تفسير سورة الشورى

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
وآياتها ٥٣، وقال مقاتل فيها مدني قوله تعالى :﴿ ذلك الذي يبشر الله عباده ﴾ إلى ( الصدور ).

تفسير سورة الشورى
وهي مكّيّة وقال مقاتل: فيها مدني [قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى الصُّدُورِ] «١».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)
قوله تعالى: حم عسق قال الثعلبيّ: قال ابن عبّاس: إنّ حم عسق هذه الحروف بأعيانِهَا نزلَتْ في كُلَّ كُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ على كُلِّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ عليه كتاب ولذلك قال تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ «٢»، وقرأ الجمهور: يُوحِي بإسناد الفعل إلى اللَّه تعالى، وقرأ ابن كثير وحده: «يوحَى» - بفتح الحاء- على بناء الفعل لِلْمَفْعُولِ «٣»
، والتقدير: يُوحِي إليكَ القرآنَ.
وقوله تعالى: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: يريدُ من الأنبياءِ الذين نَزَلَ عليهم/ الكتابُ، وقرأ نافع والكسائيُّ «يَتَفَطَّرْنَ»، وقرأ أبو عمرو، وعاصم: «يَنْفَطِرْنَ» «٤» والمعنى فيهما:
يتصدَّعْنَ ويتشقَّقْنَ، خضوعاً وخشيةً من الله تعالى، وتعظيما وطاعة.
(١) سقط في: د.
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٥).
(٣) ينظر: «السبعة» (٥٨٠)، و «الحجة» (٦/ ١٢٦)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٨١)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٥٥)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢١٢)، و «العنوان» (١٧٠)، و «حجة القراءات» (٦٣٩)، و «شرح شعلة» (٥٧٤)، و «إتحاف» (٢/ ٤٤٨).
(٤) يعني من رواية أبي بكر، وأما رواية حفص فمثل الباقين.
ينظر: «السبعة» (٥٨٠)، و «الحجة» (٦/ ١٢٧)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٨٣)، و «العنوان» (١٧٠)، و «حجة القراءات» (٦٤٠)، و «إتحاف» (٢/ ٤٤٨).
وقوله: مِنْ فَوْقِهِنَّ أي: من أعلاهن، وقال الأخفشُ، عليُّ بْنُ سُلَيْمَان: الضمير في مِنْ فَوْقِهِنَّ للكُفَّار، أي: من فوق الجماعاتِ الكافرةِ والفِرَقِ المُلْحِدَةِ مِنْ أجْلِ أقوالها تَكادُ السموات يتفطَّرْنَ، فهذه الآية على هذا كالتي في «كهيعص» : تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم: ٩٠] الآية، وقالت فرقة: معناه: من فوق الأرضين، إذْ قد جرى ذِكْرُ الأرض.
وقوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ قالَتْ فرقةٌ: هذا منسوخٌ بقوله تعالى:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: ٧] قال ع «١» : وهذا قولٌ ضعيفٌ، لأَنَّ النَّسْخ في الأخبار لاَ يُتَصَوَّرُ، وقال السَّدِّيُّ ما معناه: إنَّ ظاهر الآية العمومُ، ومعناها الخصوصُ في المؤمنين، فكأنَّه قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين «٢»، وقالت فرقة: بل هِيَ على عمومها: لكنَّ استغفارَ الملائكة ليس بطَلَبِ غفرانٍ للكفرة مَعَ بقائهم على كُفْرهم، وإنَّما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تُؤَدِّي إلى الغفران لهم، وتأويل السُّدِّيِّ أرجحُ.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٦ الى ٨]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ هذه آية تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ووعيد للكافرين، والمعنى: ليس عليك إلاَّ البلاغ فقطْ، فلا تَهْتَمَّ بعدم إيمان قريشٍ وغيرهم، اللَّه هو الحفيظُ عليهم كُفْرَهُمْ المُحْصِي لأعمالهم، المُجَازِي عليها، وأَنْتَ لَسْتَ بوكيلٍ عليهم، وما في هذه الألفاظِ مِنْ موادَعَةٍ فمنسوخٌ قال الإِمامُ الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه/ الحسنى، عند كلامه على اسمه سبحانه «الحفيظ» : قال بعضهم: ما من عبد حَفِظَ جوارِحَه إلاَّ حَفِظَ اللَّه عليه قَلْبَهُ، وما من عبد حَفِظَ اللَّهُ عليه قلبه إلاَّ جعله حُجَّةً على عباده، انتهى، ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا [المعنى: وكما قضينا أمرك هكذا، وأمضيناه في هذه السورةِ كذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً] «٣» مبيناً لهم، لا يحتاجُونَ إلى آخَرَ سِوَاهُ إِذْ فَهْمُهُ مُتَأَتِّ لَهُمْ، ولم نكلِّفْكَ إلّا إنذار من ذكر، وأُمَّ الْقُرى هي مكة، ويَوْمَ الْجَمْعِ هو يوم القيامة، أي: تخوفهم إيَّاهُ.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٦).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ١٢٩) برقم: (٣٠٦١٥).
(٣) سقط في: د.
149
وقوله: فَرِيقٌ مرتَفِعٌ على خبر الابتداء المُضْمَرِ كأنَّه قال: هُمْ فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السَّعِيرِ، ثم قوى تعالى تسليةَ نَبِيِّه بأَنْ عَرَّفَه أَنَّ الأمر موقوفٌ على مشيئة اللَّه من إيمانهم أو كُفْرهم، وأَنَّه لو أراد كونهم أُمَّةً واحدةً على دينٍ واحدٍ، لجمعهم عليه ولكِنَّه سبحانه يدخل مَنْ سبقَتْ له السعادةُ عنده في رحمته، ويُيَسِّره في الدنيا لعمل أهل السعادة، وأَنَّ الظالمين بالكفر المُيَسَّرِينَ لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير، قال عبدُ الحَقِّ- رحمه اللَّه- في «العاقبة» : وقد علمتَ (رحمك اللَّه) أَنَّ الناس يوم القيامة صنفان:
صنف مُقَرَّبٌ مُصَانٌ.
وآخر مُبْعَدٌ مُهَانٌ.
صنف نِصِبَت لهم الأَسِرَّة والحِجَال والأرائكُ والكِلاَل وجُمِعَتْ لَهُمُ الرغائبُ والآمالُ.
وآخَرُونَ أُعِدَّتْ لهم الأراقمُ والصِّلاَلِ والمقامعُ والأغلالِ وضروبُ الأهوال والأنْكَال، وأنْتَ لا تعلم من أَيِّهما أنْتَ ولا في أَيِّ الفريقَيْن كُنْتَ: [الكامل]
نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قَبَائِلِ نَوْفَل وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ
وَتَقَلَّبُوا فَرِحِينَ تَحْتَ ظِلاَلِهَا وَطُرِحْتُ بِالصَّحْرَاءِ غَيْرَ مُظَلَّلِ
وَسُقُوا مِنَ الصَّافي الْمُعَتَّقِ رِيُّهُم وَسُقِيتُ دَمْعَةَ/ وَالِهٍ مُتَمَلْمِلِ
بكى سفيانُ الثوريُّ- رحمه اللَّه- ليلةً إلى الصَّبَاحِ، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تِبْنَةً من الأرض، وقال: الذنوبُ أَهْوَنُ من هذا إنَّما أَبْكِي خوفَ الخاتمةِ، وبَكَى سفيان، وغير سفيان، وَإنَّهُ لِلأَمْر يبكى عليه وَيصرف الاهتمام كلّه إليه.
وقد قيل: لا تَكُفَّ دَمْعَك حتى ترى في المعاد رَبْعَك.
وقيل: يا ابن آدم، الأقلام عليك تَجْرِي وأنْتَ في غفلة لا تدري، يا ابن آدمَ دَعِ التنافُسَ في هذه الدار حتى ترى ما فَعَلَتَ في أمرِكَ الأَقْدَار، سمع بعض الصالحينَ مُنْشِداً ينشد: [الطويل]
أَيَا رَاهِبِي نَجْرَانَ مَا فَعَلَتْ هِنْد........
فبكى ليلةً إلى الصباح، فَسُئِلَ عن ذلك فقال: قلتُ في نفسي: ما فعلَتِ الأقدار فيّ وماذا جَرَتْ به عليّ؟ انتهى.
150

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٩ الى ١٢]

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ... الآية، قوله: أَمِ اتَّخَذُوا: كلامٌ مقطوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وليستْ بمعادلةٍ، ولكنَّ الكلام كأَنَّه أَضْرَبَ عن حُجَّةٍ لهم أو مقالةٍ مُقَرَّرَةٍ، فقال: بَلِ اتخذوا هذا مشهورُ قولِ النَّحْوِيِّينَ في مِثْلِ هذا، وذهب بعضهم إلى أَنَّ «أم» هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضرابٍ، ثم أثبت الحكم بأنّه عز وجل هو الوليُّ الذي تنفع ولايته.
وقوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ... الآية، المعنى: قل لهم يا محمَّد: وما اختلفتم فيه، أَيُّها الناس، مِنْ تكذيبٍ وتصديقٍ، وإيمانٍ وكفرٍ، وغَيْرِ ذلك فالحُكْمُ فيه والمجازاةُ عنه لَيْسَتْ إلَيَّ ولا بيدي وإنَّما ذلك إلى اللَّه تعالى، الذي صفاته ما ذُكِرَ من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء.
وقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يريد: زوجَ الإنسان الأنثى، وبهذه/ النعمة اتفق الذرء، وليست الأزواج هاهنا الأنواع.
وقوله: وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً الظاهر أيضاً فيه والمُتَّسِقُ أَنَّهُ يريد إناث الذَّكْرَان، ويحتمل أنْ يريد الأنواع، والأوَّل أظهر.
وقوله: يَذْرَؤُكُمْ أي: يخلقكم نسلاً بعد نَسْلٍ، وقرناً بعد قَرْنٍ قاله مجاهد والناس، فلفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخرَ ليس في «خلق»، وهو توالي طبقات على مَرِّ الزمان.
وقوله: فِيهِ الضمير عائد على الجَعْلِ يتضمَّنه قوله: جَعَلَ لَكُمْ وهذا كما تقول: كَلَّمْتُ زَيْداً كلاماً أكرمته فيه، وقال القُتَبِيُّ: الضمير للتزْوِيجِ، ولفظة «في» مشتركة على معانٍ، وإنْ كان أصلها الوعاء، وإليه يردها النظر في كل وجه.
وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الكاف مؤكِّدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكَدُ مَا يكُونُ وذلك أَنّك تقول: زيدٌ كعمرو، وزيْدٌ مِثْلُ عمرو، فإذا أردتَ المبالغة التامَّة قلتَ:
زيدٌ كَمِثْلِ عَمْرٍو، وجرتِ الآية في هذا الموضع على عُرْفِ كلامِ العَرَبِ، وعلى هذا المعنى
شواهِدُ كثيرة، وذهب الطَّبَرِيُّ «١» وغيره إلى أَنَّ المعنى: ليس كهو شيء، وقالوا: لفظة مَثَلُ في الآية توكيدٌ، وواقعةٌ موقع «هو»، و «المقاليد» : المفاتيحُ قاله ابن عبَّاس وغيره «٢»، وقال مجاهد هذا أصلها بالفارسيّة «٣»، وهي هاهنا استعارة لوقوعِ كُلِّ أمرٍ تَحْتَ قدرته سبحانه، وقال السُّدِّيُّ: المقاليدُ: الخزائن «٤»، وفي اللفظ على هذا حذفُ مضافٍ، قال قتادة: مَنْ ملك مقاليد خزائن، فالخزائن في ملكه «٥».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٣ الى ١٥]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
وقوله سبحانه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً... الآية، المعنى: شرع لكم وبَيَّنَ مِنَ المعتقدات والتوحيدِ ما وصى به نوحاً قَبْلُ.
وقوله: وَالَّذِي عطف على مَا، وكذلك ما ذكر بَعْدُ مِنْ إقامة الدِّينِ مشروعٌ اتفقت النُّبُوَّاتُ فِيهِ وذلك في المعتَقَدَاتِ، وأَمَّا الأحكامُ بانفرادها فَهِيَ في الشرائعِ مختلفةٌ، وهي المرادُ في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨] وإقامة الدين هو توحيدُ اللَّهِ ورَفْضُ سِوَاهُ.
وقوله تعالى: وَلا تَتَفَرَّقُوا: نَهْيٌ عن المُهْلَكِ مِنْ تفرُّق الأنحاء والمذاهب، والخيرُ كُلُّه في الأُلْفَةِ واجتماع الكلمة، ثم قال تعالى لنبيّه ع: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: من توحيد اللَّه ورَفْضِ الأوثان قال قتادة: كَبُرَ عليهم «لا إله إلا اللَّه» وأبى اللَّه إلاَّ نَصْرها «٦»، ثم سَلاَّه تعالى عنهم بقوله: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ... الآية،
(١) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ١٣٣).
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥/ ٢٩).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ١٣٣، ١٣٤) برقم: (٣٠٦٣٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩). [.....]
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ١٣٤) برقم: (٣٠٦٣٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩).
(٥) ذكره ابن عطية (٥/ ٢٩).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ١٣٥) برقم: (٣٠٦٤٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩).
152
أي: يختار ويصطفي قاله مجاهد وغيره «١» ويُنِيبُ يرجع عنِ الكُفْرِ ويحرص على الخير ويطلبه.
وَما تَفَرَّقُوا يعني: أوائل اليهود والنصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ.
وقوله: بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: بغى بعضُهم على بَعْضٍ، وأدَّاهم ذلك إلى اختلاف الرأْي وافتراقِ الكلمةِ، والكلمة السابقة قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاءَ بأَنَّ مجازاتهم إنَّما تقع في الآخرة، ولولا ذلك لَفَصَلَ بينهم في الدنيا، وغَلَّبَ المُحِقَّ على المُبْطِلِ.
وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ إشارة إلى معاصري نَبِيِّنا محمد- عليه السلام- من اليهود والنصارى.
وقيل: هو إشارة إلى العرب والكتاب على هذا هو القرآن، والضمير في قوله:
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يحتمل أنْ يعودَ على الكتاب، أو على محمد، أو على الأجل المسمى، أي: في شَكٍّ من البعث على قول مَنْ رأى أَنَّ الإشارة إلى العرب، ووَصَفَ الشَّكّ ب مُرِيبٍ مبالغة فيه، واللام في قوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ قالت فرقة: هي بمنزلة «إلى» كأنه قال: فإلى ما وَصَّى به الأنبياءَ من التوحيدِ فادع، وقالت فرقة: بل هي بمعنى «من أجل» كأنه قال: من أجلِ أَنَّ الأمر كذا وكذا، ولكونه كذا فادع أَنْتَ إلى ربك، وبَلِّغْ ما أُرْسِلْتَ به، وقال الفخر «٢» : يعني فلأجلِ ذلك التفرُّقِ، ولأجْلِ ما حَدَثَ من الاختلافاتِ الكثيرةِ في الدينِ فادع إلى الاتفاقِ على المِلَّةِ الحنيفيَّة، واستقِمْ عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك اللَّه، ولا تتّبع أهواءهم الباطلة، انتهى، وخوطب ع بالاستقامة، وهو قد كان مستقيماً بمعنى: دُمْ على استقامتك، وهكذا الشَّأْنُ في كُلِّ مأمورٍ بشيءٍ هو مُتَلَبِّسٌ به، إنَّما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نُصْبَ عَيْنَي النبيِّ ع، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، لأنَّها جملة تحتها جمِيعُ الطاعاتِ وتكاليفُ النبوَّة، وفي هذا المعنى- قال عليه السلام-: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها»، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّه؟ فَقَالَ: لأَنَّ فِيهَا: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «٣» [هود: ١١٢] وهذا الخطاب له ع بحسب قوّته في أمر الله عز وجل، وقال:
هو لأُمَّتِهِ بحسب ضعفهم: استقيموا ولن تحصوا.
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٢٩).
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (١٤/ ١٣٦).
(٣) تقدم.
153
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني: قُرَيْشاً.
ت: وفَرَضَ الفَخْرُ هذه القَضِيَّةَ في أهْلِ الكتاب، وذكر ما وقع من اليهود ومحاجَّتهم في دفع الحقِّ وجَحْدِ الرسالة، وعلى هذا فالضمير في: أَهْواءَهُمْ عائدٌ عليهم، واللَّه أعلم. اهـ.
ثم أَمَرَهُ تعالى أَنْ يَقُولَ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وهو أَمْرٌ يَعُمُّ سائِرَ أمته.
وقوله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قالت فرقة: اللام في لِأَعْدِلَ بمعنى: أنْ أعدل بينكم، وقالت فرقة: المعنى وَأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به من التبليغ والشَّرْعِ لِكَيْ أعدلَ بينكم.
وقوله: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ إلى آخر الآية- ما فيه من مُوَادَعَةٍ منسوخٌ بآية السَّيْفِ.
وقوله: لاَ حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي: لا جدال، ولا مناظرةَ قد وَضَحَ الحق، وأنتم تعاندون، وفي قوله: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا: وعيد بيّن.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٦ الى ١٩]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ... الآية، قال ابن عباس ومجاهد:
نزلت في طائفة من بني إسرائيل هَمَّتْ بردِّ الناس عن الإسلام وإضلالهم «١»، وقيل:
نزلت في قريشٍ لأنَّها كانت أبدا تحاول هذا المعنى، ويُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ معناه: في دين اللَّه أو توحيدِ اللَّه، أي: يحاجُّون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبهه، والضمير في لَهُ يحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تبارك وتعالى، ويحتمل أنْ يعودَ على الدِّينِ والشرع، ويحتمل أنْ يعودَ على النبي ع وداحِضَةٌ معناه: زاهقة، والدَّحْضُ الزَّهقُ، وباقي الآية بَيِّن.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ١٣٨- ١٣٩) برقم: (٣٠٦٤٩، ٣٠٦٥١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٩٦- ٦٩٧)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد نحوه.
وقوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ معناه: مضمناً الحق، أي: بالحق في أحكامه، وأوامره، ونواهيه، وأخباره، وَالْمِيزانَ هنا: العدل قاله ابن عباس ومجاهد «١»، والناس، وحكى الثعلبيُّ عن مجاهد أَنَّهُ قال: هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس «٢»، قال ع «٣» : ولا شَكَّ أَنَّه داخل في العدل وجزء منه.
وقوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ وعيدٌ للمشركين، وجاء لفظ قَرِيبٌ مُذَكَّراً من حيثُ تأنيثُ السَّاعَةِ- غيرُ حقيقيٍّ-، وإذْ هي بمعنى الوقت.
ت: ينبغي للمؤمن العاقل أنْ يتدبَّر هذه الآيةَ ونظائرها، ويقدِّر في نفسه أَنَّه المقصود بها: [البسيط]
لاَهٍ بِدُنْيَاهُ وَالأَيَّامُ تَنْعَاهُ وَالْقَبْرُ غَايَتُهُ وَاللَّحْدُ مَأْوَاهُ
يَلْهُو فَلَوْ كَانَ يَدْرِي مَا أُعِدَّ لَه إذَنْ لأَحْزَنَهُ مَا كَانَ أَلْهَاهُ
قال الغَزَّاليُّ في «الإحياء» قال أبو زكريَّا التَّيْمِيُّ: بينما سليمانُ بنُ عبد الملك في المسجد الحرام إذ أُوتِيَ بحَجَرٍ منقوشٍ، فَطَلَبَ مَنْ يَقْرَؤُهُ، فأوتي بِوهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فإذا فيه: ابنَ آدمَ، إنك لو رأيْتَ قُرْبَ ما بَقِيَ من أَجْلِك، لَزَهِدْتَ في طول أملك وَلَرَغِبْتَ في الزيادَةِ مِنْ عَمَلِك، وَلَقَصَّرْتَ مِنْ حِرْصِكَ وحِيَلِكَ، وإنما يلقاك غَداً نَدَمُك لو قد زَلَّتْ بك قَدَمُك، وأسلمك أَهلُكَ وَحْشَمُك، فَفَارَقَكَ الوَلَدُ والقَرِيب وَرَفَضَكَ الوَالِدُ والنَّسِيب، فلا أَنْتَ إلى دُنْيَاك عائد ولا في حَسَنَاتِك زَائِد، فاعمل ليومِ القيامهْ، قبل الحسرة والندامهْ.
فبكى سليمان بكاءً شديداً، انتهى، ، وباقي الآية بيِّن.
ثم رَجَّى تبارك وتعالى عباده بقوله: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ ولَطِيفٌ هنا بمعنى رفيق مُتَحَفٍّ، والعباد هنا المؤمنون.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
(١) أخرجه الطبري (١١/ ١٣٩) برقم: (٣٠٦٥٥) عن مجاهد، وذكره البغوي (٤/ ١٢٣) عن قتادة، ومجاهد، ومقاتل، وابن عطية (٥/ ٣١)، وابن كثير (٤/ ١١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٩٧)، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٣١).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣١).
155
وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ معناه: إرادة مُسْتَعِدٍّ عاملٍ، لا إرادةُ مُتَمَنٍّ مُسَوِّفٍ، والحَرْثُ في هذه الآية: عبارةٌ عن السَّعْيِ والتكسُّبِ والإعْدَاد.
وقوله تعالى: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَعْدٌ مُتَنَجَّزٌ قال الفَخْرُ «١» : وفي تفسير قوله:
نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قولان:
الأوَّلُ: نزد له في توفيقه وإعانته، وتسهيلِ سبيل الخيرات والطاعات عليه، وقال مقاتل: نزد له في حَرْثِهِ بتضعيفِ الثواب قال تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: ٣٠] انتهى، وقوله: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها معناه: ما شئنا منها ولمن شئنا، فَرُبَّ مُمْتَحَنٍ مُضَيَّقٌ عليه حريصٌ على حَرْثِ الدنيا، مريدٌ له، لا يَحُسُّ بغيره، نعوذُ بالله من ذلك! وهذا الذي لا يعقل غيرَ الدنيا هو الذي نفى أنْ يكون له نصيبٌ في الآخرة.
وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ «أم» هذه منقطعةٌ لا معادلةٌ، وهي بتقدير «بل»، وألف الاستفهام، والشركاء في هذه الآية يحتمل أنْ يكونَ المراد بهم الشياطين والمُغْوِينَ من أسلافهم، ويكون الضمير في لَهُمْ للكفار المعاصرين لمحمّد ع فالاشتراك هاهنا هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك باللَّه- ويحتمل أنْ يكون المراد بالشركاء: الأصنام والأوثان على معنى: أم لهم أصنام جعلوها شركاءَ للَّه في أُلُوهِيَّتِهِ، ويكون الضمير في شَرَعُوا لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم، والضمير في لَهُمْ للأصنام الشركاء، وشَرَعُوا معناه: أثبتوا، ونهجوا، ورسموا والدِّينِ هنا: العوائدُ والأحكامُ والسِّيرَةُ، ويَدْخُلُ في ذلك أيضاً المُعْتَقَدَاتُ السُّوء لأَنَّهُم في جمِيع ذلك وضعوا ذلك أوضاعاً فاسدة وكلمة الفصل هي ما سبق من قضاء اللَّه تعالى بأَنَّهُ يُؤخِّرُ عقابهم للدار الآخرة، والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم.
وقوله تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ هي رؤية بصر، ومُشْفِقِينَ حال، وليس لهم في هذا الإشفاق مدح لأنَّهم إنَّما أشفقوا حين نزل بهم، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مُشْفِقُون من أمر الساعة، كما تقدم، وهو واقع بهم.
(١) ينظر: «الفخر الرازي» (١٤/ ١٤٠).
156
أبو حيان «١» : ضمير هُوَ عائد على العذاب، أو على ما كسبوا بحذف مضاف، أي: وبال ما كسبوا، انتهى، والروضات: المواضع المونقة النضرة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
وقوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: ٤٧].
وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى اختلف الناسُ في معناه فقال ابن عباس وغيره: هي آية مَكِّيَّةٌ نزلت في صدر الإسلام، ومعناها: استكفاف شَرِّ الكفار ودفع أذاهم، أي: ما أسألكم على القرآن إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابةٍ بيني وبينكم فَتَكُفُّوا عَنِّي أذاكم «٢»، قال ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة: ولم يكن في قريش بطن إلّا وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه نسب أو صِهْرٌ «٣»، فالآية على هذا فيها استعطافٌ مَّا، ودفع أذًى، وطلبُ سلامة منهم، وذلك كله منسوخ بآية السيف، ويحتمل هذا التأويل أنْ يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم، أي: لا أسألكم غرامة ولا شيئاً إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابتي منكم، وأنْ تكونوا أولى بي من غيركم، قال ع «٤» : وقُرَيْشٌ كُلُّها عندي قربى، وإنْ كانت تتفاضل، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ شَهِيداً، ومَنْ مَاتَ على بُغْضِهِم، لَمْ يَشمَّ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» «٥»، وقال ابن عَبَّاس أيضاً: ما يقتضي أَنَّ الآية مَدَنِيَّةٌ، وأَنَّ
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٤٩٣).
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥/ ٣٣).
(٣) أخرجه البخاري (٨/ ٤٢٦) كتاب «التفسير» باب: إلا المودة في القربى (٤٨١٨) عن ابن عبّاس، والترمذي (٥/ ٣٧٧) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة حم عسق (٣٢٥١)، وابن جرير في «تفسيره» (١١/ ١٤٢) (٣٠٦٦٢- ٣٠٦٦٣)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٢٥) عن ابن عبّاس جميعهم، وابن عطية (٥/ ٣٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٩٩)، وعزاه إلى مسلم وابن مردويه، وعبد بن حميد، وأحمد عن ابن عبّاس. [.....]
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٤).
(٥) ينظر: القرطبي (١٦/ ٢٣) تفسير سورة الشورى.
157
الأنصار جمعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالاً وساقَتْهُ إليه، فَرَدَّهُ عليهم، وَنَزَلَتِ الآيةُ في ذلك «١»، وقيلَ غَيْرُ هذا، وعلى كُلِّ قول، فالاستثناء منقطع، وإِلَّا بمعنى «لكن» ويَقْتَرِفْ معناه: يَكْتَسِب، ورَجُلٌ قُرَفَةٌ إذا كان محتالاً كسوبا وغَفُورٌ معناه: ساتر عيوب عباده، وشَكُورٌ معناه: مُجِازٍ على الدقيقة من الخير، لا يضيع عنده لعاملٍ عَمَلٌ.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «أم» هذه مقطوعةٌ مضمنة إضراباً عن كلام متقدِّم، وتقريراً على هذه المقالة منهم.
وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ معناه في قول قتادة وفرقة من المفسرين: ينسيك/ القرآن «٢»، والمراد الرَّدُّ على مقالة الكُفَّار، وبيانُ إبْطَالِهَا، كأَنَّهُ يقُولُ:
وكيف يَصِحُّ أنْ تكون مفترياً، وأنت من اللَّه بمرأًى ومَسْمَعٍ؟ هو قَادِرٌ لو شاء أَنْ يختم على قلبك فلا تَعْقِلُ، ولا تنطق، ولا يستمرُّ افتراؤك فمقصد اللفظ: هذا المعنى، وحُذِفَ ما يَدُلُّ عليه الظاهر اختصاراً واقتصاراً، وقال مجاهد: المعنى: فإن يشإ اللَّه يختمْ على قلبك بالصبر لأذى الكفار، ويربطْ عليك بالجَلَدِ «٣»، فهذا تأويل لا يتضمَّن الردَّ على مقالتهم قال أبو حَيَّان: وذكر القُشَيْرِيُّ أنَّ الخطاب للكفار، أي: يختم على قلبك أَيُّهَا القائلُ فيكون انتقالاً من الغيبة للخطاب، وَيَمْحُ: استئنافُ إخبارٍ لا داخل في الجواب، وتسقط الواو من اللفظ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف حملاً على اللفظ، انتهى.
وقوله تعالى: وَيَمْحُ فعل مستقبل، خبر من اللَّه تعالى أَنَّهُ يمحو الباطل، ولا بُدَّ إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، وهذا بحسب نازلة نازلة، وكتب يَمْحُ في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: ١١] إلى غير ذلك مِمَّا ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار.
وقوله: بِكَلِماتِهِ معناه: بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء، فالكلمات: المعاني القائمة القديمة التي لا تبديلَ لها، ثم ذكر تعالى النعمة في تَفَضُّلِهِ بقبول التوبة من عباده، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله- مقطوعٌ به بهذه الآية، وأمَّا ما سلف من أعماله فينقسم، فأمَّا التوبة من الكفر فَمَاحِيَةٌ كُلَّ ما تَقَدَّمَها من مظالم العباد
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٤).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ١٤٦) برقم (٣٠٦٩١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٤) والسيوطي (٥/ ٧٠٣) وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٥).
158
الفائتة وغير ذلك، وأمَّا التوبة من المعاصي فلأهل السُّنَّةِ فيها قولان: هل تُذْهِبَ المعاصيَ السالفةَ للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة: هي مُذْهِبَةٌ لها، وقالت فرقة: هي في مشيئة اللَّه تعالى، / وأجمعوا أَنَّها لا تُذْهِبُ مظالم العباد، وحقيقةُ التوبة: الإقلاعُ عن المعاصِي، والإقبالُ، والرجوعُ إلى الطاعات، ويلزمها النَّدَمُ على ما فَاتَ والعَزْمُ على ملازمة الخَيْرَات.
وقال سَرِيٌّ السِّقَطِيُّ: التوبة: العَزْمُ على ترك الذنوب والإقبالُ بالقَلْبِ على عَلاَّم الغيوب، وقال يحيى بن مُعَاذٍ: التائبُ: مَنْ كَسَرَ شَبَابَهُ على رأسه، وكَسَرَ الدنيا على رأسِ الشيطان، [ولزم الفِطام] «١» حتى أتاه الحِمَام «٢».
وقوله تعالى: عَنْ عِبادِهِ بمعنى مِنْ عباده، وكأنه قال: التوبة الصادرة عن عباده، وقرأ الجمهور: «يَفْعَلُونَ» بالياء على الغَيْبَة، وقرأ حمزة والكسائيُّ: «تَفْعَلُونَ» بالتاء على المخاطبة «٣»، وفي الآية توعُّد.
وقوله تعالى: «ويستجيب» قال الزَّجَّاجُ وغيره: معناه: يجيبُ، والعَرَبُ تقول: أجاب واستجاب بمعنى، والَّذِينَ على هذا التأويل: مفعول «يستجيب»، وروي هذا المعنى عن معاذِ بن جَبَلٍ، ونحوه عن ابن عباس «٤»، وقالت فرقة: المعنى: ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحات، ودَلَّ قوله: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على أنَّ المعنى: فيجيبهم، والَّذِينَ على هذا القول فَاعِلُ يَسْتَجِيبُ، ، وقالتْ فرقة: المعنى: ويجيبُ المؤمنونَ رَبَّهم، ف الَّذِينَ فاعلٌ بمعنى: يجيبُونَ دَعْوَةَ شَرْعِهِ ورسالتِهِ، والزيادة من فضله هي تضعيفُ الحسنات، ورُوِيَ عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «هِيَ قَبُولُ الشَّفَاعَاتِ في المُذْنِبِينَ، والرضوان».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
(١) سقط في: د.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٥).
(٣) وقرأ بها حفص عن عاصم.
ينظر: «السبعة» (٥٨٠)، و «الحجة» (٦/ ١٢٨)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٨٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٥٦)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢١٢)، و «العنوان» (١٧٠)، و «حجة القراءات» (٦٤١)، و «إتحاف» (٢/ ٤٥٠).
(٤) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٥).
159
وقوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ قال عمرو بن حُرَيْثٍ وغيره: إنَّها نزلت لأَنَّ قوماً من أهل الصفَّة طلبوا من رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم أنْ يُغْنِيَهُمُ/ اللَّه، ويبسطَ لهم الأموالَ والأرزاق، فأعلمهم اللَّه تعالى أنَّه لو جاء الرِّزْقُ على اختيار البَشَر واقتراحهم، لكان سَبَبَ بغيهم وإفسادهم ولكنّه عز وجل أعلمُ بالمَصْلَحَةِ في كُلِّ أحدٍ: إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ: بمصالحهم، فهو ينزل لهم من الرزق القَدْرَ الذي بِهِ صَلاَحُهُمْ فرُبَّ إنْسَانٍ لاَ يَصْلُحُ، وتَنْكَفُّ عاديته إلاَّ بالفقر.
ت: وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديثَ كثيرةً مختارةً في فضل الفقراء الصابرين- ما فيه كفايةٌ لمن وُفِّق، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن سعيد بن المُسَيِّبِ قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِجُلَسَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال: هُمُ الخَائِفُونَ، الخَاضِعُونَ، المُتَوَاضِعُونَ، الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، قال:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهُمْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؟ قال: لا، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قال: الفُقَرَاءُ يَسْبِقُونَ النَّاسَ إلَى الجَنَّةِ، فَتَخْرُجُ إلَيْهِمْ مِنْهَا مَلاَئِكَةٌ، فَيَقُولُونَ:
ارجعوا إلَى الْحِسَابِ، فَيَقُولُونَ: عَلاَمَ نُحَاسَبُ، وَاللَّهِ مَا أُفِيضَتْ عَلَيْنَا الأَمْوَالُ في الدُّنْيَا فَنَقْبِضَ فِيهَا وَنَبْسُطَ، وَمَا كُنَّا أُمَرَاءَ نَعْدِلُ وَنَجُورُ وَلَكِنَّا جَاءَنَا أَمْرُ اللَّهِ فعبدناه حتّى أتانا اليقين»
«١» انتهى.
وقوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا... الآية، تعديدُ نِعَمِ اللَّه تعالى الدَّالَّةِ على وَحْدَانِيَّتِهِ، وأَنَّه المولى الذي يستحقُّ أَنْ يُعْبَدُ دونَ ما سواه من الأنداد، وقرأ الجمهور: «قَنَطُوا» بفتح النون، وقرأ الأعمش: «قَنِطُوا» بكسرها، وهما لغتان «٢»، ورُوِيَ أَنَّ عمر- رضي اللَّه عنه- قيل له: أجدبت الأرض، وقَنِطَ النَّاس، فقال:
مُطِرُوا إذَنْ، بمعنى أنَّ الفرج عند الشِّدَّةِ.
وقوله تعالى: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ قيل: أراد بالرحمة: المطر، وقيل: أراد بالرحمة هنا: الشمْسَ، فذلك تعديد نعمة غير الأولى، وذلك أَنَّ المطر إذا أَلَمَّ بعد القنط حَسُنَ موقعُهُ، فإذا دَامَ سُئِمَ، فتجيء الشمْسُ بعده عظيمة الموقع.
(١) أخرجه أبو نعيم بن حماد في «زوائده» على الزهد (٨٠) (٢٨٣).
(٢) وقرأ بها يحيى بن وثاب.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٩٥)، و «الدر المصون» (٦/ ٨١).
160
وقوله تعالى: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي: مَنْ هذه أفعاله هو الذي ينفع إذا والى، وتُحْمَدُ أفعاله ونعمه، قال القُشَيْرِيُّ: اسمه تعالى: «الولي»، أي: هو المتولِّي لأحوال عباده، وقيل: هو من الوالي، وهو الناصر، فأولياءُ اللَّه أنصار دينه، وأشياعُ طاعته، والوليُّ: في- صفة العبد- مَنْ يُوَاظِبُ على طاعة رَبِّه، ومِنْ علاماتِ مَنْ يكونُ الحَقُّ سبحانه وَلِيَّهُ- أنْ يصونه، ويكفِيَهُ في جميع الأحوال، ويُؤَمِّنَهُ، فيغارَ على قلبه أنْ يتعلَّقَ بمخلوقٍ في دفع شَرٍّ أو جَلْبِ نَفْعٍ بل يكونُ سبحانه هو القائِمَ على قلبه في كُلِّ نَفَسٍ، فيحقِّق آماله عند إشاراته، ويعجِّل مَآرِبَهُ عند خَطَرَاتِهِ، ومن أماراتِ ولايته لِعَبْدِهِ: أنْ يُدِيمَ توفيقَهُ حتى لو أرادَ سُوءاً، أو قصد محظوراً- عَصَمَهُ عن ارتكابه، أو لو جنح إلى تقصير في طاعة، أبى إلاَّ توفيقاً وتأييداً، وهذا من أماراتِ السعادَةِ، وعَكْسُ هذا مِنْ أماراتِ الشقاوة، ومن أمارات ولايته أيضاً أنْ يرزقه مَوَدَّةً في قُلُوب أوليائه، انتهى من «التحبير».
ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الدَّالَّةَ على الصَّانِعِ، وذلك خَلْقُ السموات والأرضِ.
وقوله [تعالى] : وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ يتخرَّجُ على وجوهٍ: منها: أنْ يريدَ إحْدَاهُمَا، وهو ما بَثَّ في الأرض دونَ السموات، ومنها: أنْ يكون تعالى قد خلق في السموات وبَثَّ دوابَّ لا نعلَمُهَا نَحْنُ، ومنها: أنْ يريد الحيواناتِ التي تُوجَدُ في السحاب، وقد تَقَعُ أحياناً كالضفادع/ ونحوها فَإنَّ السَّحَابَ داخل في اسم السماء.
وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ يريد: يومَ القيامة عند الحشر من القبور.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣)
وقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ قرأ جمهور القُرَّاء: «فَبِمَا» بفاء، وكذلك هي في جُلِّ المصاحف، وقرأ نافع وابن عامر: «بِمَا» دون فاء «١»، قال أبو علي الفارسيُّ:
أصاب من قوله: وَما أَصابَكُمْ يحتمل أنْ يكون في موضع جَزْمٍ، وتكون «ما» شرطيةً، وعلى هذا لا يجوزُ حَذْفُ الفاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وجوّز حذفها أبو الحسن الأخفش، وبعض
(١) وقراءة الجمهور أجود في العربية، لأن الفاء مجازاة جواب الشرط، والمعنى: ما يصيبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.
ينظر: «حجة القراءات» (٦٤٢)، و «السبعة» (٥٨١)، و «الحجة» (٦/ ١٢٨)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٥٦)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢١٤)، و «العنوان» (١٧٠)، و «شرح شعلة» (٥٧٤)، و «إتحاف» (٢/ ٤٥٠).
161
البغداديِّينَ على أَنَّها مُرَادَةٌ في المعنى، ويحتمل أنْ يكون «أصاب» صلة ل «مَا»، وتكون «ما» بمعنى «الذي»، وعلى هذا يتجه حذفُ الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي: لولا كَسْبُكُمْ ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنَّما هي بكسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أنْ يعرى منه، قال ع «١» : وأَمَّا في هذه الآية، فالتلازم مُطَّرِدٌ مع الثبوت والحذف، وأمَّا معنى الآية، فاختلف الناسُ فيه، فقالت فرقة: هو إخبار من اللَّه تعالى بأَنَّ الرزايا والمصائبَ في الدنيا إِنَّما هي مجازات من اللَّه تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأنَّ اللَّه تعالى يعفو عن كثير، فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ، أوْ عَثْرَةُ قَدَمٍ، وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَرُ» «٢»، وقال مُرَّةُ الهَمَدَانِيُّ: رأيتُ على ظهر كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةً، فقلتُ: ما هذا؟ فقال: هذا بما كَسَبَتْ يَدَيَّ، ويعفو [اللَّه] «٣» عن كثير، وقيل لأبي سليمانَ الدَّارَانِيِّ: ما بالُ الفضلاء لا يَلُومُونَ مَنْ أساءَ/ إليهم؟ فقال: لأَنَّهُمْ يعلَمُونَ أَنَّ اللَّه تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم، ورَوَى عليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، أوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا- فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ بَعْدَ عَفْوِهِ» «٤» وقال الحَسَنُ: معنى الآية في الحُدُودِ، أي: ما أصابكم من حَدٍّ من حُدُودِ اللَّه، فبما كسبَتْ أيديكم، ويعفو اللَّه عن كثير، فيستره على العبد حتى لا يُحَدَّ عليه، ثم أَخبر تعالى عن قُصُورِ ابن آدَمَ وَضَعْفِهِ، وأَنَّه في قبضة القدرة لا يعجز طَلَب رَبِّه، ولا يُمْكِنُه الفِرَارُ منه، و «الجواري» : جمع جارية وهي السفينة، وكَالْأَعْلامِ: الجبال، وباقي الآية بَيِّنٌ، فيه الموعظةُ وتشريفُ الصبّار الشكور.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٧).
(٢) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧/ ١٥٣) (٩٨١٥) عن قتادة، وذكره الهندي في «كنز العمال» (٣/ ٣٤١) (٦٨٤٩)، وعزاه إلى سعيد بن منصور. [.....]
(٣) سقط في: د.
(٤) أخرجه أحمد (١/ ٨٥)، وأبو يعلى (١/ ٣٥٢) (١٩٣/ ٤٥٣)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧/ ١٠٧).
قال الهيثمي: رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه أزهر بن راشد وهو ضعيف. وله شاهد من طريق آخر منه:
أخرجه الترمذي (٥/ ١٦) كتاب «الإيمان» باب: ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن (٢٦٢٦)، وابن ماجه (٢/ ٨٦٨) كتاب «الحدود» باب: الحد كفارة (٢٦٠٤)، وأحمد (١/ ٩٩، ١٥٩)، والحاكم (٢/ ٤٤٥).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
162

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)
وقوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا: أوْبَقْتُ الرَّجُلَ: إذا أَنْشَبْتَهُ في أمْرٍ يَهْلِكُ فِيهِ، وهو في السفن تغريقها وبِما كَسَبُوا أي: بذنوب رُكَّابها، وقرأ نافع، وابن عامر:
«وَيَعْلَمُ» بالرفع على القطع والاستئناف، وقرأ الباقون والجمهور: «وَيَعْلَمَ» بالنصب «١» على تقدير «أنْ»، و «المَحِيصُ» : المنجى، وموضعُ الرَّوَغَانِ.
ثم وعَظَ سبحانه عبادَهُ، وحَقَّر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورَغَّبَهُمْ فيما عنده من النعيم والمنزلة الرفيعة لديه، وعَظَّم قَدْرَ ذلك في قوله: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [وزينتها] وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وقرأ الجمهور «٢» :
كَبائِرَ على الجمع قال الحسن: هي كُلُّ ما تُوُعِّدَ فيه بالنار «٣»، وقد تقدَّم ما ذَكَرَهُ/ الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وَالْفَواحِشَ: قال السُّدِّيُّ «٤» : الزنا، وقال مقاتل: مُوجِبَاتُ الحدود «٥».
وقوله تعالى: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ حَضٌّ على كسر الغضب والتدرُّب في إطفائه إذ هو جمرةٌ من جَهَنَّمَ، وبَابٌ مِنْ أبوابها، وقال رجل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أوْصِنِي، قَالَ:
لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدْني، قَال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب»
«٦»، ومن جاهد
(١) ينظر: «السبعة» (٥٨١)، و «الحجة» (٦/ ١٣٠)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٨٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٥٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢١٤)، و «العنوان» (١٧٠)، و «حجة القراءات» (٦٤٣)، و «إتحاف» (٢/ ٤٥٠).
(٢) وقد قرأ حمزة والكسائيّ بالإفراد «كبير».
ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٩)، و «السبعة» (٥٨١)، و «الحجة» (٦/ ١٣٢)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٨٦)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٥٨)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢١٥)، و «العنوان» (١٧٠)، و «حجة القراءات» (٦٤٣)، و «شرح شعلة» (٥٧٤)، و «إتحاف» (٢/ ٤٥١).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥/ ٣٩).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ١٥٤) برقم: (٣٠٧٢٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٢٩)، وابن عطية (٥/ ٣٩).
(٥) أخرجه البغوي (٤/ ١٢٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٩).
(٦) أخرجه البخاري (١٠/ ٥٣٥) كتاب «الأدب» باب: الحذر من الغضب (٦١١٦)، والبيهقي (١٠/ ١٠٥) كتاب «آداب القاضي» باب: لا يقضي وهو غضبان، نحوه من حديث أبي هريرة، والترمذي (٤/ ٣٧١) كتاب «آداب القاضي» باب: لا يقضي وهو غضبان، نحوه من حديث أبي هريرة، والترمذي (٤/ ٣٧١) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في كثرة الغضب (٢٠٢٠)، نحو حديث البخاري والبيهقي عنه. -
هذا العَارِضَ مِنْ نَفْسِهِ حتى غَلَبَهُ، فقدْ كُفِيَ هَمًّا عظيماً في دنياه وآخرته.
ت: وروى مالكٌ في «المُوَطَّإ» أَنَّ رجُلاً أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فأنسى، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَغْضَبْ» «١» قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أراد: عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي بكلماتٍ قليلةٍ لئلاَّ أنسى إنْ أكْثَرْتَ عَلَيَّ، ثم أسند أبو عُمَرَ من طُرُقٍ عن الأحنفِ بن قَيْسٍ عن عَمِّه جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ، أَنَّه قال:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وأَقْلِلْ لِي لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، قَال: «لاَ تَغْضَبْ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِراراً، كُلُّها يُرَجِّعُ إليه رسُولُ اللَّه: لاَ تَغْضَبْ»، انتهى «٢» من «التمهيد»، وأسند أبو عُمَرَ في «التمهيد» أيضاً عن عبد اللَّه بن أبي الهُذَيْلِ قال: لما رأى يحيى أَنَّ عيسى مُفَارِقُهُ قال له:
أَوْصِنِي، قَالَ: لا تَغْضَبْ، قال: لاَ أَسْتَطِيعُ، قال: لا تَقْتَنِ مَالاً، قال عَسَى. انتهى. وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ أقال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ عَنْهُمْ، وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «٣»، قال ابن المُبَارَكِ: وأخبرنا/ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ قال: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى يَقُولُ: «مَنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإِ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ ذَكَرَنِي حِينَ يَغْضَبُ ذَكَرْتُهُ حِينَ أَغْضَبُ فَلَمْ أَمْحَقْهُ فيمن أمحق «٤» » انتهى.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
- قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وفي الباب من حديث جارية بن قدامة التيمي رضي الله عنه: أنه قال: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قُلْ لي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وأَقْلِلْ لعلي لا أغفله، قال: «لا تغضب... » الحديث.
أخرجه ابن حبان (١٢/ ٥٠٢) كتاب «الحظر والإباحة» باب: الاستماع المكروه وسوء الظن والغضب والفحش، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ذم النفس عن الخروج إلى ما لا يرضي الله- جلّ وعلا- بالغضب (٥٦٨٩- ٥٦٩٠)، وأحمد (٣/ ٤٨٤)، (٥/ ٣٤)، والحاكم (٣/ ٦١٥)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢/ ٢٣٧) (٢٣٠٩)، والطبراني (٢/ ٢٦٢) (٢٠٩٤) (٢١٠٧)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٣/ ١٠٨) (١١١٠).
(١) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/ ٩٠٦) كتاب «حسن الخلق» باب: ما جاء في الغضب (١١).
(٢) أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (٧/ ٢٤٦)، وانظر الحديث قبل السابق.
(٣) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (٢٥٧) (٧٤٥)، وذكره الهندي في «كنز العمال» (٣/ ٣٥٤) (٦٩٠٢)، وعزاه إلى الديلمي.
(٤) تقدم تخريج هذا الحديث مسندا.
164
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا مَدْحٌ لكلِّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ، وقَبِلَ شَرْعَهُ، ومَدَحَ اللَّهُ تعالى القَوْمَ الذين أَمْرُهُمْ شورى بينهم لأنَّ في ذلك اجتماعَ الكلمة، والتَّحَابُّ، واتصالَ الأيْدِي، والتَّعَاضُدَ على الخير، وفي الحديث: «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إلاَّ هُدُوا لأَحْسَنِ، مَا بِحَضْرَتِهِمْ «١».
وقوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ معناه: في سبيل اللَّه، وبِرَسْمِ الشَّرْعِ وقال ابن زيد قوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ... الآية، نزلت في الأَنصار «٢»، والظاهر أَنَّ اللَّه تعالى مدح كلَّ مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفةِ كائناً مَنْ كَانَ، وهل حَصَلَ الأنصارُ في هذه الصفة إلا بعد سَبْقِ المهاجرين إليها- رضي اللَّهُ عَنْ جميعهم بمنّه وكرمه-.
وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ: مدح سبحانه في هذه الآية قوماً بالانتصار مِمَّنْ بَغَى عليهم، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا: الانتصار بالواجب تغيير منكر، قال الثعلبيُّ: قال إبراهيم [النَّخَعِيُّ] في هذه الآية: كانوا يكرهون أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فإذا قدروا عفوا، انتهى.
وقوله سبحانه: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها قيل: سُمِّي الجزاء باسم الابتداء، وإن لم يكن سيئة، لتشابههما في الصورة، قال ع «٣» : وإنْ أخذنا السيِّئة هنا بمعنى المصيبة في حَقِّ البشر، أي: يسوء هذا هذا ويسوءه الآخر- فلسنا نحتاج إلى أنْ نقول: سمى العقوبة باسم الذنب بل الفعل الأَوَّلِ والآخر سيئة، قال الفخر: اعلم أَنَّهُ تعالى/ لما قال:
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أردفه بما يَدُلُّ على أَنَّ ذلك الانتصار يجب أَنْ يكون مُقَيَّداً بالمثل فإنَّ النقصان حَيْفٌ، والزيادة ظلم، والمساواة هو العدل فلهذا السبب قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها انتهى وَيَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ونحوه من الآي، واللام في قوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ لام التقاء القسم.
وقوله: مِنْ سَبِيلٍ يريد: من سبيل حرج ولا سبيل حكم، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار، والخلاف فيه: هل هو بين المؤمن والمُشْرِكِ، أو بين المؤمنين؟.
(١) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (٨١) باب: المشورة (٢٥٣) نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٠٧)، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ١٥٤) برقم: (٣٠٧٢٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٩).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٠).
165

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥)
وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ... الآية، المعنى: إنما سبيل الحكم والإثم على الذين يظلمون الناس، روى التَّرْمِذِيُّ عن كعب بن عُجْرَةَ قال:
قال لي النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم،: «أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا كَعْبُ مِنْ أُمَرَاءٍ يَكُونُونَ، فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ في كَذِبِهِمْ، وأَعَانَهُمْ على ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلاَ يَرِدُ عَلَي الْحَوْضِ، يا كَعْبُ، الصَّلاَةُ بُرْهَانٌ، والصبر جنّة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطْفِىءُ الماءُ النَّارَ، يا كَعْبُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلاَّ كَانَتِ النَّارُ أولى بِهِ». قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، وخرَّجه أيضاً في «كتاب الفتن» وصحَّحه «١»، انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ إلى قوله: أَلِيمٌ: اعتراضٌ بَيْنَ الكلامَيْنِ، ثم عاد في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ إلى الكلام الأول، كأنَّه قال: ولمنِ انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِكَ ما عليهم من سبيل، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ... الآية، واللام في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ يصِحُّ أنْ تكون لام قَسَمٍ، ويصح أنْ تكون لام الابتداء، وعَزْمِ الْأُمُورِ: مُحْكَمُهَا ومُتْقَنُهَا، والحميدُ العاقبةِ منها، فمَنْ رأى أَنَّ هذه الآية/ هي فيما بين المؤمنين والمشركين، وأنَّ الصبر للمشركين كان أفضل قال: إنَّ الآية نسخت بآية السيف، ومَنْ رأى أَنَّ الآية بين المؤمنين، قال: هي مُحْكَمَةٌ، والصبر والغفران أفضل إجماعاً، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقَيَامَةِ، نادى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَيَقُومُ عَنَقٌ مِنَ النَّاسِ كَبِيرٌ، فَيُقَالُ: مَا أَجْرُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا في الدُّنْيَا» «٢».
وقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ تحقير لأمر الكَفَرَةِ، أي:
فلا يُبَالي بهم أحدٌ من المؤمنين لأنَّهم صائرون إلى ما لا فلاحَ لهم معه، ثم وصف تعالى
(١) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٢٥)، كتاب «الفتن» باب: (٧٢) (٢٢٥٩)، والنسائي (٧/ ١٦٠- ١٦١) كتاب «البيعة» باب: من لم يعن أميرا على الظلم (٤٢٠٨)، وابن حبان (٥/ ١٤١) (١٥٦٩)، وأحمد (٣/ ٣٩٩) كلهم نحوه.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب، لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه.
(٢) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (٣/ ٢٦٥).
لنبيِّه حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب، وقولهم: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ومرادهم:
الرَّدُّ إلى الدنيا، والرؤية هنا رؤيةُ عَيْنٍ، والضميرُ في قوله: عَلَيْها عائدٌ على النار، وإنْ لم يتقدَّم لها ذِكْرٌ من حيثُ دَلَّ عليها قوله: رَأَوُا الْعَذابَ.
وقوله: مِنَ الذُّلِّ يتعلق ب خاشِعِينَ.
وقوله تعالى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قال قتادة والسُّدِّيُّ «١» : المعنى: يسارقون النَّظَرَ لما كانوا فيه من الهَمِّ وسوء الحال لا يستطيعون النَّظَرَ بجميعِ العَيْنِ وإنَّما ينظرون ببعضها قال الثعلبيُّ: قال يونس: مِنَ بمعنى الباء، ينظرون بطرف خَفِيٍّ، أي:
ضعيف من أجل الذُّلِّ والخوف، ونحوُه عن الأخفش، انتهى، وفي البخاريِّ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، أي: ذليل.
وقوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية، وقول الَّذِينَ آمَنُوا هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار وسوء مُنْقَلَبِهِمْ.
وقوله تعالى: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين/ يومئذ، حكاه اللَّه عنهم، ويحتمل أَنْ يكون استئنافاً من قول الله عز وجل وأخباره لنبيه محمّد ع.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
وقوله تعالى: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ... الآية، إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها، واعتقدَتْ ذلك دِيناً، ثم أَمَرَ تعالى نِبِيَّه أنْ يأمرهم بالاستجابة لدعوة اللَّه وشريعته من قبل إتيان يوم القيامة الذي لا يُرَدُّ أحد بعده إلى عمل، قال ع «٢» : في الآية الأخرى في سورة «آلم غلبت الروم» : ويحتمل أن يريد:
لا يَرُدُّه رَادٌّ حتى لا يقع، وهذا ظاهر بحسب اللفظ، و «النكير» : مصدر بمعنى الإنكار
(١) أخرجه الطبري (١١/ ١٥٩) برقم: (٣٠٧٣٨- ٣٠٧٣٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤١).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٢).
قال الثعلبيُّ: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ: أي مَعْقِل، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي: من إنكارٍ على ما ينزل بكم من العذاب بغير ما بكم، انتهى.
وقوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا... الآية تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والإنسان هنا اسم جنس، وجَمَعَ الضمير في قوله: تُصِبْهُمْ وهو عائد على لفظ الإنسان من حيث هو اسم جنس.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)
وقوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ... الآية، هذه آية اعتبار دَالٍّ على القُدْرَةِ والمُلْكِ المحيط بالجميع، وأَنَّ مشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه وفي كُلِّ أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإنَّ الذي يخلق ما يشاء هو اللَّه تبارك وتعالى، وهو الذي يقسم الخلق فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الأولاد الذكور، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي: ينوعهم ذكراناً وإناثا، وقال محمّد ابن الحنفيّة: يريد بقوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ التّوأم، أي: يجعل في بطن زوجاً من الذُّرِّيَّة ذكراً وأنثى «١»، و «العقيم» : الذي لا يُولَدُ له، وهذا كله مُدَبَّرٌ بالعلم والقدرة/ وبدأ في هذه الآية بذكر الإناث تأنيساً بِهِنَّ ليهتمّ بصونهنّ والإحسان إليهنّ، وقال النبيّ ع: «مَنِ ابتلي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ» «٢»، وقال واثلةُ بْنُ الأَسْقَعِ: مِنْ يُمْنِ المَرْأَةِ تبكيرُها بالأنثى قبل الذكر «٣» لأنَّ اللَّه تعالى بدأ بِذِكْرِ الإناث حكاه عنه الثعلبيُّ قال: وقال
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٣).
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ٣٣٢) كتاب «الزكاة» باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (١٤١٨)، (١٠/ ٤٤٠) كتاب «الأدب» باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (٥٩٩٥)، ومسلم (٤/ ٢٠٢٧) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: فضل الإحسان إلى البنات (١٤٧/ ٢٦٢٩)، والترمذي (٤/ ٣١٩) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في النفقة على البنات والأخوات (١٩١٣)، وابن حبان (٧/ ٢٠١) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في الصبر وثواب الأعمال، ذكر الاستتار من النار- نعوذ بالله منها- للمسلم إذا ابتلي بالبنات فأحسن صحبتهن (٢٩٣٩)، وأحمد (٦/ ٣٣)، والبيهقي (٧/ ٤٧٨) كتاب «النفقات» باب: النفقة على الأولاد.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٣).
إسحاق بن بِشْرٍ: نزلَتْ هذه الآيةُ في الأَنبياء «١»، ثم عَمَّتْ ف يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني:
لوطا ع، ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يعني إبراهيم ع، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني: نِبِيَّنَا محمَّداً ع، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يعني: يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاء- عليهما السلام-.
وقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا... الآية، نزلَتْ بسبب خَوْضٍ كان للكفار في معنى تكليم اللَّه موسى ونحو ذلك، ذهَبَ قريشٌ واليهودُ في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مُبَيِّنَةً صورةَ تكليم اللَّه عبادَهُ، كيف هو، فَبَيَّنَ اللَّه تعالى أَنَّهُ لا يكُونُ لأَحَدٍ مِنَ الأنبياءِ، ولا ينبغِي له، ولا يمكنُ فيه أنْ يُكَلِّمه اللَّه إلاَّ بأَنْ يوحي إليه أحَدَ وجوه الوَحْيِ من الإلهام قال مجاهد: أوِ النَّفْثِ في القَلْبِ «٢»، أو وَحْيٍ في منام، قال النَّخَعِيّ: وكانَ من الأنبياء مَنْ يُخَطَّ له في الأرض ونحو هذا، أو بأنْ يُسْمِعَهُ كلامه دون أن يعرف هو للمتكلِّم جهةً ولا حَيِّزاً كموسى- عليه السلام-، وهذا معنى مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي: من خفاء عن المُكَلَّم لا يحدُّه ولا يتسوَّر بذهنه عليه، وليس كالحجابِ في الشاهد، أو بأنْ يرسِلَ إليه مَلَكاً يُشَافِهُهُ بوحي الله/ عز وجل، قال الفخر «٣» : قوله: فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ أي: فيوحى ذلك المَلَكُ بإذن اللَّه ما يشاءُ اللَّه انتهى، وقرأ جمهور القُرَّاءِ والناس: «أَوْ يُرْسِلَ» بالنصب «فَيُوحَى» بالنصب أيضاً، وقرأ نافع، وابن عامر، وابن عباس، وأهل المدينة: «أَوْ يُرْسِلُ» بالرفع فيوحي- بسكون الياء «٤» -، وقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «مِنْ» متعلِّقةٌ بفعْلٍ يَدُلُّ ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلِّمه من وراء حجاب، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الرسالة من أنواع التكليم، وأَنَّ مَنْ حَلَفَ: لا يُكَلِّم فلاناً، وهو لم ينو المشافهة، ثم أرسل رسولا حنث.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا... الآية، المعنى: وبهذه الطرق، ومن هذا الجنس أوحينا إليك، أي: بالرسول، و «الرُّوحُ» في هذه الآية: القرآن
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٣).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٣).
(٣) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٢٧/ ١٦٣).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٣)، و «البحر المحيط» (٧/ ٥٠٤)، و «الدر المصون» (٦/ ٨٨).
169
آن وهدى الشريعة، سَمَّاه رُوحاً من حيث يُحْيي به البَشَرَ والعَالَم كَما يُحْيِي الجسدَ بالروح، فهذا على جهة التشبيه.
وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِنا أي: واحد من أُمورنا، ويحتمل أَنْ يكون الأمر بمعنى الكلام، ومِنْ لابتداء الغاية.
وقوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ توقيفٌ على مِقْدَارِ النعمةِ، والضمير في جَعَلْناهُ عائد على الكتاب، ونَهْدِي بمعنى: نُرْشِدُ، وقرأ جمهور الناس: «وإنَّكَ لَتَهْدِي» - بفتح التاء وكسر الدال-، وقرأ حَوْشَبٌ: «لتهدى» - بضم التاء وفتح الدال-، وقرأ عاصم: «لَتُهْدِي» - بضم التاء وكسر الدال-.
وقوله: صِراطِ اللَّهِ يعني: صراط شرع اللَّه، ثم استفتح سبحانه القَوْلَ في الإخبار بصيرورة الأمور إليه سبحانه مبالغةً وتحقيقاً وتثبيتاً، فقال: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ قال الشيخُ/ العارفُ باللَّه أبو الحسن الشاذليُّ رحمه اللَّه: إنْ أردتَ أَنْ تغلب الشَّرَّ كُلَّه، وتلحق الخيرَ كُلَّه، ولا يَسْبِقَكَ سَابِق، وإنْ عمل ما عمل- فقل: يا مَنْ له الخَيْرُ كُلُّهُ، أسألك الخيرَ كُلَّه، وأعوذ بك من الشَّرِّ كُلِّه، فإنَّك أنت اللَّه الغَنِيُّ الغفُورُ الرَّحِيم، أَسْأَلُكَ بالهادِي محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى صراطٍ مستقيمٍ، صراطِ اللَّهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا في الأرض، أَلاَ إلى اللَّه تصيرُ الأمور، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مَغْفِرَةً تَشْرَحُ بها صَدْرِي، وتَضَعُ بها وِزْرِي، وترفعُ بها ذِكْرِي، وتُيَسِّرَ بها أمري، وتُنَزِّهَ بها فكري، وتُقَدِّسَ بها سِرِّي، وتكشفَ بها ضُرِّي، وترفَعَ بها قَدْرِي إنَّك على كُلِّ شَيْءٍ قدير، اهـ.
- قلت-: قوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ: هذا بَيِّنٌ، وقوله: وَلَا الْإِيمانُ: فيه تأويلات: قيل معناه: ولا شرائع الإيمان ومعالمَه قال أبو العالية: يعني:
الدعوةَ إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفَضْل: يعني أهل الإيمان، مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن، وقال ابن خُزَيْمَةَ: الإيمان هنا الصلاة دليله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] قال ابن أبي الجَعْدِ وغيره: احترق مُصْحَفٌ فلم يبقَ منه إلاَّ: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وغَرِقَ مصحفٌ فامحى كُلُّه إلاَّ قولَه: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ نقله الثعلبيُّ وغيره «١»، انتهى.
قال العبد الفقير إلى الله تعالى، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي لطف الله به في الدارين: قد يَسَّر اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في تحرير هذا المختصر، وقد أودعته بحمد الله
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٤). [.....]
170
جزيلا من الدرر، قد استوعبت فيه بحمد اللَّه مُهِمَّاتِ ابْنِ عطيَّةَ، وزدته فوائدَ جليلةً من غيره، وليس الخَبَرُ كالْعِيَانِ، تَوَخَّيْتُ فيه بحمد/ اللَّه الصَّوَاب وجعلته ذخيرةً عند اللَّه لِيَوْمِ المآبِ، لا يَسْتَغْنِي عنه المُنْتَهِي وفيه كفايةٌ للْمُبَتِدي، يستغني «١» به عن المُطَوَّلاَت إذْ قد حَصَّل منها لُبَابَهَا وكَشَفَ عن الحقائقِ حِجَابَهَا.
التَّعْرِيفُ بِرِحْلَةِ المُؤَلِّف
رحلْتُ في طَلَبِ العِلْمِ في أواخر القَرْنِ الثَّامِنِ، ودخلْتُ بِجَايَةَ في أوائل القرن التاسع، فلقيتُ بها الأَئمةَ المقتدى بهم، أَصحابَ سيِّدِي عبد الرحمنِ الوغليسيِّ متوافرِين، فحضَرْتُ مجالسَهُمْ، وكانَتْ عُمْدَةُ قراءتي بها على سيدي [علي بن] «٢» عثمان المَانْجِلاَتِيِّ- رحمه اللَّه- بمَسْجِدِ عَيْنِ البَرْبَرِ، ثم ارتحلْتُ إلى تُونُسَ، فلقيت بها سيدي عيسى الغبريني والأُبِّيَّ، والبرزليَّ، وغيرهم، وأخذْتُ عنهم، ثم ارتحلْتُ إلى المشرق، فلقيتُ بِمِصْرَ الشيْخَ وَلِيَّ الدِّينِ العِرَاقِي، فأخذْتُ عنه علوماً جَمَّةً مُعْظَمُهَا عِلْمُ الحديث، وفتح اللَّه لي فيه فتحاً عظيماً، وكتب لي وأَجَازَنِي جميعَ ما حضَرْتُهُ عليه، وأطلق في غيره، ثم لقيتُ بمَكَّةَ بعض المحدِّثين، ثم رجعتُ «٣» إلى الديار المصرية وإلى تُونُسَ، وشاركْتُ مَنْ بها، ولقيت بها شيخَنَا أبا عبد اللَّه محمَّدَ بْنَ مَرْزُوقٍ قادماً لإرادة الحَجِّ، فأخذتُ عنه كثيراً، وأجازني [التدريسَ] في أنواع الفُنُونِ الإسلاميَّةِ، وحَرَّضَنِي على إتمام تقييدٍ وضعتُه على ابن الحاجِبِ الفرعيِّ.
قلت: ولما فرغْتُ من تحرير هذا المختَصَرِ وافَقَ قدومَ شيخِنَا أبي عبد اللَّهِ محمد بن مرزوقٍ علينا في سَفْرَةٍ سافرها من تِلْمِسَانَ متوجِّهاً إلى تُونُسَ، ليصلح/ بَيْنَ سلطانها وبين صَاحِبِ تِلْمِسَانَ، فأوقفته على هذا الكتاب، فنظر فيه وأمعن النظر، فَسُرَّ به سروراً كثيراً ودعا لنا بخير، والله الموفّق بفضله.
(١) في د: يستعين.
(٢) سقط في: د.
(٣) في د: رجعنا.
171
Icon