سورة ص
مكية٢
٢ انظر: الإيضاح ٣٩١، والكشف ٢/٢٣٠، وجامع البيان ٢٣/٧٤، والمحرر الوجيز ١٤/٥، وتفسير ابن كثير ٤/٢٧، والدر المنثور ٧/١٤٢، والإتقان ١/١٠..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة صمكية
قوله تعالى ذكره: ﴿ص والقرآن ذِي الذكر﴾ - إلى قوله - ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾.
روي أن ابن المسيب كان لا يدع كل ليلة قراءة صاد. وسئل ولده عن ذلك فقال: بلغني: أنه ما من عبد يقرأها كل ليلة إلا اهتز العرش لها.
وقيل: هو فعل للأمر من صادى يصادي إذا عارض، ومنه " ﴿فَأَنتَ لَهُ تصدى﴾ [عبس: ٦] والمعنى: صاد القرآن بعملك، أي: قابله به.
وقد روي هذا التفسير عن الحسن أنه فسّر قراءته به.
ويجوز أن يكون فُتح لالتقاء الساكنين على نية الوصل، واختار الفتح للإتباع.
ويجوز أن يكون منصوباً على القسم، إذ قد حذف الجر، كما تقول: الله لأفعلن.
وقرأ ابن أبي إسحاق بالخفض والتنوين على إضمار حرف القسم، وإعماله
وقيل: إنه كسر لالتقاء الساكنين، وشبه بما لا يتمكن من الأصوات فَنَوَّنَهُ.
قال ابن عباس: صَ قسم أقسم الله جلّ ذكره به، وهو من أسماء الله تعالى.
فعلى هذا القول يكون، والقرآن عطف على صاد، أي: اقسم بصاد، وبالقرآن.
وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن أقسم به. وقال الضحاك:
وعن ابن عباس أيضاً: صاد صدق محمد ﷺ والقرآن ذي الذكر. فتكون صاد: جواب القسم قبله، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد ﷺ صدق من عنده.
وقوله: ﴿ذِي الذكر﴾، " ذي الشرف " قاله ابن عباس وابن جبير والسدي
وقيل معناه: ذكركم الله فيه، مثل قوله: " فيه ذكرهم ".
وقيل: ذي الذكر: فيه ذكر الأمم وغيرها.
ثم قال تعالى: ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾، أي: في تكبر وامتناع عن قبول الحق، مثل / قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم﴾ [البقرة: ٢٠٦].
ومعنى: " وشقاق ": ومخالفة، وكأنهم في شق والمسلمون في شق. وجواب القسم: " بل الذين كفروا "، قاله قتادة.
فعلى هذا القول يكون: والقرآن عطف على صاد، أي: اقسم بصاد وبالقرآن وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن اقسم به وقال الضحاك.
عن ابن عباس أيضاً: صاد صدق محمد ﷺ والقرآن ذي الذكر فتكون صاد جواب القسم قبله، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد ﷺ صدق من عنده.
صدق الله والقرآن، وهو قول الضحاك.
وقيل: الجواب محذوف، والتقدير: صاد والقرآن ذي الذكر، ما الأمر كما يقول هؤلاء الكفار، ودل عليه قوله: ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾. وهذا اختيار الطبري
ثم قال: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾، أي كثير من القرون أهلكنا قبل هؤلاء المشركين الذين كذبوا رسلهم.
﴿فَنَادَواْ﴾، أي: فضجوا إلى ربهم وَعَجُّوا واستغاثوا بالتوبة حين نزل بهم العذاب.
﴿وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾، أي: وليس ذلك الوقت حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة لأنه أوان لا تنفع فيه التوبة.
" ولات " حرف مشبه بليس، والاسم في الجملة مضمر. (أي: ليس) حينكم حين مناص. هذا مذهب سيبويه. والتاء دخلت لتأنيث الكلمة، وحكُي أن من العرب من يرفع بها. وهو قليل على حذف الخبر.
والوقف عليها عند سيبويه والفراء وابن كيسان وأبي إسحاق بالتاء لشبهها
والوقف عليها عند الكسائي والمبرد بالهاء كرُبَّه وثَمه.
ومناص: مَفْعَلٌ من ناص ينوص إذا تأخر. فالنوص التأخر، والبوص التقدم.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾، أي: عجب مشركو قريش أن جاءهم منذر منهم ينذرهم بأس الله على كفرهم ولم يأتهم ملكه.
ثم قال: ﴿وَقَالَ الكافرون﴾، أي: المنكرون وتوحيد الله تعالى ﴿ هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾. " هذا " إشارة إلى النبي ﷺ.
ثم قال تعالى عنهم: إنهم قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً﴾ أي: أجعل محمد المعبود معبوداً واحداً؟!
﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾، أي: عجيب
رُوي أن النبي ﷺ قال للمشركين: " أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين بها لكم العرب، وتعطيكم بها الخرج العجم. فقالو: ما هي؟! قال: تقولون لاَ إله إلا الله. فعند ذلك قالو: أجعل الآلهة إلها واحداً، تعجباً من ذلك ".
وذكر ابن عباس أنه " لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا إنّ ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعث إليه فنهيته. فبعث إليه فجاء النبي ﷺ فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس إلى جنب أبي طالب. فلم يجد رسول الله ﷺ مجلساً قرب عمّه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب. أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال: فأكثروا عليه القول. وتكلم الله ﷺ فقال: يا عمّي إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. وقال القوم كلمة واحدة: نعم، وأبيك عشراً، قالوا: فما هي؟! قال أبو طالب: أيُّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: لا إله إلا الله "
قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً.
وفرّق الخليل بين العَجيب والعُجاب، فالعجيب، العَجَب، والعُجاب: الذي قد تجاوز حد العَجضب، وكذلك عنده الطَّويل الذي فيه طول، والطُّوال الذي قد تجاوز حد الطول.
وقيل: هما بمعنى، يقول: طَويل وطُوال، وجَسيم وجُسام، وخَفيف وخُفاف، وسَريع وسُراع، ورَقيق ورُقاق، بمعنى.
قوله تعالى ذكره: ﴿وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا﴾ - إلى قوله - ﴿قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾.
أي: وانطلق الأشراف من مشركي قريش القائلين: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً﴾ [ص: ٥]
وكان لهم يومئذ ثلاث مائة صنم وستون صنماً / يعبدونها من دون الله سبحانه وروي أن قائل ذلك كان عقبة بن أبي معيط.
وقوله: ﴿أَنِ امشوا﴾، معناه: تناسلوا، كأنه دعا لهم بالنمار وهو من قول العرب: مَشَى الرجل وأُمْشَى إذا كثرت ماشيته، وأمشت المرأة: كَثُرَ وَلَدُها.
قال الشاعر:
........................ | * والشَّاةُ لا تُمْشَى على الهمَلَّعِ |
ثم قال عنهم إنهم قالو: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾، أي: لشيء يريد بنا محمد - ﷺ - يطلب علينا الاستعلاء به، وأن يكون له فينا اتباع.
ثم قالو: ﴿مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة﴾.
قال ابن عباس: يعنون النصرانية دين عيسى. أي: لم نسمع في دين عيسى ﷺ
﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾، أي: ما هذا إلا كذب.
وعن ابن عباس أن المعنى: لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرنا به النصارى.
وقال مجاهد: معناه ملة قريش.
وقال قتادة: معناه في زماننا وديننا.
قال أبو إسحاق: ﴿فِى الملة الآخرة﴾: في النصرانية ولا في اليهودية ولا فيما أدركنا عليه لآباءنا.
ثم قال: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾، أي: ما هذا الذي أتانا به محمد ﷺ إلاّ كذب اختلقه وتخرصه وابتدعه حسداً منهم لمحمد ﷺ. ودل على أنه حسد منهم قوله عنهم:
﴿عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾، أي: كيف خُصَّ محمد بنزول القرآن عليه من بيننا.
والمعنى: على أحد رجلين من إحدى القريتين.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي﴾، أي: في شك من القرآن.
﴿بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾، أي: لم يذوقوا العذاب، ولو ذاقوه لأيقنوا حقيقة ما هم فيه وعملوا أن الذين كذَّبوا به حق.
ثم قال: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب﴾، أي: أم عند هؤلاء المكذبين مفاتيح ربك وعطاياه، فَيَخُصُّوا من شاءوا بالرسالة. العزيز في سلطانه، الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء من رسالته وكرامته.
ثم قال جل ذكره: ﴿أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب﴾، أي: إن كان لهم مُلْكُ ذلك فليصعدوا في أبواب السماء أو طرفيها، لأن من كان له ملك ذلك لم يتعذر عليه الصعود فيه، هذا معنى قول مجاهد وقتادة وابن زيد
وقال الربيع بن أنس: الأسباب أَرَقُّ من الشعر وأشَدُّ من الحديد، وهو مكان ولكن لا يُرى.
والسبب هو: كل شيء يوصل به إلى المطلوب من حبل أو جبل أو ستر أو رحم أو قرابة أو طريق أو باب. يقال: رَقِيَ يَرْقَى رَقْياً إذا صعد، كرَضِيَ يرضى. ومثله: ارتقى يرتقي إذا صعد ويقال: رقي يرقِي رقياً من الرقية مثل: رمى يرمي رمياً.
ثم قال: ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب﴾.
يعني بقوله: ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ﴾: الذين قال فيهم: ﴿بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾ وهم أشراف قريش الذين هُزِموا وقُتلوا يوم بدر.
والتقدير: هم جند مهزوم هنالك.
ومعنى ﴿مِّن الأحزاب﴾: من القرون الماضية.
وقال الفراء: معناه: هم جنود مغلوب أن يصعد السماء.
وقيل: هم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله ﷺ فأتوا إلى المدينة فهزمهم الله تعالى بالريح والخوف. فأعلم الله تعالى نبيه ﷺ ومن معه من المؤمنين أنه سيتحزب عليهم المشركون، وأنهم سيهزمون. فكان في ذلك أبين دلالة لهم على نبوة محمد ﷺ وصِدْقِه في جميع ما يَعِدُهُم به، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: ٢٢] الآية لأنه أخبرهم بذلك وهم في مكة ثم جاءهم ما أخبرهم به وهم في المدينة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾، أي: قبل قريش، وكذلك عاد ﴿وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد﴾.
فرعون هو: الوليد بن مصعب.
وقيل: كان يسمى كل من مَلَكَ مصر فرعون، كما يسمى كلُّ من ملك اليمين تبّعاً، ومن مَلَكَ فارس كسرى، ومن مَلَكَ الروم قيصر وهرقل.
قال المبرد: كَسرى بالفتح. وقال غيره: بالكسر.
وإنما نُعِتَ فرعون بالأوتاد لأنه كانت له أوتاد يلعب له عليها؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن جبير.
وقال السدي: كان يُعِّبُ الناس بالأوتاد؛ يعذبهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع (الصخرة تمد بالحبال) ثم تُلقى عليه فتشدخه.
وقال الضحاك: ﴿ذُو الأوتاد﴾: ذو البُنيان.
وقد تقدم ذكر الأيكة في الشعراء.
ثم قال: ﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل﴾، أي: ما كل هؤلاء الأمم إلا كذب الرسل فيما جاؤهم به.
﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾، أي: وجب عليهم عقاب الله تعالى ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾، أي: وما ينتظر هؤلاء المشركون بالله سبحانه إلا صيحة واحدة - وهي النفخة الأولى في الصور - ما لها من فتور ولا انقطاع.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " لَمَّا فَرَغَ الله مِنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ وأَعْطَاهُ إسْرَافِيلَ. فَهْوَ واضِعُهُ عَلَى فيهِ، شَاخِصٌ إلى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ. قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصُّورُ؟ قال: قَرْنٌ. قال: وكيف هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيه ثَلاَثَ نَفَخَاتٍ: نَفْخَة الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّماواتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهَ. وَيَأْمُرهُ الله فَيُدِيُمَها وَيُطَوِّلُهَا فَلاَ تَفْتُرُ. وَهِيَ الَّتي يَقُولُ اللهُ جَلّ وعزّ: ﴿وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ ".
وقال قتادة: من مثنوية ولا رجوع (ولا ارتداد).
وقال السدى: معناه: ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك من إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.
وقال ابن زيد معناه: ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذاباً يهلكهم.
فالصيحة عنده: العذاب.
﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾، أي لا يفيقون منها كما يفيق الذي يُغشى عليه.
وأصل هذا من فواق الناقة، وهو ما بين الحلبتين من الراحة. فالمعنى: ما لها من راحة، أي: لا يروحون حتى يتوبوا ويرجعوا عن كفرهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾، أي: وقال هؤلاء المشركون من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة.
والقط من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة.
والقط في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة.
وقال السدي: إنما سألوا تعجيل رؤية حظهم من الجنة ورؤية منازلهم ليعلموا حقيقة ما يعدهم به محمد ﷺ.
وقال ابن جبير: سألو تعجيل حظهم من الجنة يتنعمون به في الدنيا.
وقيل: إنما سألو تعجيل رزقهم قبل وقته.
وقيل: إنما سألو تعجيل كتبهم التي تؤخذ بالإيمان والشمائل، لينظروا أبأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم، فيعلمون أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار، استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله جل ذكره.
هذا قوله تعالى ذكره: ﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ - إلى قوله - ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ منسوخ بالأمر بالقتال، أمر الله جل ذكره نبيه ﷺ بالصبر على قول المشركين والاحتمال منهم، وقد علم تعالى أنه سيأمرهم بقتالهم في وقت آخر، فينسخ الآخر الأول.
يقال: أيد وآد للقوة كما يقال: العيب والعاب
قال قتادة: " أُعْطِيَ داود قوة في العباد وفقهاً في الإسلام، وذُكِرَ أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
وقوله: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: رَجَّاع عما يكره الله تعالى إلى ما يرضاه أواب وهو فعَّال للتكثير من آب يئوب إذا رجع.
قال مجاهد: أواب: رجاع عن الذنوب.
قال قتاجة: كان مطيعاً لله تعالى كثير الصلاة.
وقال السدى: الأوَّاب: المسبح.
قال وهب: كان داود قد قسم الدهر أثلاثا، فيصير: يوم للعبادة، ويوماً للقضاء بين الناس، ويوما لقشاء حوائج أهله.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق﴾، أي: يسجن مع داود من وقت العصر إلى الليل، ومن صلاة الصبح إلى وقت صلاة الضحى.
يقال: أشرقت الشمس: إذا أضاءت وصفت، وشرقت إذا طلعت.
قال قتادة: كان داود إذا سبح سبحت الجبال معه.
واستدل ابن عباس على نص صلاة الضحى في القرآن بهذه الآية ﴿بالعشي والإشراق﴾، لأنه من أشرقت الشمس إذا وصفت وأضاءت. فإذا صلى داود
﴿والطير مَحْشُورَةً﴾، أي: وسخرنا الطير مجموعة تسبح معه.
﴿كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: رجاع لأمره ومطيع له. فالهاء لداود وقيل: إلهاء لله تعالى. والمعنى كل لله مطيع، مسبح له. فكل " في القول الأولى للطير، وفي هذا الثاني: يجوز أن يكون للطير، ويجوز أن يكون لداود والجبال والطير.
ورُوي أنه كان إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه.
وقال قتادة: محشورة: مسخرة.
ثم قال: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾.
وذكر ابن عباس أن الله جل ذكره شدد ملكه هيبة لقضية قضاها في بنى إسرائيل وذلك أن رجلاً استعدى على رجل من عظمائهم فاجتمعا عند داود، فقال المُسْتَعْدَى: إن هذا غصبني بقراً لي. فسأل الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البيِّنة فلم تكن له بينة، فقال لهما: قُوَما حتى أنظر في أمركما فقاما.
فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي ستُعدي عليه. فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأَوْحَى إليه مرة أخرى أن يقتُلَه، وأوحى إليه ثالثة (أن يقتله) أو تأتيه العقوبة من الله تعالى، فأرسل داود إلى الرجل أن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك، فقال الرجل: تقتلني بغير بينة ولا تثبت! فقال له داود: نعم، والله لأنفِّذْنَ أمرالله عز جل فيك. فلما عرف الرجل أنه قاتله قاله له: لا تعجل عليّ حتى أخبرك، إني والله ما أُخِذْتُ بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت وَلَدَ هذا فقتلته فبذلك قُتِلْتُ. فأمر به داود، فَقُتِلَ. فاشتدت هيبته في بني إسرائيل لذلك وشد الله به ملكه.
قال السدى: هي النبوة.
وقال قتادة: الحكمة: السُّنَّة.
وقوله: ﴿وَفَصْلَ الخطاب﴾.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي: فصل الخطاب: الفهم في علم القضاء.
وقال ابن زيد: أعطي فصل ما يتخاطب الناس به بين يديه في الخصومات.
وقال شريح فصل الخطاب: الشاهدان على المدعي، واليمين على المنكر، وهو قول قتادة.
ثم قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾، أي: وهل أتاك يا محمد خبر الخصم.
والخصم هنا يراد به الملكان، لكن لا تظهر فيه تثنية ولا جمع لأنه مصدر من خصمته خصماً. والأصل فيه: وهل أتاك نبأ ذوي الخصم ويجوز أن يثنى ويجمع، ودل على ذلك قوله: خصمان.
وقوله: ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾، أي إذ دخلوا عليه من غير بابه. والمحراب: مقدم كل شيء ومجلسه وأشرفه.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ﴾، أي: لما دخلوا على داود المحراب.
﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾، أي: فراعه دخولهما من غير مدخل الناس عليه. وقيل: إنما فزع
﴿بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ﴾، أي: تعدَّى أحدنا على صاحبه.
﴿فاحكم بَيْنَنَا بالحق﴾، أي: فاقض بيننا بالعدل.
﴿وَلاَ تُشْطِطْ﴾، أي: لا تجر، وقال قتادة ولا تمل، وقال السدى: لا تخف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء: " ولا تَشْطُطْ " بفتح التاء وضم الطاء الأولى. بمعنى: ولا تبعد عن الحق. يقال: أَشَطَّ يُشِطُّ إذا جار في القول والحكم، وشَطّ يَشُطُّ إذا بَعُد.
ثم قال تعالى: ﴿واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط﴾ /، أي: وارشدنا إلى قصد الطريق المستقيم في الحق.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾، الآية.
قال وهب بن منبه: إن هذا أخي، أي على ديني.
والعرب تُكَنِّي عن المرأة بالنعجة والشاة.
وقرأ الحسن بفتح التاء من " تَسع وتَسعين " وهي لغة قليلة.
وقرأ ابن مسعود: " تِسْعٌ وتَسِعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " على التأكيد، كقولهم: رجل ذَكَر؟.
ولا يؤنث بهذا التأنيث إلا ما تأنيثه وتذكيره في نفسه كالرجل والمرأة، فإن كان تأنيثه وتذكيره في اسمه (لم يُقَلْ) فيه أنثى ولا ذكر، نحو: دار، وملحفة، وشبه ذلك.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾، أي: أنزل عنها وضُمَّها إليَّ.
قال ابن زيد: أكفلنيها: أعطنيها، أي: طلقها لي أنكحها.
﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾، أي: صار أعزَّ مني في مخاطبته إياي لأنه إن تكلم فهو أبين مني، وإن بطش كان أشد مني فقهرني وغلبني.
قال قتادة: وعزني في الخطاب: ظلمني وقهرني.
وقرأ ابن مسعود: " وَعَازَّنِي ".
يقال: عَازَّه (إذا غالبه، وَعَزَّهُ): إذت غلبه، ومنه قولهم: " مَنْ (عَزَّ بَزَّ).
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ﴾، أي:
قال داود للمتكلم منهما: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله إيله أن يضم نعجتك إلى نعاجه.
﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾، أي: وإن كثيراً من الشركاء
قوله تعالى ذكره: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ - إلى قوله - ﴿الصافنات الجياد﴾
أي: وأيقن داود أنما اختبرناه.
﴿فاستغفر رَبَّهُ﴾، أي: سائل ربه المغفرة.
﴿وَخَرَّ رَاكِعاً﴾، أي: ساجداً لله.
﴿وَأَنَابَ﴾، أي: رجع عن خيئته وتاب منها.
وكان سبب اختيار الله تعالى له - فيما ذكر ابن عباس - أن داود قال: يا رب، قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لَوَدِدْتُ أنك أعطيتني مثله. فقال الله جل ذكره له: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، فأقام ما شاء الله أن يُقيم وطال ذلك حتى كاد أن ينساه. فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة كانت في المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت. فاطَّلع من الكوة فرأى امرأة تغتسل. فنزل نبي الله ﷺ من المحراب وأرسل إليها، فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرِيَّةِ أن يُؤَمِّرَهُ على السرايا لِيَهْلَكَ زوجها، ففعل. فكان يصاب أصحابه وينجو وربما نصروا. وإن الله لما رأى الذي وقع فيه داود أراد أن يستنفذه، فبينما داود ذات يوم في محرابه إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه.
فلما رأهما وهو يقرأ فَزِعَ وسكت، وقال: لقد استُضعفت في مُلكي حتى إن الناس يتسورون علي في محرابي، قالا له: لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فلم
قال له داود: أنت كنت أحوجَ إلى نعجتك منه، لقد ظلمك بسؤاله إياك نعجتك ونسي نفسه ﷺ. فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخرة فرآه داود أنه فتن، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة من عينينه ثم شدد الله له ملكه.
روى ابن أبي الدنيا أن وهب بن منبه قال: لم يرفع داود عليه السلام رأسه من السجود حتى قال له الملكان: أول أمرك ذنب وآخره معصية، ارفع رأسك، فرفع رأسه.
وعن وهب أنه قال: لما رفع داود رأسه من (السجدة رفع رأسه) وقد زَمِنَ ورعش. قال: فاعتزل نساءه ثم بكى حتى خددت الدموع وجهه.
وقال عطاء الخراساني: " إن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها، فكان
وقال وهب بن منبه: كتب داود في كفه: داود الخطاء.
وقال يحيى بن أبي كثير لما أصاب داود الخطيئة نفرت / الوحوش من حوله، فنادى: إلهي، رُدَّ عليَّ الوحش كي آنس بها فرد الله تبارك وتعالى عليه الوحش فَأَحَطْنَ به وأصغين بأسماعهن نحوه. قال: روفع صوته يقرأ الزبور ويبكي على نفسه فنادته هيهات هيهات يا داود، ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " مَثَلُ عَيْنَيْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَثَلُ الْقِرْبَتَيْنِ تَنْظِفَانِ بِالمَاءِ. لَقَدْ خَدَّدَتِ الدُّمُوعُ وَجْهَ دَاودَ خَديدَ المَاءِ في الأرْضِ ".
قال سعيد: " كان داود يجلس على ستة أفرشة فيبكي فيبل الأول فيُرْفع حتى يبللها كلها، كلما كلما بَلَّ واحداً رُفِع؛ وإن كان ليؤتى بالإناء ليشرب فما يفرغ منه حتى يتدفق من دموعه وروى إسماعيل بن عبيد الله: إن داود النبي ﷺ كان يعاتب في
﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
قال محمد بن المنكدر مكث آدم ﷺ في الأرض أربعين سنة ما يبدي عن واضحة ولا ترقئ له جمعة. فقالت له حواء: إنَّا قد استوحشنا إلى أصوات الملائكة فادع ربك فيسمعنا أصواتهم. فقال لها: ما زلت مستحياً من ربي تعالى أن أرفع طرفي إلى أديم السماء مما صنعت.
وقال محمد بن خوات: إن داود النبي ﷺ لما أطال البكاء على نفسه، قيل له: اذهب إلى قبر زوج المرأة فاستوهبه ما صنعت، فأتى القبر، وأَذِنَ الله لصاحب القبر أن يتكلم، فناداه: أنا داود ولك عندي مظلمة، قال: قد غفر تهالك، قال: فنصرف داود وقد طابت نفسه، فأوحى الله تعالى إليه أن ارجع فبين له الذي صنعت فرجع، فأخبره، فناداه صاحب القبر يا داود، هكذا يفعل الأنبياء!
قال بكر بن عبيد الله المزُني: مكث داود النبي عليه السلام ساجداً أربعين يوماً يبكي على خطيئته حتى نبت البقل من دموعه، ثم زفر زفرة فهاج العودة فاحترق،
وقال الحسن: بكاء داود عليه السلام بعد ما غُفرت له الخطيئة أكثر من بكائه قبل المغفرة، فقيلك له: قد غُفر لك يا نبي الله؟! قال: فكيف بالحياء من الله تعالى.
قال كعب: كان داود عليه السلام يختار مجالسة المساكين، ويُكثر البكاء ويقول: رب اغفر للمساكين والخطائين حتى تغفر لي معهم، وكان قبل ذلك يدعو على الخطائين.
قال أبو عبد الرحمن الحبلي: ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد خطيئته حتى مات.
ورُوي أنه كان إذا ذكر عقاب الله تعالى تلعت أوصاله، فإذا ذكر
وروى أشهب عن مالك أنه قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريباً من داود وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها، فكانت قرب يده، ثم طارت فَاَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغسل ولها شعر طويل.
فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموع عينيه.
ويراد بالركوع في هذا الموضع: السجود.
قال السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوماً يقضي فيه بين الناس ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه تعالى، ويوماً يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب: فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم. فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال: يا رب، إن الخير قد ذهب / به آبائي، فأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلاء لم تبتل به، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه فصبر، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، وإنك لم تبتل
قال: فأوحى الله تعالى إليه أنك مبتلى فاحترس، قال: فمكث ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي قال: فمد يده ليأخذه فتنحى، فتبعه قتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة فنظر أين (يقع فيبعث) في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل في سطح لها، فرأى امرأة من أجمل الناس خَلْقاً، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به. قال: فزاده ذلك فيها رغبة. قال: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجاً وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا). قال: فبعثه ففتح له قال: فكتب إليه بذلك. قال فكتب إليه ثالثة فبعثه فقتل. قال: وتزوج امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيراً حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فتسوروا عليه المحراب. قال: فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين قال: ﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ فقالا: ﴿لاَ تَخَفْ﴾ لا تخف، إنما نحن ﴿خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ﴾ - إلى قوله -
فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي (تسعاً وتسعين) نعجة ولأخي هذا نعجة واحدة. قال: فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة؟! قال: (وهو كاره). قال: إذا (لا ندعك) وذلك. قال: ما أنت على ذلك بقادر. قال: فإن ذهبت تروم ذلك (أو لم ترد ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يريد طرف الأنف، وأصل الأنف، والجبهة قال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منه هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امراة ولم يكن لاوريا إلا امرأة واحدة، (فلم تزل) تعرضه للقتل حتى قُتل، وتزوجت امراته. قال: فنظر داود الرجلين فلم ير شيئاً فعرف ما قد وقع فيه فخر ساجداً. - وهو موضع السجود عند مالك.
فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لرسول الله ﷺ. فقال رسول الله: نحن أحق أن يقول ذلك. فكان ﷺ إذا سجد يقول ذلك.
قال عقبة بن عامر الجهني: من قرأ (ص) ولم يسجد فيها فلا عليه ألا يقرأ بها.
قال: فأوحى الله تعالى إليه: إذا كان ذلك (دعوت أوريا).
فاستوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب، الآن علمت أنك قد غفرت لي. قال: فلما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض ﷺ.
وقيل: اسم الرحل أوريا بن حيان.
وقال الحسن: جزأ داود الدهر أربعة أجزاء: يوماص لنسائه، ويوماً لعبادة ربه، ويوماً لقضاء بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل، قال: ذَكَرُوا فقالو: هل أتى على الإنسان يوم / لا يصيب فيه ذنباً؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك.
فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة.
قال قتادة: بلغنا أنها أم سليمان.
قال الحسن: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه - وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب - ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فقالا: لا تخف، خصمان يغى بعضنا على بعض. وذكر نحو الحديثين المتقدمين.
وقيل: إن خطيئته هي قوله: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه من غير ثبت بينة ولا إقر ار من الخصم ولا سؤال لخصمه: هل كان هذا هكذا أو لم يكن. وهو قول شاذ.
فكان من آخر دعائه وهو ساجد أنه قال: يا رب رزقتني العافية، فسألتك البلاء، فلما ابتليتني لم أصبر فلم تعذبني فأنا أهل ذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل ذلك - يقولها في نفسه - فعلم الله تعالى ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله تعالى ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله قد غفر لك فارفع رأسك فلم يتلفت إليه، وناجى ربه وهو ساجد فقال: يا رب، وكيف تغفر لي وأنت الحكم العدل، وقد فعلت بالرجل ما فعلت؟ قال: فنزل الوحي عليه: صدقت يا داود أنا الحكم العدل، ولكن إذا كان يوم القيامة دفعتك إلى أوريا سلماً، ثم استوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه الجنة. قال داود: الآن أعلم أنك قد غفرت لي. قال: فذهب داود يرفع رأسه فاذا هو يابس لا يستطيع. قال: فمسحه جبريل عليه السلام بريشة فانبسط. قال: فأوحى الله تعالى إليه بعد ذلك: يا داود: قد أحللت لك امرأة أوريا فتزوجها، فتزوجها داود ﷺ، فولدت له سليمان عليه السلام، لم تلد قبله شيئاً ولا بعده.
قال كعب: فوالله لقد كان داود بعد ذلك ليظل صائماً في اليوم الحار فيقرب إليه الشراب فإذا قربه إلى فيه ذكر خطيئته فيبكي في الشراب حتى يفيض ثم يرده ولا يشربه.
ويروى أن داود بات لربه تعالى مصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله، لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد إياه من أهل الأرض.
فكَلَّمَه ضفدع من الماء فقالت: جلا يا أبا سليمان، فوالله إن لي لثلاثاً من الدهر ما جمعت بين فقمي تسبيحاً لله.
وروي عن ابن مسعود وابن عباس أن داود عليه السلام ما زاد على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه.
ثم قال تعالى: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾، أي ذلك الذنب.
ثم قال: ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾، أي: حسن مصير.
قال السدي: حسن منقلب.
وقال الضحاك: يبعث داود النبي عليه السلام وذكر خطيئته، ووجلُه منها في قلبه، منقوشةٌ في كفه. فإذا رأى أهاويل الموقف لم يجد منها متعوذاً وامحرزاً إلا برحمة الله تبارك وتعالى قربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال وقربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال له: هاهنا عن يمين العرش.
وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
وقال مالك بن دينار: يقال داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش، ثم يقول: يا داود، مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به / في الدنيا.
قال: فيدفع داود بصوت يستفرغ به نعيم أهل الجنان.
﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾: تمام حسن.
ثم قال تعالى: ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾، فغفرنا له ذلك الذنب، وقلنا له: يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، أي استخافناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكماً بين أهل الأرض.
﴿فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾، أي: بالعدل والإنصاف.
﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى﴾، أي: لا توثر هواك في قضائك على العدل فتجور في الحكم فيضلك هواك عن سبيل الله.
﴿إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾، أي: يميلون عن الحق الذي أمر الله به.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ﴾، أي: يوم القيامة.
﴿بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب﴾، أي: بتركهم العمل ليوم القيامة.
والتقدير عنده: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا أي: بما تركوا أمر الله والقضاء بالعدل.
فالعامل في " يوم " في القول الأول: " نسوا " هو مفعول به والعامل فيه في القول الثاني " لهم " وهو ظرف.
وكان ابن عباس يسجد عند قوله: " وأناب "، ويقول: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠].
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾، أي: عبثاً ولعباً بل خُلِقَا ليُعمل فيهما بالطاعة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾، أي: خلق السماء والأرض وما بينهما لغير حساب ولا بعث ولا عمل، هو ظن الذين كفروا فويل لهم من النار.
ثم قال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض﴾. هذا رد لقول الكفار، لأنهم كانوا يقولون: ليست ثمَّ عقوبة ولا نار، فالكافر والعاصي يَسْعَدَان باللذات، والمطيع يشقى، ومصيرهما إلى شيء واحد فرد الله عليه بأنه لم يجعل المتقين كالفجار في الآخرة، ولا الصالح كالمفسد.
ثم قال: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾، (أي: هذا القرآن كتاب أنزله الله إليك يا
ثم قال: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾، أي: وُلِدَ إليه.
﴿نِعْمَ العبد﴾، أي: ممدوح في طاعة ربه.
﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: رجاع إلى طاعة الله تعالى تواب إليه سبحانه، وقيل: الأواب: الكثير الذكر.
وقال ابن عباس: الأواب: المسبح.
وقال قتادة: مطيعاً كثير الصلاة.
وقال ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
وقيل: هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء، ثم يتوب منه ويستغفر.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد﴾، أي: هو تواب في هذا الوقت.
والصافنات: جمع صافن من الخيل، والأنثى: صافنة.
والصافن: الذي يجمع بين يديه، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه.
وقيل: هو الذي يجمع بين يديه.
وقال مجاهد: صفون الفرس: " رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر ".
وقال قتادة: صفونها: قيامها وبسطها قوائمها.
وقال ابن زيد: الصافنات: الخيل، أخرجها الشيطان لسليمان من مرج من مروج البحر.
والصفن أن تقوم على ثلاث وترفع رجلاً واحدة تكون على طرف الحافر على الأرض. قال ابن زيد: وكانت لها أجنحة.
(والجياد: السريعة. روي أنها كانت عشرين فرساً ذات أجنحة).
قوله تعالى ذكره: ﴿فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير﴾ - إلى قوله - ﴿لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
قال ابن عباس: كان مما ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس لا يعلم في
في الآية حذف دل عليه الكلام، والتقدير: إنه أواب إذ عُرض / عليه بالعشي الصافنات الجياد، فلهى عن الصلاة حتى فاتته فغابت الشمس ولم يصل، وهو قوله ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾.
﴿فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير﴾، أي: الخيل. والعرب سمي الخيل: الخير، والمال أيضاً يسمونه الخير.
وفي الحديث: " الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَواصِيَها الخَيْرُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ولما ورد زيد
وقيل: المعنى، إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربي، وذلك أنه كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غُنمت، فأشار بيده أنه يصلي.
﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾، أي: توارت الخيل، فسترها جدر الإصطبلات، فلما فرغ من صلاته قال:
﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق﴾، أي: يمسحها مسحاً. فالضمير في " توارت " على هذا القول للخيل.
وأكثر الناس على أنه للشمس وإن (لم يجر) لها ذكر، ولكن لما قال بالعشي دل على أن بعده غياب الشمس.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ التي فاتته في صلاة العصر وهو قول قتادة
وقيل: المعنى: إني آثرت حب الخير عن ذكر ربي، أي: على ذكر ربي، ومنه قوله: ﴿فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧]، أي: آثروا الضبه على الهدى.
وقيل: معنى أحببت: قعدت وتأخرت.
يقال أحب الجمل وأحببت الناقة، إذا بركت وتأخرت.
فالمعنى: إني قعدت عن ذكر ربي لحب الخير ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾.
إنى قعدت عن صلاة العصر حتى غابت الشمس.
فيكون حب الخير مفعولاً به على قول من جعل أحببت بمعنى آثرت. ويكون مفعولاً من أجله على قول من جعل أحببت بمعنى تأخرت وقعدت. ولا يحسن أن ينصب على المصدر لأن المعنى على غير ذلك.
ثم قال: ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾، أي: ردوا الخيل عليَّ التي شغلتني على الصلاة.
﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق﴾، أي: طفق يضرب أعناقها وسوقها.
قال الحسن: قال سليمان: لا، والله لا تشغلني عن عبادة ربي فكشف عراقيبها وضرب أعناقها.
ولم يكن له فعل ذلك إلا وقد أباح الله ذلك له.
قال بعض أهل العلم: هذا القول أحسن، لأنه نبي، ولم يكن ليعذب حيواناً بغير ذنب ويفسد مالاً بلا سبب.
قال وهب بن منبه: كانت الريح تحمل سليمان وجنوده، وكانت تأتيه تُسمعه كلام كل متكلم، ولذلك سمع كلام النملة.
قال: وإنه لمسير ذات يوم بجنده والريح تحمله (إذ مر برجل) من بني إسرائيل وهو في حرث له يثير على مجساة له يفجر في حرث له من نهر له إذ التفت فرأى سليمان وجنده بين السماء والأرض تهوي به الريح. فقال: لقد آتاكم الله آل داود. قال: فاحتملت الريح كلامه فقذفته في إذن سليمان عليه السلام فقال سليمان للريح: احبس، فحبست. فنزل مقتنعاً بِبُرْدٍ لَهُ حتى أتى الرجل فقال له: ماذا قلت؟!
قال له الرجل: فَرَّجْتَ هَمِّي، فرج الله همك.
فقال له سليمان: وما همي؟
قال: أن تشكر ما أعطاك الله تعالى.
قال له سليمان: صدقت. وانطلق إلى مركبه.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾، أي: اختبرناه وابتليناه.
﴿وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً﴾، أي: شيطاناً مثل بإنسان.
ذكر أن اسمه صخر الجني، قاله ابن عباس، قال: الجسد: الجِنِّي الذي دفع إليه سليمان خاتمه فقذفه في البحر. وكان ملك سليمان في خاتمه. وهو قول الحسن وابن جبير ومجاهد.
قال مجاهد: فقعد الجني على كرسي سليمان، ومنعه الله من نساء سليمان فلم يقربنه وأنكرنه.
وقال قتادة: " أمر سليمان ببناء المقدس، فقيل له: ابْنِه، ولا يُسمع فيه صوت حديد. فطلب (علم ذلك فلم يقدر عليه، فقيل له: إن شيطاناً في البحر يقال له صخر، سيد الماردين. قال: فطلبه). وكانت عين في البحر يَرُدها ذلك الشيطان في كل سبعة أيام مرة فنزح ماؤها وجُعل فيه خمر. فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: إنَّكِ لشراب طيب، إلا أنك لتصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً!) ثم شربها حتى غلبت على عقله.
قال: فأُرِيَ
وذكر السدي في هذه القصة مثل ذلك إلا أنه قال: " كانت لسليمان مائة امرأة، امرأة منهن يقال لها جرادة - وهي أَعَزُّ نسائه عنده وآمَنَهُنَّ - وكان يترك الخاتم عندها إذا دخل الخلاء، فجاءته يوماً (من الأيام) فسألته أن يقضي لأخيها في خصومة بينه وبين رجل، فقال لها: نعم، ولم يفعل، فابتلي. فأعطاها خاتمه ودخل الخلاء فأتاها الشيطان في صورة سليمان فأعطته الخاتم فذهب ملك سليمان وجلس الشيطان على كرسي سليمان فقد ذهب عقله! فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرؤوا، فطار بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه، فابتلعه حوتٌ. قال: وأقبل سليمان
وجاءت الطير حتى حامتا عليه فعرف / القوم أنه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال: (ما أحببكم) على عذركم ولا ألومكم عل ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه. فجاء حتى أتى مُلكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به - وسخر له الريح والشياطين يومئذ (ولم يسخر) له قبل ذلك - فجعل الشيطان في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أَمَرَ، فأُلقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة " وقيل: أنه ولد له ولد ميت، وذلك أنه طاف على (جَوَارٍ له) وقال: أرجو أن تلد كل
وقوله: ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾، أي: أناب سليمان فرجع إلى ملكه بعد زواله عنه.
قال الضحاك: دخل سليمان على امرأة تبيع السمك فاشترى منها سمكة فشق بطنها فوجد خاتمه، فجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة (ولا شيء) إلا سجد به، ثم أوتي مُلكه وأهله، فذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾، أي: رجع.
وقيل: " أناب ": [تاب ورجع عما كان عليه.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغفر لِي﴾، أي: استر على ذنبي الذي أذنبت]. بيني وبينك.
وقيل: المعنى: لا يكون مثله لأحد من بعدي.
﴿إِنَّكَ أَنتَ الوهاب﴾، أي: تهب ما تشاء لمن تشاء.
وقيل: المعنى: أعطني فضيلة ومنزلة.
روى أبو عبيد في كتابه مواعظ الأنبياء أن سليمان عليه السلام لما بنى مسجد بيت المقدس ودخله خر ساجداً شكراً لله تعالى وقال: يا رب، من دخله من تائب فَتُبْ عليه، أو مستغفر فاغفر له، أو سائل فأعطه.
قال: ولما مات داود عليه السلام أوحى الله إلى سليمان أن سَلْنِي حاجتك. قال: أسألك أن تجعل قلبي يخشاك كما كان قلب أبي، وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلبي أبي. فقال الله جل ذكره: أرسلت إلى عبدي أسأله حاجته، فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني، وأن أجعل قلبه يحبني! لأَهَبَنَّ له مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده. فوفقه الله إلى أن سأل ذلك فأعطاه ذلك، وفي الآخرة لا حساب عليه فيه.
وروى أبو عبيد أن نملة قالت لسليمان: إني على قدري أشكر لله منك! وكان على فرس ذنوب فخر عنه ساجدا: (ثم قال: لولا أن أبخلك لسألتك أن تنزع عني ما أعطيتني).
ثم قال تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً﴾، أي: فاستجبنا دعاءه وأعطيناه مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء.
قال الحسن: إن نبي الله سليمان لما عُرضت عليه الخيل شغلته عن صلاة العصر، فغضب لله، فأمر بها فعُقِرَت، فأبدله الله مكانها أسرع منها، فسخرت له الريح تجري بأمره رخاء.
قال مجاهد: رخاء: طيبة.
وقال قتادة: رخاء: طيبة سريعة ليست بعاصف ولا بطيئة.
وقال ابن زيد: الرخاء: اللينة.
وقال ابن عباس: رخاء: مطيعة، وقال الضحاك.
وقال السدي: رخاء: طوعاً.
وقوله: ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾، أي: حيث أراد: قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وابن زيد من قولهم: أصاب الله بك خيراً، أي: أراده الله بك خيراً.
وقال مجاهد: " حيث أصاب: حيث شاء ".
ثم قال ﴿والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ﴾، أي: كل بناء يبني له ما يشاء من المحاريب والتماثيل، وكل غواص يستخرج له الحلي من البحار، وسخر له كل من ينحت له جفافاً وقدوراً، وآخرين مقرنين في الأصفاد، وهم: المردة من الشياطين. هذا كله قول قتادة.
وواحد الأصفاد: صَفَد، كحَجَر. وقيل: واحدها: صفْد. كعدْل. وهي: الأغلال والسلاسل من الحديد، وكل من شددته شداً وثيقاً بالحديد فقد صفدته، وكذلك لكل من أعطيته عطاء جزيلاً ما يرتبط له. واسم العطية / الصفد.
قال الضحاك: أعطى الله سليمان ملك داود وزاده الريح والشياطين.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، أي: هذا المُلك عطاؤنا فاعط ما شئت منه وامنع ما شئت من الشياطين في وثاقك وسرح ما شئت منهم.
وعن ابن عباس أن هذا إشارة إلى ما أُعطي سليمان من القوة على الجِمَاع. قال: كان في ظهره مائة مائة رجل، وكان له ثلاث مائة امرأة، وتسع مائة سرية.
فالمعنى: فجامع من شئت، واترك جِمَاع من شئت بغير حساب عليك.
وقال ابن مسعود: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: هذا عطاؤنا بغير حساب، فامنن أو أمسك، فالمعنى: هذا عطاؤنا بغير منة عليك.
ويجوز أن يكون سأل ذلك ليقوى به على الجهاد في سبيل الله تعالى، لا لمحبته في الدنيا وملكها.
وقوله: ﴿لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي﴾، الأحسن في تأوليه: (لا أسلبه) كما سلبت ملكي قبل هذا، لا أنه بَخَّلَ على من بعده أن يكون له مثل ملكه بعد موته.
وقيل: معناه: لا ينبغي لأحد من أهل زماني فيكون ذلك لي واختصاصي به دون غيري، حجة لي على نبوتي وأني رسولك إليهم.
وإذا أتى بمثل ملكي غيري من أهلي زماني لم يكن له حجة على من أرسلت إليه، إذ قد أوتي غيري مثل ما أوتيت.
فانفرادي بذلك يدل على نبوتي وصدقي. إذْ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس.
وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أن سليمان عليه السلام كان إذا رأى ما هو
قوله تعالى ذكره: ﴿واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ﴾ - إلى قوله - ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: واذكر يا محمد أيوب إذ نادى ربه مستغيثاً به مما نزل به.
﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾.
قال قتادة: هو ذهاب المال والأهل، والضر الذي أصابه في جسده، ابتُلي سبع سنين وأشهراً ملقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه، وعظم له الأجر، وأحسن عليه الثناء.
قال السدي: معناه: بنصب في جسدي، وعذاب في مالي.
وروى الطبري عن وهب بن منبه أنه قال: كان أيوب ﷺ رجلاً من الروم من ذرية عيصا بن إسحاق بن إبراهيم. ومن الرواة من يقول في عيصا: العيص بن إسحاق.
وروي أن أيوب تزوج ابنه يعقوب واسمها ليا؛ وهي التي أقسم أيوب ليضربها مائة ضربة، فبَّر الله تعالى يمينه. وكانت أم أيوب بنت لوط.
قال وهب: إن إبليس اللعين سمع تجاوب ملائكة السماوات بالصلاة على أيوب حين ذكر ربه وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسدُ والبغيُ، فسأل الله تعالى أن يسلطه عليه ليفتنه عن دينه، فسلط على ماله دون جسده وعقله، فأذهب الله ماله كله، فشكر أيوب ربه تعالى ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه سبحانه. فسأل إبليس الله تعالى أن يُسلطه على ولده، فأهلك ولده، فشكر أيوب ربه ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه تعالى. فسأل إبليس الله أن يسلطه على جسده، فسلط عليه دون لسانه وقلبه وعقله، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده؛ فصار أمره إلى أن تناثر لحمه، فأخرجه أهل القرية من القرية إلى كناسة خارج القرية، فلم يغيره ذلك عن ذكر (ربه وعبادته). قال ابن عباس: لما أصاب أيوب البلاء، أخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس. فجاءته امرأة أيوب، فقالت له: أتداوي رجلاً به علة كذا وكذا؟
قال: نعم، بشرط على أني (إن شفيته قال لي): أنت شفيتني لا أريد منه / أجراً غير هذا. فجاءت امرأة أيوب إلى أيوب، فقال: ذلك الشيطان! والله لئن بَرَأْتُ
فيكون " النُّصْبُ " على هذا، ما ألقاه الشيطان إليه ووسوس به إلى امرأته.
وقرأ الحسن: " بَنَصَبٍ " بفتح النون والصاد. وهما لغتان، كالحُزْن والحَزَن.
وقيل: من ضم النون جعله جمع نَصَب، (كَوَثَن وَوُثْن).
فأما قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣] "، فهو جمع نصاب.
وقوله ﴿اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾.
في الكلام حذف، والتقدير: فاستجبنا له إذ نادى، وقلنا له اركض برجلك الأرض، أي: حركها وادفعها برجلك. والركض: حركة الرجل.
قال المبرد: الركض: التحريك، ولهذا قال الأصمعي: يقال: رَكَضْتُ
وحكى سيبويه: (ركضتُ) الدابة فركضت، مثل جَبَرْتُ العظم فجبر.
قوله: ﴿هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾. قال قتادة: " ضرب برجله أرضاً يقال لها الجابية، فإذا عينان تنبعثان، فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى ".
قال وهب: فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله تعالى عنه كل ما كان فيه من البلاء.
قال الحسن: فركض برجله فنبعث عين فاغتسل منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها فذلك قوله: ﴿هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ فالموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلاً.
قال مجاهد: رَدَّ الله عليه أهله وأعطاه مثلهم معهم في الآخرة.
وقال الحسن وقتادة: فأحيا الله جل وعز له أهله بأعيانهن وزاده في الدنيا مثلهم. (وهو قول ابن مسعود).
وقيل: إنمل رد الله عليه من غاب من أهله وولده مثل من مات منهم، وأعطي من نسلهم مثلهم.
وقوله: ﴿رَحْمَةً مِّنَّا﴾ أي: رحمناه رحمة.
وقال الزجاج: نصب رحمة على أنه مفعول له.
ثم قال: ﴿وذكرى لأُوْلِي الألباب﴾، أي: فعلنا به ذلك للرحمة وليتذكر وليتعظ به أولوا العقول إذا ابتلوا فيصبرو كما صبر أيوب.
وروي أن أيوب كان نبياً في عهد يعقوب النبي ﷺ. وكان عمر أيوب ثلاثاً وتسعين سنة، وذا الكفل هو ولد أيوب، واسمه شبر بن أيوب. وفيه اختلاف،
وروى أنس أن النبي ﷺ قال: " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشر سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان. فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين! قال له صاحبه: وما ذاك؟! قال: منذ ثماني عشرة سنة لم ي رحمه الله فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال له أيوب: ما أدري ما تقول، غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله - أي: يحلفان به - فأرجع إلى بيتي (فأكفر عنهما) كراهية أن يذكر الله إلا في حق. قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، قال: فلما كات ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله جل ذكره إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب. فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على خير ما كان. فلما رأته قالت: بارك الله فيك، هل رأيت نبي
قال: وكان له أندران: أندر اقمح، وأندر الشعير قال: فبعث الله تعالى سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر الشعير الورق حتى فاض ".
وقوله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾ الضغث: ما يجمع من شيء من الرطب ويحمل الكف من الحشيش أو الشماريخ ونحو ذلك. قال ابن عباس، أُمر أن يأخذ حزمة من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضربها به.
قال الحسن مكث أيوب مطروحاً على كناسة سبع سنين وأشهراً، ما يسأل الله أن يكشف ما به. قال: وما على الأرض أكرم على الله من أيوب. فقال بعض الناس: لو كان لرب هذا فيه ما ضيع هذا. قال: فعند ذلك / دعا أيوب ربه فكشف ما به.
قال الضحاك: ضغثاً، يعني: من الشجر الرطب. كان حلف على يمين فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه فضرب به ضربة واحدة فَبَرَّت يمينه، وهو في الناس اليوم: يمين أيوب. من أخذ بها فهو أحسن.
قال عطاء: هذا لجميع الناس، وقال مجاهد وغيره: هو خاص لأيوب، لا يعمل به غيره ولا يجزيه، وهو قول مالك، وهو قول جماعة العلماء إلا الشافعي فإنه أجاز لمن حلف على عشر ضربات فضرب بشمراخ فيه عشر قضبان مرة فأصابت المضروب أنه يبر قال ابن جبير: يعني بالضغث قبضة من
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً﴾. أي: على البلاء.
﴿نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، أي: رجاع من معصية الله إلى طاعته.
قال ابن عباس: اتخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس، فأتته امرأة أيوب، فقالت: إن هاهنا إنساناً مبتلى من أمره كذا، هل لك أن تداويه؟ قال: نعم، على أني شفيته أن يقول كلمة واحدة. يقول: أنت شفيتني؛ لا أريد منه أجراً غيرها. فأخبرت بذلك أيوب. فقال: ويحك! ذلك الشيطان! لله عَلَيَّ إنشفاني الله أن أجلدك مائة جلدة. فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً (فيضربها به). فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها به ضربة واحدة.
وقال غير ابن عباس، إنما نذر أن يضربها حين باعت شعرها بالطعام فافتقده
ويروى أن أيوب عليه السلام لم يدع في بلائه، وصبر حتى نال ثلاثة أشياء، فعند ذلك دعا الله تعالى: وذلك أن صديقين له بالشام بلغهما خبره فتزودا ومضيا لزيارته فوجداه في منزله لم يبق منه إلا عيناه، فقالا له: أنت أيوب! فقال: نعم فقالا له: لو كان عملك - الذي رأيناه - يُفْضَى به إلى الله تعالى ما لقيت الذي نرى. فقال لهما: وأنتما تقولان ذلك لي! فَبَلَغَ ذلك منه.
والثانية أم امرأته قطعت ثلاثة ذوائب لها وباعتها في طعامه. فلما علك ذلك، عَظُمَ عليهن وبلغ ذلك منه. فهذه ثانثة والثالة: قبول امرأته من إبليس إذا أراد أن يحتال عليها، فعند ذلك تواعدها، وأقسم لئن شفاه الله ليضربها مائة ضربة. وعند ذلك دعا إلى الله فشفاه الله.
قوله تعالى ذكر: ﴿واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ﴾ - إلى قوله - ﴿فَبِئْسَ المهاد﴾،
أي: اذكر إبراهيم وولده إسحاق، وولد ولد يعقوب. ومن قرأ " عِبَادَنَا " بالجمع، أدخل الجمع في العبودية وجعل ما بعده بدلاً منه.
ومن قرأ بالتوحيد خص إبراهيم بالعبودية وجعل ما بعده معطوفاً عليه.
قال ابن عباس: يقول: أولى القوة والعبادة. والأبصار: الفقه في الدين. الفقه في الدين. قال: مجاهد: أولي الأيدي: القوة في أمر الله تعالى والأبصار: العقول.
وقال قتادة: أُعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين.
وقال السدي: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصر بعقولهم في دينهم.
وقيل: الأيدي: جمع يد، من النعمة، أي: هم أًحاب النعم التي أنعم الله تعالى عليهم بها.
وقيل: " هم أًحاب النعم والإحسان، لأنهم قد أحسنوا وقَدَّمُوا خيراً ".
وأصل " اليد " أن تكون للجارحة، ولكن لما كانت القوة فيها، سميت القوة
وأجاز الطبري أن يكون المعنى أنهم أصحاب الأيدي عند الله تعالى بالأعمال الصالحة التي قدموها تمثيلاً باليد تكون عند الرجل الآخر. وقرأ عبد الله: " أولي الأيدي " بغير ياء على معنى أولي التأييد والمعونة من الله لهم.
ويجوز أن يكون مثل الأول لكن أسقط الياء واكتفى بالكسرة.
وذكر الطبري عن السدي أنه قال: تزوج (إسحاق بامرأة) فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن تضع، اقتتل الغلامان في بطنها أيهما يخرج أولاً. فقال أحدهما للأخر: لئن خرجت قبل لأعترضن في بطن أمي فلأقتلنها! فتأخر الآخر وخرج القائل ذلك، فسمي عيصا لعصيانه في بطن أمه، وخرج الثاني فسمي يعقوب لأنه خرج آخراً بعقب عيصا. وكان يعقوب أكبرهما في البطن لكن عيصا خرج قبله. والروم من ذرية عيصا.
ثم قال: ﴿إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار﴾.
والمعنى: إنّا اخترناهم واختصصناهم بأن يذكروا معادهم ويعملوا له. (فلا هَمَّ لهم غيره). هذا قول مجاهد والسدي، وهو اختيار الطبري.
والاختيار عنده على قراءة من أضاف أن يكون المعنى: بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة.
ويجوز أن يكون رفع " ذكرى الدار " على إضمار مبتدأ.
وقيل: المعنى: اختصوا بأن يذكروا الناس الدار الآخرة ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى، قاله قتادة.
ومن قرأ بالإضافة فمعناه: إنا اختصصناهم بأفضل ما في الآخرة؛ قاله ابن
وقال مجاهد أيضاً: المعنى في الإضافة: إنا أخلصناهم بأن ذكرنا الجنة لهم.
وقال الفضيل: هو الخوف الدائم في القلب.
وقال ابن جبير: معناه: عقبى الدار.
وعن مجاهد أيضا - في الإضافة - معناه: بخالصة أهل الدار.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار﴾، أي: لمن الذين صَفَوْا من الذنوب (ومن الأدانس) واختيروا.
والأخيار، جمع خير، على التخفيف كميْت وأموات.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار﴾، أي: أذكرهم يا محمد وما أبلوا فيه من طاعة الله تعالى فَتَأَسَّ بهم، وأسلك مناهجهم في الصبر على ما نالك في الله جل ذكره.
وسمي ذو الكفل بذلك، لأنه تكفل بعمل رجل صالح يقال، إن ذلك الرجل كان يصلي في كل يوم مائة صلاة، فتوفي؛ فتكفل ذو الكفل بعمله.
وقيل: تكفل لبعض الملوك بالجنة فكتب له كتاباً بذلك وقيل: لم يكن نبياً وقوله ﴿وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار﴾، أي: كل هؤلاء من الأخيار المذكورين.
ثم قال تعالى: ﴿هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾، أي: هذا القرآن ذكر لك يا محمد ولقومك.
وقيل: معناه: هذا ذكر جميل لهؤلاء في الدنيا، وإن لهم في الآخرة مع هذا لحسن مرجع.
وقيل: معنى: وإن للمتقين لحسن مئاب، أي: لمن اتقى الله فأطاعه لحسن مرجع ومنقلب.
ثم بين ذلك فقال: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، أي: جنات إقامة وثبات، قال قتادة: سأل عمر كعباً: ما عدن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قصور في الجنة من ذهب يسكنها النبيئون والصديقون والشهداء وأئمة العدل.
وقال ابن عمر: " جنة عدن: قصر في الجنة، له خمسة آلف باب، على كل باب
وقوله ﴿مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾، أي: تفتح لهم الأبواب منها بغير فَتْحِ سكانها لها بيد، أو بمعاناة، ولكن تنفتح بالأمر دون الفعل.
قال الحسن: " تُكَلَّم، فتتكلم، انفتحي، انغلقي ".
و" مفتحة ": نعت ل " جَنَّتات "، والضمير محذوف، والتقدير: مفتحة لهم الأبواب منها.
ثم قال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾، أي: في الجنات ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾، أي: بفاكهة وشراب من الجنة فيأتيهم على ما يشتهون.
ثم قال تعالى: ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ﴾، أي: وعند هؤلاء الذين تقدم ذكرهم نساء قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يُرِدْنَ غيرهم، ولا يَمدُدن أعينهن إلى
وقال السدي: قًصرت أطرافهن وقلوبهن وأسمعاهن على أزواجهن فلا يُرِدْنَ غيرهم.
قال مجاهد: " أتراب: أمثال ". وقال السدي: مستويات. وقيل: معناه: على سن واحد. وقيل: معناه: أحباب لا يتباغضن ولا يتعادين ولا يتغايرن ولا يتحاسدن. رُوي ذلك (أيضاً عن السدي).
وأصله في اللغة، أنهن أقران.
﴿هذا ذِكْرٌ﴾ تام عند أبي حاتم على أن يكون " المتقون " عام لا يراد به من
فإن أردت به من تقدم ذكره من النبيين - على معنى: هذا ذكر جميل لهؤلاء الأنبياء في الدنيا، وإن لهم لحسن مصير في الآخرة - (لم تقف) على ذكر " لأنه جملة واحدة في معنى واحد ". ثم قال: ﴿هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب﴾.
من قرأ بالياء، فمعناه: هذا ما يوعد هؤلاء المتقون ليوم الجزاء.
ومن قرأ بالتاء / جعله على المخاطبة، أي: هذا الذي تقدم ذكره من النعيم هو ما توعدون ليوم تجزى كل نفس بما كسبت.
ثم قال: ﴿إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾، أي: إن ما تقدم ذكره لَرِزق الله تعالى المتقين كرامة لهم ليس له من فراغ ولا انقطاع، وذلك أنهم كلما أخذوا ثمرة عادت مكانتها أخرى.
ثم قال: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾، أي: لَشَرَّ مَرجِع ومصير منقلب.
ثم بيَّن ذلك ما هو فقال: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد﴾، أي: فبيس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم بأعمالهم السيئة.
والوقف على " هذا " حسن، ثم يبتدئ بـ: ﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾، على معنى: الأمر
( قوله تعالى ذكره): ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾ إلى قوله - ﴿نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
" هذا " مرفوع بالابتداء، و " حميم " الخبر. فلا تقف على هذا إلا على " أزواج ".
ويجوز أن يكون الخبر " فليذوقوه "، فتقف على " فليذوقوه " ويجوز أن يكون (خبر ابتداء محذوف، أي: الأمر هذا)، فتقف على " هذا " إن شئت. ويجوز أن يكون " هذا " في موضع نصب (بإضمار قول يفسره " فليذوقوه "، مثل): زيداً
والحميم: الذي قد انتهى حره. قاله السدي.
وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم تجمع في حياض النار فيسقونه.
قال قتادة: الغساق، ما يسيل من بين جلده ولحمه.
قال السدي: الغساق: الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم.
وقال ابن زيد: هو الصديد الذي يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، يجمع في حياض في النار فيسقونه، وقال مجاهد: الغساق: أبرد البرد.
وقال ابن عمر: هو القيح الغليظ؛ لو أن قطرة منها تهراق في المغرب لأنتنت
وقال كعب: " الغساق: عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةُ كل ذان حُمَةٍ من حية أو عقرب فتُستنقع فيُؤتى بالآدمي فيُغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام حتى يغلق جدله إلى كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه جر الرجل ثوبه ".
وروى الخدري أن النبي ﷺ قال: " لَوْ أَنَّ دَلْواً مِنْ غَساقٍ يُهْرَاقُ في الدُّنْيَا لأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيا ".
فمن شدد جعله مثل سيال، ومن خفف جعله مثل سائل.
فهو على هذا الاشتقاق ما سيل من أجسام أهل النار. ولم يعرف الكسائي ما هو. ومن شدد جعله صفة، ومن خفف أجاز أن يكون صفة واسماً.
ثم قال تعالى: ﴿وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾.
من جمع ﴿وَآخَرُ﴾ حمله على لفظ " أزواج ". ومن وحد حمله على " شكله " ولم يقل شكلها، فالمعنى لمن جمع ﴿وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ﴾ ما ذكرنا.
وقوله: (أَزْوَاجٌ) يريد به الحميم والغساق والآخر، فذلك ثلاثة.
قال ابن مسعود: هو الزمهرير.
والمعنى: مِنْ ضَرْبِهِ ومن نحوه، ومعنى " أزواج ": أنواع وألوان.
ثم قال تعالى: ﴿هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ﴾، أي: هذه فرقة مقتحمة معكم " في النار، وذلك دخول أمة من الكفار بعد أمة.
والتقدير: يقال هذا فوج يدخل معكم في النار، فهو قول الملائكة لأهل النار حين أتوهم بفوج يُدْخِلُوَنه معهم.
ثم قال: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾.
هذا خبر من الله جل ذكره عن قول أهل النار لما قيل لهم: " هذا فوج مقتحم معكم " فقالوا: لا مرحبا بهم. فهذا مثل قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: ٣٨].
ومعنى: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾: لا اتسعت مداخلهم ومنازلهم في النار.
ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ صَالُواْ النار﴾.
هذا أيضاً من قول المتقدمين في النار للداخلين عليهم، أي: قالوا لا مرحباً
وقيل: هو من قول الملائكة الذين قالوا لأهل النار: " هذا فوج مقتحم معكم إنهم صالو النار ".
ثم قال تعالى: ﴿قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾، أي: قال الفوج الداخلون على من تقدمهم لما قالوا لا مرحبا بهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، أي: لا اتسعت أماكنكم بكم.
﴿أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾، أي: أنتم أوردتمونا هذا / العذاب بإضلالكم إيانا ودعائكم إيانا إلى الكفر فاتبعناكم فاستوجبنا سكنى جهنم.
ثم قال تعالى ﴿قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار﴾، أي: قال الفوج المقتحم: ربنا من قدم لنا هذا بدعائه إيانا إلى العمل الذي أوجب لنا النار فزده عذاباً ضعفاً في النار، أي: أضعف لهم العذاب الذي هُمْ فيه.
وقيل: المعنى: أضعف له العذاب مرتين: عذاباً بكفره، وعذاباً بدعائه إيانا.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار﴾، أي: وقال الكافرون الطاغون الذين تقدمت صفتهم - وقيل: هم أبو جهل والوليد بن المغيرة وذووهما - قالوا في النار: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار، أي: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا - قيل: (عنوا بذلك صهيباً وخباباً) وبلالاً
ثم قال تعالى: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً﴾.
من ضم: فمعناه: كنا نسخرهم في الدنيا ونستذلهم، ومن كسر فمعناه: كنا نسخر منهم في الدنيا، وقيل: هما لغتان بمعنى الهُزْء والسُّخرية.
فالمعنى: أَهُمْ في النار لا نعرف مكانهم، أم لم تقع أعيننا عليهم؟
ومن قرأ بقطع الألف من " اتخذناهم " ابتدأ به، ومن وصل الألف لم يبتدئ به
وتكون " أم " عديلة لاستفهام مُضمَر، تقديره: أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار.
ويجوز أن تكون معادلة ل " ما " في قوله: " ما لنا "، كما قال تعالى: ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ [النمل: ٢٠]، وقال: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ﴾ [القلم: ٣٦ - ٣٧]، فذلك جائز حسن.
وقد وقعت " أم " معادلة ل " مَنْ " في الاستفهام، قال الله جل ذكره:
﴿فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ﴾ [النساء: ١٠٩].
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾، أي إن هذا الذي أخبرتك به من خبر أهل النار لحق هو تخاصم أهل النار.
ويجوز أن تكون " تخاصم " خبراً ثانياً ل " إن " أو بدلاً من " لحَقٌّ " أو من المضمر في " لَحَقٌّ ". فإن جعلته خبراً ثانياً (أو بدلاً " لم تقف على لحَقٌّ ". وإن
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ﴾، أي: نذير لكم من بين يدي عذاب شديد.
﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار﴾، أي: وما من معبود تجب له العبادة إلا الله الواحد، أي: المتفرد بالعبادة القهار لكل ما دونه بقُدرته.
﴿رَبُّ السماوات والأرض﴾: أي: ما لكهما ومالك ما بينهما من الخلق.
﴿العزيز﴾، أي: المنيع في نقمته.
﴿الغفار﴾ لذنوب من تاب من كفره، وأطاع ربه.
ثم قال تعالى: - ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾، أي: قل يا محمد لقومك: هذا القرآن الذي قلتم فيه: " إن هَذَا الاخْتِلاَقُ "، نبأ عظيم، أي: خبر عظيم، أنتم عنه معرضون، أي: قد كفرتم وانصرفتم عن الإيمان به والعمل بما فيه، وقيل: المعنى: هو خبر جليل، وقيل: معناه: خبر عظيم المنفعة.
ثم قال: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، أي: قل يا محمد للمشركين الذين ينكرون ما جئتهم به ويكذبونك: ما كان لي من علم بالملائكة إذ اختصموا في آدم إذ شوِروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠]
أي: لولا (ما أوحاه) إلي ربي وأعلمني به. فإعلامي ذلك لكم دليل على صدقي ونبوتي بأن هذا القرآن من عند الله تعالى. وهذا كله معنى قوله قتادة والسدي وغيرهما.
وفي الحديث: " يَخْتَصِمُون في الْكَفَّارَاتِ وَفي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ في الْمكَارِهِ وَانْتِظَارِ الصَّلاَة بِعْدَ الصَّلاِةِ ".
قال الحسن: " لما صُعِد بالنبي ﷺ إلى السماء ليلة الإسراء به مر في سماء منهن، فإذا هو بأصوات الملائكة يختصمون، (قال لجبريل: يا جبريل، ما هذه الأصوات؟ قال: أصوات الملائكة يختصمون) في كفارات بني آدم. فقال النبي عليه اللاسم: وما يقولون فيها؟ قال: يقولون: هي نقل الأقدام إلى الجماعات (والصلوات، وإسباغ) الوضوء عند المكروهات، والتعقيب في المساجد بعد الصلوات. قال: ثم أوحى
وعن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله ﷺ:
" قال لي ربي: فيمَ يختصم الملأ الأعلى / يا محمد؟ (فقلت: أنت أعلم يا رب، فقالها ثانية، فقلت: أنت أعلم يا رب. فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض. فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات، فقال: وما الكفارات؟ فقلت: المشي ونقل الأقدام غلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكروهات، والجلوس في المساجد خلف الصلوات قال: من فعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ".
وأجاز النحاس أن يكون المعنيَّ بالاختصام قريشاً لأن منهم من قال: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى. فالمعنى على هذا: ما كان لي من علم بالملائكة إذ يختصم فيهم قريش. وأجاز أن يراد بالملأ الأعلى أشراف قريش يختصمون فيما بينهم فيخبر الله نبيه ﷺ ( بما شاء من ذلك فيعلمهم النبي بذلك).
قوله: تعالى ذكره: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ﴾، إلى آخر السورة - أي ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال ربك للملائكة ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ﴾، يعني بذلك خلق آدم ﷺ.
ثم قال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾، أي: سويت خلقه وصورته ونفخت فيه من روحي، قال الضحاك: من روحي: من قدرتي.
والأحسن في هذا وما جانسه أن يقال: إنه تعالى أضاف الروح إلى نفسه لأنه إضافة (خلق إلى خالق). فالروح خلق الله أضافه إلى نفسه، على إضافة الخلق إلى الخالق، كما يقال: ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ [لقمان: ١١] و ﴿أَرْضُ الله﴾ [النساء: ٩٧] و " سماء الله "، وشبهه كثير في القرآن، فهو كله على هذا المعنى. هذا قول أهل النظر والتحقيق فافهمه.
﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾، يعني: ملائكة السماوات والأرض.
﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر﴾، أي: تعاظم وتكبَّر عن السجود.
﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾، أي: ممن كفر في علم الله السابق، قاله ابن عباس.
ثم قال: ﴿قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، أي: قال الله تعالى لإبليس: (يا إبليس)، أي: شيء منعك من السجود لآدم الذي خلقته بيدي.
قال ابن عمر: خلق الله أربعة بيده: العرش وعدن والقلم وآدم، ثم قال لكل شيء كن فكان.
والذي عليه أهل العلم والمعرفة بالله أن ذكر اليد وأضافتها إلى الله سبحانه ليست على جهة الجارحة، تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء.
وذكر اليد في مثل هذا وغيره صفة من صفات الله لا جارحة.
وقد اختلف في الترجمة عن ذلك:
فقيل: معناه: لما خلقت بقدرتي.
وذكر اليدين تأكيد، والعرب إذا أضافت الفعل إلى الرجل ذكروا اليدين. تقول لمن جنى: هذا ما جنيته، وهذا ما جنته يداك.
وقد قال الله تعالى: ﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] بمعنى: بما كسبتم. (فيضاف الفعل إلى اليد والمراد صاحب اليد). وإنما خُصَّتِ اليد بذلك لأن بها يبطش وبها يتناول. فجرى ذلك على عادة العرب.
وقوله: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين﴾، أي: أتعاظمت عن السجود لآدم أم كنت ذا علو وتكبر على ربك سبحانه ومعنى الكلام التوبيخ.
قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وكان خازن الجنان، وكان أميناً
ثم قال تعالى حكاية عن قول إبليس: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾، أي: لم أترك السجود استكباراً عليك، ولكن تركته لأني أفضل منه وأشرف، إذْ خَلْقِي من نار وخَلْقُه من طين، والنار تأكل الطين.
وهذا كله تقريع من الله جل ذكره وتوبيخ للمشركين إذ أبوا الانقياد والإذعان لما جاءهم به محمد ﷺ واستكبروا عن أن يكونوا تَبَعاً له، فأعلمهم الله تعالى قصة إبليس وهلاكه باستكباره وترك إذعانه لآدم.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾، أي: أخرج من الجنة فإنك مرجوم، أي ملعون، وقيل: مرجوم بالكواكب والشعب.
﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين﴾، / أي: عليك إبعادي لك وطردي لك من الرحمة ومن الجنة إلى يوم يُدَانُ الناس بأعمالهم.
﴿قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، أي: قال: إبليس: يا رب أخِّرْنِي وَلاَ تَهْلِكني
قال الله: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين﴾، أي: من المؤخرين ﴿إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾، فأخره الله تعالى إلى وقت هلاكه وهو يوم يموت جميع الخلق ولم يؤخر إلى وقت بعث الخلق كما سأل. فأخره الله سبحانه تهاوناً له لأنه لا يضل إلا من تقدم في علم الله ضلاله.
ثم قال تعالى حكاية عن قول إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، أي: قال إبليس: فبقدرتك وسلطانك، لأضلنهم باستدعائي إياهم إلى المعاصي.
﴿أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾، أي: إلا عبادك الذين أخلصتهم بعبادتك وطاعتك، فلا سبيل لي إليهم.
ومن كسر اللام، فمعناه: إلا عبادك الذين أخلصوا دينهم لك.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ فالحق والحق أَقُولُ﴾، أي: قال الله: فاتبعوا الحق، (أو: فاستمعوا) الحق. فهو مفعول به. ونصب " والحق أقول " على إعمال " أقول "، أي: وأقول الحق وقيل: نصبه على معنى " أحق الحق.
وأجاز الفراء " فالحقُّ " بالخفض على حذف القسم كما تقول: الله لأفعلن، وأجازه سيبويه، وقيل: الفاء بدل من حرف القسم، قال مجاهد: معناه: أنا الحق والحق أقول.
وقال ابن جريج: الحق مني والحق أقول.
﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ﴾، أي: من نفسك ومن ذريتك، وممن تبعك من بني آدم كلهم.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾، أي: قل يا محمد لمشركي قومك: ما أسألكم على ما جئتكم به من القرآن ثواباً وجزاءً.
﴿وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾، أي: ممن يتكلف القول من عند نفسه ويتخرصه.
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾، أي: ما هذا القرآن الذي جئتكم به من عند الله إلا ذكر من الله يتذكر به جميع الخلق من الجن والإنس.
﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ﴾، أي: ولتعلمن يا قريش وغيرهم من المشركين خبر هذا القرآن وحقيقته وما فيه من الوعد والوعيد يوم القيامة.
قال ابن زيد: نَبَأَهُ، أي: صِدقَ ما جئتكم به من القرآن والنبوة.
قال قتادة: بعد حين: " بعد الموت ".
قال الحسن:: ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين "، وعن السدي: بعد حين: يوم بدر، قال ابن زيد: بعد حين: " يوم القيامة ".