ﰡ
[المجلد الخامس]
سورة صمكية، أو: سورة داود. وآيها: ست أو ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله تعالى: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ «١» مع قوله: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، فأخبر عنهم أولا أنهم لو نزل عليهم الذكر لأخلصوا فى الإيمان، فلما نزل كفروا به، وتعززوا عنه، قال تعالى:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)يقول الحق جلّ جلاله: ص أي: أيها الصادق المصدوق. وقال القشيري: معناه: مفتاحُ اسمه الصادق، والصبور، والصمد. أقسم بهذه الأسماء، وبالقرآنِ ذِي الذِّكْرِ أي: ذي الشرف التام، الباقي، المخلَّد لمَن تمسّك به، أو: ذي الوعظ البليغ لمَن اتعظ به، أو: الذكر للأمم والقصص والغيوب. أو: يراد به الجميع.
وجواب القسم: محذوف، أي: إنه لكلام معجز، أو: إنه لَمن عند الله، أو: إن محمداً لصادق، أو: ما الأمر كما يزعمون، أو: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقيل: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أو: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، وهو بعيد.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش فِي عِزَّةٍ تكبُّر عن الإذعان لذلك، والاعتراف بالحق، وَشِقاقٍ خلاف لله ولرسوله. والإضراب عن كلام محذوف يدل عليه جواب القسم، أي: إن كفرهم ليس عليه برهان، بل هو بسبب العزة، والعداوة، والشقاق، وقصد المخالفة. والتنكير في «عزة وشقاق» للدلالة على شدتهما وتفاقمهما.
وقرىء «في غِرَّةٍ» «٢» أي: في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق.
ثم هدّدهم بقوله: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل قومك مِنْ قَرْنٍ من أُمّة أو جيل، فَنادَوْا أي: فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي: وليس الوقت وقت خلاص ونجاة وفرار،
(٢) هى قراءة حماد بن الزبرقان. انظر مختصر ابن خالويه ص ١٣٠.
الإشارة: افتتح الحق جلّ جلاله هذه السورة، التي ذكر فيها أكابر أصفيائه، بحرف الصاد، إشارة إلى مادة الصبر، والصدق، والصمدانية، والصفاء إذ بهذه المقامات ارتفع مَن ارتفع، وبالإخلال بها سقط مَن سقط.
فبالصبر على المجاهدات تتحقق الإمامة والقدوة، وبالصدق في الطلب يقع الظفر بكل مطلب، وبالصمدانية تقع الحرية من رقّ الأشياء، وبالصفاء تحصل المشاهدة والمكالمة، فكأن الحق تعالى أقسم بهذه الأشياء وبكتابه العزيز إن المتكبرين على أهل الخصوصية ما أنكروا إلا جُحوداً وعناداً، وتعزُّزاً واستكباراً، لا لخلل فيهم، ثم أوعدهم بالهلاك، كما أهلك مَن قبلهم، فاستغاثوا حين لم ينفعهم الغياث.
ثم ذكر تعجبهم من كون المنذر منهم، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤ الى ٧]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَعَجِبُوا أي: كفار قريش من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ رسول من أنفسهم، استبعدوا أن يكون الرسول من البشر. قال القشيري: وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ منهم، ولم يعجبوا أن يكون المنحوت إلهاً لهم، وهذه مناقضة ظاهرة. هـ. يعني: لأن المستحق للإعجاب إلهية المنحوت من الحجر، لا وجود منذر من البشر، وهم عكسوا القضية. وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أي: ساحر فيما يُظهر من المعجزات، كذَّاب فيما يدَّعيه من الرسالة. وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالكفر، وغضباً عليهم، وإشعاراً بأن كفرهم هو الذي جسرهم على هذه المقالة الشنعاء.
قال القشيري: لم تباشر خلاصةُ التوحيد قلوبَهم، وبُعدوا عن ذلك تجويزاً، فضلاً عن أن يكون إثباتاً وحكماً، فلا عَرَفُوا أولاً معنى الإلهية فإن الإلهية هي القدرة على الاختراع. وتقديرُ قادِرَيْن على ذلك غيرُ صحيح لِمَا يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، وذلك يمنع من كمالها، ولو لم يكونا كامِلَي الوصفِ لم يكونا إِلَهيْن، وكلُّ مَن جرّ ثبوته لسقوطه فهو مطرح باطل. هـ.
رُوي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون، وشقّ على قريش، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب، وقالوا: أنت كبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء- أي: الذين دخلوا في الإسلام- وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تَمِلْ كل الميل على قومك، فقال- عليه الصلاة والسّلام- «ماذا يسألونني» ؟ فقالوا:
ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا، وندعك وإلهك، فقال- عليه الصلاة والسّلام: «أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم»، قالوا: نعم، وعشراً «١». قال: «قولوا: لا إله إلا الله» فقاموا، وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «٢». قيل: العجب: ما له مِثل، والعجاب: لا مثل له.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي: وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبي طالب، بعد ما بكّتهم رسول الله ﷺ بالجواب، وشاهدوا تصلبه- عليه الصلاة والسّلام- في الدين، وعزيمته على إظهاره، ويئسوا مما كانوا يرجونه، بتوسُّط أبي طالب، من المصالحة على الوجه المذكور، قائلين أَنِ امْشُوا و «أنْ» تفسيرية لأن المنطلقين عن
(٢) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (١/ ٢٢٧، ٣٦٢) والترمذي وحسّنه فى (التفسير- سورة ص، ح ٣٢٣٢) والنّسائى فى الكبرى (التفسير ٤/ ٤٥٦) وابن حبان (الموارد ح ١٧٥٧) والطبري فى التفسير (٢٣/ ١٢٥) والبيهقي فى السنن (٩/ ١٨٨). والواحدي فى الأسباب (ص ٣٨٠) وصحّحه الحاكم (٢/ ٤٣٢) ووافقه الذهبي. عن ابن عباس رضي الله عنه.
ليس المراد بالانطلاق المشي، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف، بل الاستمرار على المشي، يعني أنه على هذا القول: عبارة عن تفرُّقهم في طُرق مكة، وإشاعتهم للكفر. هـ. أي: امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي: اثبتوا على عبادتها، متحمِّلين لِما تسمعون في حقها من القدح.
قال القشيري: إذا [تواصى] «١» الكفارُ فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمأمنون أَوْلى بالصبر على عبادة معبودهم، والاستقامة في دينهم. هـ.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي: هذا الذي شاهدناه من محمد ﷺ من أمر التوحيد، وإبطال أمر آلهتنا، لشيء يُراد إمضاؤه وتنفيذه، من جهته- عليه الصلاة والسّلام- لا محالة، من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يُقال من طرف اللسان، وأمر تُرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه، بواسطة أبي طالب وشفاعته، وحسبكم ألا تُمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية، فاصبروا عليها، وتحمَّلوا ما تسمعون في حقها من القدح وسوء المقالة، أو: إنَّ هذا الأمر لشيء يريده الله تعالى، ويحكم بإمضائه، فلا مرد له، ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو: إنَّ هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر، يُراد بنا، فلا انفكاكَ لنا منه، أو: إن دينكم لشيء يُراد، أي: يُطلَبُ ليؤخذ منكم وتُغلَبوا عليه، أو: إن هذا الذي يدَّعيه من التوحيد، ويقصده من الرئاسة، والترفُّع على العرب والعجم، لشيء يُتمنى، ويريده كلُّ أحد. فتأمّل هذه الأقاويل، واختر منها ما يساعده النظم الجليل.
ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله من أمر التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي: في ملة عيسى، التي هي آخر الملل لأن النصارى مثلثة غير موحدة، أو: في ملّة قريش التي أدركنا عليها آباءنا، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالاً من «هذا»، أي: ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهّان كائناً في الملة المترقبة. ولقد كذّبوا في ذلك أقبح كذب فإن حديث البعثة والتوحيد، وإبطال عبادة الأصنام، كان أشهر الأمور قبل الظهور. إِنْ هذا أي: ما هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي: كذب، اختلقه من تلقاء نفسه.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨ الى ١١]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي: القرآن: مِنْ بَيْنِنا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم. أنكروا أن يُختص بالشرف من بين أشرافهم، وينزل عليه الكتاب من بينهم، حسداً من عند أنفسهم، كقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «٢». وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد، وقصر النظر على الحطام الدنيوية، والعياذ بالله.
(٢) الآية ٣١ من سورة الزخرف.
الإشارة: هذه عادة الله تعالى في خلقه، كل مَن يأمر الناس بالتجريد، وخرق العوائد، وصريح التوحيد، وترك ما عليه الناس من جمع الدنيا، وحب الرئاسة، والجاه، أنكروه، وسفَّهوا رأيه، وقالوا فيه: ساحر كذَّاب. ويقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على ما أنتم عليه، من جمع الدنيا، والخدمة على العيال، وعلى ما وجدتم عليه أسلافكم، من الوقوف مع العوائد، ما سمعنا بهذا الذي يدلّ عليه هذا الرجل من ترك الأسباب والانقطاع إلى الله في هذا الزمان، إن هذا إلا اختلاق، أأُنزلت عليه الخصوصية من بيننا، ولم يعلموا أنَّ الله يختص برحمته مَن يشاء، ويبعث في كل زمان مَن يُجدد الدين بتربية مخصوصة. والله تعالى أعلم.
ثم رَدّ عليهم بقوله:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ...
يقول الحق جلّ جلاله: بَلْ هُمْ أي: كفار قريش فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن، أو الوحي، لميلهم إلى التقليد، وإعراضهم عن النظر في الأدلة المؤدية إلى علم حقيقته، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي: بل لَمَّا يذوقوا عذابي الموعود في القرآن، ولذلك شكُّوا فيه، فإذا ذاقوه زال ما بهم من الشك والحسد حينئذ، أي: إنهم لا يُصدِّقون به إلا أن يمسّهم العذاب، فحينئذ يُصدّقون، ولات حين تصديق.
وفي إضافة اسم الرّب المنبئ عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميرة- عليه الصلاة والسّلام- من تشريفه واللطف به ما لا يخفى.
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي: بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية، ويتحكّموا في التدابير الإلهية، التي اختصّ بها رب العزّة والكبرياء؟ ثم تهكّم بهم غاية التهكُّم فقال: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ، وهو جواب عن شرط مقدر، أي: إن كان لهم ما ذكر من الملك، ويملكون التصرُّف في قسمة الرحمة، فليصعَدوا في المعارج والطُرق التي يتوصّل بها إلى السماء، حتى يُدبروا أمر العالم وملكوت الله، فيُنزلون الوحي إلى مَن يختارون ويستصوبون. والسبب، في الأصل: ما يتوصل به إلى المطلوب.
ثم وعد نبيه- عليه الصلاة والسّلام- بالنصر عليهم بقوله: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي: هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل مَهْزُومٌ مكسور عما قريب، فلا تُبالِ بما يقولون، ولا تكترث بما يَهْذُون. و «جُند» : خبر، أو: مبتدأ، و «مهزوم» : خبره و «مَّا» : صلة مقوّية للنكرة. أو: للتقليل والتحقير.
و «من الأحزاب» : متعلق بجند، أو: بمهزوم، و «هنالك» : إشارة إلى بدر ومصارعهم، أو: إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمَن ينتدب لأمر وليس من أهله: لست هنالك.
الإشارة: يُقال في جانب أهل الغفلة: بل في شك من حلاوة ذكري ومعرفتي، حيث لم يذوقوا. قال إبراهيم ابن أدهم رضي الله عنه: (خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا شيئاً، قيل: ومافاتهم؟ قال: حلاوة المعرفة). بل لَمَّا يذوقوا عذابي، هو وبال القطيعة والبُعد، والانحطاط عن درجات المقرَّبين، وسيذوقونه إذا تحققت الحقائق، حيث لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلا مَن أتى الله بقلب سليم. ويقال في جانب من حسد أهل الخصوصية: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ... الآية.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٢ الى ١٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ نوحاً، وَعادٌ هوداً وَفِرْعَوْنُ موسى، ذُو الْأَوْتادِ، قيل: كانت له أربعة أوتاد وحبال يلعب بها أو عليها بين يديه، وقيل:
كان يوتّد مَن يعذب بأربعة أوتاد في يديه ورجليه، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يرسل عليه عقارب وحيّات.
وقيل: معناه: ذو المُلك الثابت، من: ثبات البيت المُطَنَّب «١» بأوتاده، فاستعير لرسوخ السلطنة، واستقامة الأمر، كقول الشاعر:
ولقد غَنَوا فيها بأَنْعَمِ عيشةٍ | في ظلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ «٢» |
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أي: ما كل أحد من آحاد أولئك الأحزاب، أو: ما كل حزب منهم إلا كذّب الرسل لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم لاتفاق الكل على الحق، أو: ما كل حزب إلا كذَّب رسوله، على نهج مقابل الجمع بالجمع. وأيًّا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم [العلل] في خبر المبتدأ، أي: ما كل أحد منهم محكوم عليه بحكم إلا أنه كذب الرسل، فَحَقَّ عِقابِ أي: فوجب لذلك أن أُعاقبهم حق العقاب، التي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات.
طنب. انظر اللسان (٤/ ٢٧٠٨).
(٢) البيت للأسود بن يعفر. انظر غريب القرآن لابن قتيبة (٢/ ١٠٠) ومعانى القرآن للنحاس (٦/ ٨٥).
(٣) فى الأصول الخطية [الغيظة].
وأما ما قيل من أنها النفخة الأولى فمما لا وجه له لأنه لا يشاهد هولَها، ولا يصعَق بها إلا مَن كان حيًّا عند وقوعها. قاله أبو السعود.
ما لَها مِنْ فَواقٍ أي: مِن توقُّف مقدار فواق، هو ما بين حلبتي الحالب، أي: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان. وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد، من أفاق المريض: إذا رجع إلى الصحّة، وفواق الناقة: ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها. يريد: أنها نفخة واحدة، لا تثنى، ولا تردد. والفواق بمعنى التأخر، فيه لغتان: الفتح والضم، وأما ما بين حلبتي الناقة، فبالضم فقط.
الإشارة: ما جرى على مكذبي الرسل يجري في مكذِّبي الأولياء، إلاَّ أن عذابهم البُعد والطرد، وحرمان معرفة العيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر استعجالهم العذاب، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار مكة لَمَّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي: حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة. وفي القاموس: القِط- بالكسر: النصيب، والصَّك، وكتاب المحاسبة. هـ. أو: عَجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها، أو:
وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة.
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من أمثال هذه المقالات الباطلة. ثم سلاّه بما يقص عليه من خبر الأنبياء- عليهم السلام- الذين كانت بدايتهم أيام المحن، ثم جاءتهم أيام المنن، وبدأ بنبيه داود عليه السلام، فقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، فإنه كان في أول أمره ضعيفاً، يرعى الغنم، ثم صار نبيّاً مَلِكاً، ذا الأيادي العظام. وقوله: ذَا الْأَيْدِ أي: ذا القوة في الدين، والملكَ، والنبوة. يقال: فلان ذو يد وأيد وأياد، بمعنى القوة، وأياد كل شيء: ما يتقوّى به.
إِنَّهُ أَوَّابٌ: رجاع إلى الله في كل شيء، أو: إلى مرضاة الله تعالى. وهو تعليل لكونه ذا الأيد، ودليل على القوة فى الدين فإنه كان عليه السّلام يصوم يوما ويفطر يوماً، وهو أشدُّ الصوم، ويقومُ نصفَ الليل «٢»، مع مكابدة سياسة النبوة والمُلك والشهود، فقد أعطى القوة في الجهتين.
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ أي: ذللناها له، تسير معه حيث يريد. ولم يقل «له» لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق التفويض الكلي، كتسخير الرياح وغيرها لابنه، بل بطريق التبعية، والاقتداء به في عبادة الله تعالى. وقيل: مَعَهُ متعلق ب يُسَبِّحْنَ، أي: سخرناها تُسبِّح معه، إما بلسان المقال، يخلق الله لها صوتاً، أو:
بلسان الحال، أي: يقدس الله تعالى ويُنزهه عما لا يليق به. والجملة: حال، أي: مسبِّحات، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال، وتجدُّده شيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال، بِالْعَشِيِّ في طرفي النهار، والعشيّ:
وقت العصر إلى الليل وَالْإِشْراقِ، وهو حين تُشرق الشمس، أي: تضيء، وهو وقت الضحى، وأما شروقها- الثلاثي: فطلوعها، تقول: شرقت الشمس ولمّا تَشرق، أي: طلعت ولم تضيء. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية «٣». وعنه- عليه الصلاة والسّلام- أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى، وقال:
«هذه صلاة الإشراق» «٤».
(٢) أخرج البخاري فى (التهجد، باب من نام عند السحر، ح ١١٣١) ومسلم فى (الصيام، باب النّهى عن صوم الدهر ٢/ ٨١٦، ح ١٨٩) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السّلام وأحبّ الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما».
(٣) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٥٦٢) لسعيد بن منصور، بلفظ: طلبت صلاة الضحى فى القرآن، فوجدتها بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وانظر روايات أخرى تفيد هذا المعنى ذكرها السيوطي فى الدر.
(٤) أخرجه البغوي فى التفسير (٧/ ٧٦) عن ابن عباس بلفظ: قال- أي ابن عباس-: كنت أمرّ بهذه الآية لا أدرى ما هى حتى حدثتنى أم هانى بنت أبى طالب: إن رسول الله ﷺ دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلّى الضحى، فقال: «يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق».
مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح، وقيل: لداود، أي: يرجع لأمره.
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي: قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود. قيل: كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قال القشيري: ويقال: وشددنا ملكه بالعدل في القضية، وحسن السيرة في الرعية، أو: بدعاء المستضعفين، أو: بقوم مناصحين، كانوا يَدُلونه على ما فيه صلاح ملكه، أو: بقبوله الحق من كل أحد، أو:
برجوعه إلينا في عموم الأوقات. هـ. وقال ابن عباس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود، فقال المستعدي: إن هذا غصبني بقرتي، فجحد الآخر، ولم تكن له بينة، فقال داود: قُوما حتى أنظر في أمركما، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه: أن اقْتُل الرجل الذي استعدِيَ عليه، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثاً أن يقتله، أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل: أن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك، فقال: تقتلني بغير بينة؟ فقال: نعم، والله لأنفذنَّ أمرَ الله فيك، فلما عرف الرجلُ أنه قاتله، فقال: لا تعجل عليَّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذني بهذا الذنب، الذي هو السرقة، ولكني كنتُ قتلتُ أبا هذا غِيلة، وأخذتُ البقرة، فقتله داود، فقال الناس: إذا أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه فقتله، فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب هـ. «١».
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوة، وكمال العلم، وإتقان العمل، والإصابة في الأمور، أو: الزبور وعلم الشرائع. وكل كلام وافق الحق فهو حكمة. وَفَصْلَ الْخِطابِ علم القضاء وقطع الخصام، فكان لا يتتعتع في القضاء بين الناس، أو: الفصل بين الحق والباطل. والفصل: هو [التمييز] «٢» بين الشيئين، وقيل: الكلام البيِّن، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس، فصْل بمعنى مفصول، أو: الكلام البيِّن الذي يبين المراد بسرعة، فيكون بمعنى فاصل، والمراد: ما أعطاه الله من فصاحة الكلام، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، فى قضاياه
(٢) فى الأصول [التحيز].
الإشارة: فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك، وتسلّ بمَن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى، ففيهم أُسوة حسنة لمن كان يرجو الوصول إلى الله تعالى. وقوله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ... الخ. قال القشيري: كل من تحقق بحالة ساعده كل شيء. هـ. قلت: وفي الحِكَم: «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك» وبالله التوفيق.
ثم ذكر امتحان داود عليه السلام، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام، معناه التعجُّب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لأنه من الأنباء البديعة، والأخبار العجيبة. والخصم- في الأصل: مصدر، ولذلك يطلق على الواحد والجمع، كالضيف والزوْر. وأريد هنا اثنان، وإنما جمع الضمير بناء على أنَّ أقل الجمع اثنان. إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي: تصعّدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع، ونظيره: تسنمه: إذا علا سنمه. والمحراب:
رُويَ أنَّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، قيل: جبريل وميكائيل، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في عبادته، فمنعهما الحرس، فتسوّروا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه، جالسان، ففزع منهم لأنهم دخلوا عليه في غير يوم القضاء، ولأنهم نزلوا من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون مَن يدخل عليه. قال الحسن: جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أجزاء يوماً لنسائه، ويوماً للعبادة، ويوماً للقضاء، ويوماً للمذاكرة مع بني إسرائيل. فدخلوا عليه يوم عبادته.
فلما فزع قالُوا لا تَخَفْ، نحن خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي: ظلم وتطاول عليه، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ لا تَجُرْ، من: الشطط، وهو مجاوزةُ الحدّ وتخطي الحق، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته، والمراد: عين الحق وصريحه.
رُوي: أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسألُ بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته، فيتزوجها إذا أعجبته، وكان لهم عادة في المواساة بذلك. وكان في أول الإسلام شيء من ذلك بين المهاجرين والأنصار، فاتفق أنَّ عَيْنَ داودَ عليه السّلام وقعت عل امرأة أورِيا، وكانت جميلة، فأحبّها، فسأله النزولَ له عنها، فاستحيا أن يردّه، ففعل، فتزوجها، وهي أم سليمان فعُوتب في ذلك، وقيل له: إنك مع عظيم منزلتك، وكثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة، كان الواجب عليك مغالبةُ هواك، وقهر نفسك، والصبر على ما امتحِنْتَ به. وقيل:
خطبها أوريا، وخطبها داود، فآثره أهلها، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه «١». هـ.
ولعلم لم يكن محرماً في شرعهم، وإنما كان خلاف الأَولى.
وقال شيخ شيوخنا في حاشيته: لا يصح هذا في حق الأنبياء، وما يُحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة، وأحبّ أن يُقتل ليتزوجها، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء الناس، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء.
وقال علي- كرم الله وجهه-: مَن حدّثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصَّاص جلدتْه مائةً وستين «٢»، وهو
قوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وليس فى قصة داود وأوريا خبر ثابت.
وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (٤/ ٣١) : قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه.... فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عزَّ وجَلَّ، فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. وانظر: الإسرائيليات والموضوعات لأبى شهبة (٢٦٤- ٢٧٠).
(٢) قال الحافظ ابن حجر، فى الكافي الشاف: (رقم ٣٠٦) : لم أجده.
والذي يدلُّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب، فتزوجها، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض، دون التصريح لكونها أبلغ في التوبيخ، من قِبَل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرِّض به كان أوقع في نفسه، وأَشَدّ تمكُّناً من قلبه، وأعظم أثراً فيه، مع مراعاة حسن الأدب، بترك المجاهرة بالعتاب. قاله النّسفى.
ثم ذكر التعريض بقوله: إِنَّ هذا أَخِي في الدين، أو: في الصداقة، أو: الشركة. والتعبير به لبيان كمال قُبح ما فعل به صاحبه، لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً النعجة: الأنثى من الضأن، وقد يُكنى بها عن المرأة، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح «٢». وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ لا أملك غيرها، فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي:
ملِّكنيها، واجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وَعَزَّنِي غلبني فِي الْخِطابِ في الخصومة، أي: كان أقدر مني على الاحتجاج والمجادلة، أو: غلبني في الخِطبة، حيث خطبتُ وخطبَ، فأخذها، وهذا منهما تعريض وتمثيل، كأنهما قالا: نحن كخصمين هذه حالهما، فمثّلت قصة أورِيا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة، وخليطه له تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطه، وحاجّه في أخذها، محاججة حريص على بلوغ مراده. وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه، ليحكم بما حكم به من قوله:
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ، حتى يكون محجوجا بحكمه. وهو جوابُ عن قسم محذوف، قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه به، وتهجين طمعه في نعجة مَن ليس له غيرها، مع أنَّ له قطيعاً منها. ولعله عليه السلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادّعاه عليه، أو: بناه على تقدير صدق المدعي، أي:
إن كنت صدقت فقد ظلمك، والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم.
(٢) الظاهر: إبقاء لفظ النّعجة على الحقيقة، من كونها أنثى الضأن، ولا يُكنى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. انظر البحر المحيط (٧/ ٣٧٦).
واختلف في سبب امتحانه، قيل: لأنه تمنّى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقال: يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي، فأوحى إليه: إني ابتليتهم، فصبروا فابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ولده، وإسحاق بالذبح «١».
ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، وأنت لم تُبتل بشيءٍ، فقال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، فابتلي بالمرأة «٢». وقيل: إنه ادعى القوة، وقال: إنه لا يخاف من نفسه قط، فامتُحن، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب وَخَرَّ راكِعاً أي: ساجداً، على تسمية السجود ركوعاً، أو: خرَّ راكعاً مصلياً صلاة التوبة، وَأَنابَ أي: رجع إلى الله بالتوبة، رُوي: أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي، حتى نبت البقل من دموعه، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دموع، واشتغل بذلك عن المُلك، حتى وثب ابن له، يقال له: «إيشا» على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه. هـ.
وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك، خلافاً للشافعي، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل سجد عند قوله:
وَأَنابَ أو عند قوله: وَحُسْنَ مَآبٍ. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: أنه رأى في المنام شجرة تقرأ سورة «ص»، فلما بلغت: «وأناب» سَجَدَت، وقالت: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحطّ عني بها وزرا، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، فقال له- عليه الصلاة والسّلام- «وسجدتً أنت يا أبا سعيد؟» قلت: لا. قال: «كنتَ أحق بالسجود من الشجرة»، ثم تلى نبي الله الآيات، حتى بلغ: وَأَنابَ فسجد، وقال كما قالت الشجرة «٣».
(٢) انظر تفسير الطبري (٢٣/ ١٤٦) والبغوي (٧/ ٧٨).
(٣) أخرجه، عن ابن عباس، الترمذي فى (أبواب السفر، باب ما يقول فى سجود القرآن ٣/ ٤٧٢- ٤٧٣- ح ٥٧٩)، وابن ماجه فى (إقامة الصلاة والسنة، باب: سجود القرآن ١/ ٣٣٤، ح ١٠٥٣) والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي، (١/ ٢١٩- ٢٢٠) والبغوي فى تفسيره (٧/ ٨٦) قال- أي: ابن عباس-: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إنى رأيتى الليلة وأنا نائم كأنى أصلى خلف شجرة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودى.. إلخ الحديث. قال الترمذي: (وفى الباب عن أبى سعيد) قلت: حديث أبي سعيد الخدري عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٥٧٢) لأبى يعلى.
الإشارة: إنما عُوتب داود عليه السلام لأنه التفت إلى الجمال الحسي الفرقي، دون الجمال المعنوي الجمعي، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقي، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي، الذي هو جمال الحضرة القدسية، وعبارة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسى رضي الله عنه: عدَّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصُور إلى المقيد بهما، وهي مقام تفرقة، لا مقام جمع، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعاً، عن شهود فعله فرقاً، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم. هـ. قال القشيري: قال داود عليه السلام: يا رب إني أجد في التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرتب العالية، فأعطينها؟ فقال: إنهم صبروا لمّا ابتليتهم، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه، طمعاً في مثل تلك الرتب، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته، وأغلق أبوابه، ولم يُمكنه غلق باب السماء. وقد قال الحكماء: الهارب مما هو كائن في كف الطالب يتقلّب. ثم إنه كان في البيت كوة، يدخل منها النور، فدخل منها طير صغير، كأنه من ذهب، وكان لداود ولد صغير، فهمَّ أن يقبضه لابنه، فمازال يحاوله ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة، فامتحن بها، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل، وفي ذلك لأولي الأبصار عبرة. هـ.
وقال عند قوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ: التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة، والبكاء، والتضرُّع، والاستكانة، فوجد المغفرةَ والتجاوز. وهكذا مَن رَجع في أوائل الشدائد إلى الله، فالله يكفيه ويتوب عليه، و [كذلك] «٢» مَن صَبَرَ إلى حينِ طالت عليه المحنة. ويقال: إن زلة قدّرها عليك، توصلك إليه بندمك، أحرى بك من طاعة، إعجابك بها يُقصيك عن ربك. هـ. وفي الحِكَم: «معصية أورثت ذُلاً وافتقاراً، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً» وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل سوء أدب يُثمر لك حُسن أدب فهو أدب. هـ.
(٢) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
يقول الحق جلّ جلاله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي: استخلفناك على المُلك فيها، والحُكم فيما بين أهلها، أو: جعلناك خليفة عمَّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وفيه دليل على أنَّ حاله عليه السلام بعد التوبة، كما كان قبلها، لم يتغير قط، خلاف ما نقله الثعلبي من تغيُّر حاله وصوته، ومنع الطيور من إجابته، فانظره.
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ بحكم الله تعالى، إذ كنت خليفته، أو: بالعدل، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي: هوى النفس في الحكومات، وغيرها من أمور الدين والدنيا، بل قِفْ عند ما حدّ لك. وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعةُ هواه، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: فيكون الهوى، أو اتباعه، سبباً لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق، تكويناً وتشريعاً. و «يُضلك» : منصوب في جواب النهي، أو: مجزوم، فُتح لالتقاء الساكنين.
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريقه الموصلة إليه. وأظهر «سبيلَ الله» في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا بسبب نسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ فإنَّ تذكره وترداده على القلب يقتضي ملازمة الحق ومباعدة الهوى.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات على هذا النظام البديع باطِلًا أي: خلقاً باطلاً، عارياً عن الحكمة، أو: مبطلين عابثين، بل لحِكَم بالغة، وأسرارٍ باهرة، حيث خلقنا من بيْنها نفوساً، أودعناها العقل لتميز بين الحق والباطل، والنافع والضار، ومكنَّاها من التصرفات العلمية والعملية، في استجلاب
ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، الإشارة إلى خلق العبث، والظن بمعنى المظنون، أي: خَلْقُها عبثاً هو مظنون الذين كفروا، وإنما جُعلوا ظانين أنه خلقها للعبث، وإن لم يصرحوا بذلك لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث، والثواب، والحساب، والعقاب، التي عليها يدور فلك تكوين العالم، مؤدياً إلى خلقها عبثاً، جُعِلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم، فمَن جحده فقد جحده الحكمة في خلق العالم.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، الفاء سببية لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم، و «من النار» : تعليلية، كما في قوله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ «١» أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، «أم» : منقطعة، والاستفهام فيها للإنكار، والمراد أنه لو بطل الجزاء- كما تقول الكفرة- لا ستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة، ومَن سوّى بينهما كان سفيهاً، ولم يكن حكيماً، أي: بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتُّع فى الحياة الدنيا، بل الكفرة أوفر حظًّا فيها من المؤمنين، مع صبر المؤمنين، وتعبهم في مشاق الطاعات، لكن ذلك الجعل محال، فتعيّن البعث والجزاء لرفع الأولين إلى أعلى عليين، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين.
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يُساعده المقام، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين، هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين. وقيل: قالت قريش للمؤمنين: إنا نُعْطَى من الخير يوم القيامة مثل ما تعطون، فنزلت «٢».
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧/ ٨٧).
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، الهوى: ما تهواه النفس، وتميل إليه، من الحظوظ الفانية، قلبية كانت، كحب الجاه، والمال، وكالميل في الحُكم عن صريح الحق، أو: نفسانية، كالتأنُّق في المآكل، والمشارب، والمناكح.
واتباعُ الهوى: طلبُه، والسعي في تحصيله، فإن كان حراماً قدح في الإيمان، وإن كان مباحاً قدح في نور مقام الإحسان، فإن تَيسَّرَ من غير طلب وتشوُّف، وكان موافقاً للسان الشرع، جاز تناول الكفاية منه، مع الشكر وشهود المنَّة. قال عمرُ بنُ عبد العزيز: إذا وافق الحقُّ الهوى، كان كالزبد بالبرسام، أي: الكسر. وفي الحِكَم: «لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك» «١» وغلبة الهوى: قهره وسلطنته، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها.
وقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي: بل خلقناهما لنُعرف بهما، فما نُصبت الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها. وقد تقدم هذا مرارًا.
ولا ينال هذا المقام إلا بعبادة التفكر والتدبر، كما أشار إلى ذلك بقوله:
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٩]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
قلت: «كتابٌ» : خبر عن مضمر، أي: هذا، و «أنزلناه» : صفة له، و «مبارك» : خبر ثان، أو: صفة الكتاب، و «لِّيدبروا» : متعلق بأنزلناه.
وقرىء: لتدبروا على الخطاب «١»، أي: أنت وعلماء أمتك، بحذف إحدى التاءين. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي: وليتّعِظ به ذوو العقول الصافية، السليمة من الهوى، فيقفوا على ما فيه، ويعملوا به، فإنَّ الكتب الإلهية ما نزلت إلا ليُتدبر ما فيها، ويُعمَل به. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيدٌ وصبيان، لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده. هـ.
الإشارة: كتاب الله العزيز بطاقة من عند الملك، والمراد من البطاقة فَهْمُ ما فيها، والعمل به، لا قراءة حروفها ورسومها فقط، فمَن فعل ذلك فهو مقصّر.
وذكر في الإحياء أن آداب القراءة عشرة، أي: الآداب الباطنية:
الأول: فَهْمُ عظمة الكلام وعُلوّه، وفضل الله سبحانه بخلقه، في نزوله عن عرش جلاله، إلى درجة أفهام خلقه، فلولا استتار كُنه جلال كلام الله تعالى، بكسوة الحروف، لما ثبت لكلام الله عرش ولا ثرى، ولَتَلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه، ولولا تثبيت الله موسى عليه السلام ما أطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادر نوره.
الثاني: تعظيم المتكلم به، وهو الله سبحانه، فيخطر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كتابه غاية الخطر، ولهذا كان عكرمة إذا نشر المصحف غشي عليه.
الثالث: حضور القلب، وترك حديث النفس، فإذا قرأ آية غافلاً أعادها.
الرابع: التدبُّر، وهو وراء الحضور، فإنه قد لا يتفكّر في غير القرآن، ولكنه مقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبّره. قال علىّ رضي الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها.
الخامس: التفهُّم «٢»، وهو أن يستوضح كل آية ما يليق بها إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات الله تعالى، وذكر أفعاله، وذكر أحوال أنبيائه- عليهم السلام-، وذكر أحوال المكذّبين، وكيف أُهلكوا، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «مَن أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن»، أي: فإنه مشتمل على فعل الله، وصفاته، وكشف أسرار ذاته، لمَن تأمّله حق تأمله.
(٢) فى الأصول [التفهيم] والمثبت هو الذي فى الإحياء.
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ «١» أي: عن فهم آياتي. رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النقل عن ابن عباس وغيره، وأمَّا ما وراء ذلك تفسير بالرأي، فهذا أيضاً من أعظم الحُجب فإن القرآن العظيم له ظَاهرٌ وبَاطِنٌ، وحَدٍّ ومَطْلَع، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد، فهو بحر مبذول، يغرف منه كل واحد على قدر وسعه، إلى يوم القيامة.
السابع: التخصيص، وهو أن يعتقد أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمراً أو نهياً، قدر أنه المأمور والمنهي، وكذلك إن سمع وعداً ووعيداً، وإن سمع قصص الأولين عَلِمَ أن المقصود به الاعتبار، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه، ويتقوّى إيمانه، قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «٢» فالقرآن لم ينزل خاصّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين، فيثبت فؤاد كل مَن يسمعه.
الثامن: التأثير، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة، بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد، يتصف به قلبه من الخوف، والرجاء، والقبض، والبسط، وغير ذلك.
التاسع: الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله سبحانه، لا من نفسه، ولا من غيره. فدرجات القرآن ثلاث: أدناها: أن يُقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى، واقفاً بين يديه، فيكون حاله السؤال والتملُّق.
ثانيها: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يُخاطبه بألفاظه، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم. الثالثة:
أن يرى في الكلام المتكلِّم، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، بل يكون مقصور الهم على المتكلم، مستغرقاً في شهوده، وهذه درجة المقرَّبين، وما قبلها درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي الله عنه بقوله: والله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يُبصرون. هـ. وقال
(٢) الآية ١٢٠ من سورة هود.
العاشر: التبري، وهو أن يتبرأ من حوله، وقوته، والالتفات إلى نفسه بعين الرضا. انظر بقية كلامه فقد اختصرناه غاية.
ثم ذكر سليمان عليه السلام، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي: سليمان، فهو المخصوص، إِنَّهُ أَوَّابٌ أي: رجاع إلى الله تعالى في السرّاء والضراء، وفي كل أموره، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ أي: واذكر ما صدر عنه حين عُرض عليه بِالْعَشِيِّ وهو ما بين الظهر إلى آخر النهار، الصَّافِناتُ الْجِيادُ أي:
الخيل الصافنات، وهي التي تقوم على طرف سنبك يدٍ أو رِجل. وهي من الصفات المحمودة، لا تكاد توجد إلا في الخيل العِراب، الخُلَّص. وقيل: هو الذي يجمع يديه ويستبق بهما، والجياد: جمع جواد، أو: جود، وهو الذي يسرع في جريه، أو: الذي يجود عند الركض، وقيل: وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية، أي: إذا وقفت كانت ساكنة، وإذا جرت كانت سِراعاً خفافاً في جريها.
رُوِي أنه عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، وأصاب ألف فرس، وقيل: أصابها أبوه من العمالقة، وورثها منه، وفيه نظر فإن الأنبياء لا يورثون، إلا أن يكون تركها حبساً، فورث النظر فيها. ويكون عقرها بنية إبدالها. وقيل:
خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوماً بعد ما صلّى الظهر على كرسيه، فاستعرضها، فلم تزل تُعرض عليه حتى غربت الشمس، وغفل عن العصر، أو: عن الوِرد، كان له من الذكْر وقتئذ، وهو أليق بالعصمة، فاغتم لِما فاته، فاستردها، فعقرها، تقرُّباً إلى الله تعالى، وبقي مائة، فما في أيدي الناس اليوم مِن الجياد فمن نسلها «١».
وأما حمله على الصلاة والاشتغال بها حتى يفوت الوقت، فذنب عظيم، تأباه العصمة. قاله شيخ شيوخنا الفاسي.
وقد يُجاب بأنَّ تركه كان نسياناُ وذهولاً، لا عمداً، فلا معصية.
وعدّى «أحببتُ» ب «عن» دون «على» لتضمنه معنى النيابة، أي: أَنَبْتُ حبَّ الخير «١»، وهو المال الكثير، والمراد: الخيل التي شغلته عن ذكر ربه، حَتَّى تَوارَتْ أي: استترت بِالْحِجابِ أي: غربت واحتجبت عن العيون، و «عن» : متعلق بأحببت، باعتبار استمرار المحبة ودوامها. حسب استمرار العَرض، أي: أنبت حب الخير عن ذكر ربي، واستمر ذلك حتى غربت الشمس. وإضمارها من غير تقدُّم ذكرٍ لدلالة «العَشي» عليها.
رُدُّوها عَلَيَّ، هو من مقالة سليمان، فَطَفِقَ مَسْحاً، الفاء فصيحة، مفصحة عن جملة حُذفت، لدلالة الكلام عليها، إيذاناً بسرعة الامتثال، أي: فَردُّوها عليه، فأخذ يمسح السيف مسحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي: بسوقها وأعناقها يقطعها، من قولهم: مسح عنقه بالسيف، وقيل: جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها، حبّاً لها، وإعجاباً بها، وهو يُنافي سياق الكلام «٢».
الإشارة: لم يذكر الحق تعالى لسليمان ترجمة مخصوصة، كما ذكر لغيره بقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ، بل خرطه في سلك ترجمة أبيه، وجعله هبة له تنبيهاً على أن مقام أهل الجمال الدنيوي، لا يبلغ مقام أهل الجلال ففيه تنبيه على أن الفقير الصابر أعظم من الغني الشاكر. قاله في القوت.
وقوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ، فيه: أن مَن ترك شيئاً عوَّضه الله خيراً منه، فمَن كان في الله تلفه، كان على الله خلفه. وفيه حجة للصوفية على إتلاف كل ما شغل القلب عن الله، كما فعل الشبلي من تمزيق الثياب الرفهة «٣». والله تعالى أعلم.
(٢) وقيل معناه: أنه حبسها فى سبيل الله، وكوى سوقها وأعناقها بكىّ الصدقة. وهذا هو الذي رحجه أبو حيان، لأنه يناسب مناصب الأنبياء، لا القول الأول فإن فيه ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء. انظر البحر المحيط (٧/ ٣٨٠).
(٣) قال القرطبي فى تفسير (٦/ ٥٨٠٦) : وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية فى تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا، وهو استدلال فاسد، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبى معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا فى معنى الآية... وأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح، فإنه لا يجوز.. انظر بقية كلامه.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي: ابتليناه، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ سرير ملكه، جَسَداً شق ولد، أو جِنياً، ثُمَّ أَنابَ رجع إلى الله تعالى، وأظهر ما قيل في فتنته عليه السلام ما رُوي مرفوعاً: أنه قال: لأطُوفَنَّ الليلةَ على سبعين- أو تسع وتسعين- امرأةً، تأتي كل واحدة منهن بفارس، يُجاهد في سبيل الله، ولم يقل «إن شاء الله» فطاف عليهنَّ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشقّ رجل. قال نبينا عليه الصلاة والسّلام: «والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فُرساناً أجمعون» »
فالفتنة على هذا: كونه لم يقل: «إن شاء الله» والجسد هو شق الإنسان الذي وُلد له. وقيل: إنه ولد له ابن، فأجْمعَت الشياطين على قتله، وقالوا: إن عاش له ولد لم ننفك من خدمته، فلمَّا عَلِمَ ذلك، حمله في السحاب، فما شعر حتى ألقي على كرسيه جسدا ميتا، فتنبه لخطأه، حيث لم يتوكل على الله.
وقيل: إنه غزا صيدون من الجزائر، فقتل مَلِكها، وأخذ بنتاً له تُسمى جرادة، من أحسن الناس، فاصطفاها لنفسه، وأسلمت على جفاء، وأحبها، وكان لا يرقأ دَمْعها، جزعاً على أبيها، فأمر الشياطين فمثَّلوا لها صورته، فكانت تغدوا عليها وتروح مع ولائدها، فيسجدْنَ لها، كعادتهن في ملكه، فأخبره صاحبه آصف بذلك، فكسر الصورة، وعاقب المرأة، ثم خرج إلى فلاة، وفُرش له الرماد، وجلس عليه تائباً إلى الله متضرعاً. وكانت له أم ولد، يقال لها: «أمينة» إذا دخل للطهارة، أو لإصابة امرأة، يعطيها خاتمه، وكان فيها مُلكه، فأعطاها يوماً، فتمثّل لها بصورته شيطان، اسمه «صخر» وأخذ الخاتم، فتختّم به، وجلس على كرسيه، فاجتمع عليه الخلق، ونفذ حكمه في كل شيء، إلا في نسائه، على المشهور، وغُيرَ سليمان عن هيئته، فأتى «أمينة» لطلب الخاتم، فأنكرته وطردته، فعلم
قال القاضي عياض: الشياطين لا يتسلطون على مثل هذا، وقد عصم الله الأنبياء عن مثله. ومثله لا بن العربي أيضاً. وحكى إنكاره عن السمرقندي. وقال الطيبي: أشبه الأقاويل في إلقاء الجسد هو شق الولد، كما تقدّم. وخالفه ابن حجر، فقال: قال غير واحد من المفسرين: أن المراد بالجسد المذكور شيطان، وهو المعتمد، فالله أعلم، غير أن التنزيه أسلم.
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته: وليس هذه كقصة أيوب، فيما يذكر أنه تسلّط الشيطان على إتلاف ماله وولده، وضرره في جسده لأن ذلك إنما فيه تسلُّط على محض ضرر دنيوي لا دينى. وقد قال عليه الصلاة والسّلام: «تفلت عليّ البارحة عفريتٌ... » الحديث «٢». وكذا سُحر، وسُمّ وشُجّ. والتسلُّط المذكور في حق سليمان، فيه تلبيس في الدين فلا يصح، إلا أن يقال: إنه لم يقر، بل رُفع اللبس بعد ذلك، كما في آية: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ «٣»، والله أعلم هـ.
(٢) ولفظه كاملا: «إن عفريتا من الجن تفلت علىّ البارحة، ليقطع علىّ الصلاة، فأمكننى الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سوارى المسجد، تنظروا إليه كلكم. فذكرت دعوة أخى سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددته خاسئا» أخرجه البخاري فى (الأنبياء، باب قوله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ح ٢٤٢٣) ومسلم فى (المساجد، باب جواز لعن الشيطان فى أثناء الصلاة والتعوذ منه. ١/ ٣٨٤ ح ٥٤١) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٥٢ من سورة الحج.
قال القشيري: ويُقال: لا ينبغي لأحد من بعد أن يسأل المُلْك، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله- ومثله للجنيد، وزاد: فإن المُلْكَ شُغل عن المالك- أو: يقال: لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك، لا من الأنبياء، وإنما سأل المُلكَ لسياسة الناس، وإنصافِ بعضهم من بعض، والقيام بحقِّ الله، ولم يسأله لأجل مَيْلِه إلى الدنيا. وهو كما قال يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ... «١». ثم قال: عَلِمَ أن نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يلاحِظَ الدنيا، ولا يملكها، تحقيراً لها فقال: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا لأنه بَخِلَ به عليه، ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك.
هـ. هذا، وقد يُقال: إن قوله: وَهَبْ لِي مُلْكاً قد جرى على لسانه، كما هو حال النطق بالله من أهل الله، ولذلك كان الأمر كذلك، ولم يزاحمه أحد، كقول الخليل» : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا «٢»، لما جرى به القضاء أنطقه الله بما سيكون. وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين، جرياً على سنَن الأنبياء والصالحين، وكون ذلك أدخل في الإجابة.
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للدعاء بالهبة والمغفرة معاً، فإن المغفرة من أحكام وصف الوهَّابية قطعاً، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذللناها لطاعة، إجابة لدعوته، فعاد أمره عليه السلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة، قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين، وملك بعد الفتنة عشرين، فسخرت له الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ بيان لتسخيرها، رُخاءً أي: لينة، من الرخاوة، أو: طيبة لا تزعج، وهذا بعد أن تُقِلّ السرير من الأرض الإعصارُ، فإذا صار في الهواء حملته الرخاء الطيبة، حَيْثُ أَصابَ أي: قصد وشاء، بلغة حمير. تقول العرب: أصاب الصواب فأخطاء الجواب، أي: أراد الصواب فأخطأ. قال الشاعر:
أصَابَ الْكَلاَمَ فَلَمْ يَستَطِعْ | فأَخْطَا الجواب لدى المفصل |
(٢) من الآية ١٢٩ من سورة البقرة.
والصفد: القيد، وقد يسمى العطاء بالصفد لأنه ارتباط للمنعَّم عليه في يد المنعِم. ومنه قول علىّ رضي الله عنه: (مَن برَّك فقد أسرك، ومَن جفاك فقد أطلقك)، ومن هذا كانت الصوفية يهربون من خير الناس، أكثر مما يهربون من شرهم. قال الشيخ عبد السّلام بن مشيس لأبى الحسن الشاذلى- رضي الله عنهما: يا أبا الحسن اهرب من خير الناس، أكثر مما تهرب من شرهم، فإنَّ خيرهم يُصيبك في قلبك، وشرهم يُصيبك في بدنك، ولئن تُصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك. هـ.
هذا عَطاؤُنا، هو حكاية لما خُوطب به سليمان من قِبَل الحق تعالى، أي: وقلنا له هذا الذي أعطيناك من المُلك العظيم، والسلطنة، والتسلُّط على ما لم يُسلط عليه غيرُك، هو عطاؤنا الخاص بك، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي:
أعطِ مَن شئت، وامنع مَن شئت، بِغَيْرِ حِسابٍ أي: غير محاسَب على منِّه ومنعه لتفويض التصرُّف فيه إليك، فكان إذا أعطى أُجر، وإذا منع لم يأثم، بخلاف غيره. قال الحسن: إن الله لم يعطِ أحداً عطية إلا جعل فيها حساباً، إلا سليمان، فإن الله أعطاه عطاءً هيناً. وهذا مما خُصّ به سليمان عليه السلام، وأما غيره، فيؤخر على بذله، ويُعاقب على منعه من حقه، وبِغَيْرِ حِسابٍ: قيل: متعلق بعطاؤنا، وقيل: حال من المستكن في الأمر، أي:
هذا عطاؤنا جمّاً كثيراً، لا يكاد يقدر على حصره، أو: هذا التسخير عطاؤنا فامنن على مَن شئت من الشياطين بالإطلاق، أو: أمسك مَن شئت منهم في الوثاق، لا حساب عليك في ذلك.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربى فى الآخرة، مع ماله في الدنيا من الملك العظيم، وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع، وهي الجنة. وزُلفى: اسم إن، و «له» : خبر، و «عند» : متعلق بالاستقرار.
رُوي أن سليمان عليه السلام لما ورث مُلك أبيه، سار من الشام إلى العراق، فبلغ خبره كسرى، فهرب إلى خراسان، فلم يلبث حتى هلك. ثم سار سليمان عليه السلام إلى مرو، ثم إلى بلاد الترك، فأوغل فيها، ثم جاز بلاد الصين، ثم عطف إلى أن وافى بلد فارس، فنزلها أياماً، ثم عاد إلى الشام، فأمر بيناء بيت المقدس، فلما فرغ منه سار إلى تهامة، ثم إلى صنعاء، وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله، وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما.
انظر أبا السعود «١». والله تعالى أعلم.
نعمت المعصية أورثت الخلافة. وشاهده حديث: «أنا عند المنكسرة قلوبُهم من أجلي» «١». ومَن كان الله عنده، ماذا يفوته؟
وقوله تعالى: وَهَبْ لِي مُلْكاً.. الخ، قال القشيري: لم يطلب المُلكَ الظَاهر، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه، فإن المَلِكَ- على الحقيقة- مَن ملَك نفسَه، فمَن مَلِكَها لم يَتَّبعْ هواه، - أي: فيكون حرّاً، فيملكه الله التصرُّف في الوجود. ثم قال: ويُقال أراد به كمالَ حاله في شهود ربه، حتى لا يَرى معه غيرَه، ويقال: سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار. هـ.
وقوله تعالى: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ، هو عند الأولياء ليس خاصّاً بسليمان، ف كل مَن تمكَّن مع الله التمكُّن الكبير يُفوض إليه الأمر، ويقال: افعل ما شئت، وشاهده: حديث أهل بدر. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى: رضي الله عنه يبلغ الولي مبلغا يقال له: أصحبناك السلامة، وأسقطنا عك الملامة، فاصنع ما شئت. ثم استشهد بالآية في حق سليمان، هذا، وإن كان للنبي من أجل العصمة، فلمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه، من أجل الحفظة.
ثم ذكر أيوب عليه السّلام، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
عطف له، أَنِّي أي: بأني مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ «١» أي: تعب، وفيه قراءات بفتحتين، وبضمتين، وبضم وسكون، وبنصب وسكون. وَعَذابٍ أي: ألم، يريد ما كان يقاسيه من فنون الشدائد، وهو الضر في قوله: مَسَّنِيَ الضُّرُّ «٢»، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به، وإلا لقيل: إنه مسّه. وإسناده إلى الشيطان على طريق الأدب في إسناد ما كان فيه كمال إلى الله تعالى، وما كان فيه نقص إلى الشيطان أو غيره، كقول الخليل: وَإِذا مَرِضْتُ «٣» ولم يقل: أمرضني. وكقول يوشع عليه السلام: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ «٤». وفي الحقيقة: كلٌّ من عند الله. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه، من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بدفعه وردّه بالصبر الجميل.
ورُوي: أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتدّ أحدهم، فسأل عنه، فقيل: ألقى إليه الشيطان: أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فشكا ذلك إلى ربه. وذكر في سبب بلائه أنه ذبح شاة فأكلها، وجاره جائع، أو: رأى منكراً فسكت عنه، أو: استغاثه مظلوم فلم يغثه، أو: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه، فلم يغره، أو: سؤاله امتحاناً لصبره، أي: هل يصبر أم لا، أو: ابتلاه لرفع درجاته بلا سبب، وهو أولى «٥».
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام، أي: أرسلنا له جبريل عليه السلام بعد انتهاء مدة مرضة، فقال له: اركض، أي: اضرب برجلك الأرض، وهي أرض موضع بالجابية «٦»، فضربها، فنبعت عين، فقيل: هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي: هذا ما تغتسل منه، وتشرب منه، فيبرأ ظاهرك وباطنك، وقيل: نبعت له عينان حارة للاغتسال، وباردة للشرب، فاغتسل من إحداهما، فبرئ ما في ظاهره، وشرب من الأخرى، فبرئ ما في باطنه، بإذن الله تعالى. ومدة مرضه قيل: ثمان عشرة سنة، وقيل: أربعين، وقيل: سبع سنين، وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات «٧».
(٢) من الآية ٨٣ من سورة الأنبياء.
(٣) من الآية ٨٠ من سورة الشعراء. [.....]
(٤) من الآية ٦٣ من سورة الكهف.
(٥) انظر تفسير النّسفى (٣/ ١٥٧).
(٦) الجابية: موضع بالشام.
(٧) راجع (٣/ ٤٨٧) من هذا الكتاب.
أعطاه أمثالهم وزاده ضِعفهم. قال القشيري: وكان له سبع بنات، وثلاثة بنين، في مكتب واحد، فحرّك الشيطانُ الأسطوانةَ، فانهدم البيت عليهم. هـ. ولم يذكر كم كان له من الزوجات، فقد سلمت [منهن] «١» «رحمة» وهلك الباقي.
أعطيناه ذلك رَحْمَةً مِنَّا أي: رحمة عظيمة علية من قِبلنا. وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: ولنذكرهم بذلك ليصبروا على الشدائد، ويلتجئوا إلى الله فيما ينزل بهم لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه، لِصبره، رغَّبهم في الصبر على البلاء.
ولمّا حلف: لَيَضْربنَّ امرأته مائةَ ضربة، حيث أبطأت عليه في حاجتها. وقيل: باعت ذوائبها واشترت به رغيفين، وكانت متعلق أيوب. وقيل: طمع الشيطان فيها أن يسجد زوجُها له فيشفيه، أمره الله تعالى ببر يمينه، فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً حُزمة صغيرة من حشيش أو رَيحان، وعن ابن عباس رضي الله عنه: قبضة من الشجر، فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ، وهذه الرخصة باقية عند الشافعي وأبي حنيفة، خلافاً لمالك لأن الأَيْمَان عنده مبنية على الأعراف. قال تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ علمناه صابِراً على البلاء، وأما شكواه فليست جزعاً، بل رجوعاً إلى مولاه، على أنه عليه السلام إنما طلب الشفاء خيفة على قومه، حيث كان الشيطانُ يوسوس إليهم، لو كان نبيّاً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبقَ منه إلا القلب واللسان. قلت:
طلب الشفاء لا ينافي الرضا لأن العبد ضعيف، لا قوة له على قهرية الحق. ثم قال تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ رجَّاع إلى الله تعالى. قال القشيري: لم يشغله البلاء عن المُبْلِي. وهو تعليل لمرضه.
الإشارة: كثير من الصوفية اختاروا البلاء على العافية، وبعضهم اختار العافية، قال علىّ رضي الله عنه: لأَن أُعطَى فأَشكر أحبُّ إِليَّ من أن أُبتلى فأَصبرِ، أي: لأنه طريق السلامة، وبه وردت الأحاديث، والأولى للعبد ألا يختار مع سيده شيئاً، بل يكون مفوضاً مستسلماً، يتلقى ما يرد عليه بالترحيب، أيّ شيء كان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر إبراهيم وبنيه، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ أي: جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن، لا شوب فيها، هي ذِكْرَى الدَّارِ أي: تذكر للدار الآخرة على الدوام، فإنَّ خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم لها، وذلك لأن مطمح أنظارهم، ومسرح أفكارهم، في كل ما يأتون وما يذرون، جوار الله عزّ وجل، والفوز بلقائه، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا في الآخرة، فمطلبهم إنما هو الجوار والرؤية، لا مجرد الحضور في تلك الدار، كما قال ابن الفارض- رضي الله عنه:
ليسَ سُؤلي من الجِنَان نَعيماً | غيرَ أَنِّي أريدُها لأراكَ |
ومَن قرأ بالإضافة «٢»، فمن إضافة الشيء إلى ما بيَّنَهُ لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى، و «ذكرى» :
مصدر مضاف إلى المفعول، أي: بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل: خالصة بمعنى خلوص، وهي مضافة إلى الفاعل، أي: بأن خلصت لهم ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشيء آخر، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب.
(٢) أي: «خالصة» بغير تنوين، مضافا للبيان، كما فى «بشهاب قبس». وبها قرأ نافع وأبو جعفر. انظر الإتحاف (٢/ ٤٢٢)
الإشارة: أولياء هذه الأمة- أي: العارفون بالله- يزاحمون الأنبياء والرسل في جلّ المراتب، قال عليه السّلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» «١» أي: العلماء بالله فإنهم لم يقفوا مع دنيا ولا مع آخرة، بل حطُّوا هممهم على الله، ولم يقصدوا شيئاً سواه، خلعوا النعلين عن الكونين، وركضوا إلى المكوِّن، وكانت لهم اليد الطولى في عمل الطاعات عبوديةً، والبصيرة النافذة في مشاهدة الربوبية، هذه طريقهم، وهذا مذهبهم، ومَن حاد منهم عن هذا لم يعدّوه منهم. جعلنا الله ممن خرط فى سلكهم.
ثم ذكر بقية بنيه، فقال:
[سورة ص (٣٨) : آية ٤٨]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ، فصل ترجمته عن أبيه وأخيه للإشعار بعلو شأنه، واستقلاله بالشرف والذكر، ولعراقته في الصبر، الذي هو المقصود بالتذكير، وهو أكبر بنيه. وَاذكر الْيَسَعَ بن خطوب «٢» بن العجوز، استعمله إلياس على بنى إسرائيل، ثم استنبئ. و «ال» فيه، قيل: للتعريف، وأصله: يسع، وقيل: زائدة لأنه عجمي علَم، وقيل: هو يوشع، وَذَا الْكِفْلِ وهو ابن عم اليسع، أو: بشر بن أيوب. واختلف في نبوته وسبب لقبه، فقيل: فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل، خوفاً من القتل، فآواهم وكفلهم، وقيل: تكفل بعبادة رجل صالح كان في وقته. وَكُلٌّ أي: وكلهم مِنَ الْأَحْبارِ المشهورين بالخيرة.
الإشارة: إنما كان هؤلاء مصطفين أخياراً بالوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والصبر على طاعة الملك المعبود، وتحمُّل ما يقرب إلى حضرة الشهود. ف كل مَن اتصف بهذه الخصال كان من المُصْطَفَين الأخيار.
ثم ذكر عامة المؤمنين، أو: ما أعد لمن ذكر آجلا، بعد ذكرهم الجميل عاجلا، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣)
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
(٢) فى نسخة [قطوب].
الاستقرار في (للمتقين). و (الأبواب) : نائب الفاعل لمُفتَّحة. والرابط بين الحال وصاحبها: إما ضمير مقدّر، كما هو رأي البصريين، أي: الأبواب منها، أو: الألف واللام القائم مقامه، كما هو رأي الكوفيين، أي: أبوابها. و (متكئين) :
حال من ضمير (لهم)، والعامل فيه: (مفتحة). و (يَدْعُون) : إما استئناف، أو: حال مما ذكر، أو: من ضمير (متكئين).
يقول الحق جلّ جلاله: هذا أي: هذا الذي ذكر من الآيات الناطقة بمحاسن الأنبياء والرسل، ذِكْرٌ أي: شَرَفٌ لهم، وذِكْر جميل يُذكرون به أبداً، أو: نوع من الذكر، أي: القرآن. وآيٌ منه مشتمل على أنباء الأنبياء، أو: تذكير ووعظ لأنه يذكر أحوال الأكابر ليقتدي بهم، أو: ذكر مَن مضى الأنبياء، أو: شرف لك لأنه معجزة لك يدلّ على صدقك، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أي: جنس المتقين، أو: مَن ذكر مِن الرسل، عبّر عنهم بالمتقين مدحاً لهم بالتقوى إذ هي غاية الكمال. لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع.
ثم بيَّنه بقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ فإذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب، مُتَّكِئِينَ فِيها على أرائكهم في حِجالهم، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ مما يشتهون وَشَرابٍ كثير كذلك، حذف اكتفاء بالأول، والاقتصار على دُعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض [التفكُّه] «١» والتلذُّذ، دون التغذي والحاجة، فإنه لا تَحلُل في الأبدان ولا حاجة.
وَعِنْدَهُمْ حور قاصِراتُ الطَّرْفِ على أزواجهن، لا ينظرون إلى غيرهم، أَتْرابٌ لِداتٌ، أسنانُهنّ كأسنانهم. قيل: ثلاث وثلاثون سنة لكل واحد، أو: مستويات في الحُسن والجمال والشكل لأن التحابّ بين الأقران أبلغ وأثبت، وقيل: أتراب بعضهن لبعض، لا عجوز فيهن ولا صبية. واشتقاقه من التراب، فإنه [يمسَّهن] «٢» في وقت واحد.
(٢) فى الأصول الخطية [يمسهم].
الإشارة: كل مَن توجَّه إلى الله بكليته، واتصف بمحاسن الأخلاق، كان له ذكر وشرف في الدنيا، وكرامة في العُقبى، بما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم ذكر أضدادهم بقوله:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
قلت: (هذا) : خبر، أي: الأمر هذا، أو: مبتدأ أي: هذا كما ذكر، وهو من الاقتضاب «١» الذي يقرب من التخلص «٢»، كقوله بعد الحمد: أما بعد. قال السعد: هو من فصل الخطاب، الذي هو أحسن موقعاً من التخلُّص. قال:
وقد يكون الخبر مذكوراً كقوله: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ.. الآية. هـ. قال الطيبي: هو من فصل الخطاب، على التقدير الأول، لا الثاني. هـ. أي: إذا كان خبراً عن مضمر، لا ما إذا ذكر الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا أي: الأمر هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ مرجع جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها، حال من جهنم، فَبِئْسَ الْمِهادُ: الفراش، شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم، والمخصوص محذوف، أي: جهنم.
(٢) التخلص عند البلغاء: الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة. انظر محيط المحيط (ص ٢٤٨).
ما يَغسَق، أي: يسيل من صديد أهل النار، يقال: غَسَقت العين إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. قيل: «لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق، وقيل: الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله. وهو بالتخفيف والتشديد، قرىء بهما «٢».
وَآخَرُ أي: وعذاب آخر، أو: مذوق آخر، مِنْ شَكْلِهِ من مثل العذاب المذكور. وقرأ البصري:
«أُخَرُ» بالجمع، أي: ومذوقات أُخَرُ من شكل هذا العذاب في الشدّة والفظاعة، أَزْواجٌ أي: أصناف، وهو خبر لأخر، أو: صفة له، أو: للثلاثة.
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، حكاية لِمَا يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النار، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة. والاقتحام: الدخول في الشيء بشدة، أو: من كلام الطاغين بعضهم من بعض.
لا مَرْحَباً بِهِمْ، هو من تمام كلام الخزنة، على الأول، أو: من كلام الطاغين، دعاء منهم على أتباعهم. يُقال لمَن يدعو له أو يفرح به: مرحباً، أي: وجدت مكاناً رَحْباً، لا ضيقاً، ثم تدخل عليه النفي في دعاء السوء، فتقول:
لا مرحباً. و «بهم» : بيان للمدعو عليهم، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي: داخلوها. وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم.
وقيل: (هذا فوج... ) إلخ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة. و (لا مرحباً بهم... ) الخ، من كلام الرؤساء.
قالُوا أي: الأتباع: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي: الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به، وعلّلوا ذلك بقوله: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي: إنكم دعوتمونا للكفر، فتبعناكم، فقدمتمونا به للعذاب، فَبِئْسَ الْقَرارُ أي: بئس المقر جهنم، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم. قالُوا أي: الأتباع، معرَّضين عن خصومتهم، متوجهين إلى الله: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً أي: مضاعفاً. فِي النَّارِ أو: ذا ضعف، ومثله قوله: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً «٣»، وهو أن يزيد على عذابه مثله.
(٢) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد. وخففها الآخرون. انظر الإتحاف (٢/ ٤٢٣).
(٣) من الآية ٣٨ من سورة الأعراف.
التسخير والاستخدام. ومَن قرأ بالكسر، فمن السخر، الذي هو الهزء. وجَوز في القاموس الضم والكسر فيهما معاً، فراجعه.
إِنَّ ذلِكَ الذي حكى من أحوالهم لَحَقٌّ لا بد من وقوعه ألْبتة، وهو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ فيها على ما تقدّم.
ولمّا شبَّه تفاوضهم، وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين، سمَّاه تخاصماً، وبأنَّ قول الرؤساء: لا مَرْحَباً وقول الأتباع: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة لا محالة، فسمي التقاول كله تخاصما لا شتماله على ذلك.
الإشارة: كل مَن تعدى وطغى، ولم يتب، من المؤمنين، يرى شيئاً من أهوال الكفرة، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص، وكل مَن سخر بالفقراء يسقط في الحضيض الأسفل، ويكون سكناه في أسفل الجنة، فيقول: ما لنا لا نرى معنا رجالاً كنا نَعُدُّهم من المبتدعة الأشرار، أتخذناهم سخرياً، وهم كُبراء عند الله، رفعوا عنا، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ فيُجابون: بأنهم رُفعوا مع المقربين، كانوا مشتغلين بنا، وكنتم منهم تضحكون. إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقُرب ومشاهدة طلعتنا، في كل حين، وبالله التوفيق.
(٢) قرأ بضم السين نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر. وقرأ الباقون بكسرها.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٥ الى ٧٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد للمشركين: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ من جهته تعالى، أُنذركم عذابه، وَما مِنْ إِلهٍ في الوجود إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة أصلاً، الْقَهَّارُ لكل شيء سواه، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا من المخلوقات، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها، الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْغَفَّارُ المبالغ في المغفرة لمَن يشاء. وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد، والوعد للموحِّدين، والوعيد للمشركين، ما لا يخفى. وتثنية ما يُشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة لتقوية الإنذار.
قُلْ هُوَ أي: ما نبأتكم به من كوني رسولاً، وأنَّ الله واحد لا شريك له، نَبَأٌ عَظِيمٌ وارد من جهته تعالى، لا يُعرِض عن مثله إلا غافل منهمك. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ غافلون، وعن ابن عباس: النبأ العظيم:
القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمرٌ جليل، له شأن خطير، لا بد من الاعتناء به، أمراً وائتماراً.
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، احتجاج على صحة نبوته، بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى، واختصامهم، أمر غيبي، لم يكن له به علم قطّ، ثم علمه وأخبر به، ولم يسلك الطريق الذي سلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ عن أهل العلم، ودراسة الكتب، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى. والملأ الأعلى هم الملائكة، وآدم، وإبليس لأنهم كانوا في السماء، وكان اختصامهم: التقاول بينهم، كقولهم:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها... «١» الخ، وكقول إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ... «٢» الخ، ويدل عليه ما يأتي من الآيات. وقيل: اختصامهم في الكفارات وغفران الذنوب، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه، حتى يقضي الله ما شاء.
(٢) من الآية ١٢ من سورة الأعراف، والآية ٧٦ من سورة «ص».
و «إِذ يختصمون» : متعلق بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه- عليه الصلاة والسّلام- بحالهم لا بذواتهم، والتقدير: ما كان لِيَ فيما سبق علم بما يوحيه في شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وانظر أبا السعود.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: ما يوحي إلى ما يوحى من الأمور الغيبية، التي من جملتها حال الملأ الأعلى، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل، أي: ما يوحي إلى إلا هذا، وهو أن أُنذر وأُبلّغ، ولا أُفرط في ذلك، أي: ما أومرَ إلا بهذا الأمر وحده، وليس إليَّ غير ذلك. وقرىء بكسر «إنما» «٢» على الحكاية، أي: إلا هذا القول، وهو: أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين، ولا أدّعي شيئاً آخر.
الإشارة: تربية اليقين تُطلب في ثلاثة أمور في توحيد الألوهية، بالتبري من الشرك الجلي والخفي. وهو مفاد قوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ... الخ. وفي تصديق الواسطة، وهو النذير المبين، بتعظيمه واتباع سُنَّته ومنهاجه القويم، وفي التصديق بما جاء به، وهو النبأ العظيم، على أيّ تفسير كان، إما القرآن، باتباعه، والتدبُّر في معانيه، أو: يوم القيامة، بالتأهُّب له، وجعله نُصب العين. وبالله التوفيق.
ثم فسّر الاختصام المتقدم، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٨٥]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
وقال عن حديث ابن عباس: حسن غريب. وعن حديث معاذ: حسن صحيح.
(٢) وهى قراءة أبى جعفر المدني. انظر الإتحاف (٢/ ٤٢٤).
خبر، أي: أنا الحق. والحق الثاني: مفعول «أقول»، والجملة: معترضة بين القسم وجوابه، وهو: (لأملأن).
يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الاختصام المذكور: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ حين أراد خلق آدم، إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، وقال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «١». والتعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسّلام- لتشريفه صلّى الله عليه وسلم، والإيذان بأنَّ وحي هذا النبأ إليه تربية وتأييد له. والكاف وارد باعتبار حال الآمر، لكونه أدلّ على كونه وحياً منزلاً من عنده تعالى، كما في قوله تعالى:... يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا... «٢» الخ، دون حال المأمور، وإلاَّ لقال: ربي لأنه داخل فى حيز الأمور.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي: صوَّرْتُه بالصورة الإنسانية، والخلقة البشرية، أو: سويت أجزاء بدنه، بتعديل أعضائه، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الذي خلقته قبلُ، وأضافه إليه تخصيصاً، كبيت الله، وناقة الله. والروح سر من أسرار الله، لطيفة ربانية، سارية في كثيفة ظلمانية، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله، أي: فإذا أحييته فَقَعُوا أي: اسقطوا لَهُ، وهو أمر، مِن وقع، ساجِدِينَ قيل: كان انحناء يدلّ على التواضع، وقيل: كان سجوداً لله، أو سجود تحية لآدم وتكريماً له.
(٢) من الآية ٥٤ من سورة الزمر.
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي: تعاظم عن السجود، والاستثناء متصل إن قلنا: كان منهم، حيث عبد عبادتهم، واتصف بصفاتهم، مع كونه جنياً، أو: منقطع، أي: لكن إبليس استكبر، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: صار منهم بمخالفته للأمر، واستكباره عن الطاعة، أو: كان منهم في علم الله.
قالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ أي: عن السجود لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، بلا واسطة أب ولا أم، امتثالاً لأمري، وإعظاماً لخطابي، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام، المستدعي لإجلاله وإعظامه، قصداً إلى تأكيد الإنكار، وتشديد التوبيخ. وسيأتي في الإشارة بقية الكلام في سر التثنية. قال له تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ، بهمزة الاستفهام، وطرح همزة الوصل، أي:
أتكبرت من غير استحقاق، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ المستحقين للتفوُّق، أو: أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك؟.
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول، كقوله: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ «٢»، وبيَّن فضيلته في زعمه بقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، يعني لو كان مخلوقاً من نار لَمَا سجدتُ له لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمَن هو دوني لأنه طين، والنار تغلب الطين وتأكله، ولقد أخطأ اللعين، حين خَصَّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغاب عنه ما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، وما من جهة الغاية، وهو ما خصَّه به من علوم الحكمة، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة، حتى أُمروا بالسجود، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره.
(٢) الآية ٣٠ من سورة الحجر.
من الخِلقة التي أنت فيها، وانسلخ منها، فإنه كان يفتخر بخلقته، فغيّر الله خلقته، فاسودّ بعد ما كان أبيض، وقبح بعد ما كان حسنا، وأظلم بعد ما كان نوراينا. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي: مرجوم، مطرود، من كل خير وكرامة. أو: شيطان يُرجم بالشُهب.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إبعادي من الرحمة. وتقييدها هنا، وإطلاقها في قوله: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ «١» لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضاً من جهته تعالى، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة، إِلى يَوْمِ الدِّينِ إلى يوم الجزاء والعقوبة، ولا يُظَن أن لعنته غايتها يوم الدين، ثم تنقطع، بل في الدنيا اللعنة وحدها، ويوم القيامة يقترن بها العذاب، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب، وأفانين العقاب، ما ينسى به اللعنة، وتصير عنده كالزائد. أو: لَمَّا كان عليه اللعنة في أوان الرحمة، فأولى أن يكون عليه اللعنة في غير أوانها، وكيف ينقطع، وقد قال تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «٢» وهو إمامُهم؟.
قالَ إبليسُ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أمهلني وأخِّرني، أي: إذا جعلتني رجيماً فأمهلني ولا تمتني، إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي: آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم. وأراد بذلك فسْحته لإغوائهم، وليأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موت بعد البعث، قالَ تعالى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وهو وقت النفخة الأولى، ومعنى «معلوم» أنه معلوم عند الله، لا يتقدم ولا يتأخر. وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرُّض لشمول ما سأله لآخرين، على وجهٍ يُشعر بكون السائل تبعاً لهم في ذلك، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلاً، لا إنشاء لإنظار خاص به، قد وقع إجابة لدعائه، أي: إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً، حسبما تقتضيه حكمة التكوين.
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، أقسم بعزّة الله، وهو سلطانه وقهره على إغواء بني آدم، بتزيين المعاصي والكفر، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته، وعصمهم من الغواية، أو: الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله في قراءة الكسر «٣».
(٢) من الآية ٤٤ من سورة الأعراف. [.....]
(٣) قرأ بكسر اللام فى «المخلصين» ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. اسم فاعل. وقرأ الباقون بفتحها، اسم مفعول. انظر السبعة، ٣٤٨ والإتحاف (٢/ ٣٢٤).
الإشارة: التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات، وصورته البديعة فاقت جميع الصور، ولذلك لم يَقُلِ الحقُّ تعالى في شيء أنه خلقه في أحسن تقويم إلا الآدمي، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان، واعتدل فيه الأمران الظلمة والنور، الحس والمعنى، الروحانية والبشرية، القدرة والحكمة. ولذلك قال تعالى فيه: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، ولم يقله في غيره، أي: خلقته بيد القدرة ويد الحكمة. فالقدرة كناية عما في باطنه من أسرار المعاني الإلهية، والحكمة عبارة عما في قالَبه من عجائب التصوير، وغرائب التركيب، ولذلك كانت معرفته أتم، وترقِّيه لا ينقطع، إن كان من أهله، وراجع ما تقدم في قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «٢».
وقال القشيري بعد كلام: فسبحان الله! خلق أعَزَّ خَلْقِه من أذّلِّ شيءٍ وأَخَسِّه. ثم قال: ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره، فيه ظهرت الخصوصية. هـ.
ثم نزّه نبيه عن الطمع فى الأجر على التبليغ والتكلف، فقال:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٦ الى ٨٨]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ على تبليغ، الوحي أو على القرآن مِنْ أَجْرٍ دنيوي، حتى يثقل عليكم، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي: المتصنِّعين بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعاً حتى أنتحل النبوة، أو أتقوّل القرآن، وعنه صلّى الله عليه وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم» «٣».
انظر الإتحاف (٢/ ٤٢٥).
(٢) الآية ٧٠ من سورة الإسراء. (٣/ ٢١٦- ٢١٨).
(٣) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (رقم ٣١٤) للثعلبى، عن سلمة بن نفيل، مرفوعا.
الإشارة: تقدّم مراراً التحذير من طلب الأجر على التعليم، أو الوعظ والتذكير، اقتداء بالرسل عليهم السلام.
وفي الآية أيضاً: النهي عن التكلُّف والتصنُّع، وهو نوع من النفاق، وضرب من الرياء. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للذين لا يدعون، ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلُّف، وصالحو أمتي» «١».
وقال سلمان «٢» :«أمرنا رسول الله ﷺ ألاَّ نتكلف للضيف ما ليس عندنا!» «٣». وكان الصحابة رضي الله عنهم يُقَدِّمون ما حضر من الكسر اليابسة، والحشف البالي- أي: الرديء من التمر- ويقولون: لا ندري أيهما أعظم وزراً، الذي يحتقر ما قدم إليه، أو: الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه. هـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
(٢) فى الأصول (أبو سليمان).
(٣) أخرجه البيهقي فى الشعب (الباب السابع والستون، ح ٩٦٠١) من حديث سلمان الفارسي- رضي الله عنه.