ﰡ
مكية، وهي ست وثمانون آية، وقيل ثمان وثمانون آية [نزلت بعد القمر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)ص على الوقف وهي أكثر القراءة. وقرئ بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم: الله لأفعلنّ، كذا بالنصب، أو بإضمار حرف القسم، والفتح في موضع الجرّ، كقولهم: الله لأفعلنّ، بالجرّ وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها بمعنى السورة، وقد صرفها من قرأ ص بالجرّ والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل:
وقيل: فيمن كسر هو من المصاداة وهي المعارضة والمعادلة. ومنها الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه: ما عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. فإن قلت: قوله: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ كلام ظاهره متنافر غير منتظم، فما وجه انتظامه؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما:
أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّى والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّى عليه، كأنه قال وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون ص خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه ص، يعنى: هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذى الذكر، كما تقول:
هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بص والقرآن ذى الذكر إنه لمعجز، ثم قال: بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله، وإذا جعلتها مقسما بها وعطفت عليها وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذى الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل. والذكر: الشرف والشهرة، من قولك: فلان مذكور، وإنه
وقرئ: في غرّة، أى: في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق.
[سورة ص (٣٨) : آية ٣]
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)
كَمْ أَهْلَكْنا وعيد لذوي العزة والشقاق فَنادَوْا فدعوا واستغاثوا، وعن الحسن.
فنادوا بالتوبة وَلاتَ هي لا المشبهة بليس، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب، وثم للتوكيد، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضيها: إمّا الاسم وإما الخبر، وامتنع بروزهما جميعا، وهذا مذهب الخليل وسيبويه. وعند الأخفش:
أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان. وحِينَ مَناصٍ منصوب بها، كأنك قلت: ولا حين مناص لهم. وعنه: أنّ ما ينتصب بعده بفعل مضمر، أى: ولا أرى حين مناص، ويرتفع بالابتداء: أى ولا حين مناص كائن لهم، وعندهما أنّ النصب على: ولات الحين حين مناص أى وليس حين مناص، والرفع على ولات حين مناص حاصلا لهم.
وقرئ: حين مناص، بالكسر، ومثله قول أبى زبيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان | فأجبنا أن لات حين بقاء «١» |
فما تقول في حين مناص والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من مناص، لأنّ
بعثوا حربنا عليهم وكانوا | في مقام لو أبصروا ورخاء |
ثم لما تشذرت وأنافت | وتصلوا منها كريه الصلاء |
طلبوا صلحتا ولات أوان | فأجبنا أن لات حين بقاء |
وأمّا قول أبى عبيد: إنّ التاء داخلة على حين فلا وجه له. واستشهاده بأنّ التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط. والمناص: المنجا والفوت. يقال: ناصه ينوصه إذا فاته. واستناص: طلب المناص. قال حارثة بن بدر:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه | بيدي استناص ورام جري المسحل «١» |
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
مُنْذِرٌ مِنْهُمْ رسول من أنفسهم وَقالَ الْكافِرُونَ ولم يقل: وقالوا، إظهارا للغضب عليهم، ودلالة على أنّ هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغىّ الذين قال فيهم أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وهل ترى كفرا أعظم وجهلا أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله بوحيه كاذبا، ويتعجبوا من التوحيد، وهو الحق الذي لا يصح غيره، ولا يتعجبوا من الشرك وهو الباطل الذي لا وجه لصحته. روى أنّ إسلام عمر رضى الله تعالى عنه فرح به المؤمنون فرحا شديدا، وشق على قريش وبلغ منهم، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ومشوا إلى أبى طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا «٢»، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون: الذين دخلوا في الإسلام، وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله ﷺ وقال: يا ابن أخى، هؤلاء قومك يسألونك السؤال «٣» فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا يسألوننى؟ قالوا ارفضنا
(٢). ذكره الثعلبي بغير سند. وروى الترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من طريق يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال «مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم....... الحديث نحوه» وليس فيه أوله.
(٣). قوله «يسألونك السؤال فلا تمل» لعله السواء، كما في عبارة النسفي. (ع)
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦ الى ٧]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
الْمَلَأُ أشراف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبى طالب بعد ما بكتهم رسول الله ﷺ بالجواب العتيد، قائلين بعضهم لبعض امْشُوا وَاصْبِرُوا فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد إِنَّ هذا الأمر لَشَيْءٌ يُرادُ أى يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه، وما أراد الله كونه فلا مردّ له ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه: أو أن دينكم لشيء يراد، أى: يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه. وأَنِ بمعنى أى، لأنّ المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول. ويجوز أن يراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وأنهم قالوا: امشوا، أى أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها. ومنه: الماشية، للتفاؤل، كما قيل لها: الفاشية: قال رسول الله ﷺ «١» «ضموا فواشيكم» «٢» ومعنى وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ: واصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها، وقرئ:
وانطلق الملأ منهم امشوا، بغير أَنِ على إضمار القول. وعن ابن مسعود: وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأنّ النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. أو ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يجعل في الملة الآخرة حالا من هذا ولا تعلقه بما سمعنا كما في الوجهين.
والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله.
ما هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أى: افتعال وكذب.
(٢). قوله «ضموا فواشيكم» بقيته في الصحاح: «حتى تذهب فحمة العشاء» (ع)
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨ الى ١١]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، كما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوّة من بينهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من القرآن، يقولون في أنفسهم: إما وإما. وقولهم إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد «١» حينئذ، يعنى: أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعنى ما هم بما لكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا، ويتخيروا للنبوّة بعض صناديدهم، ويترفعوا بها عن محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها: العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله، كما قال أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا ثم رشح هذا المعنى فقال أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال:
وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوّة دون من لا تحق له فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله، وينزلوا الوحى إلى من يختارون ويستصوبون، ثم خسأهم خساءة «٢» عن ذلك بقوله
إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة، فاما أنها لا تقبل قسمة، وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة «لم» ومقتضاها قبول المحل الفعل المنفي وتوقع وجوده. ألا تراك تقول: الحجر لا يتكلم» ولو قلت: الحجر لم يتكلم، لكان ركيكا من القول، لافهامه قبوله للكلام،
(٢). قوله «ثم خسأهم خسأة» في الصحاح: خسأت الكلب خسأ: طردته. وخسأ بنفسه يتعدى ولا يتعدى. (ع)
وحديث ما على قصره «٢»
إلا أنه على سبيل الهزء، وهُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٢ الى ١٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)
ذُو الْأَوْتادِ أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده، قال:
والبيت لا يبتنى إلّا على عمد | ولا عماد إذا لم ترس أوتاد «٣» |
قال: ثم خسأهم بقوله جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ معناه: إن هؤلاء إلا جند متحزبون على النبي ﷺ عما قليل يهزمون ويولون الأدبار» قال أحمد: الاستواء المنسوب لله: ليس مما يتوصل إليه بالصعود في المعارج والوصول إلى العرش والاستقرار عليه والتمكن فوقه، لأن الاستواء المنسوب إلى الله تعالى ليس استواء استقرار بجسم- تعالى الله عن ذلك- وإنما هو صفة فعل، أى فعل فيه فعلا سماء استواء، هذا تأويل القاضي أبى بكر.
وليست عبارة الزمخشري في هذا الفصل مطابقة للمفصل على جارى عاداته في تحرير العبارة على مراده.
(٢).
جد بالوفاق لمشتاق إلى سهره | إن لم تجد فحديث ما على قصره |
وما زائدة التعميم. ويجوز أنها للتعظيم. لكن الأول أوفق بالمقام. وعلى بمعنى مع، وضمير «قصره» : للحديث.
(٣).
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة | ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |
فان تجمع أسباب وأعمدة | وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا |
في ظل ملك ثابت الأوتاد «١»
وقيل: كان يشبح «٢» المعذب بين أربع سوار: كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه أُولئِكَ الْأَحْزابُ قصد بهذه لإشارة الإعلام بأنّ الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب «٣».
ولقد ذكر تكذيبهم أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها:
بأنّ كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا. وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أوّلا وبالاستثنائية ثانيا، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص: أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه، ثم قال فَحَقَّ عِقابِ أى فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم هؤُلاءِ أهل مكة. ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب
ماذا أؤمل بعد آل محرق | تركوا منازلهم وبعد أياد |
جرت الرياح على مقر ديارهم | فكأنهم كانوا على ميعاد |
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة | في ظل ملك ثابت الأوتاد |
فإذا النعيم وكل ما يلهي به | يوما يصير إلى بلى ونفاد |
والاياد- في الأصل-: تراب يجمع حول الحوض والبيت، يحفظه عن المطر والسيول، من الأيدى: وهو القوة.
وإياد: علم على ابن نزار بن معد، فهو أخو مضر وربيعة. والمراد به هنا القبيلة. وروى: وآل إياد، عطفا على آل محرق. وغنى بالمكان، كرضى: أقام به. والبلى: الانمحاق. والنفاد: الفناء. يقول: تركوا منازلهم:
جملة مستأنفة لبيان نفى التأميل، واعتراضية بين المتعاطفين. وقوله «جرت الرياح» مستأنف لبيان حال القبيلتين، يقول: تفانوا فجرت الرياح على محل ديارهم، وجريان الرياح على مقر الديار، لانهدام الجدران التي كانت تمنع الرياح، وذلك كناية عن موتهم، وأفاد أن فناءهم كان سريعا كأنه دفعة واحدة بقوله: فكأنهم كانوا على ميعاد واحد، ولقد أقاموا بأرغد عيشة، وشبه الملك الذي به عزهم وصونهم بخيمة مضروبة عليهم، والظل: الترشيح، والأوتاد تخييل. وإذا معناها المفاجأة. أى فظهر بغتة أن كل نعيم لا محالة زائل، أى: فأدركهم المحاق والفناء.
(٢). قوله «وقيل كان يشبح المعذب» أى يمده، أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(٣). قال محمود: «قصد بهذه الاشارة الاعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم الذين وجد التكذيب منهم» قال أحمد: وفي تكرار تكذيبهم فائدة أخرى: وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد المكذبين، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة، ليلي قوله تعالى فَحَقَّ عِقابِ على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام وهو كما قدمته في قوله وَكُذِّبَ مُوسى حيث كرر الفعل ليقترن بقوله فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ.
[سورة ص (٣٨) : آية ١٦]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
القط: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه، من قطه إذا قطعه. ويقال لصحيفة الجائزة:
قط، لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسر بهما قوله تعالى عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أى نصيبنا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وقيل: ذكر رسول الله ﷺ وعد الله المؤمنين الجنة، فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها. أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
فإن قلت: كيف تطابق قوله اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وقوله وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت: كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: اصبر على ما يقولون، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود، وهو أنه نبىّ من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك، لكرامته عليه وزلفته لديه، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها. على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب «١»، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلة اليسيرة فلقى من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقى ذَا الْأَيْدِ ذا القوّة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه، كان على نهوضه بأعباء
وعنه: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها بهذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وكان لا يصلى صلاة الضحى، ثم صلاها بعد. وعن كعب أنه قال لابن عباس: إنى لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس، فقال: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى، يعنى هذه الآية. ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق، ومنه قوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ وقول أهل الجاهلية: أشرق «٣» ثبير، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق. ويسبحن: في معنى ومسبحات على الحال. فإن قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات «٤» ؟ قلت: نعم، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك، وهو الدلالة
يقال: شرقت الشمس ولما تشرق. ومنه أخذ ابن عباس صلاة الضحى. قال: ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في وقت الشروق، ويكون المراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بشروق الشمس» قال أحمد: الوجه الثاني يفرق بين العشى والاشراق، فان العشى ظرف بلا إشكال، فلو حمل الاشراق على الدخول في وقت الشروق لكان مصدرا، مع أن المراد به الظرف، لأنه فعل الشمس وصفتها التي تستعمل ظرفا كالطلوع والغروب وشبههما.
(٢). أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي والبغوي والطبراني كلهم من رواية أبى بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس: حدثتني أم هانئ. ورواه الحاكم من وجه آخر عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس «كان لا يصلى الضحى حتى أدخلناه على أم هانئ فقلت لها: أخبرى ابن عباس قالت: دخل رسول الله ﷺ في بيتي فصلى صلاة الضحى ثمان ركعات. قال: فخرج ابن عباس وهو يقول: هذه صلاة الاشراق» هذا موقوف وهو أصح.
(٣). قوله «أشرق ثبير» كانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، كما في الصحاح. (ع)
(٤). قال محمود: «إن قلت لم اختار يسبحن على مسبحات وأيهما وقع كان حالا، وأجاب بأن اختيارهما لمعنى وهو الدلالة على حدوث التسبيح شيئا بعد شيء كأن السامع محاضر لها فيسمعها تسبح. ومنه قول الأعشى:
إلى ضوء نار في يفاع تحرق
ولو قال: محرقة لم يكن شيئا. قال أحمد: ولهذه النكتة فرق سحنون من أصحابنا بين: أنا محرم يوم أفعل كذا «بصيغة اسم الفاعل. وبين أحرم بصيغة المضارع. فرأى أن المعلق بصيغة اسم الفاعل يكون محرما بوجود صيغة التعليق، ولا كذلك المعلق بصيغة الفعل المضارع، فانه لا يكون محرما حتى يحرم ويقال له أحرم، فكأنه رأى أن صيغة الفعل خصوصية في الدلالة على حدوثه، ولا كذلك اسم الفاعل وإن كان متأخرا. وأصحابنا اختلفوا في معنى قول سحنون في اسم الفاعل يكون محرما يوم يفعل، فمنهم من قال: أراد الفور فينشئ إحراما، ومنهم من قال: يكون محرما في الحال بالتعليق الأول ولا يجدد شيئا. ومذهب مالك: التسوية بين صيغتي اسم الفاعل والفعل في هذا المقام والله أعلم. وحقق الزمخشري هذا الفرق بين اسم الفاعل والفعل في قوله وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ فقال:
لما كان الواقع حشر الطير دفعة واحدة، وكان ذلك أدل على القدرة، لم يكن لاستعمال الفعل الدال على الحدوث شيئا فشيئا معنى، فاستعمل فيه اسم المفعول على خلاف استعمال الفعل في الأول.
إلى ضوء نار في يفاع تحرق «١»
ولو قال: محرقة، لم يكن شيئا. وقوله مَحْشُورَةً في مقابلة: يسبحن: إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، جيء به اسما لا فعلا.
وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير يحشرن- على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء.
والحاشر هو الله عز وجل- لكان خلفا، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ: والطير محشورة. بالرفع كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ كل واحد من الجبال والطير لأجل داود، أى: لأجل تسبيحه مسبح، لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع الأوّاب موضع المسبح: إمّا لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع، لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإمّا لأن الأواب- وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته- من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل: الضمير لله، أى: كل من داود والجبال والطير لله أؤاب، أى مسبح مرجع للتسبيح وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قوّيناه، قال تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ وقرئ شددنا على المبالغة. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم «٢» يحرسونه وقيل:
الذي شدّ الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة: أنّ رجلا ادّعى عنده على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى الله تعالى إليه في المنام: أن اقتل المدّعى عليه، فقال: هذا منام، فأعيد الوحى في اليقظة، فأعلم الرجل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ لم يأخذنى بهذا الذنب، ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة، فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه، فقتله،
(٢). قوله «مستلئم» أى: لا بس اللأمة، وهي الدرع. أفاده الصحاح. (ع)
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢)
كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوّجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. وقد روينا أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا، فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يردّه، ففعل، فتزوّجها وهي أمّ سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك: لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر
وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر:
لسماعى هذا الكلام أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس. والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب. فإن قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ في التوبيخ، من قبل أن التأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، أشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبه على الخطإ فيه من أن يبادره به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا
(٢). قوله «من أفناء المسلمين» في الصحاح: يقال: هو من أفناء الناس إذا لم يعلم ممن هو. وعبارة النسفي بدل قوله: فهذا ونحوه... الخ: فلا يليق من المتسمين... الخ. (ع)
(٣). لم أجده
قلت: ليحكم بما حكم به من قوله لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ظاهره الاستفهام. ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد، والتشويق إلى استماعه. والخصم:
الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع، كالضيف. قال الله تعالى حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ لأنه مصدر في أصله، تقول: خصمه خصما، كما تقول: ضافه ضيفا. فإن قلت:
هذا جمع. وقوله خَصْمانِ تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ: خصمان بغى بعضهم على بعض: ونحوه قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فإن قلت: فما تصنع بقوله إِنَّ هذا أَخِي وهو دليل على اثنين؟
قلت: هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض. فإن قلت: فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان. قلت: معناه أن التحاكم كان بين ملكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعا خصما في قوله نَبَأُ الْخَصْمِ وخَصْمانِ؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت: بم انتصب إِذْ؟ قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك، أو بالنبإ، أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك، لأن إتيان النبأ رسول الله ﷺ لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبإ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أردت بالنبإ: القصة في نفسها لم يكن ناصبا، فبقى أن ينتصب بمحذوف، وتقديره:
وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل. وأما إذ الثانية فبدل من الأولى تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية: تسنمه، إذ علا سنامه، وتذرّاه: إذا علا ذروته. روى أنّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان فَفَزِعَ مِنْهُمْ قال ابن عباس: إنّ داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما يجمع بنى إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، فجاءوه في غير يوم القضاء ففزع منهم، ولأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه خَصْمانِ
ولا تبعد عن الحق. وقرئ: ولا تشطط. ولا تشاطط، وكلها من معنى الشطط: وهو مجاوزة الحدّ وتخطى الحق. وسَواءِ الصِّراطِ وسطه ومحجته: ضربه مثلا لعين الحق ومحضه.
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٣]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)
أَخِي بدل من هذا أو خبر لإنّ. والمراد أخوّة الدين، أو أخوّة الصداقة والألفة، أو أخوة الشركة والخلطة، لقوله تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ كل واحدة من هذه الأخوات تدلى بحق مانع من الاعتداء والظلم. وقرئ: تسع وتسعون، بفتح التاء. ونعجة، بكسر النون وهذا من اختلاف اللغات، نحو نطع ونطع، ولقوة ولقوة «١» أَكْفِلْنِيها ملكنيها.
وحقيقته: اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدي وَعَزَّنِي وغلبني. يقال: عزه يعزه. قال:
قطاة عزّها شرك فباتت | تجاذبه وقد علق الجناح «٢» |
أو أراد: خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا، أى: غالبني في الخطبة فغلبني، حيث زوّجها دوني. وقرئ: وعازني، من المعازة وهي المغالبة. وقرأ أبو حيوة: وعزنى، بتخفيف الزاى طلبا للخفة، وهو تخفيف غريب، وكأنه قاسه على نحو: ظلت، ومست. فإن قلت: ما معنى ذكر النعاج؟ قلت: كأن تحاكمهم في نفسه تمثيلا وكلامهم تمثيلا، لأنّ التمثيل أبلغ في التوبيخ لما ذكرنا، وللتنبيه على أمر يستحيا من كشفه، فيكنى عنه كما يكنى عما يستسمج الإفصاح به، وللستر على داود عليه السلام والاحتفاظ بحرمته. ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطه وأراده على الخروج من ملكها إليه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ
(٢).
كأن القلب ليلة قيل يفدى | بليلى العامرية أو يراح |
قطاة عزها شرك فباتت | تعالجه وقد علق الجناح |
عز يعز بالكسر: تعظم، وبالفتح: قوى. وعزه يعزه- بالضم-: غلبه، وما هنا من الثالث: شبه قلبه حين سمع برحيلها بحمامة أمسك الشرك جناحها في كثرة الخفقان والاضطراب. [.....]
يا شاة ما قنص لمن حلّت له «١»
فرميت غفلة عينه عن شاته «٢»
وشبهها بالنعجة من قال:
كنعاج الملا تعسّفن رملا «٣»
يا شاة ما قنص لمن حلت له | حرمت علىّ وليتها لم تحرم |
الصيد، والقنص- بالتحريك- والقنيص: المصيد. ويروى: يا شاة من قنص، فقيل: من زائدة، بناء على مذهب الكوفيين، من جواز زيادة الأسماء. وقيل: نكرة موصوفة. وقنص صفتها من باب الوصف بالمصدر، أى:
يا شاة إنسان قابص. ولمن حلت: متعلق بمحذوف صفة لها، وحرمت على: التفات على القول بندائها، وهو صفة لها، أو استئناف بين به شأنها، وتمنى عدم حرمتها: ندم على ما وقع من سبب الحرمة.
(٢).
قد كنت رائدها وشاة محاذر | حذر يقل بعينه إغفالها |
فظللت أرعاها وظل يحوطها | حتى دنوت إذا الظلام دنا لها |
فرميت غفلة عينه عن شاته | فأصبت حبة قلها وطحالها |
كثير الحذر مستمره، يقل: بضم أوله، من أقل الرباعي. وإغفالها، أى: إغفال عينه، فظللت أراقب الشاة وظل هو يحفظها، حتى قربت لها حين قرب الظلام ودخل الليل، فرميت شاته حين غفلة عينه عن شاته التي كان يحفظها وفيه نوع تهكم به، وأضاف الغفلة إلى العين دون الشخص لأنها المذكورة أولا، وللدلالة على قصر الزمن وسرعة الظفر، ولأن القلب لا يغفل عنها لعزتها عنده، بل يذكرها في النوم. وأما العين فتغفل، فأصبت حبة ملبها أى وسطه، وأصبت طحالها، والرمي ترشيح للاستعارة، لأنه من ملائمات الشاة. ويصح أن يكون هذا البيت استعارة تمثيلية، حيث شبه حالة ظفره بمراده على حين غفلة من الرقيب وإصابة أحشاء المرأة بالحب، بحال من ظفر برمي الشاة بالسهم على غفلة من الراعي، بل يصح أن يكون قوله: وشاة محاذر... إلى آخر الأبيات: استعارة تمثيلية لتلك الحال، ولا استعارة في الشاة وحدها على هذا.
(٣).
قلت إذا أقبلت وزهر تهادى | كنعاج الفلا تعسفن رملا |
وتنقبن بالحرير وأبدين | عيونا حور المداعج نجلا |
والزهر: جمع زهراء، أى: بيضاء، والفلا: القفر الخالي. والتعسف: الميل عن سواء السبيل، وهو حال من النعاج. ورملا: نصب على نزع الخافض، أى: تمايلن في رمل. وتنقبت المرأة: لبست النقاب. وحور: جمع حوراء، أى: صافيات. والمداعج: الحدقات، من الدعج وهو اتساع سواد العين. والنجل: جمع نجلاء، أى: واسعات.
الملائكة عليهم السلام كيف صح منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يتلبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت: هو تصوير للمسألة وفرض لها، فصوّروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسى، كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة، وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليها الحول، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد «٢» وتقول أيضا في تصويرها: لي أربعون شاة وأربعون فخلطناها. وما لكما من الأربعين أربعة ولاربعها فإن قلت: ما وجه قراءة ابن مسعود: ولي نعجة أنثى «٣» ؟ قلت: يقال لك امرأة أنثى للحسناء الجميلة. والمعنى: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال. وقوله:
يا شاة ما قنص لمن حلت له
إلا أن لفظ الخلطاء يأباه: اللهم إلا أن يكون ابتداء مثل من داود عليه السلام» قال أحمد: والفرق بين التمثيل والاستعارة: أنه على التمثيل، يكون الذي سبق إلى فهم داود عليه السلام: أن التحاكم على ظاهره، وهو التخاصم في النعاج التي هي الهائم، ثم انتقل بواسطة التنبيه إلى فهم أنه تمثيل لحاله. وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما: التحاكم في النساء المعبر عنهن بالنعاج كناية، ثم استشعر أنه هو المراد بذلك.
(٢). قوله «وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد» في الصحاح: ما له سبد ولا لبد، أى: لا قليل ولا كثير.
والسبد: من الشعر، واللبد: من الصوف. (ع)
(٣). قال محمود: «فان قلت: فما وجه قراءة ابن مسعود: ولي نعجة أنثى. وأجاب بأنه يقال: امرأة أنثى للحسناء الجميلة، ومعناه: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم إياها بالكسول والمكسال، كقوله:
فتور القيام قطيع الكلام
قال أحمد: ولكن قوله وَلِيَ نَعْجَةٌ إنما أورده على سبيل التقليل لما عنده والتحقير، ليستجل على خصمه بالبغي لطلبه هذا القليل الحقير وعنده الجم الغفير، فكيف يليق وصف ما عنده والمراد تقليله بصفة الحسن التي توجب إقامة عذر ما لخصمه، ولذلك جاءت القراءة المشهورة على الاقتصار على ذكر النعجة، وتأكيد قلتها بقوله واحِدَةٌ فهذا إشكال على قراءة ابن مسعود، يمكن الجواب عنه بأن القصة الواقعة لما كانت امرأة أوريا الممثلة بالنعجة فيها مشهورة بالحسن، وصف مثالها في قصة الخصمين بالحسن زيادة في التطبيق، لتأكيد التنبيه على أنه هو المراد بالتمثيل.
وقوله:
تمشى رويدا تكاد تنغرف «٢»
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
لَقَدْ ظَلَمَكَ جواب قسم محذوف. وفي ذلك استنكار لفعل خليطه وتهجين لطمعه.
والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله تعالى مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وقد ضمن معنى الإضافة فعدّى تعديتها، كأنه قيل بإضافة نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ على وجه السؤال والطلب. فإن قلت:
كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه «٣» ؟ قلت: ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم. ويروى أنه قال: أنا أريد أن
فتور القيام قطوع الكلام | لعوب العشاء إذا لم تنم |
الفترة: ضعف حركة الأعضاء في العمل، فهي كثيرة الفترة في القيام. وقطوع الكلام: أى قليلته، أو كأنها لا تقدر على إتمام الألفاظ للينها واستحيائها، فكأنها تقطعها تقطيعا، كثيرة اللعب في وقت العشاء مع زوجها، وإذا لم تنم: إشارة إلى أنها قد تنام من أول الليل، وهو وصف لها بالكسل الذي هو من توابع اللين والأنوثة.
وبذ الرجل: إذا ساء خلقه ورث حاله وبذه الرجل: إذا غلبه، أى تغلبهن بحسن الحديث، والدل والدلال، والتيه، والتغنج، والتشكل، والتكسر، والرخاوة، والرخامة، ورقة الصوت ولينه، والتمنع مع الرضاء. واعتم النبت: طال، واعتم الشيء: تم، وجسم عميم: تام، والجمع عمم، كسرير وسرر، ورجل عمم- بالافراد-:
أى تام، فالمراد أن خلقها أى جسمها تام حسن.
(٢).
ما أنس سلمى غداة تنصرف | تمشى رويدا تكاد تنغرف |
وغرفته فانغرف. قطعته فانقطع، أو تكاد تؤخذ من الأرض، كما يغرف الماء باليد، فكأنها ماء لتنكلها وتقطعها في تبخترها. وفرس غروف: كثير الأخذ من الأرض بقوائمه.
(٣). قال محمود: «فان قلت كيف سارع بتصديق أحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، وأجاب بأن ذلك كان بعد اعتراف خصمه ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم» قال أحمد: ويحتمل أن يكون ذلك من داود على سبيل الفرض والتقدير، أى: إن صح ذلك فقد ظلمك.
اضرب عنك الهموم طارقها «١»
وهو جواب قسم محذوف. وليبغ: بحذف الياء، اكتفاء منها بالكسرة، وما في وَقَلِيلٌ ما هُمْ للإبهام. وفيه تعجب من قلتهم. وإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها، من قول امرئ القيس:
وحديث ما على قصره «٢»
اضرب عنك الهموم طارقها | ضربك بالسوط قونس الفرس |
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٧٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.
لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت «١»
وفتناه وفتناه، على أن الألف ضمير الملكين. وعبر بالراكع عن الساجد، لأنه ينحنى ويخضع كالساجد. وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة، على أنّ الركوع يقوم مقام السجود. وعن الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع، ويجوز أن يكون قد استغفر الله لذنبه وأحرم بركعتي الاستغفار والإنابة، فيكون المعنى: وخرّ للسجود راكعا أى مصليا، لأنّ الركوع يجعل عبارة عن الصلاة وَأَنابَ ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والتنصل. وروى أنه بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بدّ منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بنى إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
وروى أنه نقش خطيئته في كفه حتى لا ينساها. وقيل: إنّ الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني معسرا ماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وما كان ذنب داود إلا أنه صدّق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته «٢»
لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت | سعيدا فأمسى قد قلى كل مسلم |
وألقى مصابيح القراءة واشترى | وصال الغواني بالكتاب المنمنم |
(٢). قال محمود: «ونقل بعضهم أن هذه القصة لم تكن من الملائكة وليست تمثيلا وإنما كانت من البشر إما خليطين في الغنم حقيقة، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهاتر والسراري والثاني معسرا وماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها، وفزع داود، وخوفه أن يكونا مغتالين لأنهما دخلا عليه في غير وقت القضاء، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر ونسبه إلى الظلم قبل مسألته» قال أحمد: مقصود هذا القائل تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب إلى العجلة في نسبة الظلم إلى المدعى عليه، لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب وكراهيته أخف مما يكون الباعث عليه الشهوة والهوى، ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس، وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: داود وغيره- منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب مبرؤن من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة، وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى.
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٦]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أى استخلفناك على الملك في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها. ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه. وجعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. وفيه دليل على أنّ حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أى بحكم الله تعالى إذ كنت خليفته وَلا تَتَّبِعِ هوى النفس في قضائك وغيره مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا فَيُضِلَّكَ الهوى فيكون سببا لضلالك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دلائله التي نصبها في العقول، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها.
ويَوْمَ الْحِسابِ متعلق بنسوا، أى: بنسيانهم يوم الحساب، أو بقوله لهم، أى: لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله. وعن بعض خلفاء بنى مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري: هل سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجرى عليه القلم ولا تكتب عليه معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية.
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٧]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
باطِلًا خلقا باطلا، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة. أو مبطلين عابثين، كقوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وتقديره: ذوى باطل.
أو عبثا، فوضع باطلا موضعه، كما وضعوا هنيئا موضع المدر، وهو صفة، أى ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب، ولكن للحق المبين، وهو أن خلقناها نفوسا «١» أودعناها العقل
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٨]
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
أَمْ منقطعة. ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمراد: أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد، وأتقى وفجر، ومن سوّى بينهم كان سفيها ولم يكن حكيما.
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٩]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
وقرئ: مباركا، وليتدبروا: على الأصل، ولتدبروا: على الخطاب. وتدبر الآيات:
التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدى إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ، لم يحل منه بكثير طائل، «١» وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله: حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، «٢» لا كثر
اللقوح، والجمع لقح مثل قربة قرب، وفيه: ناقة درور، أى: كثيرة اللبن. وفيه: النثور، أى: كثيرة الولد.
(٢). قوله «ولا الوزعة» جمع وازع، وهو الذي يكف عن الضرر، والذي يتقدم الصف فيصلحه بالتقديم والتأخير. أفاده الصحاح. (ع)
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
وقرئ: نعم العبد، على الأصل، «١» والمخصوص بالمدح محذوف. وعلل كونه ممدوحا بكونه أوّابا رجاعا إليه بالتوبة. أو مسبحا مؤوّبا للتسبيح مرجعا له، لأن كل مؤوّب أوّاب.
والصافن: الذي في قوله:
ألف الصّفون فما يزال كأنّه | ممّا يقوم على الثّلاث كسيرا «٢» |
خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوما بعد ما صلى الأولى على كرسيه «٤» واستعرضها، فلم
(٢). لامرئ القيس. وقيل: للعجاج يصف فرسا. والصفون- بالمهملة-: الوقوف على سنبك يد أو رجل.
والسنبك: طرف حافر الفرس. والصفون- بالمعجمة-: الجمع بين اليدين في الوقوف، ومما يقوم: خبر كان، أى: أحب الصفون، كأنه من الجنس الذي يقوم على ثلاث قوائم. أو كأنه مخلوق من القيام على ثلاثة كخلق الإنسان من عجل، حال كونه مكسور القائمة الرابعة، أو كاسرها أى ثانيها، فما موصولة أو مصدرية. وكسيرا:
حال، والجملة: خبر يزال، وهذا ما استقر عليه رأى ابن الحاجب في الأمالى بعد كلام طويل، ولو جعلت ما مصدرية، وكسيرا: خبر كأن، كان حقه الرفع، ولو جعلته خبر يزال كما اختاره ابن هشام، لكان المعنى:
فلا يزال كسيرا، كأنه مما يقوم على الثلاث على ما مر. ويجوز أن يكون المعنى: فلا يزال كسيرا من قيامه على الثلاث، وكأنه اعتراض، وخبره محذوف، أى كأنه كسير. وفائدته الاحتراس.
(٣). لم أجده هكذا وفي السنن حديث معاوية «من سره أن يتمثل الناس له قياما» وفي الغريب لأبى عبيد من حديث البراء رضى الله عنه «كنا إذا صلينا مع رسول الله ﷺ فرفع رأسه قمنا معه صفوفا.
(٤). قوله «بعد ما صلى الأولى على كرسيه» عبارة النسفي. صلى الظهر. (ع)
مثل بعير السوء إذ أحبّا «٢»
وليس بذاك. والخير: المال، كقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً وقوله وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ والمال: الخيل التي شغلته. أو سمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها. قال رسول الله ﷺ «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة «٣» » وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: «ما وصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل» «٤» وسماه زيد الخير. وسأل رجل بلالا رضى الله عنه عن قوم يستبقون: من السابق؟ فقال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير «٥».
(٢).
كيف قربت عمك القرشبا | حين أتاك لاغبا مخبا |
حلت عليه بالقفيل ضربا | تبا لمن بالهون قد ألبا |
لأبى محمد الفقعسي. والقرشب- بكسر أوله وفتح ثالثه-: المسن، واللاغب، من اللغوب: وهو التعب. والمخب من أخبه: إذا حمله على الخبب، وهو نوع من السير. أو من أخب: إذا لزم المكان كما قيل. وحلت: أى قمت ووثبت عليه. والقفيل: السوط. وضربا: بمعنى ضاربا. أو تضربه ضربا. والتب: الهلاك، وهو دعاء عليه، وفعله محذوف وجوبا. والهون- بالضم-: الهوان. وألب بالمكان: أقام به، ورواه الأصمعى هكذا:
كيف قربت شيخك الأذبا | لما أتاك يابسا قرشبا |
قمت عليه بالقفيل ضربا | مثل بعير السوء إذ أحبا |
وقال الجوهري: الاخباب: البروك. وهو في الإبل كالحران في الخبل.
(٣). متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
(٤). ذكره ابن إسحاق في المغازي بغير سند، والبيهقي في الدلائل من طريقه. وذكره ابن سعد عن الواقدي بأسانيد له مقطوعة
(٥). أخرجه ابراهيم الحربي من رواية مغيرة عن الشعبي قال «كان رهان. فقال رجل لبلال: من سبق، قال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمن صلى؟ قال: أبو بكر. قال: إنما أعنى في الخيل» قال: وأنا أعنى في الخير»
وقيل: الضمير للصافنات، أى: حتى توارت بحجاب الليل يعنى الظلام. ومن بدع التفاسير:
أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه فَطَفِقَ مَسْحاً فجعل يمسح مسحا، أى يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعنى: يقطعها. يقال: مسح علاوته، إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب «١» إذا قطع أطرافه بسيفه. وعن الحسن: كسف عراقيبها وضرب أعناقها، أراد بالكسف: القطع، ومنه: الكسف في ألقاب الزحاف في العروض. ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف. وقيل: مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها. فإن قلت: بم اتصل قوله رُدُّوها عَلَيَّ؟ قلت: بمحذوف تقديره: قال ردّوها علىّ، فأضمر وأضمر ما هو جواب له، كأن قائلا قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهرا، وهو اشتغال نبىّ من أنبياء الله بأمر الدنيا، حتى تفوته الصلاة عن وقتها. وقرئ: بالسؤق، بهمز الواو لضمتها، كما في أدؤر. ونظيره: الغئور، في مصدر غارت الشمس. وأما من قرأ بالسؤق فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق، كما قيل: مؤسى: ونظير ساق وسوق: أسد وأسد.
وقرئ: بالساق، اكتفاء بالواحد عن الجمع، لأمن الإلباس.
[سورة ص (٣٨) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة. وملك بعد الفتنة عشرين سنة. وكان من فتنته:
أنه ولد له ابن، فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم ذلك، فكان يغذوه في السحابة «٢» فما راعه إلا أن ألقى على كرسيه ميتا، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب إليه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتى بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهنّ فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون «٣»، فذلك قوله تعالى وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ. وهذا ونحوه مما لا بأس به. وأما ما يروى من حديث الخاتم والشياطين وعبادة
كشفت عن وجهها. وأسفر الصبح: أى أضاء. وأسفر وجهه حسنا، أى: أشرق، فليحرر. (ع)
(٢). قوله «فكان يغذوه» في الصحاح: غذوت الصبي باللبن، أى ربيته به فاغتذى. (ع)
(٣). متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. [.....]
وقيل: بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهنّ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم، فتختم به ووقع ساجدا، ورجع إليه ملكه، وجاب صخرة لصخر «٢» فجعله فيها، وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر. وقيل: لما افتتنن كان يسقط الخاتم من يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقرّ في يدك، فتب إلى الله عز وجل. ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل. وتسليط الله إياهم على عباده حتى يقعوا في تغيير الأحكام، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهنّ: قبيح، وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع. ألا ترى إلى قوله مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وأما السجود للصورة فلا يظن بنبىّ الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه فلا عليه. وقوله وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ناب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّا ظاهرا.
(٢). قوله «وجاب صخرة لصخر» أى: خرق أو قطع أفاده الصحاح. (ع)
[سورة ص (٣٨) : آية ٣٥]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)قدّم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم لا يَنْبَغِي لا يتسهل ولا يكون. ومعنى مِنْ بَعْدِي دوني. فإن قلت: اما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطى الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوّة ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب ألفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوّته قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ وقيل: ملكا لا أسلبه ولا يقوم غيرى فيه مقامي، كما سلبته مرّة وأقيم مقامي غيرى. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. وعن الحجاج أنه قيل له: إنك حسود، فقال: أحسد منى من قال هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وهذا من جرأته على الله وشيطنته، كما حكى عنه: طاعتنا أوجب من طاعة الله، لأنه شرط في طاعته فقال فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وأطلق طاعتنا فقال وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
قرئ: الريح، والرياح رُخاءً لينة طيبة لا تزعزع. وقيل: طيعة له لا تمتنع عليه حَيْثُ أَصابَ حيث قصد وأراد. حكى الأصمعى عن العرب: أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٧]
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ عطف بيان لعبادنا. ومن قرأ: عبدنا، جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا، وهي إسحاق ويعقوب، كقراءة ابن عباس: وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدى غلبت، فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدى. أو كان العمال جذما لا أيدي لهم، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ يريد: أولى الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوى الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والمسلوبى العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما. وقرئ: أولى الأيادى، على جمع الجمع. وفي قراءة ابن مسعود: أولى الأيد، على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة. وتفسيره بالأيد- من التأييد-: قلق غير متمكن أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم خالصين بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثم فسرها بذكرى الدار، شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتفاء الكدورة عنها. وقرئ على الإضافة. والمعنى: بما خلص من ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمّ آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير. ومعنى ذِكْرَى الدَّارِ: ذكراهم الآخرة دائبا، ونسيانهم اليها ذكر الدنيا. أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، وتزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء وديدنهم. وقيل. ذكرى الدار. الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. فإن قلت: ما معنى أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ؟ قلت: معناه: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة، وبأنهم من أهلها. أو أخلصناهم بتوفيقهم لها، واللطف بهم في اختيارها. وتعضد الأوّل قراءة من قرأ: بخالصتهم الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من أبناء جنسهم. والْأَخْيارِ جمع خير، أو خير، على التخفيف، كالأموات في جمع ميت أو ميت.
[سورة ص (٣٨) : آية ٤٨]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
وَالْيَسَعَ كأن حرف التعريف دخل على يسع. وقرئ: والليسع، كأن حرف التعريف
فقالا: هذه طلبتنا ورجعا، ويقال: أصاب الله بك خيرا وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ بدل من الشياطين وَآخَرِينَ عطف على كل داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل: كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وهو أوّل من استخرج الدرّ من البحر، وكان يقرّن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. وعن السدى: كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع «١». والصفد القيد، وسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه. ومنه قول علىّ رضى الله عنه: من برّك فقد أسرك، ومن جفاك فقد أطلقك. ومنه قول القائل: غل يدا مطلقها، وأرقّ رقبة معتقها. وقال حبيب: إنّ العطاء إسار، وتبعه من قال:
ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا «٢»
وفرقوا بين الفعلين فقالوا: صفده قيده، وأصفده أعطاه، كوعده وأوعده، أى هذا الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة عَطاؤُنا بغير حساب، يعنى: جما كثيرا لا يكاد يقدر على حسبه وحصره فَامْنُنْ من المنة وهي العطاء، أى: فأعط منه ما شئت أَوْ أَمْسِكْ مفوّضا إليك التصرف فيه. وفي قراءة ابن مسعود: هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب، أو هذا التسخير عطاؤنا، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب، أى لا حساب عليك في ذلك.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
(٢).
وقيدت نفسي في ذراك محبة | ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا |
ويجوز أنه شبه نفسه بحيوان، والتقييد: تخييل. والذرا- بالفتح-: كل ما ستر الشيء، يقال: أنا في ظل الجبل وفي ذراه، أو في ظل فلان وفي ذراه، أى: في كنفه وحماه، ومحبة: مفعول لأجله، وشبه الإحسان بالقيد لأنه سبب استملاك النفس.
(٢). قوله «هي أرض الجابية» مدينة بالشام كما في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «وتنقلب ما بك قلبة» في الصحاح «القلاب» داء يأخذ البعير. وقولهم: ما به قلبة، أى: ليست به علة. (ع)
سألته أن يقرب للشيطان بعناق وَجَدْناهُ صابِراً علمناه صابرا. فإن قلت: كيف وجده صابرا وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عز وعلا لا تسمى جزعا، ولقد قال يعقوب عليه السلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمنى العافية وطلبها، فإذا صحّ أن يسمى صابرا مع تمنى العافية وطلب الشفاء، فليسم صابرا مع اللجإ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة.
حيث كان الشيطان بوسوس إليهم كما كان يوسوس اليه أنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلى به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى أنه قال في مناجاته: إلهى قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصرى، ولم يهبني ما ملكت يمينى، «٣» ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان، فكشف الله عنه.
(٢). أخرجه النسائي وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والبزار والطبراني من رواية أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن عبادة. قال «كان بين أبياتنا رجل ضعيف مخدج، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها- الحديث» قال البزار: لم يرد إلا هذا، واختلف في إسناده. فقيل هكذا. وقيل عن أبى الزناد عن أبى أمامة مرسلا ورواه أبو داود من وجه آخر عن أبى أمامة أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(٣). قوله «ولم يهبني ما ملكت يميني» أى لم ينشطنى ولم يهيجني، من هبت الريح: أى هاجت، وهب البعير:
أى نشط، كما في الصحاح. (ع)
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٧]
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ عطف بيان لعبادنا. ومن قرأ: عبدنا، جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا، وهي إسحاق ويعقوب، كقراءة ابن عباس: وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدى غلبت، فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدى. أو كان العمال جذما لا أيدي لهم، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ يريد: أولى الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوى الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والمسلوبى العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما. وقرئ: أولى الأيادى، على جمع الجمع. وفي قراءة ابن مسعود: أولى الأيد، على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة. وتفسيره بالأيد- من التأييد-: قلق غير متمكن أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم خالصين بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثم فسرها بذكرى الدار، شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتفاء الكدورة عنها. وقرئ على الإضافة. والمعنى: بما خلص من ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمّ آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير. ومعنى ذِكْرَى الدَّارِ: ذكراهم الآخرة دائبا، ونسيانهم اليها ذكر الدنيا. أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، وتزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء وديدنهم. وقيل. ذكرى الدار. الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. فإن قلت: ما معنى أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ؟ قلت: معناه: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة، وبأنهم من أهلها. أو أخلصناهم بتوفيقهم لها، واللطف بهم في اختيارها. وتعضد الأوّل قراءة من قرأ: بخالصتهم الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من أبناء جنسهم. والْأَخْيارِ جمع خير، أو خير، على التخفيف، كالأموات في جمع ميت أو ميت.
[سورة ص (٣٨) : آية ٤٨]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
وَالْيَسَعَ كأن حرف التعريف دخل على يسع. وقرئ: والليسع، كأن حرف التعريف
وكلهم من الأخيار.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
هذا ذِكْرٌ أى: هذا نوع من الذكر وهو القرآن، لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل، ونوع من أنواعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، «١» قال: هذا ذكر، ثم قال وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه: أنه لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار. قال: هذا وإن للطاغين. وقيل: معناه هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هذا ذكر من مضى من الأنبياء جَنَّاتِ عَدْنٍ معرفة لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب. ومُفَتَّحَةً حال، والعامل فيها ما في لِلْمُتَّقِينَ من معنى الفعل. وفي مُفَتَّحَةً ضمير الجنات. والأبواب بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب، كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. وقرئ: جنات عدن مفتحة، بالرفع، على أن جنات عدن مبتدأ، ومفتحة خبره.
أو كلاهما خبر مبتدإ محذوف، أى: هو جنات عدن هي مفتحة لهم، كأن اللدات سمين أترابا، لأن التراب مسهن في وقت واحد، وانما جعلن على سنّ واحدة، لأن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هنّ أتراب لأزواجهن، أسنانهنّ كأسنانهم:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
قرئ: يوعدون، بالتاء والياء لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجل يوم الحساب، كما تقول: هذا ما تدخرونه ليوم الحساب، أى: ليوم تجزى كل نفس ما عملت.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٦١]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)
هذا أى الأمر هذا: أو هذا كما ذكر فَبِئْسَ الْمِهادُ كقوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم، أى: هذا حميم فليذوقوه. أو العذاب هذا فليذوقوه، ثم ابتدأ فقال: هو حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أو: هذا فليذوقوه بمنزلة وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أى ليذوقوا هذا فليذوقوه، والغساق- بالتخفيف والتشديد-: ما يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين، إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. وقيل: لو قطرت منه قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق. وعن الحسن رضى الله عنه. الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى.
إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة وَآخَرُ ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة أَزْواجٌ أجناس. وقرئ: وآخر، أى: وعذاب آخر. أو مذوق آخر.
وأزواج: صفة لآخر، لأنه يجوز أن يكون ضروبا. أو صفة للثلاثة وهي حميم وغساق وآخر من شكله. وقرئ: من شكله، بالكسر «١» وهي لغة. وأما الغنج «٢» فبالكسر لا غير هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أى دخل النار في صحبتكم وقرانكم، والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها. والقحمة: الشدة. وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض، أى: يقولون هذا. والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له: مرحبا، أى:
أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا: أو رحبت بلادك رحبا، ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء.
(٢). «وأما الغنج فبالكسر لا غير» في الصحاح: الغنج والغنج: الشكل، وقد غنجت الجارية وتغنجت، فهي غنجة. وفيه: الشكل- بالفتح-: المثل، وبالكسر: الدل، يقال: امرأة ذات شكل. (ع)
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣)
وَقالُوا الضمير للطاغين رِجالًا يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم مِنَ الْأَشْرارِ من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم، فكانوا عندهم أشرارا أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لرجالا، مثل قوله كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ
(٢). قوله «وجاء في التفسير... الخ» عبارة الخازن: قال ابن عباس: حيات وأفاعى (ع)
وقوله أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ له وجهان من الاتصال، أحدهما: أن يتصل بقوله ما لَنا أى: مالنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها: قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة، وبين أن يكونوا من أهل النار. إلا أنه خفى عليهم مكانهم.
والوجه الثاني: أن يتصل باتخذناهم سخريا، إما أن تكون أم متصلة على معنى: أى الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم، أم الازدراء بهم والتحقير، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم، على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم، وعن الحسن: كل ذلك قد فعلوا، اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وإما أن تكون منقطعة بعد مضى اتخذناهم سخريا على الخبر أو الاستفهام، كقولك: إنها إبل أم شاء، وأزيد عندك أم عندك عمرو: ولك أن تقدّر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير همزته، لأنّ «أم» تدل عليها، فلا تفترق القراءتان:
إثبات همزة الاستفهام وحذفها. وقيل: الضمير في وَقالُوا لصناديد قريش كأبى جهل والوليد وأضرابهما، والرجال: عمار وصهيب وبلال وأشباههم. وقرئ: سخريا، بالضم والكسر.
[سورة ص (٣٨) : آية ٦٤]
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
إِنَّ ذلِكَ أى الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لا بد أن يتكلموا به، ثم بين ما هو فقال هو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وقرئ بالنصب على أنه صفة لذلك، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. فإن قلت: لم سمى ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك «٢» ولأنّ قول الرؤساء: لا مرحبا بهم، وقول أتباعهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، من باب الخصومة، فسمى التقاول كله تخاصما لأجل اشتماله على ذلك.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦)
(٢). قال محمود: «إن قلت لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك، ولأن قول الرؤساء: لا مرحبا بهم، وقول أتباعهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، من باب الخصومة» قال أحمد: هذا يحقق أن ما تقدم من قوله لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ من قول المتكبرين الكفار، وقوله تعالى بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من قول الأتباع، فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين، فيتحقق التخاصم، خلافا لمن قال: إن الأول من كلام خزنة جهنم، والثاني: من كلام الأتباع، فانه على هذا التقدير إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين فالتفسير الأول أمكن وأثبت.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أى هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله واحد لا شريك له: نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم احتج لصحة نبوّته بأنّ ما ينبئ به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب، فعلم أنّ ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ أى لأنما أنا نذير. ومعناه:
ما يوحى إلىّ إلا للإنذار، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه. ويجوز أن يرتفع على معنى:
ما يوحى إلىّ إلا هذا، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك، أى ما أو مر إلا بهذا الأمر وحده، وليس إلىّ غير ذلك. وقرئ إنما بالكسر على الحكاية، أى: إلا هذا القول، وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين ولا أدعى شيئا آخر. وقيل: النبأ العظيم: قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد. وعن ابن عباس: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. فإن قلت: بم يتعلق إِذْ يَخْتَصِمُونَ؟ قلت: بمحذوف، لأن المعنى: ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم، وإِذْ قالَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ. فإن قلت: ما المراد بالملإ الأعلى؟ قلت: أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم:
فإن قلت: ما كان التقاول بينهم إنما كان بين الله تعالى وبينهم، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قال لهم وقالوا له، فأنت بين أمرين: إما أن تقول الملأ الأعلى هؤلاء، وكان التقاول بينهم ولم يكن التفاؤل بينهم وإما أن تقول: التقاول كان بين الله وبينهم، فقد جعلته من الملإ الأعلى. قلت: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فصح أن التقاول كان
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه أن يكون قد قال لهم: إنى خالق خلقا من صفته كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم فَإِذا سَوَّيْتُهُ فإذا أتممت خلقه وعدلته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته وجعلته حساسا متنفسا فَقَعُوا فخروا، كل: للإحاطة. وأجمعون: للاجتماع، فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات. فإن قلت: كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت: الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على وجه العبادة، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل، إلا أن يعلم الله فيه مفسدة فينهى عنه. فإن قلت: كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجنّ؟ قلت: قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أريد وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافرا، لأن كانَ مطلق في جنس الأوقات الماضية، فهو صالح لأيها شئت. ويجوز أن يراد: وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
فإن قلت: ما وجه قوله خَلَقْتُ بِيَدَيَّ: قلت: قد سبق لنا أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل ممن لا يدي له: يداك أوكتا «١» وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته، وهذا مما عملته يداك. ومنه قوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ، أى: ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلفته بيدي- لا شكّ في كونه مخلوقا- امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه، وقيل له: لم تركته مع وجود هذه العلة، وقد أمرك الله به، يعنى: كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة، ومثاله:
أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه، فيقول له:
ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علىّ سقوطه «٢»، يريد: هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت
البشر أفضل من الملك. (ع)
(٢). قال محمود: «لما كان ذو اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه: غلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغير اليدين، حتى قيل في عمل القلب: هذا مما عملت يداك. قال ومعناه أن الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم واستنكف بسببه: أنه سجود لمخلوق، مع أنه دون الساجد، لأن آدم من طين، وإبليس من نار، فرأى للنار فضلا على الطين، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر أعز عباده عليه وأقربهم منه وهم الملائكة أن يسجدوا لهذا البشر:
لم يمتنعوا ولم يذهبوا بأنفسهم إلى التكبر، مع انحطاطه عن مراتبهم، فقيل له: ما منعك أن تسجد لهذا الذي هو مخلوق بيدي كما وقع لك، مع أنه لا شك أن في ذلك امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة، فذكر له العلة التي منعته من السجود، وقيل له: ما حملك على اعتبار هذه العلة دون اعتبار أمرى، ومثاله: أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم، فيمتنع اعتبارا لسقوطه. فيقول له: ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى على سقوطه، يريد: علا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه، انتهى المقصود من الآية بعد تطويل وإطناب وإكثار وإسهاب. قال أحمد: إنما أطال القول هنا ليفر من معتقدين لأهل السنة تشتمل عليهما هذه الآية:
أحدهما: أن اليدين من صفات الذات أثبتهما السمع، هذا مذهب أبى الحسن والقاضي، بعد إبطالهما حمل اليدين على القدرة، فان قدرة الله تعالى واحدة، واليدان مذكورتان بصيغة التثنية، وأبطلا حملهما على النعمة بأن نعم الله لا تحصى، فكيف تحصر بالتثنية. وغيرهما من أهل السنة كامام الحرمين وغيره يجوز حملهما على القدرة والنعمة، ويجيب عما ذكراه بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة، وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس، إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة، وعلى أن المراد القدرة، فالتثنية تعظيم، ومثل ذلك يوجد في اللغة كثيرا. المعتقد الثاني: أن النبي أفضل من الملك، والزمخشري شديد العصبية في هذه المسألة والإنكار على من قال بذلك من أهل السنة، لا جرم أنه أجرم في بسط كلامه على آدم عليه السلام، فمثل قصته في انحطاط مرتبته على زعمه عن مرتبة الملائكة بقول الملك لوزيره.
زر بعض سقاط الحشم، فجعل سقاط حشم الملك مثالا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء عليهم السلام، وأقام لإبليس عذره وصوب اعتقاده. أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين، وإنما غلطه من جهة أخرى. وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له، على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة، وجعل قوله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إنما ذكر تقريرا للعلة التي منعت إبليس من السجود، وهو كونه دونه، وهذا- نسأل الله العصمة- المراد منه ضد ما فهم الزمخشري، وإنما ذكر ذلك تعظيما لمعصية إبليس، إذ امتنع من تعظيم من عظمه الله إذ خلقه بيده، وذلك تعظيم لآدم لا تحقير منه. ويدل عليه الحديث الوارد في الشفاعة، إذ يقول له الناس عند ما يقصدونه فيها: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته، فإنما يذكرون ذلك في سياق تعديد كراماته وخصائصه، لا فيما يحط منه، معاذ الله وإياه نسأل أن يعصمنا من مهاوي الهوى ومهالكه، وأن يرشدنا إلى سبيل الحق ومسالكه، إنه ولى التوفيق، وبالاجابة حقيق.
وقرئ: استكبرت بحذف حرف الاستفهام، لأنّ أم تدل عليه. أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى، أى: لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له، لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
مِنْها من الجنة، وقيل: من السماوات. وقيل: من الخلقة التي أنت فيها، لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته، فاسودّ بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا، وأظلم بعد ما كان نورانيا. والرجيم: المرجوم. ومعناه: المطرود، كما قيل له: المدحور والملعون، لأنّ من طرد رمى بالحجارة على أثره. والرجم: الرمي بالحجارة. أو لأنّ الشياطين يرجمون بالشهب.
كيف تنقطع وقد قال الله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ولكن المعنى:
أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة، فكأنها انقطعت.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)
فإن قلت: ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم؟ قلت: الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى. ويومه: اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه. ومعنى المعلوم: أنه معلوم عند الله معين، لا يستقدم ولا يستأخر.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
فَبِعِزَّتِكَ إقسام بعزة الله تعالى وهي سلطانه وقهره.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
قرئ: فالحق والحق، منصوبين على أن الأول مقسم به كالله في
إن عليك الله أن تبايعا
وجوابه لَأَمْلَأَنَّ والحق أقول: اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه، ومعناه: ولا أقول إلا الحق. والمراد بالحق: إمّا اسمه عزّ وعلا الذي في قوله أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أو الحق الذي هو نقيض الباطل: عظمه الله بإقسامه به. ومرفوعين على أن الأوّل مبتدأ محذوف الخبر، كقوله لَعَمْرُكَ أى: فالحق قسمي لأملأنّ. والحق أقول، أى: أقوله كقوله كله لم أصنع، ومجرورين: على أن الأوّل مقسم به قد أضمر حرف قسمه، كقولك: الله لأفعلنّ.
والحق أقول، أى: ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به. ومعناه: التوكيد والتشديد.
وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضا. وهو وجه دقيق حسن. وقرئ يرفع الأوّل وجرّه مع نصب الثاني، وتخريجه على ما ذكرنا مِنْكَ من جنسك وهم الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من ذرّية آدم. فإن قلت: أَجْمَعِينَ تأكيد لماذا؟ قلت: لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم، أو الكاف في منك مع من تبعك. ومعناه: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحدا. أو لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٦ الى ٨٨]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ الضمير للقرآن أو للوحى وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدّعيا ما ليس عندي، حتى أنتحل النبوّة وأتقوّل القرآن إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ من الله لِلْعالَمِينَ للثقلين. أوحى إلىّ فأنا أبلغه. وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم «١» » وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أى ما يأتيكم عند الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وفشوه، من صحة خبره، وأنه الحق والصدق. وفيه تهديد.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصمه أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير» «٢».
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى رضى الله عنه.