وأوضح أن ألسنتهم تكذب ؛ لأنها لا تنقل صدق ما في قلوبهم.
إذن : فالمنافق يعيش في تناقض مع نفسه، وهو شر من الكافر ؛ لأن الكافر يعلن عداءه للدين فهو عدو ظاهر لك فتأخذ حذرك منه. أما المنافق فهو يتظاهر بالإيمان، فتأمن له ويكون إيذاؤه أكبر، وقدرته على الغدر أشد. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :
{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.... ( ١٤٥ ) ( النساء ).
ونحن نعلم أن تناقض الذات هو الذي يتعب الدنيا كلها، ويبين لنا المتنبي هذه القضية، ويشرح كيف أنها أتعب شيء في الوجود، فيقول :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى | عدوا له ما من صداقته بد |
على الذم بتنا مجتمعين وحالنا | من الخوف حال المجمعين على الحمد |
كفانا هوانا من تناقض ذاتنا | متى تصدق الأقوال بالألسن الخوف |
ويكمل الحق سبحانه تعالى الصورة بقوله :
﴿ ويحلفون إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ﴾ والفرق معناه : الخوف، أي أنهم في فزع دائم، ويخافون أن يفتضح أمرهم فيعزلهم مجتمع الإسلام ويحاربهم محاربته للكفار. ويشردهم ويأخذ أموالهم ويسبى نساءهم وأولادهم، إذن : فالخوف هو الذي جعلهم يحلفون كذبا وخوفا من افتضاح أمرهم ؛ ولذلك قال الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم عنهم :
﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول... ( ٣٠ ) ﴾ ( محمد ).
وفي هذا القول دعوة لفحص ما يقله أهل النفاق، حتى وإن بدا القول على ألسنتهم جميلا٢.
٢ وفي هذا يقول تعالى عن المنافقين:﴿وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم﴾ (المنافقون: ٤) قال الكلبي: المراد عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير، كانت لهم أجسامهم ومنظر وفصاحة. أما لحن القول المذكور في آية سورة محمد، أي: لتعرفنهم يا محمد في معنى الكلام وفحواه ودلالته غير الظاهرة..
﴿ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه يجمحون( ٥٧ ) ﴾.
والملجأ : هو ما نلجأ إليه ليحمينا من الأذى مثل الحصون، وكذلك المغارة وهي الكهف في الجبل. والمدخل : هو شيء يشبه النفق تحت الأرض تدخل فيه بمشقة والتواء، إذن : فهناك ثلاثة ملاجئ يفرون إليها إن وجدوا في المعركة ؛ لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وهم يتمنون الذهاب إلى مكان بعيد ؛ ليسبوا الإسلام على ما هم فيه من مشقة القتال، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك أمام المسلمين ؛ لذلك تجدهم في حالة بحث عن مكان لا يسمعهم فيه أحد.
﴿ لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ فالكلام إذن عن المنافقين الذين ذكر الحق أوصافهم، وعهودهم التي نقضوها، وحلفهم كذبا، وما يعيشه كل منهم من تناقض ملكاته، ذلك التناقض الذي يورثه الشقاء ؛ لأن كل واحد منهم يظهر غير ما يبطن ويخاف من انكشاف أمره. فيظل مضطربا لأن ما بداخله يتناقض مع واقع حياته.
إن هذه الحالة هي عكس حالة المؤمن الذي يعيش حيات منسجمة ؛ لأن ما في قلبه هو ما يحكيه لسانهم فضلا عن انسجامه بالإيمان مع الكون الذي يعيش فيه، وكذلك فحالة المنافق تختلف عن حالة الكافر، فالكافر قد أعلن الكفر الذي في قلبه بلسانه. أما المنافق فله قلب يكفر ولسان ينطق كذبا بالإيمان. ولذلك فهو في تعب مستمر من أن ينكشف أمره، أو يعرف المؤمنون ما في قلبه ؛ لأنه يكن الحقد لمنهج الله وإن كان يعلن الحب ظاهرا.
والإنسان إذا اضطر أن يمدح من يعاديه وأن يتظاهر له بالحب، فإذا هذا السلوك يمثل نقلا نفسيا رهيبا يحمله عن ظهره، وهكذا نرى أن المنافقين يتعبون أنفسهم قبل أن يتعبوا المجتمع، تماما كالرجل البخيل الذي يتظاهر بأنه كريم، وكلما أنفق قرشا ليؤكد هذا التظاهر فإن هذا القرش يذبحه في نفسيه ويسبب له آلاما رهيبة. وحتى يرتاح الإنسان مع الدنيا لا بد أن يرتاح مع نفسه أولا ويتوافق مع نفسه.
ومن هنا نجد المنافقين حين يريدون أن ينفثوا عما في صدورهم، فهم يختلون بعضهم بعضا بعيدا عن أعين وآذان المسلمين ؛ ليظهروا ما في نفوسهم من حقد وغل وكراهية لهذا الدين، ويبحثون عن ملجأ يكونون آمنين فيه، أو مغارة في الجبل بعيدا عن الناس حتى لا يسمعهم أحد، أو مدخلا وهو المكان الضيق الذي لا تستطيع أن تدخل فيه إلا بصعوبة. هم إذن يبحثون عن مكان يغيبون فيه عن سمع المؤمنين وأنظارهم ليخرجوا الكراهية المحبوسة في صدورهم، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ و﴿ ولوا ﴾ أي : انطلقوا إليه وقد شغلهم الإسراع للذهاب إلى المكان عن أي شيء آخر، ﴿ وهم يجمحون ﴾ والجماح هو أن تفقد السيطرة على الفرس الذي تركبه، فلا تقدر على كبح جماحه أو التحكم فيه، فينطق بسرعة، وحين يقال هذا عن الإنسان فهو يعني الانطلاق بسرعة إلى المكان الذي يقصد إليه ولا يستطيع أحد منعه، وإن تعرض له أحد دفعه بعيدا لينطلق بسرعة.
والآية هنا تعطينا صورة دقيقة لحالة المنافقين في أي معركة. فبمجرد بدء القتال تجدهم لا يتجهون إلى الحرب، ولا إلى منازلة١ العدو، ولا يطلبون الاستشهاد، ولكنهم في هذه اللحظة التي يبدأ فيها القتال يبحثون عن مكان آمن يهربون إليه، أو مغارة يختبئون فيها، أو مدخل في الأرض ينحشرون فيه بصعوبة ليحميهم من القتال. فإذا انتهت المعركة خرجوا لينضموا إلى صفوف المسلمين، ذلك أنهم لا يؤمنون. فكيف يقاتلون في سبيل دين لا يؤمنون به ؟ ولذلك كنت تجدهم في المدينة إذا نودي للجهاد فهو أول من يحاول الهروب ويذهبون للقاء النبي صلى الله عليه وسلم طالبين التخلف عن المعركة، ويقول الواحد٢ منهم :﴿ ائذن لي ولا تفتني.... ( ٤٩ ) ﴾ ( التوبة ).
٢ هو الجد بن قيس، وقد سبق الكلام عليه في تفسير الآية المذكورة..
وإذا جلسوا مع بعضهم تجدهم يحاولون النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرض إيذائه ولمزه، ويقول سبحانه وتعالى عنهم.
﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم( ٢١ ) ﴾ ( التوبة ).
هذه بعض صفات المنافقين التي يفضحهم الله بكشفها للمؤمنين. وقد جاء الحق سبحانه لنا بمزيد من الكشف لقبائحهم وفضائحهم. فقال فيهم :
﴿ منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون( ٥٨ ) ﴾ ( التوبة )كلنا أيضا نقرأ قول الله سبحانه :
﴿ ويل لكل همزة لمزة( ١ ) ﴾ ( الهمزة )فما هي الهمزة وما هي اللمزة ؟ " الهمزة " : هو من يعيب في الآخرين عيبا خفيا ويسخر منهم خفية، ويكون ذلك بإشارة من عينه أو بأي حركة من جوارحه، ومثال هذا : حين تكون هناك مجموعة من الناس جالسين، ويحاول أحدهم النيل من أحد الحضور خفية، فيغمز بطرف عينه لإنسان آخر، أو يكون باللسان همسا في آذان إنسان أو بأي طريقة أخرى، والمهم أن يشار إلى العيب بطريقة خفية لا يلحظها معظم الحاضرين.
أما اللمزة فهم العيابون في غيرهم في حضورهم. فهناك القوي الذي يكشف العيوب بشجاعة وصراحة وهو اللماز، وأما الضعيف فهو يعيب خفية وهو الهماز. واللمزة تطلق على من يعيب كثيرا في الناس.
وهمزة لمزة، من صيغة المبالغة " فعلة " وتدل على كثرة فعل الشيء. فتقول " فلان أكلة " -بضمة على الألف- أي : يأكل كثيرا. وفلان ضحكة- بضمة على الضاد- أي : كثير الضحك.
إذن : فاللمزة هي كثرة العيب في الغير، وهي تدل على ضعف من يقول بها، ولو لم يكن ضعيفا لقال ما يريد بصراحة.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ واللمز كما عرفنا هو البحث عن العيب، وهو هنا مظروف في شيء هو الصدقات.
وكان بعض من المنافقين يغتابون تشريع الصدقة، وكانوا يعيبون أن يتعب الغني ويشقى في الحصول على المال ثم يأخذ الفقير المال بلا تعب، فهل يعيبون التشريع نفسه ؟ أمن يعيبون كمية الصدقات المفروضة عليهم ويرونها كثيرة ؟ أم يعيبون حث الله للناس على الصدقة ؟ أم يعيبون الطريقة التي يتم بها صرف الصدقة للفقراء، وأن بعضهم يعطي كثيرا وبعضهم يعطي قليلا ؟ لقد كانوا يعيبون في كل هذه الأمور أو بعضها.
إذن : فاللمز إما أن يكون في التشريع، وإما أن يكون في كمية الصدقات أو في طريقة الصرف، والحادثة التي وقعت ونزلت فيها هذه الآية الكريمة كانت في مصارف الصدقة، فقد قام حرقوص بن زهير، وهو رأس الخوارج، وهو ابن ذي الخويصة، وقال : اعدل يا محمد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك ! ومن يعدل إن لم يعدل ؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" دعه فإذا له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر على نضيّه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء. سبق الفرث والدم. آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة. أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين من الناس١.
قال أبو سعيد الخدري : فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه. فأمر بذلك الرجل-أي الرجل الأسود- فالتمس فوجد فأتى به، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت٢.
ويقول الحق سبحانه موضحا حال هؤلاء ﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾ أي : أن هؤلاء الناس إن أعطوا من الصدقة كانوا راضين مهللين، وإن لم يعطوا منها ملأ قلوبهم السخط، وبدأ باللمز. إذن : فالكمية المعطاة لهم من الصدقة كانت هي أساس اللمز.
ومثل هذا حدث في غزوة حنين. فقد وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم على قريش وأهل مكة، ولم يعط الأنصار شيئا.
فلما لم يدخل صلى الله عليه وسلم الأنصار في هذه القسمة، استاء بعضهم من ذلك، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم :
" ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون أنتم برسول الله ؟ المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار " ٣
وهنا بكى الأنصار، وعرفوا أنهم سيعودون بما هو أكبر كثيرا من الغنائم ؛ سيعودون بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد بالإسلام شيئا من الصدقة ليربطه بهذا الدين، وقد يعطي لتأليف القلوب، وقد يعطي لفقير تأبى عزة نفسه أن يعترف أمام الناس بحاجته.
ولذلك كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملاحظ في توزيع الصدقات والغنائم، وقد لا يلحظها أحد. وكان الواجب على المسلمين أن يقبلوا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن سلوكه هو الحكم، ولابد أن نقبله.
ففي الحديبية مثلا حيث حدث عهد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش بألا يتعرض أحد منهم للآخر مدة عشرة أعوام٤، هذا الصلح أثار غضب عدد من المؤمنين وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنرضى بالدنية في ديننا ؟ أي : كيف نعطيهم هذه العهود وهي مجحفة بالنسبة لنا ؟ حتى إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه انفعل وأراد أن يقسوا في الكلام وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست على حق يا رسول الله ؟ فقال له أبو بكر : إلزم غرزك يا عمر-أي اعرف مكانك- إنه رسول الله٥. وبعد أن مرت فترة من الزمن وعرف المسلمون الحكمة من صلح الحديبية، وما أتاحه هذا الصلح للإسلام من انتشاره وقوة أدت على فتح مكة، وقال أبو بكر رضي الله عنه : ما كان نصر للإسلام أعظم من نصر الحديبية. ولكن المسلمين في هذا الوقت لم يحط فكرهم بما بين محمد وربه ؛ لأن العباد دائما يعجلون، والله لا يعجل عجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يهدئ نفوس المؤمنين، وقيل أن يصلوا إلى المدينة عائدين بعد صلح الحديبية، نزل قوله تعالى :
{ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما( ٢٥ )
وهكذا أطلع الله المؤمنين على علة قبول صلح الحديبية وعدم القتال مع المشركين في هذا الوقت وذلك المكان، فقد كان هناك مؤمنون في مكة يكتمون إيمانهم ويعيشون في مجتمع الذين يمكنهم البطش بهؤلاء المسلمين لو علموا بوجودهم. كما أن المسلمين القادمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفون هؤلاء المؤمنين، فإذا قامت المعركة فقد يقتل المسلم مسلما، لأن الذين قدموا من المدينة لو دخلوا مع أهل مكة في قتال فقد يقتلون بعضا من إخوانهم في الإيمان الموجودين في مكة، فهم لا يعرفونهم. ولو كان المؤمنون في ناحية والكفار في ناحية لعذب الحق الكفار بأيدي المؤمنين عذابا أليما.
إذن : فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه سرا ولم يعلنه إلا لوقته، رغم تعجل من كانوا معه صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا يحدث في حياتنا، فقد نجد مؤمنا يدعوا الله ولا تجاب دعوته. وعلى هذا المؤمن ألا يحزن، بل عليه أن يعلم أنه قد يكون في عدم الإجابة خير لا يعلمه. وأن من رحمة الله أنه لم يجب هذه الدعوة، مثلما تحمي ابنك الشاب من أن يحمل سلاحا ؛ خوفا من أن يتهور في أي مشاجرة ويقتل أحد، رغم أن السلاح معه حماية له، ولكنه أسلوب حماية قد يحمل الضرر، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة.
وحين تدعوا الله ولا يجيب دعاءك، فثق أنه سبحانه يحميك من نفسك ؛ لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم. فقد تدعوا بشيء تحسبه خيرا والله سبحانه وتعالى يعلم أنه شر، إذن فعدم إجابة هذه الدعوة هو عين الإجابة لها٦
الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾، والسخط هو : عدم الرضا في القلب، ثم يتعدى إلى اللسان، مثلما قال حرقوص بن زهير لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اعدل يا محمد. أي : أنه سخط بقلبه أولا، ثم أساء بلسانه ثانيا.
وساعة يعرض الحق سبحانه لنا الداء في المجتمع الإيماني فهو جل وعلا يعطي الدواء الذي يحمي المجتمع من هذا الداء، وهؤلاء الناس كانوا يعيبون تشريع الصدقة، ورغم أنهم إن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا سخطوا، إذن : فموازينهم مختلة، وليست موازين حق ثابت، بل هي موازين هوى النفس، ولكن موازين الحق لا تتبع ولا تتوقف على هوى النفس، بل هي موازين ثابتة يعدل فيها الإنسان حتى مع ألد أعدائه٧.
ولكن هؤلاء الناس تختلف انفعالاتهم باختلاف مصلحتهم، وإذا أخذوا رضوا، وإذا منعوا سخطوا ؛ لأن ميزانهم هو المصلحة الخاصة البعيدة عن كل عدل.
-الرمية: أي الشيء الذي يصاب بالسهم إذا رماه صاحبه.
-النصل: الجزء الحاد في السهم نفسه.
-الرصاف: مدخل النصل من السهم.
- النضي: السهم بلا نصل ولا ريش.
- الفرث: ما في داخل الكرش من فضلات.
البضعة: قطعة اللحم
-تدردر: تتحرك وتضطرب..
٢ متفق عليه. أخرجه البخاري (٦١٦٣، ٦٩٣٣)، ومسلم (١٠٦٤) كتاب الزكاة حديث (١٤٨) من حديث سعيد الخدري واللفظ لمسلم..
٣ حديث صحيح سبق تخريجه مرارا كثيرة..
٤ لهذا الصلح شروط أخرى ذكرتها كتب السيرة والتفاسير:
١-أن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا يدخلون مكة معتمرين هذا العام.
٢- يعودون العام التالي للإعتمار ولكن بدون سلاح إلا السيوف في أغمادها فيقيم بمكة ثلاثا ويخرج.
٣-هدنة مدة عشر سنوات.
٤- من ذهب إلأى المسلميت من الكافرين مسلما رجلا أو امرأة رد إلى الكفار.
٥- من جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين.
وحديث صلح الحديبية حديث صحيح طذويل لأخرجه البخاري في صحيخه(٢٧٣١، ٢٧٣٢) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وأخرجه مسلم في صحيحه (١٧٨٥) من حديث سهل ابن حنيف..
٥ قال عمر ابن الخطاب: أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: أالسنا على الحق وعودنا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟... وذهب عمر إلى أبي بكر فقال له نحو هذا فقال له أبو بكر: أيها الرجل، إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فو الله إنه على حق (فتح الباري ٥/٣٣٢) أي: استمسك بأمره وترك المخالفة له صلى الله عليه وسلم..
٦ عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يدعوا بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له في دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصوف عنه السوء مثلها. قالوا: إذا نكثر. قال: الله أكبر". أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٨) والحاكم في مستدركه (١/٤٩٣) وصححه والطبراني في الصغير (٢/٩٢)..
٧ وفي هذا يقول سبحانه:﴿ولوا اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن﴾(المؤمنون: ٧١)..
﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون( ٥٩ ) ﴾.
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ما آتاهم ﴾ مع أنهم لم يأخذوا شيئا، بل إنهم قد سخطوا ؛ لأنهم لم يأخذوا شيئا.
نقول : إن الله يريد أن يلفتهم إلى أن له عطاء في المنح وعطاء في المنع. فعطاء الحق سبحانه لمن أخذ، وحرمان الحق سبحانه للبعض، وكل ذلك فيه عطاء من الحق جل وعلا، ولكن الناس لا يلتفتون إلى ذلك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين منع الغنائم عن الأنصار في حنين أخذوا المعية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر وأسمى من الغنائم، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" المحيا محياكم، والممات مماتكم. لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار " ١.
وبذلك أخذوا ما هو أكبر وأهم وأعظم من الغنائم. إذن فقد يكون في المنع إيتاء.
الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ما آتاهم الله ورسوله ﴾ وهو عز وجل المشرع، والرسول عليه الصلاة والسلام هو المبلغ والمنفذ، فإذا ما رضوا بقسمة الله، فالرضاء عمل قلبي كان عليهم أن يترجموه بكلام نزوعي هو :﴿ وقالوا حسبنا الله ﴾ فكأن الرضا عمل القلب، والتعبير عن الرضا عمل اللسان، وما داموا قد احتسبوا الأمر عند الله، فالله هو الذي يرعى، وفي عطائه خير وفي منعه خير. ولذلك نجد الطيبين من الناس إن غلبوا على أمرهم يقولون : إن لنا ربا، أي : إياك أن تفهم أنك حين منعتني أو أخذت حقي بأن اعتديت علي ستمضي بهذا الفعل دون عقاب ؛ لأن لي ربا يغار علي، وسبحانه سيعوضني أكثر مما أخذت، ويجعل ما أخذته مني قسرا ؛ نقمة عليك.
ولذلك فأهم ما يجب أن يحرص عليه المؤمن ليس هو الصلة بالنعمة ولكن الصلة بالمنعم. وفي أن الله هو القادر على أن يعوض أي شيء يفوت.
ويوضح لنا سبحانه الصورة أكثر فيقول :﴿ سيؤتينا الله من فضله ﴾ أي سيعوضنا عنها بخير منها. وعطاء الله دائما فضل ؛ لأنه يعطي الإنسان قبل أن يكون قادرا على عبادته، حتى وهو في بطن أمه لا يقدر على شيء، فإذا كنت في الدنيا قد فكرت بالعقل الذي خلقه لك الله، وعملت بالطاقة التي خلقها لك الله، وفي الأرض التي خلقها الله، فإنك في بطن أمك لم تكن قادرا على أي شيء. وحين تخرج وتنمو وتكبر فأنت تحيا في كون مليء بنعم الله، لم تخلق فيه شيئا، ولم توجد فيه خيرا. وإنما جئت إلى الكون وهو كامل النعم، فلا أنت أوجدت الأرض ولا صنعت الشمس، بل إن نعمة واحدة من نعم الله، وهي المطر ؛ إن توقفت هلك كل من في الأرض. ونلمس أثر ذلك حين تأتي مواسم الجفاف في أي منطقة من العالم، ونرى كيف يهلك كل شيء ؛ والزرع والإنسان والحيوان.
والحق سبحانه وتعالى قد خلقنا في عالم أغيار، فالقادر اليوم قد يصبح غير قادر غدا، والصحيح اليوم قد يصبح مريضا معلولا غدا، والقوي يضعف، حتى نعرف أن ما نملكه من قدرة وقوة ليست أمورا ذاتية فينا، ولكنها منحة من الله ؛ يأخذها وقتما شاء، ونرى القوي الذي كان يفتك بيده ويؤذي بها غيره ويذل الناس بها. نراه وقد أصيبت يده، فلا تصل إليها الأوامر من المخ فتشل. إذن : فقدرة أي إنسان ليست ذاتية فيه، بل هي من فضل الله سبحانه وتعالى، فكل شيء في الكون هو من فضل الله.
والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ﴾ ويقال : رغب في كذا أي أراده، ويقال : رغب عن كذا، أي ترك هذا الأمر. ويقال : رغب إلى كذا أي سار في الطريق نحوه. وهنا قال الحق :﴿ إنا إلى الله راغبون ﴾ وما دمنا إلى الله راغبين، كان يجب ألا نعزل عطاء الدنيا عن عطاء الآخرة، فالدنيا ليست كل شيء عندك ؛ ما دمت راغبا إلى الله الذي سيعطيك نعيما لا حدود له في الآخرة. ولذلك فرغبتنا في الله كان يجب ألا تجعلنا نسخط على نعيم فاتنا في الدنيا، لأن هناك نعيما بلا حدود ينتظرنا في الآخرة.
﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين و في سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم( ٦٠ ) ﴾.
وعندما تسمع كلمة﴿ إنما ﴾ فافهم أنه يراد بها القصر، فإذا قلت : إنما الرجل زيد، أي : أنك قصرت الرجولة على زيد. وإن قلت : إنما الكريم حاتم، وتكون قد قصرت الكرم على حاتم. وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إنما الصدقات ﴾ معناها : أن الصدقات محصورة في هؤلاء ولا تتعداهم.
فمن هم هؤلاء الذين حصر الحق سبحانه وتعالى فيهم الصدقة ؟ وما المراد بالصدقة ؟ هل هي صدقة التطوع أو الزكاة ؟.
نقول : ما دام الحق سبحانه وتعالى قد حدد لها مصارف فهي الزكاة، ولسائل أن يسأل : لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى الزكاة وقال الصدقة ؟.
ونقول : ألا ترى-في المجتمعات غير الإيمانية الملحدة- أن من الناس من يفكرون في إنشاء مؤسسات اجتماعية لرعاية الفقراء ؟ إن عطف الإنسان على أخيه الإنسان هو أمر غريزي خلقه الله فينا جميعا، ولذلك كان يجب أن نفهم أن الزكاة صدقة، ولو لم يشرعها الله لكان يجب أن يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان. وحوادث الكون كلها تدل على صدق وصف الحق سبحانه وتعالى للزكاة بأنها صدقة ؛ لأنها تأتي تطوعا من غير المؤمن وغير الملتزم بالتشريع، ويحس القادر بالسعادة وهو يعطي لغير القادر، وهي غريزة وضعها الله في خلقه ليخفف من الشقاء في الكون.
وهنا يقول الحق :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ وقد احتار العلماء في ذلك، فقال بعضهم : إن الفقير هو الذي لا يجد شيئا فهو معدم. والمسكين هو من يملك شيئا ولمنه لا يكفيه، على هذا يكون المسكين أحسن حالا من الفقير، واستندوا في ذلك إلى نص قرآني في قوله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر.... ( ٧٩ ) ﴾ ( الكهف ).
وما دام هؤلاء المساكين يملكون سفينة إذن فعندهم شيء يملكونه. ولمن العائد الذي تأتي به السفينة لا يكفيهم.
ولكن بعض العلماء قالوا عكس ذلك، ورأوا أن المسكين هو من لا يملك شيئا مطلقا، والفقير هو الذي يجد الكفاف. وعلى هذا يكون الفقير أحسن حالا من المسكين، ولا أعتقد أن الدخول في هذا الجدل له فائدة ؛ لأن الله أعطى الاثنين.. الفقير والمسكين. كلمة " فقير " معناها الذي أتعبت الحياة فقار ظهره أي فقرات ظهره، وحاله للتعبير عنه، والمسكين هو الذي أذهلته المسكنة.
ثم يأتي بعد ذلك :﴿ والعاملين عليها ﴾ أي : الذين يقومون بجمع الصدقات ويأخذونها ممن يعطيها ويضعنها في بيت المال، ونلاحظ هنا أن ﴿ والعاملين عليها ﴾ جاءت مطلقة، فلم تحدد هل يستحق الصدقة من كان يجمعها وهو فقير، أو من كان يجمعها وهو غير محتاج. ونقول : إن جمع الصدقة عمل، ولو قلنا : إن غير محتاج ويعمل في جمع الصدقة لا يجب أن يأخذ أجرا، هنا يصبح عمله لونا من التفضل، وما دام العمل تفضلا فلن يكون بنفس الكفاءة التي يعمل بها، إذا كان العمل بالأجر. وأيضا حتى لا يحرم المجتمع من جامع صدقة ذكي نشيط ؛ لأنه غير محتاج، ولكن نعطيه أجرا ليكون مسئولا عن عمله، والمسؤولية لا تأتي إلا إذا ارتبطت بالأجر.
والعامل على جمع الصدقة إنما يعمل لصالح الدولة الإيمانية، فهو يجمع الصدقات ويعطيها للحاكم أو الوالي الذي يوزعها. وفي هذا مصلحة لمجتمع المسلمين كله. خصوصا إن كانت الصدقة توزع من بيت المال فلا يتعالى أحد على أحد، ولا يذل أحد أمام أحد، وفي هذا حفظ لكرامة المؤمنين ؛ لأن من يأخذ من غير بيت المال سيعاني من انكسار يده السفلى.
ومن يعطي لغير بيت المال قد يكون في عطائه لون من تعالي صاحب اليد العليا، وكذلك فإن أولاد الفقير لن يروا أباهم وهو ذاهب إلى رجل غني ليأخذ منه الصدقة ويصاب بالذلة والانكسار. ولا يرى أولاد الغني هذا الفقير وهو يأتي إلى أبيهم ليأخذ منه الصدقة، فيتعالون على أبناء الفقير.
فإن أخذ الفقراء الصدقة من بيت المال، كان ذلك صيانة لكرامة الجميع، وإن حدث خلاف بين غني وفقير فلن يقول الغني للفقير : أنا أعطيك كذا وكذا، أو يقول أولاد الغني لأولاد الفقير : لولا أبونا لمتم جوعا.
إذن : فقد أراد الحق سبحانه بهذا النظام أن يمنع طغيان المعطي، ويمنع-أيضا- ذلة السؤال، فالكل يذهب إلى بيت المال ليأخذ أو يعطي. وحين يذهب الفقير ليأخذ من بيت المال بأمر من الوالي فلا غضاضة ؛ لأن المحكومين تحت ولايته مسئولون منه.
ثم يأتي الحق إلى فئة أخرى فيقول :﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾ وهم من يريد الإسلام أن يستميلهم، أو على الأقل أن يكفروا آذاهم عن المسلمين. وكان المسلمون في الزمن الأول للإسلام ضعافا لا يقدرون على حماية أنفسهم. وعندما أعز الله دولة المسلمين بالقوة والعزة والمكانة، منع الخليفة عمر ابن الخطاب إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة ؛ لأنه لم يجد أن قوة الإسلام تحتاج أحدا غير صحيحي الإيمان ؛ لذلك لم يدخلهم عمر ابن الحطاب في فئات الزكاة١.
وقول الحق سبحانه :﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾ يثير سؤالا : هل يؤلف القلب ؟. نقول : نعم، فالإحسان يؤلف قلب الإنسان السوي، وكذلك يؤلف جوارح الإنسان غير السوي، فلا يتعدى على من أحسن إليه باللسان أو باليد.
ثم يقول سبحانه :﴿ وفي الرقاب ﴾ ومعناها العبيد الذين أسروا في حرب مشروعة. وكانت تصفية الرق من أهداف الإسلام ؛ لذلك جعل من مصارف الزكاة تحرير العبيد. وبعض من الناس يدعون أن الإسلام لذلك جاء بالرق وأقره. ونقول : لم يأت الإسلام بالرق ؛ لأن الرق كان موجودا قبيل البعثة المحمدية، وجاء الإسلام بالعتق ليصفي الرق، فجعل من فك الرقبة لبعض الذنوب٢. وجعل من مصارف الزكاة عتق العبيد. وقد نزل القرآن وقت أن كانت منابع الرق متعددة.
وكان من المعتاد في تلك الأيام أن المدين الذي يعجز عن سداد ما عليه من دين، فالدائن يأخذه أحد أبنائه كعبد له.
وإذا فعلت جناية، فالجاني يأخذ العفو من المجني عليه مقابل أن يعطيه أحد أولاده عبدا. وإذا سرق شيء فإن السارق لا يعاقب، بل يعطي أحد أولاده عبدا للمسروق منه وكان الأقوياء يستعبدون الضعفاء ؛ فيخطفون نساءهم وأولادهم بالقوة ويبيعونهم في سوق الرقيق، وهكذا كانت منابع الرق في العالم متعددة، ولا يوجد إلا مصرف واحد هو إرادة السيد ؛ إن شاء حرر وإن شاء لم يحرر.
وقد كان الرق موجودا في أوروبا وفي آسيا وفي إفريقيا ووجد أيضا في أمريكا. إذن : كانت هناك منابع متعددة للرق ؛ ومصرف واحد هو إرادة السيد، وقد كان الرق يتزايد، وجاء الإسلام والعالم غارق في الرق، لماذا ؟.
لأن الرق في ذلك الوقت كان يشبه حوضا تصب فيه صنابير متعددة، وليس له إلا بالوعة واحدة. ولم يعالج الإسلام المسألة طفرة واحدة، شأن معظم تشريعات الله، ولكنه عالجها على مراحل، تماما كتحريم الخمر حين بدأ التحريم بالمنع عند الصلاة، فقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون... ( ٤٣ ) ﴾ ( النساء )ثم حرمها تحريما قاطعا٣.
وحين جاء الإسلام ليعالج قضية الرق ويحرر الإنسان من العبودية، بدأ بإغلاق مصادر الرزق وجعل المصدر الوحيد هو الحرب الإيمانية المشروعة من ولي الأمر. أما كل الوسائل والألوان الأخرى من أبواب الرق، كأن يتم استعباد أحد كعقوبة جنائية أو لعجزه عن تسديد دين أو غير ذلك، فقد أغلقها الإسلام بالتحريم. أما ناحية المصرف فلم يجعله مصرفا واحدا وهو إرادة السيد، بل جعله مصارف متعددة ؛ فالذي يرتكب ذنبا يعرف أن الله لن يغفر له إلا إذا أعتق رقبة، ومن حلف يمينا ويريد أن يتحلل منها ؛ يعتق رقبة. فإذا لم يفعل هذا كله أراد أن يحسن إحسانا يزده من أجره عند الله ؛ أعتق رقبة٤.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلا اقتحم العقبة ( ١١ ) وما أدراك ما العقبة( ١٢ ) فك رقبة( ١٣ ) ﴾ ( البلد ).
وهكذا جعل الإسلام مصارف كثيرة لتصفية الرق حتى ينتهي في سنوات قليلة، ثم وضع بعد ذلك ما ينهي الرق فعلا، وإن لم ينه شكلا.
فإذا كان عند أي سيد لون من الإصرار على أن يستبقي عبده، فلا بد أن يلبسه مما يلبس، ويطعمه مما يطعم، إن كلفه يعينه٥. وهكذا أصبح الفارق متلاشيا بين السيد وعبده.
وحين ألغت بعض الدول الإسلامية الرق بالقانون، ذهب الرقيق إلى أسيادهم وقالوا : دعونا نعش معكم كما كنا. وهم قد فعلوا ذلك لأن حياتهم مع أسيادهم كانت طيبة. وهكذا ألغى الإسلام فوارق الرق كلها. وأصبحت مسألة شكلية لا تساوي شيئا.
ولكن بعض الناس يتساءل : وماذا عن قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وما ملكت أيمانكم... ( ٣٦ ) ﴾ ( النساء ).
نقول : إفهم عن الله فهذا الأمر لا يسرى إلا إذا كانت المرأة المملوكة مشتركة في الحرب، أي : كانت تحارب مع الرجل ثم وقعت في الأسر، والذي يسري عليها، ثم من أي مصدر ستعيش وهي في بلد عدوة لها ؛ إن تركها في المجتمع فيه خطورة على المجتمع وعليها. كما لأن لهذه المرأة عاطفة سوف تكتب، فأوصى الإسلام السيد بأنه إذا أحب هذه الأمة فلها أن تستمتع كما تستمتع زوجة السيد، وإن أنجبت أصبحت زوجة حرة وأولادها أحرارا٦، وفي هذا تصفية للرق.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لون آخر من مستحقي الزكاة :﴿ والغارمين ﴾ والغارم : هو من استدان في غير معصية، ثم عجز عن الوفاء بدينه. ولم يمهله صاحب الدين كما أمر الله في قوله تعالى :﴿ فنظرة إلى ميسرة... ( ٢٨٠ ) ﴾ ( البقرة )ولم يسامحه ولم يتنازل عن دينهن وفي هذه الحالة يقوم بيت المال بسداد هذا الدين. لكن لماذا هذا التشريع ؟.
لقد شاء الحق إعطاء الغارم الذي لا يجد ما يسد به دينه حتى لا يجعل الناس ينقلبون عن الكرم وعن إقراض الذي يمر بعسر، وبذلك يبقى اليسر في المجتمع، وتبقى نجدة الناس للناس في ساعة العسرة، فلا يمتنع أحد عن إعطاء إنسان في عسرة ؛ لأنه يعلم أنه إن لم يدفع فسيقوم بيت المال بالسداد من الزكاة. أو : أن الغارم هو الذي أراد أن يصلح بين طرفين، كأن يكون هناك شخصان مختلفان على مبلغ من المال، فيقوم هو بفضّ الخلاف ودفع المبلغ، ثم تسوء حالته ؛ لأنه غرم هذا المال بنخوة إيمانية، فنقول له : خذ من بيت المال حتى يشيع في النفوس تصفية الخلافات وإشاعة الحي بين الناس. إذن : فالغارم هو المستدين في غير معصية ولا يقدر على سداد الدين، أو المتحمل لتكلفة إصلاح ذات البين بين طرفين، وهو مستحق لهذا اللون من المال.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وفي سبيل ﴾. يقول جمهور الفقهاء : إنها تنطبق على الجهاد٧ ؛ لأن الذي يضحي بماله مجاهدا في سبيل الله، لو لم يعلم أن الجهاد باب يدخله الجنة لما ضحى بماله، وعندما تضحي بالمال أو النفس في سبيل الله يكون هذا من يقين الإيمان.
فلو لم تكن على ثقة أنك إذا استشهدت دخلت الجنة ما حاربت. ولو لم تكن على ثقة أنك إذا أنفقت المال جهادا في سبيل الله دخلت الجنة ما أنفقت.
والإسلام يهدف إلى أمرين : دين يبلغ ومنهج يحقق، والمجاهد في سبيل الله أسوة لغير من المؤمنين. والأسوة في
٢ وهذا مثل قتل المؤمن خطأ، قال تعالى:﴿ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا...﴾ (النساء: ٩٢) وكذلك كفارة اليمين قال تعالى:﴿فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتكم أو تحرير رقبة...﴾ (المائدة: ٨٩).
٣ مر تحريم الخمر لثلاث مراحل:
١- ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما....(٢١٩)﴾ (البقرة)
٢- ﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارىحتى تعلموا ما تقولون....(٤٣)﴾ (النساء)
٣- ﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (٩١)﴾ (المائدة).
٤ وفي فضل العتق بقول صلى الله عليه وسلم:"من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار حتى فرجه" متفق عليه من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري(٦٧١٠) ومسلم (١٥٠٩)..
٥ عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"هو إخوانكم، وجعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فيلعنه عليه" متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٠٥٠) ومسلم في صحيحه (١٦٦١).
٦ وهي ما يسمى في الشرع"أو ولد" وهي الأمة تصير حرة إذا ولدت من سيدها، وله أن يستمتع بها ما دام حيا، فإذا مات فهي حرة. انظر الأوطار (٦/٩٦-٩٩).
٧ قال القرطبي من المفسرين (٤/٣١١٠):﴿وفي سبيل الله﴾ هم الغزاة وموضع الرباط، يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء. وهذا قول أكثر العلماء. وهو تحصيل مذهب مالك وحمه الله. وقال ابن عمر: الحجاج والعمار".
﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا ومنكم الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم( ٦١ ) ﴾.
ونعلم أن الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بعد النبوة، وكان بعض الكفار يقولون ما حكاه القرآن على ألسنتهم :
﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ٣٢ ) ﴾ ( الأنفال ).
وهذا دعاء من لا عقل له، ولو كانوا يعقلون لقالوا : إن كان هذا الحق من عندك فاهدنا يا رب إليه أو اجعلنا نؤمن به، ولكنهم من فرط حقدهم وضلالهم، تمنوا العذاب على الإيمان بالحق. وهذا يكشف لنا تفاهة عقول الكفار.
وهنا يقول الحق سبحانه١ :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾ والذين يؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم هم السادة، وهم أصحاب النفوذ الذين يخافون أن يذهب منهج هذا النبي بنفوذهم ؛ وثرواتهم ؛ وما أخذوه ظلما من الضعفاء. والضعفاء-كما نعلم- هم أول من دخل إلى دين الإسلام ؛ لأنهم أحسوا أن هذا الدين يحميهم من بطش الأغنياء واستغلالهم ونفوذهم. وشاء الحق أن يبدل خوف الضعفاء قوة وأمنا، وشاء سبحانه أن يضم إلى الإيمان عددا من الأغنياء ؛ ومن رجال القمة مثل : أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، حتى لا يقول أقوياء قريش قال قوم نوح لنبيهم :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا... ( ٢٧ ) ﴾ ( هود ).
وهكذا كان الإيذاء له صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة، وأما قبل الرسالة فكان في نظر الجميع هو : الأمين والصادق والمؤتمن.
ومن العجيب أنهم، بعد أن نزل الوحي، كانوا لا يستأمنون أحدا مثلما يستأمنون محمدا صلى الله عليه وسلم. فإذا كان كل شيء ثمين عند الكافرين والمعارضين، ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحفوا هذه الأشياء الثمينة عنده. وهذا التناقض لا يفسره إلا وثوقهم في أخلاقه صلى الله عليه وسلم. ورغم ذلك كانوا في غيظ وكمد ؛ لأن القرآن قد نزل عليه. والحق هو القائل ما جاء على ألسنتهم :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( ٣١ ) ﴾ ( الزخرف ).
وهم بذلك قد اعترفوا بألسنتهم بعظمة القرآن، بعد أن اعترفوا بسلوكهم بأمانة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم اعترضوا على اختيار الحق سبحانه له، وتمنوا لو كان هذا القرآن قد نزل على أحد عظمائهم٢. ورد الحق سبحانه وتعالى عليهم :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا... ( ٣٢ ) ﴾ ( الزخرف ).
وفي هذا دعوة لأن يتأدبوا مع الله سبحانه، فهو لم يوكلهم في اختيار من ينزل عليه رحمته، ورسالته، ولكنه سبحانه هو الذي يختار. وهو الذي قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وإذا كان لأحد نعمة من مال أو جاه أو مجد، أو غير ذلك. فهذا ليس من قدرات البشر أو من ذواتهم، ولكنه نعمة من الله. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾ إذن : فالإيذاء سببه أنه صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة الخير، ولا يجيء رسول بدعوة الخير إلا إذا كان الشر قد عم المجتمع. وحين يعم الشر في المجتمع فهناك مستفيدون منه، فإذا أتى رسول الله بالخير أسرع جنود الشر ليؤذوا صاحب رسالة الخير، إذن : فمن الطبيعي أن يكون للنبي أعداء.
والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا... ( ١١٢ ) ﴾ ( الأنعام ).
بل إن كل من يحمل من العلماء رسالة الله ليبلغها إلى الأجيال التالية، وإن لم يكن له أعداء، أنقص ذاك من حظه في ميراث النبوة، وكل من له الأعداء ويقوم بهداية الناس إلى منهج الله، نقول له : لا تنزعج، واطمئن ؛ لأن معنى وجود من يعاديك، أن فيك أثرا من آثار النبوة.
وتمثل إيذاء المنافقين له صلى الله عليه وسلم في عدة صور ؛ منها قولهم :﴿ ويقولون هو أذن ﴾.
وللإنسان –كما نعلم- وسائل متعددة : فالأذن وسيلة إدراك، والعين وسيلة إدراك، والجوارح كلها وسائل إدراك. وكل إنسان له ملكات متعددة، منها ملكات إدراكية وملكات نفسية، والملكات الإدراكية هي التي يدرك بها الأشياء مثل : السمع والبصر والشم والذوق. أما الملكات النفسية فهذه يوصف بها الناس. وعلى سبيل المثال : نحن نسمي الجاسوس عينا ؛ لأنه يتجسس وينقل ما يراه إلى غيره. ونسمي الرجل الذي يسمع كل حدث " أذن "، ونسمي اللص الذي يتعدى على مال غيره صاحب اليد الطويلة وهكذا.
إذن : كل جارحة لها حاسة، والنظر والسمع والشم واللمس والذوق كلها من وسائل الإدراك الحسية التي تتكون منها الخمائر المعنوية، ثم تصبح عقائد، فوسائل الإدراك هذه تتلقى من العالم الحسي ما يعطيه لها من معلومات، وتخزنها لتتصرف بعد ذلك على أساسها، وتكون في مجموعها هي ما يعلمه الإنسان ؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يمتن على حلقه، فيقول :
﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( ٧٨ ) ﴾ ( النحل ).
والشكر لا يكون إلا على النعمة، فكأن وسائل الإدراك هذه مما تسمعه أو تراه ببصرك، أو تدركه بفؤادك هي من نعم الله التي يجب أن نشكره عليها ؛ لأنها أعطتنا العلم الحسي بعد أن كنا لا نعلم شيئا.
وإذا أطلق على الإنسان اسم جارحة من جوارحه، فاعلم أن هذه الجارحة هي العمدة فيه، فكأن قول المنافقين وصفا للرسول ﴿ هو أذن ﴾ هو سب للرسول، وكان الواحد منهم يقول : احذروا أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكشف نفاقكم ويؤذيكم ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم في رأيهم يصدق كل شيء. أرادوا أن يتهموه صلى الله عليه وسلم أنه لا يمحص القول الذي ينقل إليه ويصدق كل ما يقال له، كما نقول نحن في العامية " فلان ودني " أي : يعطي أذنه لكل ما يقال له.
فيرد عليهم الله :﴿ قل أذن خير منكم ﴾، لأنه صلى الله عليه وسلم يستمع لمنهج السماء ويبلغه ليهدي أهل الأرض، إذن : فهو خير الناس كلهم. حتى إذا أخذنا كلامهم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدقهم إن كذبوا عليه، فهذا خير لهم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يؤذيهم، وهو صلى الله عليه وسلم ﴿ أذن خير ﴾ لأنه لا يسمع إلا من الله بالوحي. ولذلك قلنا : إن الحكمة من أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لم يستمع من مساو له، وإنما كان علمه من الله. فإذا كانت الأمية فينا نحن نقيصة ؛ فإنها الكمال كله في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يأخذ إلا من خالقه، وهو أذن خير ؛ لأنه الأذن التي استمعت إلى آخر إرسال ينزل من السماء لهداية الأرض.
فإذا كان المنافقون قد قالوا :( هو أذن ) فقد قال سبحانه :﴿ قل أذن خير لكم ﴾، وهو خير يعود نفعه على البشرية كلها، ولكن ليس بالمعنى الذي يعيبونه عليه. فهو قد يسمع إساءاتكم، ثم يسمع اعتذاركم فلا يؤذيكم ويعفو عنكم.
وما دام هذا هو سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلماذا تؤذونه وترهقونه ؟
وفي اللغة ما يسمونه " القول بالموجب " فإن قال لك واحد شيئا تصدقه وتقول له : نعم، ولكن قد تأخذها علة محمل آخر، فإن كان هناك إنسان يكثر الزيادة لإنسان ويقول له : أنا أثقلت عليك، ويرد عليه : أنت أثقلت كاهلي٣ بأيديك، أي أن أفضالك علي كثيرة. وإن قال لك واحد : " أنا طولت عليك "، يرد عليه صديقه : لا، أنت تطولت علي، أي : أعطيتني نعمة بأنك أسعدتني بمجلسك. إذن : فهو قد وافقه على ما قال ولكنه رد عليه بعكس ما قال.
وهم قد عابوا على الرسول أنه أذن، فكأن أذنه تتحكم في كل تصرفاته، وإن سمع شيئا تأثر به. وإن سمع شيئا ينغصه ينقلب موقفه من النقيض إلى النقيض. وحاولوا أن يدعوا عليه أنه يصدق كل ما يسمعه ولا يحتاط تجاه من يبلغه، وقالوا : إنه صلى الله عليه وسلم ﴿ أذن ﴾ ورد الحق سبحانه ﴿ قل أذن خير ﴾ وبطبيعة الحال لم يكن قول الحق موافقا لما قالوه ؛ لأن " أذن " عندهم غير ﴿ أذن ﴾ التي اقرها الله سبحانه وتعالى.
وقد يقول بعض السطحيين : إن المنافقين قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ هو أذن ﴾ وهم يقصدون بذلك أنه يسمع ويصدق كل ما يقال له، وليس له حكمة التمحيص والاختيار. لكن لنلتفت إلى الحق قد قال :﴿ أذن خير لكم ﴾ ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع إلا من الله، وما يسمعه من الله أطاعه وطبقه، وما سمعه من الناس، عرضه على منهج الله ؛ فإن وافق المنهج نفذه، وإن تعارض مع المنهج رفضه. إذن : فهو أذن للخير لا يسمع إلا من الله، ولا يأتي من رسالته إلا الخير لمن اتبعه.
ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى : أذن خير للمؤمنين، وقال :﴿ أذن خير لكم ﴾ ؟، لأن خيرية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شملت الجميع وتعدت المؤمنين إلى المنافقين وإلى الكفار. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضح منافقا، إلا إذا فضح الله المنافق بقرآن نزل من السماء.
وعلى سبيل المثال : كان المنافقون يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتذرون عن الجهاد في سبيل الله ؛ ويطلبون الإذن بالقعود. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم الإذن. وحين كان المنافقون يأتون إلى الرسول الكريم ويحلفون له كذبا، كان يصدقهم، أو على الأرجح لا يفضح كذبهم أمام الناس.
إذن : فالخيرية فيه عليه الصلاة والسلام شملت المنافقين لأن خلقه الكريم أبى أن يفضحهم أمام الناس. أما الكفار فقد شملتهم الخيرية أيضا ؛ لأن دعوته لهم إلى الإسلام، وإصراره صلى الله عليه وسلم على هذه الدعوة، جعل عددا من الكفار يسلم ويؤمن، وأصابهم خير عميم من اهتدائهم لدين الحق.
إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل أذن خير لكم ﴾ كأي : للبشرية كلها.
وهكذا فرق الحق سبحانه وتعالى بين ما يريدونه، وما يقصده الله جل جلاله. هم قصدوا وصف الرسول أنه أذن سماعة. والله يقول : إنها أذن خير ؛ وهذا ما يسمونه في اللغة -كما قلنا- :" بالقول الموجب "، أي : أن تتفق مع خصمك فيما قاله، إلا أنك تحول ما قاله من الشر إلى الخير.
والمثال أيضا فيما يقوله الحق سبحانه وتعالى ما قاله على ألسنة المنافقين حين قالوا :
﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.... ( ٨ ) ﴾ ( المنافقون ).
كانوا يقصدون أنهم هم الأعز، أما الأذل فهم المؤمنون. ووافقهم الحق سبحانه وتعالى على ما قالوا ؛ نعم سيخرج منها الأعز الأذل. ولكنه أراد أن يبين لهم من هم العزيز ومن هو الذليل، فقال :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.. ( ٨ ) ﴾ ( المنافقون )، فكأن الحق سبحانه وتعالى يؤكد لهم أن الأعز سيخرج الأذل، ولكنهم يحسبون أنفسهم هم العزاء ؛ فيقول لهم :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ هذا ما يسمونه بالقول الموجب، أي : أن تتفق مع من يقول، ويقصد أن يوجه كلامه وجهة الشر ؛ فتقلب المقصود من الكلام وتوجهه وجهة الخير. وهذا مقصود به هنا أن تزيد من ذلة المخاطب، فأنت تجعله يعتقد أنك توافقه، فتنفجر أساريره ويشعر بالسعادة ؛ ثم بعد ذلك تنقص ما قاله ؛ فيصاب بالذل تماما كما يأتي لسجين يشعر بظمأ شديد ويلح في طلب كوب ماء. فيقول له الحارس : سأحضر لك كوب الماء. وفعلا يحضر الكوب
٢ القريتان هنا: مكة والطائف. وقد اختلف العلماء في تحديد الرجل العظيم المقصود. فمن مكة: الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة. ومن الطائف: عروة بن مسعود أو عمير بن عبد ياليل. قال بن كثير في تفسير(٤/١٢٧): ط الظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان".
٣ الكاهل: هو ما بين كتفي الإنسان..
﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوا إن كانوا مؤمنين ( ٦٢ ) ﴾.
ومن العجيب أن سورة التوبة فيها أكبر عدد من لفظ " يحلفون "، ولم ترد مادة " يحلف " في سورة المائدة إلا مرة واحدة، وفي سورة النساء مرة، وفي سورة المجادلة ثلاث مرات، أما في سورة التوبة فقد جاءت سبع مرات، وفي سورة القلم جاءت " حلاف "، حتى إن سورة التوبة سميت " سورة يحلف١، لأن فيها أكبر عدد من﴿ يحلفون ﴾ في القرآن الكريم.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ وفي هذا إصرار من المنافقين على الحلف، كذبا، وهو ما يوضح غباءهم وعدم فطنتهم. وأيضا يقول الحق.
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم... ( ٩٥ ) ﴾ ( التوبة ).
واستخدام الحق سبحانه وتعالى حرف السين معناه أنهم لم يحلفوا بعد، ولكنهم سيحلفون بعد فترة، أي في المستقبل، أي : أن الآية الكريمة نزلت ولم يحلفوا بعد، إنما هم سيحلفون بعد نزول الآية الكريمة، ولو كان عندهم ذرة من ذكاء ما حلفوا، ولقالوا : إن القرآن قال سنحلف ولكننا لم نحلف. ولكنهم ورغم نزول الآية جاءوا مصدقين للقرآن مثبتين للإيمان وحلفوا. وكلمة " حلف " هي القسم أو اليمين. وحين نتمعن في القرآن نجد أن الحلف لا يطلق إلا على اليمين الكاذبة، أما القسم فإنه يطلق على اليمين الصادقة واليمين الكاذبة. فمثلا عندما نقرأ في سورة المائدة :﴿ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم.... ( ٨٩ ) ﴾ ( المائدة ).
وما دامت هناك كفارة يمين، يكون الحلف كذبا، لأن الذي يستوجب الكفارة هو الكذب. وإذا استعرضنا بعد ذلك كل " حلف " في القرآن نجد أنه يقصد بها اليمين الكاذبة، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولا تطع كل حلاف مهين ( ١٠ ) ﴾ ( القلم )، فالحلف هنا مقصود به القسم الكاذب. ولكن إذا قال الحق سبحانه وتعالى ﴿ أقسموا ﴾ فقد يكون اليمين صادقا، وقد يكون كاذبا.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ أي : أن هدف الحلف كذبا هو إرضاء المؤمنين حتى يطمئنوا للمنافقين ولا يتوقعوا منهم الشر، ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بالحقيقة :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ إذن : فهم يحلفون لترضوا فهم يحلفون لترضوا أنتم عنهم، أما المؤمن الحق فهو لا يقسم إلا ليرضى الله، لأن الإنسان قد يخدع البشر، وقد يفلت من عدالة الأرض، ولكنك لا تخدع الله ولا تفلت من عدالته أبدا.
ومن مهام الإيمان أن الإنسان يرعى الله في كل معاملة له مع البشر، ويبتغي رضاه ويخاف من غضبه، وذلك هو المؤمن الحق.
وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ وكان القياس اللغوي على حسب كلام البشر أن يقول : والله ورسوله أحق أن ترضوهما. وشاء الحق أن يأتي بها ﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ لأن رضا الله ورضا رسوله هو رضا واحد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي بالقرآن من عنده، ولكنه وحي من عند الله. وإرضاء الرسول هو اتباع النهج الذي فيه رضا الله. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله... ( ٣١ ) ﴾ ( آل عمران )
ويقول سبحانه :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله... ( ٣١ ) ﴾ ( آل عمران )
ويقول سبحانه :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله.... ( ٨٠ ) ﴾ ( النساء )
إذن : فلا توجد طاعة لله وطاعة للرسول، ولا رضا لله ورضا للرسول، لأن الرضا منهما رضا واحد.
إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ دليل على اتحاد الرضا من الله ومن رسوله، فما يرضي الله يرضي الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يغضب الله يغضب الرسول٢.
أو : أن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نتأدب مع ذاته، في أنه إذا اجتمع أمران لله ولرسوله لا نجعل أحدا مع الله، وإنما نجعله له سبحانه وهو الواحد. ولذلك فعندما ارتكب رجل ذنبا، وقالوا له : أعلن توبتك أمام رسول الله :" قال الرجل : إني أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد. فقال له رسول الله :" وقعي على الخير " ٣. انظر إلى عظمة الرسول الكريم الذي يثني على رجل يقول أمامه : إني لا أتوب إلى محمد، إنما أتوب إلى الله.
وقول الحق سبحانه :﴿ إن كانوا مؤمنين ﴾ أي : إن كان إيمانهم حقيقة، وليس نفاقا.
إذن : فنحن لا نطلب الرضا من خلق الله، ولكن نطلبه من الله. ورضا الله سبحانه وتعالى ورضا المبلغ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا واحد ولذلك وحد الضمير ﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ ولم يقل يرضوهما٤.
٢ وقد جاء هذا في حديث متفق عليه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله" أخرجه البخاري(٧١٣٧) ومسلم (١٨٣٠).
٣ عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عرف الحق لأهله" أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣/٤٣٥) قال الهيثمي في المجمع (١٠/١٩٩) "وفيه محمد بن مصعب وثقه أحد وضعفه غيره وبقية رجاله رجال الصحيح" وقد ضعف الحافظ العراقي إسناد هذا الحديث في تخريجه للإحياء(١/٢٢٠).
٤ لأهل اللغة هنا تقديرات كثيرة لتوجيه إفراد الضمير هنا، وذكر منها القرطبي ثلاثة تقديرات ثم قال:"وقيل إن الله سبحانه جعل رضاه في رضاه، ألا ترى أنه قال﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله...﴾ (النساء: ٨٠) وكان الربيع بن خيثم إذا مر بهذه الآية وقف ثم قال: حرف وأيما حرف. فوض إليه فلا يأمرنا إلا بخير" انظر تفسير القرطبي (٤/٣١١٩).
إذا سمعت ﴿ ألم ﴾ فافهم أن هذا استنكار، كأن وسائل العلم قد تقدمت، وكان من الواجب أن تعلم. فإذا قلت لإنسان : ألم تعلم أنه حدث كذا وكذا ؟ فمعنى ذلك أنه قد أعلن عن هذا الحادث عدة مرات، ومع ذلك لم يعلمه. وهذا استنكار لتخلف هذا للإنسان عن العلم.
وهنا يستنكر الحق عدم علم المنافقين بقضية أعلنها الله مرات ومرات، وكان يجب أن يعلموها وألا تزول عن خواطرهم أبدا. وسبق أن قلنا : إن الاستفهام فيه نفي، والهمزة همزة استفهام. ولم تأت للنفي، وإذا دخلت همزة الاستفهام على النفي يكون استنكارا. فإذا قلت لإنسان : ألم أكرمك ؟ كأنك أكرمته عدة مرات وهو منكر لذلك.
وقول الحق سبحانه وتعالى ﴿ ألم يعلموا ﴾ هو إقامة للحجة على أن الحكم قد بلغهم، لأنه من الجائز أن يقولوا : إن الحكم لم يبلغنا، فيوضح لهم الحق : بل بلغكم الحكم وقد أعلمتكم به عدة مرات.
﴿ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ﴾ ما معنى يحادد ؟ نجد في الريف أن أهل الريف يضعون علامات من الحديد تفصل بين قطعة أرض وأخرى مجاورة لها، كعلامة على الشيء الذي يفصل بين حق وحق ويسمونها حدا، والذين يحادون الله هم الذين يجعلون الله في جانب وهم في جانب، وبذلك لا يعيشون في معية الله ولا ينعمون بنعمة الإيمان به سبحانه ولا يطبقون منهجه. بل يجعلون حدا بينهم وبين ما أمر الله.
وعندما أراد العلماء تفسير هذه الآية قالوا :﴿ يحادد ﴾ تعني : يعادي، وقالوا : بمعنى يشاقق، أي : يجعل نفسه في شق والله ورسوله ودينه في شق آخر. أو : يحارب دين الله فيكون هو في وجهة ودين الله في وجهة أخرى١. وهناك علاقة بين كلمة " بحرب " وكلمة " حد " فحد السيف هو الجزء القاطع منه الذي يفصل أي شيء إلى جزأين فكأن الذي يحادد هو من يحارب منهج الله ورسوله. فهو لا يكفر بالله فقط، ولكنه يحمل السلاح ليجعل خلق الله يكفرون أيضا.
والحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا دائما في جانب الإيمان، وألا يقيموا حدا بينهم وبين الإيمان به. والأحكام الشرعية تسمى حدودا، أي : أن كل حكم قد وضع ليحدد حدا من حدود الله، تحفظ به الحقوق والأوامر.
ومنهج الله إما أن يكون أوامر، وإما أن يكون نواهي، لأن منهج الدين كله في " افعل " و " لا تفعل " ويضع الحق سبحانه وتعالى عقابا لمن يتعدى حدوده سبحانه، فيقول سبحانه :
﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها.... ( ١٨٧ ) ﴾ ( البقرة )
ويقول :
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها... ( ٢٢٩ ) ﴾ ( البقرة )
ويسأل بعض الناس : ما الفرق بين اللفظتين ﴿ تعتدوها ﴾ و﴿ تقربوها ﴾.
ونقول : إذا كانت هناك أوامر فلا تتعد الأمر، وإذا كانت هناك نواه فلا تقترب من المنهي عنه.
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حين نهى آدم وحواء عن الأكل من الشجرة المحرمة لم يقل : لا تأكلا من الشجرة، بل قال :﴿ فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة... ( ١٩ ) ﴾ ( الأعراف ).
وبذلك أباح الأكل من كل ثمار الجنة، ولكنه أمر ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾ لأن القرب من هذه الشجرة إغراء بالمعصية، فقد يعجبهما منظر الثمرة. وقد تغريهما رائحتهما، وقد يفتنهما لونها. ولكن عندما لا يقتربان من هذه المغريان كلها فهما يحميان نفسيهما من المعصية.
وعندما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الخمر قال :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه... ٩٠ ﴾ ( المائدة )والحق لم يقل : لا تشربوا الخمر، ولكن أمر باجتناب الخمر، أي : لا نقرب أي مكان فيه خمر٢، لأن وجود الإنسان في مكان فيه خمر قد يوحي إليه بتناولها. وقد يجد من الجالسين من يحاول إغراء من لا يشرب بأن يتناول ولو جرعة. إذن : فالحق سبحانه يريد أن يقي النفس المؤمنة من أن تغرى بالمعصية فتقع فيها.
ويقول سبحانه في أدب الاعتكاف :﴿ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله.. ( ١٨٧ ) ﴾ ( البقرة ).
المنهي عنه هنا هو المباشرة، أي : إن تواجدت الزوجة مع وزوجها في المسجد، فليس في هذا الأمر معصية ألا يباشرها الزوج٣ ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ تلك حدود الله ﴾ ولم يقل : فلا تفعلوها، ولكنه قال :﴿ فلا تقربوها... ( ١٨٧ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : ففيها نهي الله سبحانه وتعالى عنه، مطلوب من المسلم ألا يقرب منه، أي : لا تكن أنت والشيء الذي نهى الله عنه في مكانة واحد، بل عليك أن تبتعد عن المكان، لأن المعصية لها إغراءات، وما دمت بعيدا عن الإغراءات، فأنت تعصم نفسك، أما إن اقتربت منها فقد تقع فيها.
أما في الأوامر، فيقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلا تعتدوها ﴾. وعلى سبيل المثال : إن نشأ خلاف بين الزوجين وفشلت كل محاولات الصلح بينهما، يقول الحق سبحانه :
﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ( ٢٢٩ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : ففي الأوامر يقول الحق :﴿ فلا تعتدوها ﴾، وفي النواهي يقول سبحانه :﴿ فلا تقربوها ﴾.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ينذر الحق سبحانه وتعالى الذين يحادون الله ورسوله فيقول :﴿ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ﴾ والإنذار هنا بتمثيل في أنه يوضح لهم أن ما ينتظرهم ليس هو العذاب الجسدي فقط، ولكنه عذاب فيه خزي وهوان، فمثلا بعض الناس قد يتحمل ويتجلد أمام الألم حتى لا يشمت فيه عدوه، لذلك فالعذاب الذي يعدهم الله به في الآخرة ليس أليما فقط، ولكن فيه خزي وهوان. ويتمثل الخزي في أن المتكبر في الدنيا يأتي إلى الآخرة ويهام أمام الخلق جميعا، ويكفي خزيا أن يكون في النار. والمؤمنون الذين تكبر عليهم في الدنيا يعيشون في نعيم الجنة، وتلك حسرة تصيبه ليس بعدها حسرة.
٢ وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه". أخرجه أحمد في مسنده (٢/٩٧) وأبو داود في سننه (٣٦٧٤)ر والحاكم في مستدركه شاهدا وقال: ولم يخرجاه. والطبراني في الصغير (١/٢٦٦)..
٣ "الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل وليس أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه" انظر تفسير ابن كثير (١/٢٢٤)..
﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون( ٦٤ ) ﴾.
والحذر معناه الاستعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع، وعلى سبيل المثال، يقال لمن يسافر في طريق محفوف بالأخطار : خذ حذرك وأنت تسير في هذا الطريق. وهنا قد يصحب المسافر رفيقا، أو يأخذ معه سلاحا يدافع به عن نفسه إن قابلته عصابة من قطاع الطرق. إذن : فالحذر هو الإعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع.
ولكن إذا كانت السورة تتنزل من عند الله على رسوله فكيف يحذرون ويستعدون لنزول هذه السورة ؟.
نقول : إن هذا استهزاء بهم، لأنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ولأن آيات سابقة نزلت تفضح ما يخبئونه في نفوسهم. فهم دائما خائفون من أن تنزل آية جديدة تفضحهم أمام المسلمين.
الحق سبحانه وتعالى يريدهم أن يعرفوا أنه عليم بما في نفوسهم، ويخوفهم من أن تتنزل آيات تكشفهم، فهم يخشون أن يخرج ما في بطونهم من كفر يخفونه، وهو غيب عن المؤمنين والغيب-كما نعلم- محجوب بزمان ومكان، وغيب الزمان محجوب بالماضي أو بالمستقبل، فإن كان هناك حدث قد مضى ولم تشهده، فهو غيب عنك ما لم تعلمه من كتب التاريخ، وكذلك إن كان هناك حدث سوف يأتي في المستقبل، فهو لم يقع بعد فهو إذن محجوب بالمستقبل، أما حجاب المكان فهو حجاب الحاضر، وعلى سبيل المثال : إن كنا الآن في القاهرة فنحن لا نعلم ما يحدث في الإسكندرية. والله سبحانه وتعالى هتك كل هذه الحجب في القرآن الكريم، فهتك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمثلة كثيرة أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله سبحانه :
﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ( ٤٤ ) ﴾ ( القصص ).
وأيضا يقول سبحانه :﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ( ٤٥ ) ﴾ ( القصص ).
فكأن الحق سبحانه وتعالى قد كشف لرسوله من حجب الزمن الماضي، ما لم يكن يعلمه أحد، وذلك مصدقا لقوله تعالى :
﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ( ٤٩ ) ﴾ ( هود ).
وكشف الله سبحانه وتعالى –أيضا- لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حجاب الزمن المستقبل، فقال :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم... ( ١٤٢ ) ﴾ ( البقرة ).
وهؤلاء السفهاء سمعوا الآية قبل أن يتساءلوا عن تحويل القبلة١، ورغم ذلك تساءلوا عن تحويل قبلة الصلاة. وأيضا قال الحق من أمثلة كشف حجب المستقبل :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ( ٤٥ ) ﴾ ( القمر ).
وقد نزلت هذه الآية والمسلمون يلاقون عذابا شديدا من الكفار، حتى إن عمر بن الخطاب قال : أي جمع هذا ؟ ٢.
وعندما حدثت غزو ة بدر قال عمر : صدقت يا ربي :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾.
وكذلك كشف الحق سبحانه وتعالى حجاب المستقبل حين قال :﴿ غلبت الروم( ٢ ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون( ٣ ) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ( ٤ ) بنصر الله من يشاء وهو العزيز الرحيم( ٥ ) ﴾ ( الروم ) أي : أن الله تبارك وتعالى أعطى نتيجة المعركة بين الروم والفرس قبل أن تحدث بسنوات طويلة، وحدد الجانب المنتصر وهو الروم، وكذلك أنبأ سبحانه وتعالى رسوله بما يحدث في أعماق النفس. وما يدور في صدور الخلق، وساعة ما ينتهك حجاب النفس، كأنه يوضح لكل إنسان : إن سرك الذاتي مفضوح عند الله، والمثال على هذا قول الحق سبحانه :
﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول... ( ٨ ) ﴾ ( المجادلة ).
هم قالوا في أنفسهم، ولو لم يقولوا لعارضوا ما أخبرهم به محمد صلى الله عليه وسلم عما قالوه في أنفسهم وأعلنوا أنه كذب. ولكنهم لم يكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أبلغ عن الله. وهذا يدلنا أيضا على أن المنافقين كانوا في حذر، وكان يغلب على ظنهم صدق رسول الله.
والمثال هو قول الحق هنا :﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ( ( ٦٤ ) ﴾( التوبة ).
وإن كان البعض منهم قد استهزأ قائلا : لا داعي أن نتكلم حتى لا ينزل فينا قرآنا، فالحق يبلغ رسوله أن يرد عليهم :﴿ قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ( ٦٤ ) ﴾ ( التوبة )
وما تحذرون منه أيها المنافقون سيكشفه الله لرسوله وللمؤمنين.
٢ ذكر ابن كثير في تفسيره وعزاه في بن أبي حاتم (٤/٢٦٦) عن عكرمة قال: لما نزلت: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر (٤٥)﴾ قال: قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يطلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع وهو يقول:﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾ فعرفت تأويلها يومئذ..
﴿ لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل بالله وآياته ورسوله كنتم ستهزءون( ٦٥ ) ﴾.
وإن سألتم يا رسول الله : هل تناولتم الإسلام بسوء أو عيب في مجالسكم، فسوف يقولون : إن كان هذا قد حدث فهو مجرد خوض ولعب، وكلام مجالس لا قيمة له١.
والخوض أن تدخل نفسك في سائل، مثل الذي يخوض في الماء أو يخوض في الطين، وقد أطلق على كل خوض، ثم اقتصر على الخوض في الباطل، أي : أن المسألة لم تكن جدية بل كانت مجرد تسلية ولعب.
ويقول الله لرسوله :﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ﴾ أي : إذا قالوا لك : إن هذا حديث تسلية ولعب، فاللعب هو أمر لا فائدة منه إلا قتل الوقت، قل : أليس عدكم إلا الاستهزاء بآيات الله ورسوله وأحكام الإسلام تقتلون به الوقت ؟ فهل هذه المسألة خوض ولعب ؟
﴿ لا تعتذروا فقد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين( ٦٦ ) ﴾.
وهل سبق للمنافقين إيمان ثم جاء كفر ؟ لا، ولكن قوله تعالى ﴿ قد كفرتم ﴾ يعني : أنكم أيها المنافقون قد فضحتم أنفسك، لأنكم كنتم تعلنون الإيمان فقط، ثم أظهر الحق أن أيمانكم لسان لا إيمان وجدان.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إن تعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾ انظر إلى رحمة الله، وكيف أنه-جل وعلا- لم يوصد الباب التوبة أمامهم، بعد أن كشف ما في نفوسه، هنا يعلن له الحق أن الطائفة التي ستتوب توبة صادقة، والتي لم تشترك في هذا الخوض سيغفر لهم الله. أما الذي بقوا على نفاقهم وإجرامهم-الإجرام هو القطع، وجرمت الثمرة أي قطعتها، وسمي إجراما لأنه قطع حقا عن الباطل-أي الذين قطعوا واقعهم بقلوبهم وسلوكهم عن الإيمان، فسوف يعذبهم الحق سبحانه.
ثم يعود سبحانه وتعالى إلى الأحكام التكليفية، وعادة تكون الأحكام التكليفية من الله كلها على الذكورة، وليس فيها على الأنوثة إلا قليل من الآيات مثل قوله تعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن... ( ١١ ) ﴾ ( الحجرات ).
وقوله تعالى :﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى... ( ٩٧ ) ﴾( النحل ).
أما باقي الأحكام فتنصب على الذكورة، وتدخل الإناث في الأحكام لأن الأنوثة مبينة على الستر في الذكورة. لكنه كان لا بد هنا من ذكر المنافقين والمنافقات كل على حدة، لأن للرجال مجالس، وللنساء مجالس، ولكل منهما أفعال وأقوال تختلف عن الآخرين.. ولذلك كان لابد من النص على المنافقات.
وقول الحق سبحانه :﴿ بعضهم من بعض ﴾ أي : لا يتميز أحد من المنافقين والمنافقات عن الآخر في الخسة والقبح والفضائح، ويحدد الله خصالهم في قوله تعالى :﴿ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ﴾ فهم إن فعل الناس معروفا ينهوهم عنه، بل إنهم يشجعونهم عل فعل المنكر، وهم لا ينفقون في سبيل الله إذا طلب منهم الإنفاق.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ وهل ينسى الحق سبحانه وتعالى بالفطرة ؟ لا، ولكن المقصود أنهم نسوا مطلوبات الله وتكاليفه فنساهم الله أي أهملهم، فمن يبعد عن الله يزده الله بعدا، مصداقا لقوله تعالى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا... ( ١٠ ) ﴾ ( البقرة )
ثم يعطي الحق سبحانه وتعالى الحكم :﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾ وكلمة " منافق " -كما نعرف- مأخوذة من نفقاء اليربوع، وهو حيوان يشبه الفأر ويسكن في الصحراء ويحفر لنفسه نفقا في الأرض، له بابان، وإن ترصد له الصائد عند أحدهما خرج من الثاني، وهكذا ترى أن المنافق له وجهان. والفسوق معناه الخروج عم منهج الطاعة، وهو مأخوذ من " فسقت الرطب " أي : انفصلت القشرة عن الثمرة. والقشرة –كما نعلم- مخلوقة لصيانة الثمرة، فإذا فسقت عنها تلفت الثمرة. والإنسان إذا فسق خرج عن طاعة الله.
﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم( ٦٨ ) ﴾.
والوعد للخير والوعيد للشر، ويقال : أوعد " في الشر، وفي بعض الأحيان تستخدم كلمة " وعد " بدلا من " أوعد " حتى إذا استمع السامع لها يتوقع خيرا. فإذا جاء بالعذاب كان ذلك أليما على النفس. وهذا استهزاء بالمنافقين والكفار، مثل قوله تعالى :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه... ( ٢٩ ) ﴾ ( الكهف ).
كأن الله أعطاهم وعدا أنهم إن يستغيثوا سيأتيهم الغوث ثم يقبله عليهم ويجعله ماء يغلي ويشوي وجوههم-والعياذ بالله- ونلحظ أيضا أن الحق سبحانه قد قدم المنافقين على الكفار، وهذا يؤيده قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا( ١٤٥ ) ﴾.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ﴾.
وهكذا نرى أن المنافقين موقعهم الدرك الأسفل من النار. والكفار موقعهم الدرك الأعلى، وقد يسأل سائل : كيف يكون ذلك ؟.
ونقول : إن الكافر بكفره قد أعطانا مناعة، فلأنه أعلن الكفر فنحن نأخذ حذرنا دائما منه، فلا يلحق بنا ضرر محدودا، أما المنافق فهو قد تظاهر بالإيمان، فآمناه، ويستطيع أن يلحق بنا شرا رهيبا، لأنه بحكم ما أخذه من أمان منا، يعرف أسرارنا ومواطن الضعف فينا، وقد تكون طعنته قاتلة.
والعدو الخفي –كما نعلم- شر من العدو الظاهر، لأننا نكون على حذر من العدو الظاهر، لكننا نأخذ الحذر من العدو الخفي، وهو يعرف ما في نفسي، ويعرف كل تحركات، ويستطيع أن يغدر بي في أي وقت دون أن أكون منتبها لهذا الغدر.
ولذلك إذا أراد قوم أن يكيدوا للإسلام دون أن أسلموا، فكيدهم يفشل، لأنهم على الكفر سيجدون مناعة عند المسلمين من الاستماع إليهم. أما إن احتالوا ودخلوا على الإسلام من داخل المسلمين أنفسهم، فهم يجندون عددا من ضعاف الإيمان ليطعنوا في هذا الدين، وتكون طعنات هؤلاء المسلمين بالاسم، هي القاتلة وهي المؤثرة.
هنا نلاحظ أن قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ نار جهنم خالدين فيها ﴾ ولم يقل الحق بالخلود في النار إلا ثلاث مرات فقط في القرآن الكريم. في قوله تعالى :﴿ إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا( ١٦٩ ) ﴾ ( النساء ).
وقوله عز وجل :{ إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ( ٦٤ ) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا( ٦٥ ) ( الأحزاب ).
وقوله جل جلاله :﴿ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيه أبدا( ٢٣ ) ﴾ ( الجن )
ولكنه ذكر الخلود في الجنة أبدا مرات كثيرة١.
ونقول : إن الجنة هي بشرى النعيم للمؤمنين. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤنس خلقه بالنعيم الذي ينتظرهم، ولكن بالنسبة للنار فهي دار عذاب، وتأبى رحمة الله وهو الخالق الرحيم بعباده ألا يذكر الخلود في النار متبوعا بكلمة أبدا إلا في ثلاث آيات، حتى لا يظن الكفار أن الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ خالدين ﴾ دون ذكر الأبدية أنه خلود مؤقت في النار، لذلك يذكرهم بأنه خلود أبدي. وفي نفس الوقت تأبى رحمته سبحانه وتعالى أن يكون ذلك في كل آية تذكر فيها النار، حتى يفتح طريق التوبة والرحمة لكل عاص، عله يتوب ويرجع إلى الله.
والحق سبحانه يقول :﴿ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق( ١٠٦ ) خالدين فيها مادامتا السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ( ١٠٨ ) ﴾ ( هود ).
وثار الحديث بين المستشرقين : كيف يقول الحق سبحانه وتعالى عن النار والجنة خالدين فيها أبدا ؟ ثم يأتي في هذه الآيات ويستثنى ويقول :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ والاستثناء وارد على المؤمن والكافر ؟
ونقول : إن الذين يثيرون هذا الاعتراض لم يفهموا القرآن ولا المنهج، فالذين سيدخلون النار قسمان : قسم آمن ولكنه عصى ارتكب سيئات، فيعذب في النار على قدر سيئاته، ثم يخرجه الله من النار إلى الجنة لأنه مؤمن، وقسم آخر كافر أو منافق، الاثنان يدخلان النار، ولكن أولهما-وهو المؤمن- يعذب على قدر سيئاته. والثاني يبقى خالدا فيها لأنه كفر أو نافق.
إذن : فالمؤمن العاصي لا يخلد في النار، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ لأنه لن يبقى في النار إلا بقدر سيئاته، فكأن خلوده في النار من البداية مؤقت وهو لا يبقى خالدا فيها، لأن مشيئة الله سبحانه وتعالى تدركه، فتخرج من النار إلى الجنة.
أما الكافر والمنافق فهما خالدان في النار لا يخرجان منها، فكأن هناك من يدخل النار ولا يكون خلوده فيها أبديا، وهذا هو المؤمن العاصي. وهناك من يدخل النار ويخلد فيها أبدا، وهذا هو الكافر أو المنافق.
وإذا جئنا الجنة، فهناك من سيدخل فيها خالدا أبدا، أي منذ انتهاء الحساب إلى ما لا نهاية. وهذا هو المؤمن الذي غلبت حسناته سيئاته وأدخله الحق الجنة. ولكنه هناك من سيدخل الجنة، ولكن خلوده فيها يكون ناقصا وهو المؤمن العاصي، لأنه سيدخل النار أولا ليجازي بمعاصيه.
إذن : فالمؤمن العاصي خلوده في النار ناقص، لأنه لن يبقى فيها أبدا. وكذلك يفتقد الخلود في الجنة فور انتهاء لحظة الحساب، لأنه لن يدخل فيها بعد الحساب مباشرة، بل سيدخل النار أولا بقدر معاصيه فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ ينطبق على عصاة المؤمنين الذين سيأخذون حظهم من العذاب أولا على قدر سيئاتهم، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة٢.
وقول الحق عن خلود المنافقين في النار :﴿ هي حسبهم ﴾ أي تكفيهم، كأن يكون هناك إنسان شرير وأنت تريد أن تؤدبه، فتقول : هذا حسبه، أي يكفيه هذا، ليتم التأديب المطلوب. كذلك النار، فسبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنها تكفيهم، أي : أن ما سيعانونه فيها من ألم وعذاب كاف جدا لمجازاتهم على ما فعلوه من سيئات.
ثم يقول الحق :﴿ ولعنهم الله ﴾ أي : طردهم من رحمته ومن طاعته فلا يقبل لهم توبة ولا عودة، لأن مكان التوبة هو الدنيا. وأما ما بعد الموت والآخرة، فلا محل فيهما لتوبة ولا رجوع عن معصية، لأن زمان ذلك قد انتهى. لذلك فالعذاب لمن لم يتب في الدنيا هو عذاب مقيم في الآخرة.
﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾ وقد وصف الحق عذاب جهنم مرة بأنه عذاب أليم، ومرة بأنه عذاب مهين، ومرة بأنه عذاب مقيم يريدنا أن نعلم أن كل أنواع العذاب ستصيب أهل جهنم، فإن كان الإنسان متجلدا له كبرياء يتحمل الألم الشديد ولا يظهر ما يعاني، فالعذاب لن يكون أليما فقط، ولكنه مهين أيضا، والهوان هو إيلام النفس، وإن كان ذا كبرياء متجلد فإنه يجر على وجهه ويهان. وبعض الناس قد يتحمل الألم، ولكن لا يتحمل الإهانة التي تصيبه بعذاب نفسي أكثر من العذاب البدني، فقد تأتي لكبير قوم أمام أتباعه، أو لأب وتهينه أمام أولاده، فيكون هذا أكثر إيلاما لنفسه من أن تضربه.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ عذاب مقيم ﴾ أي : عذاب دائم، فإن كان أليما يبقى الألم على شدته ولا يخفف أبدا، وإن كان منهيا تبقى الإهانة مستمرة ولا تزول أبدا. وفي كلتا الحالتين هو عذاب فيه إقامة وفيه دوام واستمرار.
٢ قال ابن كثير في تفسيره(٢/٤٦٠):" ذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة" وقد أضاف الإمام أبو يحيى الأنصاري معنى جميلا في كتابه:"فتح الرحمان بكشف ما يلتبس في القرآن" ص١٩٥ فقال:"هو استثناء من الخلود من عذاب أهل النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، لأن أهل النار لا يخلدون في عذابها وحده، بل يعذبون بالزمهرير، وبأنواع أخر من العذاب، وبما هو أشد من ذلك، وهو سخط الله عليهم وأهل الجنة لا يخلدون في نعيمها وحده. بل ينعمون بالرضوان، والنظر إلى وجهه الكريم وغير ذلك"..
﴿ كالذي من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلافكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون( ٦٩ ) ﴾.
هنا يذكرهم سبحانه بمواكب الكفر التي صاحبت الرسل السابقين، وقد كانت هذه المواكب فيها المنافقون وفيها الكفار، وسبحانه وتعالى عندما يرسل رسولا يؤيده ضد أعداء منهج الخير.
والحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نتذكر ما حدث للأمم السابقة الذين كانوا أكثر قوة وأكثر أموالا وأولادا من أولئك الكفار والمنافقين الذي يواجهون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنقرأ قول الحق جل جلاله :
{ والفجر( ١ ) وليال عشر( ٢ ) والشفع والوتر( ٣ ) والليل إذا يسر( ٤ ) هل في ذلك قسم لذي حجر( ٥ ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد( ٦ ) إرم ذات العماد( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد( ٨ ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد( ٩ ) وفرعون ذي الأوتاد( ١٠ ) الذين طغوا في البلاد( ١١ ) فأكثروا فيها الفساد( ١٢ ) فصب عليم ربك سوط عذاب ( ١٣ ) إن ربك لبالمرصاد ( ١٤ ) ( الفجر ).
ونحن نشهد ﴿ إرم ذات العماد ﴾ التي وصفها الحق سبحانه وتعالى بقوله :﴿ لم يخلق مثلها في البلاد ﴾، ولكن القرآن أكد لنا أنها وصلت إلى درجة من الحضارة التي لم يصل إليها أحد. وقد يتساءل بعض الناس : أين﴿ إرم ذات العماد ﴾ من حضارات اليوم ؟ ونقول : إن هناك أسرارا لله في كونه قد أعطاها بعض خلقه ولم يعطها لأحد حتى الآن.
وإذا نظرنا إلى الفراعنة مثلا نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد وصفهم في القرآن بقوله :﴿ وفرعون ذي الأوتاد ﴾. والأهرامات أوتاد. والمسلات أوتاد، وما زالت علوم حضارة الفراعنة تغيب عن البشر حتى الآن، فهناك من مظاهر هذه الحضارة ما نعجز عنه حتى الآن، مثل سر التحنيط وبناء الأهرام، فهذه الكتل الحجرية الضخمة التي ارتفعت ويمسك بعضها البعض، دون أية مواد مثبت، وما زال العلم الحديث عاجزا حتى اليوم عن أن يوجد هرما مبنيا بنفس طريقة قدماء المصريين دون استخدام أي مواد مثبتة، ومع ذلك فهؤلاء الفراعنة لم يستطيعوا أن يسدوا الكون رغم قوتهم وحضارتهم، بل أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر وجاءت الرمال فدفنت حضارتهم. ثم شاء الله لنا أن كشف عن جزء بسيط منها، فإذا بهذا الجزء البسيط يبهر الدنيا كلها. وإذا بالعالم كله يأتي ليشاهد حضارة الفراعنة، ويتعجب من هذا الفن وهذا الرقي في العلم. فإذا كانت هذه هي حضارة آل فرعون، فما بالك بحضارة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟.
وهكذا نعلم أن بعض حضارة إرم ذات العماد ما زالت مخفية حتى الآن لا يعلم أحد عنها شيئا. ومدفونة في باطن الأرض. ولعل الله سبحانه وتعالى قد أبقاها ليكشفها في زمن قادم يزداد فيه بعد الناس عن الدين، لأن الإنسان كلما تقدم في الحضارة ابتعد عن الإيمان، لإحساسه بأنه متمكن في الكون، مسيطر عليه، حينئذ ربما يكشف الحق سبحانه وتعالى عن حضارة ﴿ إرم ذات العماد ﴾ ؟ نقول له : إنها في وادي الأحقاف١ والهبة الواحدة من الرياح في هذا الوادي تستر قافلة بأكملها، أي إذا هبت ريح، فإن الرمال لا تداري الطريق وحده، ولكنها تداري القافلة كلها، فكم عاصفة رملية هبت على المكان الذي كانت تقطنه﴿ إرم ذات العماد ﴾ فأخفت حضارتهم ؟ لا بد إذن من حفريات على مستوى عميق جدا لنعثر على تلك الحضارة، لأننا نعلم ونرى أن كل الكشوف الأثرية تحتاج أن نحفر لها، لأن الرمال تتراكم فوق الآثار. بل إننا نرى البيوت القديمة في القرى، لا بد أن تنزل لها بدرجة أو درجتين لتدخل إليها من الباب، لأن العوامل الطبيعية والرصف وغير ذلك تزيد على علو الطري. فإذا كان هذا هو عمل الرياح العادية في وقت قصير، فما بالك بالأعاصير في أزمان طويلة ؟.
وأنت إذا سافرت وأغلقت نوافذ مسكنك إغلاقا محكما، وعدت بعد شهر واحد تجد الأثاث مغطى بطبقة من التراب، فإذا غبت عاما وجدت كمية كثيفة من التراب، هذا بالنسبة لبيت محكم الإغلاق، فما بالك بحضارة معرضة لكل هذه الظواهر الطبيعية، وتستر كل شهر بطبقة جديدة كثيفة من التراب ؟.
ويقول الحق سبحانه :﴿ كانوا أشد منكم قوة ﴾ أي : أن حضارتهم أكبر من حضارتنا، لأن الحضارة كلما كانت متقدمة كانت الأمة قوية، وكلما تأخر شعب حضاريا كان ضعيفا.
إذن : فالذين من قبلنا كانوا أكثر حضارة وأكثر أموالا وأولادا. ولسائل أن يسأل : كيف تكون لهم كثرة أولاد والعالم يزداد عددا كل عام، وكيف تكون كثرة الأموال ونحن نكتشف كنوز الأرض جيلا بعد جيل ؟ نقول : لا تأخذ الكثرة على أنها كثرة عددية، بل خذها بنسبتها، لأنك إذا جئت بمائة شخص ووضعتهم في حجرة، يقال عنهم :" كثير " فإذا أخذت كل واحد مهم ووضعته في مكان بعيد عن الآخر يكون العدد قليلا. وكان العالم في الماضي مسكونا بأماكن محدودة، بدليل أننا اكتشفنا قارات وأماكن لم يكن يعرفها أحد.
إذن : فالكثرة هنا بالنسبة للحيز، وهم في حيزهم الذي يعيشون فيه كانوا كثرة، وبالأموال كانت بين أيديهم بعددهم المحدود كانوا أكثر منكم أموالا بعددكم الكبير، أي أن نصيب الفرد كان أكبر، وكذلك الأولاد.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فاستمتعوا بخلاقهم ﴾ والخلاق هو النصيب أو الحظ الذي يصيب الإنسان من أي نعمة، ويقول سبحانه :
﴿ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق( ٢٠٠ ) ﴾ ( البقرة )
أي : ليس له في الآخرة نصيب من نعم الله، فالذين عملوا للدنيا وحدها ولم يكن في بالهم الله، يأبى عدل الحق سبحانه وتعالى أن يضيع عليهم نتيجة عملهم، ولذلك فهو يعطيه لهم في الدنيا، ولكن من يعمل وفي باله الله يعطيه الله من الدنيا ويوفيه أجره في الآخرة.
ولذلك نجد بعضا من المؤمنين يسألون : كيف يكون الكفار أحسن حالا من المؤمنين في الحضارة المادية، ولماذا يأخذ الكفار من خيرات الأرض ما يكفيهم ويزيد، لدرجة أنهم في بعض البلاد يلقون بالفائض في البحر، بينما نجد المسلمين يعيشون في حضارة مادية محدودة، ويستوردون ما يأكلون ؟.
ولنتذكر الحقيقة الواضحة التي أكررها دائما لكل مسلم : إياك أن يغيب عنك أن هناك " عطاء للرب " و " عطاء للإله ". فعطاء الرب للجميع لأن الرب هو الذي خلق وربى، وأمدنا بالأقوات، وسبحانه ليس رب المؤمن فقط. لكنه رب المؤمن والكافر. ولذلك إذا أخذ المؤمن أو الكافر بالأسباب أعطاه الله فالأرض تعطي محصولا وفيرا لمن يحسن زراعتها وينتقي لها التقاوى ويرعاها، لا تفرق في ذلك بين مؤمن وكافر، والكون يعطي كنوزه لمن يبحث عنها ويجتهد، لا فرق بين مؤمن وكافر، وهذا عطاء الربوبية.
أما عطاء الألوهية فقد خص الله سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين الذين يتبعون منهجه، هذا عطاء العبادة يجزى به الإنسان في الآخرة، والذي يأخذ العطاء ين هو السعيد، يأخذ عطاء الربوبية فيستغل أسباب الحياة فيعطيه الله خير الدنيا، ويأخذ عطاء الألوهية بأن يجعل حياته وفقا لمنهج الله، فيعطيه الله النعيم في الآخرة.
والأسباب في الدنيا لا تفرق بين مؤمن وكافر، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والمطر ينزل على الطائع والعاصي، لأن هذا عطاء ربوبية. من أحسن استخدامه أعطاه بصرف النظر عن الطاعة أو المعصية.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا( ٢٣ ) ﴾ ( الفرقان ).
لماذا ؟ لأنك عملت للدنيا وحدها.. وكنت تعمل ليقال إنك مخترع أو مكتشف.. أو لتحصل على الأموال أو الأوسمة.. أو النفوذ والجاه في الدنيا، ولكنك لم تكن تعمل وفي بالك الله.
وبعض الناس يأتي ليقول لك : هل الذي اكتشف علاجا لميكروب كان يفتك بالبشر، أو اكتشف الكهرباء أو اكتشف كذا مما أسعد البشرية كلها، أيكون هذا كافرا ويعذب في النار ؟
نقول له : نعم، لأنه فعل هذا ليس وفي بالها لله.. وإنما فعله وفي باله الحصول على المجد أو المال أو النفوذ في الأرض، ولذلك أعطاه الله، ما عمل من أجله، فأصبح له ثروة طائلة وتاريخ يدرس في المدارس، وأعطوه النياشين وأطلقوا اسمه على الشوارع والميادين.
فما دام قد عمل للدنيا فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه أجره في الدنيا، ولكن الذي عمل وفي باله الله يأخذ من الدنيا بالأسباب، ولكنه يأخذ في الآخرة من المسبب مباشرة ؟ فالإنسان قد ارتقى حضاريا، حتى إنك الآن في بعض الدول المتقدمة تضغط زرا يعطي لك القهوة أو الشاي، وآخر يعطيك الطعام.. نقول : إن هذا كله متاع الأسباب، فقبل أن تضغط أنت هذا الزر، كان هناك بشر أعدو لك القهوة أو الطعام، والآلة أوصلته إليك.
ولكن مهما ارتقى الإنسان تكنولوجيا فلن يأتي اليوم الذي يجعل الشيء يخطر ببالك فتجده أمامك.. ولكنك في الجنة بمجرد أن يخطر الشيء على بالك تجده أمامك٢، لأن عطاء الدنيا عطاء الأسباب، وعطاء الآخرة عطاء مسبب.
فالله سبحانه وتعالى أعطانا الاختيار والأسباب في الدنيا، ولكن في الآخرة يأتي لك بلا عمل، مختلفا في مذاقه ورائحته في الدنيا.
إذن : فالذي يعمل وفي باله الأسباب فقط يعطي في الدنيا، والذي يعمل وفي باله خالق الأسباب يعطي في الحياتين، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسرات بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده... ( ٣٩ ) ﴾ ( النور ).
والسراب الذي تمشي له متخيلا أنه فإنك حين تصل إليه لا تجده شيئا، هكذا الكافر يوم القيامة، يفاجأ بأن الله موجود، وجد الله سبحانه الذي لم يؤمن به، ويطلب من الله الأجر فيقال له : أجرك ممن عملت له.
وما دامت لم تعمل لله فلا يوجد لك أجر في الآخرة، لأن الله هو الذي يجزي في الآخرة.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فاستمعوا بخلاقكم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقكم ﴾ أي : أنهم أخذوا نصيبهم من الدنيا، ولكن الآخرة ليس لهم فيها نصيب، لأن النصيب في الآخرة يأتي ب " فعل " و " لا تفعل "، فإذا فعلت الاثنين ترتقي، بدليل أن حضارة المسلمين استمرت ألف سنة حين أخذوا بالأسباب، ولم ينسوا المسبب... بل حرسوا الأسباب بقيم المسبب في " فعل " و " لا تفعل "، فملكوا الدنيا ألف سنة. ولا توجد حضارة مكثت مثل هذه المدة، ولئن زالت الحضارة من أمم الإسلام سياسيا، فقد بقي دينهم في نفوسهم، ولا توجد حضارة عاشت مبادئها بعد زوال الحضارة إلا الإسلام. فقد بقي منارة هادية، رغم ضعف المسلمين سياسيا.
وقول الحق سبحانه :﴿ فاستمتعوا فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقكم ﴾ أي : خذوا نصيبكم من الدنيا بالأسباب، ولكن تذكروا أن استمتاع موقوت بزمن لا يملكه الإنسان، لأن عمر الفرد في الدنيا هو بعمر حياته فيها لا بعمر الدنيا نفسها، لأن الدنيا لك ولمن يأتي من بعدك. وعمرك فيها له حدود لا تعرف طوله. هل هو شهر أم سنة أم عشر سنين أم مائة عام ؟ إذن : عمرك في الدنيا مظنون موقوت، فعملك لأسباب الدنيا محدود المدة، بمقدار عمرك في الدنيا.
وهب أن عمرك طال وصرت من المعمرين فسوف ينتهي حتما.
ويقول الحق سبحانه :{ كما استمتع
٢ ورد في هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عله وسلم:"إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشهيه فيخر بين يديك مشويا" أخرجه البزار (٣٥٣٢- كشف الأستار). فيه حميد بن عطاء الأعرج. قال الهيثمي في المجمع(١٠/٤١٤): ضعيف. ولكن قال الذهبي في الميزان (٢/١٣٧): متروك. فالحديث ضعيف..
وبعد أن ذكر الحق سبحانه في الآية السابقة القضية العامة في قوله :﴿ كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقكم ﴾ جاء في هذه الآية بالإعلام والأشخاص وهم الرسل ومن عاداهم فقال :﴿ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ﴾ وساعة يقول :﴿ ألم يأتهم ﴾ فهنا همزة الاستفهام، ولام النفي. والهمزة تنفي هذا النفي، أي أتاهم نبأ هؤلاء. وحين ينفي النفي في أمر فالمراد إثبات الأمر، وأنت لا تستفهم الاستفهام الإنكاري، إلا وأنت واثق من أن الجواب عند من تسأله هو :" نعم "، فحين تقول لإنسان : أنت تخليت عني في محنتي. فيقول : ألم أزرك في يوم كذا ؟ ألم أعطك كذا ؟ ألم أصنع مع ابنك كذا ؟ فهو واثق أنك لا تستطيع إنكار شيء من هذا لأنه ثابت ثبوتا حقيقيا.
ونلحظ هنا الحق جاء بالخطاب للغيبة فقال :﴿ ألم يأتهم ﴾ ولم يقل :" ألم يأتكم "، فسبحانه يخاطبهم ترقيقا لهم، ثم يتكلم عنهم مرة ثانية وكأنهم غائبون. وكأن هذا أيضا مزيد من حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيبتهم، فهو صلى الله عليه وسلم، حريص على هدايتهم.
﴿ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ﴾ والنبأ : هو الخبر الهام. ونحن لا نقول عن كل خبر : نبأ، بل نقول عن الخبر الهام فقط إنه نبأ، والنبأ أصله من النبوة، والنبوة واضحة ظاهرة وليست مطموسة، ولذلك فكل شيء هام ظاهر قد حدث يقال عنه نبأ، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ عم يتساءلون( ١ ) عن النبأ العظيم( ٢ ) الذي هم فيه مختلفون( ٣ ) ﴾ ( النبأ )ولا يوجد نبأ أعظم من نبأ القيامة.
وقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالقضية الأولى التي كان الخطاب فيها مباشرا كقضية عامة، وجاء بالقضية الثانية التي تكلم فيها عنهم غيبا كقضية خاصة.
ثم حدد الحق سبحانه المقصود بالذين من قبلهم، وهم قوم نوح الذين أغرقهم الله بالطوفان. وكان قوم نوح كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى ردا على من سخروا من نوح :﴿ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون( ٣٨ ) ﴾ ( هود )أي أنتم يا من تسخرون من نوح عليه السلام جاهلون بالغيب، ولكن الله أعلم نوحا وقومه بما سوف يكون، ولذلك فالسخرية الحقيقية هي من أولئك الذين رفضوا الإيمان، ولم يعملوا بما أعده الله لهم.
ثم ذكر الحق بعد ذلك عادا وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وهم قوم شعيب، والمؤتفكات، أي قوم لوط. ومعنى المؤتفك أي المنقلب. وقد جعل الله عاليها سافلها. ويقول الحق سبحانه :﴿ والمؤتفكة أهوى( ٥٣ ) فغشاها ما غشى( ٥٤ ) ﴾ ( النجم )أي : كانت عالية فأنزلها للهاوية. والإفك هو الصرف عن الحقيقة، كما قالوا لإبراهيم.
﴿ أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين( ٢٢ ) ﴾ ( الأحقاف )أي : لتصرفنا عنهم.
ما قصة هؤلاء الأنبياء وأقوامهم ؟ يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ أي أن قوم نوح وقوم إبراهيم وغيرهم أتتهم رسالات السماء ولم تأتهم الرسالة كمنهج فقط، بل جاءتهم معجزات تثبت صدق بلاغ الرسل عن ربهم، فكأنه لا حجة لهم أن ينصرفوا عن منهج السماء أو أن يكذبوا به، لأن كل منهج مؤيد بمعجزة تثبت صدق الرسول في رسالته. وقد تتابع هؤلاء الرسل على البشر ليهديهم إلى منهج السماء، ويبينوا لهم طريق الحق. وكان تعدد الرسالات في أول الخلق، لأن العالم كان منعزلا عن بعضه البعض، حتى إن أقواما عاشوا على الأرض في زمن واحد وأماكن متفرقة، ولم يعلم أحد منهم عن الآخر شيئا، ولكن العالم الآن اتصل ببعضه البعض، بحيث إذا وقعت الحادثة في مكان، نراها عن طريق الأقمار الصناعية في ثوان، وربما في نفس الوقت الذي تحدث فيه، إن كان الحادث معدا له مسبقا، وقد رأى العالم أول إنسان ينزل فوق سطح القمر في نفس اللحظة التي نزل فيها.
وعندما كان العالم يعيش في انعزال، كانت كل بيئة لها لون من المعصية والفساد، فكان الرسول يأتي ليحارب هذا اللون من المعصية والفساد الموجود في بيئة معينة، ولا يوجد هذا اللون من المعصية والفساد في بيئة أخرى.
ولكن بعدما توحد العالم توحدت الداءات، فالداء يظهر في أمريكا مثلا، وبعد فترة قصيرة جدا يظهر في أوروبا أو في مصر. ولذلك كان لا بد أن يأتي رسول واحد، لأن الداءات أصبحت واحدة، واقتضى الأمر وحدة المعالجة، لذلك كانت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة لكل الأزمان ولكل الأمكنة.
وحين يقول سبحانه :﴿ أتتهم رسلهم بالبينات ﴾ فالبينات هي الشيء الذي يبين لك ما هو الحق، والمعجزات التي صاحبت الرسالات السماوية بينت وأكدت أن الرسول مبلغ عن ربه، وكانت المعجزة واضحة تماما ليراها كل قوم رؤية تسمح باستيعابها. ولذلك كان كل رسول يأتي بآية يجمع الكل على أنها معجزة. فأنت قد تأتي بشئ عجيب، ولكن لا يجمع الناس على أنها معجزة. فعندما اخترع الفانوس السحري، قال بعض الناس : إنه شيء عجيب. وبعضهم قال : إنه خداع نظر. ولكن معجزات الرسل لابد أن تستوعبها كل مستويات العقول، يستوعبها المتعلم والذي لم يقرأ حرفا في حياته، لأن الدين دين فطرة يخاطب أكبر العقول وأكثرها علما كما يخاطب عقل البدوي الذي يقضي حياته كلها في الصحراء، لا يعرف شيئا ولم يعش حضارة ولم يدرس علما.
إذن : فالمعجزات لا بد أن تكون واضحة لكل المستويات، حتى لا يكون هناك عذر لأحد. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فما كان الله ليظلمهم ﴾، وهذا دليل على أن الحق سبحانه وتعالى يحاسبهم على قدر استيعابهم للمعجزة، فكأن كل العقول قد فهمت وأيقنت أن هناك معجزة. والذين استقبلوا للمعجزة، المعجزة بالكفر ظلموا أنفسهم، لأنهم بعد أن استوعبوا المعجزة، وتحققوا أنها خرق لقوانين الكون ولا يمكن أن يأتي به إلا الله سبحانه وتعالى، ولكنهم رغم ذلك رفضوا الإيمان.
ويقول الحق عنهم :﴿ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ والظلم أنك تأخذ حقا وتنقله إلى الباطل. ولكن الحقوق مختلفة، فأي حق ذلك الذي تنقله إلى الباطل ؟ إنه حق الوجود الأعلى الواجب الإيمان به وعبادته.
وكيف يظلم الإنسان نفسه ؟ يظلم الإنسان نفسه حين تزين له النفس شهوة فيرتكبها، ليأخذ لذة عاجلة ويحرمها من نعيم دائم. وهناك من يظلم نفسه بظلم غبره، مثل شاهد الزور١، هذا الذي ينصر صاحب باطل على صاحب حق. ومن شهد الزور يسقط حتى في عين ذلك الذي شهد له. فإن جاء ليشهد أمامه في قضية، فهو لا يقبل شهادته وينظر إليه باحتقار، وكان يجب على من يطلب من إنسان شهادة زور أن ؛ يضربه لأنه يريد أن يسقطه في نظر الناس، وفي نظر هذا الذي شهد من أجله، لأن شاهد الزور حين أعان إنسانا على خصمه، فالكل ينظر إلى مثل هذا الشاهد بالاحتقار.
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم( ٧١ ) ﴾.
جاءت هذه الآية بعد آية سابقة وصف المنافقون فو قوله تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض... ٤٦٧ ) ﴾ ( التوبة ).
فناسب أن يقابلهم بالمؤمنين والمؤمنات، وتلك مناسبة الضد بالضد، لأن قياس الضد إلى ضده يظهر الأمرين معا. والمثال قول الشاعر حين يمدح فيقول :
فالوجه مثل الصبح *** والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا *** والضد يظهر حسنه الضد
وبعد أن ذكر الحق فضائح المنافقين ومعايبهم، وحثهم فيما يحلفون، وخلفهم فيما يعاهدون، أراد أن يجعل تقابلا بينهم وبين المؤمنين والمؤمنات. لكن التقابل هذا اختلف في شيء، لأنه سبحانه قال في المنافقين :
﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ وحين تكلم عن المؤمنين قال :
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ فالمنافقون والمنافقات وصفهم الحق ﴿ بعضهم من بعض ﴾ أي أنهم كلهم متشابهون وسلوكهم مبني على التقليد والإتباع، فهم يقلدون بعضهم بعضا. وبما أنهم قد أقاموا لعقيدتهم على الشر، فكلهم شر، ولا يوجد بينهم من ينصحهم بالخير أو يحال ردهم عن النفاق، بل هم يمضون في تيار الشر إلى آخر مدى.
أما المؤمن فعقيدته مبنية على الاقتناع وعلى الخير. فإن وجد من مؤمن شر، فوليه من المؤمنين يبعده عن الشر ويبعده عن طريق الخير، ذلك لأن النفس البشرية لها أغيار متعددة، ولا يسلك كل مؤمن السلوك الملتزم تمام الالتزام بمنهج الله في كل شيء. بل هناك خصلة ضعف في كل نفس بشرية. فإن وجد في المؤمن ضعف فأولياؤه من المؤمنين يبينون له نقطة ضعفه ويبصرونه وينصحون له، ويرد في نقطة ضعف، والمؤمن أيضا ينبه غيره ويبصره، وهكذا نجد أنه في المجتمع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، وكل منهج ينصح الآخر ويعظه، ليكتمل إيمان الجمع، ومن يقصر في شيء يجد القريب منه، وهو يسد الطارئة في سلوكه.
أما المنفقون فيصفهم الحق ﴿ بعضهم من بعض ﴾ أي : أنهم جميعا من بعض، فلا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يوجد بينهم ناصح.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ لم يبين لنا من المولى ومن الموالي، فكل مؤمن هو ولي وهو موال، لأن الولاية مأخوذة من " يليه "، أي صار قريبا، وضدها عاداه أي بعد عنه أخيه المؤمن في الأمر الذي هو ضعيف فيه.
فإذا كنت ضعيفا في أمر ما، فأخي المؤمن ينصرني فيه. وما دام أخي المؤمن ينصرني في أمر ما، فإن صار هو ضعيف في شيء أنصره نفيه، فنتفاعل ونتكامل ويصبح كل منا وليا وموالي.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ والعصر( ١ ) إن الإنسان لفي خسر( ٢ ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( ٣ ) ﴾ ( العصر ).
ولو قيل :﴿ وصوا ﴾ لكان هناك أناس يوصون وأناس يتواصون، لكن الحق قال :﴿ وتواصوا ﴾ ومعناها أن كل مؤمن عليه أن يوصي أخاه المؤمن. فإذا كان عندي نقطة ضعف فأنت توصيني وتقول : اعدل عن هذا ولا تفعله فأنت مؤمن. وإن كانت فيك نقطة ضعف أقول لك : لا تفعل هذا فأنت مؤمن.
إذن : فكل واحد منا موص وموصي. كذلك الولاية فأنت وليي، أي قريب مني تنصرني في ضعفي، وأنا وليك، أي قريب منك، أنصرك في ضعفك لأننا أبناء أغيار ؟ وكل واحد منا فيه نقطة ضعف تختلف عن نقطة ضعف الآخر. والولاية تكون أيضا في الحق، فقد أميل إلى الباطل في نقطة فيقول أخي المؤمن : اعدل. وقد يميل هو إلى الباطل فأقول هو : اعدل. هكذا يتكامل الإيمان، ولذلك تجد كلمة الولاية بمعنى القرب والنصرة في قول الحق سبحانه في ذاته :﴿ هناك الولاية لله الحق... ( ٤٤ ) ﴾ ( الكهف )أي : أن النصر الحقيقي لله، لأننا نعيش في عالم أغيار، فقد تطلب النصر عندي فتكون قوتي قد ذهبت، أو يكون مالي قد فني، أو يكون نفوذي قد انتهى، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو وحده القوي دائما، والغني دائما، الذي يغير ولا يتغير، وعندما ينصرك الله فهذا هو النصر الحقيقي الدائم لا نصر الأغيار.
ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ٦٢ ) ﴾ ( يونس )أي : أن الحق سبحانه وتعالى جعل أولياء الله.
وكذلك يقول تبارك وتعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا( ٢٥٧ ) ﴾ ( البقرة )
إذن : فالحق سبحانه وتعالى مرة يكون مواليا. ومرة يكون موالي، فإن واليت الله بطاعتك يواليك سبحانه بنصره. ويقول تعالى :
﴿ إن ينصركم الله ينصركم ويثبت أقدامكم ( ٧ ) ﴾ ( محمد )أي : إذا تقربت إلى الله بطاعته ونصرة منهجه، فهو يقرب منك في أزماتك وينصرك ويثبت أقدامك.
إذن : فالولاية في الأصل هي القرب والتناصر، وما دام هناك تناصر فلا بد أن تكون هناك نقطة ضعف في مؤمن، نقطة قوة في مؤمن آخر، ولكن من الذي سيكون في ضعف دائما، أو في قوة دائما ؟ لا أحد.
إذن : فكل واحد ينصر، وكل واحد ينصر.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال :﴿ أولياء بعض ﴾ ولم يعين البعض، فكل واحد صالح لأن يكون ناصرا ومنصورا.
ولكن يتضح المعنى اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( ٣١ ) ﴾ ( الزخرف ).
إذن : فقد اعترف الكفار بصدق القرآن وإعجازه ولكنهم لا يؤمنون، لأن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن ينزل على أحد من زعماء قريش، فيرد الله سبحانه وتعالى عليهم :
﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا... ( ٣٢ ) ﴾ ( الزخرف ).
وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل منكم السادة والعبيد، ويجعل منكم الأغنياء والفقراء، وذلك في أمور الدنيا، فإن كنتم تريدون أن تقسموا أمور الدين، فاقسموا أولا معايشكم، لأن الحق سبحانه وتعالى هو الذي قسمها بينكم، وحياتكم في الدنيا تتبع قوانين الأسباب، ومن السهل عليكم أن تقسموا بدلا من أن تأتوا لتقسموا رحمة الله التي هي حق لله سبحانه وتعالى وحده.
ونلاحظ في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض ﴾ أن البعض مرفوع والبعض الآخر مرفوع عليه، وما دامت كلمة ﴿ بعض ﴾ مبهمة، فإن كلا منا مرفوع ومرفوع عليه. ولا يوجد واحد من البشر مرفوع على الجميع، بحيث يكون وحده مجموعة متكاملة من المواهب. ولكن كلا منا متميز في ناحية وغير متميز في ناحية أخرى، حتى يكون التلاحم في الكون تلاحم ضرورة حياة وليس تفضلا، ولذلك فإن الإنسان المؤمن إذا كان مرفوعا عليه في شيء لا بد أن يسأل نفسه : في أي الأشياء أنا مرفوع فيه ؟ وفي أي الأشياء الناس أحسن مني ؟.
ونقول له : أنت تتقن عملا معينا ولذلك أنت مرفوع فيه، ولكن في باقي الأشياء لا تعلم شيئا، فأنت مرفوع عليك، إذن : فأنا الشيء الذي لا أجيده مرفوع علي، وفي الشيء الذي أجيده مرفوع على الناس، ولذلك تجد كل واحد في كون الله مرفوعا مرة ومرفوعا عليه مرة. وهذا هو معنى :﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض ﴾.
ولكن الآفة أننا لا ننظر في الرفعة إلا إلى مجال واحد، هذا غني وهذا فقير، ولكننا لا ننظر إلى الصحة، أو العلم، أو الأولاد، أو صلاح الزوجة أو البركة في الحياة، وزوايا كثيرة، وبعضنا إذا أخذ درجة عالية في زاوية، فإنه قد يأخذ صفرا في زاوية أخرى. ومجموع كل إنسان في نهاية الأمر يساوي مجموع أي إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى فإن رأيت واحدا متفوقا عليك في شيء، فإياك أن تحسده، ولكن اسأل نفسك في أي مجال أنت تتفوق عليه، وستجد هناك مجالات وزوايا أخرى تكون فيها أفضل من غيرك.
إذن : فكل منا مرفوع ومرفوع عليه، ولا بد أن نفهم أن كل صاحب موهبة يفيد المجتمع بموهبته، وربما كان نفعه للمجتمع خيرا من نفعه لنفسه. انظر إلى النجار مثلا تجده يتقن عمل الأبواب والنوافذ للناس، أما لنفسه فلا يتقنها، لماذا ؟ لأن الباب الذي يصنعه لنفسه وهو الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجرا.
ولقد ضربنا مثلا باليد اليمنى واليد اليسرى، فعند غالبية الناس نجد أن اليد اليمنى تؤدي الأعمال بسهولة، واليسرى تزاولها ببطء وتعثر، فإذا أودت أن تقص أظافر يديك مثلا، فأنت تمسك المقص بيمينك وتقص أظافر اليد اليمنى.
وهكذا نرى أنه لا يوجد إنسان يستمتع بالمواهب المكتملة. بل هو يتقن شيئا ولا يتقن أشياء، ولكن مجموع مواهب كل إنسان، تساوي مجموع مواهب كل إنسان آخر.
والعدل الإلهي يتدخل هنا، فنجد-على سبيل المثال- الرجل الغني الذي يأكل خبزا من الدقيق الأبيض الفاخر، ثم يأتي عليه وقت من الأوقات لا يستطيع أن يأكل إلا الدقيق الأسود أو السن. وتجد من يسرف في الطعام، لابد أن يأتي عليه وقت ويحرمه الأطباء من الطعام، لأنه أخذ منه أكثر من حقه. وتكون صحته في أن يحرم. والحق سبحانه وتعالى وضع نظاما كونيا يتساند فيه الجميع، لكي يلتحم الجميع. فأنت تحتاج لي فيما أتقنه وأنا أحتاج إليك فيما تتقنه. وهكذا يتساند الناس ويتكون المجتمع السليم.
ولذلك يقال : الناس بخير ما تباينوا، لأنهم لو لم يختلفوا وأصبحوا أصحاب موهبة واحدة أو عمل واحد لفسد الكون، كأن نكون كلنا قضاة مثلا، فمن الذي يعالج المريض ؟ ومن الذي يحفر الأرض ؟ ومن الذي يحمل الطوب ؟ ومن الذي ينظف الطريق ؟ إننا لو تشابهنا في الموهبة أو الثراء أو العمل فلن نجد أحدا يقوم بهذه الأعمال، لأننا لو كنا كلنا أطباء أو مهندسين أو صيادلة أو قضاة أو مشرعين لما استطعنا أن نعيش، بل لا بد أن نختلف لأكون أنا محتاجا لك وأنت محتاج لي. وبذلك يتماسك المجتمع، وتقضى مصالح الكون بسبب الحاجة، وليس بالتفضل بين الناس.
ويصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم :﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ فإذا فعل مؤمن منكرا، جاء أخوه فنهاه عنه. وإذا لم يفعل معروفا جاء أخوه المؤمن وأمره بالمعروف. وكل واحد منا ناه عن منكر، ومنهي عن منكر.
وأنت لا يمكن أن تأمر بمعروف وأنت تفعل عكسه، أو أنت بعيد عنه، فلا يمكن أن تكون في يدك كأس من الخمر، ثم يطلب من إنسان آخر كأس خمر أن يحطم الكأس التي في يده، لا يمكن إذن أن تنهى عن المنكر وأنت تفعله، والذي يأمر بمعروف لابد أن يكون بعيدا عنه١. فكل مؤمن آمر ومأمور بالمعروف. وناه عن المنكر.
ويضيف الحق وصفا للمؤمنين :﴿ ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ وإقامة الصلاة هي إعلان الولاء للخالق الأعلى، ومن له ديمومة لا نهاية لها. والمؤمنون أولياء بعض، ولكن من وليهم جميعا ؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يلتحموا بمنهج الولي الأعلى الذي لا نستغني عنه جميعا. والله سبحانه وتعالى حين وصف المؤمنين بأنهم أولياء بعض، قال لنا :﴿ إن تنصروا الله ينصركم... ( ٧ ) ﴾ ( محمد ).
إذن : فلا بد أن نتجه جميعا إلى الوالي٢ الكبير. فهو سبحانه فوق أسبابنا، وفوق قوتنا وهو الذي ينصرنا إن عزت ولاية الأفراد المؤمنين لبعضهم البعض، فنلجأ للولي الكبير. ومادامت الولاية لله الحق، فلابد أن نستديم في ولائنا له سبحانه وتعالى. واستدامة والولاء لا تكون إلا بالصلاة. وساعة تسمع المؤذن يقول : " الله أكبر " ت
٢ الوالي: من أسماء الله عز وجل: وهو مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها. قال ابن الأثير: وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة على الفعل..
﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم( ٧٢ ) ﴾.
والوعد : بشارة بخير يأتي زمانه بعد الكلام. والوعيد : إنذار بسوء يأتي بعد الكلام.
الوعد يشجع السامع على أن يبذل جهده ويعمل، حتى يتحقق له الخير الذي وعد به. والوعيد يعطي السامع فرصة أن يمتنع عما يغضب الله فلا يناله عذاب الله.
على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال :
﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات ﴾ ثم ذكر العذاب الذي ينتظرهم، وبعد ذلك قال :
﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات ﴾ ثم وصف النعيم الذي ينتظرهم، مع أن الشائع في اللغة أن الوعد يكون بالخير والوعيد يكون بالشر، فكان من المناسب في عرف البشر أن يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ أوعد الله المنافقين ﴾ لأن الذي سيأتي بعد ذلك عذاب ونار وشر، وأن يقول في المؤمنين : وعد الله لأن الذي سيأتي بعد ذلك جنة ونعيم وخير.
ولكن الأسلوب جاء مخالفا للعرف البشري، فجاء بكلمة " وعد "، وهي تقال دائما للخير في حديثه سبحانه وتعالى عن المنافقين والمؤمنين، واستخدام وعد بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات موافق للمنطق البشري، لأنه وعد بخير.
ولكن بالنسبة للمنافقين فقد جاء الحق سبحانه وتعالى بكلمة " وعد " مكان " أوعد ".
فالذي يتكلم هنا هو الحق سبحانه، فلا تقس كلام الله على كلام البشر، لأن البشر يفوتهم في كلامهم ملاحظ، ولكنها لا تفوت ولا تخفى على الله، والبشر يتفاوتون في الأداء وأساليبه ولكن الحق أسلوبه واحد.
فلماذا جاء سبحانه –إذن- بكلمة " وعد " بدلا من " أوعد " ؟ نقول : إن الحق سبحانه وتعالى بعد أن عرف المنافقين والمنافقات، ثم تكلم عن جزائهم إن أصروا على نفاقهم، كان ذلك تحذيرا حتى لا يصروا على النفاق مخافة العذاب الذي ينتظرهم، عليهم يقلعون عن النفاق وينصرفون إلى الخير من الإيمان.
إذن : فالحق سبحانه وتعالى حين حذرهم بالوعيد نصحهم، كما تقول لمن يهمل دروسه : سترسب إذا أهملت دروسك. فتكون بذلك قد خدمت إقباله على المذاكرة. وأوصلته بالوعيد إلى أن يتجنب الأمر الذي أوعد به، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران( ٣٥ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٣٦ ) ﴾ ( الرحمان ).
هل الشواظ من النار نعمة حتى يقول الحق سبحانه وتعالى :{ فبأي آلاء ربكما تكذبان أي : فبأب نعم ربك تكذب ؟ نقول : نعم إنه نعمة، لأن الحق سبحانه وتعالى حين يوضح لك : إن خالفت هذا فستذهب إلى النار، يكون قد قدم لك العظة والنصيحة، والعظة والنصيحة نعمة، لأنه يجعلك تتجنب طريق النار وتختار طريق الجنة.
إذن : فحين يحذر الله المنافقين والمنافقات بالمصير الذي ينتظرهم، يكون هذا خيرا ونعمة، لأنهم إن اتعظوا وأقلعوا عن النفاق إلى الإيمان فهم ينجون أنفسهم من عذاب النار، وفي هذا خير عميم. ولذلك استخدم الحق سبحانه وتعالى كلمة " وعد " ولم يستخدم " أوعد "، وتكن الكلمة مؤدية للمعنى الذي أراده الله.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات ﴾ والوعد كما قلنا بشارة بخير مستقبلي، والوعيد إنذار بشر يأتي في المستقبل، والوعد والإيعاد هما ميزان الوجود دنيا وآخرة، لأنك إن وعدت من يلتزم بمنهج الله خيرا، استحسن الناس جميعا أن يصلوا إلى الخير بإتباعهم المنهج، وإن أوعدتهم بشر إن خالفوا منهج الله، نفر الناس من المخالفة والمعصية خوفا من العذاب وتجنبوا الشر. فإن صدق وعدك لأهل الخير بالخير، وصدق وعيدك لأهل الشر بالشر، استقام ميزان الحياة.
ولذلك نقول للذي يذاكر : إنك ستنجح، فإن أتقنت المذاكرة حصلت على المجموع الذي يؤهلك لدخول الكلية التي تختارها، وإن أهملت دروسك رسبت وفصلت من التعليم وضاع مستقبلك. وهنا وعد ووعيد. إن وفيت ما وعدت ووقيت ما توعدت، استقام ميزان الحياة. ولكن إذا جئت لإنسان لم يذاكر وأنجحته وأعطيته أعلى الدرجات مخالفا بذلك وعيدك له، فأنت تهدم قضية كونية يترتب عليها مصالح الخلق كلهم. وإن وعدت من يحصل على ٩٠% مثلا أنه سيدخل كلية الطب، ثم أخلفت وعدك فدخل كلية الطب من حصل على ٧٠% واستبعد الحاصل على ٩٠% بسبب تدخل الأهواء تكون أيضا قد اعتديت على حركة الحياة كلها تفسد قضية العمل الجاد في حركة الحياة، وكل من لا يملك القدرة على تنفيذ ما وعد به أو أوعد به، لا يكون لكلامه وزن في حركة الحياة.
على أنه إذا كان الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى فإنه مختلف مع منطق البشر، لأننا أهل أغيار، فقد أعد بخير لا استطيع تنفيذه، وقد أعد بعقاب ثم أضعف بسبب ظروف معينة فلا أقوى على التنفيذ. إذن : فلكي تستقيم حركة الحياة، لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من القادر دائما، القوي دائما، الموجود دائما، صاحب الكلمة العليا بحيث لا يوجد شيء يمكن أن يجعله لا يفي بوعده أو لا يتم وعيده، فإذا قرأت سورة المسد تجد الحق سبحانه يقول فيها :
﴿ تبت يدلا أبي لهب وتب( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب( ٢ ) سيصلى نارا ذات لهب( ٣ ) وامرأته حمالة الحطب( ٤ ) في جيدها حبل من مسد( ٥ ) ﴾ ( المسد ).
وقد حكم الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة، بأن أبا لهب وامرأته سيموتان كافرين وسيدخلان النار، ولكن كثيرا ممن كانوا كفارا وقت نزول هذه السورة مثل : خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وعمر بن العاص١ وغيرهم، آمنوا وحسن إسلامهم وجاهدوا في سبيل الله، فلماذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا لهب وامرأته لن يؤمنا كما آمن عمرو، وكما آمن عكرمة، وكما آمن خالد بن الوليد وغيرهم ؟ نقول : إن هذا ليس حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه حكم الحق سبحانه وتعالى، وإذا حكم الله فإياك أن تشك في هذا الحكم، لأنه لا إله إلا الله وهو على كل شيء قدير.
لذلك جاءت هذه السورة، وبعدها في المصحف الشريف في سورة الإخلاص :﴿ قل هو الله أحد( ١ ) الله الصمد( ٢ ) ﴾ ( الإخلاص ).
وما دام الله أحدا فأمره نافذ حتى في الأمور الاختيارية في الحياة، فإذا قال الله :﴿ لا مبدل لكلماته ﴾. وإذا وعد بخير فإنه سيأتي لا محالة به، وإذا أوعد بشر فسوف يقع حتما.
إذن : فلكي تستقيم موازين الحياة، كان لابد أن يأتي الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى حتى نكون على يقين بأنه سيحدث، لأنه لا أحد يشارك الله في ملكه، ولا يوجد قوي إلا الله، ولا غالب إلا الله، لأنه هو الله أحد.
وقد يأتي سبحانه وتعالى بسنة كونية واقعة، فأنت حين تزرع الأرض وتحسن حرثها، وريها ووضع البذور فيها يأتيك المحصول بخير عميم. وإذا أهملت الأرض وتركتها بلا حرث ولا زرع ولا بذور فهي لا تعطيك شيئا.
إذن : فالسنة الكونية هنا أعطت وعدا للذي يجد في زراعة أرضه بالمحصول الوفير، وأعطت وعيدا للذي لا يقبل على زراعة أرضه بأنه لا يحصل على ثمرة واحدة منها. ولو لاختلف الأمر ووجدنا من زرع وحرث وسقي لم يحصل على الثمار، ومن لم يزرع ولم يفعل شيئا أعطته الأرض من ثمارها الكثيرة، لانقلبت المعايير في الكون، وما وجدنا أحدا يزرع أرضه.
إذن : فلك تستقيم سنة الحياة، إما أن يكون الوعد والوعيد من قادر على التنفيذ لا يضعف ولا يتغير. وإما أن يكون بمسنة كونية نراها أمامنا في كل يوم ولا يقع ما هو مخالف لها. فالذي يجتهد ينجح، والذي لا يذاكر يرسب. سنة كونية. لو صدقت مع الواقع يعتدل ميزان الحياة. ولو لم تصدق مع الواقع وتدخلت الأهواء لتجعل من لا يذاكر ينجح ومن يذاكر يرسب، اختلفت حركة الحياة المثمرة الناجحة.
إذن : فميزان الوعد والوعيد هو دولاب حركة الحياة، فإن اختل هذا الميزان وجاء الوعد مكان الوعيد ؛ أي كوفئ الذي لا يعمل وعوقب الذي يعمل فسد الكون. لماذا ؟ لأن كل إنسان يحب النفع لنفسه، ولا يختلف في ذلك مؤمن أو عاص أو كافر، ولكن العاصي والكافر يحبان نفسيهما حبا أحمق، فيحققان لها النفع قليلا زمنه محدود، بعذاب مستمر زمنه لا حدود. أما المؤمن فهو إنسان يمتاز بالذكاء وبعد النظر، لذلك فهو حرم نفسه من متعة عاجلة في زمن محدود، ليحقق لها متعة أكبر في زمن لا ينتهي.
ولقد ضربنا مثلا -ولله المثل الأعلى- فقلنا : هب أن هناك أخوين : أحدهما يستيقظ من النوم مبكرا، فيصلي ويفطر ويأخذ كتبه ويذهب إلى المدرسة، وسيحسن الإنصات للمدرسين ويعود إلى البيت ليذاكر دروسه. والآخر يظل نائما يتمتع بالنوم، ويقوم عند الضحى، فيخرج ليتسكع في الشوارع، وحين تحدثه نفسه بأي متعة فهو يحققها بصرف النظر عن منهج الله وقيم الحياة.
إن كلا الأخوين يحب نفسه، لكن الأول أحب نفسه فأعطاها مشقة محتملة في سنوات الدراسة، لتعطيه راحة ومركزا ومالا بقية حياته، أما الأخ الثاني فقد أحب نفسه أيضا وأعطاها المتعة العاجلة ولكنه أضاع مستقبله كله، فلم يعد يساوي في المجتمع.
إذن : فكل منا يحب نفسه، ولكن مقاييس الحب هي التي تختلف. فمنا من يأخذ المقياس السليم، فيحتمل مشقة قليلة ليأخذ نعيما أبديا، ومنا من يعطي نفسه متعة عابرة ليفقد نعيما مقيما.
والعجيب أنك تجد أن هذه هي سنة الحياة الدنيا، فلا تجد إنسانا ارتاح في حياته إلا إذا كان قد أجهد نفسه في سنوات الأولى، ليصل إلى الراحة بقية عمره، ولا تجد إنسانا فاشلا عالة على المجتمع إلا إذا كان قد أخذ حظه من الحياة في أولها ليشقى بقية عمره.
لذلك يقال دائما : إنه لا يوجد من يأخذ حظه من الحياة مرتين أبدا، فالذي يتعب في أول حياته يرتاح بقية عمره، والذي يرتاح أول حياته يتعب بقية عمره. والمثل الشائع يقول : من جار على شبابه، أي : ضيعه فيما لا يفيد، جارت عليه شيخوخته. والقائمون على الأمر عليهم أن ينهبوا المقبلين على الحياة بالوعد والوعيد حتى يستقيم أمر حياتهم، وعليهم ألا يؤجلوا الوعد إلى أن تنضج إلى الثمرة. ولا الوعيد إلى أن يحدث الشر ويقع. وعلى كل ولى أمر، في أي مكان، أن يراقب حركة المقبلين على الحياة من أبنائه أو من يتولى أمرهم، فيشجع ويعد المجتهد، ولا ينتظر حتى ينجح، بل لابد من الوعد لكي يتم الاجتهاد. ولابد من الوعيد قبل أن يرسب الابن أو يضيع حياته، فلا ننتظر حتى يفسد الإنسان ثم بعد نتوعده، لأن الوعد والوعيد هما اللذان يزنان حركة الحياة.
ولكن إذا رأينا في مجتمع ما أن الذي يعمل لا يأخذ شيئا، والذي لا يعمل يأخذ كل شيء، نعرف أن مقاييس العمل قد اختلت. وأن المتاعب قد بدأت في المجتمع، لأن الذي يعمل حين يجد أن العمل لا يوصله إلى شيء فهو يوجه حركة حياته إلى غير عمله، فيبذل جهده كله في النفاق والرياء، وقلب الحقائق وإرضاء الذي يملك الأمر. وتكون النتيجة في فقدان المجتمع لقيمة العمل فيصبح المجتمع بلا عمل منتج، ويصير مجتمعا بارعا في النفاق والرياء وضياع الحق.
وقد وضح الحق سبحانه وتعالى مقياس حركة الحياة في الوعد والوعيد، فلا تعط حافزا إلا لمستحق، ولا مكافأة لمجتهد، ولكنك إذا بعثرت الحوافز على المنافقين، والذين يحققون لك أهدافك الشخصية، كأن يخدمك في بيتك أو يقضوا لك مصالح
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾ والحق جل وعلا يخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالتكريم والتعظيم، فلم يناده باسمه. بل قال١ :﴿ يا أيها النبي ﴾ وفي مواقع أخرى يناديه :﴿ يا أيها الرسول ﴾.
ولكن النداء من الحق لباقي الأنبياء، يكون مثل قوله تعالى :
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة... ( ٣٥ ) ﴾ ( البقرة )
وقوله تعالى :
﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات... ( ٤٨ ) ﴾ ( هود )
ونادى الحق إبراهيم :
{ يا إبراهيم( ١٠٤ ) قد صدقت الرؤيا.. (. ١٠٥ ) ( الصافات )
ونادى الحق موسى :
﴿ يا موسى( ١١ ) إني أنا ربك... ( ١٢ ) ﴾ ( طه )
وخاطب الحق سيدنا عيسى :
﴿ يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله... ( ١١٦ ) ﴾ ( المائدة )
فكل رسول ناداه الحق سبحانه وتعالى باسمه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناداه بقوله :﴿ يا أيها النبي ﴾، و﴿ يا أيها الرسول ﴾ تكريما للرسول عليه الصلاة والسلام، ورفعا لمقامه عند ربه.
وهنا يطلب الحق من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار والمنافقين٢.
ونحن نعلم أن السماء لا تتدخل لإرسال رسول إلا إذا فسد المجتمع فسادا عاما. ونعلم أن النفس الإنسانية فيها قد فطرت على محبة الخير، فإن لم يحكمها هواها فهي تفعل الخير وتحبه، فن حكمها هواها ستر عنها الخير وفتح الهوى للنفس أبواب الشر وقد يطيع الإنسان هواه في أمر من الأمور، ثم يفيق، فتلومه نفسه على ما فعل، هذه هي النفس اللوامة، التي تلوم صاحبها على الشر، وتدفعه إلى الخير. ولكن هناك نفس تتوقف فيها ملكات الخير فتفعل الشر، ولا تندم عليه، ثم ترتقي النفس في الشر فتصبح أمارة بالسوء، وتأبى ألا تكتفي بفعل الشر، بل تأمر به الناس وتحببه لهم. إذن : فمراحل النفس البشرية كثيرة، فهناك النفس التي تطمئن لمنهج الله وتطيعه. وهذه هي النفس المطمئنة، التي يقول فيها الحق :
{ يا أيتها النفس المطمئنة ( ٢٨ ) ارجعي إلى ربك راضية مرضية( ٢٨ ) فادخلي في عبادي( ٢٩ ) وادخلي جنتي( ٣٠ ) ( الفجر ).
وإذا وجدت النفس المطمئنة والنفس اللوامة، فاعلم أن المجتمع بخير، لأن النفس المطمئنة تطيع، وتأمر بالطاعة، والنفس اللوامة تلوم صاحبها على الشر، لكل مؤمن نقطة ضعف، فإذا ضعف مؤمن، يسرع له أخوه المؤمن ليلومه على ضعفه، ويصحح له مساره، لأن نقط الضعف مختلفة، نجد أن المجتمع يستقيم كلما وجد من يلفت النظر إلى المنكر وينهى عنه، وهؤلاء هم الذين يقول الحق عنهم :
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( ٣ ) ﴾ ( العصر )
ولكن عندما تصدأ النفوس جميعا، ولا يصبح هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل تجد من ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر، حينئذ لا بد أن يتدخل الحق سبحانه ليعيد للحق مكانه في الدنيا.
إذن : فرب العزة لا يتدخل في حالة وجود نفوس مطمئنة تطبق منهج الله وتأمر بطاعته، أو وجود نفوس لوامة، سواء في ذات النفس البشرية أو في المجتمع تراجع من يرتكب الإثم لوامة، ولكن إذا عم الفساد في المجتمع، ولم يصبح هناك من ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف، وأصبح أهل الخير فيه عاجزين عن أن يفعلوا شيئا، جاءت الرسل لتعيد منهج الحق لينظم حياة المجتمع.
وحين يأتي الرسول فهو يعلم أنه ما أرسل إلا بعد أن عم الشر في الكون، وأن أهل الفساد هم الأغلبية، وهم أصحاب النفوذ والسلطان، وينتفعون بالفساد والإنحراف المستشري في المجتمع. وهؤلاء إذا سمعوا بصيحة الحق ؛ فلن يقفوا متفرجين، بل سيحاربون كل من يحمل منهج الحق إليهم. ولا بد للرسول أن يصمد أمامهم، وأن يجاهدهم.
و " جاهد " من " فاعل "، مثل :" شارك " فأنت تشارك فلانا، ومثل :" قاتل " فأنت تقاتل فلانا، إذن : فلا بد أن تحدث مفاعلة بين الرسول ومن اتبعوه، وبين الكفر والفساد في المجتمع.
ولا بد أن يستعد الرسول والمؤمنون بمنهجه لتحمل الإيذاء من غير المؤمنين بالمنهج، لأن الكفار منتفعون بالفساد، لكي يستمر هذا الانتفاع، لابد أن يقف الكفار ضد حملة منهج الحق، وأن يقاوموهم ليضمنوا لأنفسهم استمرار الميزات التي يعطيها الباطل لهم. وينبه الله سبحانه وتعالى رسوله إلى حقيقة هؤلاء الكفار المنتفعين بالفساد وأنهم سيحاربونه. ولذلك لم يقل سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : اتحد معهم، ولكنه قال :﴿ جاهد الكفار والمنافقين ﴾ أي : اصمد أمامهم في المعركة، وجاءت الكثير من الآيات التي يأمر فيها الله رسوله والمؤمنين بالصبر على الجهاد، والجهاد يقتضي المواجهة، لذلك قال سبحانه :﴿ اصبروا ﴾.
ولكن لنفرض أن عدوي صبر أيضا في الحرب، إن أنا صبرت وعدوي صبر تساوت الكتفان، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ اصبروا وصابروا... ( ٢٠٠ ) ﴾ ( آل عمران )أي : إن واجهكم عدوكم بالصبر، فليكن صبركم أقوى منه، فتغلبوه بالصبر والتحمل، فقف صابرا في مواجهتهم ومعك المؤمنون برسالتك، فمعسكر الإيمان لابد أن يواجه معسكر الكفر والنفاق، والكافر هو الذي جحد الإيمان بقلبه وأعلن الكفر بلسانه، أما المنافق فهو من كفر في باطنه ويعلن الإيمان في ظاهره. وهذا هو الذي يجب أن نحذر منه أشد الحذر، لأننا لا نعرفه فنتقي شره مثل الكافر، فقد يطعنا المنافق من الخلف ونحن آمنون له مطمئنون إليه، فتكون طعنته مؤثرة وأليمة.
ويوضح الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم : إن العداوة التي سيواجهها وهو يبشر بمنهج الله ستأتيه من اثنين، من كافر أو منافق، أي من مجاهر بعدم الإيمان، أو ممن كفر بقلبه وتظاهر بالإيمان بلسانه. أما المنافق فإنه عدو صعب، لأنه يغشنا فلا نأمنه، رغم أن النفاق في حد ذاته بالنسبة لمنهج الله هو دليل قوة هذا المنهج، لأنه لا ينافق إلا القوي، أما الضعيف فلا ينافقه أحد.
ولذلك لم يكن هناك منافقون أثناء وجوده صلى الله عليه وسلم من مكة قبل الهجرة، لأن المسلمين كانوا قلة ضعافا، وكانوا معذبين مضطهدين. ولم يكن هناك ما يغري أحدا بنفاقهم، لأنه لا توجد استفادة من هذا النفاق، بل سيتعرض من يتعاطف معهم للتعذيب والاضطهاد. والمنافق في إظهاره غير ما يبطن إنما يحقق لنفسه مصلحة ذاتية.
واختلف الحال بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وظهر المنافقون بعد أن أصبح للإسلام دولة وقوة. والمنافق في هذه الحالة إنما يعلن إيمانه زيفا، ليستفيد من قوة المسلمين لصالحه. إذن : فالنفاق ظاهرة مرضية في المنافق، ولكنها دليل قوة المؤمن الذي ينافقه.
ونلحظ أنه سبحانه وتعالى قد قدم في هذه الآية ذكر الكفار على المنافقين. وقدم في آيات أخرى المنافقين. وقدم في آيات أخرى المنافقين على الكفار٣. والصدام-كما نعلم- قد حدث أولا مع الكفار، ففي أول الدعوة لم يوجد هذا الصنف المنافق، بل كان هناك مؤمنون وكفار، وجهاد الكفار جاء على مراحل، وليس على مرحلة واحدة، وكانت أولى مراحل الجهاد هي الجهاد بالحجة، لأن المؤمنين في أول الأمر كانوا قلة ضعيفة لا يملكون قوة يواجهون بها هذا المد الكبير من الكفار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض قضايا الإيمان بالحجة لإقناع العقل، لعل عقولهم تفيق فيؤمنون بمنهج الحق. فيسألهم مثلا عمن خلق السماوات والأرض ؟.
وحين يديرها الكافر في عقله لا يجد أحدا ادعى-أو يستطيع أن يدعي- أنه خلق السماوات والأرض، فلا يكون جوابهم إلا أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى٤، لماذا ؟ لأن الإنسان في تكوينه قد يدعي أشياء ليست له، ولكنه لا ينفي أمرا هو صاحبه. فمخترع أي شيء أو صانعه لا يمكن أن ينكر أنه صنع أو اخترع، بل يحب أن تعرف الدنيا كلها أنه اخترع أو صنع، ولهذا فأنت لا تجد شيئا ينتفع به الكون مهما كان تافها إلا وعرفنا تاريخه، ومن أين جاء، ومن الذي اكتشفه أو صنعه، والمثال هو ما درسناه في المدارس عن الذي اخترعه أو اكتشفه أو صنعه، والمثال هو ما درسناه في المدارس عن الذي اكتشف الكهرباء، والذي صنع المصباح الكهربائي، ومن الذي طوره. وكذلك اختراع الطائرة، ومعروف لنا كيف نشأت فكرة الطيران بعباس بن فرناس، الذي حاول الطيران بذاته بواسطة أجنحة كبيرة وهكذا كانت البداية.
إذن : فكل شيء نافع في الكون معروف من الذي اكتشفه أو صنعه أو اخترعه. فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للصناعات البشرية المحدودة، فما بالك بالنسبة للكون ؟ وحين نسأل : من الذي أوجد الشمس ؟ ألا يستحق خالقها أن نعرف من هو، خصوصا ونحن نعرف من الذي اخترع مصباح الكهرباء وأوجده في حياتنا ؟.
وإذا كنا نملأ الدنيا بالحديث عن مخترع مصباح الكهرباء الذي ينير حجرة محدودة لوقت، وقامت مصانع كبيرة لتنتج هذا الاختراع، أفلا نستحق أن نعرف من الذي أوجد الشمس التي تنير الكرة الأرضية في نفس اللحظة ؟ هذه الشمس التي تشرق منذ ملايين السنين، ولم تنطفئ مرة واحدة، ولا احتاجت قطعة فغيار طوال هذا العمر الطويل، ولا بد أن يكون لها صانع، تتناسب قوته مع ذلك الإعجاز الذي نراه سواء في الضوء، أو خصائص هذا الضوء، أو في دقة الصنع، فهي لا تتأخر ثانية ولا تتقدم ثانية عن الظهور، ولا بد أن يكون صانعها له من القوة ما يتناسب مع عظمة هذا الخلق.
فإذا جاء الرسول وأبلغنا أن الله هو الذي خلق الشمس، فإما أن يكون صادقا، فنسلم جميعا بأن الله هو الخالق والموجد. وإما أنه غير صادق، فنقول : لماذا لم يخرج إذن أحد يدعي أنه هو الذي خلقها.
ولكن دقة وإعجاز الخلق الذي لا يمكن أن تصل إليه قوة بشرية مفردة، أو قوى بشرية متعددة متعاونة، جعل القضية محسومة له سبحانه وتعالى٥. وإلى أن يأتي من يدعي أنه خلق الشمس، ولن يأتي، فقضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، ولا يوجد هناك منازع.
ويأتي رسول ليقول : إن خالق الأرض والشمس والسماوات والكون هو الحق سبحانه وتعالى، فلم يأت أحد ويدعي أنه قد خلق شيئا من هذا، مما يؤكد صحة دعوى الرسول، مما يؤكد أن من أوجد هذا الكون هو قوة بلا حدود، وقدرة بلا قيود، وهو الأحق بالعبادة من هذه الأصنام والآلهة التي يدعونها.
وتمضي الدعوة بالمنطق ليسألهم من الذي خلقهم. مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون( ٣٥ ) ﴾ ( الطور ).
فإذا كان الجواب : لا هذا ولا هذه، إذن " فلا بد أم هناك خالقا وموجدا لنا، فإذا جاء لنا الرسول وأبلغنا : إن خالق هذا الكون وخالقنا هو الله، فلا بد أن نصدقه، لأنه لم يدع أحد ولا يستطيع أن يدعي أنه خلق هذا الكون أو خلق نفسه، تماما كما نكون قد جلسنا في مكان. وبد أن انصرفنا، وجدت حافظة نقود، فجاء صاحب المكان وسأل
٢ قال بن عباس في تفسير هذه الآية"أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ" وانظر تفسير القرطبي(٤/٣١٢٩).
٣ وذلك من نحو قوله تعالى﴿إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا﴾ (النساء: ١٤٠) وكذلك قوله﴿وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم﴾ (التوبة: ٦٨)..
٤ ومصداقا لقوله عز وجل:﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾ (لقمان: ٢٥).
٥ حتى أن مجادلة ومحاجة إبراهيم عليه السلام للنمروذ لم تكن في خلق الشمس، إنما كانت الإتيان بها من مكان غير الذي تأتي منه، فقال:﴿قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر﴾ (البقرة: ٢٥٨).
﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله، من فضله فإن يتوبوا يك خير لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير( ٧٤ ) ﴾.
وفي هذه الآية الكريمة يبين لنا الحق سبحانه وتعالى حلقات الحلف بالكذب للمنافقين، فهم يحلفون أنهم ما قالوا، ويجعلون الله عرضة لإيمانهم، مع أنهم قاتلوا كلمة الكفر، كفروا بعد أن أعلنوا الإسلام بلسانهم، وإسلامهم إسلام مدعي.
ولهذه الآية الكريمة قصة وقعت أحداثها في غزوة تبوك التي حارب المسلمون فيها الروم، كانت أول قتال بين المسلمين وغير العرب، حيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة في فقترة شديدة الحرارة، وكان كل واحد في هذه الفترة يفضل الجلوس في الأخياف١، أي الحدائق الصغيرة، ويجلسون تحت النخيل والشجر في جو رطب ولا يرغبون في القيام من الظل.
وعندما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد في سبيل الله، والذهاب إلى قتال الروم، تلمس المنافقون الأعذار الكاذبة حتى لا يذهبوا للجهاد، فظل القرآن ينزل في هؤلاء الذين تخلفوا عن هذه الغزوة شهرين كاملين، فقال رجل اسمه الجلاس بن سويد : والله إن كان ما يقوله محمد عن الذين تخلفوا عن القتال صدقا فنحن شر من الحمير. وهنا قال عامر بن قيس الأنصاري : لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم شر من الحمير. وأنت يا جلاس شر من الحمار. هنا قام عدد من المنافقين ليفتكوا بعامر بن القيس الأنصاري، لأن الجلاس بن سويد كان من سادة قومه. وذهب عامر بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سويد وسأله عن الخبر، فحلف بالله أن كل ما قاله عامر بن قيس لم يحدث. وتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حلف بالله. وهنا رفع عامر بن قيس يده إلى السماء، وقال : اللهم إني أسألك أن تنزل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلكم " آمين " ٢. ولم ينتهوا من الدعاء حتى نزل الوحي بقول الحق جل جلاله :
﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ﴾
وهكذا حسمت هذه الآية الكريمة الموقف. أظهرت من هو الصادق ومن هو الكاذب، فيما رواه عامر بن قيس وأنكره الجلاس.
ولكن الآية الكريمة تجاوزت ما عرف من الحادثة إلى ما لم يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه :﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾ ذلك أن الله تبارك وتعالى أراد أن يعلم المنافقين أن سبحانه يخبر نبيه بما يخفيه المنافقون عنه، ولو نزلت الآية فقط في حادثة الحلف الكذب، لقال المنافقون : ما عرف محمد –عليه الصلاة والسلام- إلا ما قاله عامر، ولكن هناك أشياء لم يسمعها عامر، وهم قالوها، ذلك أن المنافقين كانوا قد تآمروا على حياة النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على قتله عند عبوره العقبة، والعقبة هذه هي مجموعة من الصخور العالية التي تعترض الطريق، فيتحايلون على اجتياز هذه العقبة بأن يعبروها أحيانا من أنفاق منخفضة وأحيانا يعبرونها بأن يصعدوا فوقها ثم ينزلوا.
ودبر المنافقون٣ أن يدفعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعلى الصخور، فيسقط في الوادي، ولكن حذيفة بن اليمان الذي كان يسير خلف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبه للمؤامرة، فهرب المنافقون، وهكذا لم ينالوا ما يريدونه، مثلما لم ينالوا ما أرادوه عندما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة، فقد كانوا يعدون العدة ليجعلوا عبد الله بن أبي ملكا عليهم، ولكن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمكنهم من ذلك.
وقيل : إنهم تآمروا على قتل عامر بن قيس، لأنه أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله الجلاس بن سويد، ولكنهم لم يتمكنوا. وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ و﴿ نقموا ﴾ تعني : كرهوا، والغنى-كما نعلم- أمر لا يكره، ولكن وروده هنا دليل على فساد طبعهم وعدم الإنصاف في حكمهم، لأن الغني والأمن الذي أصابهم ليس عيبا ولا يولد كراهة. بل كان من الطبيعي أن يولد حبا وتفانيا في الإيمان.
والحق سبحانه وتعالى يوضح لهم : ماذا تعيبون على محمد ؟ وماذا تكرهون ؟ هل تكرهونه وقد جاءكم بالعزة والغنى ؟.
وقبل أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان كرهوا مجيء الرسول إلى المدينة فقراء لا يملكون شيئا، ولكنهم لما نافقوا ودخلوا في الإسلام، أخذوا من الغنائم، وأغناهم الله٤، بل إن الجلاس بن سويد لما قتل له غلام دفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشرة ألف درهم دية. إذن : فقد جاء على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنى للجميع، فهل هذا أمر تكرهونه ؟ طبعا لا. ولكنه دليل على فساد طباعكم وعدم إنصافكم في الحكم، وما دام الله سبحانه وتعالى قد أغناكم بمجيء رسوله، ما كان يصح أن يعاب ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يجب أن يمدح به، وأن تتفانوا في الإيمان به ونصرته.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ من فضله ﴾ يلفتنا إلى أسلوب القرآن الكريم. ولقد قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ الله ورسوله ﴾ وكان قياس كلام البشر أن يقال " الله ورسوله من فضلهما "، ولكنه قال :﴿ من فضله ﴾ لأن الله لا يثنى مع أحد، لو مكان محمد بن عبد الله.
وذلك عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يخطب ويقول : من أطاع الله ورسوله فقد نجا، ومن عصاهما فقد هلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس خطيب القوم أنت، لأن الخطيب جمع تثنية بين الله ورسوله.
وهنا توقف الخطيب وقال : فماذا أقول يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل ومن يعص الله ورسوله فقد هلك٥، ولا يقل : عصاهما، لا تجمع مع الله أحدا ولا تثن مع الله أحدا، ولذلك نجد القرآن الكريم لم يقل " أغناهم الله ورسوله من فضلهما "، ولكنه قال :﴿ من فضله ﴾ لأن الفضل واحد. فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضل، فهو من فضل الله. وعلى أية حال فالله لا يثنى معه أحد، ولذلك نجد في القرآن الكريم :
﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين( ٦٢ ) ﴾ ( التوبة )
وهنا نرى أيضا لأن الحق سبحانه قد استخدم صيغة المفرد في الرضا، لأن رضا الله سبحانه وتعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم يتحدان، لأنه إذا جاء اسم الله فلا تثني معه أحد.
وبعد أن فضح الحق سبحانه وتعالى المنافقين وبين ما في قلوبهم، لم تتخل رحمته عنهم، لأنه سبحانه وتعالى رحيم بعباده، ولذلك فتح لهم باب التوبة فقال :﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾، وفتح باب التوبة رحمة لحركة الحياة كلها ؛ فلو أغلق الله باب التوبة لأصبح كل من ارتكب ذنبا مصيره للعذاب مهما فعل، فلا بد أنت يستشري في الذنب، ويزداد في الإثم، ما دام لا فرق بين ذنب واحد وذنوب متعددة ولكن حين يعلم أي إنسان يخطئ بأن باب التوبة مفتوح ؛ فهو لا يستشري في الإثم، ثم إن الذي يعاني من الشرور والآثام حقيقة هو المجتمع ككل، فإذا وجد لص خطير مثلا، فالذي يعاني من سرقاته هو المجتمع. وإذا وجد قاتل محترف فالذي يعاني من جرائمه هم الذين سيقتلهم من أفراد المجتمع.
إذن : ففتح باب التوبة رحمة للمجتمع، لأنها لا تدفع المجرم إلى الإستشراء في إجرامه. وإذا نظرت إلى الآية الكريمة، فالله سبحانه وتعالى بعد أن أظهر الحق، وبين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أشياء كان المنافقون يخفونها، فتح المنافقون باب التوبة، وحينئذ قال الجلاس بن سويد زعيم المنافقين : يا رسول الله. لقد عرض الله علي التوبة. والله قد قلت ما قاله عامر، وإن عامرا لصادق فيما قاله عني. وتاب الجلاس وحسن إسلامه٦.
أما الذين تعرض عليهم التوبة ولا يتوبون إلى الله، فقد قال سبحانه :
﴿ وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾ إذن : فجزاء من يرفض التوبة ولا يعترف بخطئه هو العذاب الأليم، لا في الآخرة فقط، ولكن في الدنيا والآخرة. وعذاب الدنيا إما بالقتل وإما بالفصيحة، وعذاب الآخرة في الدرك الأسفل من النار.
ولكن قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وما لهم في الأرض من لي ولا نصير ﴾ قد يفهمه بعض الناس فهما خاطئا، بأن العذاب في الدنيا فقط. ولمن هناك أرض الدنيا، وأرض في الآخرة هي أرض المعاد٧، مصدقا لقوله تعالى :
﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.... ٤٨ ﴾ ( إبراهيم )
إذن : فكلمة﴿ الأرض ﴾ تعطينا صورتين في الدنيا وفي الآخرة.
وقوله تعالى :﴿ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾ يوضح لنا أن الولي هو القريب منك الذي تفزع إليه عند الشدائد، ولا تفزع عند الشدائد إلا لمن تطمع أن ينصرك، أو لمن هو منك، أما النصير فهو من تطلب منه النصرة. وقد يكون بين البعيدين عنك ولا ترتبط به ولاية، إذن : فلا الولي القريب منك، ولا الغريب الذي قد تفزع إليه لينصرك يستطيعان أن يفعلا لك شيئا، فلا نجاة من عذاب الله لمن كفر أو نافق.
٢ انظر تفسير ابن كثير(٢/٣٧١-٣٧٣).
٣ كانوا اثني عشر رجلا ماتوا محاربين لله ورسوله عن حذيفة بن اليمان قال: كنت آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به، وعمار يسوقه، حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا، قد اعترضوه فيها، فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله، كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب. قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا لا. قال: أرادوا أن يزحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة، فيلقوه منها. قلنا: يا رسول الله أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: لا، أكره أن تحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم بقتلهم، ثم قال: اللهم أرمهم بالدبيلة. قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك" أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٥/٢٦٠، ٢٦١) وفيه عنعنة ابن إسحاق..
٤ قال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ظنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم" ذكره القرطبي في تفسيره(٤/٣١٣٢)..
٥ عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد. ومن يعصهما فقد غوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بئس الخطيب أنت. قل: من يعص الله ورسوله فقد غوى) أخرجه مسلم في صحيحه (٨٧٠) وأحمد في مسنده (٤/٢٥٦، ٣٧٩) وأبو داود في سننه(١٠٩٩)..
٦ انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لإبن حجر العسقلاني (ترجمة١١٧٢)..
٧ قال أبو يحيى الأنصاري في فتح الرحمان(ص١٧٠):" لما كانوا لا يعتقدون الوحدانية، ولا يصدقون بالآخرة، كان اعتقادهم وجد الولي والنصير مقصودا عن الدنيا، فعبر عنها في الأرض أو: أراد بالأرض أرض الدنيا والآخرة"..
﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين( ٧٥ ) ﴾.
﴿ ومنهم ﴾ أي : من المنافقين الذين عرض الله صورا كثيرة لهم في هذه السورة الكريمة، فقال :﴿ منهم ﴾، و﴿ منهم ﴾، و﴿ منهم ﴾، اختلفت روايات المفسرين والرواة في مدلول قوله تعالى﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾. فقال بعضهم : إنه ثعلبة بن حاطب، وقال آخرون : إنه معتب بن قشير، وقال رأى ثالث : إنه الجد بن قيس، وقال قائل رابع : إنه حاطب بن أبي بلتعة. كل هذه خلافات تحملتها الآية الكريمة١، لأن الحق سبحانه وتعالى قال :
﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ﴾.
ولم يقل الحق :" فلما آتيناهم من فضلنا بخل به " بحيث ينطبق على حاله واحدة، ولكن الحق تبارك وتعالى جاء بها بصيغة الجمع فقال سبحانه :
﴿ فلما آتاهم من فضله بخلوا به.... ( ٧٦ ) ﴾ ( التوبة ).
إذن : فهناك جمع. والروايات كلها يمكن أن تكون صحيحة في أن الآية الكريمة نزلت في أفراد متعددين، وسبحانه يقول :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ فكيف يكون للمنافقين عهد مع الله ؟ نقول : لقد عومل هؤلاء المنافقون بظواهر ألسنتهم، فهم قد أعلنوا إسلامهم، وكان الواحد منهم يقول : أعاهد الله على كذا وكذا، تماما كما يأتي الواحد منهم للصلاة ويحرص بعضهم على التواجد في الصف الأول للمصلين، فهل منعه النفاق من الصلاة ظاهرا ؟ لم يمنعه أحد، كذلك عندما يعاهد الله فهو يعاهده بظاهر لسانه.
وقصة الآية٢ : أن رجلا فقيرا من الأنصار ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني فقير مملق-أي شديد الفقر- فادع لي الله يا رسول الله أن يوسع علي دنياي. وبفطنه النبوة قال صلى الله عليه وسلم : إن قليلا تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فعاوده وقال : ادع الله لي أن يوسع علي. فدعا له فوسع الله عليه.
ولسائل أن يسأل : كيف يستجيب الرسول ويدعوا لمنافق ؟ وإذا كان الرسول قد دعا ترضية له وتأليفا لقلبه، فكيف يجيب الله رسوله في طلب منافق منه ؟
ونقول : ربما كان ذلك، لأن المنافق أراد أن يجرب : أرسول الله حق، بحيث إن دعا الله أجيب ؟.
فلما دعا رسول الله أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعلم هذا المنافق أنه : نعم هو رسول الله، وإن دعا لأي أحد يجبه الله، فتكون هذه للنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما دعا رسول الله لثعلبة، أو للجد بن قيس، أو لحاطب بن أبي بلتعة، استجاب الله لدعاء رسولهن وأعطى من سأل الدعاء مالا وفيرا، وقالوا : ولقد تكاثر مال ثعلبة، وكانت ثروته من الأغنام قد تناسلت حتى ضاقت بها شعاب المدينة، فهرب بها إلى شعاب الجبال، وإلى الصحراء الواسعة، فامتلأت، فشغلته عن صلاة الجماعة، وأصبح لا يذهب للصلاة إلا في يوم الجمعة، فلما كثرت كثرة فاحشة، شغلته أيضا عن صلاة الجمعة. وفي ذلك دليل صدق لتنبؤ رسول الله له. إذن : فكل الأمر إنما جاء تأييدا لمنطق الرسول معهم، حتى يسفههم في أنهم نافقوا في الإسلام.
وبعد ذلك سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : إنه في الشعاب شغله ماله. فقال : يا ويح ثعلبة. وأرسل إليه عامل الصدقة٣ ؛ لأن ثعلبة قد عاهد الله وقال :﴿ لئن آتانا من فضله لنصدقن ﴾ فذهب عامل الصدقة إليه، فلما قال له. هات ما كتب الله عليك من الصدقة من مالك. قال : أهي أخت الجزية٤ ؟ وذكره عامل الصدقة : أنت الذي عاهدت، ومن ضمن عهدك أنك إن أوتيت تصدقت وكنت من الصالحين، فما لك لا توفي بالعهد. ورد ثعلبة على عامل الصدقة : اذهب حتى رأى رأيي.
إذن : هو قد عاهد الله، ودعا رسول الله، واستجاب الله له، وكثرت أمواله، وبعد ذلك صدق الله نبيه في قوله : " قليل تؤدي شطره، خير من كثير لا تطيقه "، فلما عاد عامل الصدقة إلى رسول الله : برد ثعلبة. قال صلى الله عليه وسلم : ويح ثعلبة. فلما علم ثعلبة أن قرآنا قد نزل فيه، انزعج انزعاجا شديدا، وأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه الزكاة. فلم يقبلها رسول الله منه، فأخذ يتردد عليه للقبول، فلم يقبلها رسول الله منه. لقد أراد صلى الله عليه وسلم بذلك أن يثبت أن الله وفقراء الله في غنى عن مالك يا ثعلبة.
فلما انتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى جاء ثعلبة بالصدقات المؤخرة عليه كلها إلى أبي بكر : ما كان لرسول الله أن يمتنع عنها ثم يأخذها أبو بكر.
لما توفي أبو بكر جاء إلى عمر، فقال عمر مقالة أبي بكر. وجاء لعثمان، إلا أنه قبل أن يصل إليه قد هلك في عهد عثمان.
﴿ لئن آتانا من فضله ﴾، وكلمة﴿ لئن ﴾ قسم، والقسم هو صورة العهد، فكأنه قال : أقسم بالله إن آتاني الله مالا لأفعلن كذا. وقد فهمنا أنها قسم من وجود اللام في جواب القسم ﴿ لنصدقن ﴾ و " الصدقة " هي الصدقة الواجبة أي الزكاة، ﴿ لنكونن من الصالحين ﴾ أي : نزيد في التطوعات، والمروءة، والأريحية، وكل ما يدل على الصلاح.
ويقول الحق في ذلك :
﴿ فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون( ٧٦ ) ﴾.
٢ سبق تخريج هذه القصة عند تفسير الآية ٥٣ من سورة التوبة..
٣ وذلك حينما نزلت آية:﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها وتزكيهم بها﴾ (التوبة: ١٠٣) فثعلبة هنا كان قد عاهد الله لئن رزقه وأعطاه ليتصدقن، ولم تكن محددة لما نزلت آية:﴿خذ من أموالهم...﴾ (التوبة: ١٠٣) وفرضت الزكاة ورفض إنفاذ ما عاهد عليه الله. وهذا نظير ما حكاه رب العزة عن بني إسرائيل:﴿إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكت نقاتل في سبيل الله هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم﴾ (البقرة: ٢٤٦)..
٤ الجزية: هي مبلغ من المال يوضع على من دخل في ذمة المسلمين وعهدهم من أهل الكتاب، وقد فرض الإسلام عليهم من مقابل فرض الزكاة على المسلمين، ونظير قيامهم بالدفاع عن الذميين وحمايتهم في البلاد الإسلامية التي يقيمون فيها، وهي تجب على من كان: ذكرا، مكلفا، حرا ولا تجب على مساكين وفقراء أهل الكتاب. انظر: فقه السنة للشيخ سيد سابق(٣/١١٢-١١٧).
ولكن الحق سبحانه وتعالى يستر عطاء الفضل في عطاء الأسباب، كمن يسير في طريق مجهول فيجد كنزا، أو أن ثمار محصوله لا يأتي عليها ريح أو إعصار يقلل من ناتج المحصول. ويبارك له الحق سبحانه تعالى في بيع محصوله، ويبارك له في رزقه منه، فلا يصرف فيما يضيع ويذهب ماله. وهذا كله اسمه عطاء الفضل. وعطاء الأسباب عام للناس جميعا. أما عطاء الفضل فهو خاص بأولياء الله الذين أخلصوا عملهم لله طاعة وامتثالا.
وقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ فلما آتاهم من فضله ﴾ دليل على أن الرزق الذي جاءهم لم يخضع للأسباب وحدها. بل زاد عما تعطيه الأسباب بفضل من الله. فالتكاثر الذي حدث من أغنام ثعلبة لم ين تكاثرا بالأسباب فقط. بل فيه بركة جعلت البطن الواحدة من الشاة تأتي بأكثر من وليد، والعشب الذي ترعاه يدر كمية كبيرة من اللبن.
﴿ فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به ﴾ ما هو البخل ؟ هناك في اللغة أسماء للإمتاع عن العطاء، فهناك بخل، وشح، وكزازة، وكلها أسماء للامتناع عن عطاء شيء، ولكن منازل العطاء والبخل تختلف، بمعنى أن هناك إنسانا لا يعطي إلا من سأله، تلك منزلة، وإنسانا لا يعطي كل من سأله، بل يعطي من سأله بأسباب تثير عواطفه نحوه، كأن يقول : ولدي مريض، أو احترق بيتي، فالسائل هنا لا يسأل فقط، ولكنه يجيء بعلة السؤال مثيرة للعواطف. وهناك من يعطى بغير سؤال.
هي إذن : ثلاث مراحل للعطاء، واحد يعطي من يراه هكذا، مظنة أن حالته رقيقة من غير أن يسأل، وهذه منزلة من منازل القرب من الله، ينير الله بها بصائر قوم لتكون يدهم هي يد الله عند خلق الله. بل إن هناك أناسا يعاتبون أنفسهم إذا جاء إنسان فسألهم صدقة أو معونة، كالرجل الذي ذهب فطرق الباب، فخرج إليه صاحب البيت فسأله عما يريد، فطلب السائل منه مالا فدخل صاحب البيت أخذ شيئا من مال وأعطاه للسائل، فعلمت امرأته أنه جاء يسأله مالا فأعطاه، ولكن الزوج الذي أعطى مالا رجع يبكي. فقالت له : وما يبكيك وقد أجبته إلى مطلبه ؟ فقال : يبكيني أنني تركته ليسألني، أي : أنه يبكي لأنه لم يملك فطنة تجعله يستشف مسائل الناس من حوله ليعطي المحتاجين يغير سؤال.
إذن : فواحد يعطي عن مسألة، تلك مرتبة، وهناك من يعطي من غير مسألة، بل يعطي عن فضل عنده، أي : يملك الكثير ويعطي منه.
وثالث : يعطي نصف ما عند، يقاسمه فيما يملك، أو يعطي أكثر ما عنده حسب ما ينقدح في ذهنه من حاجة الإنسان المعطي.
هي إذن ثلاث مراحل : رجل يعطي من غير سؤال، ورجل يعطي بسؤال فيه أسباب مثيرة ومهيجة للعاطفة، ورجل يعطي بمجرد السؤال.
فمن هو البخيل ؟ أفظع درجة البخل، أن يبخل الرجل على من يسأله مسألة بأحداث تهيج العواطف، ومع ذلك لا يرق قلبه، هذا هو البخيل.
﴿ فلما لآتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ﴾ واحد من هؤلاء لم يبخل فقط، بل انصرف عن الذي يسأله، مثل الذي انصرف عن العامل الذي جاء يأخذ الصدقة، وقد كان عليه-مثلا- أن يجلس العامل، ويقدم له التحية الواجبة، ثم يقول له سنرى رأينا، ولكنه تولى وأعرض عنه.
ويأتي الحق هنا بعقاب من يسلك هذا السلوك فيقول :
﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون( ٧٧ ) ﴾.
{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب( ٧٨ ).
والعلم هنا مقصود به معرفة الخبر الذي لم يكن معروفا قبل ذلك، وقول الحق سبحانه :﴿ ألم يعلموا ﴾ فيه همزة الاستفهام، ولم النافية مثل قول الحق سبحانه :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( ١ ) ﴾ ( الفيل ).
ونحن نعرف أن الإخبار بين المتكلم والمخاطب له عدة صور : الصورة الأولى، أن يخبر المتكلم المخاطب بما عنده، وهذا " خبر ". والصورة الثانية : أن لا يخبر المتكلم مخاطبه بالخبر، بل يجعل المتكلم نفسه يقول الخبر، مثل قول أحد المحسنين : ألم أحسن إليك ؟ وكان في استطاعته أن يقول " أنا أحسنت إليك " فيكون خبرا من جهته، لكنه يريد أن يعطي للخبر قوة، فجعل الكلام من المستفهم منه، وكأنه عرض الأمر معرض السؤال في معرض النفي، ثقة في أن المخاطب لن يجد إلا جوابا واحدا هو : نعم أحسنت إلي.
إذن : فالخبر إما أن يكون خبرا مجردا عن النفي، أو خبرا معه النفي، أو خبرا معه الاستفهام. وأقوى أنواع الإخبار : الخبر الموجود معه النفي، والموجود مع النفي الاستفهام، لأن الخبر على الصورة الأولى يكون من المتكلم، والخبر من المتكلم قابل لأن يكون صادقا وأن يكون كاذبا. ولكن الاستفهام يقتضي جوابا من المخاطب، ولا يجيب المخاطب إلا بما كان في نفس المتكلم، ولو كان المتكلم يعلم أن المخاطب قد ينكر فلن يسأله. أو يقول لإنسان : أنا راضي ذمتك، وهذا القول يعني أن قائل علم أنه لاحق غير هذا، و يدير الكلام في عقله لن يجد إلا أن ما يسمعه هو الحق.
﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ﴾ وما هو السر ؟ وما هي النجوى ؟ السر : هو ما تكتمه في نفسك ولا تطلع عليه أحدا، فليس السر ما تسر به للغير، لأن هذه هي النجوى، وأصل النجوى البعد. ويقال : فلان بنجوى عن كذا، أي : بعيد عن كذا. أصل النجوى أيضا المكان المرتفع في الجبل، فكأن المرتفع بالجبل بعيد عن مستوى سطح الأرض. وحين يرغب إنسان أن يكلم أحدا بكلام لا يسمعه غيرهما، فهو يستأذنه في الابتعاد عن بقية الجلوس ليتكلم معه كما يريد، أو يخفض من صوته فلا يسمعه سوى الإنسان الذي يريد أن يهمس له بكلمة، ولا يسمعها أحد آخر١، ولذلك سموها المناجاة، وهي كلام لا يسمعه القريب، لأنك خفضت صوتك خفضا يخفي على القريب، فكأنه صار بعيدا.
إذن، فالسر : هو ما احتفظت به في نفسك، والنجوى : هو ما أسررت به للغير بحيث لا يعلمه من يجالسك.
والذين منعوا الصدقة، لا بد أنهم اتفقوا على ذلك فيما بينهم، وأنهم تكلموا في هذا الأمر-منع الصدقة- بعد أن صاروا أغنياء ولهم أموال كثيرة، وتمردوا على منطق الإسلام مع أنهم كانوا حريصين دائما أن يظهروا في إسلامهم مظهرا يفوق المسلمين الحقيقيين، فكانوا دائما في الصفوف الأولى للصلاة كي يستروا نفاقهم.
وحين يوضح الحق سبحانه وتعالى أنهم أسروا في نفوسهم كلاما، فهذا الإسرار في النفس حين يخبر به الله، هو هتك لحجاب المكان والزمان معا، وأعلم سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما دار في هذا الإسرار، كما هتك له من قبل حجب الزمان الماضي. وذلك في الأمور التي لم يشهدها، ولم يسمعها من معلم، ولم يقرأها في كتاب لأنه أمي، فأخبر رسول الله عن أكثر من أمر لم يشهده ولم يسمعه ولم يقرأه.
إذن : من أين جاء بذلك ؟ أعلمه به الحق سبحانه الذي يعلم خبأة٢ السماوات والأرض، وهتك له أيضا حجاب الزمن المستقبل، فعلم صلى الله عليه وسلم الأحداث قبل أن تقع، وأعلمه إياها من ملك ناصية الزمان، وملك ناصية المكان، وملك ناصية الأحداث. وهذا هو هتك حجاب الزمن المستقبل، وهتك سبحانه لرسوله حجاب المكان، فكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن شيء في نفوسهم، فقد أوحى له الحق :
﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول... ( ٨ ) ﴾ ( المجادلة ) بالله عندما يسمع الرجل من هؤلاء لما قاله في نفسه، ويخبره رسول الله بما قال، فمن الذي هتك الحجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.
إن الذي هتك الحجاب لرسول الله هو من يعلم السر وأخفى، فلا توجد حجب غائبة عن الله، لأن حجب الغيب إنما تكون على البشر، حجاب ماض، وحجاب مستقبل، وحجاب مكان، وحجاب زمان.
﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ﴾ أي : أن علم الله ليس مقصورا على معرفة أمورهم هم، بل علم الله سرهم ونجواهم، لأن صفته القيومية، وأنه علام الغيوب، يعلم غيب هذا، وغيب هذا، وغيب هذا، وجاءت المبالغة من تكرار غيب كل أحد.
إذن :﴿ علام الغيوب ﴾ تعني أنه يعلم حتى ما حاولت كتمه وستره، فقد قال سبحانه :
﴿ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله... ( ١٦ ) ﴾ ( لقمان )
إذن : فعلم الحق جل جلاله لا يغيب عنه شيء.
٢ الخبأ والخبء: كل شيء غائب مستور. ويقول تعالى في سورة النمل:﴿ألا يسجدوا لله الذي يخرجه الخبء في السماوات والأرض﴾ (النمل) (٢٥) وقال ابن أسلم: هو ما جعل فيهما من الأرزاق: المطر من السماء، والنبات من الأرض.(انظر: ابن كثير٣/٣٦١).
{ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم( ٧٩ ).
واللمز : معناه العيب، ولكن بطريق خفي، كإشارة بالعين أو باليد أو بالفم أو بغي ذلك. إذن : فهناك مجموعة من المنافقين يغيبون في المطوعين لجمع الزكاة من المؤمنين، ومن هؤلاء المنافقين من يعيب بالقول، ومن يعيب بالفعل، ومن يعيب بالإشارة، والمطوعون هم الذين يتطوعون بشيء زائد من جنس ما فرض الله.
فالله فرض مثلا خمس صلوات، وهناك من يصلي خمس صلوات أخرى تطوعا، وفرض الحق الزكاة اثنين ونصفا بالمائة، وهناك من يصرف عشرة بالمائة تطوعا، وفرض الحق صيام شهر رمضان، وهناك من يصوم فوق ذلك كل اثنين وخميس. وهذا هو ما نسميه دخول المؤمن في مقام الإحسان، بأن تتقرب١ إلى الله بما يزيد على ما فرضه الله عليك، ومن جنس ما فرضه الله. وأنت إن أديت المفروض تكون قد التزمت بالمنهج، وقد سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام ثم قال : لا أزيد ولا أنقص، فقال الرسول الكريم :" أفلح إن صدق " ٢.
والزيادة على ما فرض الله، ومن جنس ما فرض يكون لها ملحظان :
الأول : أن العبد يشهد لربه بالرحمة، لأنه كلّف جون ما يستحق.
والملحظ الثاني : هو أن عمل الطاعة قد خفف على المؤمن فاستراح بها. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة : " أرحنا بها يا بلال " ٣.
إذن : فالمطوع هو الذي يزيد على ما فرض الله عليه من جنس ما فرض الله، وهؤلاء هم المحسنون، الذين قال الحق عنهم في سورة الذاريات :
{ إن المتقين في جنات وعيون( ١٥ ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين( ١٦ ) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون( ١٧ ) وبالأسحار هم يستغفرون( ١٨ ) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم( ١٩ ) ( الذاريات )فالمنهج لا يلزمني بأن أنام قليلا من الليل وأقضي بقيته في الصلاة، ولم يلزمني أحد بالاستغفار في الأسحار٤. ولم يقل الله سبحناه في هذه الآية إن في المال حقا معلوما، لأن الإنسان المؤمن هنا يعطي بأكثر مما فرض. وعندما يتطوع مؤمن ويزيد على ما فرضه الله، أيستحق أن يذم ويعاب ويلزم ؟ أم أنه يستحق أن يكرم ويقدر ؟ ولكنه اختلال موازين المنافقين في الحكم على الأشياء. ولذلك اعتبروا الحسنة نقيصة، تماما كالذي يخرج ماله للفقراء، ونجد من يسخر منه القول عنه " إنه أبله "، مع أم المؤمن حين يتصدق كثيرا، فهو يشيع الفائدة ماله في المجتمع، وهو الأكثر ذكاء منهم لأنهم أنفقوا المال على أنفسهم فأفنوه، بينما تصدق هو به فأبقاه.
وقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ﴾ لها واقعة، فقد هاجر عبد الرحمان بن عوف إلى المدينة، وترك أمواله وكل ما يملكه في مكة، وآخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل رجل من الأنصار رجلا من المهاجرين يشاركه في ماله.
ولما جاء عبد الرحمان بن عوف قال له أخوه من الأنصار٥ : أقاسمك مالي. قال : بارك الله لك في مالك، دلّني على السوق. وذهب إلى السوق. وبارك الله له في تجارته. فكان يقسم ربحه نصفين نصفا للصدقة ونصفا لأهله. وقد جاء عبد الرحمان بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : يا رسول الله اكتسبت ثمانية آلاف درهم أقرض الله أربعة وأبقى لأهلي أربعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بارك الله لك في ما أقرضت وفيما أبقيت ". وحينما مات عبد الرحمان بن عوف أحصوا ثروته، وحدث خلاف في تقديرها، وأراد الورثة أن يسترضوا زوجته الرابعة، وكان اسمها " تماضر " بأن يعطوها ثمانين ألف درهم، ولما كانت تماضر واحدة من أربع نساء، والنساء الأربع يرثن ثمن الثروة أي : أن قيمة الثروة ملها على أقل تقدير بلغت مليونين وخمسمائة وستين دررهما. وكان عبد الرحمان لا يتاجر إلا في ماله.
فلما بلغ المنافقين ما تصدق به عبد الرحمان بن عوف قالوا : ما تصدق عبد الرحمان إلا رياء وسمعه. وهل الرياء يطلع عليه الناس أم يعرفه الله وحده ؟ وجاء عاصم بن عدي، وكان صاحب بستان أعطى ثمرا كثيرا، فجاء بمائة حمل من التمر وتصدق بها، فقال المنافقون : والله ما فعل عاصم هذا إلا رياء. وجاء رجل يدعى أبا عقيل الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله، لقد بتّ ليلتي أعمل، وأخذت أجري صاعين من التمر، احتفظت لأهلي بصاع وجئتك بصاع لأتصدق به. قال المنافقون : تصدق بصاع من التمر، والله ورسوله غني عن صاعك يا أبا عقيل.
هم إذن قد عابوا على عبد الرحمان بن عوف الذي تصدق بالكثير وقالوا هذا رياء، وعندما جاء عاصم بن عدىّ قالوا : يرائي بالتصدق بنصف ثمار حديقته، وعندما جاء من لا يملك إلا صاع تمر يتصدق به قالوا : الله ورسوله غني عن تمرك، ولقد سخروا ممن أعطى الكثير، وسخروا ممن أعطى القليل. وكان يجب أن يمدح المتصدقون ولا يسخر منهم، لأن كلا منهم تصدق على قدر طاقته، وهم أعطوا منه فضل ما أعطاهم الله، قلّ أو كثر٦.
ولذلك فمكن يسخر من هؤلاء المؤمنين، لا بد أن يلام على الحلق السيئ الذي تمثل في مقابلة السلوك الإيماني بالسخرية والاستهزاء، ولذلك كان جزاء الساخرين أن سخر منهم، وجعل لهم عذابا أليما. والسخرية هي الاستهزاء بفعل شخص ما. وهؤلاء المنافقون حين يسخرون من المؤمنين، فسخريتهم لن تتجاوز عدم رضاهم عمن فعل الخير، وهم بسخريتهم لم يستطيعوا إلا الإيذاء المعنوي للمؤمنين المتصدقين، ولكن حين يسخر الله، فهذه أولا عدالة الجزاء لأنها من جنس ما فعلوا، ولكن هل سخرية الحق سبحانه وتعالى تقتصر على عدم الرضا أم أن هناك جزاء ؟.
هناك جزاء من الله. وإذا كان الجزاء يتفاوت قدرة الساخر. فهناك فارق شاسع بين قدرات الله وقدرات البشر. والذين سخروا من المؤمنين حين تصدقوا بالقليل الذي يملكونه، تصدى الله سبحانه وتعالى ليرد عليهم وعلى سخريتهم. ويريد الحق بذلك أن يعطينا صورة عن كيفية دفاعه عن المؤمنين المخلصين في إيمانهم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحق تبارك وتعالى، هو الذي سيعاقب المنافقين، فالعقاب سيكون أليما مهينا.
وقلنا من قبل : إن الذي يخطئ بحق غيره، فهذا الغير يرد الخطأ بعقاب على حسب قدرته. ولكن إن عفا عنه، نقول لمن أخطأ : لا تعتبر هذا العفو لصالحك، بل هو عكس ذلك تماما ؛ لأن الذي يعفوا إنما ترك الحكم لله، وسيكون عقابك لا قدرة قوة وطاقة من عفا عنك، ولكنه ترك عقابك لله، وسيكون عقابك على قدر قدرات الله.
إذن فالذي ينتقم ويرد على من أخطأ في حقه، إنما يأخذ على قدر قوته، وأما الذي يعفو فهو على قد قدرات الله، وهناك مرتبة أعلى من ذلك جعلها الله سبحانه وتعالى للمذنب، والذي وقع الاعتداء عليه، لأن الحق سبحانه وتعالى رب الاثنين : فإن أساء إليك إنسان قد ترد عليه لأن الإساءة بطاقتك، وقد تعفو فيرد الله عليه بقدرته وطاقته.
ولمن خير من ذلك لأن تحس أن الذي أساء إليك في حقيقة الأمر قد أحسن إليك، مع أنه لم يقصد ذلك، كيف ؟ إذا دخلت بيتك ووجدت أحد أبنائك قد ضرب أخاه وأساء إليه مع من يكون قلبك وعطفك ؟ إن قلبك يكون مع الذي اعتدي عليه وأسيء إليه فتحاول لأن ترضيه، وتأتي إليه بهدية أو تعطيه مبلغا من المال، أو غير ذلك من أنواع الإرضاء، وقيل : من آداب –الإسلام- أن تحسن إلى من أساء إليك، لأنه يقدم معروفا دون أن يقصد. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يطلب منك أن تعفو عمن أساء إليك. ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فيسخرون منهم سخر الله منهم ﴾ وإذا سمعت فعلا من البشر يقابله فعل من الله، وإياك أن تفهم الفعل من الله كما فهمت فعل البشر، فحين يقول سبحانه :﴿ ومكروا ومكر الله... ( ٥٤ ) ﴾ ( آل عمران ).
وحين يقول :﴿ يخادعون الله وهو خادعهم... ( ١٤٢ ) ﴾ ( النساء )
هنا نجد فعلا من صنع الله، وقد نرى من البشر من يفعل نفس الفعل، لكن نحن المسلمين نأخذ الفعل من الله على غير الفعل من البشر.
وعلى سبيل المثال : إذا جئنا لقول الله :﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ المكر هو التغلب بالحيلة على الخصم، بأن توهمه أنك تفعل له خيرا، بينما أنت تضمر له الشر، كأن تحفر حفرة كبيرة مثلا وتغطيها ببعض الحشائش والزهور، ثم تطلب من خصمك أن يأتي لك بزهرة، فيسقط في الحفرة وتتكسر عظامه.
إذن : فأنت قد كدت له كيدا خفيا. والكيد والمكر لا يدلان على القوة، إنما يدلان على الضعف، لأن الشجاع القوي هو الذي يجاهر عدائه، لأنه قادر على عدوه، ولكن الضعيف هو الذي يستخدم الحيلة والمكر ليوقع بخصمه. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في النساء :﴿ إن كيدهن عظيم( ٢٨ ) ﴾ ( يوسف )وما دام كيدهن عظيما، فضعفهن عظيم، لأن الضعيف هو من الكيد، ولكن القوي لا يعجزه طلب خصمه ويقول له : اذهب حيثما شئت، وسآتي بك عندما أريد، لا يوجد مكان تهرب فيه مني، إنما الضعيف إذا ملك من خصمه فإنه يقضي عليه تماما، لأنه يعرف أنها فرصة لن تتكرر.
ولذلك قال الشاعر :
وضعيف فإذا أصابت فرصة *** قتلت كذلك فرصة الضعفاء
أما القوي فإنه يقدر ويعفو، لأنه يعرف أنه لا يستطيع الإتيان بخصمه وقتما شاء.
والأصل في المكر هو الشجرة الملتفة الأغصان كأنها مجدولة، بحيث لا تستطيع أن تميز الورقة التي تراها من أي فرع نبتت، فيلتبس عليك الأمر كذلك المكر تخلط عليك الأمور بحيث لا تعرف أين الحقيقة. وأنت تمكر بقدر تفكيرك وعقلك، ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يجازيك بمكرك يكون الجزاء رهيبا، لأن، مكرك مفضوح عند الله، ولكنك لا تعرف شيئا مما أعده الله لك.
ولقد نصر الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الأمور العلنية في المعارك، ونصره أيضا في كل أمر مكروا فيه وبيتوه له، وعلى سبيل المثال، حين وقف الكفار على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه في ليلة الهجرة. أوحى له ربه أن : اخرج ولا تخش مكرهم، فخرج صلى الله عليه وسلم ليجدهم نياما وهو واقفون، أعينهم مفتوحة ولكم لا تبصر. ويخرج صلى الله عليه وسلم من وسطهم. ويأخذ التراب، ويلقيه عليهم وهو يقول :" شاهت الوجوه " ٧..
وعندما يبتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المكان يستيقظون مرة أخرى، ويتعجبون كيف أفلت منهم. وقد أراد الحق سبحانه أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بالمعارك المفتوحة ولا بالمكر الخفي.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فيسخرون منهم سخر الله منهم ﴾ تعرف منه أن سخرية الله جاءت جزءا لهم على سخريتهم، والساخر لا يتجاوز في فعله أكثر من العيب في غيره. ولكن سخرية الله تتجاوز إلى العذاب. ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ وهذا هو التميز في فعل الله عن فعل البشر، فالذين سخروا من المؤمنين عابوا عليهم ما فعلوه، يسخر منهم الحق يوم القيامة أمام خلقه جميعا، ثم يزيد على ذلك بالعذاب الأليم.
لقد عرفنا من قبل أن هناك عذابا أليما، وهناك عذاب عظيم، وعذاب مهين، وكلها صفات للعذاب، فالعذاب هو الإيلام، ولكن هناك من يفزعه الألم فيصرخ. وهناك من يحاول
٢ عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقهه ما يقول له حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" صلوات في اليوم والليلة".. حتى ذكر صيام رمضان والزكاة. قال طلحة: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق" أخرجه البخاري في صحيحه(٤٦) ومسلم(١١).
٣ سبق تخريجه..
٤ الأسحار: جمع سحر. وهو آخر الليل قبيل الصبح..
٥ آخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع الخزرجي الأنصاري. انظر: سيرة النبي لإبن هشام(٢/١٢().
٦ عن أبي ذر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تحقرون من المعروف شيا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" أخرجه مسلم في صحيحه(٢٦٢٦) وأحمد في مسنده (٥/١٧٣).
٧ ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في حديث الهجرة عن ابن عباس عند أحمد في مسنده(١/٣٦٨)، وكذلك في غزوة حنين في صحيح مسلم(١٧٧٧) من حديث إياس بن سلمة عن أبيه، وأحمد في مسنده(١/٢٨٦) والدارمي في سننه (٢/٢١٩) من حديث أبي عبد الرحمان الفهري..
وكان ابن أبي يعني ب " الأعز " المنافقين في المدينة، وب " الأذل " المسلمين من المهاجرين والأنصار. ورد الله سبحانه وتعالى بأن صدق على قوله أن الأعز سيخرج الأذل، فقال الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين... ( ٨ ) ﴾ ( المنافقون )فكأن الحق سبحانه وتعالى قد أقر على أن الأعز هو الذي سيخرج الأذل من المدينة، ولكن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، إذن : فسيخرج المنافقون من المدينة، وسيبقى فيها المؤمنون، وتكون لهم العزة.
ولما علم عبد الله بن عبد الله بن أبي أم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأمر بقتل والده عبد الله بن أبي، ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : يا رسول الله إن كنت ولا بد آمرا بقتل أبي فأمرني أنا بقتله، لأني أخاف أن يقتله أخ مؤمن فأكرهه، وأنا لا أحب أن أكره مؤمنا٣.
وهكذا نرى قوة وصدق الإيمان، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرم ذلك المنافق من أجل ابنه فلم يأمر بقتله، ومن بعد ذلك٤ قال الابن : يا رسول الله استغفر لأبي، أي : اطلب له من الله المغفرة، ولأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنه قد أرسل رحمة للعالمين، لذلك طلب المغفرة لعبد الله بن أبي، وحينئذ نزلت الآية الكريمة :
﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم بذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين( ٨٠ ) ﴾.
ووقف العلماء في هذه الآية عند شيء اسمه مفهوم المخالفة، لأن الحق سبحانه وتعالى حدد مرات الاستغفار غير المقبول بسبعين مرة، قد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسل رحمة للعالمين، أنه ما دامت مرات الاستغفار قد حددت بسبعين مرة فلأزيد على السبعين قليلا٥ وبذلك غلب الرسول الكريم جانب الرحمة، وجانب الإكرام لعبد الله بن عبد الله بن أبى الذي أسلم وحسن إسلامه.
وكانت السبعة دائما هي نهاية العدد عند العرب، وعندما يأتي عدد آخر يكون زائدا، فالأصل في العدد هو مكررات الواحد، أي : أن الواحد أصل العدد، يضاف له واحد يكون اثنين، ويضاف لهما واحد فيكون المجموع ثلاثة، وتستمر الإضافة حتى يصير العدد سبعة، وإذا تركنا الواحد جانبا لأنه الأصل، نجد عندنا ثلاثة أعداد زوجية، هي : اثنان وأربعة وستة، وثلاثة أعداد فردية هي : ثلاثة وخمسة وسبعة، ويكون العدد سبعة جامدا للمفرد والمثنى والجمع.
ولذلك كانوا إذا أرادوا الزيادة على سبعة أن يأتوا بحرف العطف. ونجد قول الحق سبحان وتعالى في سورة الكهف :
﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم... ( ٢٢ ) ﴾ ( الكهف ).
ولم يقل : ثامنهم كلبهم، بل جاء بواو العطف، لأن الثمانية كانت من نوع آخر٦ وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم " السبعين "، قال : نزيد على السبعين، وبذلك يكون قد احترم قول الله، واحترم تكريمه لعبد الله بن عبد الله بن أبىّ، الذي طلب منه أن يستغفر لأبيه. وهنا قالوا : كيف يغيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يقول عن نفسه :" أنا أفصح العرب بيد أني من قريش٧، أن عدد السبعين يقصد به الكثرة مهما بلغت، والشاعر القديم يقول :
أسيئى بنا أو أحسني لا ملومة، أي : افعلي ما تشائين.
فكأن سبحانه وتعالى في قوله :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مر ة ﴾ شاء أن تأتي بمضاعفات العدد النهائية وهي السبعون ليحسم الأمر.
وجاء قول الحق سبحانه :﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم... ( ٦ ) ﴾ ( المنافقون )
أي : مهما استغفرت بأي عدد من الأعداد فلن يغفر لهم.
ونقول : إن الأمر هنا شقان، الشق الأول : أن يغفر الله. والشق الثاني : هو مجاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبىّ، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله لن يغفر للمنافقين واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مجرد مجاملة لاحترام طلب الابن، وأيضا فالاستغفار من رسول الله كان مجرد مجاملة لعلمه أن الله لن يغفر للمنافقين، لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن استغفاره من أجل منافق لن يقبله الله، وهناك استغفار تنشأ عنه المغفرة، واستغفار ينشأ عنه إرضاء عبد الله بن عبد الله بن أبّ. ولكن ألا نوجد ذاتية للأب ؟.
نقول : إن التاريخ يقول إن عبد الله بن أبّى نال حظه من الدنيا، والحق سبحانه يقول :﴿ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا( ٣٠ ) ﴾ ( الكهف ).
وجزاء العمل يعطي للبعض في الدنيا، ويعطي للبعض في الآخرة، مصداقا لقوله تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له فيء الآخرة من نصيب( ٢٠ ) ﴾ ( الشورى ).
ولقد حدثنا علماء السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن أبا لهب يخفّف عنه العذاب يوم الاثنين "، وأبو لهب نزل فيع قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب( ٢ ) سيصلى نارا ذات لهب( ٣ ) ﴾ ( المسد ).
ولماذا يخفّف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين ؟ لأن هذا اليوم هو الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سر أبو لهب بميلاد الرسول الكريم، فأعتق الجارية التي بشرته بميلاد الرسول، ومن هنا يخفّف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين جزاء عمله.
كما أن عبد الله بن أبىّ كان له موقف يحسب له في واقعة الحديبية حين ذهب المسلمون لأداء العمرة، وصدهم الكفار عن بيت الله الحرام، وانتهت بصلح الحديبية وهي أول معاهدة بين الإيمان والكفر، ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ردّوا عن بيت الله الحرام، فقد فطن أبو بكر لما في يوم الحديبية من عطاءات الله، من اعتراف كفار قريش بمحمد وبالمسلمين حين وقعوا معاهدة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرغ نبينا الكريم للدعوة في الجزيرة العربية، وهو من آمن من قريش، وتفرغ نبينا الكريم للدعوة في الجزيرة العربية، وهو آمن من قريش، وانتشر الإسلام إلى أن نقضت قريش العهد وتم فتح مكة.
نعود إلى قصة عبد الله بن أبىّ يوم الحديبية : لقد كان الكفار يعلمون أن في نفسه شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم منع تتويج عبد الله بن أبىّ ملكا على المدينة. وكانوا يعلمون أيضا أنه أسلم نفاقا، فأرادوا أن يحدثوا ثغرة في نفوس المسلمين، فقالوا : محمد وأصحابه لا يدخلون، ولكننا نسمح لعبد الله بن أبىّ ومن معه بدخول مكة وأداء العمرة فرفض عبد الله بن أبىّ وقال : إن لي في رسول الله أسوة حسنة، لا أريد أن نذهب للعمرة إلا إذا ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا موقف يحمد له.
كذلك كان له موقف آخر في غزوة بدر، حينما أسر العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان العباسي طويل القامة وثيابه تمزقت في المعركة، فلم يجدوا طويلا مثله إلا عبد الله بن أبىّ، فأعطاهم قميصه ليلبسه العباس، فلم ينس رسول الله ذلك له.
ومن أجل هذا استغفر له رسول الله، ولكن الحكم الأعلى قد جاء ﴿ استغفر لهو أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ فليس المهم فقط وهو استغفار رسول الله، لأن هناك ممحصات للذنب، فمن أذنب عليه أن يأتيك أولا رسول الله، ليستغفر الله، ثم يسألك أن تستغفر له الله، حتى يجد الله توابا رحيما، فسبحانه القائل :
{ ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما( ٦٤ ) ( النساء ).
فالذي يريد أن يتوب ويستغفر، لا يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا استغفر مرتكب الذنب أولا، فلا بد أن يستغفروا الله من الذنوب أولا ثم يستغفر لهم الرسول. ولا يستغفر لهم الرسول وهم لا يستغفرون، وهكذا نعلم أن عبد الله بن أبىّ لم يفطن إلى كيفية الاستغفار، فقد كان عليه أن يأتي لرسول الله صاغرا ليستغفر الله أمامه، لا أن يبحث عمن يطلب له الاستغفار.
ثم يأتي سبحانه وتعالى موضحا سبب عدم غفرانه، فيقول :﴿ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ وحين ينفي الحق سبحانه وتعالى الهداية عن إنسان، فليس معنى هذا أن يقول الفاسق : الله لم يهدني فماذا أفعل ؟ ويحمل المسألة كلها لله. بل نسأل الفاسق : لماذا لم يهدك ؟ لأنك فسقت.
إذن : فعدم الهداية من الله لك كان سبب أنك أخذت طريق الفسق والبعد عن منهج الله، ومن هنا فالهداية المقصودة في هذه الآية، ليست هي الهداية بمعنى الدلالة على طريق الخير، لأن الدلالة إلى طريق الخير تأتي من الله للمؤمن والكافر، فمنهج الله الذي يبلغ للناس كافة، يريهم طريق الخير ويدلهم عليه. ولكن المقصود هنا هو الهداية الأخرى التي يعطيها الحق لمن دخل في رحاب الإيمان وآمن وحسن عمله. وتتمثل في قول الحق :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم( ١٧ ) ﴾ ( محمد ).
إذن : فكل من مشى في طريق الإيمان أعانه الله عليه. وفي المقابل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٠ ) ﴾ ( الأحقاف )
وكذلك قوله سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين( ٣٧ ) ﴾ ( التوبة )
وأيضا قوله الكريم :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين( ٥ ) ﴾ ( الصف )
لا نقول أبدا : إن هؤلاء معذورون، لأن الله لم يهدهم، لأنه سبحانه قد هداهم ودلّهم جميعا على طريق الخير، ولكنهم هم الذين أخذوا طريق الكفر والظلم والفسوق.
واقرأ إن شئت قول الله عز وجل :﴿ وأما ثمود فهديناهم( ١٧ ) ﴾ ( فصلت )
فماذا صنعوا في هدايتهم لهم :﴿ فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ أي : أن الحق سبحانه بيّن لثمود طريق الخير، ولكنهم اختاروا الضلالة.
إذن : فهداية الدلالة للجميع، وهداية المعونة للمؤمنين.
٢ هي غزوة بني المصطلق، وقد كانت في شهر شعبان سنة ٦ هجرية. انظر سيرة النبي لابن هشام (٣/٣٣٤).
٣ أورد ابن إسحاق أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال صلى الله عليه وسلم:"بل نتفرق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" انظر تفسير ابن كثير (٤/٣٧٢)..
٤ وذلك عندما توفي عبد الله بن أبي، وأراد ابنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فاعترض عمر ابن الخطاب، فأعطاه قميصه ليكفنه فيه وصلى عليه. انظر الحديث الآتي بعد في البخاري (٤٦٧٠) ومسلم (٦٤٠٠) من حديث ابن عمر..
٥ قال صلى الله عليه وسلم:"إنما خيرني الله تعالى فقال:﴿استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة﴾ وسأزيد على سبعين" أخرجه البخاري في صحيحه(٤٦٧٠) ومسلم في صحيحه (٢٣٠٠) من حديث ابن عمر..
٦ انظر تفسير القرطبي(٥/٤١١٣) في تفصيل هذه المسألة، بين من قال: إن نهاية العدد عند العرب هو العدد ٧. ومنهم من قال: إن هذا تحكم لا دليل عليه. ومنهم من سمى الواو بين السبعة والثمانية: واو الثمانية..
٧ قال السيوطي في "اللآليء المصنوعة":"معناه صحيح. ولكن لا أصل له، كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأراده أصحاب الغريب، ولا يعرف له إسناد". انظر كشف الخفاء (١/: ١٣٢) والأسرار المرفوعة (ص٧٠، ٧١)..
﴿ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ( ٨١ ) ﴾.
والفرح هو السرور من فعل تبتهج النفس به. والمخلفون هم الذين أخلفهم نفاقهم، وتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وذهب إلى الجهاد. بعد أن جاءوه بالمعاذير الكاذبة التي قالوها، وقد تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الحق سبحانه قال :
﴿ لو خرجوا فيكم مّا زادوكم إلا خبالا( ٤٧ ﴾ ( التوبة ).
ومن لا يريد أن يجاهد في سبيل الله إن أخذته معك كرها، يكون ضدك وليس معك. وسيشيع الأكاذيب بين المؤمنين، ويحاول أن يخيفهم من الحرب، وإذا بدأ القتال فهو أول من يهرب من المعركة. ويبحث عن مغارة أو حجر يختفي خلفه. إذن : فهو ليس معك ولكنه ضدك، لأنه لن يقاتل معك، بل ربما أعان عدوك عليك. وفي نفس الوقت هو يضر بالمسلمين، ويحاول أن يشيع بينهم الرعب بالإشاعات الكاذبة. ويبيّن الحق سبحانه وتعالى هنا فطرة رسول الله الإيمانية بأنه أذن لهؤلاء بعدم الخروج للجهاد مع أن عذرهم كاذب، فجاء قوله :﴿ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ﴾ والمقعد هو مكان القعود. والقعود رمز للبقاء في أي مكان. والقيام رمز لبداية ترك المكان إلى مكان آخر، والذين تخلفوا فقد قعدوا ولم يقوموا رغبة في البقاء في أماكنهم.
ويقول تعالى :﴿ خلاف رسول الله ﴾ وحين نسمع كلمة ﴿ خلاف ﴾ نعرف أن مصدرها خالف خلافا، ومخالفة، كما تقول : قاتل قتالا ومقاتلة. وهي إما أن تكون مخالفة في الرأي، كأن تقول : فلان في خلاف مع فلان أي : أن لكل منهما رأيا. وإما أن تكون في السير، كأن تقوم لتغادر المكان، ويخالفك زميلك أو من معك فيقعد، أو تقعد أنت، فيخالفك هو ويمشي.
والخلاف من ناحية الرأي هو عملية قلبية، والخلاف من ناحية الحركة يشترك فيها القالب أو الجسد، وهم حين فرحوا بالقعود بعد قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للجهاد، فهذا دليل على أن مسألة القعود هذه صادفت هوى في نفوسهم وارتاحوا لها. وبذلك خالفوا شرط الإيمان لأن الذين يحق لهم أن يتخلفوا عن الجهاد قد حددهم القرآن الكريم في قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ( ٩١ ) ﴾ ( التوبة ).
وقوله :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه( ٩٢ ) ﴾ ( التوبة )
أي : أو ضحت لهم أنك لا تملك ما يركبون عليهن ليصلوا معك إلى موقع القتال١ وقد بين لنا الحق حال هؤلاء الذين لم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب هذه الأعذار فقال عنهم :﴿ تولوّا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون( ٩٢ ) ﴾ ( التوبة ).
إذن : فهؤلاء الذين تخلفوا بأعذار يملؤهم الحزن، وتفيض أعينهم بالدمع، لأنهم حرموا ثواب الجهاد في سبيل الله٢. وأما الذين يفرحون بالتخلف عن الجهاد فهم منافقون.
وقوله سبحانه :﴿ خلاف رسول الله ﴾ نجد فيه أيضا أن كلمة ﴿ خلاف ﴾ تستعمل أيضا بمعنى " بعد "، أي بعد رسول الله، فما أن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للغزوة قعدوا هم بعده ولم يذهبوا. وجلسوا مع الضعيف والمريض وأصحاب الحقيقة، وكذلك الذين لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم دواب ليركبوها، هؤلاء هم من تخلفوا. ويبين الحق سبحانه سبب تخلف المنافقين فيقول :﴿ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾. أي : أنهم كرهوا أن يتقاتلوا، وكرهوا الجهاد. وليت الأمر قد اقتصر على هذا، بل أرادوا أن يثبطوا المؤمنين ويكرهوهم في القتال في سبيل الله ﴿ وقالوا لا تنفروا في الحر ﴾ فهم لم يكتفوا بموقفهم المخزي، بل أخذوا في تحريض المؤمنين على عدم القتال. وقد كانت هذه الغزوة " غزوة تبوك " في أيام الحر. وكانت المدينة تمتلئ بظلال البساتين وثمارها، بينما الطريق إلى الحدود مع الروم طويلة. إذن : فهي غزوة كلها مشقة٣.
وقال المنافقون للمؤمنين﴿ لا تنفروا ﴾، والنفور هو كراهية الوجود لشيء ما. ويقال : فلان نافر من فلان أي : يكره وجوده معه في مكان واحد. ويقال : فلان بينه وبين فلان نفور، أي : يكرهان وجودهما في مكان واحد. والذي يخرج للحرب كأنه نفر من المكان الذي يجلس فيه ذاهبا إلى مكان القتال. ويكون القتال والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله أحب إليه من القعود والراحة.
إذن : فقوله تعالى :﴿ وقالوا لا تنفروا في الحر ﴾ أي : أنهم يريدون أن يعطوا لأنفسهم عذرا لعدم الخروج للجهاد، لأن الجو حار وفيه مشقة. ولكنهم أغبياء، لأنهم لو خافوا من الحر ومشقته، وجلسوا في الظل ومتعته، لأعطوا لأنفسهم متعة زمنها قصير ليدخلوا إلى مشقة زمانها طويل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ﴾ فإن كانوا قد اعتقدوا أنهم بهروبهم من الحر قد هربوا من مشقة، فإن مشقة نار جهنم والخلود فيها أكبر بكثير. والإنسان إن بشر بأشياء تسره عاما أو أعواما، ثم يأتي بعدها أشياء تسوؤه وتعذبه فهو بمعرفته بما هو قادم يعاني من الألم ولا يستطيع أن الاستمتاع بالحاضر، لأن إنسان يحاول دائما أن يتحمل، ليؤمن مستقبله. ولذلك تجد من يعمل ليلا ونهارا وهو سعيد، فإذا سألته كيف تتحمل هذا الشقاء ؟ يقول : لأؤمن مستقبلي. إذن : فسروا عام أو أعوام تفسده أيام أو أعوام قادمة فيها سوء وعذاب، فماذا عن خلودهم في النار ؟.
ولكن هل قالوا :﴿ لا تنفروا في الحر ﴾ في خواطرهم دون أن ينطقوا بهما، أو قالوها لبعضهم البعض سرا ؟ ومن الذي أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوه ؟ نقول : قد يكون ذلك هو ما دار في خاطرهم. وشاء الله أن يعلموا أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في نفوسهم. وشاء أن يفضح ما في سرائرهم، ولعل هذا يدخل الخوف في قلوبهم، من أنه سبحانه مطلع على كل شيء، فيؤمنوا خوفا من عذاب النار.
ومثال هذا الحق حين أراد أن يمنع المشركين من حج بيته الحرام قال :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا... ( ٢٨ ﴾ ( التوبة ).
وكان المشركون حين يذهبون إلى الحج ينعشون اقتصاد مكة، وكان الخير يأتي من كل مكان إلى مكة في موسم الحج، بل إنهم كانوا يقولون : إياكم أن تطوفوا بالبيت في ثياب عصيتم الله فيها، وكأن التقوى تملأ نفوسهم ! وحقيقة الأمر أنهم كانوا بعيدين عن التقوى لأنهم كانوا يعبدون الأوتان. وكانوا يقولون ذلك حتى يضطر الحجاج أن يخلعوا ثيابهم ويشتروا ثيابا جديدة ليطوفوا بها، ومن لا يملك المال يطوف عاريا.
إذن : فقد كان الحج موسما اقتصاديا مزدهرا أهل مكة، يربحون خلاله ما يكفي معيشتهم طوال العام، فلما جاء البلاغ من الله سبحانه وتعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ فالخاطر الذي يأتي من النفس البشرية، فكيف سنعيش ؟. هذا هو أول خاطر يأتي على البال، لأنه سؤال عن مقومات الحياة، والذي خلقهم عليم بما يدور في خواطرهم. وإن لم يجر على ألسنتهم، حينئذ جاء قول الحق سبحانه :{ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله... ( ٢٨ ) ( التوبة ).
إذن : فالله سبحانه وتعالى قد علم ما يدور في خواطرهم، فرد عليه قبل أن ينطقوه :
كذلك قول الحق سبحانه :{ قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ؛ والفقه هو الفهم الدقيق. فأنت حين تعرف شيئا بسطحياته تكون قد عرفته، ولكنك إن عرفته بكل معطياته الخلفية تكون قد فقهته. وأنت إذا ذهبت للجهاد في الحر قد تتعب. ولكن إذا قعدت عن الجهاد سوف تكون عقوبتك أكبر وتعبك أشد.
إذن : فعلمك بشيء وهو الحر الذي ستواجهه إن خرجت للجهاد، بجب ألا ينسيك ما غاب عنك، وهو أن نكوص الإنسان عن الجهاد يدخله ارا أشد حرارة، يخلد فيها. ومعنى ذلك أنه لم يفقهه، لأنه علم شيئا غاب عنه أشياء.
ومن هذا المنطق القرآني، رد الإمام علي كرم الله وجهه على القوم حينما دعاهم إلى الجهاد ضد الخوارج فقال : " أما بعد، فإن الجهاد باب من لأبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه سيف الخسف ".
ثم يقول بعد ذلك : " إن قلت لكم : اغزوهم في الشتاء، قلتم : هذا أوان قر وصر... أي برد شديد وإن قلت لكم : اغزوهم في الصيف، قلتم : انظرنا-أي أمهلنا- حتى ينصرف عنا، فإذا كنتم في البرد والحر تفرون، فأنتم والله في النار. يا أشباه الرجال ولا رجال٤.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ﴾ أي : أنهم كانوا قد فرحوا وابتهجوا بأنهم لم يجاهدوا في الحر، فهم سوف يندمون كثيرا على ذلك، مصدقا لقوله تعالى :
﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاءا بما كانوا يكسبون( ٨٢ ) ﴾.
٢ عن جابر بن عبد الله رضي الله عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم في الأجر حسبهم المرض" أخرجه مسلم في صحيحه (١٩١١)وأحمد في مسنده(٣/٣٠٠) وابن ماجة في سننه (٢٧٦٥).
٣ وقد سميت أيضا بغزوة العسرة، وذلك في قوله تعالى:﴿لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا في ساعة العسرة﴾ (التوبة: ١١٧) قال ابن كثير في تفسيره (٢/٣٩٦) " قال قتادة: خرجا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد ما أصابهم منها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان نفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم" ولكن المنافقين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء..
٤ من خطبة خطبها الإمام علي عندما أغار سفيان بن عوف الأزدي على الأنبار، فتقاعس المسلمون عن قتالهم فقال:"أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، ولزمه الصغار وسيم الخسف، ومنع النصف ثم قال:"فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: حمارة القيظ، أمهلنا ينسلخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم: أمهلنا ينسلخ عنا القر، كل ذا فرارا من الحر والقر. فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله والسيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول رباب الحجال" انظر خطبته كاملة في الكتاب "خطب إمام البلغاء" بتحقيق: عادل أبو المعاطي. نشر الروضة- القاهرة..
﴿ وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) ﴾ ( النجم ).
ولذلك فالضحك والبكاء يأتيان بلا مقدمات، لا أقول لنفسي : سأضحك الآن فأضحك، ولا أقولك سأبكي الآن فأبكي، لأن هذا انفعال غريزي لا دخل للإرادة ولا للاختيار في. ولكننا أحيانا نلجأ إلى التضاحك أو إلى التباكي وهو مجرد ادعاء بلا حقيقة. ويكون ظاهرا فيه الافتعال. فحين يروي لك إنسان نكتة سخيفة، والمفروض أنه قالها لتضحك، لكنها لا تضحك، وفي نفس الوقت أنت تريد أن تجامله فتفتعل الضحك، أي تضحك بافتعال. وكذلك البكاء فيه افتعال أيضا مثل بكاء النادبة التي تجلس وسط أهل الميت وتبكي. وقد تضع بعض نقط الجلسرين في عينيها لتفتعل الدموع، وهذا كله افتعال. وأما الضحك والبكاء الحقيقي، فأمران بالفطرة يملكها الله سبحانه وتعالى وحده.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ﴾ جاء بعد قوله :﴿ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ﴾ أي : أنهم فرحوا عندما بقوا هم في المدينة، وخرج المؤمنون للجهاد. جلسوا في حدائق المدينة وهم فرحون في راحة وسرور يضحكون، لأنهم يعتقدون أنهم قد فازوا بعدم اشتراكهم في الجهاد. ولكن هذا الضحك هو لفترة قليلة. وسيأتي بعدها بكاء وندم لفترة طويلة وأبدية، عندما يدخلون جهنم والعياذ بالله.
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ﴾ ولم يقل : سيضحكون قليلا وسيبكون كثيرا، لماذا ؟.
ونقول : عندما يسند الفعل إلى المخلوق الذي يعيش في عالم الأغيار، والمختار في عدد من أفعاله، يحتمل أن يحدث أو يجوز ألا يحدث. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يقول :﴿ فليضحكوا ﴾ أي : أمر بالضحك، ثم يجيء في البكاء ويقول :﴿ وليبكوا ﴾ أي : ابكوا، والأمر بالضحك والبكاء هو أمر اختياري من الله سبحانه وتعالى، تجوز فيه الطاعة وتجوز فيه المعصية ؟.
إذا كان كذلك، فهل سيطيع المنافقون أمرا اختياريا لله ؟ ونقول : إن ذلك أمر غير اختياري، لأن الحق سبحانه هو وحده الذي يضع في النفس البشرية انفعال الضحك أو انفعال البكاء للأحداث. وكما بينا فإن الإنسان لا يستطيع الانفعال بالضحك أو البكاء.
والحق سبحانه يقول :﴿ فليضحكوا قليلا ﴾ معناها : أن انفعال الضحك قضاء عليم لا بد أن يحدث. وإذا قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ وليبكوا كثيرا ﴾ فلا بد أن يبكوا، لأن انفعال البكاء مكتوب عليهم من الله، وكما يقولون : إن الذي يضحك أخيرا يضحك كثيرا، وكذلك الذي يبكي أخيرا يبكي كثيرا.
إذن : فالأمور كلها مرهونة بالخاتمة. فقد يأتي الإنسان حادث يسرهن ثم تأتيه ساعة بؤس تمحوا هذا السرور كله، والعكس صحيح. وإذا كان هؤلاء المنافقون قد ضحكوا قليلا في الدنيا. فعمر كل منهم في الدنيا قليل، لأنه حتى وإن عاش في الدنيا ضاحكا طوال عمره فكم سيضحك ؟ أربعين ؟ خمسين سنة ؟.
إن كلا منا له في الدنيا مدة محدودة، فأنت إذا نسيت الحدث إلى الدنيا على إطلاقها فهو قليل. وإذا نسبته إلى عمرك في الدنيا فهو أقل القليل، ثم تأتي الآخرة بالخلود الطويل الذي لا ينتهي، ويكون بكاء المنافق فيه طويلا طويلا.
ولذلك فلا بد لكل إنسان أن يضع مع المعصية عقوبتها، ومع الطاعة ثوابها ؛ لأن الإنسان قد يرتكب المعصية لإرضاء شهوات نفسه، وساعة ارتكاب المعصية فهو لا يستحضر العقوبة عليها، ولو أنه استحضر العقوبة لامتنع عن المعصية. فالسارق لو استحضر ساعة قيامه بالسرقة، أنه قد يضبط، وقد يحاكم وتقطع يده، لو تأكد من هذا فلن يسرق أبدا. ولكنه يقوم بالسرقة لأنه يعتقد أنه سيفلت من العقاب. وما من لص خطط لسرقة وفي باله أنه سيضبط، بل يكون متأكدا أنه سيسرق ويفلت.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن " ٢.
لأنه ساعة يزني لو تخيل أو تأكد أنه سيلقى في النار جزاء ما فعل، فلن يقدم على الزنا أبدا، وكذلك شارب الخمر لا يمكن أن يضع الكأس في فمه. إذا تخيل النار وهو يعذب فيها. ولكن الغفلة عن الإيمان تحدث لحظة ارتكاب المعصية ؛ لأن الإيمان يقتضي أن تستحضر العقوبة ساعة تقدم على المعصية، وأن تعلم يقينا أن كل ما تفعله ستحاسب عليه في الآخرة، وسيكون هناك جزاء.
فإذا ضحكت من مطلوبات الإيمان فلا بد أن تبكي في الآخرة. فإن فرحت -مثلا- بترك الصلاة أو الزكاة واعتقدت أنك قد غنمت في الدنيا، فلا بد أن تندم ويصيبك الغم في الآخرة. وإذا تنعمت بمال حرام فلا بد أن تعذب به في الآخرة. والحق سبحانه يقول :
﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون( ٢٩ ) وإذا مروا بهم يتغامزون( ٣٠ ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين( ٣١ ) ﴾ ( المطففين ).
هكذا يعطينا الله عدة صور من السخرية التي يتعرض لها المؤمنين في الدنيا، وأولى هذه الصور هي ضحك المنافقين والكفار من المؤمنين، كأن يقول أحدهم لإنسان مؤمن يقوم الصلاة : خذنا على جناحك في الآخرة. ثم بعد ذلك يأتي الغمز واللمز، ثم ذهب المنافق إلى أهله أخذ يسخر من الطائعين ويقول :
لقد فعلت كذا وكذا لإنسان متدين. وسخرت منه ولم يستطع أن يرد. ويشعر بالسرور وهو يحكي القصة فرحا بما عمل. وينسى أنه قد ارتكب ثلاثة جرائم : جريمة العمل، وجريمة الفرح بالعمل، وجريمة الإخبار بالعمل، فلو أنه سخر من المؤمن، ثم ندم بعد ذلك، ربما كانت عقوبته هينة. ولكن ما دام قد فرح بذلك تكون له عقوبة أكبر، فإذا انقلب إلى أهله يروي لهم ما حدث، وهو فخور ومسرور تكون عقوبته ثالثة.
وليتهم توقفوا عند ذلك بل اتهموا المؤمنين بالضلال، مصداقا لقوله تعالى :
{ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون( ٣٢ ) وما أرسلوا عليهم حافظين( ٣٣ ) ( المطففين )
أي : أنهم زادوا على كل هذا باتهام المؤمنين بالضلال. هذا ما صنعوه في الدنيا. وهي فانية وعمرها قليل. ثم يأتي سبحانه وتعالى بالمقابل في الآخرة، فيقول :{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون( ٣٤ ) على الأرائك ينظرون( ٣٥ ) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون( ٣٦ ) ( المطففين ).
فكما ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ؛ سيضحك المؤمنون من الكفار في الآخرة، وسيجلس المؤمنون على الأرائك في الجنة وهو ينظرون إلى الكفار وهم يعذبون في النار، أي : أن الله جزاهم بمثل عملهم مع الفارق بين قدراتهم المحدودة وقدرات -سبحانه-التي لا حدود لها.
ولم يقول الحق سبحانه وتعالى : " سيضحكون " ككلام خبري، يجوز أن يحدث أو لا يحدث، بل جاء به مؤكدا. وقوله هنا في المنافقين ﴿ فليضحكوا ﴾. يعني : أن الضحك لا بد أن يحدث ؛ لأن هذا الكلام من الله سبحانه وتعالى. فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ يعطينا العلة أو السبب في أن ضحكهم سيكون قليلا، وبكاءهم سيكون كثيرا ؛ لأن هذا جزاء ما فعلوه في الدنيا. لقد فرحوا بالفرار من الجهاد. وسرّوا بالراحة في المدينة، فلا بد أن يلاقوا في الآخرة جزاءهم عن هذا العمل، كمال سيثاب المؤمنون على ذهابهم للجهاد في الحرّ.
إذن : فالحق سبحانه لم يظلمهم، بل أعطاهم جزاء ما عملوه. كما قال :﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ وكلمة ﴿ يكسبون ﴾ هنا لها ملحظ لا بد أن نبينه، فقد كان من الممكن أن يقال " جزاء ما كانوا يعملون " أو " جزاء ما كانوا يفعلون " فلماذا جاء الحق ب﴿ يكسبون ﴾، وما الفرق بينها وبين " ما يفعلون " و " ما يعملون " ؟.
نعلم أن لكل جارحة من جوارح الإنسان مجال عمل، فالأذن تسمع، والعين ترى، واليد تمسك، والقدم تمشي، والأنف يشم، والأنامل تلمس. إذن : فكل عضو له مهمة. فإن كانت المهمة هي النطق باللسان نسميها القول. وإن كانت مهمة من مهام باقي الجوارح عدى اللسان نسميها الفعل. فاللسان وحده أخذ القول، وكل الجوارح أخذت الفعل. والقول والفعل معا نسميهما عملا.
فإذا قال الحق سبحانه وتعالى :" يفعلون " يكون ذلك مقابل يقولون ؛ لأن الإنسان قد يقول بلسانه ولا يفعل بجوارحه. وتوضح ذلك للآية الكريمة :﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون( ٢ ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون( ٣ ) ﴾ ( الصف }، ولكن إذا اتحد القول والفعل يكون هناك عمل. وكل شيء لا يتسق منطقيا مع قيم المنهج يكون فيه افتعال، فالكسب عمل، والاكتساب افتعال الكسب، لأن الكسب عمل طبيعي، الاكتساب افتعال الكسب، وسبحانه يقول :{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت... ( ٢٨٦ ) ( البقرة )لأن الاكتساب بالحرام فيه افتعال يتعب النفس، ولا يجعلها منسجمة مع جوارحها، فالرجل مع زوجته في البيت مستقر الجوارح لا يخشى شيئا. لكنه مع زوجة غيره يهيج جوارحه ؛ فيقفل النوافذ ويطفئ الأنوار. وإن دق جرس الباب يصاب بالذعر والهلع ؛ لأن ملكات النفس ليست منسجمة مع العمل.
أما إذا اعتادت النفس الإثم مثل من اعتاد الإجرام، فلا يهيجها الحرام. وفي هذه الحالة تنقلب عملية الاكتساب إلى كسب، وتعتاد النفس على المعصية وعلى الإثم، ويصبح جزاؤها عند الله أليما وعذابها عظيما.
ويقول الحق سبحانه في هذه الآية :﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ وكان مقتضى الكلام أن يقال :" جزاء بما كانوا يكتسبون " لأن هذه العملية فيها إثم وفيها معصية، فلا بد أن يكون افتعال، ولكن الحق سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن هؤلاء المنافقين قد اعتادوا المعصية، وعاشوا في الكفر، فأصبحت العملية سهلة بالنسبة لهم، ولا تحتاج منهم أي افتعال.
واقرأ قول الحق :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهم جزاء بما كسبا نكالا من الله... ( ٣٨ ) ﴾ ( المائدة )، والسرقة ليست أمرا طبيعيا، لذلك يقوم بها السارق خفية ويبيت لها ويفتعل ؛ ولذلك كان من المنطقي أن يقال " اكتسبوا " لكن شاء الحق أن نعرف أن السرقة قد أصبحت في دم هؤلاء، ومن كثرة ما ارتكبوا فهي بالنسبة لهم عملية آلية سهلة. وقد وضع التشريع لها نطاقا وهو ربع دينار مثلا٣. والذي يسرق دون هذا النطاق لا يطبق عليه حد قطع اليد. لماذا ؟ لأن ربع الدينار في ذلك الوقت كان يكفي لقوت أسرة متوسطة العدد لمدة يوم واحد. فإذا سرق أي إنسان ما يكفي قوت أسرة لمدة يوم واحد، يقال : ربما فعلها لأن أسرته لا تجد ما تأكله، فإذا أخذ أكثر من الضرورة، يكون قد أخذ أكثر مما يحتاج إليه، وتكون السرقة قد حدثت ويقام عليه الحد٤.
ونحن نعلم أن العقل البشري وظيفته الاختيا
٢ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٢٤٧٥) ومسلم في صحيحه (٥٧)..
٣ عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا" أخرجه مسلم(١٦٨٤) وأحمد(٦/٣٦) والترمذي (١٤٤٠) وقال: حسن صحيح..
٤ السرقة نوعان: نوع يوجب التعزير، ونوع يوجب الحد. فالذي يوجب التعزير هي التي لم تتوفر فيها شروط إقامة الحد، مثل سارق الثمار على الشجر، أما التي يجب فيها الحد فهي التي توفر فيها ثلاثة شروط:
١- أخذ مال الغير لا يقل عن ربع دينار.
٢- أن يكون هذا المال في حرز كخزينة أو بيت أو مسجد.
٣- أن تتم السرقة على هيئة الاختفاء والاستتار. وبهذا لا يعتبر المتنهب أو المختلس أو الخائن (أي: النصاب) سارقا يجب فيه قطع اليد. وإذا ثبتت جريمة السرقة بكل هذه الشروط فتقطع يد السارق اليمنى من مفصل الكفن فإذا سرق ثانيا تقطع رجله. انظر تفاصيل إقامة هذا الحد في فقه السنة للشيخ سيد سابق (٢/٤٦١-٤٧٦)..
﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين( ٨٣ ) ﴾.
والله سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صلى الله عليه وسلم : عندما تنتهي الغزوة وتعود إلى المدينة، فهناك حكم لا بد أن تطبقه مع هؤلاء المنافقين، الذين تخلفوا وفرحوا بعدم الجهاد.
وقوله :﴿ فإذا رجعك ﴾ كلمة " رجع " من الأفعال، وكل فعل يجب أن يكون له فاعل ومفعول، فلا يمكن أن تقول : " ضرب محمد ثم تسكت ؛ لأنه عليك أن تبين من المضروب. ولا يمكن أن تقول : " قطف محمد "، بل لا بد أن تقول ماذا قطف ؟ وهكذا نحتاج إلى مفعول يقع عليه الفعل. ولكن هناك أفعالا لا تحتاج إلى مفعول. كأن تقول : " جلس فلان " والفعل الذي يحتاج إلى مفعول. كأن تقول :" جلس فلان " والفعل الذي يحتاج إلى مفعول اسمه " فعل متعد " والفعل الذي يحتاج إلى مفعول فاسمه " فعل لازم ". إذن : فهناك فعل متعد وفعل لازم. وهنا في هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه :﴿ فإن رجعك الله ﴾ والحق سبحانه هو الفاعل، والكاف في ﴿ رجعك ﴾ هي المفعول به. ولكن لأنها ضمير ملتصق بالفعل يتقدم المفعول على الفاعل. إذن :﴿ فإن رجعك الله ﴾ رجع فعل متعد، والفاعل لفظ الجلالة. والمفعول هو الضمير العائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي : أن الله رجعك يا محمد.
ولكن هناك آية في القرآن الكريم تقول :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا... ( ١٥٠ ) ﴾ ( الأعراف )وفي الآية التي نحن بصددها ﴿ فإن رجعك الله ﴾ الفاعل هو الله، أما في قوله تعالى :﴿ ولما رجع موسى ﴾ نجد أن موسى هو الفاعل ولا يوجد مفعول به، إذن ف " رجع " يمكن أن يكون فعلا لازما١، كأن تقول : " رجع محمد من الغزوة ". ويمكن أن يكون فعلا متعديا كقوله سبحانه :﴿ فإن رجعك الله ﴾ أي : يا محمد من الغزو. إذن : فرجع تستعمل لازمة وتستعمل متعدية. ولكن في قصة سيدنا موسى عليه السلام ؛ عندما ألقته أمه في البحر والتقطه آل فرعون ؛ ومشت أخته تتبعه ؛ ثم حرم الله عليه المراضع ليعيده إلى أمه كي يزيل حزنها، ويقول سبحانه :
﴿ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكلفه فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ).
ما هو الفرق بين الآيات الثلاث ؟ ولماذا استعمل فعل " رجع " لازما ومتعديا ؟.
نقول : إنه في قول الحق سبحان وتعالى :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه ﴾ هنا هي لموسى من ذاته أن يرجعن أي : أنه قرار اختياري من موسى، أما قوله تعالى :﴿ فرجعناك إلى أمك ﴾، فموسى في هذه المرحلة ؛ كان طفلا رضيعا لا يستطيع أن يرجع بذاته، ولا بد أن يهيئ له الحق طريقة لإرجاعه، أي : من يحمله ويرجعه. أما قوله تعالى :﴿ فإذا رجعك الله إلى طائفة منهم ﴾ فقد كان من الممكن أن يقال : " وإذا رجع إلى طائفة منهم " مثلما قال في موسى عليه السلام :﴿ ولما رجع موسى ﴾ ولكن الحق استخدم ﴿ رجعك ﴾ ليدل على أن زمام محمد عليه الصلاة والسلام في الفعل والترك ليس بيده.
وكأنه سبحانه وتعالى يوضح : إياكم أن تنسبوا الأحداث إلى بشرية محمد صلى الله عليه وسلم، فإن محمدا إذا ذهب إلى مكان فالله هو الذي أذهبه إليه. وإن عاد من مكان فهو لا يعود إلا إذا أرجعه الله منه. كما كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بإذن الله، فقبل أن يأذن الله له بالهجرة، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببشريته يستطيع أن يهاجر. إذن : فالحق سبحانه وتعالى يريد أن نعرف دائما : أن ذهاب محمد صلى الله عليه وسلم ورجوعه من أي مكان، ليس ببشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بإرادة الحق سبحانه.
ولكن لماذا قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ﴾ وكان من الممكن أن يقول " فإن رجعك الله إليهم " أو : " فإذا رجعك الله إلى المدينة " ؟ نقول : إن الحق سبحانه وتعالى يريد الحديث هنا عن الطائفة التي حدثت منها المخالفة، فهناك من بقوا في المدينة رغما عنهم ولم يكن لديهم ما ينفقونه أو لم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، وكذلك المرضى وكبار السن الذين لا يستطيعون قتالا. وهؤلاء حسن إسلامهم وقبل الله ورسوله أعذارهم. ولكن الحق سبحانه يتحدث هنا عن الطائفة التي تخلفت عن الجهاد وهي قادرة، والتي امتنعت عن الخروج، وهي تملك المال والسلاح وكل مقومات الجهاد، هذه الطائفة هي التي فرحت بالتخلف عن القتال. أما الطوائف الأخرى ؛، فكانت عيونها تفيض بالدمع من الحزن على عدم اشتراكهم في الجهاد.
إذن : فالحق يقصد هنا طائفة المنافقين الذين استمروا على نفاقهم، فمن تاب منهم قبل نزول هذه الآية قبلت توبته، ومن مات منهم قبل نزول هذه الآية فإنما حسابه على الله. وبقيت طائفة المنافين الذين فرحوا وضحكوا عندما بقوا في المدينة، وكان عقاب الله لهم بأن مسح أسماءهم من ديوان المجاهدين في سبيل الله، ومنعهم الثواب الكبير للجهاد.
ويقول الحق سبحانه :﴿ فإذا رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج ﴾ فكيف استأذنوا أول الأمر للقعود وتحايلوا عليه، وكيف يستأذنوك الآن للخروج ؟ نقول : إنهم عندما رأوا المؤمنين وقد عادوا بالغنائم، كان كذلك حسرة في قلوبهم ؛ لأنهم أهل دنيا. وحينئذ طلبوا الخروج حتى يحصلوا على الغنائم والمغانم الدنيوية. ولكن الحق سبحانه وتعالى طلب من رسوله عليه الصلاة والسلام ألا يأذن لهم بالجهاد مع المسلمين، فقال :﴿ فقل لن تخرجوا معي أبدا ﴾ أي : أن أسماءكم قد شطبت من ديوان المجاهدين والغزاة، ولماذا قرر الحق سبحانه وتعالى ألا يعطيهم شرف الجهاد وثواب الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ﴾.
ولكن الحق يقول أيضا هنا :﴿ فاستأذنوك للخروج ﴾ وهذا أمر لا يحدث إلا في الغزوات، فما هو موقفهم إذا حدث اعتداء على المدينة ؟ ويبين الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ألا يقبل منهم قتالا حتى في هذه الحالة، فطلب من رسوله عليه الصلاة والسلام أن يعلمهم بذلك، ويقول لهم :﴿ ولن تقاتلوا معي عدوا ﴾ إذن : فقد حسمت المسألة، فلا هم مسموح لهم بالخروج في الغزوات، ولا بقتال الأعداء إذا هاجموا المدينة ؛ لأنهم أسقطوا تماما من ديوان المجاهدين، ولا جهاد لهم داخل المدينة أو خارجها ؛ ما داموا قد فرحوا بالقعود، ورفضوا أن يشتركوا في الجهاد وهم قادرون ؛ لذلك حكم الحق أن يبقوا مع الخالفين.
وما معنى خالفين ؟ المادة هي " خاء " و " لام " و " فاء "، فيها، " خلف " و " خلاف " و " خلوف " وغير ذلك. و " خالفين " إما أن يكونوا قد تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكونوا خالفوا الرسول بأنهم رفضوا الخروج، وإما أن يكونوا خلوفا الرسول بأنهم رفضوا الخروج، وإما أن يكونوا خلوفا. ويقول صلى الله عليه من حديث عن الصيام : " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك٢ "
والخلوف هو تغير الرائحة، وتغير الرائحة يدل على فساد الشيء، فكأنهم أصبحوا فاسدين. ومخالفين تعني فاسدين لأنهم قد خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعني أنهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتصر جزاء هؤلاء المتخلفين فقط أن تشطب أسماؤهم من سجلات المجاهدين، بل هناك جزاء آخر يبينه قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ( ٨٤ ) ﴾.
٢ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(١٩٠٤) ومسلم في صحيحه (١٦٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
وقول الحق لرسوله :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ معناها نهى عن فعل لم يأت زمنه. وقوله تعالى :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ أي : لا تذهب إلى قبره وتطلب له الرحمة، ولكن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ مع أن النهي عن المستقبل، أي : من مات بعد نزول هذه الآيات، فلماذا لم يقل الحق " يمت " أو " يموتوا " واستخدم الفعل الماضي ﴿ مات ﴾ ؟. ونقول : لأن الموت عملية حتمية مقررة عند الله ومقدرة، فموعد الموت مكتوب ومعروف عند الله، وهو شيء لا يقرره الله مستقبلا، بمعنى أن موعد الموت لا يحدد قبل حدوثه بليلة أو ليلتين، ولكن الموعد قد حدد وانتهى الأمر.
أما قوله الحق :﴿ ولا تصل على أحد منهم ﴾ فهو يدل على أن هذا الأمر ليس خاصا بسبب، ولكنه عموم حكم. وسبب الحكم مثل الآية التي نزلت في زعم المنافقين عبد الله ابن أبىّ، فعندما مرض عبد الله بن أبىّ مرض الموت، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب منهم أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ويستغفر له٢.
وذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاملة لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي أسلم وحسن إسلامه.
وعندما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار عبد الله بن أبىّ، قال له :" أهلكك حب يهود " ٣، لأن ابن أبىّ كان يجامل اليهود ويعاونهم، ونفاقه في الإسلام كان مجاملة لليهود وكان يظهر أمام اليهود الكفر، ويظهر أمام المسلمين الإيمان. وهنا قال ابن أبىّ : يا رسول الله، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني.
فاستغفر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا نزلت الآية الكريمة :
﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم... ( ٨٠ ) ﴾ ( التوبة ).
وطلب عبد الله بن أبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهبه ثوبه لكي يكفن به، فلماذا ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، أرسل له الثوب الأعلى. وقد كان صلى الله عليه وسلم يلبس ثوبين ؛ ثوبا يلي جسده وثوبا فوقه. فلما جاء ابن أبىّ الثوب الأعلى، قال : أنا أريد الثوب الذي لا مس جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر إلى زعيم المنافقين والذي كان يملؤه الكبرياء في حياته، كبرياء على المؤمنين ؛ ها هو يطلب كل هذه الطلبات ساعة احتضاره. فماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أرسل له القميص الذي لامس جسده الشريف. وكان كل هذا إرضاء لأبنه عبد الله بن عبد الله بن أبىّ.
ولم يتقبل هذا الفعل عدد من المؤمنين ولم يشعروا بالارتياح، فعندما مات ابن أبىّ جاء عبد الله، وطلب من رسول الله أن يصلي عليه. وعندما هم النبي أن يصلي عليه، وقف عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بين الرسول وبين القبلة٤. وهنا حسم الحق سبحانه وتعالى الموقف ونزلت الآية الكريمة :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ فقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على ابن أبىّ، لأنه رسول الله رحمة للعالمين. ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف بينه وبين القبلة حتى لا يصلي، فأنزل الحق قوله :﴿ ولا تصلى على أحد منهم مات أبدا ﴾ وقالوا : تلك من الأمور التي وافق الوحي فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن المسائل التي وافق الوحي فيها بن الخطاب رضي الله عنه تغيير القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام. فقد كان عمر يرجوها، وكأن يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى٥.
ومن هذه الأمور أيضا رأيه في أسرى بدر، وأن من الواجب قتلهم، وكان رأي أبي بكر أن يقوم الأسرى بتعليم المسلمين القراءة والكتابة ؛ أو يؤخذ فيهم الفداء، فنزلت الآية الكريمة :﴿ وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة( ٦٧ ) ﴾ ( الأنفال ).
بعض الناس يتساءل : كيف يستدرك عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ نقول : لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يخلد في أمته ؛ لذلك أراد أن يعطيهم الأسوة الحسنة بأنه صلى الله عليه وسلم متى رأى رأيا حسنا نزل عليه. وبعض المستشرقين يقولون : إنكم تقولون دائما عمر فعل كذا، ولماذا لا تقولون محمد فعل كذا ؟ ونقول : إذا فعل محمد فهو رسول الله، أما غير الرسول عندما يفعل فهو دليل على أن الفطرة الإسلامية من الممكن أن ترى شيئا يتفق مع ما يريده الله.
وبعد أن نزل قول الحق :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ صار الحكم عاما في ألا يصلي رسول الله على المنافقين. لكن من أراد من الناس أنم يصلي فليصلّ. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكرم كل مسلم بالصلاة عليه. فلما نزلت هذه الآية امتنع عن الصلاة على المنافقين.
كذلك امتنع صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الميت وعليه دين، فكان يسأ أهل الميت، هل عليه دين ؟ فإن قالوا : نعم. سأل : هل ترك ما يسده ؟. فإن قالوا : لا، قال :" صلوا على صاحبكم٦، وامتنع هو عن الصلاة.
ولكن ما ذنب من عليه دين حتى يحرم صلاة رسول الله عليه ؟ نجد الإجابة في قوله صلى الله عليه وسلم :( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله )٧.
فلو كان هذا الميت المدين ينوي سداد دينه لأعانه الله على أن يسدده، أما إذا ترك ما يفي بهذا الدين من عقارات أو أرض أو أموال في البنوك فلا يكون مدينا.
ويقول الحق سبحانه هنا :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى قبر حمزة رضي الله عنه، ويقف على قبور المؤمنين. ويقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " ٨. ومنعه الحق من ذلك العمل على قبور المنافقين٩. ويعطينا الحق سبحانه العلة في ذلك فيقول :﴿ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾ وعرفنا كيف كفروا بالله ورسوله، لكن ماذا عن قوله الحق :﴿ وماتوا وهم فاسقون ﴾. فهل ماتوا وهم خارجون عن المنهج ؟ نعم، تماما مثلما نقول : فسقت الرطبة ؛ لأن البلح في نضجه يكون أحمر اللون أو أصفر وتلتصق قشرته به، فإذا رطب انفصلت القشرة عن البلحة، بحيث تستطيع أن تنزعها بسهولة، فكأن منهج الله بالنسبة للمؤمن لابد أن يلتصق به كقشرة البلحة الحمراء، وإذا انفصل عنه مثل قشرة الرطبة يصاب بالفساد.
ولكن هنا نتساءل : أليس الكفر أكبر مرتبة من الفسق ؟ لأننا نعلم أنه ليس بعد الكفر ذنب ؟ فكيف يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وماتوا وهم فاسقون ﴾ مع أنهم كفروا، والكفر أكبر الذنوب ؟.
ونقول : إن الكفر هو عدم الإيمان بالله ورسوله وعدم الدخول في الإسلام، ولكن الفسق هو عدم الالتزام بأية قيم، ذلك أن الدين قد أوجد في النفوس عامة قيما معروفة يتبعها حتى الذين كفروا، فمثلا عندما أرادوا بناء الكعبة قبل الإسلام، قالوا : نريد أن نبنيها بمال حلال، لا يدخل فيه مال بغي١٠. وكانوا في الماضي يحضرون البغايا، ويقيمون لهن الرايات، ويأخذون من أموالهن. ولم يكن الإسلام قد جاء بعد، ولكن كانت هناك قيم من مناهج السماء التي جاءت قبل الإسلام. وجاء الإسلام موافقا لبعضها.
إذن : فقوله الحق :﴿ كفروا بالله ورسوله ﴾، أي : لم يكونوا مسلمين، ﴿ وماتوا وهم فاسقون ﴾ أي : لم يلتزموا بأية قيم.
٢ سبق تخريجه عند تفسير الآية:﴿استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم...﴾(التوبة: ٨٠).
٣ أورده ابن كثير في تفسيره (٢/٣٧٩) من مرسل قتادة. وقد أورده ابن حجر في الفتح(٨/٣٣') وهزاه لعبد الرزاق والطبري عن قتادة؟ قال ابن حجر: هذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده مالا أخرجه الطبراني عن ابن عباس بنحوه..
٤ أخرجه البخاري في صحيحه(٤٦٧١) وأحمد في مسنده (١/١٦) والترمذي في سننه (٣٠٩٧) والنسائي (٤/٦٧) قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب..
٥ أخرجه البخاري في صحيحه(٤٤٨٣) عن أنس، وقد ذكر فيه موافقة الوحي لعمر في ثلاث: تحويل القبلة، حجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، معاتبة نساء النبي..
٦ متفق عليه. أخرجه البخاري(٢٢٩٨) ومسلم (١٦١٩) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفي عليه الدين فيسأل: هل ترك ليه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك لديه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم..
٧ أخرجه البخاري في صحيحه(٢٣٨٧) وأحمد في مسنده (٢/٣٦١، ٤١٧) وابن ماجة في سننه (٢٤١١) عن أبي هريرة..
٨ أخرجه مسلم(٢٤٩) وأحمد في مسنده (٢/٣٧٥) وابن ماجة (٤٣٠٦) النسائي (١/٩٤) من حديث أبي هريرة..
٩ ومما ورد في سبب نزول قوله تعالى:﴿ولا تقم على قبره﴾ (التوبة: ٨٤) أنه مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، وإنك لن تأته لم نزل نعير بهذا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال:"أفلا قبل أن تدخلوه؟" فأخرج من حفرته وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه. أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣/٣٧١)..
١٠ وذلك أنه عندما أرادت قريش أن تبني الكعبة قام أبو لهب بن عمروا وبن مخزوم وتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغى، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد
من الناس. انظر السيرة النبوية لابن هشام (١/١٩٤).
﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون( ٨٥ ) ﴾ : ونعلم أن الحق قال في آية سابقة :
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق١ أنفسهم وهم كافرون( ٥٥ ) ﴾ ( التوبة )والنص القرآني إذا ما اتفق مع نص آخر، نقول : إن الأداء الخاص ومقتضيات الأحوال تختلف، ومن ينظر إلى خصوصيات ومقتضيات الأحوال يعلم أن هذا تأسيس وليس تكرارا، فقد تحمل آيتان معنى عامّا واحدا، ولكن كل آية تمس خصوصية العطاء، ولنأخذ مثالا من قوله الحق :
﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم... ( ١٥١ ) ﴾ ( الأنعام ).
وقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياكم... ( ٣١ ) ﴾ ( الإسراء )
وقد ادعى بعض المستشرقين أن في القرآن تكرارا، وهذا غير صحيح ؛ لأنهم ينظرون إلى عموم الآية ولا ينظرون إلى خصوصية العطاء. وخصوصية العطاء في الآية توافق مقتضى كل حال. ففي قوله سبحانه عن رزق الأولاد لن يلتفتوا إلى صدري الآيتين بل التفتوا إلى عجز الآيتين، وذلك من جهلهم بملكة الأداء في البيان العربي.
ولنا أن نسأل هؤلاء المستشرقين الذين يثيرون مثل هذه الأقاويل : هل ترون أن آية من الآيتين أقل بلاغة من الأخرى ؟ ولن نجد إجابة عندهم، لأنهم لا يعرفون دقة البيان العربي. ونقول لهم : أنتم إن نظرتم إلى عجز كل آية وصدرها لوجدتم أن آخر آية يقتضي أولها، وإلا لما استقام المعنى، فالله سبحانه وتعالى لم يقل في الآيتين :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ﴾ وإنما قال :﴿ من إملاق ﴾ وقال :﴿ خشية إملاق ﴾، ولم يقل في الآيتين :﴿ نحن نرزقكم وإياكم ﴾ بل قال :﴿ نحن نرزقكم وإياكم ﴾ وقال :﴿ نحن نرزقكم وإياهم ﴾.
إذن : فبداية الآيتين مختلفة ؛ الآية الأولى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ﴾. والإملاق هو الفقر، فكأن الفقر موجودا فعلا. وقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾، كأن الفقر غير موجود ولكن الإنسان قد يخشى أن يأتي الفقر بمجيء الأولاد.
إذن : الآية الأولى تخاطب الفقراء فعلا، والآية الثانية تخاطب غير الفقراء الذين يخشون مجيء الفقر إن رزقوا بأولاد ؛ والفقير-كما نعلم- يشغل برزقه أولا قبل أن يشغل برزق الأولاد. وذلك يطمئنه الحق سبحانه وتعالى على أن أولاده لن يأخذوا من رزقه شيئا، فيقول :﴿ نحن نرزقكم وإياهم ﴾ أي : اطمئن أيها الفقير على رزقك فلن يأخذ أولادك منه شيئا ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يرزقك أولا ويرزق أولادك أيضا.
أما غير الفقير الذي يخشى أن يجيء الولد ومعه الفقر فقد ينشغل بأن المولود الجديد سيأتي ليحوله غناه إلى فقر. ويخاطبه الحق سبحانه وتعالى بقوله :﴿ نحن نرزقكم وإياكم ﴾ أي : أن رزقهم يأتي من عند الله قبل رزقكم أنتم، فلا تخشوا الفقر وتقتلوا أولادكم، ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى سيرزقهم، فلا يصيبكم الفقر بسبب الأولاد. وهكذا نرى أن معنى الآيتين مختلف تماما وليس هناك تكرار.
كذلك في الآية التي نحن بصددها، يقول بعض الناس : إن هذه الآية قد وردت في نفس السورة، نقول لهم : نعم. ولكن هذه لها معنى والأخرى لها معنى آخر، فأين الاختلاف في الآيتين، حتى نعرف أنهما ليستا مكررتين ؟ الآية الأولى تقول :
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم هم كافرون( ٥٥ ) ﴾ ( التوبة )والآية الثانية التي نحن بصددها تقول :
﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون( ٨٥ ) ﴾ ( التوبة )أول اختلاف نجده في بداية الآيتين ؛ ففي الآية الأولى :﴿ فلا تعجبك ﴾ والثانية :﴿ ولا تعجبك ﴾.
ففي الآية جاء قول الحق سبحانه وتعالى بالفاء، والفاء تقتضي الترتيب. إذن : فهذه مترتبة على ما قبلها، وهي قوله تعالى :
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون( ٥٤ ) ﴾ ( التوبة ).
فكأن هذه حيثيات كفرهم ؛ فهم لا يصلون إلا نفاقا، ولا ينفقون مالا في سبيل الله إلا وهم يكرهون ذلك.
والمتعة في المال أن تنفقه فيما تحب، فإذا أحببت طعاما اشتريته، وإذا أحببت ثوبا ابتعته٢. وتكون في هذه الحالة مسرورا وأنت تنفق مالك، ولكن هؤلاء ينفقون المال وهم كارهون.
والمؤمن عندما ينفق ماله في صدقة أو زكاة فهو يفعل ذلك إيمانا منه بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيه أضعاف أضعاف الأجر في الدنيا والآخرة.
إذن : فحين ينفق المؤمن ماله في الزكاة، يكون فرحا لأنه عمل لدنياه ولآخرته.
أما المنافق الذي يضمر الكفر في قلبه، فهو لا يؤمن بالآخرة ولا يعرف البركة في الرزق، فكأنه أنفق ماله دون أن يحصل على شيء، أي : أن المسألة في نظره خسارة في المال ولا شيء غير ذلك. وإن أنفق الإنسان وهو كاره، فالمال الموجود لديه هو ذلة وتعب ؛ لأنه حصل على المال بعد عمل ومشقة، ثم ينفقه وهو لا يؤمن بآخرة ولا بجزاء.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا أن رزقه لهؤلاء الناس هو سبب في شقائهم وإذلالهم في الدنيا فيجعلهم يجمعون المال بعمل وتعب ثم ينفقونه بلا ثواب، أي : يخسرونه. والواحد منهم يذهب إلى الحرب نفاقا، فنفق على سلاحه وراحلته٣، ولا يأخذ ثوابا، ويربيّ أولاده ثم تأني الحرب، فيذهبون نفاقا إلى للقتال ؛ فيموتون دون استشهاد إن كانوا منافقين مثل آبائهم. وهكذا نجد أن كل أموال المنافق الذي يتظاهر بالإسلام، وهو كافر، تكون حسرة عليه.
ومن هنا فإياك أيها المؤمن أن تعجبك أموالهم ؛ لأنها ذلة للهم في الدنيا ؛ فهم يبذلونها نفاقا، فإذا امتنعوا عن الإنفاق وعن الجهاد وهم يتظاهرون بالإسلام ؛ فكأنهم قد أعلنوا أنهم منافقون، وهكذا إنفاقهم كرها هو إذلال لهم، ون لن تنفقوا فهذا أمر يفضحهم، فكأن الأموال والأولاد عذاب لهم، وهذا أمر لا يقتضي الإعجاب، وإنما يقتضي الإشفاق عليهم.
ولا تظن أنك حين حذفتهم من ديوان الغزاة والمجاهدين بعد الخروج معك وأنهم لن يقاتلوا معك عدوّا، أن في أموالهم عوضا عن الخروج، فلا تعجبك فإنها عقاب وفضيحة وإذلال لهم.
لكن في الآية الأولى، يقول الحق سبحانه :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾ لماذا ؟ لأن منهم من له مال يعتز به، ومنهم من له لأولاد كثيرون هم عزوته، ومنهم من له المال والولد.
إذن : فهم مختلفون في أحوالهم ؛، لذلك جاء القول :﴿ أموالهم ولا أولادهم ﴾ لتؤدي المعاني كلها، ولتشمل من عنده مال فقط، ومن عنده أولاد فقط، ومن عنده المال والولد.
أما في الآية الثانية التي نحن بصددها :
﴿ ولا تعجبك أمولهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾.
إذن : فالحق سبحانه وتعالى قد أعطاهم المال والولد للعذاب. ولكن هناك من يقول : ما دام الحق يريد تعذيبهم بالأموال والأولاد، فهل المال والأولاد علة للعذاب ؟ وهل لأفعال الله علّة ؟ ألا يقول المسلمون : إن أفعال الله لا علة لها ؛ ونقول : لقد قالوا مثل ذلك القول في قوله الحق :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ٥٦ ) ﴾ ( الذاريات )ولم يلتفتوا إلى أن العلة في الخلق لا تعود إلى الله، ولكنها علة ترجع للمخلوق ؛ لأن في العبادة مصلحة ومنفعة للمخلوق، فسبب الخلق هو العبادة، وهذا السبب ليس راجعا إلى الخالق ولا تعود على الله أدنى منفعة، فلا شيء يزيد في ملكه لا شيء ينقصه. أو هي لام العاقبة. ومعنى " لام العاقبة " أن تفعل شيئا فتأتي العاقبة بغير ما قصدت مصداقا لقوله الحق :
﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا.. ( ٨ ) ﴾ ( القصص ).
هل التقط آل فرعون موسى ليكون لهم عدوّا ؟ أم التقطوه ليكون لهم قرة عين٤ ؟. لقد التقطوه ليكون وليا ونصيرا لهم هو الذي جاءت على يديه نهايتهم، ولو كان فرعون يعلم الغيب لما التقط موسى بل لقتله، وشاء الحق أم يخفي عنه الغيب ليقوم هو بتربية من سيقضي على ملكه، تماما كما تدخل ابنك إلى المدرسة فيفشل، وتنفق عليه يتخرج، هل أنت أدخلته المدرسة ليخيب ؟ طبعا لا.
كذلك قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ليعذبهم ﴾ ويريدنا الله أن نفهم أن العذاب ليس هو سبب جمعهم المال، وإنما السبب في ذلك هو حبهم للمال والمتعة، وكذلك الأولاد ليس الهدف منهم أم يكونوا سببا في عذاب آبائهم، بل هم يريدون الأولاد عزوة لهم. ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يعذبهم بالمال والأبناء في الدنيا. فالمال يجمعه المنافق من حلال ومن حرام، ثم بعد ذلك إما أن يفارقه المال بكارثة تصيبه، وإما أن يفارق هو المال بالموت، وإما أن يكون هذا المال عذابا له، فيعيش مع خشية الله الفقر وزوال النعمة، كذلك الأولاد يربيهم ويتعب في تربيته، ثم بعد ذلك إما أن يفارقوه بالموت، وإما أم يكبروا فاسدين، فيكونوا مصدر عذاب لهم.
فكأن قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كارهون ﴾ هو كلام من الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين ؛ لأن هؤلاء المنافقين قد يعطيهم الله الأموال والأولاد ؛ ولكنها ليست خيرا لهم، بل هي عذاب لهم ؛ لأنهم بإبطانهم الكفر وتظاهرهم بالإيمان ؛ يفرضون على أنفسهم تكاليف تأخذ جزءا من أموالهم وأولادهم، وحينئذ تكون عذابا لهم لأنهم خسروا كل شيء ولم يكسبوا شيئا، فليس لهم أجر على موت أبنائهم إن قتلوا، ولا أجر الزكاة والصدقة فيما ينفقونه رياء ونفاقا.
أما الآية الثانية :﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ فهي حكم على من يعطيهم الله نعمة الدنيا ويكفرون به، وتكون هذه النعمة عليهم عذابا، فهم في خوف من ضياع المال أو فقد الولد، لذلك يعانون من العذاب. وهم من خوفهم من الموت وترك النعمة معذّبون، فهم لا يريدون أن يموتوا لأنهم لا يعتقدون في الآخرة، ويكون المال والولد حسرة عليهم ؛ لأن المؤمن إن مات منه ولد، علم أن افتقاد الابن إنما يسد طاقة جهنم، ويقوده إلى رحمة الله، وله أجر على ذلك، فإن كان الولد صغيرا كان ذخرا له في الآخرة، وإن، كان كبيرا فهو يتذكر قول الحق :﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم... ( ٢١ ) ﴾ ( الطور )وفي هذا سلوى عن افتقاد الولد، لكن المنافق يحيا في خوف وحسرة. وفي هذا عذاب. ويلفتنا سبحانه إلى أن مال الكافر هو حسرة عليه دائما فيقول :{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون( ٣٦ ) ( الأنفال )أي : أن الله سبحانه وتعالى يعاقب من ينفق لمحارة دينه بأن يتركه ينفق، ثم ينصر الله دينه ليجعل ذلك حسرة في نفسه حين يرى المال الذي أنفقه وقد جاء بنتيجة عكسية هي انتصاره الدين وانتشاره.
وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ وهذه هي الحسرة الكبرى، فحين يموت الكافر ولا يجد له رصيدا في الآخرة إلا النار، لأنه مات على غير يقين بالجنة وعلى غير يقين بأنه قد قدم شيئا، يلقى في النار محسورا على ما تركه في الد
٢ ابتاع: اشترى..
٣ الراحلة: كل بعير قادر على مشقات السفر أو الجهاد..
٤ قرة عين: مصدر سرور وفرح وسعادة قلب..
﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنوك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين( ٨٦ ) ﴾.
وهكذا شاء الحق أن يفضح المنافقين، هؤلاء الذين استمرأوا الاستمتاع بنفس حقوق المؤمنين لمجرد إعلانهم الإسلام، بينما تبطن قلوبهم الكفر والكيد للمسلمين. وقوله الحق :﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله ﴾ هو خطاب للمنافقين يكشف بطلان إيمانهم ؛ ولذلك جاء قوله الحق :﴿ أن آمنوا ﴾ أي : اجعلوا قلوبكم صادقة مع ألسنتكم، فالله يريد إيمانا بالقلب واللسان، فيتفق السلوك مع العقيدة. وقوله الحق :﴿ وجاهدوا مع رسوله ﴾ أي : انفروا للجهاد مع رسول الله، فهذا هو التعبير العملي عن الإيمان، ولا تفرحوا بتخلفكم عن القتال في سبيل الله شرف كبير له ثواب عظيم. وامتناع إنسان عن الجهاد هو تنازل عن خير كبير، فالحق سبحانه يعطي جزيل الأجر لمن جاهد جهادا حقيقيا.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ استأذنك أولوا الطول منهم ﴾ و " استأذن " من مادة استفعل، وتأتي للطلب، كأن تقول :" استفهم " أي : طلب أن يفهم، و " استعلم " أي : طلب أن يعلم. إذن : فقوله :﴿ استأذنك ﴾ أي : طلبوا الإذن، ولأنهم يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر، تجدهم ساعة النداء للجهاد بل لا يقفون مع المؤمنين، وكان من المفروض أن يكونوا بين المجاهدين، وأن يجدوا في ذلك فرصة لإعلانهم توبتهم، ورجوعهم إلى الحق فيكون جهادهم تكفيرا عما سبقه من نفاق، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل طلبوا الإذن بالقعود.
ومن الذي طلب الإذن ؟.
إنهم أولو الطّول. و " أو لو " معناها أصحاب القوة والقدرة. و " الطّول " هو أن تطول الشيء لأي : تحاول لأن تصل إليه، فإذا لم تصل يدك إليه، يقال : إن هذا الشيء يدك لم تطله، أي : لم تكن في متناول يدك.
و﴿ أواوا الطّول ﴾ أي : الذين يملكون مقومات الجهاد من سلامة البدن من الأمراض ووجود القوة، ولا يعانون من ضعف الشيخوخة، وإن يكون الإنسان قد بلغ مبلغ الرجولة ليس صبيا صغيرا ؛ لأن الشيخ الكبير ضعيف لا يقدر على الجهاد، وكذلك الصبي الصغير لا يملك جلدا على الحرب. وأيضا نجد المريض الذي قد يعوقه مرضه عن الحركة.
أما أولوا الطول فهم الذين يملكون كل مقومات الحرب، من قوة بدنية وسلاح، والذين لم يبلغوا سن الشيخوخة، ولا هم صبيان صغار ولا مرضى.
إذن : فعندما تنزل آية فيها الجهاد، فالذين يستأذنوك ليسوا أصحاب أعذار-لأنهم معفون- لكن الاستئذان يأتي من المنافقين الذين تتوافر فيهم كل شروط القتال، ويستأذنون في القعود وعدم الخروج للقتال. ويقولون ما يخبرنا الحق به :﴿ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾ والقاعد مقابله القائم. والقيام-كما نعلم- هو مقدمة للحركة. فإذا أراد الإنسان أن يمشي، قام من مكانه أولا، ثم بدأ المشي والحركة، ومن القيام أخذت مادة ( القوم )١ أي : الجماعة القائمة على شؤونها، والقوم هم الرجال، أما النساء فلا يدخلن في القوم، مصداقا لقول الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن... ( ١١ ) ﴾ ( الحجرات ).
إذن : فالقيام يقابله القعود، والقوم يقابلهم النساء. والقعود هو مقدمة للسكون، فمتى جلس الإنسان فهناك مقدمة لفترة من السكون، وقعود المنافقين وتخلفهم واستئذانهم أن يبقوا مع النساء والعجزة والمرضى والصبية هو حط من شأنهم.
ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى :﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون( ٨٧ ) ﴾.
ولذلك كانوا ﴿ لا يفقهون ﴾ لأنهم ارتضوا لأنفسهم وصفا لا يليق بالرجال وفرحوا بهذا الوصف دون أن ينتبهوا لما فيه من إهانة لهم، لأنهم يهربون من القتال كما تهرب النساء. والمنافق-كما نعلم- لم ملكتان : ملكة قولية، وملكة قبلية. لقول المنافق إعلان بالإيمان، أما قلبه فهو ممتلئ بالكفر ؛ وفي هذه الحالة تتضارب ملكاته.
والله سبحانه وتعالى يوضح لهم : سوف نعاملكم في الدنيا بظاهر كلامكم، ونعاملكم في الآخرة بباطن قلوبكم، وسوف نطبع على هذه القلوب، فلا يخرج منها كفر، ولا يدخل إليها إيمان، ولذلك قال الحق سبحانه هنا ﴿ طبع٢ على قلوبهم ﴾.
وقد قال الحق سبحانه :﴿ ختم٣ الله على قلوبهم.... ( ٧ ) ﴾ ( البقرة )
وقال سبحانه :﴿ وطبع الله على قلوبهم... ( ٩٣ ) ﴾ ( التوبة )
وما دام الكافر قد أعجبه كفر قلبه، فالحق سبحانه يختم على قلبه، بحيث لا يخرج ما فيه من كفر، ولا يدخل إلى قلبه، ما هو خارجه من إيمان، تماما كما تختم الشيء بالشمع الأحمر ؛ فيظل ما في داخله كما هو، وما في خارجه كما هو. ويطبع الله على قلبه ؛ فيمنع ما فيه من الكفر أن يخرج، ويمنع ما في خارجه من الإيمان أن يدخل إليه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فهم لا يفقهون ﴾ والفقه هو الفهم، أي : لا يفهمون ما حرموا منه من ثواب ونعيم الآخرة، لأنهم قد فرحوا بتخلفهم عن الجهاد، وهم يحسبون أن هذا خير لهم ولكنه شر لهم.
٢ الطبع لا يفك أبدا، فالذي طبع على قلبه ليس غير قابل ولا مقبول..
٣ الختم قد يفك، وقد يكون له مدة معلومة وقد يقبل مع التوبة الخالصة..
﴿ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ﴾.
أي : إياكم أن تحزنوا على هؤلاء المنافقين بسبب قعودهم عن الجهاد معكم ولا تقولوا : نحن خسرنا في قتالنا، لأن الحق لا يحتاج إليهم ولا إلى جهادهم. وسبحانه القائل :﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ( ٨٩ ) ﴾ ( الأنعام ).
ويقول سبحانه :﴿ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون( ٣٨ ) ﴾ ( فصلت ).
وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ها أنتم تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( ٣٨ ) ﴾ ( محمد ).
وأيضا نجد قوله الحق :﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه... ( ٥٤ ) ﴾ ( المائدة ).
إذن : فتخلف بعض أصحاب القوة والمال والجاه عن الجهاد، يجب ألا يشيع الفزع أو الحزن في نفوس المؤمنين، لأن الله معهم، ولأنهم لهم الخيرات، أي : لهم كل ما يطلق على خير١ :﴿ وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ﴾ والمفلح : هو الفائز الناجي المستفيد بثمرة عمله، وأصلها فلح الأرض أي : شقها ؛ لأن الزراعة تقتضي أن تحرث الأرض أولا، وهذه مهمة الإنسان ليخرج الزرع. والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ أفرأيتم ما تحرثون( ٦٣ ) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون( ٦٤ ) ﴾ ( الواقعة ).
ونحن حين نحرث الأرض نهيجها، وبدلا من أن تكون صلبة لا يدخلها هواء ولا تتخللها أشعة الشمس، تصير بعد الحرث مستقبلة للهواء يتوافر للأرض الهواء اللازم لنمو جذور النبات، لأنك إذا وضعت الحب في أرض محروثة، فالزرع لا ينبت، لعدم وجود الهواء الذي تتنفس منه الجذور. ولكن إذا حرثت الأرض ؛ جعلت أشعة الشمس تتخلل ما هو تحت السطح ؛ وتبخر الماء المخزون ؛ ليدخل الهواء بدلا منه ؛ فتستطيع جذور النبات أن تنموا. إذن : فكل عمل يؤدي إلى نتيجة طيبة نسميه فلاحا. وهو مأخوذ من الأمر الحسي، الذي نراه كل يوم وهو الفلاحة.
وحين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا أمرا معنويا، فهو سبحانه يستحضر لنا صورة محسة من الذي نراه أمامنا ؛ حتى نستطيع أن نقرّب المعنى إلى الأذهان ؛ خصوصا في الغيبيات التي لا نراها، فإذا أراد سبحانه أن يقربها إلى أذهاننا ؛ فهو يضرب لنا الأمثال بأمور حسية. والإنسان حين يفلح الأرض ويشقها ويبذر فيها الحب، تعطيه محصولا وفيرا. وكذلك فإن كل عمل يؤدي إلى نتيجة طيبة نسميه فلاحا.
وعندما يحدثنا الحق سبحانه، فهو يعطينا المثل مما نراه كل يوم ؛ ليقرب إلى أذهاننا جزاء الصدقة والزكاة٢، ومضاعفته لنا الأجر، فيقول :
﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء... ( ٢٦١ ) ﴾ ( البقرة ).
فإذا كانت الحبة عندما تضعها في الأرض تنبت سبعمائة حبة، وإذا كانت الأرض، وهي مخلوقة لله، قد أعطتك عن الشيء الواحد سبعمائة ضعف، فكم يعطي خالق الأرض ؟ وكم يضاعف ؟.
إنها صورة محسة للجزاء على الصدقة والزكاة. وأنت ساعة تزرع الأرض لا تقول : أنا أنقصت المخزون عندي كيلة٣ من القمح أو إردبا٤ من القمح ؛ لأنك تعلم انك تأخذ مما عنك إربا من القمح ؛ لتزرعه في الأرض. ولكن لا تنظر إلى الإردب الذي أخذته من المخزون عندك، بل انظر إلى ما سوف يجيء لك من هذا الإردب ساعة الحصاد، وكذلك الزكاة : إياك أن تنظر إلى ما سينقص من مالك عندما تؤدي الزكاة، ولكن انظر إلى كم سيضاعف الله لك هذا المال.
وقد ضرب الحق مثلا بشيء محس يعلمه الجميع، ومن صورة ما نراه أمامنا لنفهم ما ينتظرنا، فإذا كانت الأرض- وهي المصدر الأول للاقتيات٥- تلقى فيها الحبة الواحدة، فتعطي لك سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وإذا كانت الأرض المخلوقة لله تعوضك عما وضعته فيها بسبعمائة ضعف، فكم يعطيك خالق الأرض ؟.
إذن : فهو سبحانه قادر أن يضاعف لمن يشاء بغير حساب. ولذلك يبشر الحق سبحانه وتعالى المؤمنين بقوله :
﴿ وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ﴾ وهذا جزاء المؤمنين في الدنيا، ولكن هناك جزاءا آخرا في الآخرة. وفي هذا يبشرنا الحق سبحانه في قوله :
﴿ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم( ٨٩ ) ﴾.
٢ الصدقة: ما يخرج من المال على وجه القربة إلى الله تعالى:﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي (٢٧١)﴾ (البقرة)
وتصدق: أخرج الصدقة:﴿وأن تصدقوا خير لكم (٢٨٠﴾ (البقرة) بحذف إحدى التائين
واصدق: أخرج الصدقة. وصدقه: آمن بكلامه- والصدّقة: صداق المرأة ومهرها لا تدل على صدقة الرغبة. وهيب مادة الصدقة: صدق مع الله وصداقة مع الناس وصداقة مع النفس. وأما الزكاة فهي ما فرض بمقدار ونصاب محدد.
.
٣ الكيلة: وعاء تكال به الحبوب، ومقداره الآن ثمانية أقداح. والجمع: كيلات..
٤ الإردب: مكيال يسع أربعة وعشرين صاعا، أو ست ويبات. والجمع: أـرادب..
٥ الاقتيات: القوت والرزق..
ولماذا سمى الله سبحانه وتعالى جزاء الآخرة بأنه :﴿ الفوز العظيم ﴾.
ذلك لأن هناك فارقا بين الخير والفلاح في الدنيا، الفوز في الآخرة، فالدنيا موقوتة بعمرك وتتمتع فيها بقدر أسبابك. إذن : ففيها فوز محدود لا يسمى فوزا عظيما. أما الآخرة فالنعمة فيها لا تفارقك أنت، فالنعمة خالدة، وأنت خالد، وهذه النعمة-في الوقت نفسه- ليست بقدراتك أنت، بل بقدرات خالقك سبحانه وتعالى، ولا تحتاج منك أي تعب أو عمل أو اجتهاد، بل يأتيك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك، وهذا لا يحدث إلا في الآخرة وفي الجنة وهذا هو الفوز العظيم لأنه دائم وبلا نهاية.
﴿ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم( ٩٠ ) ﴾.
والحديث هنا عن المنافقين الذين كانوا يعيشون حول المدينة وكانوا يسمون " الأعراب "، وقد تحدثت الآيات السابقة عن منافقي المدينة الذين جاء فيهم قول الحق :﴿ ومن أهل المدينة مردوا على النفاق١... ( ١٠١ ) ﴾ ( التوبة ).
وهنا يأتي الحديث عن المنافقين الذين كانوا يسكنون في البوادي التي حول المدينة وهم الأعراب.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ المعذرون ﴾، وهناك " معذرون " و " معتذرون "، والمعذرون هم المعتذرون، فالمعتذر جمعه معتذرون بفتحة فوق التاء، لكن إذا وضعت الفتحة فوق العين فالحرف الذي بعدها يسكّن، وعندما يسكّن ما بعد العين، فهذا يعني أن هناك افتعالا.
إذن : فالمعذرون أو المعتذرون هم الذين يريدون أن يتخلفوا عن القتال بأعذار مفتعلة٢، وهم أرادوا القعود والسكون ولم يتحركوا للقتال، وقد فعلوا ذلك دون عذر حقيقي. ويقال :" المعذرون "، و " المعذّر " و " أعذره " أي : أذهب عذره، مثل :" أعجم الكتاب " أي : أذهب عجمته. ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾ لقد كذبوا الرسول في الإيمان نفسه ؛ لأنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد الاعتذار وتخلفوا، ولو كانوا قد صدقوا في الإيمان لمات تقاعسوا عن القتال، أو لاستأذنوا الله في القعود.
ثم يقول الحق :﴿ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ والكفر-كما نعلم- هو ستر الإيمان، والمنافقون من الأعراب أظهروا الإيمان وكانت قلوبهم تمتلئ بالكفر. ويقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الأيمان في قلوبكم... ( ١٤ ) ﴾ ( الحجرات ) أي : أنهم يؤدون أمور الإسلام الظاهرية بينما قلوبهم لم يدخلها الإيمان.
ويعرفنا الحق سبحانه بالجزاء الذي ينتظر هؤلاء المتخلفين من الأعراب فيقول :﴿ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ وعرفنا من قبل أن وصف العذاب في القرآن إما أن يكون أليما، وإما أ، يكون مهينا، وإما أن يكون عظيما، وإما أن يكون مقيما.
٢ المعذر: الذي يعتذر وله عذر حقيقي. المعتذر: مثله. المعذر: الذي يعتذر وليس له عذر، بل يفتعله ويختلقه..
﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم( ٩١ ) ﴾.
ونحن نعلم أن الضعيف هو من لا يقدر على العمل، لا بسبب المرض، بل لكبر سنه، أو هو صغير السن لا يقدر على الحرب، وكذلك يعفي الحق المرضى عن القتال ؛ وهم من أصيبوا بعاهة طارئة تجعلهم غير قادرين على القتال. وكذلك أعفى الله الذين لا يجدون ما ينفقون ؛ لأنهم من شدة فقرهم لا يستطيعون شراء دابة تحملهم أو معدات قتال يقاتلون بها.
والنفقة-كما نعلم- هي أن تقدر أن تعول نفسك في الذهاب والإقامة مدة الحرب والعودة. وكان على كل مجاهد أن يعدّ مطلوبات الحرب.
فالله سبحانه قد رفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقونه، وجعل لهم وظيفة أخرى تخدم الجهاد، فقال سبحانه وتعالى :
﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ أي : ينصحون ويشجعون أولئك القادرين على الجهاد ؛ ليحمّسوهم على القتال، ثم يكونون في عون أهل المجاهدين١، ويواجهون الإشاعات والأكاذيب التي يطلقها المنافقون في المدينة ؛ للنيل من الروح المعنوية للمسلمين فيردون عليها ليخرسوا ألسنة السوء.
ثم يقول الحق :﴿ ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ﴾ والسبيل : هو الطريق، ومعناها : ما عليهم من إثم أو لوح أو توبيخ أو تعنيف. وكل هذا لا يجد سبيلا على المحسنين، ولم يقل الحق : " ما على المحسنين من سبيل " ؛ لأن السبيل يمر عليهم ولا ينتهي إليهم بلوم ؛ لأن هناك فارقا بين أن يمر عليهم وأن ينتهي إليهم ؛ فالمرور أمر عادي، وليس هو الغاية ؛ لذلك يوضح الحق أنه لا يوجد سبيل إليهم ولا إلى عتابهم ؛ لأنهم أدوا كل ما تطلّبه الجهاد منهم، ولكنهم لم يذهبوا إلى ميدان القتال ؛ لأسباب خارجة عن إرادتهم، وفعلوا كل ما يتطلبه الإيمان.
أما إذا كان المجاهد لديه ما ينفقه، ولكنه لا يملك راحة يركبها، فعليه أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلب منهم راحلة، فإذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ فهذا إذن بالقعود، وفي هذا يقول الحق سبحانه :
﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون( ٩٢ ) ﴾.
إنه جهاد حماية القاعدين من إشاعات المنافقين. ذلك أن المنافقين لن يسكتوا عن محاربة الإيمان، بل سيرجفون بنقل الأخبار الكاذبة إلى أهالي المقاتلين، وهم من نسميهم في الاصطلاح الحديث " الطابور الخامس "، وهم من يثبّطون همم ومعنويات أهالي المقاتلين. إذن : فمن قعد عن القتال بسبب عذر حقيقي فله جهاد آخر في حماية الجبهة الداخلية من أهالي المقاتلين في مواجهة حرب الإشاعات التي يقودها المنافقون.
وهكذا نجد الجهاد٢ فريضة من فرائض الإسلام، ومجاهدة غير المسلمين تكون لأمرين : الأمر الأول : حين يعارض غير المسلمين الدعوة إلى الإيمان، وأن يقفوا في سبيل الداعي ليسكتوه عن الدعوة إلى الله، والأمر الثاني : أن ينتشر المسلمون في الأرض ليعلوا كلمة الله، ليس إكراها عليها، فالدين لا إكراه فيه، والسيف الذي حمل في الإسلام، لم يحمل ليفرض دينا، وإنما حمل ليكفل حرية الاختيار للإنسان في أن يختار الدين الذي يريد اعتناقه بل إكراه. وتحرير اختيار الإنسان ؛ إنما ينشأ بإزاحة العقبات التي تفرض عليه دينا آخر، ثم يستقبل الإنسان الأديان كلها، فيختار بحرية الدين الذي يرتضيه.
إذن : فالإسلام لم يفرض بالسيف، وإلا فمن الذي فرض الإسلام على الذين سبقوا إليه حين كان ضعيفا لا يملك أن يحمي من دخل فيه ؟ !.
وما دام الجاد فريضة بهذا المعنى، فكل مسلم مكلف بأن يجاهد، إما فرض عين-إن غلب المؤمنون على أمر مكروه، وإما فرض كفاية- إن قام به البعض سقط عن الباقين. ولم يعذر الله من الجهاد إلا هذه الطوائف ؛ الضعفاء بشيخوخة أو صغر، والمرضى أصحاب الداءات، والذين لا يجدون ما ينفقون، و هم قسمان : قسم لا يجد ما ينفقه على نفسه، وقسم لا يجد ما ينفقه على الحرب، أي : لا يجد أدوات القتال أو الراحة التي يركبها.
ورفع الحق سبحانه الحرج عن هؤلاء، ووظّفهم سبحانه في وظيفة إيمانية تخدم الجهاد بأن يكونوا في عون أهل المجاهدين، ويقمعوا المرجفين الذين يريدون النيل من الروح المعنوية للمسلمين، وأن يردوا عليها، ويخرسوا ألسنة السوء، هذا بالنسبة للذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم خلال الجهاد من طعام وسلاح وغير ذلك٣.
أما الذي يجد ما ينفق، ولا يجد الوسيلة التي تنقله إلى ساحة القتال ؛ فعليه أن يذهب إلى ولي الأمر ليسأله الراحلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قائد الجهاد في حياته، فإن قال لأحد : ليس عندي ما أنقلك عليه إلى مكان القتال. فهذا إذن بالقعود، ولكنه إذن لا يكفي لرفع الحرج عنه، بل يجب أن يعلن بوجدانه انفعاله في حب الجهاد، وحزنه على أنه لم يكن مع الذين يجاهدون.
ولذلك قال الحق :﴿ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ﴾ كلمة " تفيض أعينهم " توضح ما في قلب هؤلاء المؤمنين. والفيض دائما للدموع، والدموع هي ماء حول العين ؛ يهيجه الحزن فينزل، فإذا اشتد الحزن ونفد الدمع وجمدت العين عن البكاء ؛ يؤخذ من سائل آخر فيقال :" بكيت دما ".
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا شدة حزن المؤمنون على حرمانهم من الجهاد، فلم يقل سبحانه وتعالى :" فضت دموعهم "، ولم يقل : " بكوا دما بدل الدموع "، وإنما قال :﴿ وأعينهم تفيض ﴾، فكأن العين ليس فيها ماء، ولا دم، ولم يعد إلا أن تفيض العين على الخد، وذاك إظهار لشدة الحزن في القلب، وهذا المجاهد لا لوم عليه ولا ذنب ؛ لأنه فعل ما في وسعه وما في طاقته وعبر عن ذلك بحرقة مواجيده على أنه لم يكن من أهل الجهاد.
٢ الجهاد يكون فرضا عينيا إذا حصل الاعتداء واحتلت من الأعداء البلد ويكون فرض كفاية إذا حدث اعتداء ولم تحتل البلد وكذلك لنشر دعوة الله فيكون الجهاد بالإقناع والدليل، لأن الإسلام لا يعرف السيف إلا عند الإعتداء ووقوع الظلم على المسلمين من الغير..
٣ وذلك بالإعلام الديني وتحجيم الإشاعات الكاذبة..
هناك قال سبحانه :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ الذين كانت لهم أعذارهم في التخلف عن الجهاد، ولكن كانوا محسنين في تخلفهم هذا فقال تعالى :﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾. إذن : فعلى من يكون السبيل ؟.
وهنا تأتي إجابة الحق سبحانه :﴿ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ﴾أي : أن طريق الإثم واللوم والتعنيف والتوبيخ إنما يتجه إلى هؤلاء الأغنياء في أن يقعدوا عن القتال، ونعلم أن الغني إذا أطلق ينصرف إلى غنى المال، ولكن الغني إذا جاء بالمعنى الخاص، يكون معناه ما يدل عليه النص. فالذي لا يجد ما ينفقه أعفى. إذن : فمن يجد ما ينفقه فهو غني بطعامه. والضعيف قد أعفي، إذن : فالقويّ غنيّ بقوته. والمريض أعفى، إذن : فالصحيح غني بصحته. ومن لا يجد ما ينقله إلى مكان فقد أعفي، إذن : فمن يملك راحة فهو غني براحته. وعلى ذلك لا تأخذ كلمة " الغني " على المال فقط، بل انظر إلى من تنطبق عليه شروط الجهاد ؟ إذن : فاللوم والتوبيخ والتعنيف والإثم على الأغنياء بهذه الأشياء، وطلبوا أن يقعدوا عن الجهاد.
ولسائل أن يقول : ولماذا يستأذنون وهم أغنياء ؟.
نقول : لأنهم منافقون، وقد وضعهم نفاقهم في موضع الهوان، حتى قال الحق سبحانه وتعالى عنهم :﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ ومن يرض أن يكون وضعه مع الخوالف، فهو يتصف بدناءة النفس وانحطاط الهمة ؛ فهم رضوا أن يعاملوا معاملة النساء، والخوالف-كما نعلم- جاءت على مراحل، فهم قالوا :
﴿ ذرنا نكن مع القاعدين ( ٨٦ ) ﴾ ( التوبة ).
وقلنا من قبل : إن القعود مقابل القيام، والقيام من صفات الرجولة ؛ لأن الرجل قيّم على أهله. والقعود للنساء، والخوالف ليست جمع خالف، وإنما هي جمع " خالفة "، ولا يجمع بها إلا النساء، وكذلك كلمة " القواعد " يقول سبحانه :﴿ والقواعد من النساء... ( ٦٠ ) ﴾ ( النور ) أي : أنهم ارتضوا لأنفسهم دناءة وخسة ؛ فتنازلوا عن مهام الرجال، وارتضوا أن يكونوا مع النساء هربا من القتال ؛ والشاعر يقول :
وما أدري ولست إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
أي : " القوم " في مقابل " النساء ".
ثم يعلمنا الحق سبحانه وتعالى بعقابهم، فيقول :﴿ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾.
وفي الآية السابقة يقول سبحانه :﴿ وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون... ( ٨٧ ) ﴾ ( التوبة )
ما الفرق بين النصين ؟.
إذا رأيت فعلا تكليفيّا مبنيا للمجهول، كقوله تعالى :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم... ( ٢١٦ ) ﴾ ( البقرة ).
وقوله سبحانه :{ كتب عليكم الصيام... ( ١٨٣ ) ( البقرة ).
قد يقول قائل : كان المفروض أن يقال :" كتب الله عليكم القتال " و " كتب الله عليكم الصيام "، لأنه صار أمرا لازما مفروضا، فكان الأولى أن يقول : كتب الله، أي أن الذي يفرض هو الله. رغم أن الحق سبحانه هو الذي يكلف، إلا أن كل التكليفات تأتي بصيغة المبني للمجهول كقوله تعالى :﴿ كتب القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى... ( ١٧٨ ) ﴾ ( البقرة ).
وقوله سبحانه :{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين.... ( ١٧٨ ) ( البقرة ).
والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف كافرا بأي تكليفات إيمانية ؛ فسبحانه لم يكلف بأي حكم من أحكام الإيمان إلا من آمن وأسلم له ؛ لذلك فعندما يخاطب سبحانه بالتكليف يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم... ( ١٦٨ ) ﴾ ( البقرة ).
ومن هذا نعلم أنه سبحانه لم يكتب فرضا أو مهمة على من لم يؤمن، والإنسان يدخل في الإيمان باختياره، فإذا دخل في الإيمان كتب الله عليه. إذن : فالإيمان هو مدخل الفريضة. وما دمت قد آمنت فقد أصبحت طرفا فيما فرضه الحق سبحانه وتعالى عليك ؛ لأنك لو لم تؤمن فليست عليك فرائض، إذن : فأنت الذي ألزمت نفسك بحكم الله ؛ لأنك آمنت به إلها خالقا معبودا. وبإيمانك أنت ؛ فرض الله عليك، فأنت طرف في كل فريضة عليك. ورغم أنه سبحانه وتعالى هو الذي فرض، فقد أحبّ فيك أنك دخلت في نطاق التكليف بإيمانك، فبنى الفعل للمجهول.
وإذا جئنا إلى قوله سبحانه وتعالى :﴿ طبع على قلوبهم ﴾ نجد أن الحق يلفتنا هنا إلى أن المنافقين هم الذين جلبوا لأنفسهم هذا الطبع على القلوب ؛ لأنهم وضعوا في قلوبهم الكفر، ثم أخذوا يتحدثون بألسنتهم عن الإيمان، ويحاولون خداع المؤمنين، ويخادعون الله، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لهم : ما دمتم قد اخترتم النفاق والكفر في قلوبكم ؛ فسنطبع على هذه القلوب، ونختم عليها حتى لا يخرج الكفر منها ولا يدخل إليها الإيمان.
فسبحانه وتعالى-إذن- هو الذي طبع على قلوبهم، ولكن بعد أن ملأوا قلوبهم بالكفر ونافقوا، وهم الذين تسببوا بهذا الطبع لأنفسهم، بعد أن بدأوا الكفر، فطبع الحق سبحانه وتعالى على قلوبهم بما فيها من مرض، ولو لم يبدأوا بالكفر لما طبع الله على قلوبهم ؛ ولهذا جاء الفعل مبنيا للمجهول، فهم مشتركون فيه.
أما الآية التي نحن بصددها فيقول تعالى :
﴿ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾ وساعة ينسب الطبع إلى الله يكون أقوى طبع على القلوب، ويأتي الطبع من الله سبحانه وتعالى كحكم نهائي من الله قضى عليهم به، فلا يخرج من قلوبهم ولو كان قدرا ضئيلا من النفاق، ولا تغادر قلوبهم ذرة من كفر، ولا يتسرب إلى قلوبهم ذرة من إيمان ؛ لأنهم لا يعلمون قدر الإيمان الحق، والإنسان قد لا يفهم شيئا، أي لا يفقهه، ولكن قد يفهمه غيره ويعلمه هو عنه. لذلك فنفي أو الفهم لا ينفي العلم، ولكن حين ينفي العلم فهو ينفي الفهم عن الذات، وينفي الفهم عن الغير، ولذلك حين يقال :﴿ لا يفقهون ﴾ أي : لا يفهمون بذواتهم، ولكن قد يتعلمون. إذن : نفي العلم ينسب إلى طبع الله على قلوبهم، أما نفي الفقه فينسب نسبة عامة للفعل المجهول.
فعندما نفى الحق سبحانه وتعالى الفقه عنهم بالفعل المبني للمجهول أوضح أنهم بنفاقهم لا يفقهون، ولكنه سبحانه وتعالى لم ينف احتمال أن يعلموا من غيرهم في المستقبل. ولكن عندما قال الحق :﴿ فهم لا يعلمون ﴾ قد نفى عنهم-أيضا- العلم بذواتهم، وكذلك نفى قدرتهم على العلم من غيرهم، وهذه أقوى أثرا، وبذلك يكون الطبع على قلوبهم أقوى ؛ لأنهم رفضوا العلم من ذواتهم ورفضوه من غيرهم.
ولذلك نجد ﴿ لا يفقهون ﴾ في موضع، ونجد ﴿ لا يعلمون ﴾ في موضع لآخر، وكل تناسب موقعها الذي قيلت فيه.
﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون( ٩٤ ) ﴾.
معنى " يعتذر " أي : يبدي عذرا عن شيء يخرجه من اللوم أو التوبيخ، ويقال :" اعتذر فلان " أي : فعل شيئا مظنة أنه ذم، فيريد أن يعتذر عنه.
والحق هنا يقول :﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ﴾ وفي آية سابقة يقول مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم.... ( ٨٣ ) ﴾ ( التوبة ).
وهكذا نلاحظ أنه سبحانه حين نسب الرجوع إلى الصحابة والمجاهدين قال :﴿ رجعتم ﴾، وعندما نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :﴿ فإن رجعك الله ﴾ مما يدلنا على أن زمام محمد صلى الله عليه وسلم بيد ربه وحده، ولكن زمام أتباعه يكون باختيارهم.
وهنا يقول الحق :﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ﴾ ويأتي بعدها ذلك الرد الواضح على محاولة المنافقين في الاعتذار :﴿ قل لا تعتذروا ﴾، وفي هذا رد حاسم، فأنت حين يعتذر إليك إنسان فقد تستمع لعذره ولكنك لا تقبله، ومجرد استماعك للعذر معناه أن هناك احتمالا في أن يكون هذا العذر مقبولا أو مرفوضا. ولكن حين ترفض سماع العذر، فمعنى ذلك ألا وجه للمعذرة.
والحق سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ فكأنما ساعة أقبل المنافقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ؛ وتهيأوا للاعتذار ؛ وقبل أن ينطقوا بالعذر ؛ أوضح لهم الرسول عليه الصلاة والسلام : لا تعتذروا، ورفض مجرد إبدائهم للعذر. ثم فاجأهم بالحكم في قوله تعالى :﴿ لن نؤمن لكم ﴾ ومادة " آمن " تدور حول عدة معان، نقول " آمن " أي : اعتقد وصدق مثل قولنا : آمنا بالله "، ويقال :" آمن بالشيء " أي : صدقه، و " آمن بكذا " أي : صدق ما قيل. والحق هو القائل :
﴿ فما آمن موسى.... ( ٨٣ ) ﴾ ( يونس )وقال إخوة يوسف لأبيهم :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين( ١٧ ) ﴾ ( يوسف )أي : لن تصدقنا. وآمن إذا تعدت بالباء فمعناها الاعتقاد، وإن تعدت باللام فمعناها التصديق، وإن تعدت بغير الباء وغير اللام فمعناها إعطاء الأمان، مثل قوله تعالى :﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ( ٣ ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف( ٤ ) ﴾ ( قريش )،
وتجيء " آمن " و " أمن " بمعنى الائتمان، مثل قول الحق سبحانه وتعالى على لسان يعقوب :
{ هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.... ( ٦٤ ) ( يوسف ).
إذن : ف " آمن " تعدت بالباء فيكون معناها الاعتقاد الإيماني، وإن تعدت باللام فمعناها التصديق، وإن تعدت بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسلام والاطمئنان، وإن تعدت بالمفعول أيضا، معناها القدرة على أداء الأمانات، مصداقا لقول الحق :
﴿ ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما... ( ٧٥ ) ﴾ ( آل عمران )
وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ أي : لن نصدقكم. فقد جاء المنافقون ليعتذروا بأعذار كاذبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض مجرد سماع الاعتذار، وأعلن لهم : لن نصدقكم. ولو امتلك المنافقون ذرة من ذكاء لفهموا أن رب محمد عليه الصلاة والسلام قد أخبره بكل شيء ؛ حتى بما في قلوبهم قبل أن ينطقوه، ولو امتلكوا ذرة من فطنة لرجعوا عن نفاقهم، ولدخلوا في الإيمان، ولكنهم لم يستوعبوا الدرس، فجاء الحق سبحانه وتعالى بالأمر واضحا في قوله سبحانه :﴿ قد نبأنا الله من أخباركم ﴾ فكأن المسألة ليست فراسة استنتاج، ولكنها وحي من الله.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾.
ما هو العمل الذي سيراه الله سبحانه وتعالى ورسوله، بعد أن رفض رسول الله عذرهم، وأخبرهم بأن الله قد أخبره بما يخفوه من كذب في صدورهم ؟ فسبحانه العالم بالسرائر كلها، لقد شاء سبحانه ألا يغلق أمامهم باب المرجع إليه، وكان يجب من بعد ذلك أن يرتدعوا وأن يتيقنوا أن رب محمد صلى الله عليه وسلم لا تخفى عليه حتى نواياهم. وما دمت قد علمتهم صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أبلغكم به، أصبح عليكم-إذن- أن ترجعوا وتخرجوا من دائرة النفاق لتدخلوا حظيرة الإيمان ؛ وتراكم الدنيا من بعد ذلك وقد اختلفت أعمالكم من النفاق إلى الإيمان، أما إن أصررتم على مالا أنتم فيه ؛ فمعنى ذلك أنكم لم تستفيدوا من العملية الإعجازية التي أنبأ الله فيها رسوله بكذبكم.
إذن : فقد فتح الله باب التوبة أمامكم رحمة منه سبحانه، فانتهزوا هذه الفرصة ؛ لأنه سبحانه سيرى أعمالكم في المستقبل، وعلى أساس هذه الرؤية يرتب لكم الجزاء على ما يكون منكم.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم١ بما كنتم تعملون( ٩٤ ) ﴾ ( التوبة ).
وما دام سبحانه عالم الغيب، فمن باب أولى أنه عليم بعالم الشهادة. والغيب –كما نعرف- هو ما غاب عنك، فلم تعرف عنه شيئا لكن إن غاب عنك ولم يغب عن غيرك فهو غيب نسبي ؛ لأن هناك حجبا منعت عنك العلم، والمثال : إن سرق منك شيء فأنت لا تعرف السارق ؛ ولكن السارق نفسه يعرف، ومن يشاركه يعرف. والذي أخفى السارق عنده المسروقات يعرف. والذي ابتاع المسروقات يعرف.
إذن : فهو غيب عنك وليس غيبا على غيرك. أما الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك، وهناك من يلجأ إلى الدجالين ممن يدّعون قراءة الأفكار، ويسمونهم المنوّمين المغناطيسيين، ويطلب المنوّم من أي واحد أن يخرج ما في جيبه من نقود وأن يقوم بعدّها، ثم يخبره بعددها، وإن أردت أن تكشف ألاعيبه ؛ ضع يدك في جيبك وأخرج كمية النقود لا تعرف أنت مقدارها، واسأله عن هذا المقدار فلن يعرف ؟ لماذا ؟ لأنك نقلت المسألة من غيب قد يعرفه غيرك إلى غير مطلق.
إذن : فالغيب٢ المطلق هو ما غاب عنك وعن غيرك، وهو أيضا ما لا تكون له مقدمات توصلك إليه، فأنت إذا أعطيت ابنك تمرينا هندسيّا ليحله ؛ فالحل غيب عنه ساعة يقرأ المسألة، ثم يستخدم المقدمات والنظريات حتى يصل إلى الحل، فكأن هناك أشياء لها مقدمات توصل إلى النتائج، وهذه ليست غيبا ؛ لذلك لا يقال لمن اكتشف الكهرباء الذي اكتشف تفتيت الذرة أنهما علما الغيب. فقد كانت هناك مقدمات في الكون أوصلتهما إلى كشف بعض القوانين الموجودة بالفعل، لكننّا لم نكن نعرفها.
وفي بعض التدريبات، نجد من يضع المسألة المطلوب حلّها، ويضع النتيجة الأخيرة بجانبها لأنه لا يهدف إلى معرفة النتيجة، ولكنه يهدف لتعليم التلميذ كيف يصل إلى أسلوب الحل الصحيح.
ولذلك إذا أردت أن تحل شيئا في الهندسة مثلا، فلا بد لك من معطيات توصلك إلى الحل ؛ كأن يطلب منك-مثلا- إثبات أن الخطين متوازيان، وفي هذه الحالة يجب أن تكون كل زاويتين متناظرتين متساويتين، وكل زاويتين متبادلتين متساويتين. إذن : فأنت قد أخذت مقدمات أو معطيات أوصلتك إلى النتيجة، وكذلك في تساوي ضلعي المثلث أو أضلاعه ؛ يكون إثباته بتساوي الزوايا. فهل في هذه الحالة يقال : إنك اهتديت إلى الغيب ؟ أم أنك استخدمت مقدمات أوصلتك إلى نتائج ؟.
وأنت حين تبرهن على صحة النظرية المباشرة، تقول : إن هذا يساوي هذا حسب النظرية رقم تسعة مثلا، وإن هذا مقابل لهذا حسب النظرية الجديدة، وإذا وصلت في براهينك إلى نظرية رقم واحد فهي النظرية التي لا مقدمات لها، ولا بد أن تكون بديهية.
وهكذا نجد أن كل علم في هذا الكون بني على نظريات أو مقدمات بديهية، ثم تطورت بعد اكتشاف ما أودعه الله في كونه من أسرار٣. أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقول عن نفسه :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ أي أنه سبحانه عالم بالغيب المطلق، الذي لا توجد له مقدمات توصلنا إليه ؛ ولذلك لا نستطيع أن نعرف الغيب المطلق ؛ لأنه ليس معروفا عند البعض، ومجهولا عند غيرهم، وليس له مقدمات توصلنا إليه، لأنه الغيب الذي ينفرد به الحق عز وجل.
ونجد الحق سبحانه يقول :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا( ٢٦ ) إلا من ارتضى من رسول... ( ٢٧ ) ﴾ ( الجن ).
فسبحانه عالم الغيب المطلق، وهو يختلف عن الغيب المستور عن البعض، ويقول الحق من مواعيد الكشف عن أسرار الغيب المستور :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.... ( ٢٥٥ ) ﴾ ( البقرة ).
وحين يشاء الله أن يكشف عن بعض أسرار الغيب فهو يحدد الوقت الذي يشاؤه لذلك، كل شيء في الكون له ميعاد ميلاد، مثل : الكهرباء، والذرة، والوصول إلى القمر، وغزو الفضاء، وهذه كلها أشياء لها مواعيد ميلاد. ويبحث العلماء عنها باستخدام المقدمات، ولكنهم لا يصلون إلى سر ميلاد أي اكتشاف إلا بإذن الله حين يلفتهم إلى هذا السر ؛ إما بالبحث العلمي، وإما أن يتم معرفته صدفة.
وهكذا نجد أن البشر يحاطون علما بهذه الأسرار بعد مقدمات وبإذن من الله.
وما دام الحق سبحانه هو عالم الغيب ؛ فيكون سبحانه عالما بالشهادة٤ من باب أولى، وقد يظن ظان أنه إن جلس في مكان معزول مستور ويفعل ما يريد، فلن يشهده الله، لأنه قد يفعل ما يريد دون أن يراه أحد لكن ذلك غير حقيقي ؛ لأن الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة، فلا يوجد مستو ر عنه في هذا الكون، فلا الغيب يغيب عن علمه، ولا العالم المشهور عن علمه.
وما دام قد جاء الحق هنا بقوله :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ فلا بد أن يأتي بعدها ﴿ ينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ أي : يخبركم مقدما بجزاء ما ستفعلونه من خير أو شر حتى لا يقول أحد : إنه لم يعرف، أو أنه لو علم أن فعله يؤدي إلى الشر لما فعل ؛ وحتى يكون كل إنسان شهيدا على نفسه ؛ لأن الله أبلغه بالجزاء، فيكون الجزاء عدلا لا ظلما.
ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) ﴾ ( الإسراء )فأنت الذي تحكم على نفسك.
٢ الغيب: مصدر ويسمى به ما غاب واستتر. قال تعالى:﴿الذين يؤمنون بالغيب (٣)﴾ (البقرة) والغيب: هو ما غاب عن العيون كالجنة و النار والملائكة والجن، وجمعه: غيوب قال تعالى:﴿إنك أنت علام الغيوب (١٠٩)﴾ (المائدة) وهذا هو الغيب المطلق.
أما الغيب النسبي: فهو الذي يغيب عنك ولم يغب عن غيرك، وقد تعرفه عند الأذن بميلاده..
٣ هذه الاكتشافات التي عرفت من المقدمات والنظريات والتجارب لا يطلق عليها أنها غيب-وإن كانت غائبة قبل التعامل مع المقدمات أو التجارب، فهذا لجهلنا بالتعامل مع العلم، وأن ميلاد ظهورها لم يحن بعد، فهذا بتقدير العزيز العليم..
٤ الشهادة: خبر قاطع، والشاهد اسم فاعل وجمعه شهد (كراكع وركع) وجمع الجمع: شهود أو شهود: جمع شاهد، مثل: قاعد وقعود. والشهادة بمعنى ما يشاهد بالمذكرات والوجدانيات للوصول إلى الاختيار، ذلك عند الإنسان، أما بالنسبة لله سبحانه فهو عالم الغيب والشهادة فهو (علام الغيوب)لأنه خالقها فهو أعلم بغيبها وظاهرها..
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ( ٩٥ ) ﴾.
وكلمة ﴿ سيحلفون ﴾ فيها سر إعجازي من الله لأن حرف " السين " هنا تدلنا على أنهم لم يحلفوا بعد، أي أن الآية نزلت وقرئت وسمعها المؤمنون والمنافقون قبل أن يحلف المنافقون، وآيات القرآن تتلى وتقرأ في الصلاة، ولا تتغير ولا تتبدل إلى يوم القيامة.
ولو كان للمنافقين قدرة على التدبر لما جاءوا وحلفوا. ولقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قرآن يوحى إليه : إننا سنأتي نحلف، ونحن فلن نأتي ولن نحلف ؛ ولكن الله هو القائل وهو الخالق وهو الفاعل، فقد شاء أن تغيب الفطنة عن أذهانهم، مثلما قال سبحانه من قبل :{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم.... ( ١٤٢ ) ( البقرة )
وهم قد قالوا ذلك بعد نزول الآية١.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا :﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ﴾ والانقلاب معناه التحول من حال إلى حال. ومعنى الانقلاب في هذه الآية مقصود به العودة إلى المدينة مقر السلام والأمن بعد الحرب، فكأن الاعتدال في القتال والانقلاب في العودة إلى المدينة. ولكن لماذا سيحلف المنافقون بالله للمؤمنين ؟ يقول الحق سبحانه :﴿ لتعرضوا عنهم ﴾ أي : لتعرضوا عن توبيخهم ولومهم وتعنيفهم ؛ لأنهم لم يجاهدوا معكم.
فقال الحق :﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي أعطوهم مطلوبهم من الإعراض ولكنه لون آخر من الإعراض، فلا تلوموهم ولا توبخوهم ولا تؤثموهم، بل أعرضوا عنهم إعراض احتقار وإهانة، لا إعراض صفح ومغفرة٢ ؛ جزاء لهم على ما فعلوا ؛ لأن التأنيب والتوبيخ هما من ألوان الجزاء على المخالفة، ولكنه قد يحمل الأمل في المخالف ليعود إلى الصواب. فأنت إن لم يذهب ابنك إلى المدرسة مثلا توبّخه وتعنّفه، وأنت تفعل ذلك لأنك تأمل في أن ينصلح حاله، ولكن إذا استمر على مثل هذا الحال فأنت تهمله، والإهمال دليل على أنك فقدت الأمل في إصلاحه.
كذلك كان الأمر بالنسبة للمنافقين. لو أن التوبيخ والإهانة كانت ستجعلهم يفيقون ويعودون إلى حظيرة الإيمان، فهذا دليل على أن هناك أملا في الإصلاح، وهم لن ينصلح حالهم، وهم في ذلك يختلفون عن المؤمنين، فالمؤمن إن ارتكب إثما فهو يستحق العتاب والتوبيخ من إخوته في الإيمان، وفي هذا إيلام له. والمؤمن عرضة أن تصيبه غفلة فيرتكب إثما، فإذا حدث بعد الإثم إيلام له من نفسه، أو بواسطة إخوانه المؤمنين، فهو يفيق ويشعر بالذنب، وشعوره بالذنب وصول به إلى التوبة.
أما هؤلاء المنافقون فلا ينفع معهم التوبيخ أو الإيلام النفسي ؛ لأنهم لن يعودوا أبدا على حظيرة الإيمان، لذلك جاء الأمر : فأعرضوا عنهم ؛ لأنهم لا يستحقون-حتى- اللوم، فالتوبيخ جزاء على ذنب قد يقلع عنه من ارتكبه. ولكن هؤلاء لا أمل فيهم، والعلة يأتي بها القرآن :﴿ إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ والرجس يطلق على معان متعددة، وقوله :﴿ إنهم رجس ﴾ أي : هم الخباثة بذاتها، ويقول العلماء : أي أن فيهم خبثا وقذارة. وأقول : إن الرجس هو القذارة نفسها، فلا نقول : إنهم قذرون ؛ لأننا إن قلنا ذلك فالمعنى يفيد أنهم طهر أصلبهم قذر، وهم ليسوا كذلك، إنهم " قذر " في حد ذواتهم، ولا يطهرهم شيء، لأن الذي يخرج من القذارة يكون مثلها ؛ فهم خباثة لا يطهرها لوم أو توبيخ. وأطلق الرجس هنا مثلما قال الحق :﴿ إنما المشركون نجس٣... ( ٢٨ ) ﴾ ( التوبة )
ولم يقل :" نجسون " بل هم أنفسهم نجس.
والرجس يطلق أيضا على الشيء القذر حسيا ؛ مثل الميتة، والحق سبحانه يقول :﴿ قل لا أجد ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به... ( ١٤٥ ) ﴾ ( الأنعام )
إذن : فالميتة قذارة حسية، كذلك الخمر، التي يقول فيها الحق :
﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان... ( ٩٠ ) ﴾ ( المائدة )
فالخمر نفسها رجس، أي : قذارة حسية، وعطف عليها الحق-سبحانه- الميسر والأنصاب، والأزلام٤، وأخذوا حكم الخمر، وهكذا نفهم أن الخمر رجس حسي، بينما الأنصاب والأزلام والميسر رجس معنوي.
وهناك أيضا الرجز، ويطلق على وسوسة الشيطان، فالحق يقول :
﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان... ( ١١ ) ﴾ ( الأنفال ).
إذن : فالرجس له متعلقات ؛ معناه هنا الكفر، والكافر هو قذارة في حد ذاته لا أنه إنسان أصابته قذارة.
ويقول الحق :﴿ فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ والمأوى : هو المكان الذي يؤويك من شر يلحقك، ويقال : " آوى إلى كذا " أي : هرب من شر يراد به، فإذا كان المأوى الذي يفزعون إليه هو جهنم، فمعنى ذلك أنهم بحثوا عن منفذ فلم يحدوا منفذا إلا أن يدخلوا جهنم، وهي بطبيعة الحال بئس المصير.
وهل ذلك افتئات٥ عليهم أو جزاء ؟ يقول الحق :﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ ونعرف أن الحسنة يقال عنها : " كسب "، والسيئة يقال عنها " اكتسب " ٦، والحق هو القائل :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت... ( ٢٨٦ ) ﴾ ( البقرة ).
وذلك لأن عمل الحرام المخالف لمنهج الله لا بد أن يشوبه الافتعال أما عمل الحلال فهو أمر فطري لا يكلف النفس مشقة، ولا تتنازع فيه ملكات، ولكن بعض الناس الذين يعملون السيئات يألفونها إلفا حيث تصبح سهلة ؛ فلا تكلفهم شيئا، ويعتبر الواحد منهم السيئة كسبا، وكأن تأتي لإنسان، فيحدث بمغامراته في الخارج، ويروي عن رحلاته في باريس ولندن، وما فعل فيهما من منكرات، ولا يعلم أنه يحكي عن مصائب وقع فيها باختياره.
مثل هذا الإنسان يفعل السيئة، وهو معتاد عليها ؛ فتصير كسبا. وهو عكس إنسان آخر وقعت عليه المعصية ؛ فيظل يبكي ويبكي ويبكي، ويندم، وقد يضرب نفسه كلما تذكر المعصية، ويندم عليها٧. فالأول فرح بخطاياه ومعاصيه واعتبرها كسبا، وصارت له دربة وله رياضة وله إلف بتلك المعاصي.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين( ٩٦ ) ﴾.
٢ إعراض الصفح والمغفرة قد ورد في القرآن الكريم في قوله سبحانه في سورة يوسف من قول العزيز ليوسف:﴿يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين﴾ (يوسف: ٢٩) أي: اصفح يا يوسف عما حدث واتهمك به المرأة ولا تذكره لأحد..
٣ نجس ينجس نجسا. فهو نجس لحقه دنس أو قذر، وهو في المحسوس حقيقة وفي المعنوي مجاز، ويوصف بالمصدر للمبالغة فيستوي فيه المفرد وغيره، وقال تعالى:{إنما المشركون نجس(٢٨) (التوبة) والنجاسة هنا معنوية فهو الكفر والضلال.
.
٤ الأزلام: سهام لا ريش لها، مكتوب على بعضها: افعل، والبعض الآخر، لا تفعل، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا أتى سادن الكعبة فقال: أخرج لي زلما، فإن خرج ب "افعل" فعل، وإن كانت "لا تفعل" لم يفعل..
٥ الإفتئات: الاختلاق والقول بالباطل..
٦ تعتبر السيئة كسبا عند هؤلاء لأنها أصبحت عادة عندهم..
٧ عن عبد الله بن مسعود قال:"إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابة مرت على أنفه فقال به كذا" أي: نحاه بيده أو دفعه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٣٠٨) وأحمد في مسنده (١/٣٨٣) والترمذي (٢٤٩٧). قال ابن حجر في الفتح (١١/١٠٥) "هذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح ويخشى من صغير عمله السيء"..
ولماذا يحلف المنافقون٢. وتأتي الإجابة من الحق :﴿ لترضوا عنهم ﴾ وماذا يحقق رضا المؤمنين لهؤلاء المنافقين ثم هل للمؤمن رضا من خلف رضا رسول الله ؟ وهل لرسول الله رضا من خلف رضا ربه ؟.
إن ما يفرح هو رضا من يملك النفع، فأنتم حين ترضون عنهم بعد أن يحلفوا لكم، وتقتنعوا ببشريتكم ؛ فترضوا عنهم، فليس لكم رضا ينفعهم، ولا لرسول الله رضا من وراء رضا ربه، فالرضا الحق هنا هو رضا الله، فإياكم أن يخدعوكم بمعسول الكلام، وزيف الأساليب ؛ كي ترض ترضوا عنهم : ثم يقول الحق :﴿ فإن ترضوا عنهم ﴾ أي : إن تحقق هذا الرضا منكم عنهم، فهو رضا بعيد عن رضا الله ورسوله، وليس من باطن رسول الله، ولا من باطن رضا الله، لذلك ينهي الحق الآية بقوله :﴿ فإن الله لاذ يرضى عن القوم الفاسقين ﴾ وإن لم يرض الله فرضاكم لن ينفعكم، وطلبهم الرضا منكم غباء منهم، فإن ورضاكم عنهم لن يقدم، ولن يؤخر ؛ إلا إن كان من باطن رضا الله، ورضا رسوله.
وهنا ملحظ : هم فاسقون أم كافرون ؟ نقول : إن الحق سبحانه أوضح لنا :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار... ( ٢٤٥ ) ﴾ ( النساء )أي أن مكان المنافق في النار من مكان الكافر. وكيف يكون المنافق فاسقا مع أن المؤمن قد يكون فاسقا ؟ فالمؤمن قد يفسق بأن يرتكب كبيرة من الكبائر، وسبحانه يقول :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله... ( ٢ ) ﴾ ( المائدة )فالمؤمن قد يسرق، وقد يزني أيضا. فسبحانه يقول :
﴿ الزانية والزاني... ( ٢ ) ﴾ ( النور ).
وما دام سبحانه قد جرم الفعل، ووضع له عقوبة ؛ فمن الممكن أم يرتكبه المؤمن، ولكن علينا أن نفرق بين الفاسق والعاصي، فمن يرتكب الكبائر فهو فاسق، ومن يرتكب الصغائر فهو عاص. فكيف يصف الله المنافقين بالفسق٣ ؟ ولنذكر ما نقوله دائما من أن الكفر، إنما هو كفر بمحمد وبالإسلام، والفسق إذا جاء مع الكفر فهو ليس فسق وارتكاب المعصية والإنسان على دين الإسلام، لكنه الخروج عن الطاعة حتى في الأديان التي يتبعها أي قوم، فالأديان كلها تضم قدرا من القيم، وأتباعها محاسبون على القيم التي في أديانهم، ولكنهم أيضا يفسقون عنها.
٢ ذكر القرطبي في تفسيره(٤/٣١٥٦): "حلف عبد الله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وطلب أن يرضى عنه".
٣ الفسق إذا تعلق بالعقيدة فهو كفر، فكل ما يفعله فهو فسوق أي خروج عن أمر الله ومراده، وفسق المؤمن هبوط نفس مؤقت له التوبة، يقول الحق:﴿إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة (١٧)﴾ (النساء).
وقد تكلم الحق من قبل في المنافقين من غير الأعراب، وهم العرب الذين نزل لهم وللناس كافة منهج الله، وهنا يتكلم سبحانه عن الأعراب، فما الفرق بين العرب والأعراب ؟
العرب هم سكان القرى المتوطنون في أماكن، يذهبون منها أو فيها إلى مصالحهم ؛ ويأوون إليها ؛ وهذه مظهرها البيوت الثابتة ؛ والتأهيل المستقر، لكن الأعراب هم سكان البوادي، وليس لهم توطن، ولا أنس لهم بمقام ولا بمكان.
ومعنى ذلك أن كلا منهم ليس له سياسة عامة تحكمه في تلك البادية، وكل واحد منهم-كما يقال- صوته من دماغه، أو من دماغ رئيس القبيلة، وما داموا بهذا الشكل، وليس عندهم توطن ؛ يوحي بالمعاشرة التي تقتضي لين الجانب وحسن التعامل ؛ لذلك يقال عن كل واحد منهم " مستوحش " أي : ليس له ألفة بمكان أو جيران أو قانون عام.
أما الذي يحيا في القرية ويتوطنها فيه جيران، فله قانون يحكمه، وله إلف بالمكان، وإلف بالمكين، ويتعاون مع غيره، ويتطبع بسكان القرية ويألفهم ويألفونه ومع الإلف والائتلاف يكون اللين في التعامل، عكس من يحيا في البادية، فهو يمتلئ يكون اللين في التعامل، عكس من يحيا في البادية، فهو يمتلئ بالقسوة، والفظاظة، والشراسة ؛ لأن بيئته نضجت عليه١ والوحدة عزلته.
فإذا سمعت " أعراب " فاعلم أنهم سكان البادية المشهورون بالغلظة ؛ لأنه لا يوجد لهم تجمع يوحي لهم بلطف سلوك، وأدب تعامل، وكلمة " الأعراب " مفردها " أعرابيّ ". وهناك أشياء الفرق بين مفردها وجمعها التاء، مثل " عنب " و " عنبة " هي المفرد، وقد يفرق بين الجمع والمفرد " ياء " مثل " روم " والمفرد " رومي ".
ف " أعرب " –إذن- هي جمع " أعرابي " وليست جمع عرب. وهؤلاء مقسومون قسمين : قسم له إلف بالحضر ؛ لأن كل أهل حضر قد يكون لهم بادية يلجأون إليها، أي أن الأعرابي حين يذهب إلى البادية يكون لهم بادية يلجأون إليها، أي أن الأعرابي حين يذهب إلى البادية فهو ينزل ضيفا عليهم، ويسمون " المعارف " وكل واحد في البادية قد يكون له واحد في الحضر، إذا اضطر للذهاب للمدينة أو للقرية فهو ينزل عنده.
وهناك قسم آخر لا بادية لهم ولا حاضرة.
وبعد أن تكلم الحق عن العرب ونفاقهم، يتكلم هنا عن الأعراب فيقول :
﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ﴾.
ولماذا هو أشد كفرا ونفاقا ؟ لأنهم يعبدون من مواطن العلم والدعوة٢، وعندهم غلظة، وعندهم جفاء، وقوله سبحانه :﴿ وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ورسوله ﴾ يعني : أحق ألا يعلموا حدود ما أنزل الله٣، لأن عرفان حدود الله ما أنزل الله من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، يأتي من التواصل مع العلم، وهذا لا يتأتى بالتنقل من مكان إلى آخر، بل لا بد من الاستقرار والعلم-كما نعرف- ألا تغيب عن العالم قضية من قضايا الكون ؛ وكل واحد منا يعلم علما على قدر تجربته ومراسه في الحياة، وعلى قدر جلوسه إلى العلماء، لكن الله وحده يعلم علم الجميع.
والعلم عند البشر قد يوظّف، وقد لا يوظّف، وكثير من الناس عندهم العلم لكنه لا يوظّفونه، ومن لا يوظف علمه يصير علمه حجة عليه. أما من يوظّف علمه، ويضع الأمر في محله، والنهي في محله، والحلال في محله، والحرام في محله، والمشتبه يضع له حكما مناسبا، فهو يوصف بالحكيم ؛ لأنه وضع كل شيء في محله. فإذا شرع الله أمرا، فسبحانه قد شرع عن " علم " وعن " حكمة "، وما دام قد شرع يجب ألا نخالفه ؛ لأن كل تشريع ينزله الله على رسوله إنما هو لتنظيم حركة الحياة ؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وخلق كل المخلوقات، إياك أن تدرس أنت أنفك فتشرّع ما يغضب الحق ؛ لأن فساد الكون كله قد جاء من الذين، أرادوا أن يقّننوا للخلق، رغم أنهم لم يخلقوهم. ونقول لهم : دعوا التقنين للخلق لمن خلق الخلق، فهو الصانع العالم بحدود ما صنع ووضع قوانين صيانة ما خلق، وهو سبحانه الذي يمكنه أن يصلحها إن أصابها عطب أو فساد.
ومن هؤلاء الأعراب -الذين هم أشد كفرا ونفاقا، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله- قوم آخرون يقول عنهم الحق :
﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم( ٩٨ ) ﴾.
٢ قد يقول قائل: كيف هذا ونحن نستشهد بأشعارهم ولغاتهم، وعلماء اللغة من الأصمعي وغيره كانوا يجوبون قبائل الأعراب لتعرفهم لغاتهم. يقول أبو يحيى الأنصاري في فتح الرحمان ص (١٧٢):"وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن، لا في ألفاظه، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام، بل في بيان معاني الألفاظ، لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم"..
٣ ومن طريف ما يروى في هذا عن إبراهيم النخعي قال: جلس الأعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم "نهاوند" فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني. فقال زيد: ما يربيك من يدي إنها الشمال، فقال الأعرابي، والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال. فبال زيد بن صوحان: صدق الله ورسوله﴿الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ورسوله﴾ (التوبة: ٩٧).
وأنت تعلم أن الأشياء أعراض في الكون ؛ القوة عرض، والمرض عرض، والصحة عرض، والعجز عرض، وأنت عرضة إن كنت قادرا أن تصير عاجزا، وإن كنت صحيح الجسد فأنت عرضة لأن تمرض، فإذا ما طمأنك المشرع على أن أخاك العاجز حين عجز أخذنا منك له حين قدرت ؛ وبذلك تواجه أنت الحياة برصيد قوي من الإيمان والشجاعة، ويبين الحق لك أنك لا تعيش وحدك، ولكنك تعيش في مجتمع متكافل، إن أصابك شيء من عجز، فقدرة الباقي هي المرجع لك.
وكان الواحد من هؤلاء الأعراب يؤدي نصاب الزكاة وهو كاره ويعتبرها مغرما، ومنهم من كان يتمنى أن تصيب المسلمين كارثة ؛ حتى لا يأخذوا منه الزكاة، وهكذا كان الواحد منهم يتربص بالمسلمين الدوائر، مصدقا لقوله الحق :﴿ ويتربص بكم الدوائر ﴾. أي يتمنى وينتظر أن يصيب المسلمين كارثة ؛ فلا يأخذوا منه الزكاة التي اعتبرها مغرما.
ولماذا قال الحق :﴿ الدوائر ﴾ ؟ نعلم أن الخطب الشديد حين يصيب الإنسان أو القوم إن كان فظيعا وقويّا يقال :" دارت عليهم الدوائر ". أي أن المصيبة أحاطت بهم ؛ فلا منفذ لهم يخرجون منه، وكان بعض من الأعراب يتربصون بالمسلمين الدوائر ؛ لأنهم كارهون لدفع الزكاة ويظنون أنها غرامة، ولا يستوعبون أن الزكاة تكتب في الميزان، وأنها تطهير ونماء للمال، وأنها حمل لعجز العاجز ؛ إن عجز الواحد منهم ؛ فسوف يجد من يحمله.
والذي يتربص بكم الدوائر، ولا يفطن إلى حكمة الأخذ منه، هو الذي تأتي عليه دائرة السوء مصدقا لقوله الحق :﴿ عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ﴾ ؛ لأن أيّا منهم لم يفطن وينتبه لقيمة الوجود في المجتمع الإيماني الذي يعطي له الزكاة إن عجز، فإن تربصت الدائرة بمن يأخذ منك، ولم تفطن إلى أن من يأخذ منك يصح أن يأخذ من الغير لك ؛ فسوف تأتي الدائرة عليك.
وقوله الحق :﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ تبدو كأنها دعوة، ومن الذي يدعو ؟ إنه الله وهناك فرق بين أن يدعو غير قادر، وبين أن يدعو قادر. إن ربنا هو من يقول :﴿ عليهم دائرة السوء ﴾، فدائرة السوء قادمة لهم لا محالة.
وينهي الحق الآية :﴿ والله سميع عليم ﴾، فسبحانه يسمع كلماتهم حين يأتي عامل الزكاة ليأخذ نصاب الزكاة، وكيف كانوا يستقبلونه بما يكره، وقد يكرهون في طي أنفسهم ولا يتكلمون، فإن تكلموا فالله سميع، وإن لم يتكلموا، وكتموا الكراهية في قلوبهم، فالله عليم، إذن : هم محاصرون بعلم الله وسمعه.
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم( ٩٩ ) ﴾.
ومن هؤلاء من يؤمن بالله، ويؤمن باليوم الآخر، وما ينفقه من زكاة أو صدقة فهو يتخذه قربى إلى الله الذي آمن به، وكنزا له في اليوم الآخر، و " قربى " أي : شيء يقرب إلى الله ؛ يدخره له في اليوم الآخر، وقوله الحق :﴿ وصلوات الرسول ﴾ أي : يجعل ما ينفق قربة إلى الله وكذلك طلبا لدعاء الرسول ؛ لأن الصلاة في الأصل هي الدعاء، فساعة يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة للمسلمين الضعاف ممن يعتبرها قربة، فهو صلى الله عليه وسلم يدعو له.
وقد قال صلى الله عليه وسلم :( اللهم اغفر لآل أبي أوفى، وبارك لهم )
وقد دعا بذلك حين جاء له ما تزكى وتصدق به بنو أبي أو في، ودعوة الرسول مجابة إلا ما قال الله إنه سبحانه لا يجيبه١ لحكمة.
ولقائل أن يقول : ألا يعلم من يقدم الزكاة والصدقة قربى، أنه سبحانه غير مستفيد من هذا العمل ؟ ألا يعلم أنها قربى له شخصيّا ؟ نعلم إنه يعلم، ويعلم أن الله يثيبه على أمر ينتفع به الفقراء، وفي هذه إشارة إلى أن كل تكليف من الله إنما يعود نفعه إلى المكلّف لا إلى المكلّف. وما دام العائد إلى المكلّف ؛ فالله يدعوك لصالح ذاته وإلى خير لك.
ومن اعتبرها قربى إلى الله لهم القول الحق :﴿ ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ﴾ وقد قال ذلك للأعراب الذين أنفقوا قربى لله، وطمعا في دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فأوضح لهم سبحانه أنها قربى لهم ؛ لأنهم المنتفعون بها، وأنه سيدخلهم في رحمته. ورحمة الله هي نعيم مقيم، وهي دائمة وباقية ببقاء الله الذي لا يحدّ، أما الجنة فباقية وخالدة بإبقاء الله لها. إذن : فدخولك في رحمة الله أعلى من دخولك جنته.
فحين يقال " دخل في الرحمة " فمعنى ذلك أن الرحمة ستظله إلى ما لا نهاية. وحينما يسمع أي أعرابي قول الحق :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ﴾ ؛ فعندما سمع الأعرابي هذه الآية جلس يحدث نفسه بالعطاءات الإلهية. فيكبح جماح خطرات السوء في نفسه : وبالزلات وبالهفوات التي قد ينطق بها، وقد يقول الأعرابي لنفسه : إني أخاف ألا يغفر الله الخطرات أو السيئات والهفوات، فتأتي الآية مطمئنة له ما دام قد فعل السيئة بغفلة أو بسهو، وعليه أن يعلم أن الله غفور رحيم، ولا داعي أن يعكر على نفسه بالظن بأنه لن يدخل في رحمة الله٢.
لذلك جاء سبحانه بالقول :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ لعل واحدا ممن يسمع هذا، يظن أن الجزاء والقربى والدخول في رحمة الله خاص بمن لم يذنب أبدا، فيوضح له القول : اطمئن. إن كانت قد حصلت منك هفوة أو غفلة، فاعلم أن الله غفور رحيم، فلا يعكر ذنبك إيمانك بأنك سوف تدخل في رحمة الله.
٢ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". أخرجه البخاري في صحيحه (٧٤٠٥) ومسلم (٢٦٧٥)..
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك هو الفوز العظيم ( ١٠٠ ) ﴾..
و " السابق " هو الذي حصل منه الفعل -بصدد ما هو فيه- قبل غيره، وكلنا والحمد لله مؤمنون، ومن آمنوا أولا، ومن آمنوا بعد ذلك كلهم مؤمنون، ولكن هناك أناس سبقوا إلى الإيمان، فهل كان سبقهم سبق زمان أم سبق إتباع ؟ إن سبق الزمان يتحدد في الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ظن ظان أن المقصود بالسابقين هم الذين سبقونا سبق الزمان، فقد يقول منا قائل : وما ذنبنا وقد جئنا بعد زمانهم ؟
ولذلك نقول : إنما السبق يعتبر من معاصر، أي : كان معهم أناس غيرهم وهم سبقوهم ؛ ولذلك جاء القول :﴿ من المهاجرين ﴾ ونعلم أن الذين هاجروا مع الرسول لم يكن كل مسلمي مكة، جاء قوله :﴿ من المهاجرين والأنصار ﴾ وأيضا لم يكن كل الأنصار من أهل المدينة هم من السابقين.
وينحصر المعنى الذين سبقوا إلى الإيمان إلى مكة، وسبقوا إلى النصرة في المدينة، هؤلاء هم ﴿ السابقون ﴾وفي سورة الواقعة يقول الحق :﴿ والسابقون السابقون( ١٠ ) أولئك المقربون( ١١ ) في جنات النعيم( ١٢ ) ﴾ ( الواقعة )، ثم يأتي من بعدهم في المرتبة :﴿ وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( ٢٧ ) ﴾ ( الواقعة )، ثم يحدد الحق هؤلاء فيقول :﴿ ثلة من الأولين ( ١٣ ) وقليل من الآخرين( ١٤ ) ﴾ ( الواقعة )، ولذلك حينما يأتي من يقول : لن يستطيع واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تأخر عن عصر محمد صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى منزلة الصحابة ؛ لأن الله قال :﴿ والسابقون ﴾، نقل له : لا، بل افطن إلى بقية قوله سبحانه :﴿ ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ﴾، وهذا دليل على أن بعضا من الذين جاءوا بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم سينالون المرتبة الرفيعة، وهكذا لم يمنع الحق أن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إل أن تقوم الساعة من يصل إلى منزلة الصحابة.
وقد طمأن النبي صلى الله عليه وسلم الناس الذين لم يدركوا عهده حين قال :
" وددت أني لقيت إخواني " فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أو ليس نحن إخوانك ؟ قال :" أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني " ١.
وهذا قول صادق من المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ لأن منا من تنحصر أمنيته في أن يحج ويزور القبر الشريف. ويضيف صلى الله عليه وسلم في وصف أحبابه :
" عمل الواحد منهم كخمسين ". قالوا : منهم يا رسول الله أم منا ؟ قال : بل منكم ؛ لأنكم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون على الخير أعوانا ".
وهذا ما يحدث في زماننا بالفعل.
ولكن من هم السابقون المقصودون في الآية التي نحن بصددها ؟.
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين ﴾ ونعلم أن السابقين من المهاجرين هم أهل بدر، الذين دخلوا أول معركة في الإسلام، ومع أنهم خرجوا من المدينة، لا ليشهدوا حربا، ولكن ليتعرضوا عيرا تحمل بضائع، ويرجعوا بالغنائم. ومع ذلك دخلوا الحرب، لا مع القوافل التي ضمت العير والحراس والرعاة٢، ولكن دخلوا الحرب مع النفير، وهم من جاءوا ونفروا من مكة، وهم صناديد قريش٣. وهكذا كانت منزلة أهل بدر، أنهم من سبقوا إلى الجهاد في أول معركة للإسلام.
ولذلك حين وشى حاطب بن أبي بلتعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فجاء به صلى الله عليه وسلم وقال له : ما الذي حملك على هذا ؟ وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفتح مكة دون أن يعلم أحد ؛، حتى لا يقاتل المسلمون القادمون بعضا من المؤمنين الموجودين في مكة ولم يعرفهم أحد، لذلك أراد صلى الله عليه وسلم المفاجأة في الفتح، حتى تهبط الشراسة الكفرية، لكن حاطب بن أبي بلتعة كتب خطابا إلى بعض أهل قريش، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ومن معه : اذهب إلى مكان اسمه " روضة خاخ " في الطريق بين مكة والمدينة، فستجد ظعينة ( مسافرة ) معها كتاب أهل مكة، خبأته في عقيصتها٤.
فلما ذهب-رضي الله عنه- ومن معه يبحثون عن المرأة في الموضع الذي ذكره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوا المرأة ولكنها أنكرت أن معها كتابا، فهددوها ؛ فأخرجته من عقيصتها ؛ فوجده من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من مشركي قريش. وعاد به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأحضر النبي صلى الله عليه وسلم حاطبا، وقال له : ما حملك على هذا يا حاطب ؟ قال له : يل رسول الله : أنا لصيق٥ بقريش ولي فيها أهل ومال، وليس لي بها عزوة ؛ فأردت أن أتخذ يدا٦ عند قريش يعرفونها لي ؛ فيحافظوا على أهلي وعلى مالي، وعرفت أن ذلك لا يضرك شيئا وأن الله ناصرك. وما فعلته ينفعني ولا يضرك، قال : صدقت. صدقت. وأراد عمر- رضي الله عنه- أن ينزل عليه بسيفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ٧.
أن أهل بدر دخلوا المعركة بدون عدة، وبدون استعداد، ومع ذلك هانت نفوسهم عليهم، فكأن الله قال : أنتم عملتم ما عليكم، وقد غفرت لكم ما تفعلونه من السيئات.
إذن : فالسابقون من المهاجرين هم أهل بدر وأهل الحديبية، وهم أهل بيعة الرضوان الذين ردوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، ثم عقد النبي صلى الله عليه وسلم مع القرشيين المعاهدة.
والسابقون من الأنصار هم من جاءوا للنبي في مكة، وأعطوا له العزوة وأعطوا له الأمان والعهد، وكانوا اثني عشر في بيعة العقبة الأولى، وخمسة وسبعين في العقبة الثانية٨، هؤلاء هم السابقون، وأضاف الحق إليهم :﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ أي : من يأتي من بعدهم. وسيدنا عمر له وقفة في هذه الآية، فقد كان رضي الله عنه يقرأها هكذا :" والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " أي : يعطف كلمة الأنصار على " السابقون " وكانت قد نزلت :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ﴾ ويكمل سيدنا عمر بعد " والأنصار " " الذين اتبعوهم بإحسان " أي : أنه جعل " الذين اتبعوهم " صفى للأنصار.
وجاء زيد بن ثابت ليقول لسيدنا عمر : " قرأناها على غير هذا الوجه يا ابن الخطاب ". قال : فلماذا ؟ قال :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم ﴾.
فقال عمر : ابعث إلي أبي بن كعب، وكان ابن كعب حجة في القرآن٩ فقال أبي : هكذا سمعتها -كما قال زيد- من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تبيع القرظ١٠ في البقيع. أي أن أبىّ بن كعب كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم بينما عمر يبيع القرظ، فضحك عمر وقال : لو قلت شهدت أنت وغبنا نحن، وقرأها عمر من بعد ذلك كما نزلت١١.
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ خصوصا أن سيدنا أبيّا البصير بالقرآن جاء بأكثر من دليل من غير هذه الآية فقد قال الحق :
﴿ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم... ( ٣ ) ﴾ ( الجمعة ).
وقوله الحق في سورة الحشر :
﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان... ( ١٠ ) ﴾ ( الحشر )وهي معطوفة أيضا١٢.
وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق :
﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ( ١٠٠ ) ﴾ ( التوبة ).
وفي هذا القول ما يطمئن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يأت لنا فقط بخبر الفئة السيئة من المنافقين من العرب، المنافقين من الأعراب، ولكنه أوضح لنا أن هناك أناسا أوصلوا لنا جمال هذا الإيمان.
٢ وذلك أن أبا سفيان قد أخذ طريق الساحل بالعير، فقد قال له أحد عيونه: رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعا،
فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرا بسار، وانطلق أسرع. انظر: سيرة النبي لإبن هشام(٢/٦١٨).
٣ الصناديد هم العظماء الأشداء. وهم هنا: أبو جهل وأمية بن خلف وغيرهما من كبار كفار قريش..
٤ العقيصة: هي نوع قريب م تضفير المرأة لشعرها. قال الليث: العقص أن تأخذ المرأة كل خصلة من شعرها فتلويها ثم تقعدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها..
٥ اللصيق: هو الرجل يقيم في الحي وليس له بهم صلة نسب أو قرابة. وهذا كان حال حاطب. وقد جاء به الحديث..
٦ يدا: أي فضلا عليهم يعرفونه لي عند غزو المسلمين لمكة..
٧ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٣٠٠٧، ٤٨٩٠) ومسلم في صحيحه(٢٤٩٤). عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
٨ انظر عدد من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيعتين الأولى والثانية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (٢/٣٥٤، ٤٣١). أما عند بدء عرض الإسلام عليهم فقد كانوا ستة من الخزرج، ولكنها لم تكن بيعة..
٩ كان أبي بن كعب الأنصاري من أصحاب العقبة الثانية وشهد بدرا والمشاهد، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ليهنك العلم أبا المنذر" أخرجه مسلم في صحيحه (٨١٠) وأحمد بنحوه(٥/١٤٢). وقال له: "إن الله يأمرني أن أقرأ عليك". قال: الله سماني لك؟ قال: الله سماك لي. قال: فجعل أبي يبكي" متفق عليه أخرجه البخاري (٤٩٦٠) ومسلم (٧٩٩) وكان عمر يسميه سيد المسلمين ويقول: اقرأ يا أبي. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (١/١٦) ترجمة: ٣٢..
١٠ القرظ: ورق شجر كانت تدبغ به الجلود في أرض العرب..
١١ انظر تفسير ابن كثير (٢/٣٨٣) والقرطبي (٤/٣١٦٤).
١٢ وقد استشهد أبىّ بن كعب أيضا بآية:﴿والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم...﴾ (الأنفال: ٧٥).
﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلموهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم( ١٠١ ) ﴾.
أوضح سبحانه : وطّنوا أنفسكم على أن من حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، وهذا التوطّين يعطي مناعة اليقظة ؛ حتى لا يندس واحد من المنافقين على أصحاب الغفلة الطيبين من المؤمنين، فينبههم الحق : انتبهوا فأنتم تعيشون في مجتمع محاط بالمنافقين. والتطعيم ضد الداءات التي تصيب الأمم وسيلة من وسائل محاربة العدو، ونحن نفعل ذلك ماديّا حين نسمع عن قرب انتشار وباء ؛ فنأخذ المصل الواقي منه، رغم أنه داء إلا أنه يعطينا مناعة ضد المرض.
وهكذا يربي الحق المناعة بحيث لا يمكن أن يهاجم المؤمنون عن غفلة، فيقول :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾ و " مرد " يمرد أي : تدرب وتمرن، ويبقى الأمر عنده حرفة، وكأن الواحد منهم يجيد النفاق إجادة تامة. وكل ذلك ليوجد مناعة في الأمة الإسلامية ؛، حتى يكون المؤمن على بصيرة في مواجهة أي شيء، فإذا رأى أي سلوك فيه نفاق اكتشفه على الفور. واليقظة تدفع عنك الضر، ولا تمنع عنك الخير.
وافرض أن واحدا قال لك : إن هذا الطريق مخوف لا تمش فيه وحدك بالليل. ثم جاء آخر وقال : إنه طريق آمن ومشينا فيه ولم يحدث شيء، فلو أنك احتطت وأخذت معك سلاحا أو رفيقا فقد استعددت للشر لتتوقاه، فهب أنه لم يحدث شيء، فما الذي خسرته ؟ إنك لن تخسر شيئا. وهذه قضية منطقية فلسفية يردّ بها على الذين يشككون في دين الله، مثل المنجّمين، ومن يدّعون الفلسفة، ويزعمون أنه لا يوجد حساب ولا حشر ولا يوم آخر، فيقول الشاعر :
زعم المنجم والطبيب كلاهما *** لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر *** أو صح قولي فالخاسر عليكما
أي : إن كان كلامكم صحيحا من أنه لا يوجد بعث-والعياذ بالله- فلن أخسر شيئا ؛ لأني أعمل الأعمال الطيبة. وإن كان هناك بعث-وهو حق- فسوف ألقى الجزاء في الجنة ؛ وبذلك لم أخسر، بل كسبت. لكن افرضوا أنكم عملتم الشر كله وجاء البعث فأنتم الخاسرون. والقضية الفلسفية المنطقية هنا هي : إن لم أكسب فلن أخسر، وأنتم إن لم تخسروا فلن تكسبوا.
والحق في هذه الآية يقول :﴿ ممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق... ﴾ وكلمة﴿ وممن حولكم ﴾ تفيد أنكم محاصرون، لا ممن حولكم فقط، بل أيضا ببعض من الموجودين بينكم في المدينة، وهم من تدربوا على النفاق حتى صارت لهم ألفة به.
وهذه الآيات –كما نعلم- قد نزلت تحكي حال المنافقين. والنفاق تتعارض فيه ملكات النفس الإنسانية بأن توجد ملكة كفر في القلب، بينما تجد ملكة إيمان في اللسان فلا يتفق اللسان مع القلب، فالذين آمنوا يوافق ما ينطقون به ما في قلوبهم، والذين كفروا وافقت قلوبهم ألسنتهم.
أما الصنف الثالث : وهم الذين نطقوا بالإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فهؤلاء هم المنافقون، وهو لفظ مأخوذ من " نافقاء الينبوع "، وهو حيوان صحراوي يشبه الفأر، ويخدع من يريد صيده، فيجعل لبيته أو حجره عدة فجوات، فإذا طارد حيوان أو إنسان يدخل من فجوة، فيتوهم الصائد أنه سيخرج منها، ويبقى منتظرا خروجه، بينما يخرج اليربوع من فجوة أخرى، فكأنه خادع الصائد، فالصائد يظن أن للحجر بابا واحدا، ولكن الحقيقة أن للحجر أكثر من مدخل و مخرج. والنفاق بهذه الصورة فيه ظاهرتان : ظاهرة مرضيّة في المنافق وظاهرة صحية في المنافق ؛ ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة، وإنما نشأ في المدينة.
ومن العجيب أن ينشأ النفاق في المدينة التي آوت الإسلام وانتشر منها، وانساح إلى الدنيا كلها، ولم يظهر في مكة التي أرادت أن تطمس الإسلام، وحارب سادتها وصناديدها الدعوة.
إذن : فلا بد أن نأخذ من النفاق ظاهرتين : الظاهرة الأولى وهي الظاهرة المرضيّة، حيث قال الحق :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا... ( ١٠ ) ﴾ ( البقرة ).
أما الظاهرة الثانية فهي الظاهرة الصحية، فقد أصبح الإسلام قويّا بالمدينة غيره عند بدء الدعوة في مكة. إنما ينافق القوى١ ؛ لأن المنافق يريد أن ينتفع بقوة القوى، كما أن المنافق يعرف أنه لن يستطيع مواجهة القوى، أو أن يقف منه موقف العداء الظاهر.
إذن : فالنفاق حين يظهر، إنما يظهر في مجالات القوة، لا في مجالات الضعف، فالرجل الضعيف لا ينافقه أحد، والرجل القوي ينافقه الناس. إذن : فالنفاق ظاهرة مرضية بالنسبة للمنافق، وظاهرة صحية في المنافق.
وأراد الحق سبحانه أن يكشف للمؤمنين أمر المنافقين الذين يتلصصون عليهم، أي : يتخذون مسلك اللصوص ؛ في أنهم لا يواجهون إلا في الظلام، ويحاولون لأن يدخلوا من مداخل لا يراهم منها أحد، ويتلمّسون تلك المداخل التي لا تظهر، ويخفون غير ما يظهرون.
أما مواجهة الكافر فهي مسألة واضحة، صريحة ؛ فهو يعلن ما يبطن ويواجهك بالعداء. وأنت تواجه بجميع قوتك وكل تفكيرك ؛ لأنه واضح الحركة، أما المنافق الذي يظهر الإيمان وفي قلبه الكفر، فهو يتلصص عليك، عليك أن تحتاط لمداخله ؛ لأنه ينتظر اللحظة التي يطعنك فيها من الخلف.
وينبهنا الحق إلى ضرورة الاحتياط، وأن يمتلك المؤمنون الفطنة والفراسة وصدق النظر إلى الأشياء، وعدم الانخداع بمظاهر تلك الأشياء، فكشف لنا سبحانه كل أوجه النفاق ؛ كشف منافقي المدينة حيث يوجد منافقون وغير منافقين، ومنافقي الأعراب الذين يوجد بينهم منافقون وغير منافقين، وعلّم الحق سبحانه المؤمنين كيف يتعرفون على المنافقين بالمظاهر التي تكشف ما يدور في صدورهم.
وسبحانه القائل عن المنافقين :﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول... ( ٣٠ ) ﴾ ( محمد ).
ولكن هناك لون من النفاق، نفاق فني دقيق، يغيب على فطنة المتفطن، وعلى كياسته. ولذلك يوضح لنا سبحانه : أنا لا أكلكم فطنتكم لتعلموا المنافقين، وإنما أنا أعلمه وأنتم لا تعلمونه ؛ لأنهم قد برعوا في النفاق ﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ ورغم فطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكياسته فقد أوضح له الحق أنه سيغيب عنه أمرهم ؛ لأنهم احتاطوا بفنية النفاق فيهم حتى لا يظهر.
لقد عبّر القرآن التعبير الدقيق، فقال :﴿ مردوا على النفاق ﴾ والمادة نفسها في كلمة ﴿ مردوا ﴾ هي من مرد، يمرد، مرودا، وماردا، ومريدا، هذه المادة تصف الشيء الناعم الأملس الذي لا تظهر فيه نتوءات، ومنه الشاب الأمرد، يعني الذي لم ينبت له شعر يخترق بشرته، إذن : المادة كلها تدل على الثبات على شيء، وعدم وجود شيء فيه يخدش هذا الثبات.
ويوضح سبحانه : تنبّهوا، فمّمن حولكم من الأعراب منافقون، وقوله الحق :﴿ وممن حولكم ﴾ يشعر بأنهم محاطون بالنفاق، ولماذا يحاطون بالنفاق ؟ لأن الدعوات الإيمانية لا تظهر إلا إذا طمّ الفساد في بيئته.
ونعلم أن الحق قد جعل في النفس أشياء تطرد الباطل، وإن ألحّ الباطل عليها فترة، تتنبه النفس إليه وتطرده٢. وهؤلاء هم الذين يتوبون، يقترفون الذنب ثم ترجع إليهم نفوسهم الإيمانية فتردعهم. إذن : فالردع إما أن يكون ذاتيّا في النفس، وإما أن يكون في المجتمع للنفس التي لا يأتيها الردع من الذات، فهي نفس أمّارة بالسوء، وهي لا تأمر بالسوء مرة وتنتهي، بل هي أمّارة به، أي : اتخذت الأمر بالسوء حرفة ؛ لأن صيغة " فعّال :" تدلنا على المزاولة والمداولة.
وإذا كانت المناعة في النفس فهذا أمر يسير ويأتي من النفس اللوامة، وقد يكون المجتمع الذي حول الإنسان هو الذي يردع النفس إن ضعفت في شيء. وبهذا تكون المناعة في المجتمع، أما إذا طمّ الفساد أيضا في المجتمع ؛ فلا النفس تملك راعيا ذاتيّا، ولا المجتمع فيه رادع ؛ هنا لا بد أن تتدخل السماء، وتأتي دعوة الحق بآياتها، وبيناتها، ومعجزة الرسول.
هنا يقف أصحاب الفساد- وتكون نفوسهم أمّارة بالسوء- موقفا ينافقون به القوة الطارئة الجديدة، بينما تظل نفوسهم أمّارة بالسوء، فتظهر ظاهرة النفاق.
وقوله الحق :﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ﴾ أي أنكم مطوقون في ذاتكم ومن حولكم، فالنفاق في ذات المكان الذي تقيمون فيه، وفيما حولكم أيضا. وأخشى ما يخشاه الإنسان، أن يوجد الأمر الضار وحوله وفيه ؛ لأنه كان الأمر الضار في المكان، ولكن إن كان محاصرا بالضرر ممن حوله ومن المكان الذي يحيا فيه، فإلى أين يذهب ؟
ويريد سبحانه أن ينبه المؤمنين إلى أن ظاهرة النفاق متفشية ؛ منها ما تستطيعون –أيها المؤمنون- معرفته بمعرفة حركات المنافقين وسكناتهم ولحن قولهم وتصرفاتهم٣، ومنها أمر دقيق خفي لا تعلمونه، ولكنه سبحانه يعلمه، ولأنكم غير مسلمين لأنفسكم، ولكم رب يعلمكم ما لا تعلمونه فاطمئنوا ؛ فسوف يفضحهم لكم. ونتيجة هذا العلم أنكم سترون فيهم العقوبات ؛ فيأتي فيهم القول الحق :﴿ سنعذبهم مرتين٤ ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾.
هم إذن سيعذبون مرتين في الدنيا، ثم يردون لعذاب الآخرة، وأول عذاب لمن يستر نفاقه، ولذلك خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق " ٥ أو تأتي له مصائب الدنيا. ولقائل أن يقول : وهل المصائب عذاب للمنافق، إن المصائب تصيب المؤمن أيضا ؟
ونرد : إن المصائب تأتي للمؤمن لإفادته، ولكنها تأتي للمنافق لإبادته. فالمؤمن حين يصاب ؛ إما أن يكفر الله به عنه ذنبا، و إما أن يرفعه درجة به٦ لكن المصائب حين تصيب المنافق فهي مغرم فقط ؛ لأن المنافق لا يرجو الآخرة، ولذلك يقال :
إن المصائب ليس من أصيب فيما يحب، ولكن المصائب هو ما حرم الثواب.
فإن استقبل المؤمن المصيبة بالرضا، وعلم أن الذي أجارها عليه حكيم، ولا يجرى عليه إلا ما يعلم الخير وإن لم يعلمه ؛ فهو ينال الثواب على الصبر والأجر على الرضا، وهكذا يخرج من دائرة الألم العنيف. أما غير المؤمن فهو يتمرد على القدر، وبعدم إيمانه يحرم من الثواب.
أو أن العذاب مرتين، غير الفضيحة بنفاقهم، فيتمثل في محاولتهم أن يظهروا بمظهر الإيمان والإسلام، فيخرج الواحد منهم من ماله، والمال محبب للنفس ؛ لذلك فهو يخرج الزكاة مرغما، ويشعر أنه قد خسر المال لأنه لا يؤمن بإله ؛ لذلك فمصيبته كبيرة. وقد يرسل المنافق ابنه للحرب وهو يعلم أنه ليس له في ذلك ثواب، وهذا لون آخر من العذاب.
وهذا العذاب متحقق بقول الحق :﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا... ( ٨٥ ) ﴾ ( التوبة )أو أن يكون العذاب في الدنيا هو ما يرونه حين تغرغر النفس، لحظة أن تبلغ الروح الحلقوم، ويرى المغرغر الملائكة مصداقا لقوله الحق :
﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا والملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم وذوقوا عذاب الحريق( ٥٠ ) ﴾ ( الأنفال )وكل هذه الألوان من العذاب في الدنيا.
والإنسان-كما نعلم- في استقبال الزمن له ثلاث حالات : زمن هو حياته الدنيا، وزمن هو زمن موته، وزمن هو زمن آخرته. فحين يصاب المؤمن في الزمن الأول –زمن حياته- يعزيّه في مصابه الزمن الأخير، وهو زمن آخرته.
٢ يقول تعالى:﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (٢٠١)﴾ (الأعراف: ٢٠١) أي استقاموا وصحوا ما كانوا فيه. قاله ابن كثير في ذفسيره (٢/٢٧٩).
٣ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربوا المساجد إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا، مستكبرين لا يألفون، ولا يألفون خشب بالليل، صخب بالنهار" أخرجه أحمد في مسنده (٢/٢٩٣) والبراز (٨٥- كشف الأستار) قال الهيثمي في المجمع (١/١٠٢): " فيه عبد الملك بن قدامة الجحمي، وثقة بن معين وغيره وضعفه الدار قطني وغيره".
٤ إحداهما في الدنيا والأخرى في القبر بعرض ما يعذب به في الآخرة..
٥ عن أبي مسعود الأنصاري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه ويلم خطبة فمحمد الله وأثنى عليه ثم قال:"إن فيكم منافقين، فمن سميت فليقم. ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان. حتى سمع ستة وثلاثين رجلا...} أخرجه أحمد في مسنده (٥/٢٧٣) والبيهقي في دلائل النبوة (٦/٢٨٦) قال الهيثمي في المجمع (١/١١٢):" فيه عياض بن عياض عن أبيه ولم أر من ترجمهما".
٦ عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقفها، إلا رفعه الله بها درجة، أـو ط عنه بها خطيئة" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٥٧٢) وأحمد في مسنده (٦/٤٢) والترمذي في سننه (٩٦٥) وقال: حديث حسن صحيح..
﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم( ١٠٢ ) ﴾.
وقول الحق :﴿ وآخرون ﴾ معطوفة على قوله :﴿ و من أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾ فهل يظلون على النفاق، أم أن منهم من يثوب إلى رشده ؛ ليجد أن موقفه مخز حتى أمام نفسه ؟ لأن أول ما ينحط المنافق إنما ينحط أمام نفسه ؛ لأنه نافق ولم يقدر على المواجهة، واعتبر نفسه دون من يواجهه ؛ فيحتقر نفسه، ولا بد لأن منهم من يأنف من هذا الموقف، ويرغب في حسم المسألة : إما أمن يؤمن وإما أن يكفر، ثم يرجح الإيمان، ويتخلص من النفاق ؛ بأن يعترف بذنوبه.
وبذلك يصبح ممن يقول الحق عنهم :﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم ﴾ أي : ممن لم يصرّوا على النفاق١، واعترفوا بذنوبهم، والاعتراف لون من الإقرار. والإقرار بالذنب أنواع، فهناك من يقر بالذنب إفاقة، وآخر يقر الذنب في صفاقة، مثلما تقول لواحد : هل ضربت فلانا ؟ فيقول : نعم ضربته، أي أنه اعترافه بذنبه، وقد يضيف : وسأضرب من يدافع عنه أيضا، وهذا اعتراف فيه صفاقة.
أما من يعترف إفاقة، فهو يقر بأنه ارتكب الذنب ويطلب الصفح عنه، وهذا هو الاعتراف المقبول عند الله. وهم قد ﴿ اعترفوا بذنوبهم ﴾ اعتراف إفاقة، بدليل أن الله قال فيهم :﴿ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ﴾ وعملهم الصالح هنا هو إقرارهم بالذنب ومعرفتهم أن فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، أما عملهم السيئ فهو التخلف عن الجهاد والإنفاق.
واعترافهم هذا هو اعتراف الإفاقة، واختلف العلماء : هل هذا الاعتراف يعتبر توبة أم لا ؟
نقول : إن الحق سبحانه وتعالى حينما قال :﴿ اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ﴾ ثم قوله :﴿ عسى٢ الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ﴾ أي : رجاء أن يتوب عليهم، وهذه مقدمات توبة وليست توبة، فإن صاحبها الندم على ما مضى، والإصرار على عدم العودة في المستقبل فينظر هل هذا كان منه مخالفة أن يفضح أم موافقة لمنهج الله٣ ؟
إن كان الأمر موافقة لمنهج الله فتكون التوبة مرجوّة لهم.
وكلمة ﴿ خلطوا ﴾ تؤدي معنى جمع شيئين كانا متفرقين، وجمع الشيئين أو الأشياء التي كانت متفرقة له صورتان الصورة الأولى : أن يجمعهم على هيئة الافتراق، كأن تأتي بالأشياء التي لا تمتزج ببعضها مثل : الحمص واللب والفول، وتخلط بعضها ببعض في وعاء واحد، لكن يظل كل منها على هيئة الانفصال، فأنت لن تدخل حبة اللب في حبة الحمص، ولم يتكون منهما شيء واحد، لأنه لو حدث هذا لصار مزيجا لا خلطا، مثلما تخلط الشاي باللبن ؛ لأنك بعد أن تجمعهما يصيران شيئا واحدا، بحيث لا تستطيع أن تفصل هذا عن ذلك.
إذن : فهم حين خلطوا العمل الصالح والعمل السيّئ، لم يجعلوا من العمل الصالح والعمل السّيئ مزيجا واحدا. لكن العمل الصالح ظل صالحا، والعمل الفاسد ظل فاسدا.
وقوله سبحانه :﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ كلمة ﴿ عسى ﴾ معناها الرجاء٤ وهو ترجيح حصول الخير. وهو لون من توقع حصول شيء محبوب. والرجاء يخالف التمني ؛ لأن التمني هو أن تحب شيئا وتتمنى أن يكون موجودا، لكنه لا يأتي أبدا، مثل قول الشاعر :
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
إنه قد تمنى أن يعود شبابه، وهذا دليل على أن فترة الشباب محبوبة، لكن ذلك لا يحدث. إذن : فإظهار الشيء المحبوب له لونان : لون يتأتى، ولون لا يتأتى، فالذي يتأتى اسمه ( رجاء )، والذي لا يتأتى نسميه ( التمني )، مثل قول الشاعر :
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها *** عقود مدح فما أرضي لكم كلما
فالشاعر يتمنى حدوث ذلك، ولكنه لن يحدث. أما الرجاء فهو أمل يمكن أن يحدث، والرجاء له منازل ومراحل بالنسبة للنفس الإنسانية. فأنت عندما ترجو لواحد شيئا فتقول : " عسى فلان أن يمنحك كذا، فأنت هنا مترجّ، وهناك مترجى له، هو من تخاطبه، ومترجّى منه، وهو من يعطي، فهذه ثلاثة عناصر.
لكن ألك ولاية على من يمنح ؟ لا، لكن إن قلت : عسى أن أمنحك أنا كذا، فأنت ترجو لواحد غيرك أن تمنحه أنت، وهذا أرجى أن يتحقق. وحين تقول :" عسى أن أمنحك " فقد تقولها في لحظة إرضاء للذي تتحدث معه. ثم قد يبلغك عنه شيء يغير من نفسك، أو جئت ؛ لتعطيه، فلم تجد ما تعطيه له، هنا لم يتحقق الرجاء.
لكن عندما تقول :" عسى الله أن يمنحك "، فأنت ترجو له من الله، وهو القادر على كل شيء ولا تؤثر فيه أغيار، أما إذا قال الله عن نفسه :" عسى الله أن يفعل "، فهذا أقوى وسائل الرجاء.
إذن : فنحن أمام أربع وسائل للرجاء. أن تقول :" عسى فلان أن يمنحك " أو أن تقول :" عسى أن أمنحك أنا "، أو تقول :" عسى الله أن يمنحك " وقد يجيبني الله، أو لا يجيب دعائي، لكن حين يقول الحق :" عسى أن أفعل " فهذا هو اللون الرابع من ألوان الرجاء، وقالوا : الرجاء من الله إيجاب.
﴿ عسى الله أن يتوب عليه ﴾، فهذا رجاء أن يتوب الله عليهم، وأما توبة٥ العبد فمسألة تقتضي الندم على ما فات، والرجوع إلى منهج الله، والعزم على ألا يغضب الله في المستقبل. أما توبة الله فهي تضم أنواع التوبة، فتشريع الله للتوبة رحمة بمن ارتكب الذنب، ورحمة بالناس الذين وقع عليهم السلوك الذي استوجب التوبة. فإن تبت ؛ فقبول التوبة رحمة ثانية، فلو لم يشرع الله التوبة ؛ لا ستشرى كل من ارتكب ذنبا واصطلى المجتمع بشروره لكن حين يشرع الله التوبة ؛ فهناك أمل أن يرجع العبد إلى الله وأن يتخلص المجتمع من إمكانية عودته للذنب ؛ وانتهى هو من أن يوقع مصائب بغيره.
فإذا قبل الله التوبة، يقال :" تاب الله على فلان "، فلله إذن أكثر من توبة، ولذلك حين تقرأ قوله الحق :﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا... ( ١١٨ ) ﴾ ( التوبة )أي : شرع لهم التوبة ؛ ليتوبوا، فإذا تابوا فسبحانه قابل التوبة. إذن : فالتوبة ثلاث مراحل : تشريع للتوبة، ثم توبة واقعة، فقبول للتوبة. والتوبة رجوع عن شيء، وهي بالنسبة للعبد رجوع عن ذنب، وبالنسبة لله إن كان الذنب يستحق أن يعاقب الله به، فإذا تبت أنت، فالحق يعفو ويرجع عن العقوبة٦.
وينهي الحق الآية :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ ؛ لأن المغفرة بالنسبة للعبد صعبة، فإن سرق واحد منك شيئا فهو يضرك، ويّلح عليك حب الانتقام منه ؛ لأن الضرر أتبعك، ولكن أيتعب أحد ربه بالمعصية ؟ لا ؛ لأنك إن كنت قد أضررت بأحد فإنما أضررت بنفسك، ولم تضر الله سبحانه، لأنه سبحانه لا يلحقه ضرر بذنبك٧، وإنما الذنب لحقك أنت.
فحين يقول سبحانه :﴿ غفور ﴾ فهو غفور لك، و ﴿ رحيم ﴾ بك. والمصائب أو الكوارث نوعان ؛ نوع للإنسان فيه غريم، ونوع يصيب الإنسان ولا غريم له. فإن مرض إنسان فليس له غريم في المرض، أما إذا سرق إنسان فاللص هو غريمه، ومصيبة الإنسان التي فيها غريم تدفع النفس إلى الانفعال برد العقوبة إليه، أما حين تكون المصيبة من غير غريم فهي التي تحتسب عند الله، ويقال : إن المصيبة التي ليس فيها غريم هي التي تحتاج لشدة إيمان، والحق يقول :
﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( ٤٣ ) ﴾ ( الشورى )
هنا يؤكدها ؛ لأن غريمه يلح عليه، فساعة يراه يتذكر ما فعله غريمه به، فتكون هناك إهاجة على الشر.
أما قوله سبحانه :﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور( ١٧ ) ﴾ ( لقمان )
فلم يؤكدها، فالمصيبة هنا من سيكون غريمه فيها ؟ والذين اعترفوا بذنوبهم هم قوم تخلفوا بغير عذر، ثم جاءوا وقالوا : ليس لنا عذر، ولم يختلقوا أعذارا ؛ لأننا نعلم أن هناك أناسا لم يعتذروا، وأناسا آخرين اعتذروا بأعذار صادقة، وآخرين اعتذروا باعتذارات كاذبة، وهم قد ﴿ اعترفوا بذنوبهم ﴾ أي : أعلنوا أن اعتذاراتهم عن الغزوة ولم تكن حقيقية وأنه لم يكن عندهم ما يبرر تخلفهم عن الغزو ؛ فهؤلاء تاب الله عليهم في نفوسهم أولا، ورسول الله لا يزال في الغزوة في تبوك التي تخلفوا عنها.
ثم عاد الرسول من الغزوة، ودخل المسجد كعادته حين يرجع إلى المدينة، وأول عمل كان يعمله بعد العودة هو أن يدخل المسجد، ويصلي فيه ركعتين٨. فوجد أناسا قد ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وهي الأعمدة فسأل عن هؤلاء، فقالوا : هؤلاء قوم تخلفوا وكانت أعذارهم كاذبة لكنهم اعترفوا بذنوبهم، وقد عاهدوا الله ألا يحلوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تحلهم وترضى عنهم فقال صلى الله عليه وسلم :" وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم ؛ رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين " ٩. فلما أنزل الله هذه الآية حلهم رسول الله ومنهم : أبو لبابة.
ولذلك من يذهب ليزور المدينة إن شاء الله، سيجد أسطوانة اسمها " أسطوانة أبي لبابة " وهو أول من ربط نفسه على الساري، وقلده الآخرون. وهذا يدلك على أن المؤمن حين تختمر في نفسه قضايا الإيمان فهو لا ينتظر أن يعاقب من الله، بل يبادر هو على أن يعاقب نفسه.
ومثال ذلك : المرأة التي زنت، والرجل الذي زنا، واعترفا لرسول الله ليرجمهما١٠، ومعنى ذلك أنهما لم ينتظرا حتى يعذبهما الله، بل ذهب كل منهما بنفسه. ولذلك حين جاء سيدنا عمر، وكاد أن يركل جثة أحدهما قال الرسول :" دعها يا عمر فقد تابت توبة لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم " ١١.
وكون أبى لبابة يربط نفسه بالسارية، فهذا يدل على أن المؤمن إذا اختمرت في نفسه قضية الإيمان، فإنه لا يترك نفسه إلى أن يلقاه الله بعذابه، بل يقول : لا، أنا أعذب نفسي كي أنجو من عذاب الله، فهو قد تيقن أن هناك عذابا في الآخرة أقسى من هذا العذاب. فلما اعترفوا بذنوبهم وراجعوا أنفسهم متسائلين : ما الذي شغلنا عن الغزو، وجعلنا نعتذر بالكذب ؟ وجدوا أنهم في أثناء غزوة تبوك وقد كانت في الحر، وفيه كانت تطيب جلسات العرب تحت الظلال وأن يأكلوا من التمر. فقالوا : والله، إن المال هو الذي شغلنا عن الغزو وجعلنا نرتكب هذا الذنب، ولا بد أن نتصدق به ؛ لذلك قلنا : إن هذه لم تكن الصدقة الواجبة، بل هي صدقة الكفارة.
وهؤلاء قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : خذ هذا المال الذي شغلنا عن الجهاد، فلم يقبل حتى ينزل قول من الله فأنزل الحق قوله :
﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم( ١٠٣ ) ﴾.
٢ عسى فعل جامد دال على الترجي، وإذا أسند الفعل إلى الله تعالى فمعناه أنه وعد بنفاذ الأمر المرجو أنه نافذ حتما، وعسى من أفعال الرجاء وتستعمل على أوجه أكثرها وجهان: الأول: أن يذكر بعدها اسم ظاهر والوجه الثاني: أن يذكر بعدها المصدر المؤول..
٣ فإن كان موافقا لمنهج الله كان القبول من الله..
٤ قال القرطبي في تفسيره (٤/٣١٦٩): " هذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة" وقال ابن كثير (٢/٣٨٥):" هذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطابين المخالطين المتلوثين" والعبرة بعمو م اللفظ لا بخصوص السبب..
٥ تاب: رجع عن المعاصي، وتاب إلى الله رجع إليه بالطاعة بعد المعصية، وتاب الله عليه وفقه للتوبة وقبلها منه –قال تعالى:﴿فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه (٣٩)﴾ (المائدة).
٦ قال الإمام أبو حامد الغزالي في شرح اسم الله (التواب):"هو الذي يرجع إلى تيسير التوبة لعباده مرة بعد أخرى، بما يظهر لهم من آياته، ويسوق إليهم من تنبيهاته، ويطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته، حتى إذا طلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه، فرجعوا إلى التوبة، فرجع إليهم فضل الله تعالى بالقبول" المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ص (١٢٣) ط مكتبة القرآن..
٧ عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:"يا عبادي. إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني. ولن تبلغوا نفعي وتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم. كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا: أخرجه مسلم في صحيحه (٢٥٧٧) وأحمد في مسنده (٥/١٥٤، ١٧٧) والترمذي في سننه(٢٤٩٥) وكذا ابن ماجه (٤٢٥٧)..
٨ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٦٩) ضمن حديث طويل عن كعب بن مالك في توبته من تخلفه عن غزوة تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مختصرا أحمد في مسنده (٣/٤٥٥) وأبو داود في سننه (٢٧٧٣).
.
٩ انظر سبب نزول الآية في تفسير القرطبي (٤/٣١٦٨) وأسباب النزول للواحدي (ص١٤٨).
١٠ الرجل هو ماعز ابن مالك الأسلمي، أخرج قصته البخاري في صحيحه (٦٨١٥) ومسلم (١٦٩١) وفي بعض طرق مسلم أن ماعز قال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزينا وإني أريد أن تطهرني. أما المرأة فهي الغامدية. أخرج قصتها مسلم (١٦٩٥)..
١١ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمرأة فرجمت. ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال:" لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لو سعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى" أخرجه مسلم في صحيحه (١٦٩٦) وأحمد في مسنده (٤/٤٤٠).
﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم... ( ٣٣ ) ﴾ ( النور ).
ولكن الحق ينقله على خلقه تفضلا منه، وأوضح سبحانه إذا قلت لكم : أخرجوا شيئا من المال وهبتكم إياه فلن أرجع فيما وهبته لكم، ولذلك إذا احتاج مؤمن شيئا من مؤمن مثله، فالحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ من ذا الذي يقرض الله.... ( ٢٤٥ ) ﴾ ( البقرة )وسبحانه واهب المال وهو يحترم هبته لصاحب المال.
وقوله :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ لاحظ فيه العلماء أن المال حين يضاف إلى صاحبه فهو تطمين له، حتى يتحرك في الحياة حركة فوق ما يحتاج ويبقى له شيء يتموّله، وبذلك يحرص الإنسان على الحركة التي ينتفع بها الغير، وإن لم يقصد. فيوضح له الحق : اطمئن إلى أن كل شيء سيزيد عن حاجته يصبح ملكا لك، ولا يخرج المال عن ملكية صاحبه إلا إذا كان صاحبه غير أهل للتصرّف١، مصداقا لقوله الحق :
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم... ( ٥ ) ﴾ ( النساء ).
لأن السفيه٢ لا يصح أن يمتلك ؛ لأنه بالحمق قد يضيع كل شيء، فينزل الحق الحكم : إن مال السفيه الذي يملكه ليس ماله إنما هو مالكم. ولكن إلى متى ؟ فيأتي القول الحق :
﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم... ( ٦ ) ﴾ ( النساء )
أي : ردوا إليهم أموالهم متى عادوا إلى الرشد وصاروا أهلا للملكية.
والحق في هذه الآية يقول :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ والله سبحانه وتعالى هو صاحب المال، وهو يأتي بالمال، بالأسباب التي جعلها للبشر في حركة الحياة، وأمّنهم على عرقهم، وأّمنهم على ما يملكون ؛ حتى لا يزهد أحد في الحركة ؛ فلو أخذ كل واحد من حركته على قدر نفسه، ولم يتملك المال، لضنّ الناس بالحركة ؛ وإذا ضن الناس بالحركة، فلن يستفيد غير القادرين على الحركة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما يزيد على حاجات الناس ملكا لهم ؛ لأن النفس تحب أن تتملك، والتملك أمر غريزي في النفس ؛ بدليل أن الله سبحانه وتعالى هو الذي طلب أن يؤخذ من الأموال، وأوضح أنه يضاعفها له، ومعنى أنه يضاعفها عنده أنه ينمي فيه غريزة التملك.
وقوله الحق ﴿ خذ من أموالهم ﴾ نلحظ فيه أن الأموال أضيفت لأصحابها، ما لم يكن فيهم سفه في التصرف أو عدم رشد ؛ بأن يكون وارث المال لا يقدر على التصرف فيه، فأوضح لنا سبحانه : لا تعتبروا مال السفيه ولا مال القاصر ماله، ولكن ليرعى الوصيّ المال باعتبار مال السفيه ولا مال القاصر ماله، ولكن ليرعى الوصي المال باعتبار أنه ماله هو، وحذّر سبحانه الوصىّ : إياك أن تتعدى في ملكية هذا المال ؛ لأن الذي جعله مالك، إنما جعل الملكية من أجل القيامة على المال، ولأجل هو أن يبلغ القصر رشده، أو يرجع السفيه إلى عقله.
﴿ ولا تأتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما... ( ٥ ) ﴾ ( النساء )، فإياك أيها الوصي، أن تظن أن الله قد أعطى لك هذا المال، بل جعل لك حق القيام عليه فقط، ثم يقول سبحانه :﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ ولم يقل :" فادفعوا إليهم أموالكم " وإلا كان الأمر صعبا على الناس.
وهنا ملحظية لحظها العلماء رضي الله عنهم، وهو أن المال إذا كان فيه حق معلوم للسائل٣ والمحروم، فلا يصح أن ينسب الإنسان المال كله لنفسه ؛ لأن شركاء فيه هما السائل والمحروم، فالمال-إذن- ملكية صاحبه باستثناء حق السائل والمحروم.
وفي آية أخرى قال الحق :﴿ والذين في أموالهم حق معلوم( ٢٤ ) للسائل والمحروم ( ٢٥ ) ﴾ ( المعارج )، و " الحق المعلوم " هو الزكاة المفترضة من نصاب بقدر معلوم، وأما الأمر الثاني فهو حق أيضا، لكن الذي يوجبه ويحدده هو صاحب المال على نفسه، وهو تطوع، ولذلك لم يقل : حق معلوم كما في سورة الذاريات :
{ إن المتقين في جنات وعيون( ١٥ ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( ١٦ ) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون( ١٧ ) وبالأسحار هم يستغفرون( ١٨ ) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم( ١٩ ) ( الذاريات ).
لقد ذكر سبحانه هنا الحق ولم يقل إنه معلوم ؛ لأن صاحب المال داخل في مقام الإحسان٤، وهو المقام الذي يلزم الإنسان فيه نفسه بشيء فوق ما فرض الله من جنس ما فرض الله. والله سبحانه لم يفرض على الإنسان أن يقوم الليل كله، أو يظل الليل يستغفر، بل إن المسلم له أن يصلي العشاء وينام، ثم يقوم لصلاة الفجر. ولكن إن وجد في نفسه نشاطا، فهو يقوم الليل ؛ لأنه يريد أن يدخل في مرتبة الإحسان.
وكذلك يؤدي المسلم الزكاة وهذا حق معلوم، وأما إن رغب المسلم في أن يدخل في مقام الإحسان فهو يزيد على الزكاة، وقد جعل الله هذا حقّا لكنه غير معلوم ؛ ليفسح لأريحيات الكرام أن يتجاوزوا الحق المعلوم، فبدلا من اثنين ونصف بالمائة، قد يجعلها الداخل إلى مقام الإحسان ضعف ذلك أو أكثر.
ووقف العلماء رضي الله عنهم هنا وقالوا : إن قوله الحق :﴿ خذ من أموالهم ﴾ لا يعني اعتبار الجزء المأخوذ من المال للفقير هو حق الفقير، بل هو مال المؤدي، ولو بيّن الله حق الفقير وعزله عن ماله صاحبه، فهذا يعني أن المال إن هلك فليس للفقير شيء، ولكن لأن المال الغني فحق الفقير محفوظ في ذمة صاحب المال، وهذا أفضل للفقير، فإن الغني لو لم يؤد الزكاة في ساعتها، وبعد ذلك حدث أن هلك المال، فالغني ضامن لحق الفقير.
﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ﴾ ؛ والصدقة تطهرهم ؛ لأن الذنب الذي فعلوه واعترفوا به تسبّب في تقذير أنفسهم بالمعصية، وما داموا قد قذروا أنفسهم بالمعصية٥، فهم في حاجة أن يطّهروا بالمال الذي كان سببا في عدم ذهابهم إلى الغزوة.
وانظر إلى ملحظ " الأداء البياني " في القرآن، فالحق سبحانه يقول :﴿ خذ ﴾ وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول :﴿ من أموالهم صدقة ﴾ من أموال الأغنياء، هذه الصدقة ستذهب للمحتاج، إذن هنا أربعة عناصر : آخذ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومأخوذ منه هو صاحب المال، ومأخوذ له هو الفقير المحتاج.
وما دام الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الأمر ينسحب بالتالي على كل من ولي أمر من أمور المسلمين. ولقائل أن يقول : ولكنها صدقة وليست زكاة. ونقول : ما دام الله هو الذي أمر بها تطهيرا فقد صارت واجبا، والآية صريحة، وتقتضي أنه ما دامت هناك ولاية شرعية، فولي الأمر هو الذي يأخذ من الناس ويؤدي للفقراء، أو لأوجه الصرف التي شرعها الله٦ ؛ لأن الله لا يريد أن يعذب الفقير بأن يمد يده آخذا من مساوله، أما إن أخذ من الوالي وهو المسئول عن الفقراء، فلن يكون عيبا، كما أن الحق سبحانه يريد أن يحمي أهل الفقير من أن يعلموا أن البيت الفلاني يعطي لهم زكاة، فيعاني أولاد الآخذ من المذلة أمام أولاد المعطي، ويعيش أبناء المعطي في تعال لا لزوم له. إذن : فحين يكون الوالي هو الذي يعطي فلن يكون مستعل أو مستعلي عليه.
أما إن لم تكن هناك ولاية إسلامية، ولا يعلم الإنسان إلى أين ستذهب الأموال، فهنا يصبح على كل إنسان أن يراعي محيط دينه وهو يخرج الزكاة حينئذ يكون عندنا معط هو صاحب المال، ومال المعطي له هو الفقير.
وعلى من يعود قوله الحق :﴿ تطهرهم وتزكيهم ﴾ ؟ السطحيون في الفهم يقولون : إنها تطهر من نأخذ منه المال وتزكّى المال الذي نأخذ منه. لكن من يملك عمقا في الفهم يقول : ما دامت هناك في هذه الآية عناصر، فضروري أن يعود التطهير٧ والتزكية عليها، وإنها تطهر وتزكي المأخوذ، وأيضا تطهر وتزكي المأخوذ منه صاحب المال، وكذلك تطهر وتزكي المال المأخوذ، وأيضا تطهر وتزكي المأخوذ له وهو الفقير، لأن التطهير معناه إزالة قذر، والتزكية نماء.
القذارة أمر عارض على الشيء الذي نغسله ونطهره، وتنمية له شيء عائد عليه فيزداد، وهكذا تطهر الصدقة وتزكي عناصر الفعل كلها. والتطهير لمن يعطي، له معنى معه والزكاة لها معنى معه ؛ لأنك إن أخذت منه المال، فقد يكون قد وأدخل في ماله شيئا فيه شبهة، فالصدقة والزكاة تطهران هذا المال.
أما كيف تنمي صاحب المال ؟ أنت إن أخذت منه وهو قادر، ومعنى ذلك أنك تطمئنه أنه إذا احتاج فستعطيه، وبهذا يعرف أنه لا يعيش في المجتمع بمفرده، ولا يخاف أن يضيع منه المال، واطمأن لحظة أن أخذت منه المال وهو قادر كي تعطي المحتاج، فكأنك تطمئنه وتقول له : أنت لو احتجت فلن تضيع، وبذلك تنمّي توجده وثقته، وطهرته أيضا من أن يكون في ماله شبهة، هذا من ناحية صاحب المال.
أما من ناحية المال نفسه، فالصدقة تطهر المال ؛ لأن المال قد يزيد فيه شيء فيه شبهة فالزكاة تطهره.
وقد يخيل إليك أنك حين تأخذ من المال فهو ينقص، عكس الربا الذي يزيد المال، فالربا مثلا يحقق زيادة للمائة جنيه فتصبح مائة وعشرة مثلا، أما المزكّي فالمائة جنيه تصير سبعة وتسعين ونصفا، والسطحي يرى أن الزكاة أنقصت المال وأن الربا يزيده، ولكن هذا بمقاييس البشر، لا بمقاييس من يملك الأشياء ؛ فالزكاة التي تعتبرونها نقصا تنمّي، والربا الذي تعتبرونه ينمّي إنما ينقص، والحق يقول :
﴿ يمحق الله٨ الربا ويربي الصدقات.... ( ٢٧٦ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : فهناك مقاييس عند البشر، ومقاييس أخرى عند الحق، فما رأيته منقصا لك، هو عند الله زيادة، وما رأيته مزيدا لك، هو في الواقع نقص، كيف ؟ لأن الناس لا ينظرون إلا رزق الوارد الإيجابي، ويظنون أن هذا هو الرزق، ولا يتذكرون أن هناك رزقا اسمه " رزق السلب "، فرزق الإيجاب قد يزيد دخلك مثلا من مائة إلى مائة وعشرة.
ورزق السلب يتمثل في أنك تصرف سبعين فقط، بدلا من أن تصرف مائة، فيبقى لك ثلاثون، وبالإضافة إلى أنه يمنع عنك مصارف الشر، هذا من ناحية المال.
والحق يقول :
﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون( ٣٩ ) ﴾ ( الروم ).
وكيف تكون الصدقة تطهيرا للآخذ وهو لم يذنب ذنبا يحتاج إلى تطهير، بل هو معطي له لأنه محتاج ؟ ونقول : إن الآخذ حين يأخذ من مال غيره، وهو عاجز عن الكسب فهو يتطهر من الحقد على ذي النعمة ؛ لأنه وصله بعض من المال الذي عند ذي النعمة، فلا يحقد عليه ولا يحسده، فهو إن رأى عنده خيرا، دعا له بالزيادة ؛ لأن بعضا من الخير يعود عليه.
والفلاحون في ريف مصر يهدون بعضهم بعضا من لبن ماشيتهم، أو بعضا من الخير الخارج من لبنها، وساعة أن تمر إحداها على أهل القرية يدعون الله بحمايتها، وهكذا تتطهر نفس الفقير من الحقد والحسد.
هذا عن التطهير، فماذا عن التزكية والنماء ؟ إن الفقير ساعة يرى نفسه فقيرا، ويرى أن المجتمع الإيماني يقوم برعايته ولا يتركه وحيدا، ويتسابق أهل الخير لنجدته، فنفسه تنموا بالاطمئنان ؛ لأنه في مجتمع إيماني. إذن : فقول الحق :﴿ تطهرهم وتزكيهم ﴾ راجع لكل العناصر في الآية.
ثم يقول سبحانه :﴿ وصل عليهم ﴾ أي : ادع لهم بالخير ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما أتاه قوم بأي صدقة قال :" اللهم صل عليهم " فأتاه أبو أ
٢ السفيه: هو ناقص العقل سيء التصرف بقول الحق:﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم (٥)﴾ (النساء)أي: الذين يسيئون التصرف لجهلهم أو نقص عقولهم، ويقول الحق أيضا:﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه...(١٣٠)﴾ (البقرة) حملها على الجهل والطيش..
٣ الحق المعلوم هو الزكاة المفروضة، والحق الغير المعلوم هو ما ترك لاختيار النفس في العطاء للوصول إلى مقام الإحسان بقدر كرمه مع الله..
٤ حسن الشيء صار حسنا جميلا قال تعالى﴿وحسن أولئك رفيقا(٦٩﴾ (النساء) أي: صار رفيقا حسنا –"وأحسن" أفعل تفضيل، مؤنثه "الحسنى" قال الحق:﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه(١٨) (الزمر) وقال:{وكلا وعد الله الحسنى (٩٥)﴾ (النساء)- أي: المنزلة التي هي أحسن المنازل، والإحسان هو الكرم المخلص والعطاء الخالص، والإحسان إلى الوالدين إكرامها- وهو أعلى مقامات القلاب إلى الله..
٥ أي: جعلوا أنفسهم محلا للوم والتقبيح. وقد أخرج الإمام مالك في موطئه (ص٨٢٥) من حديث زيد بن أسلم مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله. فإنه من يبدي لنا صفحته نقم علبه كتاب الله".
٦ ومصارف الزكاة قد بينها سبحانه في قوله:﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب و الغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (٦٠)﴾ (التوبة)، وقد سبقت خواطر فضيلة الشيخ وإلهاماته عند تفسير الآية. ولولي الأمر الذي يطبق شرع الله أن يأخذ من أموال المسلمين لإقامة صرح العدالة في المجتمع مصداقا لمفهوم الآيات..
٧ طهر يطهر من باب كرم ونصرطهر وطهارة زال عنه الدنس والقذر حسيا ومعنويا، وطهرت النفس سلمت من الآفات الخلقية وتنزهت عن النفاق وعن الحقد وعن كل الرذائل قال تعالى:﴿وإن كنتم جنبا فاطهروا(٦)﴾ (المائدة) هي لحسيات وقوله تعالى:﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها (١٠٣)﴾ (التوبة) تنزه قلوبهم من الآفات الخلقية، وهذا في المعنويات..
٨ محقه من باب فتح: أنقصه، أو أبطله، أو أهلكه قال تعالى:﴿ويمحق الكافرين ١٤١)﴾ (آل عمران) أي يهلكهم وقال ﴿يمحق الله الربا (٢٧٦)﴾ (البقرة) أي ينقصه أو يهلكه، نقيض ما يفعل بالصدقات..
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ( ١٠٤ ) ﴾.
و﴿ ألم يعلموا ﴾ مكونة من ثلاث كلمات هي : همزة استفهام، " لم " حرف نفي، و " يعلم " وهو فعل. فهل يريد الله هنا أن ينفي عنهم العلم أم يقرر لهم العلم ؟ لقد جاء سبحانه بهمزة يسمونها " همزة الاستفهام الإنكاري " والإنكار نفي، فإذا دخل نفي فهو إثبات، أي " فليعلموا ".
ولماذا لم يأت بالمسألة كأمر ؟ نقول : إن الحق حين يعرضها معرض الاستفهام فهو واثق من أن المجيب لا يجيب إلا بهذا، وبدلا من أن يكون الأمر إخبارا من الله، يكون إقرارا من السامع.
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة ﴾ لماذا جاء الحق بكلمة ﴿ هو ﴾، وكان يستطيع سبحانه أن يقول :" ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة " ولن يختل الأسلوب ؟
أقول : لقد شاء الحق أن يأتي بضمير الفصل، مثلما نقول : فلان يستطيع أن يفعل لك كذا. وهذا القول لا يمنع أن غيره يستطيع إنجاز نفس العمل، لكن حين تقول : فلان هو الذي يستطيع أن ينجز لك كذا. فهذا يعني أنه لا يوجد غيره. وهذا هو ضمير الفصل الذي يعنى الاختصاص والقصر ويمنع المشاركة.
لذلك قال الحق :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة... ( ١٠٤ ) ﴾ ( التوبة ).
وهل كانت هناك مظنة أن أحدا غير الله يقبل التوبة ؟ لا، بل الكل يعلم أننا نتوب إلى الله، ولا نتب إلى رسول الله. ونحن إذا استعرضنا أساليب القرآن، وجدنا أن ضمير الفصل أو ضمير الاختصاص هو الذي يمنع المشاركة فيما بعدها لغيرها ؛ وهو واضح في قصة سيدنا إبراهيم حين قال :
﴿ إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون( ٧٠ ) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ( ٧١ ) قال هل يسمعونكم إذ تدعون ( ٧٢ ) أو ينفعونكم أو يضرون ( ٧٣ ) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون( ٧٤ ) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ( ٧٥ ) أنتم وآباءكم الأقدمون ( ٧٦ ) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين( ٧٧ ) ﴾ ( الشعراء ).
ولم يقل سيدنا إبراهيم : " إنهم أعداء "، بل جمعهم كلهم في عصبة واحدة وقال :﴿ فإنهم عدو لي ﴾. و﴿ إنهم ﴾ –كما نعلم- جماعة، ثم يقول بعدها ﴿ عدو ﴾ وهو مفرد، فجمعهم سيدنا إبراهيم كأنهم شيء واحد. وكان بعض من قوم إبراهيم يعبدون إلها منفردا، وجماعة أخرى يعبدون الأصنام ويقولون : إنهم شركاء للإله. إذن : كانت ألوان العبادة في قوم إبراهيم عليه السلام تتمثل في نوعين اثنين.
ولما كان هناك من يعبدون الله ومعه شركاء، فقول إبراهيم قد يفسر على أن الله داخل في العداوة ؛ لذلك استثنى سيدنا إبراهيم وقال﴿ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ﴾، أي : أن الله سبحانه ليس عدوّا لإبراهيم عليه السلام، وإنما العداوة مقصورة على الأصنام. أما إن كان قومه يعبدون آلهة دون الله، أي : لا يعبدون الله، لم يكن إبراهيم ليستثنى.
والاستثناء هنا دليل على أن بعضا من قومه هم الذين قالوا :
﴿ ما نعبد إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ( ٣ ) ﴾ ( الزمر ).
وهكذا تبرأ سيدنا إبراهيم عليه السلام من الشركاء فقال :﴿ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ﴾ وهذا كلام دقيق محسوب. وأضاف :
﴿ الذي خلقني فهو يهدين ( ٧٨ ) ﴾١ ( الشعراء )ولم يقل :" الذي خلقني يهديني "، بل ترك " خلقني " بدون " هو " وخصّ الله سبحانه وحده بالهداية حين قال :﴿ فهو يهدين ﴾ ؛ لأن : " هو " لا تأتي إلا عند مظنة أنك ترى شريكا له، أما مسألة الخلق فلا أحد يدّعى أنه خلق أحدا. فالخلق لا يدعي، ولذلك لم يقل " الذي هو خلقني ".
والحق سبحانه هو القائل :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله... ( ٨٧ ) ﴾ ( الزخرف ).
فليس هناك خالق إلا هو سبحانه. إذن : فالأمر الذي لا يقول به أحد غير الله لا يأتي فيه الضمير. لكن الأمر الذي يأتي فيه واحد مع الله، فهو يخصّص ب " هو " تأكيدا على تخصيصه لله وحده ﴿ الذي خلقني فهو يهدين ﴾ فليس لأحد أن يدخل أنفه في هذه المسألة ؛ لأن أحدا لم يدّع أنه خلق أحدا، فمجيء الاختصاص-إذن- كان في مجال الهداية بمنهج الحق، بقوانين من الخلق. فمن الممكن أن يقول بشر : أنا أضع القوانين التي تسعد البشر، وتنفع المجتمع، وتقضي على آفاته، ونقول : لا، إن الذي خلقنا هو وحده سبحانه الذي يهدينا بقوانينه.
إذن : فما لا يدّعي فلا تأتي فيه ( هو )، أما ما يمكن أن يدعى فتأتي فيه ( هو ) وقوله سبحانه :﴿ والذي هو يطعمني ويسقين ( ٧٩ ) ﴾ ( الشعراء ).
وجاء هنا أيضا بضمير الفصل ؛ لأن الإنسان قد يروي والده وهو يأتي له بالطعام والشراب فيظن أن الأب شريك لله ؛ لذلك جاء ب﴿ هو ﴾ فأنت إن نسبت كل رزق يأتي به أبوك، لانتهيت إلى ما لم يأت به الأب ؛ لأن كل شيء فيه سبب للبشر ينتهي إلى ما ليس للبشر فيه أسباب، فكل شيء من الله ؛ لذلك قال سيدنا إبراهيم :
﴿ والذي هو يطعمني ويسقين ( ٧٩ ) وإذا مرضت فهو يشفين ( ٨٠ ) ﴾ ( الشعراء )
وخصص الشفاء أيضا ؛ حتى لا يظن ظان أن الطبيب هو الذي يشفي، وينسى أن الله وحده هو الشافي، أما الطبيب فهو معالج فقط ؛ ولذلك أننا تجد أننا فقد نأخذ إنسانا لطبيب ؛ فيموت بين يدي الطبيب ؛ ولذلك يقول الشاعر عن الموت :
إن نام عنك فأي طب نافع *** أو لم ينم فالطب من أذنابه
فقد يعطي الطبيب دواء للمريض، فيموت بسببه هذا المريض. وجاء سيدنا إبراهيم بالقصر في الشفاء لله ؛ حتى لا يظن أحد أن الشفاء في يد أخرى غير يد الله سبحانه. ثم يقول سيدنا إبراهيم :﴿ والذي يميتني... ( ٨١ ) ﴾ ( الشعراء ).
ولم يقل :" هو " يميتني ؛ لأن الموت مسألة تخص الحق وحده، وقد يقول قائل " كان يجب أن يقول :" هو يميتني "، ونقول : انتبه إلى أن الموت غير القتل، فالموت يتم بدون نقص للبنية، والقتل لا يحدث إلا بنقص البنية، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم :
﴿ والذي يميتني ثم يحيين( ٨١ ) ﴾ ( الشعراء ).
وأيضا لم يقل :" هو يحيين " ؛ لأن هذا الأمر خارج عن أي توهم للشركة فيه، فقد جاء ب " هو " في الأمور التي يظن فيها الشركة، وهو كلام بالميزان :﴿ والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين( ٨٢ ) ﴾ ( الشعراء ).
لم يأت أيضا ب " هو " ؛ لأن المغفرة لا يملكها إلا الله٢.
إذن فكل أمر معلوم أنه لا يشارك فيه جاء بدون " هو "، وكل ما يمكن أن يدّعى فيه يجيء " هو " ٣.
وهنا يقول الحق :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ﴾ وظاهر الأمر أن يقال : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة " من " عباده، ولكنه ترك " من " وجاء " ب " عن ". والبعض يقولون : إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي " من " بدلا من " عن " ونقول : لا، لأنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر ؛ لأن معنى التوبة، أن ذنبا قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة، فإذا قبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة ؛ ولذلك جاء القول من الحق محددا :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة ﴾ أي : متجاوز بقبول التوبة عن العقوبة.
وهذا جاءت " عن " بمعناها ؛ لأنه سبحانه هو الذي قبل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة.
ثم يقول سبحانه :﴿ ويأخذ الصدقات ﴾ صحيح أن الله هو الذي قال للرسول :﴿ خذ ﴾ ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط، و " يأخذ " هنا معناها " يتقبل " واقرأ قول الحق :﴿ إن المتقين في جنات وعيون( ١٥ ) آخذين و آتاهم ربهم... ( ١٦ ) ﴾ ( الذاريات ).
أي : متلقين من آتاهم الله. ومثال هذا ما يروى عن السيدة فاطمة حينما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تجلوا درهما، والدرهم عملة من فضة. والفضة من المعادن التي لا تصدأ، والفضة أصلها تكون لينة
لذلك يخلطونها بمعدن آخر يكسبها شيئا من الصلابة. والمعدن الذي يعطي الصلابة هو الذي يتأكسد ؛ فتصدأ الفضة ؛ لذلك أخذت سيدتنا فاطمة تجلوا الدرهم. فلما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه سلم سألها : ما هذا ؟ قالت : إنه درهم. واستفسر منها لماذا تجلوا الدرهم ؟ فقالت : كأني رأيت أن أتصدق به، وأعلم أن الصدقة قبل أن تقع في يد الفقير تقع في يد الله فأنا أحب أن تكون لامعة.
فعلت سيدتنا فاطمة ذلك ؛ لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة.
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ﴾. كل هذه الآية نفي لمظنة أن يتشككوا إذا فعلوا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ رسول الله الصدقات، فإن توبتهم قد قبلت، ولكن الذي يقبل التوبة هو الله، والذي يأخذ الصدقات هو الله ؛ لأنه هو التواب الرحيم ؛ لذلك جاء قول الحق من بعد ذلك :
﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون( ١٠٥ ) ﴾.
٢ وفي هذا يقول سبحانه:﴿ومن يغفر الذنوب إلا الله...﴾ (آل عمران: ١٣٥).
٣ وهذا يتلاقى مع ما ذكره القرطبي في تفسيره(٤/٣١٧٦): "قوله تعالى:"هو" تأكيد لإنفراد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمور. وتحقيق ذلك أنه لو قال: إن الله يقبل التوبة، لا يحتمل أن يكون قبول رسول الله قبولا منه، فتثبت الآية ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك".
ولا تظنوا أن أموركم ستكون في الخفية بل ستكون في العلن أيضا، أما أموركم الخفية فسيعلمها الله ؛ لذلك قال :﴿ فسيرى الله ﴾. أما الأمور التي تحتاج لفطنة١ النبوة فالرسول صلى الله عليه وسلم بفطرته سيراها بنوره في سلوككم. أما الأمور الظاهرة الأخرى فسيراها ﴿ المؤمنون ﴾
نحن هنا أمام ثلاثة أعمال : عمل يراه المؤمنون جميعا، فالتزموا بهذا المنهج حتى يشهد لكم المؤمنون بما يرون من أعمالكم، وإياكم أن تخادعوا المؤمنين ؛ لأن رسول الله بفطنته ونورانيته وصفائه وشفافيته سيعرف الخديعة، أما إن كانت المسألة قد تتعمّى على المؤمنين وعلى الرسول، فالله هو الذي يعلم.
﴿ وقل اعملوا ﴾ أي : اعملوا عملا جديدا يناسب اعترافكم بذنوبكم، ويناسب إعلانكم التوبة، ويناسب أنكم ربطتم أنفسكم في المسجد، ويناسب أنكم تصدقتم بالأموال، عمل تستأنفون به حياتكم بصفحة جديدة، واعلموا أننا سنرقب عملكم، لله يرقبه فيما لا يعلمه البشر، وهو النيّات، ورسول الله يعلمه فيما يطابق نورانيته وإشراقه. والمؤمنون يعلمونه في عاديات الأمور٢. وهذه الرؤية من الله ومن الرسول ومن المؤمنين لا تكون لها قيمة إلا إذا ترتب عليها الجزاء ثوابا أو عقابا، فهي ليست مجرد رؤية، بل إن الرائي يملك أن يثيب أو يعاقب. وأنكم راجعون إليه لا محالة. " وإذا كنتم في الدنيا تعيشون في الأسباب التي يعيش فيها الكافر والمؤمن، ويعيش فيها الطائع والعاصي، فهناك عالم الغيب الذي يملكه الله وحده :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾ ( غافر ).
إذن : سيعامل التائب معاملة جيدة، مادام قد تاب، فلعله بسبب الغفلة التي طرأت عليه فأذنب ؛ غفل عن اليوم الآخر، فيحتاج إلى تجديد التذكير بالإيمان.
لذلك قال :﴿ وقل اعملوا الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾.
قوله سبحانه( فسيرى ) ذكر الفعل مرة واحدة، فالرؤية واحدة ملتحمة بعضها ببعض لتروا هل أنتم على المنهج أو لا ؟.
﴿ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ أما عالم الغيب فانفرد به الله سبحانه، وأما عالم الشهادة فالرسول سوف يعلم عنكم أشياء، وكذلك المؤمنون يعلمون أشياء، وربما عالم بالكل. وسبحانه لا يجازي على مجرد العلم، بل بنية كل إنسان بما فعل، وسبحانه يقول :
﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) ﴾ ( الإسراء ).
ولذلك ينهي الحق هذه الآية بقوله :
﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ وهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم، وربطوا أنفسهم في السواري، وتصدقوا بالأموال، وأعطى الله فيهم حكمه بأن جعل رسول الله هو من يحل وثاقهم من السواري، وقبل منهم الصدقات ؛ ليسوا وحدهم، فهناك أناس آخرون فعلوا نفس الأمر لكنهم لم يربطوا أنفسهم في سواري المسجد، ولا اعترفوا بذنوبهم، لذلك يجيء قوله الحق :
﴿ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم( ١٠٦ ) ﴾.
٢ عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو لأن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان" أخرجه أحمد في مسنده (٣/٢٨) والحاكم في مستدركه (٤/٢١٤) وصححه وأقره الذهبي. وكذا أخرجه ابن حيان (١٩٤٢- موارد الظمآن). وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى نور الله" روى عن خمسة من الصحابة-فيما وقفت عليه-وكلها لا تسلم من مقال. ومنها حديث أبي سعيد الخدري عند الترمذي في سننه (٣١٢٧) وقال: غريب. فيه مصعب بن سلام. للحديث طرق وروايات أخرى..
﴿ على الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم( ١١٨ ) ﴾ ( التوبة ).
وهؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومروان بن الربيع١. وهم قد تخلفوا أيضا عن غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر في التخلف أبدا، فكل واحد يملك راحلته، وعندهم مالهم، وعندهم كل شيء وقد قصّ واحد منهم حكايته٢، وبين لنا أنه لم يكن له عذر : " وما كنت في يوم من الأيام أقدر على المال والراحلة مني في تلك الغزوة، ، كنت أقول : أتجهز غدا ولا أتجهز، حتى انفصل الركب، فقلت ألحق بهم، ولم ألحق بهم ".
هؤلاء هم الثلاثة الذين جاء فيهم القول :﴿ وآخرون مرجون لأمر الله ﴾ و﴿ مرجون ﴾ أو " مرجئون " والإرجاء هو التأخير. أي " أن الحكم فيهم لم يظهر بعد ؛ لأن الله يريد أن يبين للناس أمرا، وخاصّة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينشئ في الدولة الإسلامية سجنا يعزل فيه المجرم ؛ وهذا لحكمة، فكونك تأخذ المجرم وتعزله عن المجتمع وتحبسه في مكان فهذا جائز. ولكن النكال في أن تدعه طليقا، وتسجن المجتمع عنه.
وهكذا تتجلى عظمة الإيمان ؛ لذلك أصدر صلى الله عليه وسلم أمرا بأن يقاطعهم الناس، فلا يكلمكم أحد، ولا يسأل عنهم أحد، حتى أقرباؤهم ولا يختلط بهم أحد في السوق أو في المسجد.
وكان أحدهم يتعمد أن يصلي قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم ويختلس النظرات ليرى هل ينظر النبي له أم لا ؟ ثم يذهب لبيت ابن عمه ليتسلق السور، ويقول له : أتعلم أنني أحب الله ورسوله ؟ فيرد عليه : الله ورسوله أعلم. وهكذا عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع عنهم، ولم يعزلهم عن المجتمع. وكذلك عزلهم عن زوجاتهم، وهو الأمر الذي يصعب التحكم فيه. وحذر صلى الله عليه وسلم زوجاتهم أن يقربوهم إلى أن يأتي الله بأمره.
﴿ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ﴾.
هذه بالنسبة لنا- إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم. لكن الحق سبحانه وحده هو الذي يعلم مصير كل واحد منهم.
فالتشكيك إذن بالنسبة لنا ؛ لأنهم مرجون لأمر الله ولم يبت فيهم بحكم لا إلى النار إلى الجنة، ولم يبت فيهم بالعفو. أما أمرهم فهو معلوم له سبحانه إما أن يعذب وإما أن يتوب ؛ لأن كل حكم من الله له ميعاد يولد فيه، ولكل ميلاد حكمة، وهناك قوم عجل الله بالحكم فيهم ؛ وقوم أخر الله الحكم فيهم ؛ ليصفي الموقف تصفية تربية، لهم في ذاتهم، ولمن يشهدونهم.
وقد استمرت هذه المسألة أكثر من خمسين يوما ؛ ليتأدبوا الأدب الذي يؤدبهم به المجتمع الإيماني، فلم يشأ الله لأن يبين الحكم حتى يستوفي هذا التأديب.
وإذا أدّب هؤلاء، فإن تأديبهم سيكون على مرأى ومسمع من جميع الناس، فيأخذون الأسوة من هذا التأديب.
ولو أن الله عجّل بالحكم، لمرّت المسألة بغير تأديب للمعتذرين كذبا وغيرهم، فقال :﴿ وآخرون مرجون لأمر الله ﴾ وما دام سبحانه قد حكم هنا بأنهم مؤخّرون لأمر الله، فليس لنا لأن نتعجل لنا أن نتعجل قصتهم، إلى أن يأتي الله فيهم :
﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا... ( ١١٨ ) ﴾ ( التوبة )وأراد الله أن يقص لنا قصة أخرى من أحوالهم، فقال :
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون-١٠٧ ) ﴾.
أما هلال بن أمية الأنصاري فقد شهد بدرا وما بعدها، ومات في خلافة معوية، وهو الذي ظهر صدقه في قذفه لامرأته بالزنا (الإصابة ٦/٢٨٩). أما مرارة بن الربيع الأنصاري، فهو صحابي مشهور بدر أيضا (٦/٧٦)..
٢ هو كعب بن مالك، قال:"لم أكن قط أقوى ولا يسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة... وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصغى (أي: أميل) فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد... فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو..." حديث طويل أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٦٩).
وقول الحق :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي... ( ٦١ ) ﴾ ( التوبة )
وقوله الحق :﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني.... ( ٤٩ ) ﴾ ( التوبة )وقال الحق عنهم أيضا :﴿ ويحلفون ﴾، ﴿ ويحلفون ﴾، ﴿ ويحلفون ﴾ ويقولون عنها :" محالف٢ التوبة " ويقص الحق حالا آخر من أحوال المنافقين، وقد قص له نظيرا فيما سبق، وهؤلاء المنافقون-كما قلنا- متعارضون في ملكاتهم، ملكة لسانية تؤمن، وملكة قلبية تكفر. والمزاوجة بين الملكات المتناقضة أمر عسير على النفس وشاق، ويتطلب مجهودا عاطفيّا، ومجهودا عقليّا، ومجهودا حركيّ، فهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا كلاما، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا كلاما، ويقص الحق ذلك حين يعلنون الإيمان بألسنتهم في قوله :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا... ( ١٤ ) ﴾ ( البقرة )أما إذا خلوا إلى أنفسهم فالحق يصف حالهم :﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم... ( ١٤ ) ﴾ ( البقرة ).
وهكذا تكبت ملكات لسانهم في أن يقولوا وقت أن يكونوا مع المؤمنين، أما حين يكونون مع إخوانهم فهم ينفّسون علة ملكاتهم فيقولون قولا مختلفا، وهذه مسألة متناقضة ؛ ولذلك قاب القرآن فيما سبق :﴿ ولو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ( ٥٧ ) ( التوبة )أي : لو أنهم يجدون مكانا أمينا، لا يراهم فيه المؤمنون، لنفّسوا عن أنفسهم، وسبّوا النبي، وسبّوا المؤمنين، وقالوا ما يريدون، إلا أنهم لا يجدون هذا المكان، إنهم يتمنون لو وجدوا ملجأ يلجئون إليه، أو مغارة يدخلون فيها ؛ لكي ينفّسوا عن أنفسهم ؛ إذن :{ لولوا إليه وهم يجمحون ﴾٣، لكنهم لا يجحدون.
ويقص الحق سبحانه وتعالى هنا قصة أخرى من أحوالهم فيقول عز وجل :﴿ و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا... ( ١٠٧ ) ﴾ ( التوبة ).
نحن نعلم أن كلمة " مسجد " في عمومها هي مكان السجود، وفي الخصوص هي مكان يحجز للسجود وللصلاة فقط، فإن أردت المعنى العام فكل الأرض مسجد٤، وتستطيع أن تصلي في أي مكان فيصير مسجدا، لا بالمكان ولكن بالمكين٥، وبعد ذلك تزاول فيه أعمال الحياة، وقد تصلي في الفصل الدراسي أو المكتب أو المصنع أو الحقل أو في أي مكان تزاول فيه أسباب الحياة.
وبذلك يصبح المكان الذي تصلي فيه مسجدا بالمكين، ولكن هناك مسجد آخر مخصص دائما للصلاة حين يؤخذ حيز من المكان، ويقال : " حجز ليكون مسجدا " فلا تباشر فيه أي عملية من عمليات الحياة إلا الصلاة وهو مسجد –بالمكان-، ونحن نعلم أن أول مسجد أسّس هو مسجد قباء والذين بنوه هم بنو عمروا بن عوف، ثم أراد المنافقون أن ينفّسوا عن أنفسهم في صورة طاعة، فبنوا مسجدا ضرارا، وقد بناه بنو غنم بن عوف وأرادوا بهذا المسجد أن ينافسوا مسجد قباء.
ونعلم كيف يكون الضرار بين المتنافسين على شيء، كما يحدث الآن تماما، وتسمع من يقول : ولماذا أقام الحي الفلاني مسجدا، ولم نقم نحن مسجدا ؟
وعلى ذلك فكل مسجد فيه هذه الصفة ؛ صف التنافس للحصول على سمعة أو تحيز على جهة، أو رياء، فهذا يعتبر مسجدا ضرارا ؛ لأن كل هذه المسائل فرقت جماعة المسلمين.
وقد يقول قائل : ولمن هذا الأمر ظاهرة صحية، ونقول : لا، إن لنا أن نعرف أنها ظاهرة مرضية في الإيمان، لأنك حين ترى المسجد وليس فيه صفان مكتملان، ثم يوجد بعده بعدة أمتار المسجد، وهناك مسجد ثالث بعد عدة أمتار، ثم مسجد رابع، فهذه كلها مساجد ضرار٦.
إذن : ف " المسجد " بمعناه الخاص هو المكان الذي يحيز حتى يصير مسجدا، لا يزاول فيه شيء غير المسجدية، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى واحدا ينشد ضالته في المسجد، قال له :" لا رد الله عليك ضالتك " ٧. لأن المسجد حين تدخله فأنت تعلن نية الاعتكاف لتكون في حضرة ربك، وعندك من الوقت خارج المسجد ما يكفيك لتتكلم في مسائل الدنيا.
إذن : فهؤلاء القوم أرادوا أن ينفّسوا عن نفاقهم بمظهر من مظاهر الطاعة، فقالوا : نقيم مسجدا، وبذلك نفرق جماعة المسلمين، فجماعة يصلون هنا، وجماعة يصلون هناك، وإن قعدنا نحن نصلي فيه فنكون أحرارا، ونتكلم مثلما نريد، أما حين نذهب للصلاة في المسجد الآخر، فنحن نجلس هناك مكبوتين، وغير قادرين على الكلام، نحن نريد أن ننفس عن أنفسنا.
فهم بنوا المسجد، ثم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي معهم في المسجد الجديد أثناء خروجه لغزوة تبوك فاعتذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوضح لهم : إننا في حال لا يسمح بذلك، وإن شاء الله عند عودتنا من الغزوة نصلي فيه. وبعد أن عاد من الغزوة حاولوا أن يستوفوه وعده، ويطلبوا منه الوفاء بوعده، فإذا بجبريل ينزل عليه بالآيات التي توضح حكاية هذا المسجد، وكيف أنه مسجد ضرار ؛ لأن الله علم نيتهم في ذاك.
ومعنى " الضرار " من المضارة، وأنهم أرادوا أن يأخذوا راحتهم في كل الزمن، وأن يبتعدوا عن التواجد مع المؤمنين في المسجد الذي يصلي فيه رسول الله، ويريدون أن يخلوا بعضهم ببعض، وأن يتكلموا كما يريدون في مضارة المسلمين، ويفرقوا بين جماعة المسلمين. ثم يقول سبحانه :﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾.
إذن : فكل ما يفتت جماعة المسلمين هو أمر ضار بمصلحة الإسلام ؛ لأن الإسلام يريد أن يعلم الناس أنهم قوة مجتمعة، ويكون أمر هذه القوة واضحا ؛ ولهذا أباح الحق أن تصلى الصلوات في أي مكان، وحتم أن نصلي جميعا يوم الجمعة في مكان واحد ؛ ليفرح المسلمون حين يرون أنفسهم مقبلين على الدين، ويلتقي كل واحد منهم بالآخر ؛ ولذلك مسجد الضرار هذا تفريقا بين المسلمين.
ثم يقول سبحانه :
﴿ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ﴾ والإرصاد٨ هو الترقب، ولذلك يقال : لقد استمر القوم في المكان الفلاني لرصد فلان، أي : أنهم لأناس يترقبون مجيئه بمكان ليفتكوا به، وهذا هو ترقب الكراهية لا ترقب الحب. والذين أقاموا هذا المسجد أرصدوه مترقبين ومنتظرين إنسانا له سابقة في عداء رسول الله صلى الله عليه وسلم٩، وهو الذي طلب منهم إقامة هذا المسجد وهو " أبو عامر الراهب " وقد سماه رسول الله " الفاسق ".
وأبو عامر هذا رجل تنصّر في الجاهلية ولم تكن الجاهلية بيئة ديانات، فمن كان مثلا يسافر إلى مكان ويسمع بدين فهو يأتي به ليدعوا لهذا الدين ويترأس من يتبعونه، وأبو عامر من هؤلاء الذين تنصّروا وصاروا في المدينة، فلما جاء رسول الله ليبطل كل هذه الأشياء في المدينة وزالت رياسته، عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال له أحد : ما رأيت قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم. وحين تمكن الإسلام في المدينة فر إلى مكة، ولما فتحت مكة فرّ إلى الطائف، فلما آمن أهل الطائف، لم يجد له وطنا فذهب إلى الروم " بالشام ". ثم كتب للمنافقين أم أعدوا مسجدا ؛ أني سآتي لكم من ملك الروم ؛ لأهاجم محمدا وأحاربه وأخرجه من المدينة١٠.
إذن : فهم قد بنوا ذلك المسجد ضرارا، وكفرا، وتفريقا، وإرصادا، أي : ترقبا وانتظارا لذلك الراهب الذي سيذهب إلى الشام ويأتي بجنود لمحاربة الله ورسوله. ورغم أنهم قد فعلوا ذلك، فقد امتلكوا جراءة الطلب من رسول الله أن يصلي معهم فيه بهدف ترسيم هذا المكان مسجدا ليصلي فيه الناس ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى فيه، وظنوا أن هذه المكيدة، سوف تفلح، ولكن الله الذي يحرس نبيه، ويحرس دينه من المنافقين، كشف له حقيقة المسجد.
وقد يتغافل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين بعض الشيء لحكمة ؛ فهم قد أخذوا بالإسلام لونا من الصحبة، ولم يفضحهم أولا حتى لا يقال : إن محمدا يحارب أصحابه١١ ؛ لذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم ما لم يكن يعلمه غيره ؛ لذلك أراد أن يحمي الإسلام من لسان من لمن يعلم. ولكن بعد أن انكشف الأمر أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم " مالك بن الدّخشم " و " وعامر ابن السكن "، و " وحشىّ " قاتلوا حمزة، و " معن بن عدى " ليهدموا هذا المسجد، وأن يجعلوا في موضعه مكان " القمامة ". وبذلك فضح المنافقون، فأسرّوا في نفوسهم.
وأنت إذا رأيت من عدوك فعلا تكرهه، فعليك أولا أن تفسد عليه الفعل، هذه أول مرحلة، فإذا تكرر الفعل منه، ولم يرتدع، لا بد أن تضعه في مكانه اللائق به. والمنافقون أرادوا بهذا المسجد الضرر والإضرار بالإسلام، وكان يجب أن يكفوا عن مثل هذا العمل ما دام الحق قد كشفهم. لكنهم لم يكفوا، وضلوا سادرين في العدواة للإسلام ؛ لذلك كان لابد كما تخلصت أولا من الفعل أن تتخلص من الفاعل ؛ لذلك أصبحوا خائفين من أن يتجه الردع إلى الفاعل، والحق سبحانه يقول :﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ( ٦٤ ) ﴾ ( التوبة ).
ونعلم أن المريب يكاد أن يقول : خذوني. إنه بسلوكه إنما يدل على نفسه، ويأتي القرآن في سورة ثانية فيقول :﴿ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم... ( ٤ ) ﴾ ( المنافقون ).
وهم يتصرفون هكذا لأن الريبة تملأ أعماقهم١٢، وكلما رأى واحد منهم مؤمنا يسير إلى ناحية يظن أنه جاء ليؤدبه ضربا أو قتلا.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ﴾، وكلمة ﴿ من قبل ﴾ فيها إيحاء بأن لهم سوابق في محاربة رسول الله بغرض أن يؤذوه صلى الله عليه وسلم، ولكن الحق سبحانه يحميه دائما، ولم يعد هناك مكر أو حرب أن ينالوا بها منه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الأمر أمثلة كثيرة، فالقرآن حينما يقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال اليهود ويوضح له :﴿ ويقتلون النبيئين بغير الحق... ( ٦١ ) ﴾ ( البقرة )
أليس هذا القول يدفع في خاطره احتمال أن يقتلوه ؟ بلى فهم ما دامت عندهم الجرأة على قتل الأنبياء فما الذي يمنعهم من قتله ؟ لكن الحق يطمئنه ويكتبهم ويقطع عنهم الأمل، ويأتي قوله الحق :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل... ( ٩١ ) ﴾ ( البقرة ).
وقوله :﴿ من قبل ﴾ هنا يعني أن ذلك لن يحدث الآن، فقد اختلف الموقف. وهكذا طمأن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك كتبت هذه الفكرة إن فكروا فيها١٣.
وأيضا حين يأتي القرآن في نيتهم أن يفعلوه، ولم يفعلوه بعد ويفضحهم القرآن بإعلان ما في نيتهم، ومن غبائهم فهم يفعلون الأمر المفضوح، ولو كان عندهم قليل من ذكاء لامتنعوا عن فعل ما فضحهم به القرآن.
ويتمثل ذلك في أحد المواقف التي يحلفون فيها، ولو كان فيهم رجل رشيد يملك التفكير المتوازن لقال لهم : إنكم سوف تحلفون ﴿ إن أردنا إلا الحسنى ﴾ فلا تحلفوا حتى يشك المسلمون في القرآن، ومن غبائهم أيضا أنهم حلفوا في أمر لهم فيه اختيار أن يفعلوه أو لا يفعلوه، مثلما قال الحق سبحانه :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها... ( ١٤٢ ) ﴾ ( البقرة )إنهم لم يكونوا قد قالوا بعد، وأنزل الحق ذلك في قرآن يتلى كل صلاة، ويع
٢ ذكرت مادة يحلفون في سورة التوبة في سبعة مواضع هي:
﴿وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم﴾ (التوبة: ٤٢)
﴿ويحلفون بالله إنهم لمنكن وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون﴾ (التوبة: ٥٦)
﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة: ٦٢)
﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر﴾ (التوبة: ٧٤)
﴿سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم ليهم لتعرضوا عنهم﴾ (التوبة: ٩٥)
﴿يحلفون لكم لترضوا عنهم...﴾ (التوبة: ٩٦)
﴿وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى...﴾ (التوبة: ١٠٧)
وكذلك وردت في مواضع أخرى من القرآن:
ففي سورة النساء:
﴿ثم جاءوك بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا﴾ (النساء: ٦٢)
وفي سورة المجادلة:
﴿ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون﴾ (المجادلة: ١٤)
﴿فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون لكم أنهم على شيء﴾ (المجادلة: ١٨).
٣ جمح الفرس: انطلق يعدو لا سثنيه شيء، أو غلب راكبه فجرى كما يريد، قال تعالى:﴿لولوا إيه وهم يجمحون﴾ (التوبة: ٥٧) أيك فرحوا خوفا على أي ملجأ لا يردهم شيء كالخيل الجامحة..
٤ عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان نبي يبعث في قومه خاصة ويبعث إلى كل أحمر ولأسود، وأحلت لي الغنائم. ولم تحل لأحد فبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة" متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٥) ومسلم (٥٢١)..
٥ مكن باب كرم- مانة فهو مكين: ثبت واستقر فهو ثابت واستقر فه ثابت ومستقر قال تعالى:﴿إنك اليوم لدينا مكين أمين﴾ (يوسف: ٥٤) أي: عظيم ثابت المنزلة ومكن له في الشيء ثبته قال تعالى:﴿أو لم نمكن لهم حرما آمنا﴾ (القصص: ٥٧) أي: حرما ثابتا، وأمكنه من عدو ونصره عليه قال تعالى:﴿فقد خانوا الله من فبل فأمكن منهم﴾(الأنفال: ٧١)..
٦ هذا يتلاقى مع ما قاله القرطبي في تفسيره (٤/٣١٨٠):" قال علماؤنا: لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبني حينئذ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبني في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه" واللغة تقول: ضارة يضاره مضارة وضررا مفاعلة بين اثنين ﴿لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده﴾ (البقرة: ٢٣٣) وإحداث مسجد كهذا ضار لجمع المسلمين ومدعاة للتفرق..
٧ عن أبي هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم:" إذا رأيتم من يبيع أم يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا ردها الله عليك" أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص٧٣) والدرامي (١/٣٢٦) والترمذي (١٣٢١) وقال: حسن غريب..
٨ أرصد: أعد وجهز، قال تعالى:﴿وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل﴾ (التوبة: ١٠٧) أي: عدوه لأعداء الإسلام الذين كانوا ولا يزالون يحاربونه، فمسجد الضرار كان مأوى لمن يريد أن يكيد للإسلام..
٩ من هذا ذكره ابن هشام في السيرة النبوية في غزوة أحد (٣/٨٠): "وقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، وهم لا يعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما" انظر أيضا تفسير ابن كثير (٢/٣٨٧)..
١٠ قصة نفاق هذا الرجل وعدائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مذكورة في أسباب النزول للواحدي (ص١٤٩) وتفسير القرطبي (٤/٣١٨٣) وابن كثير (٢/٣٨٧، ٣٨٨) وسيرة ابن هشام (٣/٨٠) وهو والد صحابي جليل هو حنظلة غسيل الملائكة، واستشهد يوم أحد وهو جنب فغسلته الملائكة..
١١ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على ألا يقول الناس: إن محمد يقتل أصحابه، وقد ورد هذا في حديث جابر بن عبد الله بن أبي قال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" أخرجه البخاري في صحيحه (٤٩٠٥) ومسلم في صحيحه (٢٥٨٤).
١٢ وفي هذا يقول رب العزة عنهم:﴿لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم...﴾ (التوبة: ١١٠) يقول ابن كثير في تفسيرها:"أي شكا بسبب لإقدامهم على هذا الصنيع الشنيع وأورثهم نفاقا في قلوبهم".
١٣ عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية:﴿والله يعصمك من الناس...(٦٨)﴾ (المائدة) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله" أخرجه الترمذي في سننه (٣٠٤٦) واستغربه، أخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية (٦/٢٠٦) والحاكم في مستدركه (٢/٣١٣) وصححه..
﴿ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( ١٠٨ ) ﴾.
فهل قوله الحق :﴿ لا تقم١ فيه أبدا ﴾ معناه أن يظل المسجد قائما ولا تقام في صلاة ؟ هل ﴿ لا تقم فيه أبدا ﴾ صيغتها النهي، أي لا يصلّ فيه، أن أنها إخبار من الحق بأنك تقيم فيه صلاة أبدا، لأنه لن يكون له وجود ؟.
إن قوله الحق سبحانه يعني أن هذا المسجد يجب ألا يكون له وجود، ثم تجد الله سبحانه وتعالى سيقول :﴿ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ﴾ إذن : فالمسألة ليست في بناء المسجد، ولكنها فيمن يدخل المسجد ويعمره، فهنا مسجد، وهناك مسجد، أما المسجد الأول٢ فقد أسس على التقوى، وفيه أناس يحبون أن يتطهروا، أما مسجد الضرار فقد أقامه منافقون يحبون أن يتقذروا ؛ لأنهم المقابل لمن يحبون أن يتطهروا.
ومعنى الحب هو ميل الطبع إلى الشيء تنبسط له النفس وتخفّ لعمله.
وحينما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم هذا ؟ قالوا : يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهل مع ذلك من غيره ؟ "
وهنا قال أهل قباء :" لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء " ٣، وكان الواحد منهم يمسك الحجر ويمسح به محل قضاء الحاجة ؛ فيخف في استخدام المياه ؛ لأن المياه كانت قليلة عندهم، ثم يستخدم الماء بعد الأحجار٤ ليكمل ويتم نظافته، وأضافوا :" ولا نبيت على جنابة، ولا نصرّ على ذنب، فإن غابنا الذنب تعجّلنا التوبة ".
﴿ يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ﴾ والحب هنا متبادل، فلا شيء أقسى على النفس من أن يكون الحب من طرف واحد، وهذا هو الشقاء بعينه. والشاعر يقول :
أنت الحبيب ولكني أعوذ بك | من أكون حبيبا غير محبوب |
إذن : فحين يكون الحب متبادلا تجد المحب كلما رأى حبا من حبيبه رد عليه بحب، فينمو الحب ويزداد، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان حب القلوب فيما لا يتغير وهو " الحب في الله " فإذا رأيت حبا بين اثنين يتناقص بمرور الزمن ؛ فاعلم أنه حب لغير الله، وإن رأيت الحب ينمو كل يوم، فاعلم أنه حب في الله.
والحق سبحانه يقول في قصة فرعون وموسى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا... ( ٨ ) ﴾ ( القصص )، هم لم يلتقطوه ليكون عدوا لهم ؛ فهذا الاحتمال لو كان قد جاء في بال آل فرعون لقتلوه، ولكنهم التقطوه ليكون قرة عين لهم، فلنظر كيف يدخل الله على تغفيل الكافرين به٥، فآل فرعون هم من يربون موسى ؛ ولذلك قال له فرعون :﴿ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ( ١٨ ) ﴾ ( الشعراء )ولكن موسى عليه السلام لا يجامل في الحق ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو من ربّاه، أما تربية فرعون فلم يكن لها اعتبار في يزان الحق، وقد تكون العداوة هينة لو كانت من جانب موسى وحده، ولكن شاء سبحانه ألا تكون العداوة من جانب موسى فقط، بل من جانب فرعون أيضا، فيقول سبحانه :
{ يأخذه عدو لي وعدو له... ( ٣٩ ) ( طه )
ويقول سبحانه في مجال الحب المتبادل :﴿ فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.... ( ٥٤ ) ﴾ ( المائدة ).
فحين يحبون الله يرد سبحانه على تحية الحب بحب زائد٦، وهم يريدون على تحية الحب منه سبحانه بحب زائد، وهكذا تتولى زيادات وزيادات ؛ حتى نصل إلى قمة الحب، ولكن الحب عند الله لا نهاية له، وأنت حين تقرأ القرآن تجد قوله سبحانه وتعالى :
{ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى... ( ٥٩ ) ( النمل )
ويقول سبحانه أيضا :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام... ( ٤٤ ) ﴾ ( الأحزاب )
لم يأت سبحانه هنا ب " ال " التعريفية ؛ لأنها لو جاءت لا نحصر السلام في لون واحد. فأنت حين تقول : لقيت الرجل، فأنت تحدد الرجل. لكنك إن قلت لقيت رجلا. فقد يكون الرجل هذا أو ذاك أو غيرهما. فإن جاء الإسم نكرة صار شائعا، أما إن كان بالتعريف فيكون محددا.
والحق حين تكلم عن يحيى عليه السلام قال :
﴿ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ( ١٥ ) ﴾ ( مريم )
لأنه لا يريد أن يكثر السلام. وحين تكلم عيسى عليه السلام عن نفسه قال :
﴿ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ( ٣٣ ) ﴾ ( مريم )
وحين يلقاك إنسان فهو يقول لك " سلام عليكم " وأنت ترد :" وعليكم السلام "، لماذا ؟ لأن " سلام عليكم " معناها أن السلام مني يكون عليك وعلى غيرك، أما ردّك " وعليكم السلام " فيعني أنك خصصته بهذا السلام.
وهنا الآية التي نحن بصدد خواطرنا في التحية حيث يقول الحق سبحانه :
﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ﴾ وهذا لأن الذي يحب أن يكون طاهرا دائما، قد أنس بفيوضات الله عليه٧، وما دامت ذراته كلها طاهرة من النجاسات المعنوية ومن النجاسات الحسية يصبح جهاز استقبال الفيوضات من الله عنده صالحا دائما للاستقبال، والحق سبحانه وتعالى يرسل إمداداته في كل لحظة، ولا تنتهي إمداداته على الخلق أبدا، وسبحانه يصف نفسه بأنه القيوم فاطمئنوا أنتم، فإن كنتم تريدون أن تناموا فناموا ؛ فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.
إذن : فقد جاء الإيمان لا ليتعبنا، كما سبحانه يصف نفسه٨ :
﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.... ( ٦٤ ) ﴾ ( المائدة )أي : يطمئن الخلق أنهم بمجرد إيمانهم ستأتيهم إمدادات الله وفيوضاته المعنوية والمادية. فصحّح جهاز استقبالك ؛ بألا توجد فيه نجاسة حسيّة أو نجاسة معنوية ؛ ولذلك إذا رأيت إنسانا عنده فيوضات من الحق فاعلم أن ذرات جسمه مبنية من حلال٩، ولا توجد به قذارة معنوية، ولا قذارة حسّية، ويتضح ذلك كله على ملامح وجهه، وكلماته، وحسن استقباله. وإن كان أسمر اللون فتجده يأسرك ويخطف قلبك بنورانيته. وقد تجد إنسانا أبيض اللون، لكن ليس في وجهه نور ؛ لأن فيوضات ربنا غير متجلية عليه.
وكيف تأتي الفيوضات ؟ إنها تأتي بتنقية النفس ؛ لأن الإنسان إن افتقر إلى الفيوضات الربانية، فعليه أن يبحث في جهازه الاستقبالي. وأضرب هنا مثلا بالإرسال الإذاعي، فمحطات الإذاعة ترسل، ومن يملك جهاز استقبال سليم فهو يلتقط البث الإذاعي، أما إن كان جهاز الاستقبال فاسدا فهذا لا يعني أن محطات الإذاعة لا تبث برامجها.
ولذلك قال الحق :﴿ بل يداه مبسوطتان... ٦٤ ) ﴾ ( المائدة )فاحرص دائما على أن تتناول من يد ربك المدد الذي لا ينتهي، والحديث الشريف يقول :
" إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " ١٠.
و الليل قد ينتهي عند إنسان، ويبدأ عند إنسان آخر، وهكذا النهار، فالليل مستمر دائما والنهار مستمر دائما، فيداه سبحانه مبسوطتان دائما ولا تنقبضان أبدا.
٢ هو مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام، بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم..
٣ أخرجه ابن ماجة في سننه (٣٥٥) والدار قطني في سننه (١/٦٢) والحاكم في مستدركه (١/١٥٥) (٢/٣٣٤) وصححه. قال الزليعي: سنده حسن لكن فيه عتبة بن أبي حكيم ليس بقوي..
٤ هي ثلاثة أحجار يستنجى بها من الغائط، فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزي عنه" أخرجه أحمد (٦/١٠٨، ١٣٣) وأبو داود في سننه (٤٠) والنسائي (١/٤١، ٤٢) والدار قطني (١/٥٤) فأهل قباء كانوا يضيفون الماء بعد هذه الأحجار الثلاثة حجرا بعد الآخر، وذلك لشدة حرصهم على الطهارة..
٥ وفي هذا يقول سبحانه:﴿وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذ ولدا وهم لا يشعرون﴾ (القصص: ٩).
٦ عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" أخرجه البخاري في صحيحه (٧٤٠٥) ومسلم (٢٦٧٥).
٧ لأنهم تخلوا عن النجاسات حسا ومعنى، وتحلوا بالطهر والعبادة، فتجلى الله عليهم بفيضه ونوره..
٨ وذلك أن اليهود وصفوا الله سبحانه بأنه بخيل لا ينفق فقالوا:﴿يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنا بما قالوا...﴾ (المائدة: ٦٤). وقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن يمين الله لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض، يرفع ويخفض" أخرجه البخاري (٧٤١٩) ومسلم (٩٩٣).
٩ عن عبد الله بن عمروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفس محمد بيده، إن مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيبا ووضعت طيبا" أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/١٩٩).
١٠ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٥٩) وأحمد في مسنده (٤/٣٩٥، ٤٠٤) من حديث أبي موسى الأشعري..
﴿ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا١ جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين( ١٠٩ ) ﴾.
وقوله :﴿ أفمن ﴾ استفهام٢، وكأنه يقول : وكيف تساوون بين مسجد أسّس على التقوى من أول يوم، ومسجد اتخذ للضرار وللكفر ولتفريق جماعة المسلمين وإرصاد لمن حارب الله ؟
إنهما لا يستويان أبدا، وساعة يطرح الحق هذه العملية بالاستفهام فسبحانه واثق من أن عبده سيجيب بما يريد الله.
وقوله الحق :﴿ أفمن أسس٣ بنيانه ﴾ نجد كلمة " بنيان " وهي مصدر ؛ " بنى " " بنيانا " لن أطلق على الشيء المبني، فنقول : إن هذا البيان جميل، أو نقول مثلا : إن طراز هذا البنيان فرعوني.
إذن : هناك فرق بين عملية البناء وبين الشيء الذي ينشأ من هذه العملية، وكلمة البنيان اسم جنس جمعى٤ ؛ لأنه يصح أن يكون جمعا ومفرده " بنيانة " مثلما نقول :" رمان "، ومفرده " رمانة " و " عنب " ومفرده " عنبة " وأيضا " روم " مفرده " رومى " فياء النسب هنا دخلت على الجمع فجعلته مفردا. إذن : يفرق بين الواحد والجمع، إما بالياء وإما بالتاء.
وقد حكم سبحانه بألا يصلوا في مسجد الضرار، وعليهم أن يصلوا في المسجد الآخر، وهو مسجد قباء، ثم يرد سبحانه الأمر إلى المؤمنين، ليعرفوا أن ما حكم به سبحانه هو ما تقبله العقول، وأن حكمهم يوافق حكم ربهم.
ثم يقول سبحانه :﴿ أم من أسس بنانه على شفا جرف هار فانهار به في جهنم ﴾ وهنا ثلاث كلمات : شفا، جرف، وهار. والشفا مأخوذ من الشّفة، و " الشفا " حرف الشيء وطرفه. وسكان سواحل البحار يعرفون أن البحار لها نحر من تخت الأرض، وتجد الماء يحفر لنفسه مساحة تحت الأرض ويترك شفة من الأرض، ولو سار عليها الإنسان لوقع ؛ لأنها الطرف الذي ليس له قاعدة وأسفله منحور.
و " شفا جرف " أي طرف سينهار ؛ لأنه " هار " أي غير متماسك، فتكون الصورة أن الماء ينحر في الساحل، فيصنع شفة لها سطح وليس لها قاعدة تحتها، وهذه اسمها " شفا جرف ".
وقد قال القرآن في موضع آخر :
{ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها... ( ١٠٣ ) ( آل عمران )إنها الحفرة في النار، فكيف يكون شكلها ؟ لا بد أنه مرعب.
ونحن نعلم أنهم كانوا حين يحفرون الآبار ليأخذوا منها الماء، كانوا يضعون في جدار البئر أحجارا تمنع ردمه ؛ لأن البئر إن لم يكن له جدار من حجارة قد ينهار بفعل سقوط الرمال من على فوهته، وهكذا تمنع الأحجار أي جزء متآكل من سطح البئر من الوقوع فيه، والجزء المتآكل هو جرف هار، وهكذا كان مسجد الضرار، ينهار بمن فيه في نار جهنم.
ويذيل الحق الآية :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ وهم كانوا ظالمين بالنفاق، لذلك لم يهدهم الله إلى عمل الخير ؛ لأن الله لا يهدي الظالم.
وسبحانه يقول في أكثر من موضع بالقرآن :{ والله لا يهدي القوم الفاسقين ( ١٠٨ ) ( المائدة )
ويقول سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين( ٢٦٤ ) ﴾ ( البقرة ).
ويقول عز وجل :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ( ٢٥٨ ) ﴾ ( البقرة )
والهداية –كما علمنا من قبل- قسمان : هداية الدلالة، وهي لجميع الخلق ويدل بها الناس على طريق الخير، ولهم أن يسلكوه أو لا يسلكوه، فهم أحرار، فلله هداية شملت الجميع، وهي هداية الدلالة، أما الهداية المنفية هنا فهي هداية المعونة.
٢ جاء الاستفهام هنا بالهمزة، وهي ترد لطلب التصور والتصديق، بخلاف هل، فإنها للتصديق خاصة، وسائل أدوات الاستفهام للتصور خاصة. (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ٢/١٤١) والاستفهام هنا استفهام معناه التقرير، أي تقرير أن من أسس بنيانه على تقوى الله خير ممن أسس بنيانه على شفا جرف هار..
٣ أسس بنيانه: أقامه على أساس قوي وعلى قواعد راسخة..
٤ اسم الجنس الجمعي: هو ما له مفرد يشاركه في لفظه ومعناه معا، ولكن يمتاز المفرد بزيادة تاء التأنيث في آخره أو ياء النسب. قال الفيروزي بادي "بصائر دوي التمييز" (ص٢٧٧): " البنيان، واحد لا جمع له. وقال بعضهم: جمع واحدته "بنيانه" على حد "نخلة ونخل" وهذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه"..
﴿ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة١ في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم( ١١٠ ) ﴾.
البنيان الذي بنوا هو مسجد الضرار، وأرادوا به ضرارا وكفرا وتفريقا لمن حارب الله ورسوله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدهم أن يصلي فيه، وكشف له الحق أنهم أرادوا بصلاة رسول الله فيه ذريعة٢ وأن يرسموا الصلاة فيه.
ولما عاد صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أنزل الله عليه :﴿ لا تقم فيه أبدا ﴾ وأرسل صلى الله عليه وسلم بعضا من صحابته٣ ليهدموا هذا المسجد، ولم يكتف بالهدم، بل أمر أن يجعل مكان المسجد قمامة إشعارا منه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد بنيته الأولى كانت نجاسته نجاسة معنوية، وحين توضع فيه النجاسة الحسّية، تكون طهارة بالنسبة للنجاسة المعنوية فكأنه طهر من النجاسة المعنوية بالنجاسة الحسّية.
ورسول الله يعلمنا أن الأمر ليس أمر نجاسات حسّية، وإنما النجاسات المعنوية أفظع من النجاسات الحسّية، فالإنسان قد يتحرز من النجاسات الحسّية، لكن النجاسات التي تخامر٤ القلوب والعقائد والعواطف فهي التي تسبب للإنسان الشقاء.
وهنا يقول الحق :﴿ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ﴾ فبعد أن هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البنيان وصار موقعه موضع القذارة، بقي أمر هذا البنيان موضع شك منهم وصاروا يتوجسون أن ينزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العقاب، وظلوا في شك من أن يصيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء، ولن يذهب هذا الشك من قلوبهم إلا أن تقطع تلك القلوب بالموت.
إن الشك والريبة محلها القلب، والقلب هو العضو الثاني في استباق الحياة، أما العضو الأول في استباق الحياة فهو المخ، فما دامت خلايا المخ سليمة، فمن الممكن أن تعود الحياة إلى الإنسان ولكن برتابة، أما القلب فحين يتوقف فالأطباء يحاولون أن يعيدوا له الحركة، إما بشق الصدر أو تدليك القلب ليعود إليه النبض، وقد يحفلون ما دامت خلايا المخ سليمة، فالمخ في الإنسان هو سيد الجسم كله، ولذلك تجدون أن الحق قد صان المخ بقوى الصيانات بعظام الجمجمة.
وكذلك النخاعات التي تتحكم في إرادة الجسد، نجده سبحانه قد كفل لها من العظام أعلى درجات الصيانة. ونرى في الحفريات أن الجماجم هي أبقى شيء، مما يدل على أنه للحفاظ على المخ قد جعل الله له أقوى العظام، ما دام المخ سيد الجسم سليما فمن الممكن أن تستمر الحياة، ولذلك نجد أن الجسم كله يخدم المدبر للجسم، ويحافظ على صيانته.
والإنسان إن تعرض للجوع يأكل من شحمه، وحسن يفوته ميعاد تناوله للطعام، يعرض عليه الطعام يقول : ليس لي رغبة في الأكل، وهذا ليس إلا تعبيرا علميا لما حدث في الجسم، فأنت أكلت بالفعل، فما دام قد مر ميعاد طعامك ولن تأكل فإن جسمك يأخذ ما يحتاجه من الذهون المخزونة به، وإذا ما انتهى الدهن يأخذ الإنسان من لحمه، وإذا ما انتهى اللحم يأخذ الإنسان غذاءه من عظامه، وكل ذلك من أجل أن يبقى السيد وهو " المخ " مصانا.
ولذلك تجد القرآن حينما عرض مسألة سيدنا زكريا، قال على لسانه :﴿ رب إني وهن العظم مني... ( ٤ ) ﴾ ( مريم )أي : أن آخر مخزن للقوت قد قارب على الانتهاء، أما النبات فهو عكس الإنسان، فسيد، النبات أسفل شيء فيه وهو الجذر، ويحاول النبات المحافظة على جدره، فإن امتنع الغذاء عن النبات بامتناع المياه عنه، بدأت أوراق النبات في الذبول ؛ لأنها تعطي حيويتها ومائيتها للجذر، ثم تجد الساق تجف لأنها تعطي حياة للجذر ليستمر إلى أن يأتي قليل من المياه أو قليل من الغذاء، فيعود قويّا.
والقلب هو محل العقائد والاعتقادات، وهي الأشياء التيس تنشأ من المحسّات، وتتكون في الفؤاد٥ لتصير عقائد لا تطفوا للمناقشة من جديد، أما العقل فهو يناقش كل المسائل، وما إن ينتهي من الاقتناع بفكرة حتى تستقر في القلب.
وهنا يوضح لنا الله أن هذا البيان سيظل أثره في قلوبهم، ولن ينتهي منهم أبدا إلا بشيء واحد هو :﴿ أن تقطع قلوبهم ﴾ والقلوب لا تتقطع إلا بالموت، وكأن الشك من هذا البنيان سيظل يلاحقهم إلى أن يموتوا.
أو﴿ إلا أن تقطع قلوبهم ﴾ أي : أن تتقطع توبة وأسفا وحزنا.
وهذا تهديد لهم بأن مسيئاتهم ليست من الخارج، وإنما مسيئاتهم من ذوات نفوسهم. ووجود الريبة في نفوسهم، يعني أنها لن تجعلهم يستشرون في الإفساد لخوفهم المستمر من العقاب.
ثم يقول سبحانه :﴿ والله عليم حكيم ﴾ وعلمه سبحانه شامل فلا تخفى عليه خافية، حكمته سبحانه أن يضع كل شيء في مكانه.
٢ ذريعة: أي وسيلة وتوصلا لهدف معين..
٣ منهم: مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أما مالك فقد شهد بدرا. وأما معن بن عدي بن الجد حليف الأنصار فقد شهد غزوة أحد.(انظر الإصابة في تمييز الصحابة).
٤ خامر القلوب: خالطها وامتزج بها..
٥ القلب هو مضخة الدم في شرايين الجسم وعروقه هذا تعريف المادة، والفؤاد هو عقل القلب وهو محل العقائد الناشئة عن الإدراك، مصداقا لقوله تعالى:﴿فتكون لهم قلوب يعقلون به (٤٦) (الحج) وقوله:{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (٢٤)﴾ (محمد) ويطلق القلب على الفؤاد، كما يطلق الفؤاد على القلب. فهما متلازمان. فالقلب يصل إلى الاعتقاد بالإدراك انفعالا، وبعد الانفعال يكون الاختيار بمناقشة المسائل، ثم يكون الاختيار في البدائل وينتهي بالإقناع..
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم( ١١١ ) ﴾.
بعد أن تكلم الحق عن الذين تخلفوا عن الغزو، وعن الذين اعتذروا بأعذار كاذبة، وعن الذين أرجأ الله فيهم الحكم، وأراد أن يبين سبحانه أن تخافهم ليس له أي أهمية ؛ لأن الله سبحانه وتعالى عوّض الإيمان وعوض الإسلام بخير منهم، فإياكم أن تظنوا أنهم بامتناعهم عن الغزو سوف يتعبون الإسلام، لا ؛ لأن الحق سبحانه ينصر
فيقول الحق سبحانه :﴿ إن الله اشترى١ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ﴾ :
يقول العلماء : كيف يشتري الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وهو الذي خلق الأنفس وهو الذي وهب المال ؟ وقالوا : ولكن هبة الله لهم لا يرجع فيها، بدليل أن المال مال الله، وحين أعطاه لإنسان نتيجة عمله أوضح له : إنه مالك بحيث إذا احتاجه أخ لك في الدين، فأنا أقترضه منك، ولم يقل : " أسترده " فسبحانه القائل :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ( ٢٤٥ ) ﴾ ( البقرة ).
لقد احترم الحق الهبة للإنسان، واحترم عرقه وسعيه، وكأنه سبحانه حينما وهب البشر الحياة، ووهبه الأنفس أعلن أنها ملكهم حقا، ولكنه أعطاها لهم، وحين يريد أخذها منكم فلا يقول : إنه يستردها بل هو يشتريها منكم بثمن ؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام :" إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله هي الجنة " أي : اجعلوا ثمنها غاليا.
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ﴾. وكلمة ﴿ اشترى ﴾ تدل على أن هناك صفقة، عملية شراء وبيع. وإذا كان هذا ملكا لله، فالله هو المشترى، والله هو البائع، فلا بد أن لهذا الأمر رمزية، وهذه الرمزية يلحظها الإنسان في الولي على اليتيم أو السفيه، فقد يصح أن يكون عندي شيء وأنا ولي على يتيم، فأشتري هذا الشيء بصفتي، ثم أبيعه بصفتي الأخرى، فالشخص الواحد يكون هو الشاري وهو البائع٢، فكأن الله يضرب لنا بهذا المثل :" إنكم بدون منهج الله سفهاء، فدعوا الله يبيع وادعوا الله يشتري "
وما الثمن ؟ يأتي التحديد من الحق :﴿ بأن لهم الجنة ﴾ هذا هو الثمن الذي لا يفنى، ولا يبلى، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات الله التي لا نهاية لها، أما نعيمك في حياتك فهو على قدر إمكانياتك أنت في أسباب الله، وهكذا يكون الثمن غاليا.
وحينما جاء الأنصار في بيعة العقبى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال :" اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟.
ماذا قال رسول الله ؟ أقال لهم ستفتحون قصور بصرى والشام وتصيرون ملوكا، وينفتح لكم المشرق والمغرب ؟.
لم يقل صلى الله عليه وسلم شيئا من هذا، بل قال : " الجنة " ؛ لأن كل شيء في الدنيا تافه بالنسبة لهذا الثمن، وقالوا :" ريح البيع لا نقيل ولا نستقيل " ٣ وبمجرد عقد الصفقة العهدية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار٤، كان من الممكن أن يموت واحد أو اثنان أو ثلاثة قبل أن يبلغ الإسلام حظه وذروته، وقد يقال : فلان مات ولم يأخذ شيئا من ماديات الحياة. لكنه صلى الله عليه وسلم حين قال : " الجنة "، فمن مات يدخلها.
﴿ بأن لهم الجنة ﴾ هذا هو الثمن، وهو وعد بشيء يأتي من بعد، ولكنه وعد ممن يملك إنفاذه ؛ لأن الذي يقدح في وعود الناس للناس، أنك قد تعد بشيء ولكن تظل حياتك ولا تفي به، أو أن تقل إمكاناتك عن التنفيذ.
إذن : الوعد الحق هو ممن يملك ويقدر، وحي لا يموت، لذلك في هذه الآية :
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم أموالهم بأن لهم الجنة ﴾
ويقول في آخرها :﴿ وعد عليه حقا ﴾ و " وعد " مصدر، فأين الفعل ؟ إننا فهمنا : أي وعدهم الله بالجنة وعدا منه سبحانه وهو الذي يملك وهو وعد حق. والقرآن حين يأتي بقضية كونية، فالمؤمن يستقبلها بأنها سوف تحدث حتما، فإذا ما جاء زمنها وحدثت صارت حقا ثابتا، مثلما يقول سبحانه :﴿ إن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾ ( الصافات )
هذه قضية قرآنية، حدثت من قبل وثبتت في الكون.
وماذا بعد أن يشتري الله من المؤمنين أموالهم وأنفسهم ؟ هنا يحدد الحق المهمة أمامهم :
﴿ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾ و " قاتل " من " فاعل "، " قتل " غير " قاتل ". فالقتل عمل من جهة واحدة، لكن " قاتل : تقتضي مفاعلة، مثلها مثل " شارك زيد عمرا ". وكل مادة " فاعل " و " تفاعل " توضح لنا الشركة في الأمر، فكل واحد منهم فاعل، وكل واحد منه مفعول. ولذلك تجد في أساليب العرب ما يدلك على أن ملحظ الفاعلية في واحد هو الغالب، وملحظ المفعولية في الآخر هو الغالب، ولكن على التحقيق فإن كل واحد منهم فاعل من جهة، ومفعول من الجهة الأخرى.
فمثلا : الرجل الذي سار في الصحراء التي فيها حيّات وثعابين، ولم يهج الرجل أثناء سيره الحيّات ولا الثعابين، بل تجنبها، والثعبان ما دمت لا تهيجه فهو لا يفرز سمّا ؛ لأن سم الثعبان لا يفرز إلا دفاعا.
وساعة يرى الثعبان انك ستواجهه يستعمل سمّه، فإذا كان الرجل سائرا وله قدرة المحافظة على عدم إهاجة الثعابين لا الحيّات، فهو قد " سالمها "
والشاعر يقول :
قد سالم الحيات منه القدما *** والأفعوان٥ والشجاع الشجعما٦
والأفعوان هو الثعبان الفظيع، نلحظ أن " الأفعوان " منصوب، وأن " الحيات " مرفوعة، لإذن : فالقدم مفعول، الحيات فاعل وجاء بالقدم منصوبة، وكذلك الشجم لما في الحيات من المفعولية ؛ لأن الحيّات إذا سالمت القدم فقد سالمها القدم، فكأنه قال : سالم القدم الحيّات، ثم جعل الأفعوان بدالا منها.
وهنا يقول الحق :
﴿ بأن لهم الجنة يقاتلون ﴾ فمن يقاتل، إما أن يقتل، وإما أن يقتل وإما أن يقتل، وفي قراءة الحسن يقدم الثانية على الأولى، ٧ ويقول :" فيقتلون ويقتلون " ؛ فالمسألة صفقة بمقتضى قوله :﴿ بأن لهم الجنة ﴾ لذلك يقدم قتلهم، وهو الأقرب لمعنى الصفقة. وأيضا فإن المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ٨ وإذا ما جاء المؤمنون إلى جانب ؛ والكفار إلى جانب آخر فالمؤمنون بنيان، والحق هو القائل :
﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( ٤ ) ﴾ ( الصف )
فإذا ما سبق قوم المؤمنين بأن يقتلوا، فكأن الكل قتل. إذن : فحين قتل بعض المؤمنين، يمكننا أن نقرأ قول الحق على قراءة الحسن ونقول :" فيقتلون ويقتلون " أو : أنهم حينما دخلوا إلى القتال وضعوا في أنفسهم أن يقتلوا، ولم يغلبوا جانب السلامة.
وكلنا نعرف قصة الصحابي الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس بيني وبين الجنة إلى أن ألقى هؤلاء فيقتلوني ؟ قال له : " نعم " فأخرج الصحابي تمرة كانت في فمه، ودخل إلى القتال وكأنه يستعجل الجنة٩.
﴿ وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾، وهذا تأكيد بأن لهم الجنة، وهو وعد من الحق في التوراة والإنجيل والقرآن لمن يدخلون المعارك دفاعا عن الإيمان.
وكل دين في وقته له مؤمنون به، ويدخلون المعارك دفاعا عنه. إذن : فالقتال في سبيل الله نصرة الدين والدفاع عنه ليس مسألة مقصورة على المسلمين، لكنها لم تكن عامة عند الرسل، فقد كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتدخل لعقاب أهل الكفر، وكان الرسول يبلّغ، فإذا لم يستجيب له قومه، عاقبهم الله سبحانه، والقرآن يقول :
﴿ فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا... ( ٤٠ ) ﴾١٠ ( العنكبوت )ولم تأت مسألة القتال في سبيل الله إلا عندما طلب اليهود من بعد سيدنا موسى عليه السلام١١ أن يقاتلوا في سبيل الله :﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لبني لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله... ( ٢٤٦ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : فهذا وعد من الله في التوراة للذين آمنوا بموسى عليه السلام، وطالبوا بالقتال غفي سبيل الله، وكذلك في الإنجيل للذين آمنوا بعيسى عليه السلام، وأخيرا في القرآن للذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم١٢
أو : أن هذا الوعد خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنها الأمة المأمونة للدفاع عن كلمة الله بالمجهود البشري. وبهذا يكون الوعد في التوراة والإنجيل والقرآن هو وعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك الإنجيل قد بشّر فيه بهذا الوعد للأمة المسلمة. والدليل على ذلك هو قول الحق سبحانه في آخر سورة الفتح :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم... ( ٢٩ ) ﴾ ( الفتح ).
إذن : فالدين لا يطبع المتدين لا على الشدة ولا على الرحمة، إنما يطبعه انطباعا يصلح لموقف الشدة فيكون شديدا، ولموقف الرحمة فيكون رحيما. ولو أنه مطبوع على الشدة لكان شديدا طوال الوقت، ولو طبع على الرحمة فقط لكان رحيما كل الوقت، ولكن شاء الحق أن يطبع المؤمنين ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، ولذلك فالدين لا يطبع الناس على ذلة ولا على عزة، إنما يجعلهم أذلة على المؤمنين، وأعزة على الكفار.
وبذلك يطوّع المؤمن نفسه، فهو شديد ورجيم، عزيز وذليل، فهو طوع للمنهج، فحين يتطلب منه منهج الله أن يكون شديدا يشتد، وحين يتطلب منهج الله منه أن يكون رحيما يرحم، وحين يتطلب الله من أن يكون ذليلا بالنسبة و لإخوانه المؤمنين يذل، وحين يتطلب منه أن يكون عزيزا على الكافرين يعز.
﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ) ﴾ ( الفتح )
وتتابع صفات المؤمنين في قوله سبحانه :﴿ تراهم ركعا سجدا... ( ٢٩ ) ﴾ ( الفتح )
وهم في ركوعهم وسجودهم إنما يعبرون عن قيم الولاء لله.
ثم يصفهم سبحانه :﴿ يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود... ( ٢٩ ) ﴾.
وهم لا يريدون إلا رضا الله وفضله، والنور يشع من وجوههم١٣ لأنهم أهل القيم، ويضيف سبحانه :﴿ ذلك مثلهم في التوراة... ( ٢٩ ) ﴾ ( الفتح )أي : أن التوراة جاءت فيها البشارة بأن محمدا سيجيء بأمة فيها الخصال الإيمانية والقيمية التي لا توجد في اليهود، هؤلاء الذين تغلب عليهم المادية ولا ترتقي أرواحهم بالقيم الدينية، فأنت إن نظرت إلى التوراة المحرفة فلن تجد فيها أي شيء عن اليوم الآخر، بل كلها أمور مادية.
أما الإنجيل فلقد جاءت المسيحية بالرهبنة، والماديات فيها ضعيفة ؛ ولذلك جاء القرآن منهجا متكاملا تنتظم به الحياة، قيما حارسة، ومادة محروسة ؛ فالعالم يفسد حين تأتي فتغطى وتنحسر القيم، أو حين توجد قيم ليس لها قوة مادية١٤ تدافع عنها، فيأبى القوي الظالم إلا أن يطغى بقوته المادية على القيم الروحية فيكون الخلل في البناء الاجتماعي.
إذن : فنحن في حاجة دائمة إلى قيم تحرسها مادة، ومادة تحرسها قيم. وأخبر الله قوم موسى : أنتم لا تملكون القيم المعنوية، وتعتزون بالقيم المادية، ولذلك ستأتي أمة محمد وهي تملك قيم الروح المادة، فهم ركّع، سجد، يبتغون فضلا من الله ورضوانا،
٢ هذا يجوز عند الإمام مالك بشرط أن ألا يحابي نفسه في الشراء من مال اليتيم أو البيع إلى نفسه. انظر فقه السنة للشيخ سيد سابق (٣/٣٣٤)..
٣ حينئذ نزلت هذه الآية. وقد أورد سبب نزولا هذه الآية السيوطي في أسباب النزول(ص ١٠١) طبعة دار الشعب، وعزاه لإبن جرير الطبري من مرسل محمد بن كعب القرظي، وكذا أورده ابن كثير في تفسيره(٢/٣٩١) والقرطبي في تفسيره (٤/٣١٩٣).
٤ كانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين من الأوس والخزرج منهم: سعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، وأبو مسعود الأنصاري، والبراء بن معرور، وسعد بن عبادة، والمرأتان هما: نسيبة بنت كعب’ وأسماء بنت عمرو..
٥ الأفعوان: ذكر الأفاعي. والمؤنث "أفعى" وهي الحية..
٦ الشجاع الشجعم: الثعبان الضخم..
٧ قال القرطبي في تفسيره (٤/٣١٩٤):"قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول"..
٨ عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" أخرجه البخاري في صحيحه (٢٤٤٦) ومسلم في صحيحه (٢٥٨٥) واللفظ لمسلم..
٩ وذلك أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال له: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة. فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل. أخرجه البخاري في صحيحه (٤٠٤٦) مسلم (١٨٩٩) في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله..
١٠ هذه أربعة أنواع من العذاب:"الحاصب" وهي ريح شديدة البرد عاتية الهبوب جدا تحمل حصباء الأرض فتلقيها على الناس وتقتلعهم من الأرض وقد عذب الله بها قوم "عاد" و"الصيحة" التي أخذت قوم "ثمود" فقضت عليهم و"الخسف" الذي عاقب الله به قارون و"الغرق" الذي قضى الله به على فرعون وجنوده وعلى الكافرين من قوم نوح عليه السلام..
١١ كان هذا بعد سيدنا موسى بما يقرب على الألف عام، والنبي هنا الذي طلب منه قوم بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله هو: شمعون أو شمويل، قاله السدي ومجاهد ووهب بن منبه. وهو ما رجحه ابن كثير في تفسيره (١/٣٠٠).
١٢ قال القرطبي (٤/٣١٩٤) في تفسير الآية:"هذا إخبار من الله تعالى أن هذا كان من هذه الكتب وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام" وقد قال عز وجل على لسان سيدنا موسى:﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين﴾ (المائدة: ٢١) إلى أن قال:﴿قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك...﴾ (المائدة: ٢٤).
١٣ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الهدي الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" أخرجه أحمد في مسنده {١/٢٩٦) وأبو داود في سننه (٤٧٦٦) وقال بعض الصالحين: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، سعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. انظر ابن كثير (٤/٢٠٤).
١٤ جمع الإسلام بين عقل المادة بالتخطيط وعقل الروح بالتهذيب، ومن هنا يكون الانسجام بين طاقة الروح وطاقة المادة، وطاقة العقل، فرسالة الإسلام هي عقل القيم، يقول الحق{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي من يشاء ويهدي إليه من ينيب...(٢٣) (الشورى).
﴿ التائبون١ العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ( ١١٢ ) ﴾.
وبعد أن عرض الحق هذه الصفقة، فمن هو المقبلون عليها٢ ؟ إنهم التائبون، والتوبة : هي الرجوع عن أي باطل إلى حق.
وعم يتوب هؤلاء التائبون ؟.
نحن نعلم أن هناك إيمان الفطرة. ونجد ذلك في قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( ١٧٢ ) أو تقولون إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( ١٧٣ ) ﴾ ( الأعراف )
إذن : فالإيمان أمر فطري، والكفر هو الذي يطرأ عليه، وقلنا من قبل : إن الكفر هو الدليل الأول على الإيمان ؛ لأنه الكفر هو الستر٣، فمن يكفر بالله-والعياذ بالله- إنما يستر وجوده، فكأن وجوده هو الأصل، ثم يطرأ الكفر فيستره، ثم يأتي من ينبه في إنسان مشاعر اليقين والإيمان فيرجع الإنسان إلى الإيمان بالله بعد أن يزيل الغشاوة التي طرأت على الفطرة.
و﴿ التائبون ﴾ : منهم التائبون عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة، وأخذوا منهج الله الذي آمنوا به، ومن هنا نشأت العبادة التي تقتضي وجود عابد ومعبود، والعبادة تعني الانصياع من العابد لأوامر ونواهي المعبود.
﴿ التائبون العابدون الحامدون ﴾ والعبادة كلها طاعة تتمثل في تطبيق ما جاء به المنهج من " فعل " و " لا تفعل "، وقد يتدخل المنهج في حريتك قليلا، وأنت بقوة الإيمان تعتبر أن هذا التدخل في هذه الحرية نعمة يجب أن تحمد الله عليها ؛ لأنه لو تركك على هواك، كما يترك ولي أمر التلميذ ابنه على هواه فهو يفشل، ولكن الأب الذي يحث ابنه على المذاكرة وينهاه عن اللعب والعبث، فلا بد أن ينجح.
إذن : الأوامر والنواهي هنا نعمة، كان يجب أن نحمد ربنا عليها، وكل ما يجريه الله على العبد المؤمن يجب أن يأخذه العبد على أساس أنه نعمة.
إذن : فالذين تابوا عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة هم تائبون يأخذون منهج الإيمان من المعبود، ويصبحون بذلك عابدين لله، أي : منفذين الأوامر، ومبتعدين عن النواهي، وهم يعلمون أن الأوامر تقيد حركة النفس وكذلك النواهي، ولكنهم يصدقون قوله صلى الله عليه وسلم : " حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات٤ ".
حين تعرف أن العبادة أو صلتك إلى أمر ثقيل على نفسك، فاعرف أن هذه لمصلحتك وعليك أن تحمد الله عليه ؛ وبذلك يدخل المؤمن في زمرة الحامدين.
وأنت حين تؤمن بالله، يصبح الله في بالك، فلا يشغلك كونه عنه سبحانه، وإياك أن تشغل بالنعمة عن المنعم، واجعل الله دائما في بالك، والحق سبحانه يقول :
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ( ٦ ) أن رآه استغنى ( ٧ ) ﴾ ( العلق )
لذلك يفكر المؤمن في الله دائما ويشكر المنعم على النعمة وآثارها من راحة في بيت الأولاد وعمل.
و﴿ الحامدون ﴾ أيضا لا بد أن يستقبلوا كل قدر لله عليهم بالرضا ؛ لأن الذي يجري عليهم القدر –ما دام لم يأمرهم بما لم يقع في اختيارهم-فهو حكيم ولا يجري سبحانه عليهم إما كان في صالحهم. وبعد أن ترضى النفس بما أجرى عليها الحكمة ؛ ولذلك يقول سبحانه :﴿ اتقوا الله ويعلمكم الله... ( ٢٨٢ ) ﴾ ( البقرة ).
ويتابع الحق صفات المقبلين على الصفقة الإيمانية فيقول :﴿ السائحون ﴾ ومعنى " سائح " هو من ترك المكان الذي له موطن، فيه بيته وأهله وأولاد وأنس بالناس، ثم يسيح إلى مكان ليس له فيه شيء ما، قد يتعرض فيه للمخاطر، والمؤمن إنما يفعل ذلك ؛ لأنه لا شيء يشغله في الكون عن المكوّن، ويقول الحق سبحانه :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا... ( ١١ ) ﴾ ( الأنعام ).
إذن : فالسياحة هي السير المستوعب، والسير في الأرض منه سير اعتبار لينظر في ملكوت السماوات والأرض، وليستنبط من آيات الله ما يدل على تأكيد إيمانه بربه، ومنه سير استثمار بأن يضرب في الأرض٥ ليبتغي من فضل الله.
إذن : فالسياحة إما سياحة اعتبار، وإما سياحة استثمار، أما السياحة، أما سياحة الاستثمار فهي خاصة بالذين يضربون في الأرض، وهم الرجال.
أما سياحة الاعتبار ؛ فهي أمر مشترك بين الرجل والمرأة، بدليل أن الله قال ذلك في وصف النساء :﴿ عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات... ( ٥ ) ﴾ ( التحريم ).
إذن :﴿ سائحات ﴾ هنا مقصود بها سياحة الاعتبار، أو السياحة التي تكون في صحبة الزوج الذي يضرب في الأرض.
وقيل أيضا : إن السياحة أطلقت على " الصيام " ؛ لأن السياحة تخرجك عما ألفت من إقامة في وطن ومال وأهل، والصيام يخرجك عما ألفت من طعام وشراب وشهوة٦.
إذن : القدر المشترك بين الرجال والنساء هو سياحة الاعتبار وسياحة الصوم.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ الراكعون الساجدون ﴾ أي : المقيمون للصلاة، وقد جاء بمظهرين فقط من مظاهر الصلاة، مع أن الصلاة قيام وقعود وركوع وسجود ؛ لأن الركوع والسجود هما الأمران المختصان بالصلاة، وأما القيام فقد يكون في غير الصلاة، وكذلك القعود. إذن : فالخاصيتان هما ركوع وسجود ؛ والحق يقول : يا مريم اقنتي٧ لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ( ٤٣ ) } ( آل عمران )أي : صلّي مع المصلّين، وهكذا نجد أن الركوع والسجود هما الأمران اللذان يختصان بالحركة في الصلاة.
ثم يقول سبحانه :﴿ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ﴾ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حيثية تخص الأمة المحمدية لتكون خير أمة أخرجت للناس، فالحق سبحانه يقول :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر... ( ١١٠ ﴾.
فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا بد أن تكون بمنأى عن هذا المنكر فليس معقولا أن تنهى عن شيء أنت مزاول له٨. إذن : فالأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، صلاح أو هدي متعدّ من النفس إلى الغير، بعد أن تكون النفس قد استوفت حظها منه.
ويقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تعرف المعروف الذي تأمر به، وأن تعرف المنكر الذي تنهى عنه ؛ لذلك لا بد أن تكون من أهل الاختصاص في معرفة الله، ومعرفة حدود الله حلا وحرمة، أما أن يأتي أي إنسان ليدخل نفسه في الأمر ويقول : أنا آمر بمعروف وأنا أنهى عن منكر، وهنا نقول له : لا تجعل الدين، ولا تجعل التقوى في مرتبة أقل من المهن التي لابد أن يزاولها أهل فكر ومتخصصون فيها.
ثم يقول سبحانه :﴿ والحافظون لحدود الله ﴾ و " الحدود " جمع " حد " وتأتي الحدود في القرآن على معنيين : المعنى الأول هو المحافظة على الأوامر، وتلك يردفها الحق بقوله :
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها... ( ٢٢٩ ) ﴾ ( البقرة )وكل أمر يقول فيه ذلك هو حد الله فلا تتعدّ هذا الحد، أما المعنى الثاني : فهو البعد عن المنهيات فلا يقول لك : لا تتعداها، بل يقول سبحانه :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها... ( ١٨٧ ) ﴾ ( البقرة ).
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ أي : بشّر هؤلاء الذين يسلكون هذا السلوك مطابقا لما اعتقدوه من اليقين والإيمان لا هؤلاء المنافقين الذين قد يصلون أو يصومون ظاهرا. وكلمة ﴿ وبشر ﴾ و " استبشر " و " البشرى " و " البشير " كلها مادة تدل على الخبر السار الذي يجعل في النفس انبساطا وسرورا ؛ بحيث إذا رأيت وجه الإنسان وجدته وجها متهللا تفيض بشرته بالسرور.
وبعد ذلك يتكلم الحق عن أمر شغل بال المؤمنين الذين كان لهم آباء على الكفر ؛ ومن حقوق هذه الأبوة على الأبناء أن يستغفروا لهم لعل الله يغفر، وأراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن علية حدود الله وحقوقه أولى من قرابة الدم، وأولى من عاطفة الحنوّ والرحمة ؛ فالحق سبحانه وتعالى أولى بأن يكون الإنسان بارا به من أن يكون بارّا بالأب الكافر، وقد جعل الحق سبحانه النسب في الإسلام نفسه.
٢ لمس فصيلة الشيخ هنا معنى هاما في تفسير هذه الآية، فلن يقبل على الدخول في هذه البيعة إلا من توافرت فيه هذه الصفات ولكن ليس على سبيل الشرط فقد ثبت في السنة أن هناك من استشهد ولم يركع لله ركعة، وكذلك جاء في السنة أن الشهيد تغفر له ذنوبه مع أول قطرة دم (أخرجه أحمد في مسنده (٤/١٣١) وحسن إسناده المنذري في الترغيب (٢/١٩٤) وقد اختلف المفسرون في هذه الآية: هل هي متصلة بالآية قبلها أم منفصلة؟ فاتصالها بها معناه أنه لن يدخل في هذه البيعة إلا القليل النادر، أما انفصالها فمعناه أن هذه أوصاف للكلمة من المؤمنين الأقرب لبيع الأنفسهم وأـموالهم في مقابل الجنة. أنظر تفسير القرطبي (٤/٣١٩٧).
٣ الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بأن لا يعرف الله ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، ومن لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له... فأما كفر الإنكار فهو كفر بالقلب واللسان. وأما كفر الجحود فهو أن يعترف الكافر بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس وأمية بن أبي الصامت ﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به(٨٩)﴾ (البقرة) وأما كفر المعاندة فهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يدين به حسدا وبغيا ككفر أبي جهل. وأما كف النفاق فهو إقرار باللسان وكفر بالقلب. ونقله ابن منظور في اللسان (مادة: كفر).
٤ أخرجه أحمد في مسنده (٣/١٥٣، ٢٥٤، ٢٨٤) ومسلم في صحيحه (٢٨٢٢) والترمذي في سننه (٢٥٥٩) والدارمي في سننه (٢/٣٣٩) عن أنس بن مالك. قال النووي في شرحه لمسلم (١٧/١٧١) "فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها كظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات ونحو ذلك. وأما الشهوات التي حفت بها النار، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والنظر إلى الأجنبية والغيبية واستعمال الملاهي ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة أو يقسى القلب أو يشغل عن الطاعات أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها ونحو ذلك".
٥ الضرب في الأرض: السفر لطلب الرزق والتجارة. ويقول سبحانه:﴿وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله(٢٠)﴾ (المزمل).
٦ قيل للصائم: "سائح" لأن الذي يسيح متعبدا يسيح ولا زاد معه إنما إذا وجد الزاد، والصائم لا يطعم أيضا فلشبهه به سمى سائحا. نقله ابن منظور في اللسان..
٧ القنوت: أداء الطاعة في خضوع وخشوع مع الإقرار بالعبودية لله..
٨ عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله" أخرجه البخاري في صحيحه (٣٢٦٧) ومسلم بلفظ مقارب (٢٩٨٩) ويقول الشاعر:
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم.
﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم( ١١٣ ) ﴾.
قبل أن يحظر الحق سبحانه على المؤمنين الاستغفار لآبائهم المنافقين، بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ ما كان للنبي ﴾، وإذا كان النبي ينهى، فالمؤمنون من باب أولى ليس لهم الحق في ذلك ؛ لأن الله لو أراد أن يكرم أحدا من الآباء لأجل أحد، لأكرم آباء النبي إن كانوا غير مؤمنين.
وكلمة ﴿ ما كان ﴾ تختلف عن كلمة " ما ينبغي " فساعة تسمع " ما ينبغي لك أن تفعل ذلك " فهذا يعني أن لك قدرة على أن، تفعل، لكن لا يصح أن تفعل، ولكن حين يقال :" ما كان لك أن تفعل "، أي : أنك غير مؤهل لفعل هذا مطلقا.
ومثال ذلك أن يقال لفقير جدّا :" ما كان لك أن تشتري فيديو " ؛ لأنه بحكم فقره غير مؤهل لشراء مثل هذا الجهاز، لكن حين يقال للآخر :" ما ينبغي لك أن تشتري فيديو " أي : عنده القدرة على الشراء، لكن القائل له يرى سببا غير الفقر هو الذي يجب أن يمنع الشراء. إذن : فهناك فرق بين نفي الإمكان، ونفي الإنبغاء.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾أي ما كان١ للنبي ولا للمؤمنين أن يستغفروا للذين ماتوا على الشرك والكفر، ولو كانوا أولي قربى. فهذا أمر لا يصح٢. وحتى لا يحتج أحد من المؤمنين بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه جاء الحق بالقول الكريم :
﴿ ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم( ١١٤ ) ﴾.
النفي: نحو قوله تعالى:﴿ما كان لكم أن تنبتوا شجرها (٢٠)﴾ (النمل)، وقوله:﴿ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله (١٤٥)﴾ (آل عمران)
النهي: نحو قوله تعالى:﴿وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (٥٣)﴾ (الأحزاب) وقوله:﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين(١١٣)﴾ (التوبة).
٢ مما جاء في سبب نزول هذه الآية أنه: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبلي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبي أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فنزلت الآية:﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم(١١٣)﴾ (التوبة) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٤).
﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ ويأتي الحق سبحانه بالحيثية الموحية، بأن إبراهيم له من صفات الخير، والكثير جدّا، لدرجة أن الله خالقه يقول فيه :﴿ إن إبراهيم كان أمة... ( ١٢٠ ﴾ ( النحل )أي : أن خصال الخير في إبراهيم عليه السلام لا توجد مجتمعة في إنسان واحد، واثنين ولا ثلاثة، بل خصال الخير موزعة على الناس كلها، فهذا فيه صفة الأمانة، وثان يتحلى بالصدق، وثالث يتميز بالشهامة، ورابع موهوب في العلم، إذن : فخصال الخير دائما ينشرها الله في خلقه، حتى يوجد تكافؤ الفرص بين البشر، كالمهن، والحرف، والعبقريات، والمواهب، فلا يوجد إنسان تتكامل فيه المواهب كلها ليصبح مجمع مواهب.
لكن شاء الحق أن يجمع لسيدنا إبراهيم عليه السلام خصال خير كثيرة فقال :﴿ إن إبراهيم كان أمة ﴾ أي : فيه عليه السلام من خصال الخير التي تتفرق في الأمة. وبعد ذلك يعطينا الحيثية التي جعلت من سيدنا إبراهيم أمة، وجامعا لصفات الخير بهذا الشكل، فإن أعطاه الله أمرا فهو ينفذه بعشق٢، لا مجرد تكليف يريد أن ينهيه ويلقيه من على ظهره، بل هو ينفذ التكليف بعشق، واقرأ قول الله سبحانه :﴿ إذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن... ( ١٢٤ ) ﴾ ( البقرة )أي : أتى بها على التمام، فلما أتمهن أراد الله أن يكافئه، فقال :
﴿ إني جاعلك للناس إماما... ( ١٢٤ ) ﴾ ( البقرة ).
فهو –إذن- مأموم على أن يكون إماما للناس لأنه قدوة، أي أن يشترك مع الناس في أنه بشر، ولكنه جاء بخصال الخير الكاملة فصار أسوة للناس، حتى لا يقول أحد : إنه فعل الخير لأنه ملك، وله طبيعة غير طبيعة البشر، لا.. إنه واحد من البشر، قال الحق سبحانه :
﴿ إني جاعلك للناس إماما... ( ١٢٤ ) ﴾ ( البقرة )أي : أسوة وقدوة، والأسوة والقدوة يشترط فيها أن تكون من الجنس نفسه تكون من جنس مختلف، فلا يجعل الله للبشر أسوة من الملائكة ؛ حتى لا يقول أحد : وهل لأنا أستطيع أن أعمل مثل عمله ؟ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى على عرض هذه القضية :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) فحين تعجب بعض الناس٣ من أن ربنا قد بعث من البشر رسولا أنزل الحق هذا القول وأضاف سبحانه :{ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾ ( الإسراء )
فما دمتم أنتم بشر فلا بد أن يرسل لكم رسولا منكم لتحقق الأسوة، لهذا يقول الحق سبحانه :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ ( الأنعام )
ولنر كيف أتم سيدنا إبراهيم عليه السلام بعض التكاليف بعشق، فللنظر إلى قول الحق سبحانه :﴿ إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت... ( ١٢٧ ) ﴾ ( البقرة ).
ومعنى رفع القواعد أي إيجاد البعد الثالث، وهو الارتفاع ؛ لأن البيت الحرام له طول وهذا هو البعد الأول، وله عرض وهو البعد الثاني وبهما تتحدد المساحة. أما الارتفاع فبضربه في البعدين الآخرين يعطينا الحجم، وقد أقام سيدنا إبر هيم عليه السلام البعد الثالث الذي يبرز الحجم، وقد قال بعض السطحيين : إن سيدنا إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، لا لم يبن الكعبة، بل رفع القواعد التي تبرز حجم الكعبة ؛ بدليل أنه حينما جاء هو وامرأته هاجر ومعها الرضيع إسماعيل عليه السلام قال :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم... ( ٣٧ ) ﴾ ( إبراهيم ).
وهذا دليل على أن البيت كان معروفا من قبل إبراهيم عليه السلام، وقد استقرت به هاجر وطفلها إسماعيل إلى أن كبر واستطاع أن يرفع مع أبيه القواعد، ولذلك نقول : إن هناك فرقا بين " المكان " و " المكين " فالذي فعله إبراهيم هو إقامة " المكين " أي المبنى نفيه، أما المكان فقد كان معروفا.
ولنفترض أنه جاء سيل على الكعبة وهدمها فإلى أي شيء سنصلي ؟ إلى أن نقيم المكين. إذن : عملية البناء هذه للمكان، وليست للمكين.
ويقول الحق عن البيت الحرام :﴿ فيه آيات بينات... ( ٩٧ ) ﴾ ( آل عمران )
وآيات جمع، وبينات جمع، ولم يأت من الآيات البينات إلا " مقام إبراهيم " :﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم... ( ٩٧ ) ﴾ ( آل عمران )أي : أن " مقام إبراهيم " هو مجموع الآيات البينات ؛ لأن الله قد أمره أن يرفع القواعد، وكان لا بد أن يبحث عن الإمكانيات التي تساعده في الرفع، لأنه لو رفعها على قدر ما تطول يده لما بلغ طول الكعبة فوق مستوى ما تطوله اليدان، لذلك فكر سيدنا إبراهيم وتدبر وجاء بحجر ليقف فوقه في ارتفاع جدران الكعبة، وهذا من دلائل أنه ينفد التكليف بعشق، وعلى أتم وجه ؛ لذلك قال الحق :
﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ﴾ وفي هذا آيات واضحة على أن الإنسان إذا كلف أمرا فعليه ألا ينفذ الأمر لينهي التكليف بأية طريقة، ولكن عليه أن يؤدي ما يكلف به بعشق، ويحاول أن يزيد فيه، وبذلك يؤدي " الفرض " والزائد على الفرض هو " النافلة ".
ونحن هنا في قضية الاستغفار ﴿ ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ﴾.
وهنا وقفة توضح لنا طبع سيدنا إبراهيم كأواه حليم، والأواه هو الذي يكثر التوجع والتأوه على نفسه مخافة من الله، وعلى الناس إن رأى منهم معصية، فيحدث نفسه بما سوف يقع عليهم من عذاب، إنه يشغل نفسه بأمر غيره، فهذه فطرته، وهو أواه لأن التأوه لون من السلوى يجعلها الله في بعض عباده للتسرية عن عباد له آخرين٤.
لذلك يقول الشاعر :
ولا بد من شكوى ذي مروءة *** يواسيك أو يسلّيك٥ أو توجع
أي : أنه إذا أصابت الإنسان مصيبة فهو يشكو إلى صاحب المروءة، فإما أن يساعده في مواجهة المشكلة، وإما أن يواسيه ليحمل عنه المصيبة، بأن يتأوه له ويشاركه في تعبه لمصيبته، وهذا التأوه علامة رقة الرأفة وشفافية الرحمة في النفس البشرية.
فإبراهيم ﴿ أواه ﴾، وهذا طبع فيه يسلكه مع كل الناس، فما بالك كان لقريب له ؟ لا بد إذن أن يكثر من التأوه، وخصوصا إن كان الأمر بتعلق بأبيه، ومع ذلك أراد الله ٍ أن يضع طبع إبراهيم عليه السلام في التأوه في موضعه الصحيح، ولكن الله أوضح له : إياك أن تستغفر لأبيك ولا شأن لك به، فالمسألة ليست في الطبع، ولكن في رب الطيع الذي أمر بذلك.
وهنا قضية هامة أحب أن تصفى بين مدارس العلم والعلماء في العالم كله ؛ لأنها مسألة تسبب الكثير من المشاكل، وتثار فيها قضية كثيرة.
لقد أمر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام ألا يستغفر لأبيه، بعد أن تبين له أنه عدو لله، وما دام والد إبراهيم قد وصف بهذه الصفة وأنه عدو لله ومحمد صلى الله عليه وسلم، من نسل إبراهيم إذن : فلماذا يقول الرسول :" إنني خيار من خيار من خيار " ؟
ولو فهمنا قول الحق : إن إبراهيم عدو لله، ففي هذا نقض لحديث رسول الله، وما دام أبو إبراهيم كان عدوا لله تبرأ منه وقال الحق : لا تستغفر. إذن : ففي نسبه صلى الله عليه وسلم أحد أعداء الله، وفي ذلك نقض لقوله صلى الله عليه وسلم :" خيار من خيار من خيار، ما زلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ".
ولهذا نريد أن نصفي هذه المسألة تصفية علماء، لا تصفية غوغاء، ولنسأل من هو الأب ؟ الأب هو من نسلك وأنجبك، أو نسل من نسلك. إذن : فهناك أب مباشر وأبوه يعتبر أبا لك أيضا إلى أن تنتهي لآدم، هذا هو معنى كلمة " الأب " كما نعرفه، لكننا نجد أن القرآن قد تعرض لها بشكل أعمق كثيرا من فهمنا التقليدي، وأغنى السرور بالتعرض لهذه المادة " يوسف يوسف " ؛ لأن مادة " الأب " جاءت ثماني وعشرين مرة خلال هذه السورة، فمثلا تجد في أوائل سورة يوسف قول يوسف عليه السلام :﴿ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا... ( ٤ ) ﴾ ( يوسف ).
بعد ذلك جاءت السورة بأن الله سوف يجتبي يوسف ويعلمه من تأويل الأحاديث :
﴿ وكذلك يجتبيك٦ ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك... ( ٦ ) ﴾ ( يوسف ).
والأبوان المقصودان هنا هما إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، ثم قال الحق من بعد ذلك :﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب٧ إلى أبينا.. ( ٨ ) ﴾ ( يوسف ).
ثم جاء قوله الحق على لسان إخوة يوسف :﴿ ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين( ٨ ) ﴾ ( يوسف )وفي نفس السورة يقول الحق عن إخوة يوسف :﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم... ( ٩ ) ﴾ ( يوسف ).
ثم يمهد إخوة يوسف للتخلص منه، فيبدأون بالحوار مع الأب :﴿ يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون( ١١ ) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ( ١٢ ) ﴾ ( يوسف )وبعد أن ألقوه في غيابة الجب٨، وعادوا إلى والدهم :﴿ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ( ١٦ ) ﴾ ( يوسف ).
كانت هذه هي المرة الثامنة في ذكر كلمة أب في سورة يوسف، ثم تأتي التاسعة :
﴿ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا... ( ١٧ ) ﴾ ( يوسف ).
ثم تدور أحداث القصة إلى أن دخل سيدنا يوسف السجن، وقابل هناك اثنين من المسجونين وأخبراه أنهما يريانه من المحسنين، وأن عندهما رؤى يريدان منه أم يفسرها لهما فقال لهما :﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله... ( ٣٧ ) ﴾ ( يوسف ).
وينسب ذلك الفضل إلى الحق سبحانه فيقول :
﴿ ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( ٣٧ ) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب... ( ٣٨ ) ﴾ ( يوسف )
وهكذا ذكر اسم ثلاثة من آبائه : إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام.
ثم خرج يوسف للتجارة من السجن٩ وتولى أمر تنظيم اقتصاد مصر، وجاء إخوته للتجارة فعرفهم، ويحكي القرآن عن لقائه بهم دون أن يعرفوه، وقال :
﴿ ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم... ( ٥٩ ) ﴾ ( يوسف )
وقال أيضا :﴿ قالوا سنراود عنه أباه١٠... ( ٦١ ) ﴾ ( يوسف ).
ثم عادوا إلى أبيهم يرجونه أن يسمح لهم باصطحاب أخيهم الأصغر معهم١١، وسمح لهم يعقوب عليه السلام باصطحابه بعد أن آتوه موثقا من الله أن يأتوه به إلا أن يحيط بهم أمر خارج عن إرادتهم، ونزلوا مصر وطلبوا الميرة١٢.
﴿ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية١٣ في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير١٤ إنكم لسارقون ( ٧٠ ) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ( ٧١ ) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل عير وأنا به زعيم١٥ ( ٧٢ ) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين( ٧٣ ) قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ( ٧٤ ) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه.... ( ٧٥ ) ﴾ ( يوسف ).
قالوا :{ إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ( ٧٨ )
قال يوسف :﴿ معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده... ( ٧٩ ) ﴾ ( يوسف )
ويأمرهم سيدنا يوسف عليه السلام :﴿ ارجعوا أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ( ٨١ ) ﴾ ( يوسف ).
ويعودن إلى أبيهم الذي يعاتبهم :﴿ بل سولت لكم أنفسكم أمرا... ( ٨٣ ) ﴾ ( يوسف )
ثم يأمرهم أن يعودوا مرة أخرى قائلا :﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه.
لوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب(٤١)﴾ (إبراهيم)،﴿واغفر لأبي إنه كان من الضالين(٨٦)﴾ (الشعراء). ولكن هذا قبل أن يتبين أن أباه عدو لله..
٢ العشق هنا أعلى مراتب الحب..
٣ جمع الله ذكر هؤلاء المتعجبين في قوله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ألم يأتيكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب(٩) قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدونا أن تصدونا عما كان يعبد آبائنا فأتونا بسلطان مبين(١٠)﴾[إبراهيم].
٤ ومن معاني الأواه أيضا: كثير الدعاء والتضرع إلى الله موقنا بالإجابة. انظر اللسان (مادة: أواه).
٥ يسليك: يكشف عنك همك..
٦ يجتبيك: يختارك ويصطفيك لنبوته. وتأويل الأحاديث: هو تفسير الأحلام والرؤى..
٧ يقصدون أخا يوسف من أمه راحيل، واسمه بنيامين..
٨ الجب: البئر، وغيابته: أي: قعره، في منهبط منه..
٩ رفض يوسف عليه السلام الخروج من السجن للقاء الملك إلا بعد أن تظهر براءته مما نسب إليه تجاه امرأة العزيز، لذلك قال لرسول الملك:﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم(٥٠)﴾ (يوسف) وتم له ما أراد، فقالت النسوة:﴿حاش لله ما علمنا عليه من سوء﴾ وقالت امرأة العزيز:﴿الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (٥١)﴾ (يوسف).
١٠ المراودة: المراجعة وطلب الإذن منه برفق..
١١ وذلك أنهم قالوا لأبيهم:﴿يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانات ونزداد كيل بعير﴾ (يوسف: ٦٥) قال ابن كثير في تفسيره –(/٤٨٤):" وذلك أن يوسف عليه السلام كان يعطي رجل حمل بعير"..
١٢ الميرة: هي الطعام يمتاره الإنسان أي يجلبه..
١٣ السقاية: هو إناء من فضة كانوا يكيلون الطعام به، و ربما شربوا به. ويسمى أيضا الصواع..
١٤ العير: القافلة، والعير القوم معهم دوابهم وأحمالهم من الطعام. قال تعالى"﴿أيتها العير إنكم لسارقون﴾ (يوسف: ٧٠) أي: لأيها القوم الراحلون..
١٥ زعيم: كفيل.
وهنا الهداية هي هداية الدلالة حتى يبين لهم ما يتقون ؛ ﴿ وما كان الله ليضل قوما ﴾ أي : ما كان الله لا ليحكم بضلالة قوم حتى يبين لهم ما يتقون.
والتقوى التزام أمر الله ونهيه، فإذا وافقوا البيان هداهم هداية معونة، وإذا لم يوافقوا كانوا ضالين، وقد حكم الله بضلالة عم إبراهيم وما حكم الله بضلالته إلا بعد أن بين له منهج الهداية.
وقد بين إبراهيم لعمه منهج الهداية فلم يهتد. ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم ألا يستغفر له.
ومادة ال( م. ل. ك ) يأتي منها " مالك "، و " ملك "، و " ملك "، ومنها " ملك "، ومنها " ملكوت " و " الملك " هو ما تملكه أنت في حيزك، لأن كان هناك أحد يملكك أنت ومن معك ويملك غيرك، فهذا هو الملك، أما اتسع فيه مقدور الإنسان أي الذي يدخل في سياسته وتدبيره، فاسمه ملك، فشيخ القبيلة له الملك، عهدة القرية له الملك، وحاكم الأمة له ملك، ويكون في الأمور الظاهرة... وأما الملكوت فهو ما لله في كونه من أسرار خفية.
مثل قوله تعالى :﴿ وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض... ( ٧٥ ) ﴾ ( الأنعام ).
وساعة ترى " تاء المبالغة " في مثل " رهبوت "، و " عظموت " تدرك أنها رهبة عظيمة.
إذن : إياك أن تفهم أن الله حين يمنعك أن تستغفر لآبائك، وأنك إن قاطعتهم فذلك يخل بوجودك في الحياة ؛ لأنهم هم ومن يؤازرهم داخلون في ملك الله، وما دام الله له ملك السماوات والأرض فلا يضيرك أحد أو شيء ولا يفوتك مع الله فائت، وما دام الله سبحانه موجودا فكل سهل لمن يأخذ بأسبابه مع الإيمان به.
والحق سبحانه يبين لنا أنه سبحانه وحده الذي بيده الملك ؛ فقال :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير... ( ٢٦ ) ﴾ ( آل عمران ).
وفي هذا القول الكريم أربعة أشياء متقابلة :﴿ تؤتي الملك ﴾ و﴿ تنزع الملك ﴾، وإيتاء الملك في أعراف الناس خير، ونزعه في أعراف الناس شر، وإعزاز الناس خير، وإذلالهم شر، ولم يقل الله بيده :" الخير والشر " ونما قال في كلّ :﴿ بيدك الخير ﴾.
إذن : فحين يؤتي الله إنسانا ملكا نقول : هذا خير وعليك أن تستغله في الخير. وحينما بنزع الله منه الملك نقول له : لقد طغيت وخفف الله عنك جبروت الطغيان، فنزعه الله منك فهذا خير لك. وإن أعزك الله، فقد يعذبك حقّا، وإن أذلهم الله، فالمقصود ألا يطغوا أو يتجبروا. إذن : فكلها خير.
﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير... ( ٢٦ ) ﴾ ( آل عمران ).
ساعة تجد ملكا عضوضا١، إياك أن تظن أن هذا الملك العضوض قد أخذ ملكه دون إرادة الله، لا، بل هو عطاء من الله. ولو أن المملوك راعي الله في كل أمور لرقق عليه قلب مالكه. ولذلك يقول لنا في الحديث القدسي :" أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، ولكن أطيعوني أعطفهم عليكم ".
وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن نعرف أن كل حادث له حكمة٢ في الوجود. وإن رأيت واحدا قد أخذ الملك وهو ظالم٣، فاعلم أن الله قد جاء به ليربي به المملوكين، وسبحانه لا يربي الأشرار بالأخيار ؛ لأن الأخيار لا يعرفون كيف يربون٤ ؛ وقلوبهم تمتلئ بالرحمة ؛ ولذلك يعلمنا سبحانه :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا... ( ١٢٩ ) ﴾ ( الأنعام )والخير لا يدخل المعركة بل يشاهد الصراع من بعيد، ويجري كل شيء بعلم الله ؛ لأنه سبحانه ملك السماوات والأرض وهو الذي يحيي ويميت، فإياك أن تفتن في غير خالقك أبدا ؛ لأن الخلق مهما بلغ من قدرته وطغيانه، لا يستطيع أن يحمي نفسه من أغيار الله في كونه ؛ ولذلك فليأخذ المؤمن من الله وليّا ونصيرا.
وبعد أن قال لنا سبحانه :﴿ إن الله له ملك السماوات والأرض ﴾ يأتي لنا بالأمر الذي يظهر فيه أثر القدرة، ولا يشاركه فيه غيره، فقال :﴿ يحيي ويميت ﴾. وقال بعض العلماء في قوله :﴿ يحيي ويميت ﴾ أنه سبحانه " يحيي الجماد "، و " يميت الحيوان " ؛ لأنهم ظنوا أن الحياة هي الحس والحركة التي نراها أمامنا من حركة وكلام وذهاب وإياب، ونسوا أن الحياة هي ما أودعه الله في كل ذرة في الكون، مما تؤدي به مهمتها، ففي ذرة الرمل حياة، والجبل فيه حياة، وكل شيء فيه حياة، بنص القرآن حيث يقول :
﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة... ( ٤٢ ) ﴾ ( الأنفال ).
إذن : فكل شيء قبل أن يكون هالكا كان حيّا، وهكذا نعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة الظاهرتين، وبعد التقدم العلمي الهائل في المجاهر الدقيقة تكشفت لنا حركة وحس كائنات كنا لا نراها، وإذا كان الإنسان قد توصل بالآلات التي ابتكرها إلى إدراك ألوان كثيرة من الحياة فيما كان يعتقد أنه لا حياة فيها، إذن : فكل شيء في الوجود له حياة تناسبه فلو جئت بمعدن مثلا وتركته ستجده تأكسد، أي حدث فيه أي تفاعل مع مواد أخرى... فهذه حياة.
٢ الحكمة: الصواب والسداد والحق والعلم والعدل والحلم والنبوة والقرآن والإنجيل قال تعالى:﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة (١٢٩)﴾ (البقرة).
٣ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"... إن الله عز وجل يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب" قطعة من حديث أخرجه أحمد في مسنده (١/٣٨٧) والحاكم في مستدركه (١/٣٣) (٢/٤٤٧) (٤/١٦٥)، وصححه ووافقه الذهبي، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠/٢٢٨) لأحمد وقال: رجاله وثقوا ن وبعضهم خلاف..
٤ التربية بمعنى التأديب والزجر، وهذا مملح دقيق جدا فالله سبحانه يعلم من قلوب المؤمنين الرحمة والرأفة والعفو والصفح، ولذلك عند تطبيق حد الزنا مثلا قال سبحانه:﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (٢)﴾ (النور).
﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ( ١١٧ ) ﴾.
قلنا : إن التوبة لها مراحل، فهناك، توبة شرعها الله، ومجرد مشروعية التوبة من الله رحمة بالخلق، وهي أيضا رحمة بالمذنب ؛ لأن الحق سبحانه لو لم يشرع التوبة لاستشرى الإنسان في المعاصي بمجرد انحرافه مرة واحدة، وإذا استشرى في المعاصي فالمجتمع كله يشقى به، إذن : فمشروعية التوبة نفسها رحمة بمن يفعل الذنب، وبمن يقع عليه الذنب، وقبول التوبة رحمة أخرى بمن عمل الذنب. وأنت إذا سمعت قول الحق سبحانه :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا... ( ١١٨ ) ﴾ ( التوبة ).
فافهم أن تشريع التوبة إنما جاء ليتوب العباد فعلا، وبعد أن يتوبوا يقبل الله التوبة.
والحق هنا يقول :﴿ لقد تاب الله على النبي ﴾ عطف١ على النبي صلى الله عليه وسلم
﴿ المهاجرين والأنصار ﴾، فأي شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول الله :﴿ لقد تاب الله على النبي ﴾ ؟ ! ونقول : ألم يقل الحق سبحانه له :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم... ( ٤٣ ) ﴾ ( التوبة ).
فحين جاء بعض المنافقين واستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الغزوة٢، فإذن لهم، مع أن الله سبحانه قال :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا٣... ( ٤٧ ) ﴾ ( التوبة )
إذن : فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالفطرة السليمة قد اتخذ القرار الصائب، ولكن الحق سبحانه لا يريد أن يتبعوا فطرتهم فقط، بل أراد أن يضع تشريعا محددا.
وشاء الحق سبحانه أن يخبرنا بأنه قدم العفو لرسول الله صلى الله عليه وسلمح لأنه أذن لمن استأذنه من المنافقين ألا يخرجوا إلى القتال، وهناك أشياء يأخذها الله على عبده ؛ لأن العبد قد قام بهذا ضد صالح نفسه، ومثال هذا من حياتنا والله المثل الأعلى : أنت إذا رأيت ولدك يذاكر عشرين ساعة في اليوم ؛ فإنك تدخل عليه حجرته لتأخذ منه الكتاب أو تطفئ مصباح الحجرة، وتقول له :" قم لتنام " وأنت في هذه الحالة إنما تعنف عليه لأنك تحبه، لا، لأنه خالف منهجا، بل لأنه أوغل في منهج وأسلوب عمل يرهق به نفسه٤.
وحين سمع النبي صلى الله عليه وسلم لقوم أن يتخلفوا، فهل فعل ذلك ضد مصلحة الحرب أو مع مصلحة الحرب ؟ أنهم لو اشتركوا في الحرب لكثر ثوابهم حتى ولو حرسوا الأمتعة أو قاموا بأي عمل، إذن : فإذنه صلى الله عليه وسلم لهم بالتخلف هو تصعيب للأمر على نفسه.
ولذلك نجد أن عتب على نبي الله، إنما كان عتبا لصالحه لا عليه فسبحانه يقول به :
﴿ لم تحرم ما أحل الله لك... ( ١ ) ﴾ ( التحريم ).
النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل ما حرمة الله بل حرم على نفسه ما أحل الله له، وهذا ضد مصلحته، وكان الحق يسائله : لماذا ترهق نفسك ؟ إذن : فهذا عتب لمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا حين جاء ابن أم مكثوم ٥ الأعمى يسأل رسول الله في أمر من أمور الدين، وكان ذلك في حضور صناديد قريش٦، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى الصناديد وهم كافرون، يريد أن يلين قلوبهم، وترك ابن أم مكثوم ؛ فنزل القول الحق :
﴿ عبس وتولى( ١ ) أن جاءه الأعمى( ٢ ) ﴾ ( عبس ) وابن أم مكثوم جاء ليستفسر عن أمر إيماني، ولن يجادل مثلما يجادل صناديد قريش، فلماذا يختار الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الصعب الذي يحتاج إلى جهد أكبر ليفعله ؟. إذن : العتب هنا لصالح محمد صلى الله عليه وسلم، وحين يقول الحق له :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم... ( ٤٣ ) ﴾ ( التوبة ).
ثم جاء هنا في الآية بالمهاجرين والأنصار معطوفين على رسول الله، وذلك حتى لا يتحرج واحد من المهاجرين أو الأنصار من أن الله تاب عليه، بل التوبة تشمله وتشمل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ؛ فلا تحرّج٧.
وهذه المسائل التي حدثت كان لها مبررات، فقد قال الحق :﴿ من بعد كاد يزيغ قلوب فريق منهم ﴾ ويزيغ : يميل، أي : يترك ميدان المعركة كله ؛ لأنها كانت معركة في ساعة العسرة، ومعنى العسرة الضيق الشديد، فالمسألة طويلة، والجنود الذين سيواجهونهم هم جنود الروم، والجو حارّ، وليس عندهم رواحل٨ كافية، فكل عشرة كان معهم بعير واحد، يركبه واحد منهم ساعة ثم ينزل ليركبه الثاني، ثم الثالث، وهكذا، ولم يجدوا من الطعام إلا التمر الذي توالد فيه الدود.
وقد بلغ من العسرة أن الواحد منهم يمسك التمرة فيمصها بفيه يستحلبها قليلا، ثم يخرجها من فيه ليعطيها إلى غيره ليستحلبها قليلا، وهكذا إلى أن تصير على النواة، وكان الشعير قد أصابه السوس، وبلغ منه السوس أن تعفن، وقال من شهد المعركة :" حتى إن الواحد منا كان إذا أخذ حفنة من شعير ليأكلها يمسك أنفه حتى لا يتأذى من رائحة الشعير ". كل هذه الصّعاب جعلت من بعض الصحابة من يرغب في العودة. ولا يستكمل الطريق إلى الغزوة.
إذن : فالتوبة كانت عن اقتراب زيغ قلوب فريق منهم. وجاء الحق بتقديره ظرف العسرة، ولذلك تنبأ بالخواطر التي كانت في نواياهم ومنهم أيضا من همّ ألا يذهب، ثم حدثته نفسه بأن يذهب مثل أبي خيثمة٩ الذي بقى من بعد أن رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزوة ومرت عشرة أيام، ودخل الرجل بستانه فوجد العريشين١٠، وعند كل عريش زوجة له حسناء، قد طهت كل منهما طعاما، وهكذا رأى أبو خيثمة الظلال الباردة، والثمر المدلّي، فمسته نفحة من صفاء النفس ؛ فقال :" رسول الله في الفيح- أي الحرارة الشديدة جدّا- والريح، والقرّ والبرد، وأنا هنا في ظل بارد، وطعام مطهوّ، و وامرأتين حسناوين، وعريش وثير١١، والله ما ذلك بالنّصفة لك يا رسول الله، وأخذ زمام راحلته وركبها فكّمته المرأتان، فلم يلتفت لواحدة منها وذهب ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صحابة رسول الله : يا رسول الله إنّا نرى شبح رجل مقبل. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " كن أبا خيثمة " ١٢، ووجده أبا خيثمية، هذا معنى قوله الحق :﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين وأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة١٣ من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ( ١١٧ ) ﴾ ( التوبة ).
وفي واقعة الصحابة الذين راودتهم أنفسهم أن يرجعا وتاب الله أيضا على آخرين اعترفوا بذنوبهم، فتاب الحق عليهم حين قال :﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ( ١٠٢ ) ﴾ ( التوبة ).
وأرجأ الحق أمر آخرين نزل فيهم قوله :﴿ وآخرون مرجون لأمر الله.... ( ١٠٦ ) ﴾ ( التوبة )
وما دام الله قد قال :﴿ مرجون لأمر الله ﴾ أي : ما بتّ الله سبحانه في أمرهم بشيء ؛ فلا بد من الانتظار إلى أن يأتي أمر الله، ويجب ألا نتعرض لهم حتى يأتي قول الله. وتاب أيضا على الثلاثة١٤ الذين خلفوا، في قوله سبحانه :
﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهن ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم( ١١٨ ) ﴾.
٢ هي غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت في شهر رجب عام تسع من الهجرة، وقد كانت في شدة حر وجدب وعسر بينما المدينة بها الظلال والأشجار وقد طابت الثمار، ولذلك كانت امتحانا عسيرا زلزل القلوب، وتراوحت ردود الأفعال تجاه الاستجابة للنفس على حسب الإيمان الذي يسكن القلوب..
٣ خبالا: المراد: أصابوكم بالفساد والضعف والاضطراب وعدم الثبات أمام الأعداء..
٤ عن أنس بن ملك قال: دخل رسول الله صلى الله علين وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين. فقال: ما هذا؟ قالوا: لزينب. تصلي. فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال:"حلوه،. ليصل لأحدكم نشاطه. فإذا كسل أو فتر قعد" أخرجه البخاري في صحيحه (١١٥٠) ومسلم في صحيحه (٧٨٤).
٥ المشهور أن اسمه عبد الله، ويقال عمروا. أما أمه أم كلثوم فهي عاتكة بنت عبد الله. أسلم قديما بمكة وكان من المهاجرين الأولين. استخلفه رسول الله على المدينة ١٣ مرة أثناء خروجه في الغزوات. (الإصابة في تمييز الصحابة٤/٢٨٥).
٦ صناديد قريش: عظماؤهم، وعلية القوم فيهم. وهم هنا: عقبة بن ربيعة والحكم بن هشام (أبو جهل) والعباس بن عبد المطلب، وقد كان يرجوا إسلامهم. وقد أتى أم مكتوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين. فجعل النبي يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول:"أترى بما أقول بأسا؟" فيقول: لا ففي هذا أنزلت ﴿عبس وتولى(١) أن جاءه الأعمى (٢)﴾ (عبس) أخرجه الترمذي في سننه (٣٣٣١) وقال: حديث غريب. ابن حبان (١٧٦٩- موارد الظمآن).
٧ وقال بعض العلماء: إنما النبي صلى الله عليه ويلم في التوبة، لأنه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم. نقله القرطبي في تفسيره (٤/٣٢٠٤).
٨ رواحل: جمع راحلة، وهي كل بعير قادر على مشقات السفر، سواء ذكرا أو أنثى..
٩ هو عبد الله بن خيثمة الأنصاري السالمي، شهد أحد، وبقى إلى خلافة يزيد ابن معاوية. انظر الإصابة (٧/٥٣) انظر (٤/٦٣)..
١٠ العريش: شيء يشبه الخيمة تكون داخل البستان مظللة بسعف النخل..
١١ وثير: ناعم. يقصد الوسائد والفرس التي فرشت داخل العريش.
النصفة: الإنصاف العدل. زمام الراحلة: الحبل الذي يقاد به البعير..
١٢ قصة أبي خيثمة وردت تامة في السيرة النبوية لابن هشام عن ابن إسحاق (٤/٥٢٠) وذكر ابن هشام أبياتا لأبي خيثمية في هذا:
ولما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التي كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمنى يد لمحمد فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة صفيا كراما بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت إلى الدين نفسي شطره حين يمما
خضيبا: المرأة قد خضبت يدها بالحناء. صرمة: مجموعة من النخل
صفايا: قد تحملت بالتمر. بسرها: التمر قبل أن يطيب.
تحمما: أي أخذ في الإرطاب، فاسود
وقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم:"كن أبا خيثمة" في حديث توبة كعب بن مالك عند مسلم في صحيحه (٢٧٦٩).
١٣ العسرة: من النفقة والظهر والزاد والماء..
١٤ الثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة..
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم( ١١٨ ) ( التوبة ).
ونعلم أن الإنسان إذا شغله همّ يحدّث نفسه بأن يترك المكان الذي يجلس فيه، ويسبب له الضيق، ولعل الضيق ينفك١. ولكن هؤلاء الثلاثة قابلوا الضيق في كل مكان ذهبوا إليه حتى ضاقت عليهم الأرض بسعتها، فلم يجد واحد منهم مكانا يذهب إليه، وهذا معناه أن الكرب الذي يحيطهم قد عمّ، والإنسان قد تضيق عليه الأرض بما رحبت ولكن نفسه تسعه.
والحق يقول عنهم :﴿ وضاقت عليهم أنفسهم ﴾ أي : ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم أيضا، فقد تخلف الثلاثة عن الغزوة، لا لعذر إلا مجرد الكسل والتواني، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بمقاطعتهم، فكان كعب بن مالك٢ يخرج إلى السوق فلا يكلمه أحد، ويذهب إلى أقربائه فلا يكلمه أحد، ويتسوّر٣ عليهم الحيطان لعلهم ينظرون إليه، فلا ينظرون إليه. وبعد ذلك يتصاعد الأمر في عزل هؤلاء، حتى تعدى إلى نسائهم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يقربوا نساءهم٤ هكذا بلغ العزل٥ مبلغا شديدا ودقيقا، فقد كان التحكم أولا فالمجتمع، ثم في الأقارب، ثم في خصوصيات السكن وهي المرأة، حتى إن امرأة هلال بن أمية ذهبت إليه وقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية، رجل مريض، وأنا أستأذنك في أن أصنع له ما يقيمه قال لها :" ولكن لا يقربنك " قالت : والله يا رسول الله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ أن كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. وذهب بعض المسلمين إلى كعب بن مالك ليبلغوه أن رسول الله صرح لامرأة هلال أن تخدمه، و قالوا له : اذهب إلى رسول الله واستأذنه أن تخدمك امرأتك.
قال : إن هلالا رجل شيخ، فماذا أقول لرسول الله وأنا رجل شاب ؟ والله لا أذهب له أبدا.
وظل الثلاثة في حصار نفسي ومجتمعي لمدة خمسين يوما إلى أن جاء الله بالتوبة، وفي هذا تمحيص٦ لهم، فكعب ابن مالك-على سبيل المثال- يقص عن حاله قبل الغزوة قائلا :" لم أكن قط أقوى ولا أيسر منّى حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة " أي : أنه لم يكن عذر يمنعه.
بعد ذلك يجيء البشير بأن الله قد تاب عليهن فيأتي واحد من جبل سلع فيقول : يا كعب أبشر بخير يوم مرّ عليك. فقد أنزل الله فيك قرآنا وأنه تاب عليك.
قال كعب : فلم أجد عندي ما أهديه له لأنه بشّرني إلا ثوبّي فخلعتهما وأعطيتهما له، ثم استعرت ثوبين ذهبت بهما إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال : يا رسول الله، إن من تمام توبي أن أنخلع من مالي-الذي سبّب لي هذا العقاب- صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم٧.
إذن : فتأخر الحكم كان المراد منه تمحيص هؤلاء، إعطاء الأسوة لغيرهم. فحين يرون أن الأرض قد ضاقت علهم ربما رحبت، وكذلك ضاقت عليهم أنفسهم يتيقنون من قول الحق :
﴿ وظنوا أن لا ملجأ٨ من الله إلا إليه... ( ١١٨ ) ﴾ ( التوبة )أي : أن أحدا لا يجير إلا الله، وسبحانه يجير من نفسه. كيف ؟ أنت تعلم أنك سلعة لا يجيرك إلا من يتعقبك، فاعلم أنه لا سلطان لأحد أبدا ؛ ولذلك نقول : أنت تلجأ إلى الله لا من خلقه، ولكنك تلجأ٩ إلى الله ليحميك من الله، فسبحانه له صفات جلال صفات جمال، وتتمثل صفات الجلال في أنه : قهار، وجبار، ومنتقم، وشديد البطش، إلى آخر تلك الصفات. وفي الحق سبحانه صفات جمال مثل غفور، ورحيم، وغيرها، فإذا ما أذنب الإنسان ذنبا، فالمجال في هذه الحالة أن يعاقب من صفات الجلال، ولا ينفع العبد وقاية من صفات الجلال إلا صفات الجمال.
كلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا الله بقوله :" أعوذ بك منك " ١٠ أيك أعوذ بصفات الجمال فيك من صفات جلالك فلن يحميني من صفات جلالك إلا صفات جمالك.
ولذلك حينما جاء في الحديث الشريف عن آخر ليلة من رمضان قوله صلى الله عليه وسلم :" فإذا ما كانت آخر ليلة من رمضان تجلّى الجبّار بالمغفرة ".
يظن بعض الناس أن هذه المسألة غير منطقية، فكيف يتجلّى الجبّار بالمغفرة ؟ ألم يكن من المناسب أن يقال :" يتجلّى الغفّار " ؟ ونقول : لا ؛ فإن المغفرة تقتضي ذنبا، ويصبح المقام لصفة الجبار، وهكذا تأخذ صفة الرحمة من صفة الجبار سلطتها، وكأننا نقول : يا جبار أنت الحق وحدك، لكننا نتشفع بصفات جمالك عند صات جلالك. هذا هو معنى :" يتجلى الجبار بالمغفرة "
وقد سمع الأصمعي١١- وهو يطوف- مسلما عند باب الملتزم، يقول اللهم إني أستحي أن أطلب منك المغفرة ؛ لأني عصيتك، ولكني تطلّعت فلم أجد لها سواك.
فقال له : يا هذا، إن الله يغفر لك لحسن مسألتك١٢.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾ والتوبة أولا-كمال عرفنا- هي تشريعها، تأتي التوبة بالقبول، وقوله :﴿ ليتوبوا ﴾ أي : أنها تصبح توبة رجوع وعودة إلى ما كانوا عليه قبل المعصية.
وينهي الحق الآية بقوله :﴿ إن الله هو التواب الرحيم ﴾ فلا توّاب ولا رحيم سواه سبحانه وتعالى.
٢ كان كعب بن مالك يجالد الناس ويخرج للناس يتلمس منهم أن يكلموه، أما صاحباه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقد لزما بيتهما، أما هو فبقول:"كنت آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني"..
٣ تسور: تسلق الحائط حتى علاه. ومنه قوله تعالى:﴿وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (٢١)﴾(ص).
٤ وفي هذا يقول كعب:"حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبت الوحي إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها"..
٥ وهو يسمى بالعزل العام اجتماعيا وأسريا ونفسيا..
٦ تمحيص ابتلاء واختبار وتخليص من الذنوب. وقد بلغ البلاء مداه بكعب أن ملك غسان بعث له كتابا يقول له فيه قد بلغنا- يقصد محمدا- قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك". فألقى به كعب بعد قرائته في النار..
٧ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمسك بعض مالك فهو خير لك" فقال كعب: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. والحديث بطوله أخرجه في صحيحه (٤٤١٨) ومسلم (٢٧٦٩).
٨ ملجأ: المعقل والملاذ والمجير..
٩ اللجوء يكون إلى صفات الجمال للحماية من صفات الجلال، وهنا يكون اللجوء إلى الله ليحميك من الله..
١٠ قطعة من حديث أخرجه مسلم (٤٨٦) وأحمد في مسنده (٦/٥٨، ١٢٠) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد. وهما منصوبتان وهو يقول:"اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".
١١ الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب أبو سعيد الأصعمي، أحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، مولده ووفاته في البصرة عن ٩٥ عاما، وتوفي عام ٢١٦ الأعلام للزركي (٤/١٦٢).
١٢ ومما يروي أيضا عن الأعصمي في نفس هذا المعنى أنه سمع أعرابيا يدعو الله وهو يقول: هربت إليك بنفسي، يا ملجأ الهاربين بأثقال الذنوب، أحملها على ظهري، لا أجد شافعا إلا معرفتي بأنك أكرم قصد إليه المضطرون، وأمل فيما لديه الراغبون؟ انظر الأمالى لأبى على القلى (١/٣٢).
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( ١١٩ ) ﴾.
وساعة ينادي الحق عزّ وجلّ عبادة المؤمنين، فهو سبحانه إما أن يناديهم بحكم يتعلق بالأيمان، وإما يناديهم بالإيمان ويطلب منهم الإيمان مثل قوله الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا١ بالله ورسوله... ( ١٣٦ ) ﴾ ( النساء ).
والحق سبحانه يبين للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم، أنه من الممكن أن يؤمن الإنسان ثم يتدبدب في إيمانه، فيطلب منه الحق " دوام الإيمان " فإذا طلب الله من عباده ما كان موجودا فيهم ساعة الخطاب، فالمطلوب دوامه، وإن طلب منهم حكما يتعلق بالإيمان، فهو يوجّههم إلى استماع وتطبيق ما يطلب منهم، ومثال هذا قول الحق سبحانه :﴿ اتقوا الله... ( ١١٩ ) ﴾ ( التوبة ).
وكلمة ﴿ اتقوا ﴾ تعني : اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، ويتساءل البعض : هل يطلب أحد من الإنسان أن يجعل بينه وبين ربه وقاية ؟ إن العبد المؤمن يطلب أن يكون في معيّة الله. وهنا تأتي ضرورة فهم صفات الجمال وصفات الجلال. إن قوله سبحانه :﴿ اتقوا الله ﴾ يعني : اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية، ومثلما قال سبحانه :﴿ فاتقوا النار( ٢٤ ) ﴾ ( البقرة )
لأن النار من جنود صفات الجلال، فاجعلوا بينكم وبين الله وقاية من صفا ت الجلال.
وهنا يقول الحق :﴿ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾، وفسر بعض العلماء قوله :﴿ كونوا مع الصادقين ﴾ بمعنى كونوا من الصادقين، أي : أن " مع " هنا بمعنى " من " والمقصود أن يعطي هذا القول معنى إجماليّا عامّا. لكني أقول : هناك فرق بين ﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾ و " كونوا من الصادقين "، فقوله الحق :﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾ أي : التحموا بهم فتكونوا في معيّتهم، وبعد أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين.
ويقتضي الأمر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلامية والنسبة الذهنية، فأيّ قضية تمر علة ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية، مثل قولك :" محمد زارني " وأنت قبل أن تقول هذه العبارة جاء إلى ذهنك أن تنطقها، وهذه " نسبة ذهنية ". ومن يسمعك لا يدري بها، ولكونك المتكلم فأنت وحدك الذي تدري بها، فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب ؛ علم أن نسبة ذهنية جاءت في ذهنك فترجمتها قولا بالنسبة الكلامية. فحين قلت :" محمد زارني بالأمس " جاءت في ذهنك قبل أن تقولها، فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين ؛ نسبة سمعها عن نسبة عندك.
وحين يمحّص السامع هذا القول ؛ يعلم أن هناك واحدا في الواقع اسمه محمد وعلم منك أنه قد زارك، وخبرته معك دائما أنك صادق، إذن : فالصدق٢ هو أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع. أما إذا قلت : إن محمدا قد سافر إلى أمريكا، وهو لم يسافر، فهذا يعني أن النسبة الكلامية لم تتطابق مع النسبة الواقعية وهذا هو الكذب. إذن : فهناك " نسبة ذهنية " و " نسبة كلامية " و " نسبة واقعية ". فإن تطابقت النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية، فذلك هو الصدق، وإن لم تتطابق يكون الكذب.
وكل نسبة تقولها تحتمل أن تكون صادقة أو كاذبة، والفيصل في هذا الأمر هو الواقع، هل يتطابق ما تقول مع الواقع أم لا ؟. أما إن قلت لك :" زر فلانا " فهذه نسبة إنشاء ؛ لأن الواقع يأتي بعدها، لا قبلها.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾ والصدق هو الخلّة٣ التي تجمع كل الإيمان، ولنر التطبيق لذلك في قصة الرجل البدوي الذي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله، إن فيّ خلالا ثلاثة لا أقدر على التخلّي عنها أبدا، أما الأولى فهي النساء، وأما الثانية فهي الخمر، وأما الثالثة فهي الكذب، وقد جئتك يا رسول الله، لتختار لي خصلة٤ من الثلاثة وتقويني عليها، وأعاهد ربنا عليها. فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي أن يتوب عن الكذب، وأن يتحلّى بالصدق، فقال له : كن صادقا وما عليك. وحين أحب الأعرابي أن يشرب كأس خمر ؛ تساءل : وماذا إن سألني النبي صلى الله عليه وسلم أشربت الخمر ؟ وامتنع عن الخمر حتى لا يكذب على الرسول. وحين جاء ليختلس النظر إلى امرأة، قال لنفسه :" وماذا إن سألني صلى الله عليه وسلم وكيف أخزي نفسي بصفة لا تليق بمسلم ؛ فامتنع عن النظر إلى المحارم، وهكذا سيطر الصدق على الرجل فهذّب سلوكه. وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكون المؤمن جبانا ؟ فقال : نعم. فقيل له : أيكون المؤمن بخيلا ؟ فقال : نعم. فقيل له : أيكون المؤمن كذابا ؟ فقال لا٥. لأن مدخل الإيمان هو التصديق بالقضية العقدية الجازمة، وهكذا تجد أن الصدق هو " رأس الأمر كله ".
وقوله الحق :﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾ أي : لا تقولوا كلاما لا يصادفه الواقع، وكذلك إياكم أن تقولوا كلاما تناقضه أفعالكم ولهذا يقول الحق سبحانه :
﴿ لم تقولون ما لا تفعلون( ٢ ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) ﴾ ( الصف )
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه :﴿ ليس البر٦ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين و في الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة.... ( ١٧٧ ) ﴾ ( البقرة ).
ولننتبه إلى الملاحظ الدقيقة في هذه الآية، فقد قال الحق هنا :﴿ وآتى المال على حبه ذوي القربى... ( ١٧٧ ) ﴾ ( البقرة ).
ثم ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلماذا إذن ذكر ﴿ وآتى المال ﴾ ؟ أقول : لقد ذكر الحق هنا المال الذي ينفقه المؤمن دون أن يكون مفروضا عليه إخراجه مثل الزكاة، فالزكاة واجبة، أما إيتاء المال تصدقا، فهذا فوق الواجب٧.
ثم يقول سبحانه :{ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء٨. والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( ١٧٧ ) ( البقرة ).
هذه هي صفات من صدقوا، وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد صدقوا واتقوا.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين( ١١٩ ) ﴾ ( التوبة )، وقد جاء الحق بصفة " الصدق " هنا ؛ لأن المجال هو الحديث عمن تخلّف عن الغزوات، وكذب في الأعذار التي افتعلها ؛ لذلك يأتي التوجيه السماوي أن ادخلوا من باب الصدق٩.
٢ أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع فهو الصدق، وإذا خالفت النسبة الكلامية الواقع كان الكذب، وهذا ما ذهب إليه علماء البلاغة والمنطق..
٣ الخلة: الصفة والخلق، جمعها خلال..
٤ الخصلة: الخلة والصفة. وجمعها خصال وخصلات..
٥ أخرجه الإمام مالك في موطئه(ص٩٩٠) من حديث صفوان بن سليم مرسلا..
٦ البر: هو الخير والإحسان، و هو الإيمان الصادق وفعل الخيرات..
٧ الزكاة فرض، وإيتاء المال تصدقا: فضل، والخير لمن جمع بينهما..
٨ البأساء: أي: في حال الفقر. الضراء: في حال المرض والسقم. حين البأس: في حال القتال ولقاء الأعداء..
٩ عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى اله عليه وسلم:" عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فغن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٠٧) والبخاري في صحيحه (٦٠٩٤).
والحديث هنا فيه رجوع إلى الذين تخلفوا عن الغزوة، وعرفنا من قبل أنك ساعة تقول :" ما كان لك أن تفعل كذا " أي : أنك تنفي القدرة على الفعل أما إن قلت :" ما ينبغي " أي : عندك قدرة على الفعل، ولا يجب أن تفعله.
وهنا يقل الحق :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾ وبعضهم قد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ وهنا حديث عن نوعين من الأنفس : أنفس من قالوا بالتخلف، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت إذا قلت :" رغبت "، معناها : أنك ملت ميلا قلبيا، فإن قلت : " رغبت في " كان الميل القلبي إلى ممارسة الفعل وفيها التغلغل، أمنا إن قلت : " رغبت عن " وفيها التجاوز، هذا يعني أن الميل القلبي بهدف الابتعاد عن الفعل. إذن : فحرف الجر هو الذي يحدّد لون الميل القلبي.
وقوله الحق :﴿ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ أي : أنهم زهدوا في أمر صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبين الحق لهم أنهم ما كان لهم أن يفعلوا ذلك ؛ لأنكم ما دمتم آمنتم بالله، فإيمانكم لا يكمل حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليكم من نفوسكم٢.
ولذلك نجد سيدنا عمر رضي الله عنه لما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " ٣، فقال : يا رسول الله، أنا أحبك عم أهلي وعن مالي إنما عن نفسي، فلا. وهكذا كان صدق عمر رضي الله عنه، فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم القول : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ". فعلم عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حازم في هذه القضية الإيمانية، وعلم أن الحب المطلوب ليس حب العاطفة إنما هو حب العقل ؛ وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل ؛ فحب العاطفة لا تكليف فيه، لكن حب العقل يأتي بالتكليف.
وعلى سبيل المثال : فأنت تحب ابنك بعاطفتك، حتى وإن لم يكن ذكيّا، لكنك تحب بعقلك ابن عدوك إن كان ذكيّا وأمينا وناجحا. وضربنا المثل من قبل وقلنا : إن الإنسان قد يحب الدواء المرّ، لأن فيه الشفاء، والإنسان لا يحب هذا الدواء بعواطفه، ولا يتلذذ به وهو يشربه، بل يحبه بعقله ؛ لأن هذا الدواء قد يكون السبب في العافية، وإن لم يجده في الصيدليات يغضب ويشكوا، ويسر بمن يأتي له به من البلاد الأخرى.
إذن : فالذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة أو ممن حولهم ما كان لهم أن يتخلفوا ؛ لأن هذا يناقض إيمانهم في أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم، وكان من الواجب أن يرغبوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنفسهم، أما أن يكون الأمر بالعكس، فلا. لأن إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يأتي بالخير٤.
أما إتباع حبهم لأنفسهم فهو ضيق البصيرة، سيأتي لهم بالشرور، وإن جاء لهم بخيره موقوت، وبحسب إمكاناتهم، ولكن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنفسهم يأتي لهم بالخير الثابت الدائم الذي يتناسب مع قدرة الله سبحانه.
ثم يقول سبحانه :﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظلما ﴾ و﴿ ذلك ﴾ إشارة حيثيات الترغيب التي يأخذون بها الجزاء الطيب من الحق سبحانه بأنهم ﴿ لا يصيبهم ظلما ﴾، ونعلم أن الظمأ قد أصابهم في جيش العسرة لدرجة أن المقاتل كان يذبح البعير، ويصفي الماء الذي في معدته ليبلّ ريقه، وريق زملائه.
﴿ ولا نصب ﴾ والنّصب : هو التعب، وكانت الغزوة في جو حار مرهق. ﴿ ولا مخمصة ﴾ أي : المجاعة، وقد كانوا يأكلون التمر الذي أصابه الدود، والشعير الذي انتشر فيه السوس. وإن كانوا قد عانوا من كل ذلك فهو في سبيل الله القادر على أن يمنّ عليهم بكل خير جزاء لما يقدمونه في سبيل نصرته.
﴿ ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ﴾ نعلم أن الكفار كان لهم رقعة من الأرض يتمركزون فيها، فحين يغير عليهم المؤمنون ويزحزحونهم عن هذا المكان، وينزلون إلى الوديان والبساتين التي يملكها الكفار، فهذا أمر يغيظ أهل الكفر، إذن : فهم حين يطأون موطئا فهذا يغيظ الكفار.
﴿ ولا ينالون من عدو نيلا ﴾ أي : يأخذون من عدو منالا، والمعنى : أن يقهروا العدو فيتراجع ويشعر بالخسران، حينئذ يأخذون الجزاء الخيّر من الله، وكل ما حدث أن الظمأ والنصب والمخمصة ووطء يغيظ الكفار والنيل من عدوهم نيلا، كل واحدة من هذه الأحداث لها جزاء يحدده الحق :﴿ إلا كتب لهم به عمل صالح ﴾.
إذن : فالذين رغبوا عن رسول الله بأنفسهم ولم يخرجوا للغزوة قد خسروا كثيرا ؛ وخسروا ما كتبه الحق سبحانه من عمل صالح جزاء لكل حادث قابله من خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم٥.
و ينهي الحق سبحانه الآية :﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ فهؤلاء الذين أحسنوا لا يضيع الله أجرهم أبدا.
٢ عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" أخرجه البخاري في صحيحه (١٦) ومسلم (٤٣).
٣ أخرجه البخاري في صحيحه (٦٦٣٢) وأحمد في مسنده (٤/٢٣٣) وفي إسناد أحمد ابن لهيعة ولكن تابعه حيوة عن زهرة بن معبد. وباقي الحديث هنا مروى بالمعنى..
٤ وفي هذا يقول رب العزة:﴿يا أيها الذين آمنا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم....(٢٤)﴾ (الأنفال) أي: يحيي دينكم وقلوبكم. وقد روى البخاري في صحيحه(٤٦٤٧) عن أبي سعيد بن المعلّي قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيت فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. فقال صلى الله عليه وسلم:"ألم يقل الله عز وجل: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ثم قال صلى الله عليه وسلم: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرت له فقال صلى الله عليه وسلم: هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني"..
٥ هذه الآية تقتضي وجوب النفير على آحاد المسلمين وقد قال بعض العلماء: إنها منسوخة بالآية الآتية بعد ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة... ١٢٢﴾ (التوبة) وقال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. وقال آخرون: إنها محكمة. قال القرطبي: قول قتادة حسن، بدليل غزوة تبوك. انظر: تفسير القرطبي (٤/٣٢١٧).
﴿ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ( ١٢١ ) ﴾.
كل شيء-إذن- محسوب، فحتى هؤلاء الذين أنفقوا، فالله سبحانه يعلم ماذا أنفقوا وسيجازيهم عليه، وهؤلاء الذين ساروا الطريق الطويل وقطعوا الوديان ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فالله سبحانه يكتب لهم الخير وبعد ذلك تدفق المسلمون على تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كادت المدينة تفرغ من المسلمين ؛ ليلحقوا بالسرايا التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشر الدعوة.
وجاء قول الحق :
﴿ ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون( ١٢٢ ) ﴾.
﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ( ١٢٠ ) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ( ١٢١ ) ﴾ ( التوبة ).
كانت تلك هي الحيثيات التي ترغّب الناس في الجهاد ترغيبا يخرجهم عمّا ألفوا من العيش في أوطانهم وبين أهليهم وأموالهم ؛ لأن الثمن الذي يتلقونه مقابل ذلك الجهاد ثمن كبير، ثم جاءت هذه الآية.
وحينما استقبل العلماء هذه الآية قالوا : إنها تتمة للآيات الجهاد، وما دام الله قد رغّب في الجهاد هذا الترغيب، فإن الناس أقسموا بعده ألا يتركوا غزوة من الغزوات ولا سرية من السرايا إلا ذهبوا إليها، فنشأ عن ذلك أن المدينة كادت تخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل وحي الله.
واستقبال وحي الله يقتضي وجود سامعين ليبلغوه، فلما انصرف الناس إلى مسألة الجهاد أراد الله أن يعدل هذه الموجة من الرغبة في الجهاد، فبيّن أن الإسلام منزّل من الله على رسوله ليبلغه للناس ؛ لأن دين الله يحتاج إلى أمرين : أمر يحمله الناس، وأمر يثبت صدقه في الناس، وحين يرى الناس إنسانا يضحي بنفسه ويدخل معركة، وآخر يضحي بماله، حينئذ يعلم الناس أن من يفعل ذلك لا بد أنه متيقن تمام التيقن من العقيدة التي يبذل في سبيلها الغالي والرخيص.
لكن يبقى أمر آخر، هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان المناضلون المضحّون بالنفس، والمنفقون المضحّون بالمال هو دليل صدق الإيمان، فهذا لا يعني الاستغناء عن هؤلاء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله ما يوحي به الله.
إذن : فهناك منهج من الله، وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، ومن السامعين لرسول الله ثانيا ؛ ليسيحوا به في البلاد، سياحة إعلام بدين الله لنشر الإسلام، وهكذا كانت الإقامة مع رسول الله هي استقبال لذلك الإعلام، وإلا فماذا يعلمون ؟
إذن : فلا بد أن يحافظ المسلمون على أمرين : أمر بقاء الاستقبال من السماء، وأمر الإعلام١ بما استقبلوه إلى البلد. فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل الله فقد حقّقتم أمرا واحدا، ولكنكم لم تحققوا الأمر الآخر وهو أن تظلوا ؛ لتستقبلوا من رسول الله. فأراد الله سبحانه أن يقسم الأمرين بين مجاهدين يجاهدون للإعلام، وباقين مع رسول الله ليستقبلوا إرسال السماء لهذه الأرض فقال :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾.
وساعة تسمع " كان " منفية فاعلم أنها جحود لهذه المسألة، أي : ما كان يصح أن ينفر المسلمون كافة، أي : جميعا، بدون أن يبقى منهم أحد.
و﴿ كافة ﴾ مأخوذة من كف الشيء، وأنت تسمع خائط الثياب يقول :" أريد أن أكفّف الثوب " معنى هذا أن الخائط حين يقص القماش، فهناك بعض من الخيوط تخرج منه ؛ فيكففها حتى لا يتفكك نسيج الثوب، إذن : فمعنى كلمة ﴿ كافة ﴾ : جميعا.
ولنا أن نتساءل : لماذا لا ينفر المسلمون إلى الجهاد جميعا، أليس الجهاد إعلاما بمنهج الله ؟
نقول : نعم إعلام وسياحة بمنهج الله في الأرض، ولكن الذي يسيح للإعلام بمنهج الله لا بد أن تكون عنده حصيلة يعلم بها وهذه الحصيلة كانت تأتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من منهج السماء حين ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن : فلا بد من أناس يسمعون وحي السماء ثم يعلمون به ويرسلونه لأهل الأرض٢ جميعا، ولو انصرف كال هؤلاء المؤمنين إلى الجهاد لما تحقق أمر حمل الدعوة للإسلام ؛ لذلك قال الحق :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ وفي هذا أمر فيه انبغاء أي : لهم قدرة عليه، ويستطيعون تنفيذ ما يطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ في أمة عربية لها فصاحة وبلاغة، أمة بيان وأداء قويّ يسحر، وكان في هذه الأمة أناس كثيرون يتمتعون بموهبة الشعر والقول، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشتهر بهذا، وحاول بعضهم أن يقلل من فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : إنها فصاحة دون من خطب، ودون من قال، ودون من شعر، فجاء الرد عليهم من الحق :
﴿ وما علمناه الشعر وما ينبغي له... ( ٦٩ ) ﴾ ( يس )أي : أنه صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يتفوق في ذلك، لكن الحق سبحانه لم يعلمه الشعر ؛ لأنه لا ينبغي له أن يتعلّمه، لماذا ؟ لأن العرب يعلمون أن أعذب الشعر أكذبه، وما دام أعذبه أكذبه، فالحق سبحانه لا يريد أن يعلم الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرتاض٣ على صناعة البيان وأساليب الأدب، وبعد ذلك يفاجئ الدنيا بالبيان الأعلى في القرآن، يعلن صلى الله عليه وسلم أن هذا البيان ليس من عنده.
وقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم مدة طويلة، ولم يسمعوا منه شعرا، فكل ما جاء به بلاغا من الله ولا ينسب لمحمد، ولمنه منسوب إلى رب محمد.
وقوله الحق :﴿ وما ينبغي له ﴾ أي : لا يصح أن يكون هذا الأمر، رغم استعداد محمد صلى الله عليه وسلم لذلك، وكان من الممكن أن يعلّمه ربه الشعر وفنون القول ؛ ولذلك حينما قال أناس : إن القرآن من عند محمد، وجاء القول الحق مبلّغا محمدا :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون... ( ١٦ ) ﴾( يونس )وقد عاش بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين عاما ولم يقل قصيدة أو مقالة.
ومن الذي يستطيع أن يؤخر عبقريته إلى الأربعين ؟ نحن نعلم أن ميعاد بدء العبقرية إنما يظهر من قبل العشرين، أي : في العقد الثاني من العمر ولا أحد يؤخر ظهور عبقريته.
إذن : فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزل عليه القرآن بالترغيب في الجهاد كادت المدينة تخلو من المسلمين ؛ فجاء قوله الحق :
﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ( ١٢٢ ) ﴾ ( التوبة )وفي هذا القول الكريم محافظة على أمرين ؛ أمر استقبال وحي الله، وأمر الإعلام به، وبذلك يتنوع الجهاد، طائفة تستقبل، وطائفة تعلّم وترسل ؛ لأنهم لو تركوا الرسول صلى الله عليه وسلم جميعا، فكيف يصل الوحي من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين ؟ ولو أنهم جلسوا جميعا في المدينة فمن الذي يسيح في الأرض معلّما الناس ؟ أما إذا بقي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، في فترة لا قتال فيها، فهذا أمر مختلف ؛ لأنها ستكون فترة استقبال فقط.
وكذلك إن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتال فعلى المؤمنين القادرين على القتال أن يصحبوه ؛ لأن الرسول القادر على استقبال الوحي من الله موجود معهم، وكذلك الإعلام بالرسالة موجود.
إذن : فالمشكلة كانت في حالة عدم وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الخارجين للجهاد، فإذا ما خرج المقاتلون للجهاد، وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فعليهم أن ينقسموا قسمين : قسما يبقى مع رسول الله ليتعلم منهج الله، وقسما يحرج إلى القتال.
حين كان الرسول يخرج إلى القتال فالمهمة تسمى غزوة، وإذا لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل جماعة للقتال سمّيت العملية ب " السرية " ٤.
ولم يخرج عن التسمية بالسرية إلا عملية واحدة سميت غزوة ولم يخرج فيها رسول الله، وكان المفروض أن تسمى سرية ولكنها سميت غزوة٥.
وقد خرجت المهمة القتالية عن اصطلاح السرية، إلى اصطلاح الغزوة، رغم أن رسول الله لم يحضرها ؛ لأن المعركة حدثت فيها أشياء كالتي تحدث في الغزوات، فقد كانت معركة حاسمة وقتل فيها عدد من المسلمين، وحمل الراية وقاتل واستشهد فحملها غيره وقتل، فحملها ثالث، وكانت المعركة حامية الوطيس فقالوا : لا يمكن أن نسميها تلك المعركة ب " السّرية " بل هي غزوة ؛ لأن فيها عنفا شديدا.
لم يلحظوا شيئا واحدا من وهو أن التسمية بالغزوة انطبقت تمام الانطباق على مؤتة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المدينة والمسلمون خارجون إلى للغزو وأرسل إلى القوات : إن مات فلان في القتال فيليه فلان، وإن مات فلان ففلان يخلفه٦، أي : أنه صلى الله عليه وسلم قد سلسل أمور الغزوة قبل أن تبدأ.
وهي الحملة القتالية الوحيدة التي خرجت بهذه التعليمات، من بين مثيلاتها من الحملات المحددة التي لم يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المقاتلين، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم مقدّما بمن سيموت من هؤلاء الخارجين إلى القتال.
ثم وصلت الحملة إلى موقعها ودار القتال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة والتفت الصحابة فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم ؛ قال : أخذ الراية فلان فقتل، ثم أخذها فلان فقتل. ثم قال : وأخذها بعده فلان، وكان صلى الله عليه وسلم يقصّ المعركة٧ وهو في المدينة فقالوا : لم يقل ذلك إلا لأنه شهيد.
وحينما عاد المقاتلون عرف الصحابة منهم أن الأمر قد دار كما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المدينة، وقد حدث مطابقا غاية التطابق، فقالوا : شهدها رسول الله ؛ وما دام قد شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي غزوة.
ونعود إلى الآية التي يقول فيها الحق :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين... ( ١٢٢ ) ﴾ ( التوبة ).
وساعة تسمع كلمة " لولا " فلك أن تعرف أن في اللغة ألفاظا قريبة بعضها، ف " لو " و " لولا " و " لوما " و " هلاّ " هي-إذن- ألفاظ واردة في اللغة، وإذا سمعت كلمة " لو " فهذا يعني أن هناك حكما بامتناع شيئين. شيء امتنع لامتناع شيء، مثل قولك :" لو كان عندك زيد لجئتك " وهنا يمتنع مجيئك لامتناع مجيء زيد، فكلمة " لو " حرف امتناع لامتناع وتقول : لو جئتني في بيتي لأكرمتك. إذن : فأنا لم أكرمك لأنك لم تأت.
وتقول :" لولا زيد عندك لجئتك } أي : أنه قد امتنع مجيئي لك لوجود زيد. إذن : ف " لولا " حرف امتناع لوجود. ونلحظ أن " لولا " هنا جاء بعدها اسم هو " زيد "، فماذا إن جاء بعدها فعل، مثل قولك :" لولا فعلت كذا " ؟ هنا يكن في القول حضّ على الفعل، مثل قوله الحق :﴿ لولا إذ سمعتموهم ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا( ١٢ ) ﴾ ( النور )
مثل قوله :﴿ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء.... ( ١٣ ) ﴾ ( النور )
ومثلها أيضا " لوما " مثل قوله الحق :﴿ لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ( ٧ ) ﴾ ( الحجر ).
وأيضا قولك : " هلاّ ". فهي أيضا تحضيض مثل قولنا : " هلا ذاكرت دروسك " ؟ وأنت بذلك تستفهم ب( هل )، وجئت بالمد لتصبح ( هلا ) ؛ لتحثه على المذاكرة. أو قولك :" هلا أكرمت فلانا ؟ " وفي هذا حثّ على أن تكرم فلانا٨.
والأسلوب هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يجمع المؤمنين ويقول لهم :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ ثم يأتي الحث على أن ينقسموا إلى قسمين في قوله :﴿ فلولا نفر من كل فرقة ﴾، والقسمان يذهب أحدهما للإعلام وللجهاد. والقسم الثاني يظل مع رسول الله صل
٢ إن الإعلام الديني هو جهاد له صفة الاستمرارية، لأنه وسيلة إقناع دائمة لتدعيم قيم السماء لتنظيم فوضى الأرض ولا يكن الجهاد بالسيف إلا بعد الإقناع والتمادي في الباطل لطمس معالم الحق. ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمعه فإذا هو زاهق (١٨)﴾ (الأنبياء).
٣ مرتاض: أي معتاد على قول الشعر، قد ذللت له القوافي والبحور والأوزان واللغة لينظم ما شاء، وهذا لا ينبغي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا كان موضع طعن في القرآن..
٤ كان عدد الغزوات التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه غازيا سبعا وعشرين، وقد قاتل بنفسه في تسع منها، هي: بدر، وأحد، والمريسع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وبلغ عدد بعوثه أو سراياه سبعا وأربعين، وقيل: بل نحوا من ستين..
٥ هي غزوة مؤتة، هي قرية من أرض البلقاء من الشام من أعمال دمشق، وكانت تسمى أيضا جيش الأمراء..
٦ أخرج البخاري في صحيحه (٤٢٦١) عن عبد الله بن عمر قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد ابن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة. قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية"..
٧ عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخذ الرواية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب وإن عينه لتذرفان، ثم أخذها من غير إمرة، ففتح الله عليه، وما يسرني أنهم عندنا-أو قال: ما يسرهم أنهم عندنا. أخرجه البخاري في صحيحه (٤٢٦٢) وأحمد في مسنده (٣/١١٣).
٨ الأدوات الثلاثة (لولا-لوما، هلا) لا يليها إلا المضارع ظاهرا أو مقدرا. فإن دخلت على ماض خصلة زمنه المستقبل، بشرط أن تفيد التحضيض. ومنها الآية التي معنا، ومثلها قوله تعالى:﴿رب لولا أخرتنا إلى أجل قريب...(١٠)﴾ (المنافقون) وانظر: النحو لعباس حسن..
﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ( ١٢٣ ) ﴾.
ينقلنا الحق هنا إلى الحديث عن الجهاد مرة أخرى. ولنا أن نتساءل : لماذا-إذن- جاء الحديث عن النفرة والفقه كفاصل بين حديث متصل عن الجهاد ؟ أجيب : شاء سبحانه هنا أن يعلمنا أن كل من ينفر ؛ لتعلم الفقه، وليعلم غيره ؛ هذا المسلم في حاجة إلى مرحلة التعلّم، ومعرفة الأسباب التي يقاتل من أجلها المسلمون وحيثيات الجهاد في سبيل الله.
وقد قسّم الحق سبحانه في آيات الجهاد إلى قسمين : فرقة وتنفر، وطائفة منها تبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا استوى الأمر، فرقة تجاهد، وفرقة تتعلم وتعلّم١، وتبادل الفرقتان الخبرة الإيمانية والقتالية، تصبح الملكات الإيمانية متساندة غير متعاندة، ومن بعد ذلك يتوجهون إلى الكفار.
﴿ يا أيها الذين آمنوا، قاتلوا الذين يلونكم ﴾ وهذا يعني أن هناك قوما قريبين منهم ما زالوا كافرين، وهناك قوم أبعد منهم، والحق قد قال :﴿ قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة... ( ٣٦ ) ﴾ ( التوبة ).
إذن : فهناك أولويات في القتال، وقتال الكفار القريبين منك فيه تأمين لمعسكر الإيمان ؛ لذلك جاء الأمر بقتال الأقرب ؛ لأنه قتال لن يتطلب رواحل ولا مئونة للسفر البعيد، كما أن العدو القريب منك أنت أعلم بحاله أكثر من علمك بحال الكفار البعيدين عنك ؛ لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم، وكيفية تحصيناتهم. فإذا تيسر أمر قتال العدو الأقرب، كان ذلك طريقا لمجابهة العدو الأبعد، بدلا من تواجه العدو البعيد ؛ فيتفق مع العدو القريب، ويصنع الاثنان حولك " كماشة " بلغة الحرب، فلا بد أن تحمي ظهرك أولا، من شر العدو الأقرب.
إذن : فلا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب. ولا تعارض بين قوله الحق :﴿ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾ وقوله سبحانه :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ ؛ لأن معنى ﴿ كافة ﴾ أي : جميعا، ولكن الجماعة لها أولوية. فخذ القريب منك ؛ لتضمه إليك، ومتى ضممته إليك نقصت أرضا من عدوك ؛ وأصبح زائدا فيك، وإذا كان الخصم معه سيف ومعك سيف، وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده، فأخذته، فبذلك يصبح معك سفيان وهو لا سيف معه.
ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار : اعتبروا أيها الكفار، فانتم لا ترون الأرض كل يوم وهي تنقص من تحت أقدامكم٢، وما ينقص من أرض الكفار يزيد في أرض الإيمان. وما دام الحق قد جاء بكلمة " قتال " فهذه الكلمة تحتاج إلى عزيمة، وجرأة تجرّئ على القتال، وصبر عليه، فقد تجد في مواجهتك من هو أقوى منك أو من هو أشجع منك، فإن رأى شجاعة منك تفوق شجاعته، وأحسّ منك قوة ومثابرة تفوق قوته ومثابرة، فهذا ينزع من قلبه الأمل في الانتصار عليك ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ والغلظة صفة، ويقال : غلظة، وغلظة، وغلظة٣، والمعروف أنها الشدة، فحين تضرب عدوك اضربه بقوة، وبجرأة، وبشجاعة.
وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبل الضربة بتحمّل، وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين اثنتين، في حالة الإرسال منك، وفي حالة الاستقبال منه، فلا يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية، وحين يرد لك الضربة تخور وتضعف. وإن الحق يطلب منك غلظة تحمل على عدوّك، وغلظة تتحمل من عدوك.
ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيها الحق :
﴿ اصبروا... ( ٢٠٠ ) ﴾ ( آل عمران )
ولكن هب عدوك يصبر أيضا، فيأتي الأمر من الحق :
﴿ وصابروا... ( ٢٠٠ ) ﴾ ( آل عمران )
أي : حاول أن تغلبه في الصبر. وحذر الحق من إلقاء السلاح بعد انتهاء المعركة ؛ لأن العدو قد يستنيم٤ المؤمن ؛ لذلك جاء الأمر من الحق :
﴿ ورابطوا... ( ٢٠٠ ) ﴾ ( آل عمران )أي : استقر أيها المؤمن في الأرض ؛ ليعلم أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدثته نفسه بالقتال مرة أخرى. إذن : فالغلظة تطلب منك أن تهاجم، وتطلب منك أن تتحمل، والتحمل يقتضي صبرا والتحامل يقتضي شجاعة، فإذا ما كان في خصمك صير شجاعة ؛ فعليك أن تصابره أي : تصبر أكثر منه، وهي مأخوذة في الأصل من " نافس فلان فلانا... أي سابقه وحاول أن يسبقه "، والمنافسة من النفس، والحق يقول :﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون( ٢٦ ) ﴾ ( المطففين )أي : تنافسوا في الخير ونحن نعلم أن تركيبة النفس الإنسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في اليوم، وتحتاج إلى شيء آخر خمس أو ست مرات في اليوم. وتحتاج إلى شيء ثالث دائما. فأنت في الأكل تأكل ثلاث وجبات، وفي الشراب تحتاج إلى لترين أو أربعة من الماء أو أكثر. أما التنفس فأنت لا تصبر على الانقطاع عنه، وهو أهم الضروريات لحياة الإنسان.
وقلنا قديما : إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعام إنسان، وقد يستطيع الإنسان الصبر عن الطعام أسابيع، ولا يصبر الإنسان عن انقطاع الماء إلا أياما تتراوح من ثلاثة إلى عشرة، حسب كمية المياه في جسمه ؛ لذلك لم يملّك الحق سبحانه الماء مثلما ملّك الطعام، وأما الهواء فأنت لا تصبر على افتقاده للحظات ؛ ولذلك لم يملك الله الهواء لأحد أبدا ؛ وكأنه سبحانه علم أن عباده غير مأمونين عن بعضهم البعض، ولذلك سمي استنشاق الهواء وزفير بالتنفس، وهو من النفس، وهو سبب وجود النفس وهي مزيج من المادة والروح، والأساس هو نفس الهواء الذي يضمن استمرار النفس في الحياة.
وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس، وهو إعلاء منهج الله. وحين تصابر أهل الباطل، فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة٥ لمدة قصيرة ثم يتراجع، لأن الباطل زهوق، وهنا يقول سبحانه :﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ أي : غلظة على العدو، وغلظة تتحمل من العدو، وأن تصبر، وتصابر، وترابط.
وكيف يطلب الله منا أن تكون لنا غلظة عليهم مع أنه قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك... ( ١٥٩ ) ﴾ ( آل عمران ).
فإن هذا ينفي الغلظة، وأقول : لنفرق بين أمرين، أمر الغلظة في أن تكون الحجة قوية، وأمر الغلظة التي يتطلبها القتال، أما المعايشة والمآكلة والملاطفة، فهذه تحتاج إلى لين ورقة.
وقوله الحق :﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة، بل تعني أنك تطلّب الأمر فيجب أن تتوافر فيك، وكذلك قلنا : إن الله لم يطبع المؤمن على الغلظة، ولم يطبعه على الشدة، ولم يطبعه على العزة، بل قال :﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم... ( ٢٢٩ ) ﴾ ( الفتح ).
وقال :﴿ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين... ( ٥٤ ) ﴾ ( المائدة )
وينهي الحق الآية :﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. إياك أن تفهم أنك تواجه أعداءك من الكفار وعدّتك، ولكن العدد والعدة أمران مطلوبان ؛ لتدخل المعركة، وعندك شيء من الاطمئنان. ومثال هذا من يسلك مفاوز٦ أو صحاري مقفرة٧ أو طريقا موحشا، ويحتمل أن يصادف قطّاع طريق، نجده يستعد بحمل سلاح ؛ فهو يعطيه شيئا من الاطمئنان فقط، وهكذا الحال مع العدد والعدة.
أما النصر فهو من المد الرّبانّي من الحق سبحانه وتعالى. ومادام الله مع المتقين، ولله معيّة مع المتقين فلا بد أن يمدهم بمدده ؛ لذلك جاء الحق هنا بقوله :﴿ أن الله مع المتقين ﴾ لننتبه إلى أن الداخل في الحق هو من سيسلك سلوكا غليظا مع الأعداء، وقد يسلك بالغلظة طمعا في المغنم، فيدخل على الكافر بالقسوة، وقد يكون قلب هذا الكافر مستعدا للإيمان، فيقول : أسلمت واستسلمت، ولكن من دخل عليه تعجبه مطية٨ هذا الكافر، ويعتبرها مغنما. لذلك يأتي التحذير في قوله سبحانه :﴿ أن الله مع المتقين ﴾ فإن سلّم واستسلم ؛ فاستأسره، وإياك أن تؤذيه أو تأخذ معداته على أنها مغنم، فأنت لم تذهب للقتال من أجل الغنائم، أو لتكسب مكانة في مجتمعك كمقابل، بل أنت تقاتل حين يكون القتال مطلوبا، وتسلك بالخلق الإيماني اللائق في إطار أنك من المتقين لله، وتحارب لتكون كلمة الله هي العليا٩ وهنا تكون معية الله لك ﴿ أن الله مع المتقين ( ١٢٣ ) ﴾.
إذن : فالغلظة لا تعني أنها طبع أصبح فيك، ولكن عدوك يجد فيك غلظة إن احتاج الأمر إلى غلظة. فإن لم يحتج الأمر إلى غلظة ؛ فلا بد أن يوجد في طبعك اللين والموادعة.
ولذلك يقولون : الرجل كل الرجل هو من كانت له في الحرب شجاعة، وفي السلم وداعة، وخيركم من كان في الجيش كمّيا في البيت صبيّا، فلا يصطحب غلظته مع العدو إلى البيت والزوجة والأبناء ؛ لأن ذلك وضع للطاقة في غير مجالها.
هكذا نفهم قوله الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ( ١٢٣ ) ﴾ ( التوبة )أي : كونوا في حربكم غلاظا بما يناسب الموقف ؛ لأن الحرب تتطلب القسوة والشدة، ولكن إياك أن تستعمل هذه الأمور لصالحك، ولكن استعملها لله ؛ لتضمن أن تكون في معية الله١٠.
٢ قال عز وجل:﴿أولم يرو أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها....(٤١)﴾ (الرعد) قال ابن عباس في تفسيرها، أو لم يروا لأنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض. وهو الأولى في تفسير هذه الآية، وهو ظهوره الإسلام على الشرك قرية بعد قرية. ذكره ابن كثير في تفسيره (٢/٢٥).
٣ قال الفراء: لغة أهل الحجاز وبني أسد "غلظة" بكسر الغين، ولغة بني تميم "غلظة" بضم الغين. وقال الزجاج: فيها ثلاث لغات: غلظة، وغلظة، غلظة. انظر: لسان العرب مادة (غ ل ظ).
٤ يستنيم المؤمن: أي ينتهز منه نومه أو غفلة عن سلاحه. ويقول عز وجل:﴿ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتم وأمتعتكم فيميل عليكم ميلة واحدة... ١٠٢)﴾ (النساء) فالغفلة عن السلاح والمتاع أثناء القتال هي حلم للكافرين به أي فرصة لحدوثها ليميلوا على المؤمنين ميلة واحدة، فيأخذونهم مرة واحدة..
٥ أصل الرباط من مرابط الخيل التي تربط بها في مواجهة الأعداء في الثغور والحدود مع العدو ففيه معنى التربص به والحذر من غدره. ومما ورد في فضل الرباط في سبيل الله:"رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها" أخرجه البخاري في صحيحه (٢٨٩٢) وأحمد في مسنده (٥/٣٣٩) والترمذي في سننه (١٦٦٤) عن سهل بن سعد الساعدي ويستعمل الربط في المعاني كقوله تعالى:﴿وربطنا على قلوبهم (١٤)﴾ (الكهف) أي ثبتنا قلوبهم وعزائهم على الإيمان. وهم فتية أهل الكهف..
٦ المفاوز: جمع مفازة، وهي الصحراء المهلكة، وسميت هكذا، لأن من دخلها وخرج منها وقطعها فاز؟ قال ابن شميل: المفازة التي لا ما ء فيها..
٧ مقفرة: خالية من الكلأ والناس..
٨ المطية: البعير أو الناقة يمتطي ظهرها أي: تركب. والجمع مطايا..
٩ عن أبي موسى الأشعري لأن رجلا أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله" وفي رواية "هي العليا فه في سبيل الله" أخربه البخاري في صحيحه (١٢٣) ومسلم (١٩٠٤)..
١٠ عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونهبه أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعه، وعصى الإمام وأفسد في الأرض، فإنه يرجع بالكفاف" أخرجه أحمد في مسنده (٥/٢٣٤) وأبو داود في سننه (٢٥١٢) والنسائي في سننه (٦/٤٩).
﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون( ١٢٤ ) ﴾.
قوله الحق :﴿ وإذا ما أنزلت ﴾ يعني : إذا نزلت، ونعلم أن هناك " نزل " و " أنزل " " نزّل " ف " أنزل " للتعدية، فالقرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ثم نزّله الحق نجوما١. فالتنزيل معناه. مولاة النزول لأبعاض القرآن، فالقرآن قد أنزل كله، ثم بعد ذلك نزل الحق، ونزل به جبريل –عليه السلام- على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعت الآية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزول جبريل –عليه السلام- بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق سبحانه يقول :
﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل... ( ١٠٥ ) ﴾ ( الإسراء )
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) ﴾ ( الشعراء ).
وهنا يقول الحق :﴿ وإذا ما أنزلت سورة ﴾ والسورة هي الطائفة من القرآن المسور بسور خاص ؛ أو مثلا :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان٢. وهل المقصود بقوله الحق هنا نزول سورة كاملة من القرآن أو نزول بعض من القرآن ؟ فإن المقصود هو نزول بعض من القرآن.
وتتابع الآية :﴿ فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ والمقصود بهذا المنافقون الدين رجعوا عن الإيمان. ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له٣، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.
وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه ؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكنى من الفاعل والقابل للفعل-ولله المثل الأعلى- أنت تأتي بمطرقة مثلا، وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، وأما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة ؛ فلن تؤثر فيها.
إذن : فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لا بد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه. فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد القرآن، ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى قلبه بعد هذا فليصدقه. لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن ؛ فلن يتأثر له، مثلما قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا : لم نتأثر به.
وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول : لقد سمعت القرآن ولمن يؤثر فيّ. هنا نقول لك : أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن، واجعل القرآن أيضا خارج قلبك، ثم انظر في الاثنين لترى ما الذي يستريح له قلبك، لكن أن تكون مشحونا ضد القرآن ثم تقول : إن القرآن لم يؤثر فيك، فهذا لا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل، ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز، ومدى قدرته على الاستيعاب.
فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة لا تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه ؛ لأن ضيق الفوهة لا يساعد الهواء الذي بداخلها على الخروج، ولا ساعد الماء على الدخول ؛ لأن الماء لن يدخل إلا إذا خرج الهواء، ولذلك لا بد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء، وعند ذلك سترى فقاقيع الهواء وهي تعلوا الفوهة. وإذا كان الأمر كذلك في الحسيات، فما بالك في الأمور المعنوية وهي مثل الأمور الحسية.
إذن : فأخرج ما يناقص الحق من قلبك، واجعل الباطل والحق خارجا، ثم استقبل الاثنين. لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل٤ الحق. ويصف سبحانه المصرين على الكفر :﴿ وطبع الله على قلوبهم.... ( ٩٣ ) ﴾ ( التوبة )
أي : أن ما هو خارج هذه القلوب لا يدخل إليها، وما ي داخلها لا يخرج منها.
إذن : ما دام الحق قد ختم على قلوبهم ؛ فلن تنفتح هذه القلوب للإيمان وستظل محتفظة بالكفر. فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه ؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم٥ ؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه.
ولذلك حين قرا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- القرآن من وكان من قبل ذلك شديدا على الإسلام، ثم ذهب إلى أخته ؛ ليتحقق من أمر إسلامها، وحين سال منها الدم وقت عاطفتها لها، ثم قرأ القرآن فاستقر في قلبه٦.
إذن : لا بد أن تخرج ما في ذهنك أولا ؛ لتستقبل القرآن. فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء٧. أما الكافرون والمنافقون، فمنهم من يقول :﴿ أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ وتعطينا الآية معنى أننا أمام فريقين : واحد يقرأ، والثاني يسمع. ونفهم من سياق الآية أن الذي يتساءل مثل هذا السؤال إنما يوجهه لفريقين : أحدهما من ضعاف الإيمان، أو حديثي الإسلام، أو المنافقين، وهؤلاء هم الذين لم يخرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم، وقابلية بعضهم لاستقبال الإيمان لن تتأكد بعد، ومنهم من قال فيهم الحق :
﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا... ( ١٦ ) ﴾ ( محمد )
ويقول :﴿ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر٨ وهو عليهم عمى... ( ٤٤ ) ﴾ ( فصلت ).
إذن : الفاعل شيء، والقابل شيء آخر. هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول :﴿ وإذا ما أنزلت سورة ﴾ وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همسا من بعضهم :﴿ أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئا عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان﴿ أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين : قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفرا٩، أما القسم المؤمن ؛ فاستقباله للقرآن يزيده من إيمانه١٠.
إذن : الفاعل شيء والقابل مختلف. ووقف العلماء أمام هذه الآية موقفا فيه اختلاف بينهم﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ فقال بعضهم : إن الإيمان ينقص ويزيد، وقال بعضهم : إن الإيمان لا ينقص ولا يزيد، وقامت معركة بين علماء الكلام، ولا تتسرب معركة بين عقلاء إلا إذا كانت جهة الفهم في الأمر الذي يختلفون فيه منفكة، فمنهم من يذهب فكره إلى ناحية، ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى١١.
فالذين قالوا : إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب ؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله وأن الله لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمدا رسول الله المبلغ عنه ؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمثال : هو قول الإمام علي كرم الله وجهه : لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا.
أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمنا بالله أولا، ثم ينفذ متطلبات الآية.
وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد ولا ينقص. وهؤلاء المنافقون عندما قالوا :﴿ أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ هل تداولوا ذلك سرا أم قالوه علنا ؟ لا بد أنهم قالوا ذلك سرا وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما يكتمونه، ولكنهم احترفوا اللجاجة١٢ ؛ لذلك قالوا :﴿ أيكم زادته هذه إيمانا ﴾.
ويرد الحق سبحانه :
﴿ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ﴾ و " يستبشر " أي " : يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، الانبساط. وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئا جديدا ؛ يدخل نفسه السرور ؛ ولذلك فهو يرتاح لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك يكره أن ينزل حكم جديد من الله.
هذا هو معنى " يستبشر ".
أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم :
﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ( ١٢٥ ) ﴾.
٢ فالسورة في التعريف الاصطلاحي هي قرآن يشتمل على آي ذوات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات، وكل سورة معجزة وآية من آيات الله تعالى، ومنها سور طوال ومنها قصار، ومع هذا فسور مثل سورة الكوثر وهي ثلاث آيات لها نفس إعجاز سورة البقرة. انظر تفصيل هذا البرهان في علوم القرآن للزركشي (١/٢٦٣، ٢٦٥)..
٣ من هؤلاء الوليد بن المغيرة الذي حاول معه الكفار أن يصف القرآن بأنه كهانة أ تخليط مجنون أو أنه شعر، أو أنه قول ساحر. فقال: والله إن لحلاوة، وإن أصله لعذق. وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل. سيرة النبي لإبن هشام (١/٢٧٠).
٤ مصداقا لقوله تعالى:﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (٢٤)﴾ (محمد) فالقلب مغلق الله، وبغير كلامه فلم يتدبروا..
٥ ومما يرويه ابن إسحاق من هذا في السيرة النبوية أن بعض كفار قريش خرجوا ليلة ليستمعوا خفية إلى القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في بيته. وباتوا يستمعون له، وكل منهم لا يعلم بالآخرين، حتى إذا طلع الفجر انصرفوا فجمعهم الطريق فتلاموا ثم تعاهدوا على عدم تكرار ذلك، إلا أنهم عادوا للاستماع للقرآن عدة مرات. وسأل أحدهم 'الأخنس بن شريق) أبا سفيان: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشتاء ما عرفت معناها. ووجه الأخنس نفي السؤال لأبي جهل فرد عليه: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا. (انظر سيرة ابن هشام ١/٣١٥-٣٤٦)..
٦ قصة إسلام عمر بن الخطاب أوردها ابن هشام في السيرة النبوية (١/٣٤٣، ٣٤٦) نقلا عن ابن إسحاق..
٧ وفي هذا يقول سبحانه:﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء....(٢٣)﴾ (الزمر).
٨ وقر: ثقل في السمع، وقيل: هو الصمم..
٩ وذلك في قوله تعالى الآتي بعد:﴿وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (١٢٥)﴾ (التوبة).
١٠ مصداقا لقوله تعالى:﴿الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (٢)﴾ (الأنفال).
١١ الذين قالوا بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص نظروا إلى مسمى الإيمان اللغوي أي التصديق والإقرار، وهذا لا يحتمل نقصانا. أما الآخرون فقد نظروا إلى أن الإيمان: تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالجوارح. فالعمل بالجوارح يزيد وبنمي معاني الإيمان في قلب العبد إن كانت في طاعة، أما إن كانت في معصية فهي تنقصه بمعنى أنها ثباته في القلب. انظر في تفصيل هذا كتب علم الكلام والعقائد..
١٢ اللجاجة: الجدال والمراء بغير حق. لسان العرب مادة (ل ج ج).
فإذا مات الحيوان بقي فيه دمه الصالح ودمه الفاسد ؛ لذلك نحن نذبح الحيوان قبل أن نأكله، ونضحي بدمه الصالح مع الفاسد، حتى لا يصيبنا الدم الفاسد بالأمراض ؛ ولذلك تعتبر الميتة رجسا. والخمر أيضا نجاسة حسية. وهناك رجس معنوي، ولذلك قال الحق :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام٢ رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه... ( ٩٥ ) ﴾( المائدة ).
إذن : فهناك رجس حسي، ورجس معنوي، ويطلق الرجس على الكفر أيضا، ومرة يطلق الرجس على همسات الشيطان ووسوسته.
وفي ذلك يقل الحق :
﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان... ( ١١ ) ﴾ ( الأنفال ).
وهنا يقول الحق :﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ﴾ ولأنهم يكفرون بالله وبآياته ؛ فهذا يزيدهم رجسا على رجسهم ويصبح كفرهم مركبا، وهكذا نجد البشارة للمؤمنين، أما الكافرون فلهم النذارة ؛ لأن كفرهم يزيد، ويموتون على ذلك الكفر.
٢ الأنصاب: كل ما عبد من دون الله من الأصنام والأوثان التي كان الكفار ينصبونها حول الكعبة بعبادتها والذبح عندها. أمنا الأزلام: فهي سهام لا ريش لها، مكتوب على بعضها "افعل" والبعض الآخر "لا تفعل" فإذا أراد رجل السفر أو النكاح أتى النكاح أتى سادن الكعبة فقال: اخرج لي زلما، فإن خرج ب"افعل" فعل، وإن كانت "لا تفعل" لم يفعل. انظر: لسان العرب مادة (ن ص ب)..
﴿ أو لا يرون أنهم يفنتون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون( ١٢٦ ) ﴾.
وقوله الحق :﴿ أولا يرون ﴾ أي : يستشهد المنافقون تاريخهم مع الإسلام، ويعلمون أنهم يفتنون في كل عام مرة بالمصائب ومرة بالفضيحة، فنجد رسول الله حين يراهم يخرج بعضهم من بين الصفوف ويقول لهم :" اخرج يا فلان فإنك منافق " ١. ثم بعد شهور يتكرر الموقف، وهنا يذكرهم الحق سبحانه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفيهم كل عام مرة أو مرتين.
الأصل في الفتنة أنها امتحان واختبار، وهي ليست مذمومة في ذاتها لكنها تذم بالنتيجة التي تأتي منها، فالامتحان –أي امتحان- غير مذموم، لكن المذموم هو أن يرسب الإنسان في الامتحان. إذن : الابتلاء أو الفتنة٢ في ذاتها ليست مذمومة، إنما المذموم أن تأتي النتيجة على غير ما تشتهي، وهم يفتنون حين يرون انتصار المسلمين رغم نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وكان يجب أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا عرقلة سير الإسلام ؛ لأنه منتصر بالله. وكان يجب أن يعتبروا ويتوبوا لينالوا خير الإسلام، فخيره ممدود رغم أنوفهم، والخسارة لن تكون على الإسلام، وإنما الخسارة على من يكفر به.
ونحن نعلم أن الإسلام بدأ بين الضعفاء إلى أن سار الأقوياء إليه، وتلك سنة الله في الكون، بل إننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الرسالة كان مطلوبا منه أن يؤمن بأنه رسول. وكما تقول أنت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، كان النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمدا رسول الله. وسبحانه جل شأنه، الخالق الأكرم، آمن بنفسه أولا، بدليل قوله سبحانه :
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو... ( ١٨ ) ﴾ ( آل عمران ).
فأول شاهد الألوهية الحق هو الله، وقد شهد لنفسه، ومعنى ذكر شهادته لنفسه لنا أن نؤمن بأنه سبحانه يزاول قيوميته طلاقة قدرته بكلمة " كن " وهو عالم أن مخلوقاته تستجيب قطعا، وكان لا بد أن يعلمنا أنه آمن أولا بأنه الأول، وأنه الإله الحق، بحيث إذا أمر أي كائن أمرا تسخيرا فلا بد أن يحدث هذا الأمر وسبحانه لا يتهيب أن يأمر ؛ لذلك قال لنا :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴾ شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد وشهد أولوا العلم شهادة الاستدلال، وحين يشهد محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله فهو يؤمن بأنه رسول، ولو لم يؤمن برسالته لتهيب أن يبلغنا بالرسالة، وبعد أن آمن صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله جاءه التكليف من الحق :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ( ٢١٤ ) ﴾ ( الشعراء )
وظل رسول الله ر صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام، ويبلغ آيات الحق إلى أن جاءت آيات الدفاع عن دين الله، وقال الحق :﴿ وقاتلوا الذين يلونكم... ( ١٢٣ ) ﴾ ( التوبة ).
إذن : في البداية كان لا بد أن يؤمن أنه رسول، وأن يبلغ الدعوة إلى قريش وسائر الجزيرة، وتعبر دعوته بعد ذلك من الجزيرة إلى الشام، وتتعدى الرسالة الشام بالإعلام وإن لم تتعد بالفعل ؛ حتى يأتي أتباعه من الصحابة وينساحوا بالإسلام في كل بقاع الأرض، ولذلك كانت الرمزية في إرسال الكتب : كتاب لفلان وكتاب لفلان٣، ليلفهم العالم أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإسلام دعوة متعدية ؛ لأنها خالفت دعوات الرسل عليهم السلام، وفقد كان كل رسول يعلم أن حدود دعوته هي أمته٤.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت لرسالته مراحل : آمن بذاته أولا، ثم دعا الأقربين، ثم من بعد ذلك قريش، ثم أبلغ العرب، ثم الشام، وتعدت الدعوة بالكتب إلى جميع الملوك في العالم، وصارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمنة على حمل الدعوة ونشرها في أي مكان ومعها حجتها وهي القرآن.
وشاء الله أن يختم رسول الله الرسالات، وأرسله بالإسلام الذي يغلب الحضارات، رغم أنه صلى الله عليه وسلم من أمة أمية لا تعرف شيئا٥ ؛ حتى لا يقال عن الإسلام أنه مجرد وثبة حضارية، وجاء لهم منهج غلب الحضارات المعاصرة له : فارس والروم في وقت واحد.
إذن : فالمسالة كانت مسألة قبلية، يحكمهم واحد منهم هكذا، دون تمرس بالنظم الاجتماعية، ولم يعرفوا شيئا قبل الإسلام، بل هم أمة متبدية٦ لا شأن لها بالنظم السياسية والاقتصادية، وطن واحد منهم جمله وخيمته وبضعة أدوات تعينه على الحياة، وتستقر كل جماعة في أي مكان يظهر به العشب ويوجد به الماء، وبعد أن تأكل الأغنام والأنعام العشب، ينتقل العربي مع جماعته إلى مكان آخر، بعد أن ينظر الواحد منهم إلى السماء ؛ ليعرف مسار الغمام وأين ستمطر السحب، ثم ينساح هؤلاء بالدعوة بعد ذلك، فلو كان لهم انتماء إلى وطن أو بيت أو مكان لصار الرحيل صعبا عليهم، ولكنهم كانوا متمرسين بالسياحة في الأرض.
والآية التي نحن بصددها تكشف ضعف إيمان البعض، ونفاق البعض، فيقول الحق :﴿ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ﴾ أي : كان لا بد أن يتوبوا أو يتعظوا ويعلموا أن وقوفهم ضد الإسلام لم ولن يحجب الإسلام وأنهم سينسحقون ويضيعون، فلماذا لا يتذكر كل منهم نفسه، ويرى مصلحته في الإيمان.
٢ لكلمة الفتنة معان كثيرة في اللغة، تدور كلها حول الإختبار والإيقاع في الامتحان بعد امتحان ليميز الطيب منة الخبيث، وأصلها مأخوذ من فتنة الفضة والذهب أي: إذا أذبتهما بالنار لتعرف الرديء من الجيد، مصداقا لقوله تعالى:﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة (٣٥)﴾ (الأنبياء)..
٣ بعث رسول الله كتبا إلى ملوك الأرض من حول الحجاز كقيصر الروم وكسرى فارس ومقوقس مصر وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام مع جماعة من أصحابه، ووجه كلا منهم إلى جهة، وقال لهم:"إن الله بعثني رحمة وكافة، فأدوا عني يرحمكم الله" أورده ابن هشام في السيرة النبوية (٤/٦٠٧) عن ابن إسحاق..
٤ وهذا مما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. كان نبي يبعث إلى قومه خاصة. وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولن تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة" متفق عليهن أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٥) ومسلم (٥٢١)..
٥ قال رب العزة في هذا:﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (٢)﴾ (الجمعة).
٦ تبدى الرجل: أقام بالبادية. وقيل للبادية بادية لظهورها وبروزها. انظر اللسان (ب د و).
﴿ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم لا يفقهون ( ١٢٧ ) ﴾.
ومن قبل جاء قول الحق :
﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا... ( ١٢٤ ) ﴾ ( التوبة )
أي : أن هؤلاء المنافقين يشعرون بالضيق والحصار، ويخافون أن يتكلموا ؛ لأنهم موجودون مع المسلمين، ولكنهم لا يعمدون وسيلة للتعبير عن كفرهم، فيغمز الواحد منهم بعينهن أو يشير إشارة بيده، فإذا ما كانوا قد تساءلوا من قبل ب﴿ أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ فقد كان هذا السؤال يتعلق بالتكاليف، أما التي نحن بصدد خواطرنا عنها فليس فيها تكاليف جديدة.
لقد كانوا يريدون أن يقولوا شيئا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بأفواههم، فتكلموا بأعينهم ونظراتهم، فكأن النظر نفسه كان في هذه الكلمة :﴿ هل يراكم من أحد ﴾، وهذا قد تراه من واحد يسمع خطبة الخطيب، ولكنه يرى بها أشياء لا تعجبه فتجده يعبر بانفعالات وجهه عن عدم رضاه.
إذن : فهناك نظر، وهناك كلام، وهم قد يتساءلوا : هل يراكم من أحد ؟ ومثلها مثل قولك : ما عندي من مال ؟ أي أنك لا تملك بداية ما يقال عنه مال، والقول الكريم أبلغ بالقطع من أن تقول : هل يراكم أحد.
إن قوله :﴿ هل يراكم أحد ﴾ دليل على أنهم في خوف من أن يضبطهم أحد، ومن بعد ذلك تجدهم يتسللون خارج دائرة الاستماع للقرآن أو للرسول ؛ لأنهم لا يطيقون الاستمرار في الاستماع ؛ لأن منطق الحق يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادر على أن يؤمن بالحق وغير قادر على إعلان الكفر ؛ فينسحبون، وينصرف كل واحد منهم ؛ لذلك نجد أن بعضهم قد قال من قبل :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه١... ( ٢٦ ) ﴾ ( فصلت ).
وقد قالوا ذلك لأن الكافر أو المنافق قد تأتيه لحظة غفلة عن الباطل، فيتسلل الإيمان إلى قلبه، كما أن المؤمن قد تأتيه لحظة غفلة عن الحق، لكنه يستغفر الله عنها.
وإذا ما أتت للمنافق أو الكافر لحظة غفلة عن كفره أو نفاقه ؛ فتأتيه هجمة الإيمان فيخافها، فيقول لمن هم مثله : من الأفضل أن نقول لمن معنا لا تسمعوا هذا القرآن. لماذا ؟ حتى لا يصادف فترة غفلة عن النفاق، فإذا صادف فترة غفلة عن النفاق فمن الممكن أن يدخل الإيمان القلب. ولذلك قالوا :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن ﴾، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل طلبوا من الأتباع أن يلغوا فيه، أي : أن يشوشوا عليه :﴿ والغوا فيه لعلكم تغلبون ( ٢٦ ) ﴾ ( فصلت )
إذن : لا غلبة لهم مطلقا إلا بعدم الاستماع إلى القرآن أو أن يشوشوا عند سماع القرآن ؛ حتى لا ينفذ القرآن إلى القلوب٢.
وهنا يقول الحق سبحانه عن هؤلاء المنافقين :
﴿ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ﴾ كانوا يقولون ذلك ؛ لأنهم كمنافقين سبق لهم إعلان الإسلام، وكانوا يدعون أنهم متقدمون في تطبيق أحكام الإيمان، وكانوا يصرون على الوقوف أثناء الصلاة في الصف الأول ؛ حتى يدفعوا عن أنفسهم تهمة النفاق ؛ كما يقول المثل : يكاد المريب أن يقول خذوني. وينظر بعضهم إلى بعض متسائلين :﴿ هل يراكم من أحد ثم انصرفوا ﴾ لأنهم لا يطيقون الجلوس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى المؤمنين. وينهي الحق الآية :
﴿ صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ وذلك نتيجة لإنصرافهم نفسيّا إلى النفاق ؛ فيساعدهم سبحانه على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان ؛ فليذهبوا بعيدا عنه، فالحق لم يصرفهم إلا باختيارهم، حتى لا يقول أحد : إن الله هو مصرف القلوب، فما ذنبهم ؟ لا، لقد انصرفوا هم بما خلقه الله فيهم من اختيار، فصرف الله قلوبهم، لماذا ؟ لأنهم ﴿ قوم لا يفقهون ﴾ أي : لا يفهمون٣.
والفهم أول مرحلة من مراحل الذات الإنسانية، وهناك فرق بين الفهم والعلم. فالفهم يعني أنك تملك القدرة على تفهّم ذاتية الأشياء بملكة فيك، لكن العلم يعني أنك لا تفهم بذاتك، وإنما يفهم غيرك ويعلمك. فأنت قد تعلم جزئية لا من عندك وإنما من معلم لك. الذي لا يفهم عليه أن يتقبل التعليم، ولكن هؤلاء لم يفهموا ولو تعلّموا، وأصروا على عدم قبول العلم.
وبعد ذلك يأتي ختام سورة التوبة. ﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( ١ ) ﴾ ( التوبة ).
وورود لنا أحوال الكفار والمنافقين، وتكاليف الجهاد الشاقة، وأراد الحق أن يختم السورة بما يبرز هذه المشقات المتقدمة، فبيّن لنا : إياكم أن تنفضّوا عن الرسول أو تغضبوه ؛ لأنه وإن جاء لكم ببلاغ فيه أمور شاقة عليكم فخذوا هذه الأمور الشاقة على أنها من حبيب لكم، لا من عدو لكم.
إنك مثلا إن رأيت عدوا ضرب ابنك وجرحه، يكون وقع هذا الأمر شديدا عليك ؛، لأنه عدو. لكنك إذا أخذت ابنك للطبيب وقرر الطبيب إجراء جراحة للابن، فأنت تقبل ذلك ؛ لتزيل عن ابنك خطرا. إذن : فهناك فارق بين جرح عدوك لابنك وجرح الطبيب له رغم أن الإيلام قد يكون واحدا.
إذن : لا ترفض الأمور الشاقة عليك ورود المشاق عليك، ولكن اعرف أولا من الذي أجرى المشاق عليك، فإن كان ربك، فربك بك رحيم. وإن كان الرسول فخذ أوامر الرسول وطبقها، لأنها من حبيب يريد لك الخير.
٢ وقد كان هذا دأب المشركين والكفار مع كل وحي يأتي من السماء، مثل قوم نوح الذين قال عنهم: ﴿وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا(٧)﴾ (نوح).
٣ وهذا مثل تعالى:﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين (٥)﴾ (الصف) عن قوم موسى..
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم( ١٢٨ ) ﴾.
ونلحظ هنا أن الحق قد نسب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل : جئتكم برسول. وكلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت من عند نفسه، ولم يدع هذا الأمر الجليل لنفسه، ولكن الشحنة الإيمانية تفيد أنه خلق بما يؤهله للرسالة١، وبمجرد أن نزل عليه الوحي امتلك اندفاعا ذاتيّا لأداء الرسالة، ولم يحتج لمن يدفعه لأداء الرسالة ؛ لذلك أراد الحق سبحانه أن يثبت للرسول صلى الله عليه وسلم المجيء ذاتيّا، لكن هذا المجيء الذاتي ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم في البداية، بل هو رسول من عند الله، فأتى الحق سبحانه هنا بكلمة " جاء ".
وكلمة ﴿ رسول ﴾ تدل على أنه ليس من عنده، وكلمة " جاء " تدل على أن الشحنة الإيمانية جعلت لذاته عملا، فهو صلى الله عليه وسلم يعشق الجهاد من أجل الرسالة، ويعشق الكفاح من أجل تحقيق هذه الرسالة.
إذن : لا تنظر إلى ما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم نظرتكم إلى الأمور الشاقة التي تتعبكم، ولكن انظروا ممن جاءت، إن كانت من الأصل الأصيل في إرسال الرسل، فالرب رحيم، خلقكم من عدم، ويوالي نعمه عليكم حتى وأنتم في معصيته. فأنت تعصاه و يحب الله سبحانه من يستر عليك٢، فلا تشكك ولا تتشكك. وعليك أن تأخذ التكاليف على أنها من حبيب فلا تقل : إنها مشقة. فأنت-ولله الممثل الأعلى- تطلب من ابنك أن يستذكر دروسه، وتراجعها معه قهرا عنه في بعض الأحيان، وأنت قد تمسك بيدي ابنك ليعطيه الطبيب حقنة من الدواء الذي جعله الله سببا للشفاء.
إذن : فلا تأخذ الأحوال بوارداتها عليك، ولكن خذها بوارداتها ممن قدرها وقضاها ؛ وهو الحق سبحانه وتعالى :
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ أي : أن الحق سبحانه لم يأت بإنسان غريب عنكم، بل جاء بواحد منكم قادر على التفاهم معكم. ولقوله الحق :﴿ من أنفسكم ﴾ معان متعددة، فمرة يكون معناها ب " من جنسكم "، مثلما قال الحق عن حواء : وخلق منها زوجها... ( ١ ) } ( النساء )أي : خلق حواء من نفس جنس آدم البشري، فلا يقولن أحد : كيف بعث الله لنا بشرا رسولا ؟ لأن الحق أراد الرسول من البشر رحمة بالناس ؛ ولذلك يؤكد صلى الله عليه وسلم على بشريته من مرة وفي مواقع كثيرة٣ والقرآن يقول :
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قاتلوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) ﴾ ( الإسراء ).
إذن : فبشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ على الله، ولكن تؤخذ لله ؛ لأنه أرسل واحدا من نفس الجنس ؛ ليكون قادرا على أن يتفاهم مع البشر، وتكون الأسوة به سهلة. ولذلك قال سبحانه :
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾ ( الإسراء ).
وقوله الحق :﴿ من أنفسكم ﴾ أي : من جنس العرب، ولم يأت به من الروم أو من فارس، لكن اختار لكم من هو أعلم بطبائعهم. أو أن معنى ﴿ من أنفسكم ﴾ أي : من نفس القبيلة التي تنتمون إليها معشر قريش.
أو أن﴿ من أنفسكم ﴾ تعني أنكم تعلمون تاريخه، وتعرفون أنه أهل لتحمل أمانة السماء للأرض، كما تحمل أماناتكم من الأرض للأرض ؛ ولأن هذا سلوكه، فهو قادر على أن يتحمل أمانة السماء للأرض. ولقد سميتموه الصادق الأمين، والوفي، كلها مقدمات كانت توحي بضرورة الإيمان به كرسول من عند الله. وإن كانت سلسلة أعماله معكم تثير فخركم، فمجيئه كرسول إنما يرفع من ذكركم، ويعلي من شأنكم. فأنتم أهل قريش ومكة ولكم السيادة في البيت الحرام، وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ليزيد من رقعة السيادة لكم، فإذا كنتم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم سادة البيت، فأنتم بعد بعثته سوف تصيرون سادة العالم.
ويقول سبحانه :﴿ وإنه لذكر و لقومك وسوف تسألون ( ٤٤ ) ﴾ ( الزخرف ).
فهو نبي للعالم أجمع ومن العرب ومن قريش، وكان يجب أن يفرحوا برسالته وأن يؤيدوها، لكن الله لم يشأ ذلك ؛ لأن قريشا قبيلة قد ألفت السيادة على العرب، وهذا جعل العرب يعملون لها حسابا، وخافت منها كل قبائل العرب في أنحاء الجزيرة العربية، وكانت لها مهابة هائلة ؛ لأن كل العرب مضطرون للحج إلى الكعبة، وأثناء الحج تكون القبائل كلها في أرض قريش، لذلك كانت القبائل ترعى قوافل قريش، ولا تتعرض أي قبيلة لقريش أبدا، فقوافلها تروح تغدوا، جنوبا و شمالا، ولا تقدر قبيلة أن تقف في مواجهة قريش، أو أن تتعرض لها.
وكل هذه المكانة وتلك المهابة أخذتها قريش من خدمتها لبيت الله الحرام ؛ ولذلك شاء الحق ألا يمكن أبرهة من هدم البيت لتظل السيادة لقريش، فلو انهدم البيت الحرام انصرف الحج إلى اليمن كما كان يريد أبرهة، فمن أين تأتي السيادة لقريش ؟ لذلك قال الحق عن أبرهة وقومه :﴿ فجعلهم كعصف مأكول٤( ٥ ) ﴾ ( الفيل )
وأتبعها بقوله :﴿ لإيلاف قريش( ١ ) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( ٢ ) ﴾ ( قريش )وما دام الحق سبحانه قد شاء هذا فيأتي في الآية التالية :﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ( ٣ ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف( ٤ ) ﴾ ( قريش ).
وشاء الحق سبحانه أن يبعث بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا يدعوا أولا الصناديد، والقبيلة ذات المهابة والمكانة، وأن تكون الصيحة الإيمانية في آذان سادة الجزيرة الذين تهابهم كل القبائل، حتى لا يقال : إن محمدا قد استضعف قلة من الناس وأعلن دعوته بينهم لا، بل جاءت دعوته في آذان الصناديد، والسادة، وسفه أحلامهم، وحين رفضوا دعوته هاجر، ثم جاءه الإذن بقتالهم، ولم تأت نصرة الإسلام من السادة، بل آمن به الضعاف أولا، ثم هاجر إلى المدينة ؛ لتأتي منها النصرة.
فلو أن النصرة جاءت من السادة لقالوا : جاءت نصرة الإسلام من قوم ألفوا السيادة، ولما ظهر واحد منهم يقول : إنه رسول ؛ أرادوا أن يسدوا به، لا الجزيرة العربية، بل الدنيا كلها، فتكون العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان بمحمد، والله يريد أن تكون النصرة من الضعيف ؛ حتى يفهم الجميع أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو السبب في العصبية لمحمد.
وهكذا نفهم معنى :﴿ لقد جاءكم رسول ﴾ أي : مرسل من الله و﴿ من أنفسكم ﴾ بكل ما تعنيه مراحل النفس، وهو مبلغ عن الله، فلم يأت بشيء من عنده، بل كل البلاغ الذي جاء به من ربه، والرب بإقراركم هو الذي خلق لكم ما تنتفعون به من السماوات والأرض.
وسبحانه يقول :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله... ( ٨٧ ) ﴾ ( الزخرف )
ويقول :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله... ( ٢٥ ) ﴾ ( لقمان )
إذن : فالمخلوق هو الخليفة الإنسان، وما خلق الله في الكون، إنما خلقه لخدمتكم كلكم، وأنتم تقرون ذلك، فإذا كان الرب قد سبق لكم بهذه النعم، وجاء الرسول الذي جاء لكم من عنده بما يسعدكم، وقد استقبلتم خيره قبل أن يأتي لكم بالتكاليف، واستقبلتم نعمته قبل أن تكونوا مخاطبين له، إذن : فالله الذي أرسل رسوله بالتكاليف والمنهج لكم، لا بد أن يكون قد كلف من هو مؤتمن عليكم، وهو صلى الله عليه وسلم لم يأت من أسوة لكم في الفعل، فلا تتعجبوا، لكن غباء الكافرين بالله جعلهم يريدون أم يكون الرسول ملكا، فقال الحق :
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا( ٩٤ ) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾ ( الإسراء )أي : إن كنتم تريدون ملكا، فالملك له صورة لا ترونها، ولا بد أن نجعله ملكا في صورة بشر ؛ ليخاطبكم، إذن : فهل المشكلة مشكلة هيئة وشكل ؟ ثم أن الملائكة بحكم الخلق :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( ٦ ) ﴾ ( التحريم )
فإذا قال لكم الرسول الملك : أنا أسوة لكم في العمل الصالح، أكانت تصح الأسوة ؟ من المؤكد أن بعضنا سيقول : لا، لن تنفع الأسوة ؛ لأنك ملك مطبوع على الخير، ليس لك شهوة بطن، ولا شهوة فرج، إذن : فأسوتك بك لا تصح.
إذن : فمن رحمته سبحانه بكم أن جعل لكم رسولا من أنفسكم، ومن قبيلتكم، ومن العرب، لا من فارس أو الروم، وهو يخاطبكم بلغتكم ؛ لأنكم أنتم أول آذان تستقبل الدعوة ؛ فلا بد أن يأتي الرسول بلسانكم، وجاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالأنس والألفة ؛ لأنه من قريش التي لها بطون في كل الجزيرة ولها قرابات، وأنس وألفة بكل العرب، وأنس ثالث أنه من البشر، وجاء به الحق سبحانه فردا من الأفراد، محكوم له بالصدق والأمانة قبل أن يبلغكم رسالته من الله.
إذن : فإذا جاءكم الرسول بتكليف قد يشق عليكم، فاستصحبوا كل هذه الأشياء ؛ لتردوا على أنفسكم : هو بشر وليس ملكا. وهو من العرب وليس من العجم. هو من قبيلتكم التي نشأ بينكم فيها. هو من تعرفون سلوكه قبل أن يبلغ عن الله، فما كذب على البشر في حق البشر. أفيكذب على البشر بحق الله ؟.
وقرأ عبد الله بن قسيط هذه الآية :﴿ من أنفسكم ﴾ أي : أنه صلى الله عليه وسلم بالمقياس البشري هو من أقدركم وأحسنكم٥. ولذلك حينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة عن الله، هل انتظرت سيدتنا خديجة رضي الله عنها أن يأتي لها بالمعجزة ؟ هل انتظر أبو بكر أن تأتي له بالمعجزة ؟ لا، لم ينتظر أحدهما لأن كلاّ منهما أخذ المعجزة من ناحية تاريخه الماضي.
وحينما قال لخديجة :" يأتيني ويأتيني ويأتيني " كانت ناضجة التكوين والفكر والعقل، وعلمنا مما قالت لماذا اختار الله له أن يتزوجها وعمره خمسة وعشرون عاما، وعمرها أربعون سنة، مع أن المألوف أن يحب الإنسان الزواج ممن هي دونه في العمر.
لكن المسألة لم تكن زواجا بالمعنى المعروف، لكنه زواج لمهمة أسمى مما نعرف، ففي فترة هذا الزواج ستكون الفترة الانتقالية بين البشرية العادية إلى البشرية التي تتلقى من السماء، وهذه فترة تحتاج إلى قلب أم، ووعاء أم تحتضنه وتربّت عليه.
فلو كانت فتاة صغيرة وقال لها مثلما قال صلى الله عليه وسلم لخديجة لشكت في قواه العقلية، لكن خديجة العاقلة استعرضت القضية استعراضا عقليّا بحتا. فحين قال لها : أنا أخاف أن يكون الذي يأتيني رئي٦ من الجن. قالت له :" إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزيك الله أبدا٧.
إذن : فقد أخذت من مقدمات حياته قبل البعثة ما يدل على صدقه بعد البعثة.
وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، حينما قالوا له : إن صاحبك يدعي أنه رسول. قال : أهو قالها ؟ قالوا : نعم. قال : إنه رسول من الله لأنه لم يكذب طوال عمره٨.
وبعد ذلك يقول الحق :﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾. وكلمة ﴿ عزيز ﴾ أي : لا ينال ولا يقدر عليه أحد، والشيء العزيز أي نادر الوجود. وقد تقول لإنسان :" قد تكون وزيرا " ؛ فيصمت رجاء، لكن إن قلت له :" ستصبح رئيس وزراء " فيقول : هذه مسألة مستعصية وكبيرة علىّ بعض الشيء.
إذن : فالعزة تأتي لامتناع شيء إما لقدرته، أو عزيز بمعنى نادر، أو يستحيل. والعزيز- هو الأمر الذي يعز على الناس أن يتداولوه، فيقال " عز علىّ أن أصل إلى قمة الجبل " ﴿ عزيز عليه ﴾ أي : شاق عليه أن يعنتكم بحكم ؛ فقلبه رحيم بكم، وهو لا يأتي لكم بالأحكام لكي تشق عليكم، بل تنزل الأحكام من الله لمصلحتكم، فهو نفسه يعز عل
٢ وهذا حق من حقوق المسلم على أخيه، وهو أمر يحبه الله من عبده. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم أخو المسلم" لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" متفق عليه. أخرجه البخاري(٢٤٤٢) ومسلم(٢٥٨) ويحب أن نفهم هنا أن الستر المقصود هنا ليس السكوت عن فجور من هو مقيم على معصية، بل هو ستر معصية وقعت من إنسان وانقضت..
٣ يقول عز وجل:﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد....(٦) (فصلت) وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المنى كثيرا جدا، منها:
فعن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، إنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق فأقتضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" أخرجه البخاري في صحيحه (٢٤٥٨) ومسلم (١٧١٣).
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما أنا بشر، وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين سببته أو شتمته، أن يكون ذلك له زكاة وأجرا" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٠٢) وأحمد في مسنده (٣/٣٩١، ٤٠٠).
٤ كعصف مأكول له معنيان: أحدهما: أنه جعل أصحاب الفيل كورق أخذ فيه من الحب وبقى هو لا حب فيه. والآخر: أنه أراد أنه جعلهم كورق النبات الذي أكلته البهائم ثم راثته. وكلاهما في لسان العرب(مادة: ع ص ف)..
٥ لذلك اختصه الله بصفات حسية ومعنوية تحيله من أنفس خلق الله على الله، ويقول الحق:{يا أيها النبي إنا لأرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(٤٥) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (٤٦)﴾ (الأحزاب).
٦ رئي من الجن: تابع قد ألفه الإنسان من كثرة رؤيته له. وقد تكون من الرأي أي أنه صاحب رأيه. وانظر اللسان (مادة: رأى).
٧ ذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءه جبريل في غار حراء، رجع إلى السيدة خديجة ترجف بوادره فقال:"زملوني زملزني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع. ثم قال لخديجة:"أي خديجة مالي" وأخبرها الخبر. فقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت له: كلا. أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا. والله إنك لتصل الرحم، ويتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق" أخرجه البخاري في صحيحه (٣) ومسلم (١٦٠) عن عائشة. بوادره: اللحمة التي بين الكتف والعنق دلالة على شدة الفزع. زملوني: غطوني. تحمل الكل: أي: تنفق على الضعيف واليتيم وغير القادر على الإنفاق. تقرى الضيف: أي: أنك كريم جواد تطعم الضيف. نوائب الحق: حوادث الخير والشر..
٨ عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن أبي بكر:"هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟" (مرتين) إني قلت:"يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت" أحرجه البخاري في صحيحه (٣٦٦١، ٤٦٤٠) وابن أبي عاصم في السنة (٢/٥٧٦).
وحين تعلن :﴿ حسبي الله ﴾ بعد أم كذبوك، فالأحداث التي سوف تأتي بعد إعلانك ﴿ حسبي الله ﴾ ستؤكد أن حسبك في مكانه الصحيح ولله المثل الأعلى –أنت تقول :" حسبي نصرة فلان " ؛ لأنك تثق في قدرة فلان هذا، ولكن القوة في الحياة أغيار، وحين تقول :﴿ حسبي الله ﴾ فلا إله غيره سبحانه، ولا إله آخر يعارضه في هذا أو في غيره.
وقل :﴿ حسبي الله ﴾ برصيد ﴿ لا إله إلا هو ﴾، و ﴿ لا إله ﴾ نفي، و﴿ إلا هو ﴾ إثبات، إذن : ففي هذا القول ﴿ لا إله إلا هو ﴾ نفي منطقي مع سلب، وإثبات منطقي مع الإيجاب، وهنا نفي أيّ ألوهية لغير الله، والاستثناء من ذلك هو الله، ورحم الله شيخنا عبد الرحمان عزام حين ترجم عن محمد إقبال٢ شاعر باكستاني الكبير، فقال :
إنما التوحيد إيجاب وسلب *** فيما للنفس عزم ومضاء
إيجاب في ﴿ إلا هو ﴾، وسلب في ﴿ لا إله ﴾، فيهما للنفس وعزم ومضاء، أي : هما للنفس قطبا الكهرباء، فاسلب الألوهية من غير الله وأثبتها لله.
والناس-كما نعلم- ثلاثة أقسام : قسم ينكر وجود إله للكون مطلقا، وهم الملاحدة، وقسم ثان يقول : إن هناك الله الذي يوحده المسلمون ؛ لكن شركاء ينفعوننا عند الله. وقسم ثالث يقول بوحدانية الله.
وساعة نقول ﴿ لا إله إلا هو ﴾ نكون قد أثبتنا الألوهية لله، وأثبتنا أن لا شريك له، وأثبتنا ألا إله غيره، وسبحانه يقول :
﴿ فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت ﴾ وهذا أمر طبيعي، ويمكن أن نعرفه بالحساب ؛ ولذلك جاء ب﴿ حسبي ﴾ من الحساب. واحسبها فلن تجد إلا الله. وما دام حسبك الله و لا إله إلا هو، فسبحانه يبسط عليك حمايته ونصرتك لك، فمن العقل أن تضع نفسك بين يدي رسولك، الذي أبلغك البلاغ الكامل عن الله، وأن تتوكل عليه سبحانه.
وما دام سبحانه هو حسبك ولا إله إلا هو، والواجب يفرض عليك أن تظل في معيّته سبحانه، ومعيّة الله مرحلتان : الأولى بأخذ الأسباب التي أمدّ بها خلقه، ومعية إيمانك المطلق بأن الأسباب إن عجزت معك، فأنت تلجأ إلى مسبّب الأسباب الموجود وهو رب الوجود.
وتر-مثلا- الناس وهي تحتاج إلى المياه ؛ لأنها ضرورة للحياة ؛ فيذهبون إلى البئر فلا يجدون الماء رغم وجود البئر ؛ لأن المياه تأتي من جوف الأرض لم تعد لا تتسرب إليه، لماذا ؟ لأن المخزون من ماء المطر الذي كان يأتي من أعالي الجبال ويتسرب تحت الأرض قد نفد، و ولهذا نحتاج إلى مدد من أمطار السماء ؛ لتجري إلى المسارب تحت الأرض وتعود المياه إلى البئر.
وإذا جفّت الآبار المحيطة بنا، هل نيأس ؟ لا، لأن ربنا بيّن لنا : ارفعوا٣ أيديكم لربكم. إذن : فنحن إذا استنفدنا الأسباب نطلب من المسبب، ولذلك أن يستنفد واحد أسباب الله الممدودة إليه، ويلجأ إلى الله فيرده.
إن يد الله ممدودة لنا بالأسباب ولا يصح أن يهمل إنسان ولا يأخذ بالأسباب، ويقول : أنا متوكل على الله، إن على الإنسان أن يأخذ أولا بالأسباب وأن يستنفدها، وبعد ذلك يقول : ليس لي ملجأ أولا بالأسباب وأن يستنفدها، وبعد ذلك يقول : ليس لي ملجأ إلا أنت سبحانك، واقرأ إن شئت قول الله سبحانه :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه... ( ٦٢ ) ﴾ ( النمل )
والمضطّر : هو من استنفد أسبابه، وليس له إلا الله. لكن أن يقول إنسان : أنا أدعو الله ليل نهار وأسبّحه سبحانه وأقرأ سورة يس مثلا، ولا يستجيب الله لدعائي٤. ونقول لمثل هذا القائل : أنت لا تدعو عن اضطرار ولن تأخذ بالأسباب، خذ بالأسباب التي خلقها الله، أولا، ثم ادع بعد ذلك. ولا تدع إلا إذا استنفذت الأسباب ؛ فيجيبك المسبّب ؛ وبذلك لا تفتن بالأسباب، فحين تمتنع الأسباب ؛ تلجأ إلى الله. ولو كانت الأسباب تعطي كلها لتفتن الإنسان بالأسباب، والحق سبحانه يقول :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ( ٦ ) أن رآه استغنى ( ٧ ) ﴾ ( العلق )، لذلك نجد الحق يبين دائما أن كل الأسباب بيده، فنرى من يحرث ويبذر ويروي ويرعى، ثم يقترب الزرع من النضج، وبعد ذلك تأتي موجة حارة تميته، أو ينزل سيل يجرفه. إذن : خذ بالأسباب واجعل المسبب دائما في بالك، وهنا يصح توكلك على الله.
وكثير من الناس يخطئ في فهم كلمة " التوكّل "، وأقول : إن التوكل يعني أن تأخذ، أولا، أسباب الله التي خلقها سبحانه في كونه، فإن عزّت الأسباب ولم تصل إلى نتيجة ؛ فاتجه إلى الله، مصداقا لقوله :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ﴾.
ونحن ندعو أحيانا عن غير اضطرار ونهمل الأسباب، والمثال تجده في حياتنا حين يقول الابن لأمه :" ادعي لي حتى أنجح " وتجيب الأم الأمية قائلة كلمة بسيطة هي :" ساعد الدعاء بقليل من المذاكرة "، وهي بذلك تدل ابنها على ضرورة الأخذ بالأسباب.
إذن : فمعنى التوكل : أن تستفيد الأسباب التي مدّتها يد الله إليك. فإذا استنفدتها ؛ إياك أن تيأس ؛ لأن لك رب ؛ وهو سبحانه ركن شديد ترجع إليه.
ومثال آخر : إذا كنت سائر في الشاعر ومعك جنيه واحد مثلا ثم وقع منك أو سرق، ولا تملك في البيت أو في البنك مليما واحدا، هنا وتحزن، وأما إن كان في البيت عشرة جنيهات ؛ فنسبة الغضب والحزن ستكون قليلة، وإذا كان في البيت عشرة جنيهات وفي البنك مائة جنيه ؛ فلن تحزن أو تغضب لضياع الجنيه الواحد.
وهكذا تثق بالمثل عوضا عن المثل، أفلا تثق بواهب هذا المثل عن عوض المثل ؟
إذن : فالتوكل هو أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب٥. والكسالى هم من يريدون أن يكون التوكل للجوارح وليس القلوب.
وكان من الممكن أن يغيّر الحق الأسلوب في الآية فيقول : توكلت عليه.
بدلا من ﴿ عليه توكلت ﴾ ولكن إن وفقت الفهم عن قوله الحق، ستجد أن الإنسان إن قال :" أنا اعتمدت عليك " فقد تعطف قائلا :" وعلى فلان وعلى فلان ". لكن قولك : عليك توكلت لا يمكن أن تعطف من بعدها، وفيها تنزيه لله ولا أحد غيره يتوكل عليه الحق، مثلما تقول في الفاتحة :﴿ إياك نعبد ﴾ أي : لا نعبد غيرك، فتكون قد قصرت العبادة عليه سبحانه.
وتوكلك على الله له رصيد ؛ لأنه ربك ورب الكون الذي استقبلك، ولا تصل قدرتك إليه، فأنت في الأرض تحرثها، تبذرها، وترويها، ثم تأخذ من عطاء الله لك، فهو ربك، ورب الكون الذي استقبلك، وأصبح هذا الكون مسخرا لك ؛ وأنت لم تكن قادرا على تسخير الكون.
صحيح أنك قد تسخر الدابة وتربطها وتمتطيها وتحمل عليها السماد مثلا وكل ذلك مسخر لك وفي قدرتك وهذا من فضل الله عليك. ويزيد فضله سبحانه، وترى مخلوقات مسخّرة لك، و ليست في قدرتك ؛ فالشمس مسخّرة لك ؛ تشرق كل يوم بالدفء وبالحرارة، وكذلك القمر، والغمام، وكل هذه المخلوقات ليست في قدرتك السيطرة عليها، بلا سخرها الله لخدمتك.
وربك ورب الكون الذي استقبلك سخر لم ما ليس في يدك، وهو سبحانه رب الملكوت الذي يدير كل ذلك وأنت لا تراه، وهو الذي يدير كل هذه الأشياء. فلا تنظر إلى ظواهر العطاء فقط، بل انظر إلى مسبّبات العطاء في ظواهر العطاء، ولا تلتفت إلى ظاهرة إلا لتعرف ما وراء هذه الظاهرة. ما وراء أي ظاهرة كثير.
ويقول الحق سبحانه :﴿ هو رب العرش العظيم ﴾ نعم، هو رب الكون الذي استقبلك وسخر لك ما في يدك وما ليس في يدك، وما وراء المرئيات من عالم الملكوت ؛ ليدير بكمال قدرته كل شيء، وكل ما في الكون ملك لله. وله سبحانه العرش العظيم، فما هو العرش ؟ نعرف لأول وهلة أن العرش هو السقف٦، فنحن تبني دورا واحدا تصنع له السقف ؛ ليحميك من وهج الشمس والمطر، وإن كانت الأرض رخوة فالمباني تهبط، وبنينا السقوف حتى تحمي الجدران من عوامل التعرية.
وقول الله سبحانه :﴿ العرش العظيم ﴾ معناها : استواء الأمر يدخل فيه كل مقدور ؛ ولذلك عبر سبحانه عن الملك مثلا في ملكة سبأ على لسان الهدهد فقال :﴿ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ( ٢٣ ) ﴾ ( النمل ).
العرش، إذن، رمز السيطرة، وفي حياتنا-ولله المثل الأعلى- نجد أن الذي يأخذ الملك من واحد قبله يبدأ في تطهير الجيوب المحيطة به ويبحث عن الأنصار ؛ ليعيد ترتيب الملك بما يراه مناسبا له ؛ حتى تستقر له الأمور، ثم يجلس بعد ذلك على العرش.
إذن : فالجلوس على العرش معناه استتاب الأمر نهائيا للمالك الأعلى.
وسبحانه يقول :﴿ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم... ( ٧ ) ﴾ ( غافر ).
وساعة تسمع كلمة " العرش " خذها على أنها رمز لاستتباب الأمر لله، وأن كل شيء دخل في حيّز قدرته، وفي حيز قدرته، وفي حيّز ﴿ كن ﴾ كما يستقر الأمر للملك المحسّ، فلا يجلس على العرش، ولا يهدأ، إلا إذا استقرت الأمور الدنيوية، فما بالنا باستقرار الأمور. هذا ما نراه في الأمور الدنيوية، فما بالنا باستقرار كل الكون من الأزل لله سبحانه وتعالى ؟.
يقول الحق سبحانه :﴿ إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيان ثم استوى على العرش... ( ٥٤ ) ﴾ ( الأعراف ).
أي : أن الأمور قد استتبت له. وهكذا نجد أن كلمة " العرش " وردت في عروش الدنيا، وفي عرش الله سبحانه، فعروش الدنيا٧ ترمز إلى استتباب الأمر لمن يجلس عليها، والعرش بالنسبة لله رمز لاستتاب أمر الكون كله له سبحانه لا ينغص عليه شيء ولا يخرج من ملكه شيء.
والكون كله، بكل ما فيه مستتب لكلمة " كن " ومخلوق بها وخاضع لسلطان الحق سبحانه وتعالى.
وهنا يقول الحق :﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ ولا يوصف العرش بأنه عظيم إلا وفي أذهان الناس عروش الملوك التي نراها في حياتنا، مثلما قال الهدهد عن ملكة سبأ :
﴿ ولها عرش عظيم٨( ٢٢٣ ) ﴾ ( النمل )أي : بمقاييس البشر.
أما قوله تعالى هنا ﴿ وهو رب العرش العظيم ( ١٢٩ ) ﴾ ( التوبة ).
فهو بمقاييس رب البشر، إنه عرش الخالق العظيم سبحانه وهو فوق التصور البشري ؛ لذلك نفهمه في إطار ﴿ ليس كمثله شيء.. ( ١١ ) ﴾ ( الشورى ).
٢ محمد إقبال شاعر ومفكر إسلامي جاهد بقلمه ونفسه في سبيل الإسلام وتحرير بلاده، وله آثار أدبية وشعرية تميل إلى الإسلام وتدرس في المؤسسات العلمية، وهو باكستاني المنشأ إسلامي الوطن، عالمي الفكر ترجم له في مصر الدكتور عبد الرحمان عزام والصاوي شعلان..
٣ ارفعوا أيديكم بالدعاء والتضرع بشرط الاستجابة له والإيمان به تجدون الإجابة مع الرشاد..
٤ من آداب الدعاء ألا يستبطئ الداعي استجابة الله لدعائه، فتجده يمل ويدع الدعاء، بينما كان عليه أن يدرك أن الله يريد الأصلح لعبده، فقد يدعوا عبد بما يظن أنه خير له، ولكن علم علام الغيوب أنه شر له، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٣٥) الرواية الثالثة للحديث..
٥ يقول عز ووجل:﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا (٣)﴾ (الطلاق).
٦ العرش: الملك، استوى الملك على عرشه: أي: ملك. ومن معانيه أيضا سرير الملك مثل قوله تعالى:{ولها عرش عظيم(٢٣) (النمل) ومنه أيضا سقف البيت وقد يطلق على البيت نفسه، وكلها معان تدل استقرار الأمر وثباته. انظر اللسان (مادة: عرش).
٧ إن عروش الدنيا تشير إلى استتاب الأمر لمن يملك عليها، أما عرش الله فيشبر أمر الكون لله سبحانه..
٨ عروش ملوك البشر محدودة المكان والزمان، أما عرش الله سبحانه فلا حدود فهو مالك الملكوت..