تفسير سورة الجاثية

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الجاثية وهي مكية إلا آية واحدة وهي قوله تعالى :( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله )١ فإنها نزلت بالمدينة، ويقال : إن الجميع مكية.
١ - الجاثية : ١٤..

قَوْله تَعَالَى: ﴿حم تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ قَوْله: ﴿حم﴾ مُبْتَدأ، و ﴿تَنْزِيل الْكتاب﴾ خَبره، وَقَوله: ﴿من الله الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْغَالِب على الْأُمُور، الْعدْل فِي الْأَحْكَام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:قوله تعالى :( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) قوله :( حم ) مبتدأ، و( تنزيل الكتاب ) خبره،

وقوله :( من الله العزيز الحكيم ) أي : الغالب على الأمور، العدل في الأحكام.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لآيَات﴾ أَي: لدلائل وعبرا، وَذَلِكَ فِي رَفعهَا بِغَيْر عمد، وَمَا خلق فِيهَا من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَمن بسط الأَرْض واستقرارها بِمن فِيهَا، وَمَا نصب فِيهَا من الْجبَال وأجرى فِيهَا من الْأَنْهَار، وَخلق من الْأَشْجَار، وَغير ذَلِك، وَقَوله: ﴿للْمُؤْمِنين﴾ أَي: للمصدقين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَفِي خَلقكُم﴾ أَي: فِي خَلقكُم من التُّرَاب ثمَّ من نُطْفَة.
وَقَوله: ﴿وَمَا يبث من دَابَّة﴾ أَي: مَا ينشر فِي الأَرْض من دَابَّة، وَالدَّابَّة كل حَيَوَان يدب على الأَرْض.
وَقَوله: ﴿آيَات﴾ وَقُرِئَ: " آيَات " بِالرَّفْع والخفض، فَمن قَرَأَ بالخفض فَمَعْنَاه: إِن فِي السَّمَوَات وَإِن فِي خَلقكُم لآيَات، وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فعلى الِابْتِدَاء والاستئناف.
وَقَوله: ﴿لقوم يوقنون﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: الْإِيمَان هُوَ الْيَقِين كُله.
134
﴿وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من رزق فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا وتصريف الرِّيَاح آيَات لقوم يعْقلُونَ (٥) تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ فَبِأَي حَدِيث بعد الله وآياته يُؤمنُونَ (٦) ويل لكل أفاك أثيم (٧) يسمع آيَات الله تتلى﴾
135
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ وَمعنى الِاخْتِلَاف وَهُوَ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان والمجيء والذهاب.
وَقَوله: ﴿وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من رزق﴾ أَي: الْمَطَر، قَالَ كَعْب الحبر: ينزل الْمَطَر وَفِيه الْبِنْت فَيدْخل فِي الأَرْض ثمَّ يخرج مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا﴾ قد ذكرنَا.
﴿وتصريف الرِّيَاح﴾ مَعْنَاهُ: مرّة جنوبا، وَمرَّة شمالا، وَمرَّة رَحْمَة، وَمرَّة عذَابا.
وَقَوله: ﴿آيَات لقوم يعْقلُونَ﴾ أَي: يعْقلُونَ الْآيَات، وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " الرّيح من روح الله تَأتي مرّة بِالْعَذَابِ وَمرَّة بِالرَّحْمَةِ؛ فَلَا تسبوها وَلَكِن إِذا جَاءَت فَسَلُوا الله خَيرهَا، واستعيذوا بِاللَّه من شَرها ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ فَبِأَي حَدِيث بعد الله وآياته يُؤمنُونَ﴾ أَي: يصدقون، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنهم إِذا لم يُؤمنُوا بِهَذَا الْكتاب فَبِأَي كتاب بعده يُؤمنُونَ، وَلَا كتاب بعد هَذَا الْكتاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويل لكل أفاك أثيم﴾ فِي التَّفْسِير أَن الويل وَاد فِي جَهَنَّم يهوى الْكَافِر فِيهِ سبعين خَرِيفًا قبل أَن يبلغ قَعْره. وَقَوله: ﴿لكل أفاك أثيم﴾ أَي: كَذَّاب فَاجر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يسمع آيَات الله تتلى عَلَيْهِ ثمَّ يصر مستكبرا﴾ أَي: يصر على الْكفْر معرضًا عَن الْحق إِعْرَاض المتكبرين، والإصرار هُوَ العقد على الشَّيْء بالعزم
135
﴿عَلَيْهِ ثمَّ يصر مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا فبشره بِعَذَاب أَلِيم (٨) وَإِذا علم من آيَاتنَا شَيْئا اتخذها هزوا أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين (٩) من ورائهم جَهَنَّم وَلَا يُغني عَنْهُم مَا كسبوا شَيْئا وَلَا مَا اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (١٠) هَذَا هدى وَالَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم (١١) ﴾ الصَّحِيح.
وَقَوله: ﴿كَأَن لم يسْمعهَا﴾ أَي: كَأَن لم يسمع الْآيَات.
وَقَوله: ﴿فبشره بِعَذَاب أَلِيم﴾ أَي: موجع.
136
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا علم من آيَاتنَا شَيْئا اتَّخَذُوهَا هزوا﴾ نزلت الْآيَة فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة كَانَ يَقُول فِي الْقُرْآن إِنَّه أساطير الْأَوَّلين، وَهُوَ مثل حَدِيث رستم واسفنديار، وَكَانَ يَقُول ذَلِك على جِهَة الِاسْتِهْزَاء.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من ورائهم جَهَنَّم﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: من قدامهم جَهَنَّم.
وَقَوله: ﴿وَلَا يُغني عَنْهُم مَا كسبوا شَيْئا﴾ قَالَ بعض أهل التَّفْسِير: الْآيَة فِي عبد الله بن أبي بن سلول، وَكَسبه هُوَ جهاده مَعَ الرَّسُول وصومه وَصلَاته وشفقته على أَصْحَاب النَّبِي. وَقَوله: ﴿وَلَا يُغني﴾ أَي: لَا يدْفع، وَإِنَّمَا لم يدْفع؛ لِأَنَّهُ كَانَ منافقا يظْهر الْإِسْلَام بِلِسَانِهِ ويعتقد الْكفْر، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن هَذِه الْآيَة فِي النَّضر بن الْحَارِث أَيْضا، وَهَذَا هُوَ الأولى؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَكَسبه مَا فعله من الْخَيْر على زَعمه.
وَقَوله: ﴿وَلَا مَا اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء﴾ أَي: الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم عَذَاب عَظِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا هدى﴾ أَي: الْقُرْآن هدى لِلْخلقِ.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم﴾ أَي: عَذَاب من جَهَنَّم موجع.
136
﴿الله الَّذِي سخر لكم الْبَحْر لتجري الْفلك فِيهِ بأَمْره ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (١٢) وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (١٣) قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله﴾
137
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله الَّذِي سخر لكم الْبَحْر لتجري الْفلك فِيهِ بأَمْره ولتبتغوا من فَضله﴾ أَي: من رزقه.
وَقَوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ قَالَ ابْن عُيَيْنَة: الشُّكْر وَاجِب على كل مُسلم؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿لتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون﴾ فرزق الْعباد ليشكروه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾ أَي: ذلل، وَمعنى التسخير والتذليل خلقهَا على وَجه ينْتَفع بهَا الْعباد، وَالِانْتِفَاع من السَّمَاء وَالْأَرْض مَعْلُوم.
وَقَوله: ﴿جَمِيعًا مِنْهُ﴾ قَالَ الْفراء والزجاج: نعْمَة وَرَحْمَة مِنْهُ، وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: مِنْهُ النُّور وَمِنْه الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عمر وَقَالَ: مِم خلق الله الْخلق؟ فَقَالَ: من النُّور والظلمة وَالرِّيح، فَقَالَ: مِم خلق النُّور والظلمة وَالرِّيح فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَأتى ابْن عَبَّاس وَسَأَلَ عَن الأول فَذكر مثل مَا ذكره ابْن عمر، فَسَأَلَهُ عَن الثَّانِي فَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ﴾ أَي: من تكوينه كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: كن فَكَانَت. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " منَّة " أَي: سخر مَا سخر نعْمَة من الله.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون﴾ أَي: يتدبرون.
وَفِي الْخَبَر: " تَفَكَّرُوا فِي الْخلق وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِق ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله﴾ ذكر الضَّحَّاك وَأَبُو صَالح أَن النَّبِي وَأَصْحَابه نزلُوا على مَاء بالمريسيع، فَبعث عبد الله بن أبي بن سلول غُلَامه ليَأْتِيه بِالْمَاءِ، فَأَبْطَأَ الْغُلَام، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بك؟ قَالَ: جَاءَ غُلَام عمر وَجلسَ على فَم الْبِئْر، وَمنع النَّاس حَتَّى مَلأ قربه النَّبِي وقربة أبي بكرو قربَة
137
﴿ليجزي قوما بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون (١٥) وَلَقَد آتَيْنَا بني إِسْرَائِيل الْكتاب وَالْحكم والنبوة ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم على الْعَالمين (١٦) وآتيناهم بَيِّنَات من الْأَمر﴾ مَوْلَاهُ، فَغَضب عبد الله بن أبي لما سمع ذَلِك، وَقَالَ: مَا مثلنَا وَمثل مُحَمَّد إِلَّا كَمَا قيل: سمن كلبك يَأْكُلك. ثمَّ قَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل، فَبلغ ذَلِك عمر فجَاء بِالسَّيْفِ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ ليضْرب بِهِ عبد الله بن أبي، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِي فِي ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله﴾ وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا إِن الْآيَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ بَعضهم: شتم رجل من الْكفَّار عمر بِمَكَّة فهم أَن يبطش بِهِ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله﴾ أَي: لَا يسْأَلُون الله نعمه، وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يعترفون بِأَن النعم من عِنْد الله، وَقيل: لَا يرجون أَيَّام الله أَي: لَا يخَافُونَ عقوبات الله ونقمه. وَقيل: لَا يطْعمُون فِي ثَوَاب، وَلَا يخَافُونَ من عُقُوبَة.
وَقَوله: ﴿ليجزي قوما بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: ليَكُون الله تَعَالَى هُوَ الْمجَازِي والمنتقم مِنْهُم لَا أَنْتُم.
138
قَوْله تَعَالَى: ﴿من عمل صَالحا فلنفسه﴾ أَي: نفع ذَلِك يعود إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا﴾ أَي: وبال ذَلِك عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون﴾ أَي: تردون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد آتَيْنَا بني إِسْرَائِيل الْكتاب﴾ أَي: التَّوْرَاة.
وَقَوله: ﴿وَالْحكم والنبوة﴾ أَي: الْعلم والنبوة.
وَقَوله: ﴿ورزقناهم من الطَّيِّبَات﴾ أَي: الْحَلَال، وَهِي الْمَنّ والسلوى وَغير ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وفضلناهم على الْعَالمين﴾ أَي: على عالمي زمانهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وآتيناهم بَيِّنَات من الْأَمر﴾ أَي: دلالات واضحات، وَيُقَال: بَيِّنَات
138
﴿فَمَا اخْتلفُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ (١٨) إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولي الْمُتَّقِينَ (١٩) هَذَا بصائر للنَّاس وَهدى وَرَحْمَة لقوم يوقنون (٢٠) أم حسب﴾ من الْأَمر مَا يدلهم على أَمر مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿فَمَا اخْتلفُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم﴾ أَي: مَا اخْتلفُوا فِي الْحق إِلَّا من بَعْدَمَا جَاءَهُم الْعلم بِالْحَقِّ.
وَقَوله: ﴿بغيا بَينهم﴾ أَي: حسدا وظلما وعنادا للحق.
وَقَوله: ﴿إِن رَبك يقْضِي بَينهم﴾ ظَاهر مَعْنَاهُ إِلَى آخر الْآيَة.
139
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر﴾ أَي: طَرِيق وَاضح، وَيُقَال: على أَمر بَين، والشرعة هِيَ الْمَذْهَب وَالْملَّة، وَكَذَلِكَ الشَّرِيعَة.
وَقَوله: ﴿فاتبعها﴾ أَي: اتبع الشَّرِيعَة الَّتِي جاءتك من الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الْمُشْركين كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّد، ارْجع إِلَى دين آبَائِك فَإِنَّهُ أولى من الدّين الَّذِي جِئْت بِهِ.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا﴾ أَي: لن يدفعوا عَنْك شَيْئا يُريدهُ الله بك إِن اتبعت أهواءهم.
وَقَوله: ﴿وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض﴾ أَي: بَعضهم محبو الْبَعْض.
وَقَوله: ﴿وَالله ولي الْمُتَّقِينَ﴾ أَي: محب الْمُتَّقِينَ وحافظهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا بصائر للنَّاس﴾ أَي: هَذَا الَّذِي أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك بصائر للنَّاس أَي: دلالات يبصر بهَا النَّاس.
وَقَوله: ﴿وَهدى وَرَحْمَة لقوم يوقنون﴾ أَي: يعلمُونَ.
139
﴿الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون (٢١) وَخلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ولتجزى كل نفس بِمَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ (٢٢) ﴾
140
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات﴾ أَي: اكتسبوا السَّيِّئَات، والسيئات مَا قبحت شرعا، والحسنات مَا حسنت شرعا.
وَقَوله: ﴿أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ أَي: فِي دُخُول الْجنَّة، وَمَا يعْطى أهل الْإِيمَان من النَّعيم. وَالظَّاهِر أَن الْآيَة فِي الْكفَّار وَإِن كَانَت عَامَّة.
وَقَوله: ﴿سَوَاء محياهم ومماتهم﴾ وَقُرِئَ: " سَوَاء " بِالنّصب، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: أَن الْكَافِر سَوَاء محياه ومماته أَي: يحيا كَافِرًا وَيَمُوت كَافِرًا.
وَفِي الْخَبَر " يَمُوت " الْمَرْء على مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيبْعَث على مَا مَاتَ عَلَيْهِ ".
وَأما الْقِرَاءَة بِالنّصب فَهُوَ فِي مَوضِع مستو فانتصب لهَذَا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أم حسبوا أَن نجعلهم وَالْمُؤمنِينَ سَوَاء فِي الْمحيا وَالْمَمَات يَعْنِي: أَنهم لَا يستوون.
وَقَوله: ﴿سَاءَ مَا يحكمون﴾ أَي: بئس مَا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للْمُؤْمِنين: إِن دَخَلْتُم الْجنَّة فَنحْن مَعكُمْ، وَإِن دَخَلنَا النَّار فَأنْتم مَعنا.
وَفِي بعض الْآثَار عَن مَسْرُوق بن الأجدع قَالَ: قدمت مَكَّة وَدخلت الْمَسْجِد الْحَرَام فَقيل لي: هَذَا مقَام أَخِيك تَمِيم الدَّارِيّ، جعل يُصَلِّي لَيْلَة إِلَى الصَّباح يرْكَع وَيسْجد ويبكي وَيقْرَأ هَذِه الْآيَة: ﴿أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات﴾ لَا يجاوزها.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَخلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ولتجزي كل نفس بِمَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ﴾ أَي: لَا ينقص من حُقُوقهم شَيْء.
140
﴿أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ وأضله الله على علم على سَمعه وَقَلبه وَجعل على﴾
141
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يعبد الشَّيْء، فَإِذا رأى شَيْئا أحسن مِنْهُ طرح الأول وَأخذ الثَّانِي فعبده. وَقَالَ قَتَادَة فِي معنى الْآيَة: لَا يهوى شَيْئا إِلَّا رَكبه، فَهُوَ يعبد هَوَاهُ. وَقيل: اتخذ إلهه هَوَاهُ أَي: أطَاع هَوَاهُ وانقاد لَهُ كَمَا ينقاد العَبْد لمعبوده. وَقد ثَبت أَنه قَالَ: " تعس عبد الدِّينَار، تعس عبد الدِّرْهَم، تعس عبد الخميصة ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَنه [قَالَ] :" مَا عبد تَحت ظلّ السَّمَاء شَيْء وَهُوَ أبْغض عِنْد الله من هوى ".
وَقَوله: ﴿وأضله الله على علم﴾ أَي: على مَا حكم [لَهُ] فِي علمه السَّابِق، وَهُوَ رد على الْقَدَرِيَّة، وَقد أولُوا هَذَا وَقَالُوا: معنى قَوْله: ﴿وأضله الله﴾ أَي: وجده ضَالًّا، أَو سَمَّاهُ ضَالًّا، وَهُوَ تَأْوِيل بَاطِل؛ لِأَن الْعَرَب لَا تَقول: فعل فلَان كَذَا إِذا وجده كَذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَختم على سَمعه﴾ أَي: ختم على سَمعه فَجعله لَا يسمع الْحق.
وَقَوله: ﴿وَقَلبه﴾ أَي: وَختم على قلبه فَجعله لَا يقبل الْحق.
141
﴿بَصَره غشاوة فَمن يهديه من بعد الله أَفلا تذكرُونَ (٢٣) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر﴾
وَقَوله: ﴿وَجعل على بَصَره غشاوة﴾ أَي: غطاء فَلَا يبصر الْحق.
وَقَوله: ﴿فَمن يهديه من بعد الله﴾ يَعْنِي: إِذا كَانَ الله لَا يهديه فَمن يهديه من بعد الله؟ !.
وَقَوله: ﴿أَفلا تذكرُونَ﴾ أَي: أَفلا تتعظون.
142
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: نحيا وَنَمُوت، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود.
وَالْقَوْل الثَّانِي: نموت ونحيا: أَي: يَمُوت الْبَعْض منا، ويحيا الْبَعْض منا. وَفِيه قَولَانِ آخرَانِ: أَحدهمَا: وَهُوَ القَوْل الثَّالِث: نموت ونحيا أَي: نموت نَحن ويحيا أَوْلَادنَا، وَالْقَوْل الرَّابِع: هُوَ أَنه خلقنَا أَمْوَاتًا ثمَّ أَحْيَانًا.
وَقَوله: ﴿وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر﴾ قَالَ قَتَادَة: من الْأَيَّام والليالي. وَيُقَال: مَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر أَي: إِلَّا الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر.
(أَمن الْمنون وريبها يتوجع والدهر لَيْسَ بمعتب من يجزع)
أَي: الْمَوْت. وَيُقَال: وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر أَي: طول الْعُمر، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا تسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر ".
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو الْحُسَيْن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ هُوَ ابْن بنت منيع واسْمه عبد الله بن مُحَمَّد أَبُو
142
﴿وَمَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يظنون (٢٤) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات مَا كَانَ﴾ الْقَاسِم، أخبرنَا هدبة بن خَالِد، أخبرنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أَيُّوب، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة الْخَبَر.
وروى الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: استقرضت من ابْن آدم فَلم يقرضني، ويسبني وَهُوَ لَا يعلم، وَيَقُول: يادهراه يادهراه " وَفِي رِوَايَة " يَا خيبة الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر ".
وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر، أدبر الْأَمر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار ".
وَفِي معنى الْخَبَر ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر أَي: خَالق الدَّهْر.
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا تسبوا الدَّهْر فَإِنِّي فَاعل الْأَشْيَاء. وَكَانُوا يضيفون الْفِعْل إِلَى الدَّهْر ويسبونه، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر يَعْنِي: أَن الله فَاعل الْأَشْيَاء لَا الدَّهْر، وَهَذَا قَول مُعْتَمد.
وَالْوَجْه الثَّالِث: وَهُوَ أَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاء الدَّهْر، وَأَنه لَا يبْقى شَيْء مَعَ بَقَاء الدَّهْر فَقَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر يَعْنِي: لَا تسبوا الَّذين يَعْتَقِدُونَ أَنه الْبَاقِي؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر يَعْنِي: فَإِن الله هُوَ الْبَاقِي بَقَاء الْأَبَد على مَا يَعْتَقِدُونَ فِي الدَّهْر.
وَقَوله: ﴿ومالهم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يظنون﴾ أَي: قَالُوا مَا قَالُوهُ على ظن وَشك لَا عَن علم ويقين.
143
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات مَا كَانَ حجتهم إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا
143
﴿حجتهم إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُم صَادِقين (٢٥) قل الله يُحْيِيكُمْ ثمَّ يميتكم ثمَّ يجمعكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (٢٦) وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيَوْم تقوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يخسر المبطلون (٢٧) وَترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إِلَى كتابها الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كتَابنَا ينْطق﴾ إِن كُنْتُم صَادِقين) وَقد بَينا قَول أبي جهل فِي هَذَا.
144
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل الله يُحْيِيكُمْ ثمَّ يميتكم ثمَّ يجمعكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ الْحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَيَوْم تقوم السَّاعَة﴾ أَي: الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿يَوْمئِذٍ يخسر المبطلون﴾ أَي: يهْلك الْكَافِرُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَترى كل أمة جاثية﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مستوفزين أَي: جُلُوسًا على الركب، قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: المستوفز من لَا تصيب الأَرْض مِنْهُ إِلَّا ركبتاه وأطراف أَصَابِعه. وَالْقَوْل الثَّانِي: جاثية أَي: مجتمعة. وَالْقَوْل الثَّالِث: جاثية أَي: خاضعة ذليلة، وَقيل: هُوَ لُغَة قُرَيْش. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمُخْتَار الْمَعْرُوف، وَمِنْه جثا فلَان بَين يَدي القَاضِي ينْتَظر قَضَاءَهُ، وَعَن سلمَان الْفَارِسِي قَالَ: إِن فِي الْقِيَامَة سَاعَة هِيَ عشر سِنِين من سِنِين الدُّنْيَا يخر فِيهَا النَّاس، ويجثون على الركب حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن، وَيَقُول: نَفسِي لَا أَسَالَك إِلَّا نَفسِي. وَيُقَال: ترى كل أمة رَسُول جاثية أَي: كل أحد جاثيا، وَالْأمة تكون بِمَعْنى الْوَاحِد. وَيُقَال مَعْنَاهُ: كل أمة رَسُول جاثية، وَالله اعْلَم.
وَقَوله: ﴿كل أمة تدعى إِلَى كتابها﴾ مَعْنَاهُ: إِلَى قِرَاءَة كتابها.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ﴾ أَي: يظْهر مَا عملتم بِالْحَقِّ.
144
﴿عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيدخلهم رَبهم فِي رَحمته ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْمُبين (٣٠) وَأما الَّذين كفرُوا أفلم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (٣١) وَإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لَا ريب فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَة إِن نظن إِلَّا ظنا وَمَا نَحن﴾
وَقَوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: نستكتب مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ أَي: نأمر الكتبة أَن يكتبوا ويحفظوا أَعمالكُم. وَالْقَوْل الثَّانِي: نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ أَي: نَأْخُذ نُسْخَة مِمَّا كتبت الْمَلَائِكَة عَلَيْكُم. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يَأْمر الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة بِأَن يَأْخُذُوا نُسْخَة من اللَّوْح الْمَحْفُوظ على مَا يعمله العَبْد فِي يَوْمه وَلَيْلَته، ثمَّ يَكْتُبُونَ مَا عمله العَبْد، ثمَّ يقابلون مَا كتبُوا على العَبْد بِمَا نسخوا من اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فيكونان سَوَاء لَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان فِيهِ، قَالَ ابْن عَبَّاس: أنظروا هَل يكون الاستنساخ إِلَّا من أصل.
145
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيدخلهم رَبهم فِي رَحمته﴾ أَي: جنته. وَقَوله: (ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْمُبين) أَي: الْبَين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأما الَّذين كفرُوا أفلم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي يُقَال لَهُم: أفلم تكن آياتي تتلى [عَلَيْكُم] أَي: ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم؟. وَقَوله: (فاستكبرتم) أَي: طلبتم الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة بترك التَّوْحِيد، وكل كَافِر متكبر، وكل مُؤمن متواضع.
وَقَوله: (وكنتم مجرمين) أَي: ذوى جرم.
قَوْله تَعَالَى: (وَإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لَا ريب فِيهَا) أَي: لاشك فِيهَا.
وَقَوله: (قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَة إِن نظن إِلَّا ظنا) أَي: نظن أَنَّك كَاذِب، ونظن أَنَّك صَادِق، وَلَا دَلِيل مَعنا على صدقك، وَأَن مَا قلته حق.
145
بمستيقنين (٣٢) وبدا لَهُم سيئات مَا عمِلُوا وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (٣٣) وَقيل الْيَوْم ننساكم كَمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين (٣٤) ذَلِكُم بأنكم اتخذتم آيَات الله هزوا وغرتكم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم لَا يخرجُون مِنْهَا وَلَا هم يستعتبون (٣٥) فَللَّه الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين (٣٦) وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (٣٧))
وَقَوله: ﴿وَمَا نَحن بمستيقنين﴾ أَي: متيقنين.
146
قَوْله تَعَالَى: ﴿وبدا لَهُم سيئات مَا عمِلُوا﴾ أَي: ظهر لَهُم سيئات مَا عمِلُوا.
وَقَوله: ﴿وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون﴾ أَي: نزل بهم وأحاط بهم جَزَاء مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون، وَفِي التَّفْسِير: أَنه إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي وَاحِدًا فَيُقَال: يافلان تعال فَخذ نورك، وينادي آخر فَيُقَال: اذْهَبْ فَلَا نور لَك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقيل الْيَوْم ننساكم﴾ أَي: نترككم، وَمَعْنَاهُ: نترككم من الرَّحْمَة وَإِعْطَاء الثَّوَاب. وَقيل مَعْنَاهُ: نترككم فِي الْعَذَاب، فَلَا نخرجكم مِنْهَا كَمَا نخرج الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿كَمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا﴾ أَي: كَمَا تركْتُم الْعَمَل ليومكم هَذَا.
وَقَوله: ﴿ومأواكم النَّار ومالكم من ناصرين﴾ أَي: من يمْنَع عذابنا مِنْكُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِكُم بأنكم اتخذتم آيَات الله هزوا وغرتكم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم لَا يخرجُون مِنْهَا﴾ أَي: من النَّار.
﴿وَلَا هم يستعتبون﴾ أَي: لَا يرجعُونَ وَلَا يردون إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الْعَافِيَة. وَيُقَال: يستقيلون فَلَا يقالون. وَيُقَال: وَلَا هم يستعتبون أَي: لَا يُعْطون العتبى، وَهُوَ طلب رضاهم ومرادهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَللَّه الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب وَالْأَرْض رب الْعَالمين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: العظمة والعلو، وَقد
146
روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: الْكِبْرِيَاء رِدَائي، وَالْعَظَمَة إزراري، فَمن نَازَعَنِي وَاحِدَة مِنْهُمَا أَلقيته فِي جَهَنَّم ".
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْعَزِيز فِي انتقامه، الْحَكِيم فِي تَدْبيره، وَالله أعلم.
147

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿حم (١) تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم (٢) مَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأجل مُسَمّى وَالَّذين كفرُوا عَمَّا أنذروا معرضون (٣) قل أَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات﴾
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف
وَهِي مَكِّيَّة
148
Icon