تفسير سورة النّور

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة النور
سورة النور مدنية وهي أربع وستون آية

( سورة( أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة ( أنزلناها( صفة لسورة ( وفرضناها( يعني أوحينا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها وقيل : معناه قدرنا ما فيها من الحدود، قرأ الجمهور بالتخفيف وابن كثير وأبو عمرو بالتشديد من التفعيل للتكثير لكثرة فرائضها أو كثرة المفروض عليهم يعني ألزمناكم أجمعين ومن بعدكم إلى قيام الساعة، وقيل : معناه فصلنا وبينا ( وأنزلنا فيها ءايات بينات( واضحات الدلالة على المراد ( لعلكم تذكرون( أي لكي تتعظوا وتتقوا محارم الله
( الزانية والزاني( مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه تقديره سنذكر حكمهما لقوله ( فاجلدوا( بيان لحكمه الموعود تقديره إذا ثبت زناهما فاجلدوا وقال المبرد : خبره جملة فاجلدوا أورد الفاء في الخبر تتضمن المبتدأ معنى الشرط، فإن اللام بمعنى الذي تقديره الذي زنى والتي زنت فيقال في شأنهما اجلدوا ( كل واحد منهما( منصوب على المفعولية يقال جلده إذا ضرب جلده كما يقال رأسه وبطنه إذ ضرب رأسه وبطنه ذكر بلفظ الجلد كيلا يبرح ويضرب بحيث يبلغ اللحم ومن ها هنا قال الفقهاء.
مسالة : يضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا، روى ابن أبي شيبة ثنا عيسى بن يونس عن حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فيقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به فقلنا : له في زمن من كان هذا قال في زمن عمر بن الخطاب وروى عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فدعا عليه السلام بسوط فأتي بسوط شديد لع ثمرة فقال : سوط دون هذا فأتي سوط مكسور لين فقال : سوط فوق هذا، فأتي بسوط بين سوطين فقال : هذا فأمر به فجلد " وروى ابن ألي شيبة عن زيد بن أسلم نحوه وذكره مالك في الموطأ ( مائة جلدة( منصوب على المصدرية قدم الزانية في الآية على الزاني لأن الزنى في الأغلب يكون بتعريضها للرجل وعرض نفسها عليه بخلاف السرقة فإنها غالبا منن الرجال ولذلك قدم السارق على السارقة في قوله تعالى :( والسارق والسرقة فاقطعوا أيديهما(. ١
مسألة : أجمع علماء الأمة على أن الزانية والزاني إذا كانا حرين عاقلين بالغين غير محصنين فحدهما أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة بحكم هذه الآية ولا يزاد على ذلك عند أبي حنيفة ح، وقال الشافعي وأحمد يجب عليهما أيضا تغريب عام إلى مسافة قصر فما فوقها ولو كان الطريق آمنا ففي تغريب المرأة قولان وفي المنهاج انه لا تغرب المرأة وحدها في الأصح بل مع زوج ولو بأجر وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في قول فإن امتنع بأجرة ففي قول يجبره الإمام وفي المنهاج أنه لا يجبر في الأصح وقال مالك : يجب تغريب الزاني دون الزانية، احتج الشافعي بحديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ٢وقد مر الحديث في سورة النساء في تفسير قوله تعالى :( فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا( ٣ وحديث زيد بن خالد قال :" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام " ٤ رواه البخاري وفي الصحيحين حديث زيد بن خالد وأبي هريرة أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحدهما اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم قال : تكلم، قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت بمائة شاة وبجارية لي ثم إني سالت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة ووتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك وأما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام وأما أنت يا أنس فأغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها " ٥ قال مالك البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام غير شامل للنساء فلا يثبت التغريب في النساء وهذا لسي بشيء فإن سياق الحديث في النساء حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث، وعدم شمول البكر المرأة ممنوع كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البكر تستأذن " ٦ وكلمة من زنى في حديث زيد عام في الذكر والأنثى لكن الوجه الصحيح لقول مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " ٧ رواه الشيخان في الصحيحين وأحمد وأبو داود عن ابن عمر وفي الصحيحين وعند أحمد عن ابن عباس نحوه وروى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة نحوه ولأجل ذلك خص مالك حكم التعريب بالرجال دون النساء وجعل الشافعي المحرم شرطا للتغريب.
وقال الطحاوي إن تغريب النساء لما بطل لأجل نهيهن عن المسافرة بغير محرم انتفى ذلك عن الرجال أيضا، واستدل الطحاوي على عدم التغريب في الحد بحديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر " ٨ متفق عليه، قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببيع الأمة إذا زنت ومحال أن يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه فثبت بطلان تغريب الأمة إذا زنت وإذا بطل تغريب الإماء بطل تغريب الجوائز لقوله تعالى :( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب( ٩ وإذا بطل تغريب الحرائر بطل تغريب الأحرار وهذا لقول غير سديد لأن نفي التغريب في النساء مطلقا أو في الإماء لأجل التعارض في النصوص لا يقتضي السقوط في حق الرجال مع عدم التعارض هناك، وقال بعض الحنفية لا يجوز العمل بحديث التغريب لأنه زيادة على الكتاب وهي في حكم النسخ فلا يجوز بخبر الآحاد وهذا القول مردود لأن الزيادة التي هي في حكم النسخ زيادة ركن أو شرط أو وصف في المأمور به حتى يجعل المجزىء غير مجز كزيادة تعين الفاتحة في أركان الصلاة، وصفة الإيمان في رقبة الكفارة والتتابع في الصيام والطهارة في الطواف وهي ممنوعة، وأما مطلق الزيادة فغير ممنوعة وإلا لبطلت أكثر السنن ألا ترى أن عدة الوفاة ثبتت بنص القرآن والإحداد فيها ثبت بالسنة وليس الإحداد شرطا في العدة حتى لو تربصت أربعة أشهر وعشرا ولم تجد عصت بترك الواجب وانقضت عدتها وجاز لها التزوج ومن هذا القبيل القول بأن تعين الفاتحة وضم السورة وغيرهما من واجبات الصلاة على رأي أبي حنيفة حيث قال بوجوبها ولم يقل بركنيتها وزيادة التغريب في الحد لا تجعل جلد مائة غير مجز فلا محذور فيه فقال أصحاب الشافعي إن الآية ساكتة عن التغريب وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الآخر نسخا مقبولا أو مردودا.
فقال المحققون من الحنفية إن قوله تعالى :( فاجلدوا( بيان للحكم الموعود في قوله ( الزانية والزاني( على قول سيبويه فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا إذ يفهم منه أنه تمام الحكم وليس تمامه في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من ترك البيان لأنه يوقع في الجهل المركب وذاك في البسيطن وجزاء للشرط على قول المبرد فيقيد أن الواقع هذا فقط فلو ثبت معه شيء آخر كان مثبته معارضا لا مثبتا لما سكت عنه وهو الزيادة الممنوعة، وأورد عليه بأن الحديث مشهور تلقته الأمة بالقبول فيجوز به نسخ الكتاب وأجيب بانه إن كان المراد بالتلقي بالقبول إجماعهم على العمل بع فممنوع لظهور الخلافن وإن كان المراد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك، ولا تخرج بذلك عن كونها آحادا فإن قيل : الآية قطعي السند لكنه ظني الدلالة لكونه عاما، خص منه البعث إجماعا فإن الحكم بالجلد مائة مختص بالأحرار والحرائر دون العبيد والإماء وبغير المحصن عند أكثر الأمة، وأيضا دلالتها على كون الحكم الجلد فقط لا غير ظنية مستنبطة بالراي حتى لم يدرك كثير من الفقهاء وأهل العربية والحديث ظني السند قطعي الدلالة فتساويا فجاز أن يكون حديث الآحاد ناسخا لحكم الكتاب فلأن يجوز به الزيادة على الكتاب أولى ؟ قلنا : على تقدير تسليم المساواة سباق حديث عبادة يدل انه أول حكم ورد في الزانيات والزواني حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " فالاية عند التعارض ناسخ ليس بمنسوخ وقد قال الشافعي الجلد المذكور في الحديث في حق الثيب منسوخ فلا مانع من كون التغريب في حق البكر منسوخا بهذه الآية، قال ابن همام ليس في الباب من الأحاديث ما يدل على أن الواجب من التغريب واجب بطريق الحد، فإن أقصى ما فيه دلالة قوله :" البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " وهو عطف واجب على واجب وهو لا يقتضي ذلك بل ما في البخاري من قول أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي وإقامة الحد " ١٠ ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه وكونه مستعملا في جزء مسماه وعطفه على جزء آخر بعيد لا يوجه دليل وما ذكر من الألفاظ لا تفيد فجاز كون التغريب لمصلحته.
فائدة : وقد يرجح أصحاب الشافعي حديث التغريب بالمعقول حيث قالوا إن في التغريب حسم باب الزنى لقلة المعارف، وعارضه الحنفية بأن فيه فتح باب الفتنة لانفرادها عن العشيرة وعمن تستحيي منهم إن كان بها شهوة قوية وقد تفعله لحامل آخر وهو حاجتها إلى معيشتها ويؤيده ما روى عليه الرزاق ومحمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي قال قال عبد الله بن مسعود في البكر يزين بالبكر يجلدان مائة وينفيان سنة قال وقال علي بن أبي طالب حسبهما من الفتنة أن ينفيا وروى محمد عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال كفى بالنفي فتنة، وروى عبد الرزاق عن الزهري عن ابن المسيب قال : غرب عمر ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا أغرب بعده مسلما.
مسألة : وإذا رأى الإمام مصلحة في التغريب مع الجلد جاز له النفي عند أبي حنيفة ح أيضا وهو محل التغريب المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ورى النسائي والترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين والدراقطني من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب، ١١ وصححه ابن القطان ورجح الدارقطني وقفه وروى ابن أبي شيبة بإسناده فيه مجهول أن عثمان جلد امراة في زنى ثم أرسل بها إلى خيبر فنفاها وليس التغريب مقتصرا على الزنى بل يجوز للإمام تغريب كل واع إذا رأى مصلحة، روى الطحاوي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده عمد فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة وتفاه سنة ومحا أراه سهمه من المسلمي وامره أن يعتق رقبة، وروى سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب أتى برجل شرب الخمر في رمضان فضرب مائتي سوط ثم سيره إلى الشم وعلق البخاري طرفا عنه ورواه البغوي في الجعديات وزاد وكان إذا غضب على رجل يسيره إلى الشام وروى البيهقي عن عمر أنه كان ينفي إلى البصرة، وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع ان عمر نفي إلى فدك، ومن ها هنا أخذ مشايخ السلوك رضي الله عنه وعنا أنهم يغربون المريد إذا بدا عنه قوة نفس ولجاج لتتكسر نفسه وتلين.
قلت : إذا رأى القاضي مسلما يقع في المعاصي لغلبة الشهوة مع الندم والاستحياء يأمره بالغربة والسفر واما من لا يستحيي ولا يندم فنفيه عن الأرض حبسه حتى يتوب والله أعلم.
مسألة : وإذا كان الزاني والزانية محصنين يرجمان بإجماع الصحابة ومن بعدهم من علماء النصيحة، وأنكره الخوارج لإنكارهم إجماع الصحابة وحجة خبر الآحاد وادعائهم أن الرجم لم يثبت من القرآن ولا من النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار متوا
١ سورة المائدة الآية: ٣٨..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: حد الزنى (١٦٩٠)..
٣ سورة النساء الآية: ١٥..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: شهادة القاذف والسارق والزاني (٢٦٤٩)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (٢٦٩٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى (١٦٩٧)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها (٦٥٧٠)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: حج النساء (١٧٦٣) وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (١٣٤١)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع العبد الزاني (٢٠٤٥) واخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا (١٧٠٣)..
٩ سورة النساء الآية: ٢٥..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: المحاربين من أهل الردة والكفر، باب: البكران يجلدان وينفيان (٦٨٣٣)..
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: الحدود، باب: ما جاء في النفي (١٤٣٩)..
( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك( أخرج أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا مرثد ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين( فلا تنكحها " ١ وأخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فأراد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فنزلت، وأخرج سعيد بن منصور عن مجاهد قال : لما حرم الله الزنى فكان زواني عندهن جمال فقال الناس لننطلقن فلنتزوجهن فنزلت، وقال البغوي قال قوم قدم المهاجرون المدينة فقراء لا ما لهم ولا عشائر وفي المدينة نساء بنيا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة فرغب ناس من فقراء المهاجرين في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وحرم ذلك على المؤمنين( أن يتزوجوا تلك البغايا لأنهن كن مشركات وهذا قول عطاء بن أبي رباح ومجاهد وقتادة والزهري والشعبي وفي رواية العوفي عن ابن عباس قلت : أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه من مراسل سعيد بن جبير، وقال البغوي قال عكرمة نزلت في نساء بمكة والمدينة منهن تسع لهن رايات كرايات يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة فأراد ناس من المسامين نكاحهن على تلك الجهة فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزظول اشترطت له أن تنفق عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية ولهذه الآية والأحاديث المذكورة احتج احمد على أنه لا يجوز نكاح الزاني ولا الزانية حتى يتوبا فإذا تابا فلا يسميان زانيين، وعند الأئمة الثلاثة نكاح الزاني والزانية صحيح ففي تفسير هذه الآية قال بعضهم معناه الإخبار كما هو ظاهر الصيغة، والمعنى أن الزاني لأجل فسقه لا يغرب غالبا في نكاح الصالحات والزانية لا يرغب فيها الصلحاء فإن المشاكلة علة الألفة والتضام والمخالفة سبب للنفرة والافتراق وكان حق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من زان أو مشرك لكن المراد بيان أحواله الرجال في الرغبة فيهن لما ذكرنا أنها نزلت في استئذان الرجال من المؤمنين وعلى هذا التأويل المراد بالتحريم في قوله تعالى :( وحرم ذلك على المؤمنين( التنزيه عند أكثر العلماء عبر عنه بالتحريم مبالغة يهني أن المؤمنين لا يفعلون ذلك ويتنزهون عنه نحافيا عن التشبه بالفساق وسوء المقابلة والمعاشرة والطعن في النسب وفي غير ذلك من الفاسد وقال مالك يكره كراهة تجريم وقال البغوي قال قوم المراد بالنكاح الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ورواية الوالي عن ابن عباس وقال زيد بن هارون يعني الزانية إن كان مستحيلا فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زان وعلى هذا أيضا بمنى الكلام على الأخبار وقال جماعة النفي ها هنا بمعنى النهي وقد قرىء به والحرمة على ظاهرها لكن التحريم كان خاصا في حق أولئك الرجال من المهاجرين الذين أرادوا نكاح الزانيات دون سائر الناس وهذا القول بعيد جدا لأن الممنوع في الآية ابتداء الزاني عن نكاح الصالحات غير الزانيات وكان حق الكلام حينئذ المؤمن لا ينكح إلا مؤمنة صالحة وأيضا عموم قوله تعالى :( وحرم ذلك على المؤمنين( ينافي تخصيص الحكم برجال مخصوصين وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول : إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان أبدا، وقال الحسن الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود، وروى أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " ٢ مبنى هذين القولين أن التحريم عام والآية حراما بهذه الآية فنسخها قوله تعالى :( وأنكحوا الأيمان منكم( ٣ فدخلت الزانية في أيامى المسلمين ويدل على جواز نكاح الزانية ما روى البغوي عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن امرأتي لا تدفع يد لامس قال :" طلقها " قال إني أحبها وهي جميلة قال :" استمتع بها " ٤ وفي رواية " فأمسكها إذا " كذا روى الطبراني والبيهقي عن عبيد الله بن عمر عن عبد الكريم بن مالك عن أبي الزبير عن جابر وقال ابن أبي جابر سألت أبي عن هذا الحديث فقال : حدثنا محمد بن كثير عن معتمر عن عبد الكريم حدثني أبو الزبير عن مولى لبني هاشم فقال : جاء رجل فذكره ورواه الثوري فسمى الرجل هشاما مولى لبني هاشم فقال : جاء رجل فذكره ورواه الثوري فسمى الرجل هشاما موللى لبني هاشم ورواه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن ابن عباس وقال النسائي رفعه أحد الرواة إلى ابن عباس وأحدهم لم يرفعه قال : وهذا الحديث أي الموصول ليس بثابت والمرسل أولى بالصواب ورواه الشافعي مرسلا ورواه النسائي وأبو داود من رواية عكرمة عن ابن عباس نحوه قال الحافظ إسناده أصح وأطلق النووي عليه الصحة وأورد ابن الجوزي الحديث في الموضوعات مع أنه أورده بإسناد صحيح وذكر عن أحمد بن حنبل أنه لا يثبت في الباب شيء وليس له أصل.
فائدة : قال الحافظ اختلف العلماء في معنى قوله لا تدفع يد لامس ؟ فقيل : معناه لا تمنه ممن يطلب منها الفاحشة وبهذا قال أبو عبيدة والنسائي وابن الأعربي والخطابي والفريابي والنووي وهو مقتضى استدلال البغوي والرافعي وغيرهما في هذه المسألة وقيل : معناه التبذير يعني لاتمنع أحدا طلب منها شيئا من مكال زوجها وبهذا قال أحمد والأصمعي ومحمد بن نصر وعلى هذا التأويل لا استدلال بالحديث في هذه المسألة قال البغوي وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنى وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام، وةأخرج الطبراني والدارقطني من حديث عائشة قالت :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال :" الحرام لا يحرم الحلال " وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة سئل ابن عباس عن الرجل يصيب من المرأة حراما ثم يبدو له أن يتزوج بها ؟ قال : أوله سفاح وآخره نكاح ".
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: سورة النور (٣١٨٠) وأخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في قوله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية (٢٠٥٣) واخرجه النسائي في كتاب: النكاح، باب تزويج الزانية (٣٢١٩)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في قوله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية (٢٠٥٤)..
٣ سورة النور الآية: ٣٢..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (٣٠٥٠) وأخرجه النسائي في كتاب: النكاح، باب: تزويج الزانية (٣٢٢٠)..
( والذين يرمون( أي يقذفون بصريح الزنى بنحو زنيت أو يا زاني أجمع على هذا التقييد علماء التفسير والفقه بقرينة اشتراط الأربعة في الشهادة فمن قذف بغير الزنى من المعاصي لا يجب عليه حد القذف إجماعا ولكن يعززه الحاكم على ما يرى وكذا الورمي بالزنى تعريضا كما إذ قال لست أنا بزان فإنه لا يحد وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان وابن سيرين والحسن بن صالح وقال مالك وهو رواية عن أحمد أنه يحد بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر أن عمر كان يصرب الحد بالتعريض وعن علي أنه جلد رجلا بالتعريض ولأنه عرف مراده كان كالتصريح قلنا التعريض ليس كالتصريح ولذا جاز خطبة النساء في العدة تعريضا ولا يجوز تصريحا قال الله تعالى :( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء( ١ ( المحصنات( أو المحصنين بدلالة هذا النص للقطع بالفاء الافرق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على أهلية الاجتهاد وعليه انعقد إجماع الأمة، وتخصيص المحصنات بالذكر لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع والمراد بالإحصان ها هنا بإجماع أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا غير متهم بالزنى وهذا محمد قوله صلى الله عليه وسلم " من أشرك بالله فلم بمحصن " عند الجمهور كما ذكرنا فيما سبق، فمن زنى في عمره مرة ثم تاب وحسن حاله وامتد عمره فقذفه قاذف بالزنى لا يحد لكون القاذف صادقا فيما رمى به لكنه يعزز لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكذا لا يحد قاذف رقيق أو صبي أو مجنون وحكي عن داود أن قاذف الرقيق بحد ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء( بعد إنكار المقذوف فلو أقر المقذوف على نفسه بالزنى أو أقام القاذف أربعة من الشهور على الزنى سقط الحد عن القاذف ولو شهد أربعة على الزنى متفرقين غير مجتمعين لا يجب حد الزنى على المقذوف هند أبي حنيفة كما ذكرنا فيما سبق لكن يسقط حد القذف عن القاذف لوجود النصاب ولااجتماع إنما شرط احتياطا لدرء حد الزنى لا لإيجاب حد القذف وكذا لو أقر المقذوف مرة لا يجب عليه الحد ولا على قاذفه والمراد بالشهداء في هذه الآية الذين كانوا أهلا للشهادة فلو شهد أربعة على رجل بالزنى وهم عميان أو محدودون في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف فإنهم يحدون ولا يحد المشهود عليه لأنهم ليسوا من أهل أداء الشهادة فوجدوهم كعدمهم والعبد ليس بأهل للتحمل والأداء لعدم الولاية فلم يثبت شبهة الزنى لأن الزنى يثبت بالأداء ولو شهدوا وهم فساق لم يحدوا ولا يحد المقذوف لأنهم من أهل الأداء والتحمل لكن في أدائهم نوع صور لأجل الفسق فيثبت بشهادتهم شبهة الزنى فلا يحد واحد القذف ولا المقذوف حد الزنى عند الشافعي يحد الفسقة حد القذف لأنهم كالعبيد ليسوا من أهل الشهادة ومن هذه الآٍية يثبت أنه لو نقص عدد الشهود عن الأربعة حدوا لأنهم قذفوه لأنه لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف إنما هو باعتبار الحسبة روي الحاكم في المستدرك والبيهقي وأبو نعيم في المعرفة وأبو موسى في الدلائل من طرق أنه شهد عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنة أبو بكرة ونافع وشبل بن معيد ( ولم يصرح به زياد وكان رابعهم ) فجلد عمر الثلاثة وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحمد، وعلق البخاري طرفا منه ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان التيمي عن أبي النهدي نحوه وفيه لما نكل زياد قال عمر هذا رجل لا يشهد إلا بحق ثم جلدهم الحد( فاجلدوهم( بعد مطالبة المقذوف إجماعا لأن فيه حق العبد وإن كان مغلوبا ( ثمانين جلدة( عن كان القذفة أحرارا وأما إن كانوا أرقاء جلد كل واحد منهم أربعين بإجماع الفقهاء وسند الإجماع القياس على حد الزنى الثابت تصنيفه بقوله تعالى :( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب( ٢ روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا أربعين سوطا وروى مالك بهذا في الموطأ إلا أنه ليس فيه ذكر أبي بكر وقال الأوزاعي حد العبد مثل حد الحر ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا( عطف على الأمر بالجلد جزاء لما تضمن المبتدأ معنى الشرط فهو من تتمة الحد عندنا لأنهما أخرجا بلفظ الطلب مفوضين إلى الأئمة بخلاف قوله تعالى :( وأولئك هن الفاسقون( فإنه كلام مستأنف جملة اسمية أخرجت بطريق الإخبار لا مناسبة لها بالطلب بل هي دفع توهم استبعاد صيرورة القذف سببا لوجوب الحد الذي يندرىء بالشبهات فإن القذف خبر يحتمل الصدق والكذب وربما يحتمل أن يكون حسبة، وجه الدفع بيان فهم فاسقون عاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن إقامة أربعة شهداء فلهذا استحقوا العقوبة، وقال الشافعي رحمه الله جملة لا تقبلوا كلام مستأنف غير داخل في الحد لأنه لا يناسب الحد لأن الحد فعل يلزم الإمام إقامته لا حرمة فعل وقوله تعالى :( وأولئك هم الفاسقون( في مقام التعليل لرد الشهادة قلنا بل هو مناسب للحد فإن الحد للزجر والزجر في رد الشهادة أبدا أكثر من الضرب ويدل على ذلك قوله تعالى :( أبدا( فإن الفسق لا يصلح سببا لرد الشهادة أبدا بل لرد الشهادة ما دام فاسقا، لا يقال قول :( ولا تقبلوا لهم شهادةى أبدا( المراد منه ما دام هو مصر على القذف فإذا تاب قبل شهادته كم يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا أو يراد به ما دام كافران لأنا نقول عدم قبول الشهادة للكافر ما دام كافرا يفهم من قوله لا تقبل شهادة الكافر ولا حاجة فيه إلى قوله أبدا لا ترى أن إضافة الحكم إلى المشتق يدل على علية المأخذ وعلية الكفر لعدم قبول الشهادة يقتضي دوامه مادام الكفر فقوله أبدا في هذا المثال لغو لا يحتمل أن يكون كلام الله تعالى نظيرا له
١ سورة البقرة الآية: ٢٣٥..
٢ سورة النساء الآية: ٢٥٠..
( إلا الذين تابوا من بعد ذلك( أي من بعد القذف ( وأصلحوا( أحوالهم وأعمالهم بالتدراك ( فغن الله غفور رحيم( قال أبو حنيفة رحمه الله هذا الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة ومحله النصب لما تقرر في الأصول من مذهبه أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع إلى الأخيرة ما لم يكن هناك قرينة صارفة عنها إلى الكل لكونها قيبة من الاستثناء متصلة بهن ولأن الجملة الأخيرة ها هنا منقطعة عما سبقها من الجمل نظرا إلى حكمه لاختلاف نسقها وإن اتصلت بما سبق باعتبار ضمير أو اسم إشارة ولأن الجملة الأخيرة بسب انقطاعها عما سبق حائل بين المستثنى، وبين ما سبق من الجملتين الأوليين فلا يتحقق الاتصال الذي هو شرط الاستثناء ولأن الاستثناء يعود إلى ما قبله لضرورة عدم استقلاله وقد اندفعت الضرورة بالعود إلى جملة واحدة وقد عاد إلى الخيرة بالاتفاق فلا ضرورة في العود إلى ما قبلها ولأنه لما ورد الاستثناء في الكلام لزم توقف صدر الكلام عليه ضرورة أنه لا يدل له من مغير والضرورة تندفع بتوقف جملة واحدة فلا يتجاوز إلى الأكثر، لا يقال أن الواو للعطف والتشريك فيفيد اشتراك الجمل في الاستثناء لأنا نقول العطف لا يفيد شركة الجملة التامة في الحكم مع أن وضع العاطف للتشريك في الإعراب والحكم فلان لا يفيد التشريك في الاستثناء وهو بغير الكلام وليس بحكم له أولى ولأن التوبة تصلح منهيا للفسق ولا تصلح منهيا للحدود لا تندفع بالتوبة والله أعلم وقال الشعبي إن الاستثناء يرجع إلى الكل ومحله النصب فيسقط عنده حد القذف بالتوبة، وجمهور العلماء على أنه لايسقط بالتوبة، وقال مالك والشافعي الاستثناء راجع على الجملتين الآخريين دون الأولى ومحله الجر، ومبنى هذين القولين ما ذكر في الأصول من مذهب الشافعي وغيره أن الاستثناء عند عدم القرينة يرجع إلى الجمل المتعاطف كلها، غير أن الشافعي يقول إن جملة لا تقبلوا منقطع عما سبق غير داخلة في الحد فلا يرجع الاستثناء إلى الجملة الأولى لأجل الانقطاع ويرجع إلى الآخرين وقال البيضاوي ما حاصله أن الاستثناء راجع إلى الكل ولا يلزم منهع سقوط الحد بالتوبة كما قيل لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف قلت التوبة والاستغفار فلو فرض شهادته بنفس القذف وإن لم يطالب المقذوف حده لأجل فسقه، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حاله قبلت شهادته سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله وبعد التوبة يقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق قال البغوي يروى ذلك عن عمرو ابن عباس وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاووس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري قال البغوي قال الشافعي وهو يعني القاذف قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات فكيف ترد شهادات في أحسن حاليه وتقبل في شر حاليه قلنا نحن أيضا نقول أن القاذف نرد شهادته بنفس القذف لأجل فسقه فإن لم يطالب المقذوف الحد لا يحد ولا يقبل شهادته بنفس القذف لأجل فسقه فإن لم يطالب المقذوف الحد لا يحد ولا يقبل شهادته ما لم يتب روى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إلا الذين تابوا وأصلحوا( قال : توبتهم إكذباهم أنفسهم فإن كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم " ولهذا الحديث أي لا تقبلوا لهم شهادة أبدا فإن تاب قبلت شهادته لزواله فسقه وإن طالب المقذوف يحد فيجلد ثمانين سوطا ولا يقبل شهادته أبدا سواءا تاب أو لم يتب لأن رد الشهادة حينئذ لحق العبد وحق العبد لا يسقط بالتوبة فلا يلزمنا ما قال الشافعي أنه ترد شهادته في أحسن حاليه وتقبل في شر حاليه.
فائدة : لا خلاف في أن حد القذف اجتمع فيه الحقان حق الله تعالى وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه هو حق العبد ثم إنه شرع زاجرا ولذا سمي حدان والمقصود من شرع الزواجر إخلاء العالم عن الفساد وهذا آية حق الله تعالى فمن أجل كونه حقا للعبد يشترط فيه مطالبة المقذوف ولا يبطل الشهادة بالتقادم ويجب على المستأمن ويقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه لا ذا علم قبل ولايته حتى يشهد به عنده ويقدم استيفاؤه على حد الزنى والسرقة إذا اجتمعا ولا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به، ومن اجل كونه حقا لله تعالى لا يجوز للمقذوف استيفاؤها بنفسه بل الاستيفاء للإمام ويندرىء بالشبهات ولا ينقلب مالا عند سقوطه ولا يستخلف عليه القاذف وينتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا لله تعالى، بخلاف حق العبد فإنه يتقدر التألف ولا يختلف باختلاف المتلهف ولهذه الفروع كلها منفعة عليها واختلفوا في تغليب أحد الحقين على الآخر فمال الشافعي إلى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى الله تعالى، ومال أبو حنيفة إلى تغليب حق الله تعالى لأن ما للعبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرغوبا به ولا كذلك عكسه إذ لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الله تعالى إلا بنيابته، ويتفرع على هذا الاختلاف فروع آخر مختلف فيها، منها الإرث فعند الشافعي حد القذف يورث وعند أبي حنيفة لا يورث إذ الإرث لا يجري في حقوق الله ويجري في حقوق العباد بشرط كونه مالا أو ما يتصل بالمال كالكفالة أو ما ينقلب إلى المال كالقصاص والحد ليس شيئا منها فيبطل بموت المقذوف، إذ لم يثبت بدليل شرعي استخلاف الشرع وارثا جعل له حق المطالبة التي جعل شرطا لظهور حقه، فمن قذف أحدا فمات المقذوف قبل إقامة الحد أو بعد ما أقيم بعضه بطل الباق عندنا خلافا للشافعي ومنها العفو فلو عفا المقذوف بعد ثبوت الحد لا يسقط عندنا وعند الشافعي وهو رواية عن أبي يوسف يسقط، لكن قال المقذوف لم يقدفني وكذب شهودي فحينئذ يسقط اتفاقا لما ظهر أن القذف لم يوجد فلم يجب الحد لا أنه وجب فسقط بخلاف القصاص فغنه يسقط بالعفو بعد وجوبه لأن الغالب فيه حق العبد، ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عن حد القذف عند أبي حنيفة وبه قال مالك وعند الشافعي وأحمد يجوز ومنها أنه يجري فيه التداخل عند أبي حنيفة وبه قال مالك حتى لو قذف شخصا واحدا مرات أو قذف جماعة كان فيه حدا واحدا إذ لم يتخلل الحد بين القذفين ولو ادعى بعضهم فحد ففي أثناء الحد ادعى آخر كمل ذلك الحد وعند الشافعي لا يجري فيه التداخل قلت لما ثبت أن حد القذف اجتمع فيه حق الله وحق العبد كما يشهد به المسائل المتفقة عليها وثبت أيضا أن الحدود تندرىء بالشبهات، فالأولى أن يقال إنه إذا اقتضى أحد الحقين وجوب الحد والاخر سقوطه فلا بد أن يفتى بالسقوط فإنه إن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة، فلا يقال يجريان الإرث فيه كما قال أبو حنيفة ويقال بسقوطه بعفو المقذوف لسقوط المطالبة التي هي شرط لاستفائه كما قال الشافعي ويجري فيه التداخل كما قال أبو حنيفة، ولو صالحا على الاعتياض يعني بسقوط الحد فحصول الرضاء من المقذوف ولا يجب المال على القاذف لاحتمال كونه حقا لله تعالى والله أعلم.
روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم " البينة أوحد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا وجد أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" البينة وإلا حد في ظهرك " فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبره ظهري من الحد فنزل جبرائيل وأنزل الله عليه ﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ﴾
( والذين يرمون أزواجهم( الآية فقرأ حتى بلغ ( إن كان من الصادقين( فجاء هلال فشهد يعني لا عن والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت يعني لاعنت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء " فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " ١ وفي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي قال إن عويمر العجلاني قال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا يقتله فيقتلونه أن كيف يفعل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها " قال سهل فتلاعنا في المسجد وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها " فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه ". ٢
واخرج أحمد عن عكرمة عن ابن عباس أنه لما نزلت :( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا( قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار هكذا أنزلت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ قالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة له فاجتر رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته قال سعد يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لأعرف أنها حق وإنها من الله ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية ( وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم ) فجاء من أرضه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه، واجتمعت الأنصار فقالوا قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس فقال هلال والله إني لأرجوا أن يجعل الله لي منهما مخرجا فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه أنزل الله عليه الوحي فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت ( والذين يرمون أزواجهم( الآية، وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس وذكر البغوي هذا الحديث وقال في آخره :" أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا " قال قد كنت أرجوا ذلك من الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرسلوا إليها " فجاءت فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل لها فكذبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ فقال هلال يا رسول الله بأبي أنت وأمي قد صدقت وما قتل إلا حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعنوا بينهما فقيل لهلال أشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فقال له عند الخامسة يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن لهذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال والله لا يعذبني الله عليها لا يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قال للمرأة إشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فقال لها عند الخامسة ووقفها اتقي الله فإن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل منه فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق على الشبه المكروه وكان بعد أميرا بمصر لا يدري من أبوه.
قال البغوي إنه قال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل أنه لما نزلت ( والذين يرمنون المحصنات( الاية فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقام، عاصم بن عدي الأنصاري فقال جعلني الله فداك إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين سوطا وسماه المسلمون فاسقا ولا يقبل شهادته أبدا فكيف لنا بالشهداء، ونحن إذا التمسنا الشهداء كأن الرجل فرغ من حاجته ومر، وكان لعاصم هذا ابن عمر يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصما وقال لقد رأيت شريك بن السمحا على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى، فقال يا رسول الله ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بني عم لعاصم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعا، وقال لعويمر اتق الله في زوجتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة اتقي الله ولا تخبريني إلا بما صنعت فقالت يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور وإنه رآني وشريكا نستطيل السهر ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لشريك ما تقول فقال ما تقوله المرأة فأنزل الله عز وجل ( والذين يرمون أزواجهم( الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر قم فقام فقال أشهد بالله أن خولة زانية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية أشهد بالله أني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ثم قال في الثالثة أشهد أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ثم قال في الرابعة أشهد بالله ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنى لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال ثم أمره بالقعود وقال لخولة قومي فقامت أشهد بالله ما أنا بزانية وأن عويمرا لمن الكاذبين ثم قالت في الثانية أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الثانية أشهد بالله أنا حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة إنه منا رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة غضب الله على خولة ( تعني نفسها ) إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال لولا هذه الأيمان لكان في أمرها رأى ثم قال تجنبوا بها الولادة فغن جاءت بأصيهب أبيلج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت بأورق جعدا جماليا فهو لغير الذي رميت به قال ابن عباس فجاءت بأشبه خلق لشريك.
قال الحافظ ابن حجر اختلف الأئمة في هذا الموضع فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر ومنهم من رجح أنها في شأن هلال واحتج القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا وإلى هذا اجنح النووي وسبقه الخطيب وقال الحافظ ابن حجر يحامل أن النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن له علم بما وقع لهلال علمه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم ولهذا قال في القصة هلال فنزل جبرائيل وفي قصة عويمر قد أنزل الله فيك أي فيمن وقع له مثل ما وقع لك وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل.
مسألة : وبناء على عموم قوله تعالى :( الذين يرمون أزواجهم( قال مالك والشافعي وأحمد كل زوج صح طلاقه صح لعانه سواء كان حرين أو عبدين عدلين أو فاسقين أو أحدهما حرا عدلا والآخر عبدا أو فاسقا وكذا سواء كان مسلمين أو كافرين أو أحدهما خلافا لمالك فإن أنكحة الكفار فاسدة لا يصح طلاقه فلا يصح لعانه وقال أبو حنيفة لا يجوز اللعان ما لم يكن الزوج أهلا للشهادة يعني حرا عاقلا بالغا مسلما وتكون الزوجة ممن يحد قاذفها يعني حرة عاقلة بالغة مسلمة غير متهمة بالزنى، فلا يجري اللعان عنده إذا كان الزوج عبدا أو كافرا أو حدودا في قذف بل يحد حدج القذف إن كانت المرأة ممن يحد قاذفها وإلا يعزز إن رأى الإمام لكن إذا كان الزوج أعمى أو فاسقا يجوز لعانه لأن الفاسق يجوز للقاضي قبول شهادته وإن لم يجب قوله والأعمى إنما لا تقبل شهادته لعدم تميزه بين المشهود له والمشهود عليه ها هنا هو يميز بين نفسه وبين امرأته فكان أهلا لهذه الشهادة دون غيرها وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وكذا لا يجري اللعان عند أبي حنيفة إذا كان الزوجة أمة أو كافرة أو صبية أو مجنونة أو متزوجة بنكاح فاسد ودخل بها فيه أو كان لها ولد ليس له أب معروف أو زنت في عمرها ولو مرة ثم تابت أو وطئت وطأ حراما بشبهة ولو مرة فحينئذ لا حد ولا لعان بل تعززان رأى الإمام ووجه قول أبي حنيفة في اشتراط كون المرأة ممن يحد قاذفها أن اللعان إنما شرع لدفع حدف القذف من الزوج كما يدل عليه الأحاديث في سبب نزول الآيةى حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا " فهو بدل عن حد القذف في حق الزوج، ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتق الله فإن عذاب الدنيا يعني الحد أهون من عذاب الآخرة " ٣ فإذا لم يتصور المبدل منه لا يتصور البدل.
وفي اشتراط كون الرجل من أهل الشهادة قوله تعالى :( ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم( حيث جعل الأزواج أنفسهم شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات ولو جعل الشهداء مجازا من الحالفين كما قالوا كان المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون هم لأنفسهم وهذا فرع تصور الحلف لغيره وهو لا وجود له أصلا فلو كان اليمين معنى حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه فكيف وهو معنى مجازي لهان ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز، ويدل على اشتراط أهلية الرجل وكون المرأة ممن يحد قاذفها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه ابن ماجة والدارقطني بوجوه الأول ما رواه الدارقطني بسنده عن عثمان بن عبد الرحمن الزهري عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين العبد والحرة لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان " قال يحيى والبخاري وأبو حاتم الرازي وأبو داود عثمان بن عبد الرحمن الزهري ليش بشيء وقال يحيى مرة كان يكذب وقال ابن حبان كان يروي عن الثقات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به وقال النسائي والدارقطني متروك الحديث، والثاني ما رواه الدارقطني وابن ماجة بسندهما عن عثمان بن عطاء الخراساني عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع من النساء لا ملاعنة بينهن النصرانية تحت المسلم واليه
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: ويدرأ عنها العذاب أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (٤٧٤٧)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الطلاق، باب: اللعان (٥٣٠٨) وأخرجه مسلم في أول كتاب اللعان (١٤٩٢)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: اللعان (١٤٩٣) وأخرجه النسائي في كتاب: الطلاق، باب: عظة الإمام الرجل والمرأة عند اللعان (٣٤٦٤) وأخرجه الترمذي في كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في اللعان (١١٩٩)..
( والخامسة( اتفق القراء على رفعه فهو على قراء حفص وحممزة والكسائي عطف على أربع شهادات وعلى قراءة الباقين عطف على قوله :( فشهادة أحدهم( يعني فاللاواجب شهادة أحدهم أربع شهادات والواجب الشهادة الخامسة وجاز أن يكون الخامسة مبتدأ وما بعده خبره والجملة والاسمية حال ( أن لعنت الله عليه( قرأ نافع ويعقوب أن مخففة من الثقيلة واسمه ضمير الشأن ورفع اللعنة على الابتداء والباقون أن مشددة ونصب اللعنة على أنها اسم إن وأن مع ما في حيزه بتقديره حرف الجر متعلق بالشهادة يعني والشهادة الخامسة بأن لعنة الله عليه ( إن كان من الكاذبين( شرط مستغن عن الجزاء بما مضى.
مسألة : إذا قذف الرجل امرأته بالزنى أو بنفي الولد وهما من أهل اللعان على ما ذكرنا من الخلاف وطالبته بموجب القذف وجب عليه اللعان فإن امتنع منه حبسه الحاكم عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يلاعن أو يكذب نفسه فيحد حد القذف وعند مالك والشافعي وأحمد إذا امتنع من اللعان يحد حد القذف ولا يحبس لأن موجب القذف الحد واللعان حجة صدقة والقاذف إذا قعد عن إقامة الحجة حد ولا يحبس إلا أن الشافعي يقول إذا نكل فسق وقال مالك لا يفسق وجه قول أبي حنيفة أن النكول دليل على الإقرار لكن فيه شبهة والحد لا يثبت مع الشبهة فيحبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه لأنه حق مستحق عليه وهو قادر على إيفائه فيجلس به حتى يأتي بما هو عليه وإذا لاعن الزوج وجب على المرأة اللعان عند أبي حنيفة فإن امتنعت حبسها الحاكم حتى تلاعن أو تصدقه لأن حق مستحق عليها وفي قادرة على إيفائه فتحبس فيه وعند الشافعي إذا لاعن الزوج وقعت الفرقة بينه وبين زوجته وحرمت عليه على التأبيد وانتفى عنه النسب لقوله صلى الله عليه وسلم " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " ١ قلنا : إنما يصدق التلاعن إلا بعد لعان المرأة أيضا، فلا يقع الفرقة ولا يجوز التفريق إلا بعد تلاعنهما، ويجب على المرأة بلعان الرجل حد الزنى عند مالك والشافعي وأحمد ويسقط عنها حد الزنى عندهم إذا لاعنت لقوله تعالى :( ويدرؤا عنها العذاب(
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الطلاق، باب: في اللعان (٢٢٤٨)..
}ويدرؤا عنها العذاب( يعني حد الزنى كما في قوله تعالى :( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب( ١ ولقوله صلى الله عليه وسلم لامرأة هلال بن أمية " اتقي الله فإن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس " ( أن أشهد أربع( منصوب بالإجماع على المصدرية. . . ( شهادات بالله إنه( أي الزوج ( لمن الكاذبين( فيما رماني به منم الزنى أو من نفي الولد أو منهما
١ سورة النساء الآية: ٢٥..
( والخامسة( قرأ الجمهور بالرفع على الابتداء وما بعده خبره أو على العطف على أن نشهد وقرأ حفص بالنصب عطفا على ( أربع شهادات( ( أن( قرأ نافع ويعقوب مخففة على أنها مصدرية والباقون مشددة ( غضب الله عليها( قرأ نافع ويعقوب بكسر الضاد على أنه فعل ماض من باب علم يعلم والله مرفوع على أنه فاعل للفعل والباقون بفتح الضاد بالنصب على أنه اسم إن والله بالجر على أنه مضاف إليه ( إن كان من الصادقين( فيما رماني به من الزنى أو نفي الولد أو منهما قال الشافعي لا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط حد الزنى، ولو أقام الزوج بينة على زناها لا يسقط عنها الحد باللعان فإن امتنعت من اللعان حدث عندهم خلافا لأبي حنيفة ح فإنه يقول : بل تحبس دائما ما لم تلاعن أو تصدقه فإن صدقته ارتفع سبب وجوب لعانها فلا لعان ولا حد لأن التصديق ليس بإقرار قصدا بالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد ولو كان إقرارا. . . فإلإقرارا مرة لا يوجب حد الزنى عند أبي حنيفة ح كما مر فيما سبق ولم يتعين أن المراد بالعذاب في قوله تعالى :( ويدرؤاو عنها العذاب( الحد لجواز أن يكون المراد به الحبس والحدود وتندرىء بالشبهات.
مسالة : ولو صدقت المراة الزوج في نفي الولد فلا حد ولا لعان عند أبي حنيفة رحمه الله وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع حكما للعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله والله أعلم.
قلت : والعجب من الشافعي ومن معه أن اللعان عندهم يمين ولذا لا يشرطون في الرجل أهلية الشهادة ويجوزون اللعان من العبد والكافر والمحدود في القذف واليمين هو لا يصلح لإيجاب المال فكيف يوجب لعان الرجل عند امتناع المرأة عنه عليها الرجم وهو أغلظ الحدود، والعجب من أبي حنيفة رحمه الله أنه قال : اللعان شهادات ولذا اشترط في الرجل أهلية الشهادة وقال تكارا الشهادة في هذا المحل إنما شرع بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنى وهم أربعة وقد جعل الشارع شهادات الأربع مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنى في حقها فلم لم يقل بإيجاب حد الزنى عليها بشهاداته الأربع وقد قال الله تعالى :( ويدرؤوا عنها العذاب( والدرء لفظ خاص صريح في معنى السقوط والسقوط يقتضي الوجوب عند عدم موجبه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عذاب الله أشد من عذاب الناس " ١ يعني الحد، ولا معنى لكون اللعان في حقها قائما مقام حد الزنى إلا أنه إذا لاعنت سقط عنها الحد وإن امتنعت من اللعان وجب عليها الحد لا يقال أن شهادته وحده وإن كانت قائمة مقام شهادة أربعة من الرجال لكن لا يحصل به القطع بتحقق الزنى وفي قيام شهادته مقام شهاداتهم شبهة فيندرج بها القذف ولا يثبت بها حد الزنى لأنها يندرىء بالشبهات لأنا نقول لا شبهة في قيام شهاداته مقام شهاداتهم لثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع والقطع بتحقق الزنى كما لا يحصل بشهادته الأربع كذلك لا يحصل بشهادة أربعة من الرجال بجواز تواطئهم على الكذب والخبر لا يجوب القطع ما لم يبلغ درجة التواتر ويكون المخبر معصوما والحكم بعد شهادة رجلين أو أربعة أمر تعبدي ليس مبناه على القطع بل على غلبة الظن، وغلبة الظن ها هنا فوق غلبة الظن في شهادة أربعة من الرجال بواسطة تأكد شهاداته باليمين والتزام اللعنة مع كونه عدلا جائز الشهادة وبامتناع المرأة من اللعان ألا ترى أن توافق الأربعة على الكذب أقرب عند العقل من امتناع المرأة عن اللعان على تقدير كذب الزوج مع اعتقاداه بسقوط الرجم عنها ودفع العذاب باللعان والمراد بالشبهة التي تندرىء به الحد شبهة سوى هذه الشبهة التي لم يعتبرها الشرع من احتمال كذب الشهود الأربعة وكذب الزوج مع لعانه وامتناعها من اللعان فالراجح عندي في اشتراط أهلية الشهادة في الزوج وكون المرأة ممن يحد قاذفها قول أبي حنيفة ح، وفي وجوب حد الزنى بعد امتناع المرأة من اللاعن قول الشافعي ومن معه والله أعلم.
مسالة : قد مر فيما سبق أنه بلعان الرجل وحده يقع الفرقة بين الزوجين عند الشافعي وهذا أمر لا دليل عليه وقال زفر وبه قال مالك وهو رواية عن أحمد انه يقع الفرقة بتلاعنهما من غير قضاء القاضي وعند أبي حنيفة وصاحبيه وأحمد لا تقع بعد تلاعنهما حتى يفرق الحاكم بينهما ويجب على الحاكم تفريقهما والفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف وزفر ومالك والشافعي وأحمد فرقه فسخ وجه قولهم جميعا أن بالتلاعن يثبت الحرمة المؤيدة كحرمة الرضاع كما في الصحيحين عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين " حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها قال : يا رسول الله مالي ؟ قال :" لا مال لك عن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد فأبعد لك منها " ٢ وما رواه أبو داود في حديث سهل بن سعد مضت السنة في الملاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا، وكذا روى الدارقطني عن علي وابن مسعود قال الحافظ ابن حجر وفي الباب عن علي وعمر وابن مسعود في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة وروى أبو داود في حديث ابن عباس في آخر قصة هلال بن أمية أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما وقضى بأن لا تارمي ولا ولدها، وفي الصحيحين عن ابن عمر " أن رجلا لاعن ارمأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما وألحق الولد بأمه " ٣ وأصرح دليل على قول الجمهور أن الفرقة ليست فرقة طلاق ما أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية أنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ليس لها عليه قوت ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها قالوا : إذا ثبت بعد التلاعن الحرمة المؤبدة فلا حاجة إلى تفريق القاضي وأيضا الحرمة المؤبدة تنافي النكاح كحرمة الرضاع فتنفسخ وقال أبو حنيفة إن ثبوت الحرمة لا يقتضي فسخ النكاح ألا ترى أنه بالظهار يثبت الحرمة ولا يفسخ النكاح غير أنه إذا ثبت الحرمة عجز الزوج عن الإمساك بالمعروف فيلزمه التسريح بالإحسان فإذا امتنع منه تاب القاضي منا به دفعا للظلم دل عليه ما رواه الشيخان في حديث سهل بن سعد أنه قال عويمر بعد ما تلاعنا كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا وقد طعن الشيخ أبو بكر الرازي في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن قال صاحب التنقيح إسناده جيد ومفهوم شرطه يستلزم أنهما لا يفترقان بمجرد اللعان وهو حجة على الشافعي على مقتضى رأيه وما قال ابن عباس قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ليس لها قوت ولا سكنى من اجل أنهما يفترقان بغير طلاق فهذا زعم من ابن عباس وإنما المرفوع القضاء بعدم النفقة والسكنى.
قلت : الحرمة بعد التلاعن ثبتت بالإجماع أما عند الشافعي وزفر ومن معهما فظاهر وأما عند أبي حينفة فلأنه لولا الحرمة فلا وجه لتفريق النبي صلى الله عليه وسلم ولا موجب لقول أبي حنيفة ثم يفرق القاضي وهذه الحرمة ليست كحرمة الظهار لكونها منتهية بالكفارة بل هي حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع ولاشك ان الحرمة المؤبدة تنافي النكاح بخلاف المؤقتة فينفسخ ولا يحتاج إلى قضاء القاضي بل عليه ما قال ابن هماما أنه يلزم على قول أبي يوسف أنه لا يتوقف على تفريق القاضي لأن الحرمة ثابتة قبله اتفاقا وقولهç امتنع عن الإمساك بالمعروف فينوب القاضي منابه في التسريح يقتضي أن يامر القاضي الزوج بعدا للعان أن يطلقها فغن امتنع من التطليق يفرق القاضي بينهما ولم يقل به أحد ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتطليق وقول ابن عباس في حكم الرفع لكونه عالما بكيفية قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول عويمر فمحمول على عدم علمه بوقوع الفرقة باللعان ومفهوم الشرط وإن كان حجة عند الشافعي لكن بترك العمل به للقطع على ثبوت الحرمة المؤبدة، أو يقال معنى قوله " المتلاعنان إذا افرتقا لا يجتمعان أبدا " إذا افترقا من التلاعن أي فرغا كما قال أبو حنيفة في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم " المتباعان بالخيار ما لم يتفرقا " حيث قال المراد بالتفرق تفرق الأقوال.
مسالة : إذا أكذب الزوج نفسه بعد التلاعن هل يجوز له أن يتزوجها ؟ قال الشافعي ومالك واحمد إذا أكذب نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيما له فيلزمه حد القذف ويلحقه الولد ولا يترفع التحريم المؤبد فلا يجوز له التزوج، وقال أبو حنيفة وهو رواية عن أحمد أنه جلد وجاز له أن يتزوجها لأنه لما حد لم يبق أهلا للعان فارتفع حكمه المنوط به وكذلك أن قذف غيرها فحد بهن وكذا إذا زنت فحدت لانتفاء أهلية اللعان من جهتها قلنا ك زوال أهلية اللعان لا يقتضي نفي اللعان من أصله ألا ترى أنه من قذف غيره فحد حد القذف ثم زنى المقذوف وحد حد الزنى لا يقبل شهادة القاذف بعد ذلك مع زوال اهلية المقذوف لأنه يحد قاذفه قالت الحنيفة معنى قوله صلى الله عليه وسلم " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " لا يجتمعان ما داما متلاعنين كما هو مفهوم العرفية قلنا : معنى العرفية لا يتصور إلا إذا كان العنونا وصفا قارا والتلاعن وصف غير قار فلا يمكن الحكمم بشرط الوصف بل المراد اللذان صدر منهما اللعان في وقت من الأوقات لا يجتمعان بعد ذلك أبدا، والقول بأن معنى الحديث لا يجتمعان ما داما هما على تكاذبهما مصاورة على المطلوب والله أعلم.
مسألة : ولو كان القذف بنفي الولد نفى القاضي نسبه عنه وألحق بأمه ويتضمنه القضاء بالتفريق عند من يشترط له القضاء ويقول في اللعان أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتك به من نفي الولد وكذا في جانب المرأة، ولو قذفها بالزنى ونفي الولد ذكر في اللعان أمرين ثم ينفي القاضي نسب الولد ويلحقه بأمه لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين الرجل وامرأته فانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة٤ متفق عليه.
مسألة : وإذا قال الزوج ليس حملك مني فلا لعان عند أبي حنيفة وزفر وأحمد لعدم تيقن الحمل عند نفيه فلم يصر قاذفا وقال مالك والشافعي يلاعن لنفي الحمل وقال أبو يوسف ومحمد إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر وجب اللعان ومقتضى هذا القول أنه يؤخر الأمر إلى أن تلد فإن ولدت لأقل من ستة أشهر وجب اللعان وإلا فلا وقد ورد في بعض طرق قصة هلال ما يدل على أن اللعان كأن بعد الولادة روى الشيخان في في الصحيحين عن ابن عباس في قصة هلال فقال صلى الله عليه وسلم اللهم بين ووضعت شبيها بالذي ذكر زوجها أنه وجد عند اهله فلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه قول مالك والشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين هلال وزوجته وقضى أن لا يدعي ولدها لأب ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، قال عكرمة وكان ولدها بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب وهذا لفظ أبي داود في أكثر الطرق أن امرأة هلال كانت حاملا حين لاعنت، وروى النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته وكانت حبلى وأخرج عبد الرزاق هكذا أيضا وقال زوجها ما قربتها منذ عفار النخل وعفار النخل أنها لا تسقى بعد الآبار شهرين فقال صلى الله عليه وسلم " اللهم بين " فجاءت بولد على الوجه المكروه وبهذا يظهر جواز اللعان بنفي الحمل وأجيب بأن ا
١ الحديث هو "عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة" أخرجه مسلم في أول كتاب اللعان" (١٤٩٣)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الطلاق، باب: قوله الإمام للمتلاعنين "إن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب (٥٠٠٠٦) وأخرجه مسلم في أول كتاب اللعان (١٤٩٣)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: اللعان (١٤٩٤)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الطلاق، باب: يلحق الولد بالملاعنة (٥٣١٥) وأخرجه مسلم في كتاب: اللعان (١٤٩٤)..
( ولولا فضل الله عليكم( يا أمة محمد ( ورحمته وأن الله تواب( يعود بالرحمة على من يرجع من المعاصي بالندم والاستغفار ( حكيم( فيما فرض عليكم من الحدود وفي غيرها جواب لولا محذوف لتعظيمه أي لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة والله اعلم.
أخرج الشيخان وغيرهما عن الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا وكل حدثني طائفة من الحديث وبعض حديثهم بصدق بعضا وغن كان بعضهم أوعى له من بعض الذي حدثني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت وذلك بعدما نزل الحجاب فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين أذن ليلة بالرحيل فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد من جزع أظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فجسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي أركب عليه وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رحلوه ودفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه فظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وقد أناخ راحلته فوطىء على يدها فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موعرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك في شان وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهران والناس يفيضون في قول هل الإفك ولا أشهر بشيء من ذلك، وهو يريني في وجعي أن لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول : كيف تبكم ثم ينصرف فذلك يريني ولا أشعر بالسر، حتى خرجت حين نفقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا وذلك قبل أن يتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائظ فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنتا قالت فانطلقت أنا وأم مسطح ( وهي ابنة أبي دهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة ) فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها قبل المناصع فقالت تعس مسطح، فقلت : لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ قالت : أي بنتاه ألم تسمعي ما قال ؟ قلت ماذا قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي، قلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال : كيف تيكم ؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي وأنا أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي فجئت أبوي وقلت لأمي يا أماه ماذا يتحدث الناس ؟ فقالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها قلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقا لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبت الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم منن براءة أهله وفي رواية بالذي يعلم بهم في نفسه من الوزد فقال أسامة يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا واما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيرة وإن تسال الجارية تصدقك، فدعا بريرة فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يربك من عائشة ؟ قالت له بريرة والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمض عليها أكثر من أنها جارية حديث السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل ببتي فوالله ما عملت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما عملت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا وهو معي قالت فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه ( أخو بني عبد الأشهل ) يا رسول الله انا أعذرك فإن كان من الأوس اضرب عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج قالت وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من أهلك ما أحسب أن تقتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لقتلته فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يتقولا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر قالت فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا وسكت، قالت : فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ثم بكيت تلك الليلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكيث استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها وقد لبثت شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت : فتشهد ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيرتك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه " فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال فقال والله ما أدري ما أقول فقلت : لأمي أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله ما أدري ما أقولن فقلت ( وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن ) والله لقد عرفت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني برئية والله يعلم إني برية لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني برية لتصدقوني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت ك وأنا حينئذ اعلم أني برية وإن الله مبرئني ببراءتي ولكن ما كنت أظن إن الله منزل في شاني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء.
حتى إنه ليتجدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه فلما سري عنه سري عنه وهو يضحك وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت لي أمي قومي إليه فقلت : والله لاأقوم إليه ولا أحمد إلا الله وهو الذي أنزل براءتي ". ١
وأنزل الله ( إن الذين جاؤوا بالإفك( عشر آيات والإفك أبلغ ما يكون من الكذب وهو في الأصل الصرف والقلب وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء والدعاء لما كانت عليه من الحصانة والشرف ولما كانت بنتا للصديق زوجا للرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين واجبة الإكرام والاحترام فمن رماها بسوء قلب الأمر عن وجهه غاية القلب ( عصبة( وهي جماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين لا واحد لها من لفظها كذا في النهاية ( منكم( يعني من المؤمنين روى البخاري وغيره عن عائشة كانت تقول أما زينب بنت جحش فعصمها الله بدينها لم تقل إلا خيرا وأما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك، وكان الذي يتكلم مسطح وحسان بن ثابت وعبد الله بن أبي المنافق وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه وقال البغوي قال عروة لم يسم من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم أنهم عصبة كما قال الله تعالى قال عروة وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال :
فإن أبي وأمي وأولادي وعرضي لعرض محمد منكم وفاء
( لا تحسبوه( خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غير العصبة فإن شئتم عائشة كان راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسوءه ويسوء جميع المؤمنين فإن كان أبوهم صلى الله عليه وسلم يعني لا تزعموه ( شرا لكم( حيث يأمركم على ذلك ويظهر كرامتكم على الله وينزل على رسوله في بارءتها وتعظيم شأنها وتهويل الوعيد لمن تكلم بالإفك ما يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وجملة لا تحسبوه مستأنفة كأنه في جواب ما شان هذا الإفك أو معترضة للتسلية ( لكل امرى منهم( أي من العصبة الكاذبة ( ما اكتسب من الإثم( أي جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه كان بعضهم افترى وأحب أن يشيع وبعضهم تكلم به بعد ما سمع مكن غيره وبعضهم ضحك ولم يتكلم وبعضهم سكت من غير رد، الموصول فاعل للظرف أو مبتدأ خبره الظرف المقدم عليه والجملة صفة لعصبة وخبر ثان لإن.
قال البغزي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعا ثمانين ثمانين قلت بالحد والفضيحة جزاؤهم في الدنيا وجزاؤهم في الاخرة على مكا أراد الله تعالى :( والذي تولى كبره( قرأ يعقوب بضم الكاف والعامة بكسرها قال الكسائي هما لغتان أي تحمل معظمه يعني بدأه وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعبيرا للمؤمنين قال البغوي روى الزهري عن عائشة :( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم( قالت هو عبد الله بن أبي بن سلول والعذاب العظيم هو النار في الاخرة وروى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس فقال عبد الله بن أبي رئيسهم من هذه ؟ قالوا عائشة قال : والله ما نجت منه وما نجا منهان وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بهان وقيل المراد بالذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول وحسان ومسطح وحمنة وهذا القول ضعيف ولو كان كذلك لقال الله تعالى ( والذين تولوا كبره( وأيضا كان مسطح وحسان ممن شعد بدرا وقد غفر الله لأهل بدر ما تقدم من ذنبهم وما تأخر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بدر " اعلموا ما شئتم فإن الله قد غفر لكم " وقد قال الله تعالى في حق جميع الصحابة ( وكلا وعد الله الحسنى( ٢ يعني الجنة، وهذه الآية لا ينافقي العذاب لأن دخول الجنة قد يكون بعد التعذيب وقال قوم هو حسان بن ثابت، روى البخاري عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشرها شعرا يشيب بأبيات له :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها لم تأذني له أن يدخل عليك وقد قال الله ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم( ؟ قالت : وأي عذاب أشد من ا
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: قول الله إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا (٤٧٥٧) وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (٢٧٧٠)..
٢ سورة الحجرات الآية: ١١..
( لولا( هلا ( إذ سمعتموه( أي حديث الإفك من المنافقين أيها العصبة المؤمنة ( ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم( أي بأهل دينهم من المؤمنين والمؤمنات يعبر من أهل الدين بالأنفس كما في قوله تعالى :( ولا تلمزوا أنفسكم( ١ وقوله تعالى :( ولا تقتلوا أنفسكم( ٢ وقوله تعالى :( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم( ٣ وقوله تعالى :( فسلموا على أنفسكم( لأن المؤمنين وأهل كل دين من الأديان كنفس واحدة ( خيرا( كان حق الكلام لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا فعدل من الخطاب إلى الغيبة مبالغة في التوبيخ وإشعارا بأن الإيمان يقتضي حسن الظن بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذنبون عن أنفسهم وإنما جاز الفصل بين لولا وفعله بالظرف لأنه نازل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه لذلك يتسع فيه ما لا يتسع فيغيره وإنما قدم الظرف لأن ذكر الظرف أهم فإن التخصيص على أن لا يخلوا بأوله ( وقالوا هذا إفك مبين( كما يقول المستيقن المطلع على الحال لأن الإيمان سبب للمدح والتعظيم، فمن أتى بالسب والطعن فقد أفك الأمر وقلبه صار عاصيا فاسقا بالافتراء أو الغيبة وشهادة الفاسق غير مقبولة.
مسألة : من ها هنا يظهر أن حسن الظن بالمؤمنين واجب لا يجوز تركه ما لم يظهر بدليل شرعي خلاف ذلك.
١ سورة النساء الاية: ٢٩..
٢ سورة البقرة الآية: ٨٤..
٣ سورة النور الآية: ٦١..
( لولا جاءوا عليه( أي على ما زعموا ( بأربعة شهداء( حتى يجب الحد على المقذوف ( فإذ لم يأتوا( الأربعة ( فأولئك عند الله هم الكاذبون( في ادعائهم الحسية فإن من رمى أحدا بالفاحشة فإن أتى بالشهداء ( حتى حد المقذوف ) يحتمل كون إرادته بالرمي الزجر عن المعاصي وإن لم يأت بالشهداء فلا وجه لقذفه إلا إشاعة الفاحشة على المسلم دون إقامة حد شرعي فهو كاذب في دعواه الحسبة، وقيل : معنى الآية ( فأولئك عند الله( أي في حكمه وشريعته كاذبون حتى أوجب عليهم حد القذف فعلى هذا الظرف متعلق بمضمون قوله تعالى :( فأولئك عند الله هم الكاذبون( والمعنى فإذا لم يأتوا بأربعة شهداء يقام عليهم الحد لكونهم من الكاذبين حكما، قال البغوي روى عن عائشة أنه لما نزلت هذه الآيات حد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة نفر عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت ومسطح بن اثاثة وحمنة بنت جحش.
( ولولا فضل الله عليكم( أيها المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم ( ورحمته في الدنيا( بأنواع النعم التي من جملتها التوفيق للإسلام وإدراك صحبة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي مانعة من نزول العذاب والإمهال والتوبة ولولا فضله ورحمته في ( الآخرة( حتى وعدكم فيها بالعفو والمغفرة والحسنى إلى الجنة ( لمسكم( أيها العصبة في الدنيا والآخرة ( في ما أفضتم( أي لأجل ما خضتم ( فيه( من الإفك، قيل الإفاضة بمعنى الإشاعة يقال خبر مستفيض أب مانع ( عذاب عظيم( كما مس عادا وثمود وقوم لوطا والموتفكات في الدنيا ما أوجب الاستئصال وفي الآخرة ما لا انقطاع له ولا عذاب فوقه، هذه الآية في شان المؤمنين من أهل الإفك وبهذا يظهر أن قوله تعالى :( وللذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم( بأهل النفاق منهم وهو عبد الله بن أبي ومن كان معه من المنافقين كزيد بن رفاعة فإن لولا لامتناع الشيء لوجود غيره فهذه الآية تدل على امتناع العذاب لوجود الفضل والرحمة وقوله تعالى :( والذي تولى كبره( يدل على ثبوت العذاب لهم.
( إذ( ظرف لمسكم أو أفضتم ( تتلقونه( حذفت إحدى التاءين من تتلقونه ( بألسنتكم( أي بأخذه بعضهم من بعض بالسؤال عنه قال الكلبي وذلك أنا لرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا يعني فماذا شأنه فيتلقونه تلقيا،
وقال مجاهد يرويه بعضهم من بعض وقال الزجاج تلقاه بعضكم من بعض وقرأت عائشة إذ تلقونه بكسر اللام وتخفيف القاف من ولق يليق ولقا بمعنى الكذب ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم( أي تقولون كلاما مختصا بالأفواه لا مصداق لها في الخارج وليس لكم به علم لأن العلم فرع الوجود في الخارج ( وتحسبونه( أي خوضكم في الإفك ( هينا( سهلا لا تبعة له ( وهو عند الله عظيم( يعني والحال أنه عند الله عظيم في الوزر واستجرار العذاب فإن قذف المحصنات من كبائر الذنوب وعامة العذاب بما صدر من الألسن لاسيما ما فيه حرمة الرسول عن معاذ بن جبل قال : قلت : يا رسول الله " أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال :" لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسر الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبوب الخير ؟ الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء المار النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا :( تتجافى جنوبهم عن المضاجع( حتى بلغ ( يعملون( ثم قال ألا أدلك برأس الأمور وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بللا يا رسول الله قال : رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال كف عليك هذا، قلت : يا نبي الله وإنا مؤاخذون بما نتكلم به ؟. قال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكتب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " ١ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (٢٦١٦) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (٣٩٧٣)..
( ولولا( هلا ( إذ سمعتموه( أيها المؤمنون هذا الإفك والكلام الباطل من المنافقين ( قلتم( ردا عليهم فصل بين لولا ولا فعله بالظرف لأن يتسع فيه ما لا يتسع في غيره وفائدة تقديم الظرف بيان أن الواجب هذا القول على فور الإسماع بالإفك فلما كان ذكر الوقت أهم قدم به ( ما يكون لنا( أي ما يصح ولا ينبغي لنا ( أن نتكلم بهذا( يجوز أن يكون الإشارة بهذا إلى المخصوص وأن يكون على نوعه، فإن تعرض الصديقة بن الصديق حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد على النفوس السليمة مع أن قذف أحد من المحصنين محرم شرعا يوجب الفسق والجلد ورد الشهادة أبدا ( سبحانك( اللهم يعني تنزه الله تعالى من أن يكون حرم نبيه فاجرة فإن فجورها يرجع بالسوء والسباب إلى الزوج والنبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه فجاز أن يكون امرأة النبي كافرة كما كانت امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام ولا يجوز أن يكون فاجرة فهذا تقرير لما قبله وتمهيد لقوله :( هذا بهتان( أي زور يبهت من يسمع ( عظيم( لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الجنايات وعظمها باعتبار المجني عليه
( يعظكم الله( الوعظ زجر مقترن بتخويف وقال الخليل هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يعني يذكركم الله عقابه ويخوفكم في أن ( فإنه تعودوا لمثله( لمثل هذا القول القبيح واستماعه ( أبدا( ما دمتم أحياء أو المعنى يزجركم ويخوفكم من مثل هذا القول كراهة أن تعودوا لمثله أبدا وقال مجاهد ينهاكم الله أن تعودوا لمثله أبدا وجملة يعظكم صفة لبهتان عظيم أو معترضة ( إن كنتم مؤمنين( شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعني إن كنتم مؤمنين فاتعظوا ولا تعودوا لمثله أبدا فإن الإيمان يمنع عنه فمن سب عائشة وهم الروافض ليسوا بمؤمنين
( ويبين الله لكم الايات( الدالة على الشرائع من الأوامر والنواهي ومحاسن الآداب والأخلاق ( والله عليم( بالمحاسن والمقابح فيأمر بالمحاسن وينهى عن المقابح أو عليم بالأحوال كلها بأمر عائشة وبراءتها وأمر القاذفين وكذبهم ( حكيم( في تدابيره لا يجوز نسبة السوء إلى نبيه ولا يقرره عليها.
( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة( وهي ما قبح جدا ( في الذين ءامنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة( بالنار ( والله يعلم( في الضمائر من الحسبة أو إشاعة الفاحشة فيعذب من يريد إشاعة الفاحشة ( وأنتم( أيها الناس ( لا تعلمون( ذلك فعليكم اتباع ظاهر الأمر فمن قذف وكان له شهود أربعة فأحسنوا الظن به واعلموا أنه أنما أظهر أمر الزنى حسبة لإقامة حد من حدود الله وإخلاء العالم عن الشر، ومن لم يجد الشهود فاعلموا أنه يجب إشاعة الفاحشة حيث لا يمكنه إقامة الحد فعذبوه بحد القذف وهو في حكم الله من الكاذبين حتى أوجب عليه حد المفترين وإن كان صادقا في الواقع
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته( أيها المؤمنون الخائضون في أمر عائشة ( وأن الله رءوف رحيم( بكم لعذبكم في الدنيا بالاستئصال وفي الآخرة بالنار المؤبدة لكن الله غفر لكم ببركة صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم مع الإيمان حذف جواب لولا استغناء بذكره مرة، وكرر التخويف والامتنان للدلالة على عظم الجريمة، قال ابن عباس أراد الله سبحانه بقوله :( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة( الآٍية، عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين لهم عذاب أليم في الدنيا الحد وفي الاخرة النار المؤبدة وأراد بقوله : لولا فضل الله عليكم مسطحا وحسان.
( يأيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان( أي آثاره بإشاعة الفاحشة، قرأ نافع والبزي وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة خطوات بسكون الطاء والباقون بضمها وقرىء بفتح الطاء ( ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء( أي ما أفرط قبحه عقلا ونقلا ( والمنكر( أي ما أنكره الشرع، بيان لعلة النهي عن اتباعه ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته( أيها المؤمنون من العصبة بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها ( ما زكى( ما طهر من معصية الإفك ( منكم من أجد( من زائدة ومحله الرفع ( أبدا( آخر الدهر ( ولكن الله يزكي من يشاء( بحمله على التوبة وقبولها ( والله سميع( لمقالهم ( عليم( بنياتهم.
روى الشيخان وغيرهما في حديث الإفك قال أبو بكر الصديق ( وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره ) والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله تعالى :
( ولا يأتل( ١ أي لا يحلف افتعال من الألية بمعنى القسم أو المعنى لا يقصر من الأول بمعنى التقصير، والأوزلى ها هنا معنى القسم لما ذكرنا أن أبا بكر كان قد أقسم ويؤيده قراءة أبي جعفر ولا يتأل بتقديم التاء وتأخير الهمزة من التفعيل من الألية أولوا الفضل في الدين نظرا إلى منزلتهم وفضلهم وإلا فترك بذل ماله في مقابلة الإيذاء ليس بمحرم مؤثم ( منكم( يعني أبا بكر وأمثاله وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه أو المعنى ولا يترك أولوا الفضل منكم ( والسعة( يعني الغنا في الدنيا فغن النفقة عن ظهر إني ( أن يؤتوا( أي على أن يؤتوا أو في أن يؤتوا ( أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله( يعني مسطحا وأمثاله فهي صفات لموصوف واحد أي ناسا جامعين لهذه الصفات أو الموصوفين أقيمت الصفات مقام موصوفيها فيكون أبلغ في تعليل المقصود لأن مسطحا كان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر ( وليعفوا( ما فرط منهم ( وليصفحوا( بالإغماض عنه ( ألا تحبون( يا أولي الفضل والسعة ( أن يغفر الله لكم( ما فرطتم في جنب الله لأجل عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم ( والله غفور رحيم( مع كثرة آلاته وحقوقه وكمال قدرته على الانتقام فتخلقوا بأخلاقه روى الشيخان وغيرهما في ذلك القصة أنه لما نزل هذه الآية قال أبو بكر والله إني أحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه قال والله لا أنزعها منه ابدا، عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس الواصل المكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رجمه وصلها " ٢ رواه البخاري
١ أخرجه البخاري في كتاب: الأيمان باب: اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب (٦٦٧٩) وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: في حد الإفك وقبول توبة القاذف (٢٠٧٠)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ليس الواصل بالمكافىء (٥٩٩١)..
قال ابن عباس والضحاك أقسم ناس من الصحابة منهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الاية ( إن الذين يرمون المحصنات( العفيفات ( الغافلات( عن الفاحشة اللائي لا تقع الفاحشة في قلوبهم ( المؤمنات( بالله ورسوله ( لعنوا في الدنيا والآخرة( لما طعنوا فيهن كذبا ( ولهم عذاب عيظم( في نار جهنم ولهذا حكم كل قاذف قذف محصنة غافلة كانت أولا، فالجلد وعدم قبول الشهادة حكم كل قاذف سواء كان في قذفه صادقا لم يجد الشهود أو كان كاذبا واللعن يختص بمن قذف كاذبا فغن المقذوفة غافلة عما افترى عليها فإن جريمته أعظم وأكبر لكنه لا يستلزم الكفر إذ اللعن منها ما يستحقه بعض من ارتكب الكبائر دون الكفر كقاتل النفس عمدا وقال مقاتل : هذا الحكم خاص في عبد الله لبن أبي ومطمح نظره أن اللعن يختص بالكفار أخرج الطبراني عن خصيف قال : قلت : لسعيد بن جبير أيهما أشد الزنى أو القذف ؟ قال : الزنى، قلت : إن الله يقول :( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة( قال ذلك لعائشة خاصة، وفي إسناده يحيى الحمائي ضعيف وكذا ذكر البغوي عن خصيف وروى عن العوام بن حوشب عن شيخ من بني كاهل عن ابن عباس قال هذه في شان عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول السورة ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء( إلى قوله تعالى :( فإن الله غفور رحيم( فأنزل الله الجلد والتوبة قلت : ومبنى هذه الأقوال أمران :
أحدهما : أن سبب نزول الآية كان قصة الإفك.
وثانيهما : أن اللعن لم يرد في شيء من المعاصي غير الكفن لكن خصوص السبب لا يقتضي تخصيص عموم الآية والعبرة لعموم اللفظ، واللعن قد ورد على بعض الكبائر كقتل النفس عمدا وعدم ذكر التوبة والمغفرة في هذه الآية لا يقتضي عدم قبول التوبة وعدم المغفرة مطلقا وقد قال الله تعالى :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( ١ فلا وجه لتخصيص عموم الاية والله أعلم.
١ سورة النساء الآية: ٤٨..
( يوم تشهد( قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية لتقدم الفعل والفصل والباقون بالتاء الفوقانية والظرف متعلق بما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف ( عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون( روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال : يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف ويقول : أي رب عملت عملت فيغفر الله ذنوبه ويستره منها، قال فما على الأرض خليقة يرى من تلك الذنوب شيئا وتبدوا حسناته فرؤوا الناس كلهم يرونها، ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده فيقول : أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل فيقول الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟. فيقول : لا وعزتك فإذا فعل ذلك ختم على فيه، قال أبو موسى فإني أحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ثم تلا ( اليوم نختم على أفواههم( الآية، وأخرج أبو يعلى والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخذري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وأخرج أحمد بسند جيد والطبراني عن عقبة بن عامر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم نختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال " وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن جيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يجيئون يوم القيامة على أفواههم فأول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه " وروى مسلم عن أبي هريرة حديثا طويلا في رؤية الله سبحانه وفيه :" فينطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه " ١ فإن قيل قال الله سبحانه ها هنا ( تشهد عليهم ألسنتهم( وقال في موضع آخر ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم( ٢ فما وجه التطبيق ؟ قلنا : المراد بقوله نختم على أفواههم أنهم لا ينطقون بإرادتهم وذلك لا ينافي شهادة الألسنة عليهم من غير اختيارهم والله أعلم، قال : القرطبي وإنما يشهد الأعضاء على من قرأ كتابه ولم يعترف بما فيه وجحد وخاصم فيشهد عليه جوارحه بسيئاته قلت : فهذه الآية تدل على أن ما سبق من الآية في عبد الله بن أبي كما قال قتادة والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في أول كتاب: الزهد والرقائق (٢٩٦٨)..
٢ سورة يس الآية: ٦٥..
( يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق( أي جزاؤهم الواجبن وقيل : حسابهم العدل ( ويعلمون أن الله هو الحق المبين( أي الثابت الموجود بذاته موجد الأشياء كلها جواهرها وأعراضها قيوم الحقائق بأسرها وجودات ما سواه كأنها ظلال لوجوده المتأصل الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر علىىالثواب والعقاب سواء أو ذو الحق البين أي الظاهر عدله أو المبين فيعلم يوم القيامة ( أن الله هو الحق المبين( قلت : لعل معنى قول ابن عباس رضي الله عنه أن الناس لاسيما الكفار منهم يزعمون لله وجودا موهوما حتى ليستندون الحوادث إلى الدهر أو الكواكب أو نحو ذلك ويحسبون النفع والضر من العباد لا يخافون الله كما يخافون سلاطين الدنيا فإذا كان يوم القيامة يبدأ لهم ما لم يكونوا يحتسبون ويعلمون أن الله هو الحق المبين.
( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبين للطيبات والطيبون للطيبات( قال أكثر المفسرين معناه الخبيثات من الكلمات يعني كلمات الذم والتحقير والشتم ونحو ذلك يستحقها الخبيثون من الناس والخبيث من الناس يستحقون الذم ونحو ذلك والطيبات من الكلمات من المدح والثناء والدعاء دون ما قيل فيه من الإفك ( أولئك( يعني عائشة وأمثالها ( مبرءون مما يقولون( فيهم أهل الإفك من الكلمة الخبيثة، وقال الزجاج الخبيثات من الكلمات ككلمة الكفر والكذب وسب الصحابة وأهل البيت وقذف المحصنات وأمثال ذلك للخبيثين من الناس نحو عبد الله بن أبي لا يتكلم بها الطيبون والخبيثون خلقوا وجبلوا لتلك الكلمات الخبيثة والطيبات من الكلمات كذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة والسلام على النبي واهل بيته والدعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات ميسر للطيبين من الناس والطيبون من الناس خلقوا مستعدين للطيبات من الكلمات، ( أولئك يعني الطيبين من الناس مبرؤون ) من ارتكاب ما قاله أهل الإفك ونحو ذلك فهو ذم للقاذفين ومدح للذين برأهم الله وقال ابن زيد الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال يعني غالبا والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء يعني في الأغلب. . . فعائشة طيبة ولذلك اختراها الله تعالى لازدواج رسوله الطيب الطاهر صلى الله عليه وسلم : أولئك يعني عائشة وأمثالها مبرؤون مما يقول فيهم أهل الإفك ولو لم تكن عائشة طيبة لما صلحت لمصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم فكأن هذه الآية بمنزلة البرهان على كذب أهل الإفك، عن هند بن أبي هالة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله أبى أن أتزوج أو أزوج إلا أهل الجنة " رواه ابن عساكر ( لهم( يعني لعائشة وأمثالها من المؤمنين الطيبين ( مغفرة( من الذنوب ( ورزق كريم( يعني الجنة، قال البغوي روي أن عائشة رضي الله عنها كانت مفخرة بأشياء أعطيتها ولم تعط امرأة غيرها منها أن جبرائيل أتى بصورتها في خرقة من حرير قال : هذه زوجتك " ١ قلت : رواه الترمذي عن عائشة وروي أنه أتى بصورتها في راحته وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجرها ودفن في بيتها وكان ينزل عليه الوحي وهو معها في لحافه ونزلت براءتها من السماء وإنها ابنة خليقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقة طيبة ووعدت مغفرة ورزقا كريما وكان مسروق إذا روى عن عائشة قال حدثني الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة من السماء قال البيضاوي ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله عنها في الصحيحين عن عائشة قالت :" قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أريتك في المنام ثلاث ليال يجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي فقلت إن يكن هذا من عند الله يمضيه " ٢ وفي الصحيحين عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة هذا جبرائيل يقرؤك السلام قلت : وعليه السلام ورحمة الله قالت : وهو يرى ما لا أرى " وعنها قالت : إن الناس كانوا يتحررون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزينين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه حزب أم سلمة فقلن لها كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول من أراد أن يهدي إلى رسول الله فليهد إليه حيث كان فكلمته فقال : لا تؤذيني في عائشة فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة " قالت : أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله ثم إنهن دعون فاطمة رضي الله عنها وعنهن فأرسلن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال : يا بنية ألا تحبين ما أحب ؟ قالت : بلى، قال : فأحبي هذه " متفق عليه، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام " ٣ وعن أبي موسى قال ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما " ٤ رواه الترمذي وعن موسى بن طلحة قال : ما رأيت أحدا أفصح من عائشة " رواه الترمذي قال البيضاوي برأ الله أربعة بأربعة برأ يوسف بشاهد من أهل زليخا وموسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ومريم بإنطاق ولدها وعائشة بهذه الآيات مع تلك المبالغات وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته قلت وإظهار منزلتها من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال : جاءت امرأة من الأنصار فقالت يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وانا على تلك الحال فكيف أصنع ؟ فنزلت.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: فضل عائشة رضي الله عنها (٣٨٨٩)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها (٣٨٩٥) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله عنها (٢٤٣٨)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب: فضل عائشة رضي الله عنها (٣٧٧٠). وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله عنها (٢٤٤٦)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: فضل عائشة رضي الله عنها (٣٨٩٢)..
( يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم( التي تسكنونها وليست الإضافة للملك فإن المؤجر والمعير أيضا لا يدخلان إلا بإذن الساكن حتى تستأنسوا يعني حتى تستأذنوا يدل عليه ما روى أنه كان ابن عباس يقرأ ( حتى تستأنسوا( وكذلك كان يقرأ أبي بن كعب والأنس في اللغة ضد الوحشة والإبصار والإحساس والعلم، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب قال : قلت : يا رسول الله هذا السلام فما الاستئناس ؟ قال : يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة فيؤذن أهل البيت قال في القاموس أنسه ضد وحشه وأنس الشيء أبصره وعلمه وأحسه والصوت سمعه وقال : الخليل الاستئناس الاستبصار من قوله :( ءانست نارا( ١ أي أبصرت وإنما عبر الاستئذان بالاستئناس لأن المستأذن متوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن استأنس لأن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أولا، أو استفعال من الأنس يعني متعرف هل صمة إنسان ( وتسلموا على أهلها( أي على ساكنيها يعني أن يقولوا السلام عليكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم تكون بركة عليك وعلى أهل بيتك " ٢ رواه الترمذي واختلفوا في أنه هل يقدم الاستئذان أو السلام ؟ فقال قوم يقدم الاستئذان لنقدمها في الاية ولا دليل فيه لأن الواو لمطلق الجمع دون الترتيب وفي مصحف ابن مسعود حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا والأكثرون على أنه يقدم السلام لحديث كلدة بن حنبل قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم أستأذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ارجع فقل السلام عليكم أأدخل " ٣ رواه أبو داود والترمذي وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام " رواه البيهقي في شعب الإيمان، قال البغوي عن ابن عمر أن رجلا استأذن عليه فقال : أأدخل ؟ فقال ابن عمر لا فأمر بعضهم الرجل أن يسلم فسلم فأذن له وقال بعضهم إن وقع بصره على إنسان قدن السلام وإلا قدم الاستئذان ثم سلم، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم ومثله عن الحسن عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : استأذن على أمي ؟ فقال : نعم، فقال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا، قال : فاستأذن عليها رواه مالك مرسلا.
مسألة : إذا دعي أحد فجاء مع الرسول فلا حاجة إلى الاستئذان لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن " رواه أبو داود وفي رواية له رسول الله الرجل إذنه ( ذلكم خير لكم( من أن تدخلوا بغتة أو من تحية الجاهلية عن عمران بن حصين قال : كنا في الجاهلية نقول : أنعم الله بك عينا وأنعم صباحا فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك رواه أبو داود ( لعلكم تذكرون(.
١ سورة طه الآية: ١٠..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في التسليم إذا دخل بيته (٢٦٩٨)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في التسليم قبل الاستئذان (٢٧١٠) وأخرجه أبو داود في كتاب: الآداب، باب: كيف الاستئذان (٥١٦٧)..
( فإن لم تجدوا فيها( أي في البيوت ( أحدا( يأذن لكم ( فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم( يعني حتى يأتي ساكنها ويأذن لكم في الدخول فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس من الناس مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها ( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا( ولا تلحوا في الدخول ( هو أزكى لكم( أي الرجوع أزكى لكم من الإلحاح في الدخول والوقوف على الباب لما فيه من الكراهة وترك المروءة، وفي حكم الأمر بالرجوع أن لا يأذن له صاحب البيت بعد الاستئذان ثلاث مرات لحديث أبي سعيد الخذري قال : أتانا أبو موسى فقال إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إني أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم ترد علي فرجعت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع، فقال : عمر أقم عليه البينة قال أبو سعيد فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت متفق عليه، وعن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع رواه ابن ماجة قال البغوي ورواه بشر بن سعيد عن أبي سعيد الخذري وفيه قال : قال أبو موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " قال الحسن الأول إعلام والثاني مؤامرة والثالث استئذان بالرجوع، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال :" السلام عليكم ورحمة الله " فقال سعد وعليكم السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه سعد فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا هي بإذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك أحببت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثدم دخلوا البيت فقرب له زبيبا فأكل النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قال :" أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون " رواه البغوي في شرح السنة.
مسألة : إذا حضر أحدكم على باب أحد فلم يستأذن وقعد على الباب منتظرا حتى يخرج جاره، كان ابن عباس يأتي باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج ولا يستأذن فيخرج الرجل ويقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخبرتني فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم قلت : ويدل على هذا قوله تعالى :( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم(.
مسألة : إذا وقف أحد على باب أحد للاستئذان لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه إذا لم يكن هناك ستر ولا ينظر من شق الباب إذا كان مردودا لحديث عبد الله بن يسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول : السلام عليكم وذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور، ١ رواه أبو داود وعن سهل بن سعد الساعدي أن رجلا اطلع على النبي صلى الله عليه وسلم من ستر الحجرة وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم مدرى فقال :" لو أعلم أن هذا ينظرني لطعنت بالمدرى في عينه وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر " رواه البغوي وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لو أن أمرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح " ٢ رواه أحمد والشيخان في الصحيحين ( والله بما تعملون عليم( فيعلم ما تأتونه وما تذرونه مما خوطبتم به.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان (٥١٧٧)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الديات، باب: من أخذ حقه أو اتقص دون السلطان (٦٧٧٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره (٢١٥٨)..
أخرج ابن أبي حاتم عن قاتل بن حبان قال : لما نزلت آية الاستئذان في البيوت قال أبو بكر يا رسول الله فكيف يتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام ولهم بيوت معلومة على الطريق ؟ فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان ؟ فأنزل الله عز وجل ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا( أي في أن تدخلوا متعلق بجناح لتضمنه معنى المؤاخذة أو بعليكم ( بيوتا غير مسكونة( من غير استئذان ( فيها متاع( أي منفعة ( لكم( حال من بيوتا، قال البغوي اختلف في هذه البيوت ؟ قال قتادة هي الحانات والبيوت والمنازل المبنية للسائلة ليأووا إليها ويأووا إليها أمتعتهم جاز دخولها بغير استئذان فالمنفعة فيها النزول وإيواء المتاع والاتقاء من الحر والبرد، وقال ابن زيد هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها الناس للبيع والشراء وهو المنفعة وقال إبراهيم النخعي ليس على حوانيت السوق أذان، وكان ابن سيرين إذا جاء إلى الحانون التي في السوق يقول السلام عليكم أأدخل ثم يلج، وقال عطاء هي البيوت الخربة والمتاع هي القضاء الحاجة فيها من البول والغائظ وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها لأن الاستئذان إنما شرع لئلا يطلع على عورة أحد فإذا لم يخف ذلك فله الدخول من غير استئذان ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون( وعيد لمن دخل الفساد أو اطلاع على عورات الناس.
( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم( عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه عن الحسن مرسلا قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله الناظر والمنظور لها " رواه البيهقي في شعب الإيمان يغضوا صيغة أمر بحذف اللام ومن زائدة على قول الأخفش فإنه يجوز زيادة من كلام الموجب عنده وعند سيبويه من للتبعيض لأن المؤمنين غير مأمورين بغض الأبصار مطلقا بل بالغض عما لا يحل النظر إليه بل المنهي عنه النظرة الثانية التي يكون بالإرادة دون الأولى التي لا تكون بالإرادة لحديث بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي :" 'يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة " ١ رواه أحمد والترمذي وأبو داود والدارمين وعن جرير بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة أول مرة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها " ٢ رواه أحمد ( ويحفظوا( أي ليحفظوا ( فروجهم( ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين( ولما كان الاستثناء معلوما بالضرورة عقلا ونقلا حذف من اللفظ قال : أبو العالية كل ما وقع في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع البصر عليه، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت : يا رسول الله أفرأيت إذا كان الرجل خاليا ؟ قال فالله أحق أن يستحيى منه " ٣ رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم والتعري فإن معكم من لا يفاركم إلا عند الغائظ وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم " ٤ رواه الترمذي ( ذلك( أي غض البصر وحفظ الفرج ( أزكى لهم( أي أنفع لهم أو أطهر لما فيه من التباعد عن الزنى ( إن الله خبير بما يصنعون( لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها فليكونوا على حذر منه.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الآداب، باب: ما جاء في نظر المفاجأة (٢٧٧٦) وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في ما يؤمر به من غض البصر (٢١٥٠)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: نظر الفجأة (٢١٥٩)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الآداب، باب: ما جاء في حفظ العورة (٢٧٩٤) وأخرجه أبو داود في كتاب: الحمام، باب: في التعري (٤٠١١) واخرجه ابن ماجة في كتاب: النكاح، باب: الستر عند الجماع (١٩٢٠)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الآداب، باب: ما جاء في الاستتار عند الجماع (٢٨٠٠)..
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : بلغنا أن جابر بن عبد الله أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء ما أقبح هذا فأنزل الله في ذلك ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن( أي ليغضضن عما لا يحل النظر إليه وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجل الأجنبي مطلقا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة جاز لها أن ينظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه إذا أمنت الشهوة احتج الشافعي بحديث أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة رضي الله عنها :" إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه ( وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجبا منه فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه " ١ رواه أحمد وأبو داود والترمذي واحتج أبو حنيفة بحديث ابن عباس قال : جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه ؟ قال : نعم، قال ابن عباس كان الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر " ٢ الحديث رواه البخاري ورواه الترمذي من حديث علي ونحوه وزاد فقال العباس : لويت عتق ابن عمك، فقال :" رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان " ٣ صححه الترمذي واستنبط ابن القطان من هذا الحديث جواز النظر عند الأمن من الفتنة من حيث أنه لم يأمرها بتغطية وجهها ولو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سال ولو لم يكن ما فهم لما أقره عليه وبحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها فبت طلاقها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وهذا يدل على جواز نظر المرأة إلى الأعمى ونحوه يعني عند الأمن من الشهوة.
مسألة : ولا يجوز للمرأة النظر إلى عورة المرأة يعني تحت السرة إلى الركبة ولا للرجل النظر إلى عورة الرجل لحديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا يفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد " ٤رواه مسلم.
( ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن( كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها ( إلا ما ظهر منها( عند مزاولة الأشياء كالثيا والخاتم فإن في سترها حرجان وقيل المراد بالزينة مواضع الزينة على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزينية، والمستثنى هو الوجه والكفان عند أبي حنيفة ومالك أحمد والشافعي لما روى الترمذي من طريق عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الوجه والكفان ومن طريق عطاء عن عائشة نحوه، وفي رواية المستثنى الوجه والكفان والقدمان والمشهور عن الشافعي الوجه فقط، لما روى الطبراني من طريق مسلم الأعور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : هي الكحل وتابعه خصيف عن عكرمة عن ابن عباس عند البيهقي فالوجه مستثنى باتفاق العلماء الربعة والكفان عند أبي حنيفة ومالك وفي رواية للشافعي واحمد، لكن في مختلفات قاضي خان أن ظاهر الكف وباطنه ليسا عورتين إلى الرسغ وفي ظاهر الرواية ظاهره عورة كذا قال : ابن همام والقدمان عورة إلا في رواية عن أبي حنيفة والحجة على كون القدمين عورة حديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار وليس لها إزار فقال ك " لا بأس إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها " ٥ رواه أبو داود والحاكم وأعله عبد الحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفا وهو الصواب وقال ابن الجوزي في رفعه مقال لأنه من رواية عبد الرحمن بن عبد الله وقد ضعفه يحيى وقال أبو حاتم الرازي لا يحتج به، وأيضا قوله تعالى :( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن( ٦ يدل على أن الخلخال من الزينة الباطنة فموضعه يعني القدم عورة، قال البيضاوي الأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة، وفي كتب الحنفية كون وجه الحرة خارجا عن العورة غير مختص بالصلاة، قال في الهداية لا يجوز أن ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا وجهها وكفيها لقوله تعالى :( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها( لأن في إبداء الكف والوجه ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا أو إعطاءا وغير ذلك، فغن كان الرجل لا يأمن من الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة كتحمل الشهادة وأداؤها والقضاء، ولا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم أو كان أكبر رأيه ذلك، قلت : ومذهب أبي حنيفة يؤيده ما رواه أبو داود مرسلا الجارية إذا حاضت لم يصلح يرى منها إلا وجهها إلى المفصل قلت إبداء المرأة زينتها الخفية لغير أولي الإرية من الرجال جائز إجماعا ثابت بنص الكتاب لعدم خوف الفتنة فإبداء زينتها الظاهرة لهم أولى بالجواز ونظر الرجل إلى وجه المرأة أجنبية إذا شك في الاشتهاء لا يجوز على ما قال صاحب الهداية أيضا وقال ابن همام حرم النظر إلى وجهها ووجه الأمرد إذا شك في الشهوة ويلزم هذا الحكم الحكم بأن لا تبدو المرأة وجهها لرجل أجنبي إذا شك منه الشهوة وإلا لكان تعرضا للفساد وزوال احتمال الشهوة من الرجل الأجنبي ذي الإرية للمرأة الأجنبية غير متصور فيلزمنا القول بأنه لا يجوز للمرأة إبداء وجهها لرجل ذي إرية غير الزوج والمحرم فغن عامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه في النظر إلى سائر أعضائها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان " ٧ رواه الترمذي عن ابن مسعود فغن هذا الحديث يدل على أنها كلها عورة غير أن الضرورات مستثناة إجماعا، والضرورة قد تكون بأن لا تجد المرأة من يأتي بحوائجها من السوق ونحو ذلك فتخرج متقنعة كاشفة إحدى عينيها لتبصر الطريق فإن لم تجد ثوبا سابغا تخرج فيما تجد من الثياب سائرة ما استطاعت وقد تكون إذا احتاجت إلى الطبيب أو الشهود أو القاضي، فالمراد بالزينة في الآية إن كان نفس الزينة كما فسرناه تبعا لما قال البيضاوي بالحلي والثياب والأصباغ، ويكون حينئذ إبداء مواضع الزينة بدلالة النص بالطريق الأولى فلا خفاء على هذا في تأويل الاستثناء حيث يقال معنى : إلا ما ظهر منها إلا ثيابها الظاهرة، قال البغوي قال ابن مسعود هي الثياب بدليل قوله تعالى :( خذوا زينتكم عند كل مسجد( ٨ وأراد به الثياب وإن كان المراد بها مواضع الزينة فمكعنى الا ستثناء إلا ما ظهر منها عند الضرورات ضرورة الخروج لقضاء الحوائج أو ضرورة الاستشهاد ونحو ذلك يعني من غير قصد إلى إبدائها فاستثناء الوجه والكفين من عورة الحرة ليس إلا لأجل الصلاة، ويدل على عدم جواز إبداء المرأة وجهها قوله تعالى :( يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن( ٩ الآية، قال ابن عباس وأبو عبيدة أمرت نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدا يعلم أنهن حرائر، وما ذكرنا من حديث جاءت امرأة من خثعن عام حجة الوداع سائلة مسألة قضاء الحج عن أبيها محمول على جواز خروجها لضرورة السئال عن المسالة وما ذكر من أن الفضل كان ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر صريح في المنع عن النظر إلى وجه المرأة الأجنبية لعدم الأمن عليهما من الشيطان.
مسألة : هذه الآية مختص حكمها بالحرائر من النساء إجماعا وأما الإماء سواء كن قنات أو مكاتبات أو مبدرات او أمهات أولاد فيجوز لهن إبداء الرأس والوجه والساقين والساعدين فإن عورة الأمة عند مالك والشافعي وأحمد كعورة الرجل من السرة إلى الركبة وزاد أبو حنيفة بطنها وظهرها وقال أصحاب الشافعي كلها عورة إلا مواضع التقليب منها وهي الرأس والساعدان والساق روى الشيخان في الصحيحين في قصة صفية " إن حجبها فهي زوجة وإن لم يحجبها فهي أم ولد " ١٠ وهذا الحديث يدل على أن الأمة تخالف الحرة فيما تبديه وقال أنس مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع أتشتبهين بالحرائر ألقي القناع وأيضا قوله تعالى :( يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين( ١١ أيضا بمفهومه يدل على أن حكم الأمة غير حكم الحرة قلت : وجاز أن يكون حكم هذه الآية شاملة للإماء أيضا وإنما جاز لها إبداء الرأس والساعدين والساق للاستثناء فإن خروجها لخدمة المولى كثير وثياب مهنتها قصيرة فهذه الأعضاء تظهر منها غالبا لضرورة والله أعلم ( وليضربن بخمورهن( أي يضعن خمرهن من ضرب يده على الحائط أي وضعها ( على جيوبهن( سترا لشهورهن وصدورهن وأعناقهن وقرطهن، قال البغوي قالت عائشة رضي الله عنها رحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله تعالى :( وليضربن بخمرهن على جيوبهم( شققن مروطهن فاختمرن بها، قرأ نافع وعاصم وهشام بضم الجيم والباقون بكسرها ( ولا يبدين زينتهن( الإضافة للعهد يعني زينتهن المستثناة منها ما ظهر منها كرره لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له ( إلا لبعولتهن( فإنهم هم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع أبدانهن حتى فروجهن لكنه يكره النظر إلى الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردان تجرد العيرين " ١٢ رواه اللشافعي والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود عن عتبة بن عنبرو النسائي عن عبد الله بن سرجس والطبراني أيضا عن أبي أمامة وروى ابن ماجة عن عائشة قالت : ما نظرت أو ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ( أو ءابائهن( وكذا آباء الآباء وآباء الأمهات وإن علوا بدلالة النص والإجماع ( أو ءاباء بعولتهن( كذلك ( أو أبنائهن( وأبناء الأبناء وأبناء البنات وإن سفلوا بدلالة النص والإجماع ( أو أبناء بعولتهن( كذلك ( أو إخوانهن( وبني أبنائهن وأبناء بناتهم وإن سفلوا ( أو بني إخوانهن( أو أبناء أبنائهن أو أبناء بناتهن وإن سفلوا أباح الله تعالى للنساء إبداء محاسنهن لهؤلاء لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وعدم توقع الفتنة من قبهم إلا نادرا لما في الطباع من النفرة عن حماسة القرابة والغيرة في انتسابهن إلى الفاحشة وأباح لهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المحنة والخدمة وهو الوجه والرأس والصدر والساقان والعضدان ولا يجوز لهم النظر إلى ظهورهن ولا إلى بطونهن ولا إلى ما بين السرة إلى الركبة لأنها لا تنكشف عادة فلا ضرورة في النظر إليها، وهذا حكم جميع من لا يجوز المناكحة بينه وبينها على التأييد بنسب كان أو برضاع أو مصاهرة، وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال في الآية لأنهم في معنى بني الأخوان وبني الأخوات بدلالة النص والإجماع فإنه لما جاز للعمة إبداء زينتها لابن أخيها جاز لبنت الأخ إبداء زينتها لعمها بطريق المساواة ولما جاز للخالة إبداء زينتها لابن أختها جاز لبنت الأخت إبداء زينتها لخالها ويحتمل أن يكون ترك ذكر الأعمام والأخوال في الآية للإشارة إلى أن الأحوط
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الآداب، باب: ما جاء في احتجاب النساء من الرجال (٢٧٧٨)..
٢ اخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: وجوب الحج وفضله (١٥١٣)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب ك الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف (٨٨٥)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: تحريم النظر إلى العورات (٣٣٨)..
٥ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في كم تصلي المرأة (٦٣٩)..
٦ سورة النور الآية: ٣١..
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: الرضاع (١١٦٩)..
٨ سورة الأعراف الآية: ٣١..
٩ سورة الأحزاب الاية: ٥٩..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: البناء في السفر (٥١٥٩) واخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها (١٣٦٥)..
١١ سورة الأحزاب الآية: ٥٩..
١٢ قال الهاشمي فيه مندل ضعيف وقد وثق، وقال البزار: أخطأ مندل في رفعه والصواب أنه مرسل انظر فيض القدير (٣٤٠)..
( وأنكحوا الأيمان منكم( لما نهى الله تعالى عما يفضي إلى السفاح غالبا أمر بالنكاح فإنه أغض للبصر وأمنع منم السفاح فقال وأنكحوا أيها الأولياء والسادة الأيامى منكم، والأيامى جمع أيم مقلوب أيايم كيتامى أصلح يتايم وهو من لا زوج له رجلا كان أو امرأة ( والصالحين من عبادكم وإمائكم( وهذا أمر استحباب وتخصيص الصالحين بالذكر ليس للاحتراز بل لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم وقيل : المراد به الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه.
مسألة : النكاح واجب عند غلبة الشهوة إذا خاف الوقوع في الحرام وفي النهاية إن كان له خوف وقوع الزنى بحيث لا يتمكن من التحرز عنه كان فرضا، قال ابن همام ليس الخوف مطلقا يستلزم بلوغه إلى عدم التمكن فليكن عند ذلك فرضا وإلا فواجب ما لم يعارضه خوف الجور فإن عارضه خوف الجور كره، وأيضا قال ابن همام أنه ينبغي تفصيل خوف الجور كتفصيل خوف الزنى فإن بلغ ما افترض فيه النكاح حرم وإلا كره كراهة تحريم وفي البدائع قيد الافتراض في التوقان بملك المهر والنفقة فإن من تقات نفسه بحيث يتزوج يأثم، وأما في حالة الاعتدال فقال داود وأمثاله من أهل الظواهر أنه فرض عين على الرجل والمرأة في العمر مرة إن كان قادرا على الوطىء والإنفاق لقوله تعالى :( فأنكحوا ما طاب لكم من النساء( ١ ( وأنكحوا الأيامى منكم( وحديث سمرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل " ٢ رواه الترمذي وابن ماجة، وقوله صلى الله عليه وسلم لعكاف : هل لك زوجة ؟ قال : لا، قال : ولا جارية ؟ قال : لا، قال : وأنت موسر بخير ؟ قال : وأنا موسر، قال :" أنت إذن من إخوان الشياطين " ٣ وقال رسول صلى الله عليه وسلم " إن سنتنا النكاح شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم أبا الشياطين يحرسون " رواه أحمد، وقد مر هذا الحديث وحديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول :" تزوجوا الودود الولود إني مكاثر بكم الأتقياء يوم القيامة " ٤ رواه أحمد وأبو داود والنسائي ونحوه في سورة النساء في تفسير قوله تعالى :( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم( ٥ وقال بعض الحنفية واجب على الكفاية وأدلة الوجوب على الكل لا ينفي كونه على الكفاية والمعرف لكونه يسقط بفعل البعض عن الباقين أن سبب شرعيته إبقاء المسلمين وعدم انقطاعهم وذلك يحصل بفعل البعض والإجماع على عدم كونه فرضا على الأعيان، ولا عبرة بقول داود وأمثاله وقيل واجب على الكفاية لأن قوله :( فانكحوا ما طاب لكم( مسوق لبيان العدد، وهذه الآية خطاب للأولياء موجب لعدم مما نعتهم إذا أراد الأيامى النكاح وأحاديث الآحاد لا توجب الفرضية وقيل : سنة مؤكدة وقيل : مستحب إذا كان قادرا على الوطىء والإنفاق ولا يخاف الجور وإلا فهو حرام أو مكروه، وجه كونه سنة فعله صلى الله عليه وسلم وقوله :" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء " ٦ متفق عليه، من حديث ابن مسعود وما روى ابن ماجة من حديث عائشة " النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم " ٧ في إسناده عيسى بن ميمون ضعيف وفي الصحيحين من حديث أنس " اكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " ٨ وروى الترمذي عن أبي أيوب " أربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح " ٩ وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر " ١٠ ما ذكرنا كله بمذهب علماء الحنفية رحمهم الله تعالى وبه قال أحمد.
وقال الشافعي : النكاح مستحب على كل حال إن كان قادرا على الوطىء والإنفاق ولا يخاف الجور لكن تركه لأجل الانقطاع للعبادة أفضل وإن خاف الجوار أو لم يكن قادرا على الإنفاق أو الوطىء فعليه حرام أو مكروه وفي حالة التوقان وخوف الوقوع في الحرام يتأكد في حقه ويكون أفضل من نوافل الصلاة والصوم والجهاد والحج وبه قال مالك، فحاصل كلام الفريقين أنه من خاف أن لا يقدر على أداء حقوق النكاح أو وقع بالنكاح في أمر حرام فالنكاح في حقه مكروه أو حرام، ومن كان تائقا يخاف على نفسه الزنى إن لم ينكح وهو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه واجب على ما قال أبو حنيفة ومتأكد على ما قال الشافعي قلت : لا أشك في أن ضد الحرام يعني الزنى واجب فلا بد من القول بالوجوب عند خوف الزنى بقي الكلام في أنه من كان في حالة الاعتدال لا يخاف على نفسه إن لم ينكح ولا يخاف الجور وهو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه وإن كان مستحبا سنة لكن ترك النكاح لأجل التخلي للعبادة في حقه أفضل ؟ أم النكاح أفضل ؟ قال أبو حنيفة النكاح أفضل من التبتل والتخلي للعبادة وقال الشافعي التخلي والتبتل أفضل وجه قول الشافعي إن الله سبحانه مدح يحيى بن زكريا عليهما السلام بعدم إتيان النساء مع القدرة عليه حيث قال :( وسيدا وحصورا( ١١ أيضا وهذا معنى الحصور، وقال ابن همام في جوابه إن حال يحيى ذلك كان أفضل في شريعتهم وقد نسخت الرهبانية في شريعتنا وإذا تعارض حال يحيى بحال نبينا صلى الله عليه وسلم وجب تقديم حال النبي صلى الله عليه وسلم ألا ترى أن حال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوفاة كان النكاح ومحال أن يقر الله تعالى أفضل أنبيائه على ترك الأفضل مدة حياته روى الشيخان في الصحيحين أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواجه عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم : لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأنثى عليه وقال : ما بال أقوام قالوا كذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال :" تزوجوا فإن خير هذه الأمة كان أكثرهم نساء " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقد مر نهيه صلى الله عليه وسلم عن التبتل نهيا شديدا.
وتحقيق المقام عندي أن من رأى من نفسه أن النكاح واشتغاله بأمر الأهل والعيال لا يمنعه عن الإكثار في الذكر والانقطاع إلى الله من غيره وتعمير الأوقات بالطاعات فالنكاح في حقه أفضل من تركه وكان هذا شان رسول الله والصحابة وكثير من الأنبياء والصالحين من عباد الله وكيف لا يكون أفضل فإن مجاهدته أشد وأكثر من مجاهدة العزب فإن القيام على العبادة مع الموانع أكثر ثوابا منه مع عدم الموانع ومن اجل ذلك كان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة وعوامهم أفضل من عوامهم ومن رأى من نفسه ضعفا ورأى أن النكاح واشتغاله بأمور الأهل والعيال يمنعه من الإكثار في الذكر والانقطاع إلى الله وتعمير الأوقات ولا يخاف من نفسه الوقوع في الزنى فترك النكاح في حقه أفضل قال الله تعالى :( يأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون( ١٢ وقال الله تعالى :( قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره( ١٣ وقال الله تعالى :( يأيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم( ١٤ وكيف يكون النكاح أفضل من الاشتغال بعبادات الله النافلة مع أن النكاح في نفسه أمر مباح ليس بعبادة لكان الإسلام شرطا لإتيانها كما هو شرط لسائر العبادات وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ١٥ متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب ولو كان النكاح في نفسه عبادة لكانت الهجرة لأجل النكاح هجرة لله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حبب غلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة " ١٦ رواه ىالنسائي وكذا رواه الطبراني وإسناده حسن وهو صريح في أن النكاح من الأمور الدنيوية المباحة كالطيب وتسميته سنة في قوله صلى الله عليه وسلم " أربع من سنن المرسلين النكاح والتعطر " الحديث بمعنى كونه سنة زائدة من السنن العادية لا انه من سنن الهدى فإن سنة الهدى ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العبادة لا يقال أن قوله صلى الله عليه وسلم " من رغب عن سنتي فليس مني " يدل على كونه من سنن الهدى لأنا نقول لا يدل هذا على ذلك لأن الرغبة عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واستحسنه قبيح يوجب الإنكار والعتاب لكن تركه لا يوجب العتاب كما يوجب ترك سنة الهدى، فإن قيل ورد في الحديث " حبب إلي من الدنيا ثلاثة الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة " فهذا اللفظ يدل على كون الصلاة أيضا نمن الأمور الدنيوية ؟ قلنا : قال الحافظ ابن حجر لم نجد لفظة ثلاث في شيء من الطرق المسندة وحديث " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة " ١٧ رواه مسلم عن عمرو بن العاص مرفوعا وهذا أيضا يدل على كون النكاح من الأمور الدنيوية المباحة فكل أمر وقع في باب النكاح في الكتاب أو السنة محمول على الإباحة أو الاستحباب وأما حديث عكاف : أنت إذن من إخوان الشياطين " واقعة حال محمول على حالة شدة التوقان وخوف الفتنة، ثم النكاح يكون عبادة باقتران النية بأن يريد كثرة أهل الإسلام وغض البصر ونحو ذلك، وهذا شيء غير مختص بالنكاح بل الأكل والشرب والبيع والشراء والإجارة وسائر المعاملات المباحة كلها مع اقتران حسن النية تصير عبادات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلب الحلال فريضة بعد الفريضة " رواه الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود ورواه الطبراني عن أنس بن مالك بلفظ " طلب الحلال واجب على كل مسلم " وكما أن النكاح فرض على الكفاية لبقاء النسل كذلك الأكل والشرب بقدر ما يسد الرمق فرض عين والتجارة وسائر أنواع الحرف فرض على الكفاية أيضا لو تركها الناس أجمعون أختل أمر معاشهم ومعادهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التاجر الصدوق الأمين مع النبيئين والصديقين والشهداء " ١٨ رواه الترمذي عن أبي سعيد الخذري وحسنه ورواه ابن ماجة من حديث ابن عمر والبغوي في شرح السنة عن أنس نحوه، لكن حسن تلك الأشياء إنما هو بالغير وأما حسن الذكر والانقطاع إلى الله فإنما هو بذواتهما فأين هذا من ذاك عن أبي هريرة قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله سبحانه :" لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنكاح أو بالأكل والشرب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن أسبح بحمد ربك وكن من الساجدين " رواه البغوي في تفسير سورة الحجر.
وما قيل في جواب حال يحيى أنه كان أفضل في شريعتهم وقد نسخت الرهبانية في شريعتنا فليس بشيء بل النكاح كان أفضل من العزوبة في كل دين كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم " أربع من سنن المرسلين وعد منها النكاح " وقد كان آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب يوسف وموسى وهارون وأيوب وسليمان وزكريا كلهم كانوا متزوجين وكانو أفضل من يحيى عليه السلام فلعل يحيى عليه السلام رأى التزوج في حقه مخلا ببعض أمور أفضل منه، وأيضا كون الرهبانية مشروعة في دين عيسى ويحيى ومنسوخ
١ سورة النساء الآية: ٣..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتل (١٠٧٦) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: النكاح، باب: النهي عن التبتل (١٨٤٩)..
٣ رواه أحمد وفيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات.
انظر مجمع الزوائد في كتاب: النكاح، باب: الحث على النكاح وما جاء في ذلك (٧٢٩٧)..

٤ أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (٢٠٥١) واخرجه النسائي في كتاب: النكاح، باب: كراهية تزويج العقي (٣٢١٧)..
٥ سورة النساء الآية: ٣..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: من لم يستطع الباء فليصم (٥٠٦٦) واخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤمن بالصوم (١٤٠٠)..
٧ أخرجه ابن ماجة في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل النكاح (١٨٤٦)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح (٥٠٦٣) وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (١٤٠١)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل التزويج والحث عليه (١٠٨٤)..
١٠ أخرجه ابن ماجة في كتاب: النكاح، باب: تزويج الحرائر والولود (١٨٦٢) وإسناده ضعيف..
١١ سورة آل عمران الآية: ٣٩..
١٢ سورة المنافقون الآية: ٩..
١٣ سورة التوبة الآية: ٢٤..
١٤ سورة التغابن الآية: ١٤..
١٥ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امراة فله ما نوى (٥٠٧٠). وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات"..
١٦ اخرجه النسائي في كتاب: عشرة النساء باب: حب النساء (٣٩٣٩)..
١٧ أخرجه مسلم في كتاب: الرضاعن باب: خير متاع الدنيا المرأة الصالحة (١٤٦٧)..
١٨ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوت، باب: ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم (١٢٠٦)..
( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا( يعني من لا يجد أسباب النكاح وما لا بد منه للناكح من المهر المعجل والنفقة ومنعه فقره من أن ينكح خوفا من الجور وفوات حقوق النكاح فعليه أن يجتهد في العفة ودفع الشهوة بالصوم وقلة الطعام ونحو ذلك حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن لم يستطع يعني النكاح فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ١ ( حتى يغنيهم الله من فضله( أي يوسع عليهم من رزقه والله أعلم.
أخرج ابن السكن في معرفو الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى فنزلت ( والذين يبتغون الكتاب( أي يطلبون المكاتبة ( مما ملكت أيمانكم( عبدا كان أو أمة، الموصول مع صلته مبتدأ خبره ( فكاتبوهم( جيء بالفاء لكون المبتدأ متضمنا لمعنى الشرط أو الموصول منصوب بفعل مضمر يفسره قوله فكاتبوهم والفاء زائدة وقال البغوي لما نزلت هذه الآية كاتب حويطب عبده على مائة دينار ووهب له عشرين فأداها فقتل يوم حنين في الحرب وهذا أمر استحباب عند جمهور العلماء حتى قال صاحب الهداية وهذا ليس بأمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء وإنما هو أمر نذب وهو الصحيح يعني القول بأنه أمر إباحة كما قال بعض مشايخنا. . غير صحيح إذ في الحمل على الإباحة إلغاء الشرط إذ هو مباح بدونه واما الندبية فمعلق به، وأجيب بأن الشرط خرج مخرج العادة لأن المولى لا يكاتب عبده عادة إلا إذا علم فيه خيرا وورث عن بعض المتقدمين بأنه للوجوب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار وقال أحمد في رواية عنه بوجوبها إذا طلب العبد من سيده مكاتبة على قدر قيمته أو أكثر لما روى ابن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عنه فشكى إلى عمر فعلاه بالدرة فأمره بالكتابة فكاتبه كذا ذكر البغوي في تفسيره والكتابة عقد معاوضة يدل عليه صيغة المفاعلة يبتاع العبد من سيده نفسه بما يؤديه من كسب واشتقاقه من الكتابة بمعنى الإيجاب فيشترط فيه الإيجاب والقبول من الجانبين وليس هو إعتاقا معلقا بأداء المال فيجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل البيع والشراء لتحقق الإيجاب والقبول إذ العاقل من أهل القبول والتصرف نافع في حقه، ولا يجوز كتابة مجنون وصبي لا يفعل لعدم تحقق القبول منه فلو أدى عنه غيره لا يعتق ويسترد ما دفع، وصفته عند أبي حنيفة أن يقول المولى لعبده كاتبتك على مال كذا ويقول العبد قبلت فيعتق بأدائه وإن لم يقل المولى إذا أديتها فأنت حر لأنه موجب العقد فيثبت من غير تصريح كما في البيع وبه قال مالك وأحمد وقال الشافعي يشترط أن يقول المولى كاتبتك على كذا من المال منجما إذا أدبته فأنت حر فإن ترك لفظ التعليق ونواه جاز ولا يكفي لفظ الكتابة بلا تعليق ولا نية ويقول قبلت كذا في المنهاج.
مسألة : ويجوز في الكتابة أن يشترط المال حالا ويجوز مؤجلا ومنجما وقال الشافعي وأحمد لا يصح حالا ولا بد من نجمين لأنه عاجز عن التسليم في زمان قليل لعدم الأهلية قبله للرق، ولنا : الإطلاق في الآية من غير شرط التنجيم وقد ذكرنا أنه عقد معاوضة والبدل معقود به فأشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة على التسليم حتى جاز للمفلس اشتراء أموال عظيمة ومن الجائز أن يرزق العبد على فور الكتابة أموالا عظيمة بطريق الهبة أو الزكاة فإن كانت الكتابة حالا وامتنع من الأداء جاز للمولى رده إلى الرق.
مسألة : وإذا صحت الكتابة خرج المكاتب عن يد المولى ليتحقق مقصود الكتابة وهو أداء البدل فيملك البيع والشراء والخروج إلى السفر وإن نهاه المولى ولا يخرج عن ملكه إجماعا، لأنه عقد معاوضة فلا يخرج عن ملك المولى ما لم يدخل البدل في ملكه.
مسألة : والكتابة عقد لازم من جهة المولى اتفاقا فلا يجوز للمولى فسخه إلا برضاه العبد لأنها موجب للعبد استحقاق العتق والعتق لا يحتمل الفسخ فكذا استحقاقه ولأنه عبادة كالعتق ففسخه يوجب إبطال العمل وقد قال الله تعالى :( ولا تبطلوا أعمالكم( ٢ لكنه غير لازم من جهة العبد فلا يجبر العبد على الاكتساب بل تفسخ الكتابة برضائه عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، غير أنه إن كان بيد المكاتب مال يفي بما عليه يجبر على الأداء عند أبي حنيفة وليس له حينئذ فسخ الكتابة لأنه حينئذ متعنت، وقال مالك ليس للعبد تعجيز نفسه مع القدرة على الاكتساب فيجبر على الاكتساب حينئذ.
مسألة : وإذا لم يخرج المكاتب عن ملك المولى جاز المولى أن يعتقه فيعتق مجانا ويسقط بدل الكتابة عن ذمته لأنه ما التزم إلا مقابلا بالعتق وقد حصل له دونه فلا يلزمه والكتابة وإن كانت لازمة من جانب المولى لكنها يفسخ برضاه العبد والظاهر رضاؤه توسلا إلى عتقه بغير بدل.
مسالة : وإذا لم يخرج من ملكه جاز للمولى بيع رقبة المكاتب عند أحمد ولا يكون البيع فسخا للكتابة بل يقوم المشتري فيه مقام البائع وهو القول القديم للشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز بيع رقبة المكاتب إلا برضاه فهو فسخ للكتابة وهو القول الجديد للشافعي، لكن عند مالك جاز بيع المكاتبة والدين المؤجل بثمن حال إن كان عينا فيعرض أو عرضا فتعين وجه قول أبي حنيفة ومن معه أن المكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى ولو ثبت الملك بالبيع للمشتري لبطل ذلك وقد علمت أن ثبوت الملك للمشتري لا يقتضي فسخ الكتابة عند أحمد، ولا يبطل استحقاق المكاتب يدا على نفسه بل يقوم المشتري فيه مقام البائع وقد رضي المشتري بذلك إن علم كونه مكاتبا وإن لم يعلم للمشتري حق فسخ البيع احتج أحمد بحديث عائشة أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ابتاعي فاعتقي فإنما الولاء لمن أعتق " رواه أحمد وأصله في الصحيحين أنها قالت : جاءت بريرة عائشة فقالت غني كاتبت على تسع أواق في كل عام أوقية فأعنيني فقالت عائشة إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلت ويكون الولاء لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته فقال :" خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق " ٣ الحديث، وروى النسائي هذه القصة عن بريرة نفسها وفي هذا الحديث ليس حجة لأحمد فإن النزاع فيما إذا كان بيع المكاتب بغير رضاه واما إن كان برضاه فأظهر الروايتين عن أبي حنيفة جواز البيع حينئذ وقد كان بيع بريرة برضاها ولذلك عقد البخاري باب بيع المكاتب إذا رضي.
مسألة : لا يعتق المكاتب إلا بأداء كل البدل لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" المكاتب عبد ما بقي من مكاتبة درهم " ٤ رواه أبو داود والنسائي والحاكم من طرق، ورواه النسائي وابن ماجة منن وجه آخر من حديث عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث طويل ولفظه " ومن كان مكاتبا على مائة أوقية وقضاها إلا أوقية فهو عبد " قال النسائي هذا حديث منكر وقال ابن حزم عطاء هذا هو الخراساني لم يسنع من عبد الله بن عمرو، ورواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من كاتب عبده على مائة أوقية فأداها إلا عشرا أواق أو قال عشرة دنانير ثم عجز فهو رقيق " وروى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر موقوفا : المكاتب عبد ما بقي عليهم درهم ورواه ابن قانع من طريق آخر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وأعله، قال صاحب الهداية في هذه المسألة اختلاف الصحابة، قال في الكفاية قال زيد بن ثابت مثل قولنا وقال علي يعتق بقدر ما أدى، وقال ابن مسعود إذا أدى قد رقيمته يعتق وفيما زاد ذلك يكون المولى غريما من غرمانه، وقال ابن عباس يعتق بنفس الكتابة ويكون المولى غريما من غرمانه وإنما اخترنا قول زيد للحديث المرفوع قلت : وقد روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه " ٥ وفي رواية له قال :" يؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي دية عبد " وضعفه، وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاء فليحتجب منه " ٦ رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة.
مسألة : وإذا عجز المكاتب عن نجم نظر الحاكم في حاله فإن كان له دين يقتضيه أو مال يقدم عليه لم يعجل بتعجيزه وانتظر ثلاثة أيام ولا يزاد عليه وإن لم يكن له وجه وطلب المولى تعجيزه عجزه وفسخ الكتابة عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان ولا يجوز للمولى تعجيزه إلا بالقضاء أو برضاء العبد.
مسألة : ما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى وإن كان غنيا أو هاشميا لتبدل الملك فإن العبد يتملك صدقة والمولى عوضا عن العتق وإليه وقعت الإشارة النبوية في حديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبر وأدم البيت فقال ألم أر برمة فيها لحم ؟ قالوا : بلى ولكن ذلك لحم تصدق على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال :" هو عليها صدقة ولنا هدية " ٧ متفق عليه، بخلاف ما إذا أباح للغني أو الهاشمي لأن المباح له يتناوله على ملك المبيح فلم يتبدل الملك فلم يتطيب ونظيره المشتري شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له ولو ملله يطيب له.
مسألة : إذا مات المكاتب قبل أداء بدل الكتابة مات رقيقا عند الشافعي وأحمد ويرتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيه قال البغوي وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز وقتادة، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري وعطاء وطاووس والحسن البصري والنخعي إن ترك ما يفي بدل الكتابة فهو حر وبدل الكتابة للمولى والزيادة لورثته الأحرار.
( إن علمتم فيهم خيرا( قال ابن عمر يعني قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري، وقال الحسن والضحاك ومجاهد يعني مالا لقوله تعالى في الوصية :( إن ترك خيرا( ٨ أي مالا، روي أن عبدا. . . لسلمان قال له كاتبني قال : لك مال ؟ قال : لا، قال تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ولم يكاتبه وهذا القول ضعيف لأن العبد وما في يده من المال ملك المولى إذ هو ليس أهلا لماالكية المال. . . للمنافاة بين المالكية والمملوكية والواجب عليه الأداء مما يملكه بعدما صار أهلا لمالكية المال يدا، وقال الزجاج لو أراد المال لقال إن علمتم لهم خيرا وقال إبراهيم بن زيد وعبيد صدقا وامانة، وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : أمانة ووفاء وقال الشافعي أظهر معاني الخير في العبد الاكتساب مع الأمنة فأحب أن لا يمتنع من كتابته إذا كان كذا، وقال صاحب الهداية المراد بالخير أن لا يضر بالمسلمين وإن كان يضر بهم بأن كان كافرا يعين الكفار أو نحو ذلك يكره كتابته ولكن تصح لو فعله، وحكى عن عبيدة في قوله تعالى :( إن علمتم فيهم خيرا( أي أقاموا الصلاة وقيل وهو أن يكون العبد عاقلا بالغا فأما الصبي والمجنون فلا يصح كتابتها لأن الابتغاء منها لا يصح، قلت رتب الله سبحانه الأمر بالكتابة على قوله ( والذين يبتغون الكتاب( فاشتراط العقل فهم منه فيكون هذا الشرط على هذا التقدير لغوا واشتراط البلوغ لا وجه له لأن الصبي العقال يتحقق منه ال
١ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (٥٠٦٦)..
٢ سورة محمد الآية: ٣٣..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل (٢١٦٨).
وأخرجه مسلم في كتاب: العتق، باب: غنما الولاء لمن أعتق (١٥٠٤)..

٤ أخرجه أبو داود في كتاب: العتق، باب: في المكاتبة يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت (٣٩٢٠)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي (١٢٥٦) وأخرجه أبو داود في كتاب: الديات، باب: في دية المكاتب (٤٥٧٠)..
٦ اخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي (١٢٥٨)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الهبة وفضلها، باب: قبول الهدية (٢٥٧٧) واخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إزاحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم (١٠٧٤)..
٨ سورة البقرة الآية: ١٨٠..
( ولقد أنزلنا إليكم( يا محمد في هذه السورة جواب قسم محذوف ( ءايات مبينات( قرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر على صيغة اسم الفاعل يعني آيات بينات الأحكام والحدود أو من بين بمعنى تبين يعني واضéحات تصدقها الكتب المقدمة والعقول السليمة، وقرأ الباقون بالفتح على صيغة اسم المفعول يعني آيات بينات في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود ( ومثلا من( جنس أمثال ( الذين خلوا من قبلكم( يعني قصة عجيبة مثل قصصهم وهي قصة عائشة فإنها كقصة يوسف ومريم، أو المعنى شبيها من حالهم بحالكم أيها القاذفون أن يلحقكم مثل ما لحق من قبلكم من المفترين ( وموعظة( وعظ بها في تلك الآيات ( للمتقين( فإنهم هم المنتفعون بها وقيل المراد بالآيات القرآن وهو موصوف بالصفات المذكورة
( الله نور السموات والأرض( النور في الأصل كيفية يدركها الباصرة أولا ويدرك بها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجسام الكثيفة المحاذية لهما وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى فهو ليس على ظاهره ويدل عليه إضافته إلى ضميره تعالى في قوله تعالى ( مثل نوره( فالمعنى إما بتقدير المضاف أو على المبالغة كقولك زيد كرم أي ذو كرم غاية الكرم كأنه نفس الكرم مبالغة أو هو مصدر بمعنى الفاعل يعني منور السموات والأرض بالشمس والقمر والكواكب وبالأنبياء والملائكة والمؤمنين كذا قال الضحاك ويقال منور الأرض بالنبات والأشجار وقيل معناه الأموار كلها منه يقال فلان رحمة أي منه الرحمة، وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح يقول القائل إذا سار عبد الله من مرو ليلة، فقد سار منها نورها وجمالها، وقيل : المعنى مدبرها من قولهم للرئيس الفائق في التدبير نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور وقيل : معناه موجدها فإن النور ظاهر لذاته مظهر لغيره وأصل الظهور الوجود كما أن أصل الخفاء العدم والله سبحانه موجود بذاته موجد لكل ما عداه، أو الذي به يدرك أو يدرك أهلها من حيث أنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه، ثم على البصرية لأنها أفوق إدراكا فإنها يدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودة والمعدومة وتغوص في بواطنها ويتصرف فيها بالتركيب والتحليل، ثم إن هذه الإدراكات لذواتها ولا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليه وهو الله سبحانه ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا ويقرب فهم بنوره يعني بهدايته إلى الحق يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون فإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالها على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليها وعلى المتعلق والمدلول بهما.
( مثل نوره( أي صفة نور الله في قلب المؤمن الذي يهتدي به إلى ذاته تعالى وصفاته وتصديق ما قال مما لا يستبد في إدراكه عقول الفحول ويرى به الحق حقا والباطل باطلا قال الله تعالى :( فهو على نور من ربه( ١ قال البغوي كان ابن مسعود يقرأ مثل نوره في قلب المؤمن وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل نوره الذي أعطى المؤمن وقال بعضهم الضمير عائد إلى المؤمن وكان أبي يقرأ مثل نور قلب من آمن وهو عبد جعل الله الإيمان والقرآن في صدره وقال الحسن وزيد بن أسلم أراد بالنور القرآن وقال سعيد بن جبير والضحاك هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : أراد بالنور الطاعة سمى طاعة الله نورا وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه ( كمشكاة( وهي الكوة التي لا منفذ لها فإن كان لها منفذ فهي الكوة، قيل : هي حبشية وقال مجاهد هي القنديل والمضاف مقدر والمعنى مثل نوره كمثل نور مشكاة ( فيها مصباح( أي سراج مفعال من الصبح بمعنى الضوء ومنه الصبح بمعنى الفجر ( المصباح في زجاجة( أي في قنديل من الزجاج قال الزجاج إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين من كل شيء وضوؤه يزيد في الزجاج وهذه الجملة صفة للمصباح والعائد المظهر الموضوع موضع المضمر ثم وصف الزجاجة بقوله :( الزجاجة كأنها كوكب دري( الجملة صفة لزجاجة والعائد فيها أيضا المظهر الواقع موضع الضمير قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال والمد والهمزة وهذا الوزن شاذ قال أكثر النحاة ليس في كلام العرب فعيل بضم الفاء وكسر العين وزقال أبو عبيدة أصله فعول من درأت مثل سبوح ثم استثقلوه كثرة الضمات فردوا بعضها إلى الكسرة كما قالوا عتيا بضم العين من العتو، وعلى هذين القراءتين هو مشتق من الدرء بمعنى الدفع فإنه يدفع الطلام بضوئه أو يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه أو يدفع الشياطين من الدفع فإنه يدفع الظلام بضوئه أو يدفع بعض ضوئه يعضا من لمعانه أو يدفع الشياطين من السماء وشبهه بحالة دفعة الشياطين لأنه يكون في تلك الحالة أضوء وأنور ويقال هو من درأ الكوكب إذا اندفع فيتضاعف ضوؤه في ذلك الوقت وقيل : درأ بمعنى طلع يقال درأ النجم إذا طلع وارتفع ويقال درأ علينا فلان أي طلع وظهر والمعنى كأنها كوكب طالع، وقرأ الآخرون بضم الدال وتشديد الراء والياء منسوب إلى الدر في صفاته وحسنه فإن قيل الكوكب أكثر ضوءا من الدر فما وجه نسبته إليه ؟ قلنا : معناه أنه أضوء وأحسن من سائر الكواكب كما أن الدر أضوء وأحسن من سائر الحبوب وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام وهي الزحل والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد قلت : لعل ذلك الكوكب هي الزهرة لكونها أضوء من غيرها قيل : شبه بالكواكب ولم يشبه بالشمس والقمر لأن الشمس والقمر يلحقهما الخسوف والكسوف بخلاف الكواكب قلت : بل وجه ذلك أن المصباح يشبه بالشمس حيث قال الله تعالى :( وجعل الشمس سراجا( ٢ فشبه الزجاجة بالكوكب ليدل على انحطاط رتبة الزجاجة من رتبة المصباح ولو قال كأنها شمس لزم فضل الزجاجة على المصباح وهو مخل بالمقصود ( يوقد( خبر ثان للمصباح أو حال من الضمير المستكن في الظرف المستقرب أعني في زجاجة العائد إلى المصباح قرأ ابن كثير وأبو عمرو أوب جعفر ويعقوب بفتح التاء الفوقانية وفتح الواو والقاف المشددة والدال على صيغة الماضي من التفعل بمعنى توقد المصباح أي اتقدت يقال توقدت النار أي اتقدت والباقون على صيغة المضارع المجهول من الأفعال فأبو بكر وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة بحذف المضاف والتقدير توقد نار الزجاجة لا توقد، والباقون بالياء التحتانية على أن الضمير للمصباح أي يوقد المصباح ( من شجرة( من للابتداء يوقد المصباح من شجرة أو للسببية على حذف المضاف أي من دهن شجرة أبهم الشجرة ثم وصفها بقوله ( مباركة( ثم أبدلها وبينها لقوله :( زيتونة( تعظيما لشأنها وتفخيما لأمرها لأنها كثيرة البركة ولا يحتاج في استخراجه إلى عصار بل كل واحد يستخرجه قال البغوي جاء في الحديث أنه مصحح ) من الناس وهي شجرة توقد من أعلاها إلى أسفلها ذكر البغوي عن أسيد بن أو أسيد الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شجرة مباركة " ٣ ورواه الترمذي عن عمر مرفوعا وأحمد والترمذي والحاكم عن أبي سيد مرفوعا ورواه ابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعا 'لو الزيت وادهنوا به فإنه طيب مبارك " ٤ ورواه أببو نعيم في الطلب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام " ( لا شرقية( صفة لزيتونة وحرف النفي جزء من المحمول قيل معناه ليس بمضحى تشرق عليها الشمس دائما فتحرقها ( ولا غربية( ولا في مقناة تغرب وغيب عنها الشمس دائما فتتركها نيا وهو قول السدي وجماعة، وقيل معناه لا شرقية عليها الشمس عند طلوعها فقط ولا غربية تقع عليها الشمس عند غروبها دون طلوعها بل هي تابثة على قلة أو في صحراء واسعة تقع عليها الشمس دائما فيكون ثمرها أنضج وزيتها أصفى، قال البغوي وهذا كما يقولون فلان لا بأبيض ولا بأسود يريدون ليس بأبيض خالص ولا بأسود خالص بل اجتمع فيه الأمران يقال هذا الرمان ليس بحامش ولا حلو أي بل اجتمع فيه الحموضة والحلاوة وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة والكلبي والأكثرين وقيل معناه غير نابتة في مشرق الأرض ولا في مغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونة الشام يكون أجود وقال الحسن ليست هذه من أشجار الدنيا ولو كانت في الدنيا كانت شرقية أو غربية وإنه مثل ضربه الله لنوره قلت : وعلى هذا القول لعل الله سبحانه أراد شجرة من أشجار الجنة ومثل نوره بنور زيتون الجنة ( يكاد زيتها( أي دهنها ( يضيء( بنفسه لتؤلؤ وفرط وبيصه ( ولو لم تمسسه نار( يعني قبل أن يصيبه النار هذه الجملة صفة أخرى لزيتونة وفيه مبالغة في بيان صفاء. . . . زيت الزيتون وبياضه وكلمة يكاد موجب لتصحيح المقال
نور نور( به ( نور
بالنار فهو نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته وصفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط مشكاة لا منفذ فيه، قال البغوي اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل ؟ قال بعضهم وقع التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس لكعب الأحبار أخبرني عن قوله تعالى :( مثل نوره كمشكاة( قال كعب هذا مثل ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيها النبوة يكاد نور محمد صلى الله عليه وسلم وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما كان يكاد ذلك الزيت أن ( يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور( ولنعم ما قال كعب فها أنا أذكر فصلا في ظهر أمر نبوته قبل أن يبعث وقبل أن يتكلم أنه نبي.

فصل


وفي معجزاته التي ظهرت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ذكر في خلاصة السير أنه قالت أم النبي صلى الله عليه وسلم رأيت في المنام حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من الشام ثم وثع حين ولدته أنه لواضع. . . بالأرض رافع رأسه إلى السماء وقال الحافظ ابن حجر إن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت لها قصور الشام وقال صححه ابن حبان والحاكم، وعند أبي نعيم في الدلائل أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد ذكرت امه أن الملك غمسه في ماء أنبعه صلاص مرات ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة، وروى البيهقي وابن أبي الدنيا وابن السكن أن ليلة ميلاده صلى الله عليه وسلم ارتجس إيواء كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافقة وأفزع كسرى وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغارت بحيرة سلوة، وفي حديث عائشة : كان يهودي سكن مكة يتجر فيها قال ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف الفرس فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه فقالوا أخرجي المولود ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه فقالوا : مالك مالك ؟ قال : ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل " رواه الحاكم وفي المواهب اللدنية قصة عميصا الراهب كان يقول لأهل مكة يوشك أن يولد منكم يا أهل مكة مولودين له العرب ويملك العجم هذا زمانه فلما ولد قال لعبد المطلب قد ولد لك المولود الذي كنت أحدثكم عنه وعن العباس بن عبد المطلب قال قلت : يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك رأيتك في المهن تناغى القمر وتشير إليه بأصبعك فحيث أشرت إليه مال قال : كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش وعد من الخصائص أن مهده صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بتحريك الملائكة، وروي أنه صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد وروى أبو يعلى وابن حبان عن عبد الله بن جعفر عن حليمة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه تعنى ضمرة وناما، وما كان ينام قبل ذلك وما كان في ثديي من يرويه ولا في شارفنا ما يغذيه وقام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا أنها لحافل فحلب فحلب منها ما شرب وشربت حتى أنهينا ريا وشيعا فيتنا بخير ليلة ولما رجعنا ركبت أتاني وحملته عليها فوالله لقد قطعت ما لا يقدر عليها شيء من حمرهم حتى أن صواحي ليقلن لي ويحك يا ب
١ سورة الزمر الآية: ٢٢..
٢ سورة نوح الآية: ١٦..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل الزيت (١٨٥٢) وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأطعمة، باب: الزيت (٣٣٢٠)..
٤ رمز السيوطي لحسنه وقال النوووي إسناده حسن، وروى بمعناه أحمد والدارمي والطبراني انظر: فيض القدير (٩٩١)..
( في بيوت أذن الله أن ترفع( صفة لبيوت وأن بتقدير الياء متعلق بإذن أي إذن الله بأن ترفع تلك البيوت والمراد بها المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس المساجد بيوت الله في الأرض وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء لأهل الأرض النجوم، ومعنى أن ترفع قال مجاهد أن تبني نظيره قوله تعالى :( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل( ١ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بنى الله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة " ٢ متفق عليه من حديث عثمان وقال الحسن معناه أن تعظم يعني لا يذكر فيها القبيح من القول قال الله تعالى ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود( ٣ قال البغوي روى صالح. . . . بن حبان عن بريدة في هذه الآية قال إنما هي أربع مساجد لم يبنها إلا نبي الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل وبيت المقدس بناها داود وسليمان ومسجد المدينة ومسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : ولا وجه لتخصيص هذه المساجد وإن كن هي أفضل المساجد البتة، قوله في بيوت متعلق بما قبله أي مشكاة في بعض بيوت كذلك أو توقد في بيوت كذلك فيكون تقييدا للمثل به، وهذا التأويل عندي ضعيف لأن الله سبحانه شبه نوره بنور المشكاة وقيدها بقيود تدل على قوة النور وشدة لمعانه ولا مدخل في ذلك لهذا القيد أصلا، والقول بأن قناديل المساجد تكون أعظم ممنوع بل قناديل مجالس الأغنياء يكوةن أقوى نورا وأشد لمعانا من قناديل المساجد، فالأولى أن يقال أنه متعلق بقوله تعالى :( يهدي الله لنوره من يشاء( فإن الهداية غالبا يكون للعاكفين في المساجد والمصلين حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلاة معراج المؤمن " وقال " اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء " ٤ رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة وجاز ان يكون متعلقا بمحذوف يعني سبحوا أمر بالتسبيح لجلب هداية الله المذكور فيها سبق ( ويذكر فيها اسمه( في الصلاة وحارجها قال ابن عباس يتلى فيها كتابه ( يسبح( صفة أخرى لبيوت أو جملة مستأنفة أو خير آخر لله يعني الله نور السماوات والأرض والله يسبح له قرأ أبو بكر وابن عامر بفتح الياء على البناء للمفعول مسندا إلى إحدى الظروف الثلاثة المذكورة بعدها والوقف على هذا على الآصال والباقون بكسر الباء على البناء للفاعل ( له فيها بالغدو والآصال( قال أهل التفسير أراد به الصلوات المكتوبات فإن المساجد بنيت لأجلها فصلاة الفجر تؤدى بالغدو والأربعة الباقية بالآصال والغدو في الأصل مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصل أي العشي وقيل : أراد صلاة الصبح والعصر لكمال الاهتمام فإن الصبح وقثت النوم والعصر وقت الاشتغال بالسوق ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى البردين دخل الجنة " ٥ رواه مسلم من حديث أبي موسى وقال الله تعالى :( صبغة الله ومن أحسن من( ٦ قال البغوي روي عن ابن عباس قال : التسبيح بالغدو صلاة الصبح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر فأجره كأجر الحاج المحرم ومن مشى إلى صلاة الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة كتاب في عليين " ٧ ذكره البغوي من حديث أبي أمامة وروى الطبراني عنه بلفظ " من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة فهي كحجة ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة ".
١ سورة البقرة الآية: ١٢٧..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: من بنى مسجدا (٤٥٠) واخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل بناء المساجد والحث عليها (٥٣٣)..
٣ سورة البقرة الآية: ١٢٥..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما قال في الركوع والسجود (٤٨٢)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضلاة صلاة الفجر (٥٧٤) وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر (٦٣٥)..
٦ سورة البقرة الآية: ٢٣٨..
٧ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في المشي إلى الصلاة (٥٥٧)..
( رجال( فاعل يسبح على قراءة الجمهور وفاعل لفعل محذوف دل عليه يسبح على قراءة ابن عامر وأبي بكر في جواب سؤال مقدر كأنه قيل من يسبح له فقال يسبح له رجال خص الرجال بالذكر لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد أو لأن الغالب في النساء الجهل والغفلة ( لا تلهيهم( أي لا تشغلهم ( تجارة ولا بيع( أفرد البيع بالذكر مع شمول اللفظ التجارة إياه لأنه أهم من قسمي التجارة فإن الربح يتوقع بالاشتراء ويتحقق بالبيع وقيل أراد بالتجارة الاشتراء ( وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والاشتراء ) يدل عطف البيع عليه، وإنما ذكر لفظ التجارة موضع الاشتراء لأن الاشتراء مبدأ التجارة، وقيل : أراد بالتجارة المعاملة الرابحة ثم ذكر البيع مبالغة بالتعميم بعد التخصيص وقال الفراء التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه ( عن الذكر الله( يعني عن حضور المساجد لإقام الصلاة قال البغوي روى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس فأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال إن فيهم نزلت ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله( أو المراد لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله دوام الحضور وهذا يعم من ترك المعاملات واستغرق أوقاته بالطاعات واعتزل الناس ومن لم يترك المعاملات وهو مع اشتغاله بالتجارات لا يشغل التجارة قلبه عن ذكر الله فهو في الناس كائن بائن ظاهره مع الخلق وباطنه مع الله غافل عما سواه ( وإقام الصلواة( عوض فيه الإضافة من التاء المعوضة من العين الساقط بالإعلال قال البغوي أراد الله سبحانه أداءها في أوقاتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها ليس هو مقيما للصلاة ( وإيتاء الزكاة( المفروضة قال ابن عباس إذا حضر وقت الزكاة لم يحبسوها وقيل هي الأعمال الصالحة كلها ( يخافون( حال من فاعل يسبح أو من مفعول لا تلهيهم يعني أنهم مع ما هم عليه من الذكر والطاعة يخافون ( يوما تتقلب فيه( صفة ليوما والعائد ضمير فيه يعني تضطرب وتتغير من الهول ( القلوب والأبصار( وقيل معناه تنقلب قلوب الكفار عما كانت عليه في الدنيا من الكفر والشك وتنفتح أبصارهم من الأغطية فتبصر ما لم تكن تبصر ولم تحتسب وتنقلب قلوب المؤمنين وأبصارهم عما كانوا عليه من القناعة بمشاهدة المثال فيرون الله سبحانه كالقمر ليلة البدر وكالشمس في رابعة النهار وقيل معناه تنقلب القلوب يوم القيامة من الخوف والرجاء يخشى الهلاك ويطمع النجاة وتنقلب الأبصار حولهم من أي ناحية يؤخذ أمن ذا اليمين أم من ذات الشمال ومن أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أو من قبل الشمال وقيل تنقلب القلوب من الخوف فترجع إلى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج وتنقلب الأبصار أي تشخص من هول الأمر وشدته
( ليجزيهم الله( متعلق بيسج أو بلا تلهيهم وجاز أن يكون متعلقا بيخافون ويكون اللام حينئذ للعاقبة إذ الخوف ليس من الأفعال الاختيارية والعلة الغائبة يختص بالإعال الاختيارية ( أحسن( جزاء ( وما عملوا( الموعود لهم من الجنة فهو منصوب على المصدر أو المعنى يجيزهم أعمالهم الحسنة فأحسن بمعنى حسن وهو منصوب على المفعولية ( ويزيدهم( على الجزاء الموعود أو على جزاء أعمالهم ما لم يخطر ببالهم ( من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب( تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإحسان يعني يرزق الله ما لا نهاية له يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه.
( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة( وهو اللامع في المفازة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة يظن أنه ماء يسرب أي يجيء، الجملة معطوفة على مضمون الكلام السابق تقديره المهتدون بنور الله يجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم والذين كفروا لا ينفعهم أعمالهم فإنها كسراب ( بقيعة( القيعة والقاع المنسوب من الأرض وجمعه قيعان وتصغيره قويع وقيل هي جمع قاع كحيرة وحار ( يحسبه الظمآن( أي يتوهمه العطشان ماء، تخصيص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة ( حتى إذا جاءه( أي جاء ما توهمه ماء أو موضعه ( لم يجده شيئا( مما ظنه ( ووجد الله( أي وجد عذاب الله ( عنده فوفاه حسابه( أي أعطاه جزاء أعماله وافيا كاملا على حسب عمله، فإن قيل وجد الله معطوف على ( لم يجده( وعلى ( جاءه( والضمير المرفوع في كل منهما راجع إلى الظمآن فما معنى وجد الظمآن عذاب الله عند السراب ؟ قلت : هذا الكلام عندي يحتمل التأويلين أحدهما أن الكافر إذا كان يوم القيامة اشتد عطشه فيرى النار سرابا يحسبه ماء فيسرع إليه حتى إذا جاءه لم يجده شيئا مما توهمه ووجد عذاب الله يعني النار عنده، وثانيهما أن المراد بعذاب الله ما يلحق الظمآن في الدنيا من الشدة واليأس ومبناه سبآت أعماله حيث قال الله تعالى :( وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير( ١ والأولى أن يقال : إن حتى ابتدائية يتصل بقوله ( أعمالهم كسراب( والمعنى حتى إذا جاء الكافر عمله في الآخرة ( لم يجده شيئا ووجد الله عنده( فالضمير المرفوع في جاءه راجع إلى أحد من الكفار لا إلى الظمآن والمصوب إلى عمله لا على السراب ( والله سريع الحساب( لا يشغله حساب عن حساب يحاسب عباده في قدر نصف يوم من أيام الدنيا ( أو كظلمات( عطف على كسراب وأو للتخيير كأنه يخير المخاطب في التشبيه فإن أعمالهم لكونها غير نافعة موجبة لليأس والتحسر كائنة كالسراب ولكونها خالية عن نور الحق كائنة كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب أو للتنويع فإن أعمالهم إن كن حسنات كالصدقة وصلة الرحم ونحوها فهي كالسراب وإن كن قبيحات فكالظلمات أو التقسيم باعتبار الوقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة ( في بحر لحي( عميق كثير الماء منسوب إلى اللج قال البياضوي هو معظم الماء كذا في النهاية والقاموس وقيل : هو تردد أمواجه ( يغشاه( أي البحر موج يغشاه صفة أخرى للبحر والموج ما يعلو من الماء باضطراب الرياح ( من فوقه موج( يعني أمواج مترادفة متراكمة ( من فوقه( أي من فوق الموج الثاني ( سحاب( يحجب أنوار النجوم، قرأ البزي بغير تنوين مضافا إلى ( ظلمات( بالجر وبرواية القواس سحاب بالرفع والتنوين والظلمات بالجر على البدل من قوله كظلمات وقرأ الباقون سحاب ظلمات كلاهما بالرفع والتنوين فيكون تمام الكلام عند قوله ( سحاب ظلمات(
١ سورة الشورى الآية: ٣٠..
( سحاب ظلمات( خبر لمبتدأ محذوف أي هي ظلمات ( بعضها فوق بعض إذا أخرج يده( لينظر إليها وهي أقرب ما يرى ( لم يكد يراها( أي لم يقرب أن يراها فضلا أن يراها الضمائر للواقع في الجر وإن لم يجر ذكره لدلالة الكلام عليه كذلك أعمال الكفار ظلمات على قلبه بعضها فوق بعض مانعة لهم من الاهتداء وإدراك الحق فالكفر الذي هو من أعمال القلوب كالبحر اللجي المظلم يغشاه ظلمات المعاصي بعضها فوق بعض كالأمواج التي يعضها فوق بعض والختم الطبع على قلبه كالسحاب على الأمواج فإذا أراد الكافر التفكر في أمور الدين وأن يدرك ما هو أجلى البديهيات لم يكد يراها ألا ترى انه ينكر الأنبياء مع تواتر معجزاتهم الباهرة ويعتقد ألوهية الحجارة مع انحطاط رتبتها عن سائر المخلوقات ( ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور( يعني أن الهداية أمر وهبي بل حصول العلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين أمر عادي وهبي ليس على سيبيل الوجوب عند اهل الحق فكم من بله في أمور الدنيا أكياس في أمور الآخرة وكم من كيس جهبذ في الدنيا هم عن الآخرة غافلون وهم في أمور الدين كالأنعام وهو المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله " ١ وقد مر فيما سبق قال البغوي قال مقاتل نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يلتمس الدين في الجاهلية وليس المسوح فلما جاء الإسلام كفر
١ أخرجه الترمذي في كتناب: الإيمان باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (٢٦٤٢)..
( ألم تر( ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة الحاصل بالوحي والاستدلال والكشف الصريح ( أن الله يسبح له( أي شهد على تقدسه وتنزهه عن الكمناقض ( من في السموات( من الملائكة وما في علم الله من جنوده ( ومن في الأرض( من الإنس والجن وغيرهم والمراد جميع المخلوقات وإنما أورد كلمة من تغليبا لذوي العقول والدليل على إرادة العموم قوله تعالى :( والطير صافات( أي باسطات أجنحتهن في الهواء قيد الطير بالصافات لئلا يلزم التكرار فإن الطير الكائنة على وجه الأرض دخلت في من في الأرض ( كل( أي كل واحد من المسبحة ( قد علم( الله ( صلاته ) أي دعاءه ( وتسبيحه( وقيل معناه علم كل من المسبحة صلاة نفسه وتسبيحه بتعليم الله تعالى ( والله عليم بما يفعلون ولله ملك السموات والأرض(
}والله عليم بما يفعلون ولله ملك السموات والأرض( فإنه مالكهما وخالقهما ولما فيها من الذوات والصفات والأفعال ( وإلى الله المصير( مرجع الجميع فيجازي كلهم على حسب عمله حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء
( ألم تر أن الله يزجي سحابا( أي يسوق من التزجية وهو دفع الشيء ومنه البضاعة المزجاة فإنها يدفعها كل واحد ( ثم يؤلف بيبنه( أي يجمع بين قطع متفرقة بعضها إلى بعض ( ثم يجعله ركاما( أي بعضها فوق بعض ( فترى الودق( أي المطر ( يخرج من خلاله( أي من فتوقه ( وينزل منن السماء من جبال فيها( بدل اشتمال من السماء ومن في الموضعين لابتداء الغاية وجاز أن يكون الثانية للتبعيض واقعا موقع المفعول ( من( بيانية ( برد( بيان للجبال فالمعنى على الأول ينزل من جبال كائنة في السماء بعض جبال يعني قطعا عظاما تشبه بالجبال في عظمها وجمودها كائنة تلك الجبال من برد وجاز أن يكون من هذه للتبعيض واقعا موقع المفعول ( فيصيب به( أي بذلك البرد ( من يشاء( فيهلك زرعه وأمواله ( ويصرفه عن من يشاء( فلا يضره ( يكاد سنا( أي ضوء ( برقه( أي برق السحاب ( يذهب بالأبصار( قرأ أبو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء من الأفعال فالياء على هذا زائدة
}يقلب الله الليل والنهار( أي يأتي بالليل بعد النهار وبالنهار بعد الليل أو يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر أو بتغير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو ما يعم ذلك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى " يؤذيني ابن آدم بسبب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " ١ متفق عليه ( إن في ذلك( المكذور ( لعبرة( أي دلالة على وجود الصانع الواجب وجوده وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الاحتياج إلى غيره ( لأولي الأبصار( أي لمن أعطاه الله بصيرة وعقلا سليما
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: وما يهلكنا إلا الذهر (٤٨٢٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: النهي عن سبب الدهر (٢٢٤٦)..
( والله خلق كل دابة( قرأ حمزة والكسائي خالق كل دابة بإضافة اسم الفاعل على مفعوله حاملا الضمير الفاعل والباقون خلق على صيغة الماضي ونصب كل على المفعولية يعني خلق كل من يدب على الأرض من الحيوانات ( من ماء( هو جزء مادية أو ماء مخصوص يعني النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما لا يتولد من النطفة قيل : الماء أصل لجميع الخلائق قال البغوي وذلك أن الله خلق الماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة وبعضه نارا فخلق منها الجن وبعضه طينا فخلق منه آدم وسائر الحيوانات ( فمنهم من يمشي على بطنه( كالحيات والديدان ( ومنهم من يمشي على رجلين( كالإنسان والطير ( ومنهم من يمشي على أربع( كالبهائم والسباع ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وبعض الحشرات لأنها في صورة من يمشي على أربع وتذكير الضمير لتغليب العقلاء التعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الإجمال ( يخلق الله ما يشاء( مما ذكر مما لم يذكر من البسائط والمركبات على اختلاف الصور والهيئات والحركات والطبائع والأفعال مع اتحاد المادة على مقتضى مشيئته وحكمته ( إن الله على كل شيء قدير( فيفعل ما يشاء.
( لقد أنزلنا( في القرآن ( ءايات( أو أنزلنا في عالم الوجود الظلي دلائل مبينات مظهرات للحق شواهد على وجود الصانع العاليم الحكيم القدير بأنواع الدلالات ( والله يهدي من يشاء( هدايته ( إلى صراط مستقيم( يعني دين الإسلام الموصل إلى مراتب القرب وةالفوز إلى الجنة والنجاة من النار يعني أن الإيمان أمر وهبي لا يحصل بالنظر في الدلائل إلا بتوفيق من الله وهدايته والله أعلم.
ذكر البغوي أن بشر المنافق كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض فقال اليهودي تتحاكم إلى محمد وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن أشرف إن محمدا يحيف علينا فنزلت
( ويقولون( يعني بشرا وأمثاله من المنافقين ( ءامنا بالله وبالرسول وأطهنا( أي إياهما ( ثم يتولى( عن الإيمان وعن طاعتهما بالامتناع عن قبول حكمه إذا كان حكمه على خلاف هواه ( فريق منهم( الذين لم يكونوا في الخصومة على الحق ( من بعد ذلك( أي بعد قولهم هذا ( وما أولئك( إشارة المنافقين كلهم وفيه إعلام بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم يؤمن قلوبهم أو على الفريق المتولي منهم ( بالمؤمنين( التعريف للدلالة على أنهم ليسوا من المؤمنين الذين عرفتهم ويعلم الله صدقهم وإخلاصهم
أخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن قال : كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق وإذا أراد أن يظلم فدعى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال انطلقوا إلى فلان فأنزل الله وإذا دعوا إلى الله ورسوله( أي إلى حكم الله ورسوله وقيل : معنى قوله :( إذا دعوا إلى الله ورسوله( أي إلى حكم الله ورسوله قيل : معنى قوله :( إذا دعوا إلى الله( دعوا إلى رسوله فقوله ورسوله منزلة التفسير لما سبق كما في قوله أعجبني زيد وكرمه، وجملة إذا دعوا إلى آخره عطف على ما أولئك بالمؤمنين أو على يقولون ( ليحكم( الرسول بحكم الله ( بينهم إذا فريق منهم معرضون( يعني فاجأ فريق منهم الإعراض عن الحكم أو عن الإيمان يعني من كان منهم يعلم أنه على الباطل
( وإن يكن لهم الحق( على من يخاصهم ( يأتوا إليه( صلى الله عليه وسلم مذعنين منقاذين لحمه ليقينهم أنه يحكم بالحق
( أفي قلوبهم مرض( أي كفر وميل على الظلم ( أم ارتابوا( بأن رأوا منك تهمة فزال ثقتهم ويقينهم بك ( أم يخافون( يقينا ( أن يحيف الله عليهم ورسوله( في الحكومة ( بل أولئك هم الظالمون( على أنفسهم بالكفر وعدم الانقياد لله ورسوله وعلى الناس يريدون أن يأكلوا أموالهم بالباطل إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول وجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل أو في الحاكم والثاني إما أن يكون محققا عندهم أو متوقعا وكلاهما باطل لأن منصب نبوته وفرط أمانته يمنعه فتعين الأول ويشهد على ذلك إتيانهم للحكم إليه مذعنين إذا كان لهم الحق أو رد ضمير الفصل ليدل على نفي ذلك عن غيرهم لاسيما المدعو إلى حكمه.
ثم عقب الله تعالى ذكر المؤمنين المخلصين وما ينبغي لهم على ما هو عادته في المثاني والقرآن العظيم فقال :( إنما كان قول المؤمنين( المخلصين ( إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم( قول منصوب على أنه خبر لكان واسمه ( أن يقولوا( يعني قولهم ( سمعنا( الدعاء ( وأطعنا( بالإجابة ( وأولئك( يعني من كان هذا قوله ( وهم المفلحون( دون غيرهم
( ومن يطيع الله ورسوله( قال ابن عباس فيما ساءه وسره ويخشى الله على ما عمل من الذنوب وفي مخالفة أحكامه ( ويتقيه( أي يتقي عذابه بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ومحافظة أحكامه وحدوه، قرأ حفص بإسكان القاف واختلاس كسرة الهاء لسكون ما قبلها وهذا لغة إذا سقط الياء للجزم يسكنون ما قبلها يقولون لم أشتر طعاما بسكون الراء والجمهور بكسر القاف على الأصل ويسكن الهاء وصلا ووقفا أبو بكر وأبو عمرو وخلاد في رواية عنه عن حمزة والباقون يكسرون الهاء فيختلسها أبو جعفر وقالون ويعقوب ويشبعها الباقون لأجل تحرك ما قبلها ( فأولئك هم الفائزون( بالنعيم المقيم ورضوان الله تعالى.
( وأقسموا( يعني المنافقين ( بالله جهد أيمانهم( جهد منصوب على أنه مصدر يعني مضاف إلى مصدر أقسموا من غير لفظة أو حال من فاعل ( اقسموا بلالله ) جاهدين بإيمانهم يعني بالغين غايتها وجهد اليمين مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها أو ظرف يعني وقت جهدهم إيمانهم أي المبالغة فيه إنكار للامتناع ( لئن امرتهم( يا محمد بالخروج عن ديارهم وأموالهم أو بالخروج للجهاد ( ليخرجن( جواب لأقسموا على الحكاية وجزاء للشرط معنى قال البغوي ذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت يكن معك لئن خرجت خرجنا وإن أقمت ٌمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا قال الله تعالى :( قل( لهم ( لا تقسموا( على الكذب ( طاعة معرفوة( قال مجاهد أي هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد وهي معروفة أي أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون وقيل معناه طاعة معروفة بينة خالصة أفضل وأمثل من الخلف بالقول وقال مقاتل بن سليمان ليكم منكم طاعة معروفة وقيل : معناه المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين بالطاعة نفاقا ( إن الله خبير بما تفعلون( لا يخفى عليه سرائركم
( قل( كرر الأمر تأكيدا ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول( أمرؤ بتبليغ ما خابطهم الله تعالى على الكحاية مبالغة في تبكيتهم ( فإن تولوا( صيغة مضارع حذفت إحدى التائين بقرينة إن تطيعوه يعني إن تولوا أيها المنافقون عن الطاعة فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ( فإنما عليه( أي على محمد ( ما حمل( من التبليغ ( وعليكم ما حملتم( من الامتثال جزاء الشرط محذوف أقيم علته مقامه والتقدير فإن تولوا تخسروا أنفسكم ولا تضرون الرسول شيئا لأنه ( فإنما عليه ما حمل( عليه وقد أدى ما كان عليه ( وعليكم ما حملتم( وانتم تتولون عنه فتخسرون ( وإن تطيعوه( عطف على إن تولوا أي أن تطيعوا محمدا في حكمه ( تهتدوا( إلى الحق وإلى سبيل الجنة ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين( أي التبليغ الموضح لما كلفتم به بيان لما حمل.
أخرج الحاكم وصححه والطبراني عن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وأوتهم الأنصار منهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت :( وعد الله الذين ءامنوا منكم( يا أهل المدينةو الذين هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الآية وليس المراد من المؤمنين عامة لأنهم يلزم حينئذ الاستدراك فإن كلمة الذين آمنوا مغن عنه ( وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض( جواب قسم محذوف تقديره ( وعد الله( واقسم أي قال : والله ليستخلفنهم والوعد في تحققه يزل منزلة القسم أي لنورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فنجعلهم يعني نجعلن منهم خلفاء ملوكا واجب الطاعة سياسة، أو المعنى لنجعلنهم بأجمعمهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم ( كما استخلف الذين من قبلهم( صفة لمصدر محذوف أي استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من الأنبياء داود وسليمان وغيرهما كذا قال قتادة أو كاستخلاف بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم يعني كما كان الله تعالى وعد موسى عليه السلام في التوراة بفتح الشام ولم يتحقق إنجاز الوعد في حياته صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى :( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض( ١ فاستخلف الله بعده يوشع بن نون وأنجز ذلك الوعد على يديه حتى فتح الشام وقسم البلاد في بني إسرائيل بوصية موسى، كذلك وعد الله محمدا صلى الله عليه وسلم ليظهره على الدين كله ووعد بفتح الشام على ما قرىء ( غلبت الروم( على البناء للفاعل ( في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم( أي بعدما غلبوا على الفارس ( سيغلبون( على البناء للمفعول أي سيغلبهم المسلمون ( في بضع سنين وعد الله لا يخلف الله وعده( ولم يتيسر ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف الله أبا بكر وعمر وأنجز وعده حين قاتل أبو بكر بني حنيفة ومن ارتد من العرب وفتح الشام في خلافة عمر حين غزاهم في السنة التاسعة من غلبة الروم الذي كان يوم الحديبية في سنة ست من الهجرة وكون الوعد منجزا في خلافة عمر روى عن علي حين استشار عمر أصحاب النبي في المسير إلى العراف للجهاد فأشار علي بالجهاد متمسكا بهذه الآية، روى هذا القول عن علي بطرق متعددة في كتبنا وفي النهج البلاغة من كتب الروافض قول علي أن هذا الأمر لم يكن نصرته ولا خذلانه ولا قلة وهو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع من حيث طلع ونحن على موعود من الله حيث قال :( وعد الله الذين ءامنوا منكم( الآية، فالله منجز وعده وناصر جنده إلى آخر ما قال قرأ أبو بكر استخلف بضم الهمزة والتاء وكسر اللام على البناء للمفعول والباقون بكسر الهمزة وفتح التاء واللام على البناء للفاعل لقوله تعالى :( وعد الله الذين ءامنوا( ( وليمكنهن لهم دينهم الذي ارتضى( أي اختار ( لهم( قال ابن عباس يوسع لهم في ابلاد حتى يملكوها ويظهر ويظهر دينهم الإسلام على سائر الأديان ( وليبدلنهم( قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف وسكون الباء من الإبدال والباقون بالتشديد وفتح الباء من التبديل ( من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا( جملة يعبدونني حال من الذين آمنوا منكم لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد أو استئناف لبيان المقتضى للاستخلاف وقوله ( لا يشركون( حال من فاعل يعبدونني أو حال مرادف ليعبدونني من الموصول، قال أبو العالية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في زمان أبو بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فينا وقعوا وكفروا النعمة، قال أبو العالية مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الوحي هشر سنين مع أصحابه وأمروا بالصبر على أذى الكفار ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه فقال رجل منهم ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت هذه الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء قال فينا نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد فأنجز الله وعده وأبدلهم بعد الخوف أمنا وبسط لهم في الأرض وفيه دليل على صحة النبوة لكونه إخبارا عن الغيب على ما صار الأمر إليه وصحة خلافة الخلفاء الراشدين إذ لو لم يكن المراد خلافة الخلفاء الراشدين لزم الخلف في وعد الله إذ لك يجتمع الموعود والموعود لهم إلا في زمنهم وصحة مذهب أهل السنة وكونه دينا ارتضاه الله، وبطلان مذهب الروافض حيث قالوا :/ الأئمة خائفون إلى اليوم حتى لم يظهر المهدي وهو مختف لخوف الأعداء وقولهم إنه سينجز الله وعده حين يظهر المهدي باطل بأباه كلمة منكم في الآية وأي ظهور للدين إن ظهر بضع سينين بعد الف ومائة ما أجهلهم عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" الخلافة بعدي ثلاثون ثم يكون ملكا ثم قال يعني سفينة أمسك خلافة أبي بكر سنين وخلافة عمر عشر أو خلافة عثمان اثنتي عشر وخلافة علي سنة " ٢ وعن عدي بن حاتم قال " بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة وأتى إليه آخر فشكى إليه قطع السبيل فقال : يا عدي هل رأيت بحيرة ؟ قلت لم أرها وقد أثبتت عنها قال : فإن طالت بك الحياة فلترين الظغينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا إلإ الله ( قلت فيما بيني وبين نفسي فأين قد سعروا البلاد ) ولئن طالت بك الحياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحياة ترين الرجل يخرج ملأ كفه من ذهب وفضة يطلب من قيبل منه ويلقين أحدكم ربه يوم يلقاه وليس بينه وبين ترجمان يترجم له فيقول ألم أبعث إليك رسولا ليبلغنك فيقول : بلى فيقول : ألم أعطك مالا وأفضل عليكم فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم قال عدي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" اتق النار ولو بشق ثمرة فمن لم يجد شق ثمرة فبكلمة طيبة قال عدي فرأيت الظغينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحياة لترين ما قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج الرجل ملء كفه فلا يجد أحد يقبله ". ٣
( ومن كفر بعد ذلك( أي ارتد أو كفر النعمة ولم يشكر بعد تمكين المؤمنين واستخلافهم وتأييد دينهم الذي ارتضى لهم ( فأولئك هم الفاسقون( الخارجون عن الإيمان أو عن حد الطاعة، قال البغوي قال أهل التفسير ؟أول من كفر بهذه النعمة وجحد بها الذين قتلوا عثمان فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل الخوف حتى صاروا يقتتلون بعدما كانوا إخوانا روى البغوي بسنده عن حميد بن هلال قال قال عبد الله بن سلام في عثمان إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم فوالله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبدا فوالله لا يقتله رجل منهم إلا لقي الله أجذم لا يدله وإن سيف الله لم يزل مغمودا والله لئن يسأله الله لا يغمده عنكم ( ما قال أبدا أو إما قال إلى يوم القيامة ) فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا ولا خليفة إلا قتل به خمسون وثلاثون ألفا قلت ثم كفر. . . . باستخلاف الخلفاء طوائف الروافض والخوارج ويمكن أن يكون قوله تعالى :( ومن كفر بعد ذلك( إشارة إلى يزيد بن معاوية حيث قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أهل بيته النبوة وأهان عترته وافتخر به وقال هذا يوم بيوم بدر وبعث جيشا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما فعل في وقعة الحرة بالمدينة وبالمسجد الذي ( أسس على التقوى من أول يوم( وهو روضة من رياض الجنة ونصب المجانيق على بيت الله تعالى وقتل ابن الزبير ابن بنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما فعل حتى كفر بدين الله وأباح الخمر
١ سورة المائدة الآية: ٢٦..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في الخلافة (٢٢٢٦)..
٣ اخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب:/ علاماتا النبوة في الإسلام (٣٥٩٥)..
قوله تعالى :( وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا الرسول( في سائر ما أمركم به ( لعلكم( أي لكي ( ترحمون( جملة أقيموا مع ما عطف عليه معطوف على قوله وأطيعوا الله فإن الفاصل وعدج على المأمور به وتكرير الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وتعليق الرحمة بها
( لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض( أي معجزين الله عن إدراكهم في الأرض وإهلاكهم قرأ ابن عامر وحمزة لا يحسبن بالياء على الغيبة والموصول فاعل له أي لا يحسبن الكافرون أنفسهم معجزين والباقون بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والموصول مفعول الأول يعني لا تحسبهم معجزين ( ومأواهم النار( حال من الموصول أو عطف على لا تحسبن من حيث المعنى كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ( ومأواهم النار( ( ولبئس المصير( النار جملة لا تحسبن وعيد متصل بقوله ( ومن كفر بعد ذلك(.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان أنه كان لأسماء بنت مرثد غلاما وكثير ما يدخل عليها في وقت تكره دخوله عليها فيه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلمائنا يدخلون علينا في وقت نكرهها فأنزل الله عز وجل ( يأيها الذين ءامنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم( إلى تتمة الأحكام السابقة بعد ذكر ما يوجب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على ىالإعراض عنها والمراد بالخطاب الرجال والنساء جميعا غلب فيه الرجال وقال البغوي قال ابن عباس وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل ورأى عمر بحالة كره عمر رؤية ذلك الحال فأنزل الله هذه الآية ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم( يعني الذين لم يقربوا الحلم من الأحرار كما في قوله تعالى :( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف( ١ يعني قارين البلوغ فدخل في حكم المنع عن الدخول المراهق فإنه في حكم البالغ ( ثلاث مرات( أي ليستأذنوا في ثلاثة أوقات ( من قبل صلاة الفجر( لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة ( وحين تضعون ثيابكم( التي كانت لليقظة عند القيلولة ( من الظهيرة( بيان للحين ( ومن بعد صلاة العشاء( لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحف ( ثلاث عورات لكم( قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ثلاث بالنصب بدلا من قوله ( ثلاث مرات( والباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي ( ثلاث عورات لكم( وجاز أن يكون مبتدأ خبره ما بعده وقيل تقديره ثلاث ساعات انكشاف عورات لكم على حذف المضافين فالعورة على هذا بمعنى السوءة، وقال البيضاوي تقديره هي ثلاث أوقات تخيل فيها تستركم وأصل العورة الخلل وقيل أصل العورة من العار فتكنى بالعورة عن سوءة الإنسان لما يلحق من ظهوره العار أي المذمة ولذلك سمى النساء عورة ولذلك يقال العورة للكلمة القبيحة ويقال للشق من الثوب ويقال للخلل في البيت عورة للحوق العار به قال الله تعالى ( إن بيوتنا عورة( ٢ أي منخرقة فعلى هذا سميت الأوقات الثلاث عورات للحوق العار برؤية الإنسان فيهن غير مستتر وفي القاموس العورة الخلل في الثغر وغيره وكل ممكن للستر والسوءة والساعة التي هي قمن من ظهور العورة فيها هي ثلاث ساعات قبل صلاة الفجر وعند نصف النهار وبعد العشاء الأخيرة وكل أمر يستحى منه ومن الجبال شعوفها.
مسألة : مقتضى هذه الآية أنه لا يجوز لعبد وإن كان صغيرا عاقلا أن يدخل على سيده ولا لأمة أن تدخل على سيدتها واما دخول العبد البالغ أو المراهق على سيدته فممنوع في جميع الأوقات لقوله تعالى :( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم( ٣ ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن( ٤ الآية، والمماليك المستشهاة منها ثد ذكرنا أن المراد به الإناث دون الذكور وأما دخول الأمة على سيدها التي يجوز له وبها فجائز في كل وقت كالزوجة ولا يجوز لصغير عاقل أن يدخل في أحد هذه الأوقات بغير استشذان ويجوز لهم أن يدخول بغير االاستئذان في غير هذه الأوقات كما قال الله تعالى.
( ليس عليكم( أيها الذين تسكنون البيوت ( ولا عليهم( أي اللملوكين والأطفال الداخلين عليكم لخدمة ونحو ذلك ( جناح بعدهن( بعد هذه الأوقات الثلاث في ترك الاستئذان لدفع الحرج لمخالطتهم وكثرة دخولهم كما يدل عليه قوله تعالى :( طوافون عليكم( أي هم أي الأطفال والعبيد طوافون عليكم يدخلون ويخرجون كثيرا استئناف لبيان المرخص في الدخول بلا استئدان ( بعضكم على بعض( يعني بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض يدل من الجملة السابقة وبيان له جعل الله سبحانه العبيد والأطفال من جنتس أنفسهم لكثرة مخالطتهم فجعلهم بعض المخاطبين ( كذلك( أي تبينا مثل ذلك الاتبيين ( يبين الله لكم الآيات( أي آيات الأحكام ( والله عليم( بأحوالكم ( حكيم( فيما شرع لكم قال البغوي اختلف العلماء في حكم هذه الآية ؟ فقال قوم هو منسوخ قال ابن عباس لم يكن للقوم ستور ولا حجاب وكان الولائد والخدم يدخلون فربما يرون ما لا يحبون فأمروا بالاستئذان ثم بسط الله الرزق واتخذوا الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة روى سفيان عن موسى بن عائشة قال كط سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي قال : لا والله قلت : إن الناس لا يعملون بها قال : الله المستعان، وقال سعيد بن جبير في هذه الآية إن ناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قلت : والصحيح أنها غير منسوخة لكن الحكم بالاستئذان معلول باختلال التستر في تلك الأوقات كما يدل عليه قوله تعالى ( ثلاث عورات لكم( وهو الافرق بين تلك الأوقات وغيرها وعدم الحكم عند عدم العلة لا يكون نسخا فما وقع في كلام ابن عباس أنها منسوخة مبني على ىالتجوز فعلم أنه إذا كان من شأن الناس عدم اختلال التستر في تلك الأوقات لا يستلزمهم الاستئذان والله أعلم.
١ سورة البقرة الآية: ٢٣١..
٢ سورة الأحزاب الآية: ١٣..
٣ سورة النور الآية: ٣٠..
٤ سورة النور الآية: ٣١..
( وإذا بلغ( أي قارب البلوغ ( الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم( في الأوقات كلها الزوال المبيح للدخول بغير استئذان وهو المخالطة وكثرة الدخول وحكم هذه الآية يعم كل من يريد الدخول على الرجال أو النساء محرمات كن أو أجنبيات ويؤيده ما روى عن أبي سعيد الخذري قال :" أتانا أبو موسى فقال إن عمر رضي الله عنه أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت وقد قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فيرجع قال عمر أقم عليه البينة قال أبو سعيد فقسمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت " ١ متفق عليه، وعن عطاء بن يسار قال " أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أستأذن على أمي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استأذن عليها " فقال الرجل : إني خادمها فقال رسول صلى الله عليه وسلم استاذن عليها أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا قال : فاستأذن عليها " رواه مالك مرسلا، قال البغوي قال : سعيد بن المسيب يستأذن الرجل على أمه فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك وسئل حذيفة أيسأذن الرجل على والدته قال : نعم إن لم يفعل رأى ما يكره قلت : لعل الأمر بالاستئذان في هذه الآيةى للاستحباب دون الوجوب فمن أراد الدخول في بيت نفسه وفي محرماته يكره له الدخول فيه من غير استئذان تنزيها لاحتمال رؤيته واحدة منهن عريانة وهو احتمال ضعيف ومقتضاه التنزه عنه وأما الدخول في بيت غيره من غير استئذان فمحرم لا يجوز لقوله تعالى ( يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا( ٢ وكذا في بيت فيه نساء أجنبيات لا يجوز للرجل الدخول عليهن من غير استئذان لقوله تعالى :( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم( ٣ والله أعلم.
وقال البيضاوي استدل بهذه الآية من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته وجوابه أن المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم وكلام البيضاوي هذا يشعر اختلاف العلماء في وجوب العبد البالغ على سيدته بناء على اختلافهم في أن العبد عل هو محرم لسيدته كما قال به مالك والشافعي أو لا كما قال به أبو حنيفة فمن قال بكونه محرما فالاستئذان عنده مستحب كالاستئذان ( والقواعد(
١ أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان باب: التسليم والاستئذان ثلاثا (٦٢٤٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: الاستئذان (٢١٥٣)..
٢ سورة النور الآية: ٢٧..
٣ سورة النور الآية: ٣٠..
( والقواعد( مبتدأ ( من النساء( حال من ضمير الفاعل جمع قاعد وهي المرأة التي يئست عن الحيض والحمل ولأجل اختصاصها بالنساء جاء قاعد بغيرها كالحائض والحامل ( التي لا يرجون نكاحها( صفة للقواعد أي لا يطمعن فيه لكبرهن قال ربيعة يعني العجائز اللائي إذا رآهن الرجحال استقذروهن فأما منم كانت فيها بقية جمال وهي محل للشهوة فلا تدخل في هذه الآية ( فليس عليهن جناح( خبر للمبتدأ جيء بالفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ( أن يضعن ثيابهن( أي في أن يضعن بعض ثيابهم يدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب أن يضعن من ثيابهن فلا يجوز لها كشسف ظهرها وبطنها وما تحت سرتها لكن جاز لها كشف رأسها ووجهها وذرايعها ونحو ذلك ( غير متبرجات بزينة( وأصل البرج الظهور ومنه يقال البرج للركن والحصن وكواكب السماء والتبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم سفينة بارجة لا غطاء عليها والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا أنه خص في الاستعمال ينكشف المرأة زينتها وجمالها للرجال وقع في الحديث كانم رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال منها التبرج بالزينة لغير محلها قال صاحب الهداية التبرج إظهار الزينة للناس الأجانب وهو المذموم وأما للزوج فلا وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم لغير محلها وقوله تعالى :( غير متبرجات( حال من فاعل يضعن يفيد تقييد عدم الجناح في وضع ثياب العجائز إن يكون ذلك من غير إرادة إظهار الزينة للرجال فمن كانت منهن أرادت بها التبرج فذلك عليها حرام ( وأن يستغفلن( أي يطلبن من أنفسهن العفة وهي كف النفس عما لا يحل كذا في القاموس والمراد وأن يكففن أنفسهن عن وضع الثياب عند الرجال ( خير لهن( من وضعها لأنه قد يقضي إلى الفتنة والتستر البعد عن التهمة ( والله سميع( لمقالتهن للرجال ( عليم( بمقصودهن في وضع الثياب.
( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج( قال البغوي قال سغيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يتقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم فيقول الأعمى ربما أكل أكثر ويقول الأعرج ربما آخذ مكان اثنين فنزلت هذه الآية يعني ليس عليهم حرج في مؤاكلة الأصحاء قال البغوي وكذا أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه لما أنزل الله ( يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل( تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والأعمى والأعرج وقالوا : الطعام أفضل الأموال وقد نهانا الله تعالى عن أكل المال بالباطل والأعمى لا يبصؤر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة علىىالطعام والمريض يضعف عن التناول فأنزل الله هذه الآية إلى قوله :( مفاتحه( وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في يعني ليس عليكم حرج في الأعمى أي في مؤاكلته وقال سعيد بن المسيب كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح بيوتهم ويقولون قد أحللنا لكم أن اأكلوا مما في بيوتنا فكانوا يتحرجون ويقولون لا ندخلها وهم غيب فأنزل الله عز وجل هذه الآية رخصة لهم وقال الحسن نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء فغي التخلف عن الجهاد وقد تم الكلام ههنا وما بعده كلام منقطع عنه وهو قوله ( ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم( أي البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ودخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت ومالك ملك أبيك " ١ أخرجه الستة وابن حبان والحاكم عن عائشة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه " ٢ رواه أبو داود والدرامي من حديث عائشة وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة نحوه والمعنى ليس عليكم حرج أن تأكلوا من أموال أزواجكم وأولادكم كذا قال ابن قتيبة ( أو بيوت ءابائكم أو بيوت أمهاتكم ببيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خلائلكم أو ما ملكتم مفاتحه( قال ابن عباس عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في وضعيته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر وقال الضحاك يعني بيوت عبيدكم ومماليككم وذلك أن السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن لقوله تعالى :( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو( ٣ ويجوز أن يراد به ما يفتح به قال عكرمة إذ ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير، وقال السدي الرجل الذي يولي طعامه غيره ليقوم فلا بأس أن يأكل منه وأخرج البزار بسند صحيح عن عائشة قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى زمانهم ويقولون لهم قد أحللنا لكن أن تأكلوا مما أحببتم فكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أنهم أدنوا من غير طيب أنفسهم فأنزل الله هذه الآية وأخرج ابن جرير عن الزهري أن سئل عن قوله تعالى :( ليس على الأعمى حرج( ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا ها هنا ؟ قال : أخبرني عبيد تالله بن عبد الله قال إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب فأنزلت هذه الآية رخصة لهم وقال قوم :( أو ما ملكتم مفاتحه( ما خزنتموه عندكم وقال مجاهد وقتادة من بيوت أنفسكم مما خزنتموه وملكتم ( أو صديقكم( يعني بيوت صديقكم الذي صدقكم في المودة فإنه أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط قال البغوي قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيدج على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخرج الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس نحوه وذكر خالد بن زيد بدل مالك بن زيد قال البغوي وكان الحسن وقتادة يريان دخول بيت الصديق والتمتع بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية والمعنى فليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هعؤلاء إذا خلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا أو تتحملوا قيل : هذا الحكم كان في أول الإسلام فنسخ والصحيح أنه ليس بمنسوخ لكنه محمول على أن هذا الحكم مختص بما إذا علم رضاء صاحب البيت بإذن صريح أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء بالذكر فإنه يعتاد التبسط بينهم فالتخصيص بهؤلاء خارج مخرج العادة وإلا فمن دخل بيت أجنبي وعلم رضاه صاحب البيت يأكل طعامه بإذن صريح أو دلالة جاز له ذلك.
مسألة : وبهذه الآية الدالة على جريان العادة بالانبساط بين المحارم احتجت الحنفية على أنه لا قطع على من سرق من بيت ذي رحم محرم منه سواء كانت المسروق ماله أو مال غيره ويجب القطع على من سرق من بيت أجنبي مال ذي رحم محرم منه اعتبارا للتحرز وهدم فإن قيل : فعلى هذا لزم عدم القطع على من سرق من بيت صديقه أيضا بهذت الآية بعينها ؟ قلنا : الصدقة أمر عارض يوجد ويزول وقد عاداه بالسرقة فلم يبق الصداقة بخلاف القرية فإنها لا تزول والله أعلم.
وقال البغوي كانت العميان والعرجان والمرضى يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطمعهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمي الله في هذه الآية فأنزل الله عذه الآية، فعلى هذا معنى الآية ليس على الأعمى وأمثاله حرج ولا عليكم أن تأكلوا أنتم مع الأعمى وأمثالهم من بيوت أنفسكم وأولادكم وأزواجكم أو بيوت آبائكم إلى قوله أو صديقكم وقال البغوي قال عطاء الخراساني عن ابن عباس قال كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابة أو صداقة يدعوه إلى طعامه فيقول والله إني أجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وةأنت فقير فنزلت هذه الآية ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا( أيث مجتمعين أو متفرقين قال البغوي نزلت في بني ليث بن بكر وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضصيفا يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه افبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشار به فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل هذا قول قتادة والضحاك وابن جريح وأخرج ابن جرير عن عكرمة، وأبي صالح وذكر البغوي عنهما أيضا أنهما قالا : كانت الأنصار إذ نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلن رخصة لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا أو أشتاتا ( فإذا دخلتم بيوتا( من هذه البيوت أو من غيرها ( فسلموا على أنفسكم( أي ليسلم بعضكم على بعض فإنه يطلق الأنفس على جماعة متحدة دينا قد قال الله تعالى :( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم( ٤ ( ولا يلمزوا أنفسكم( ٥ ( ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهن خيرا( ٦ وقيل معناه إذا دخلتم بيوتا لكم لا أهل بها ( فسلموا على أنفسكم( يعني قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإن الملائكة ترد عليهم تحية مصدر من غير لفظة تسلموا فإن التحية هو التسليم روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيوك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله " ٧ الحديث، ( من عند الله( أي كائنة من عنده مشروعة من لدنه وجاز أن يكون صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عند الله ( مباركة( يعني مقرونة بذكر البركة وهي الزيادة في الخيرات فيقول السلام عليكم والبركة، وقيل وصف تحية السلام بالبركة لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب ( طيبة( أي لا رياء فيها ولا نفاق صادق من طيب النفس وقيل معناه تطيب بها نفس المستمع قال ابن عباس معنى مباركة طيبة حسنة جميلة، عن أنس رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك فإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل الضحى فإنها صلاة الأوابين " أخرجه البيهقي في شعب الإيمان والثعلبي وحمزة بن يوسف الجراجاني في تاريخ جرجان وسنده ضعيف قال البغوي هذه الآية في دخول الرجل في بيت نفسه فإنه يسلم على أهله ومن في بيته وهو قول جابر وطاووس والزهري والضحاك وقتادة وعمرو بن دينار قال قتادة إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم احق ممن سلمت عليهم وإذا دخلت بيتا لا أحد فيها فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين حدثنا. . . . أن الملائكة يرد عليهم وروى البيهقي في شعب افيمان عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، " إذا دخلتم بيتا فسلموا على أهلها وإذا خرجتم فأودعوا أهله بسلام " وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عبادنا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله.
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في هذه الآية قال : إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وعن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الإسلام خيرا ؟ قال :" اتطعم الطعام وتقرىء السلام على من عرفت ومن لم تعرف " ٨ متفق عليه وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للمؤمن على المؤمن ست خصال يعوده إذا مرض ويشهده إذا مات ويحييه إذا دعاه ويسلمه إذا لقيه ويشمته إذا عطس وينصح له إذا غاب أو شهد " ٩ رواه النسائي وروى الترمذي والبزار نحوه، وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " ١٠ رواه مسلم وعن أبي هريرة مرفوعا " يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير'١١ متفق عليهع وعنه عند البخاري " يسلم الصغير على الكبير " الحديث وعن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم " عشر " ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال " عشرون " ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال : ثلاثون " ١٢ رواه الترمذي وأبو داود وروى أبو داود عن معاذ بن أنس مرفوعا بمعناه وزاد ثم أتى آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال :" أربعون " é قال " وهكذا تكون الفضائل " وعن أبي أمامة مرفوعا " إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام " ١٣ وعن أبي هريرة مرفوعا " إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن له بدا له أن يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة " ١٤ رواه الترمذي وأبو داود وعن علي بن أبي طالب تجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم وتجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم ذكره البغوي في المصابيح موقوفا ورواه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعا ( كذلك يبين الله لكم الآيات( كرره ثالثا لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهو علم الله وحكمته وهذا بما هو المقصود منه فقال ( لعلكم تعقلون( الحق والخير في الأمور.
١ أخرجه ابن ماجة في كتاب: التجارات باب: ما للرجل من مال ولده (٢٢٩١)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الإجارة، باب: الرجل يأكل من مال ولده (٣٥٢٥)..
٣ سورة الأنعام الآية: ٥٩..
٤ سورة البقرة الآية: ٨٥..
٥ سورة الحجرات الآية: ١١..
٦ سورة النور الآية: ١٢..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأبناء باب: خلق آدم (٣٣٢٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (٢٨٤١)..
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في التسليم إذا دخل بيته (٢٦٩٨)..
٩ اخرجه النسائي في كتاب: الجنائز، باب النهي عن سب الأموات (١٩٢٩) وأخرجه الترمذي في كتاب: الآداب، باب: ما جاء في تشميت العاطس (٢٧٣٦)..
١٠ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سبب لحصولها (٥٤)..
١١ أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: يسلم الراكب على الماشي على الراكب (٥٨٧٨) واخرجه مسلم في كتاب /: السلام، باب: يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير (٢١٦٠)..
١٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كيف السلام (٥١٨٦) وأخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب باب: ما ذكر في فضل السلام (٢٦٨٩)..
١٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في فضل من بدأ السلام (٥١٨٨)..
١٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود (٢٧٠٦) وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في
السلام إذا قام من المجلس (٥١٩٩)..

أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا : لما أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر بالمدينة قائدها أبو سفيان وأقبلت غطفان حتى نزلوا بتقيين إلى جانب أحد وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فضرب الخندق على المدينة وعمل فيه وعمل المسلمون فيه وأبطأ رجال من المنافقين وجعلوا يزورون بالضعيف من العمل فيتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابد منها يذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له فإذا قضى به بشر فأنزل الله تعالى ( إنما المؤمنون( الآيات إلى آخر السورة ( الذين ءامنوا بالله ورسوله( من صميم قلوبهم دون من ( قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم( ١ ( وإذا كانوا معه على أمر جامع( وصف الأمر بالجامع مجازا للمبالغة والمراد على أمر يقتضي أن يجمع الناس لذلك الأمر كحفر الخندق والمشاورة والجهاد ونحو ذلك كالجمعة والأعياد ( لم يذهبوا( أي لم يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر ( حتى يستئذنوك( أي الرسول صلى الله عليه وسلم فيأذن لهم ولا حاجة ها هنا على القول بأن المراد بالمؤمنين الكاملون لأنه حكاية وأخبار عن حال المؤمنين الموجودين في ذلك الوقت وما به كانوا يمتازون عن المنافقين وقد كانوا كلهم كاملين في الإيمان وكان شأنهم ذلك دون المنافقين ولما كان عدم التخلق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع الشدة دليلا واضحا على صدق إيمانهم إعادة مؤكدا على أسلوب أبلغ فقال :( إن الذين يستئذنونك( لأجل ضرورة ( أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله( بصميم قلوبهم يعني أن المستأذن مؤمن لا محالة دون الذاهب بغير إذن ( فإذا استأذنوك لبعض شأنهم( الذي نابهم ودعاهم إلى الانصراف فيه مبالغة وتضييق للأمر يعني لا ينبغي للمؤمنين أن يستأذنوا لكل ما نابهم من النوائب بل لبعض ضروري منها لابد له من الانصراف ( فأذن لمن شئت منهم( قيد الأمر بالإذن بالمشيئة للدلالة على أن هذا أمر للإباحة وليس للوجوب ولو كان الإذن بعد الاستئذان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم بطل فائدة الاستئذان لأنه لا يعجز أحد عن الاستئذان وفيه دليل على أن بعض الأحكام كان مفوضا إلى رأيه صلى الله عليه وسلم وكذا إلى رأي الإمام ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن يكون تابعة لعلمه بصدقه فكان المعنى : فأذن لمن علمت أن له عذرا أو يكون الأمر الجامع قاصرا في اقتضاء الاجتماع أو كان المستأذن مستغنى عنه ( واستغفر لهم الله( يعني بعد الإذن فإن الاستئذان ولو بعد قصور لأن فيه تقديما لأمر الدنيا على أمر في سبب نزول هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد أحد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فأذن لمن شاء منهم قال مجاد وأذن الإمام لا يخالفونه ولا بيده قال أهل العلم وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذنه وإذا استأذنوا الإمام إن شاء الله أذن له وإن شاء لم يأذن هذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام فإن حدث سبب يمنعه من المقام مثل أن يكون امرأة في المسجد فتحيض فيه أو يجنب رجل أو عرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان.
١ سورة المائدة الآية: ٤٠..
( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا( يعني إذا دعاكم الرسول إلى أمر جامع أو غير ذلك فأجيبوا دعوته وامتثلوا أمره ولا تجعلوا دعوته إياكم كدعوة بعضكم بعضا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن فإن المبادرة إلى إجابته واجبة والمراجعة بغير إذنه حرام بخلاف غير ذلك، فهذه بهذا التأويل نظيرة لقوله تعالى :( يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم( ١ والإضافة في دعاء الرسول إضافة المصدر إلى فاعله والمفعول محذوف، وقال مجاهد والقتادة معنى الآية لا تجعلوا دعاءكم الرسول كدعاء بعضكم بعضا يعني لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا ولكن فخموه وشرفوه أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقالوا : يا نبي الله يا رسول الله، لكن هذا التأويل لا يناسب ما سبق وما يتلوه فإن الكلام في الخروج باستئذان وبغير استئذان وأيضا لا يناسبه نفس هذا الكلام لأن المشبه به هو الدعاء المضاف إلى الفاعل لكون المفعول به بعده منصوبا فلا بد أن يكون في المشبه أيضا الرسول فاعلا للدعاء لا مفعولا، وقال البغوي قال ابن عباس معنى الآية احذروا عن دعاء الرسول عليكم إذا أستخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، روى البخاري في الصحيح عن عائشة قالت : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليك قال وعليكم فقالت عائشة : السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك العنف والفحش " قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في " قلت : على هذا كان حق كلام لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض لكن يمكن على هذا معنى الآية : لا تجعلوا دعاء الرسول ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى، فإن دعاه مستجاب لا يرد لا محالة.
( قد يعلم الله الذين يتسللون( السل انتزاع الشيء من الشيء وإخراجه في اختفاء ولذلك يطلق على السرقة الخفية يقال : سل البعير في جوف الليل وانسل واستل أي انطلق وخرج في اختفاء كذا في القاموس والمعنى الذين يخرجون ( منكم( أي من بينكم مختفيا ( لواذا( مصدر لاود يلاوذ مولاذة ولواذا وليس من لاذ يلوذ فإن مصدر لياذ واللياذ الالتجاء بغيره والانضمام إليه ورد في الدعاء المأثور اللهم ألوذ بك واللواذ أن يلوذ كل واحد منهم بالآخر والمعنى أنهم يخرجون مستترين يلوذ بعضهم ببعض يخرج أو يلوذ بمن يؤذن في الخروج فيخرج معه كأنه تابعه في القاموس اللوذ بالشيء الاختفاء والاحتصان به كاللواذ مثلثة وكان هذا حال المنافقين في حفر الخندق على ما قال ابن إسحاق والبيهقي عن عروة ومحمد بن كعب القرظي كانوا. . . ينصرفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفين وقال ابن عباس كان المنافقين يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار ولواذا، منصوب على الحال ومعنى قوله : قد يعلم أنه يجازيهم فإن الجزاء فرع العلم.
( فليحذر( تفريغ على قوله ( قد يعلم الله( ( الذين يخالفون عن أمره( قيل عن زائدة والمعنى يذهبون سمتا خلاف سمته وقيل أورد عن لتضمين يخالفون معنى الإعراض أو المعنى يصدرون عن أمره دون المؤمنين من خالقه عن الأمر إذا صد عنه دونه وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه وجاز أن يكون عن أمره في محل النصب على الحال والمفعول محذوف تقديره اللذين يخالفون الرسول ويخالفون المؤمنين عن أمره وضمير أمره إما راجع إلى الله أو على الرسول صلى الله عليه وسلم ( أن تصيبهم فتنة( أي محنة وبلاء في الدنيا كذا قال مجاهد ( أو يصيبهم عذاب أليم( في الآخرة أن مع صلته في محل النصب على أنه مفعول ليحذروا يعني ليحذروا إصابة الفتنة أو إصابة العذاب الأليم وذلك بسبب المخالفة عن أمره وجاز أن يكون المفعول محذوفا تقديره : فليحذر الذين يخالفون عن أمره عن المخالفة لئلا يصيبهم فتنة أو عذاب أليم وهذه الآية حجة لقائلين بأن مطلق الأمر يعني ما لا قرينة على كونه للوجوب أو للندب أو غير ذلك يكون للوجوب فحسب وليس مشتركا بين الوجوب والندب على ما تقل الشافعي أو بينهما وبين الإباحة أو بين الثلاثة وبين التهديد على ما ذهب إليه الشيعة ونقل عن ابن شريح فإن خوف الفتنة والعذاب لا يتصور إلا في ترك الواجب أو ارتكاب المحرم.
١ سيورة الأنفال الآية: ٢٤..
( ألا إن الله ما في السموات والأرض( خلقا وملكا ( قد يعلم ما أنتم عليه( من الإيمان والنفاق والموافقة والمخالفة فهو خطاب لجميع المكلفين وجاز أن يكون خطابا للمنافقين خاصة على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وجملة قد يعلم تقرير لما سبق لأن الذي هو خالق ومالك لكل شيء لابد أن يعلم أحوال مخلوقاته ومملوكاته ( ويوم يرجعون إليه( أي يوم يرجع الناس للجزاء إلى الله تعالى فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ( فينبئهم بما عملوا( من الخير والشر بإيفاء الجزاء والظرف يعني يوم يرجعون متعلق بقوله : ينبئهم والفاء زائدة كما في قوله تعالى :( لإيلاف قريش لإيلافهم الشتاء والصيف فليعبدوا( ١ وجاز أن يكون الظرف معطوفا على ظرف محذوف متعلق بقوله قد يعلم ما أنتم عليه تقديره : قد يعلم ما أنتم عليه اليوم ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا ( والله بكل شيء عليم( لا يخفى عليه منكم خافية، روى البغوي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن بالمغزل وسورة النور " ٢ صدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم أجمعين.
تمت سورة النور سادس والعشرين من رمضان من السنة الرابعة بعد ألف ومائتين ويتلوه سورة الفرقان إن شاء الله تعالى.
١ سورة قريش الآية: ١-٣..
٢ رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن إبراهيم الشامي قال الدراقطني كذاب انظر مجمع الزوائد في كتاب: البيوع، باب: صناعة النساء (٦٤٣٠)..
Icon