تفسير سورة الجاثية

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

وأعلى
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ وسهلناه اى ما هو المذكور في القرآن من المعارف والحقائق والرموز والإشارات التي قد خلت عنها سائر الكتب بِلِسانِكَ وبيناه على لغتك لَعَلَّهُمْ اى العرب يَتَذَكَّرُونَ اى يفهمون ويتعظون بما فيه كي يتفطنوا الى كنوز رموزه وهم من شدة شكيمتهم وقساوتهم لم يؤمنوا بك ولم يصدقوا بكتابك فكيف الاتعاظ والتذكر بما فيه والتيقظ من أحكامه واسراره وبالجملة
فَارْتَقِبْ وانتظر أنت يا أكمل الرسل على ما سينزل عليهم من العذاب الموعود إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ايضا بما ينزل عليك من القهر والغضب على زعمهم الفاسد. جعلنا الله من زمرة المتذكرين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم
خاتمة سورة الدخان
عليك ايها السالك المراقب المتعرض لنفحات الحق ونسمات لطفه المهبة من عالم قدسه في عموم احوالك ان تلازم بالتقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته المنافية لآداب العبودية وتداوم على التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية والاشتغال بالطاعات المقربة نحوه والاعراض عن الملاهي الملهية عن التوجه اليه لتكون من جملة المتقين المتعينين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم واللطف العميم
[سورة الجاثية]
فاتحة سورة الجاثية
لا يخفى على ارباب العبرة المتحققين بمقتضيات الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها بالمعرفة واليقين ان المظاهر العلوية والسفلية من الآفاق والأنفس والغيب والشهادة انما ظهرت وبرزت من مكمن الغيب وعالم العماء ليستدل ويستشهد الوالهون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله من صحائف الكائنات وصفائح المكونات على شئون الحق وتطوراته لذلك نبه سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم مخاطبا على ذلك بعد ما تيمن باسمه الكريم فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر بمقتضى حكمته الرَّحْمنِ على عموم بريته بسعة رحمته الرَّحِيمِ بخواصهم بمزيد عطيته التي هي إيصالهم الى ينبوع وحدته وفضاء صمديته
[الآيات]
حم يا حاوى الوحى والإلهام ويا مزيل الشبه الحادثة من اوهام ذوى الأحلام
تَنْزِيلُ الْكِتابِ الجامع لجميع مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم على الإطلاق مِنَ اللَّهِ المحيط بعموم الأنفس والآفاق الْعَزِيزِ المنيع ساحة عز حضوره عن ان يحيط به الإدراك الْحَكِيمِ المتقن في أفعاله بحيث لا يكتنه حكمته أصلا تنبهوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة في شمس الذات
إِنَّ فِي خلق السَّماواتِ ورفعها وتنظيمها مطبقة وَفي خفض الْأَرْضِ وبسطها ممهدة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرة الصانع الحكيم ومتانة حكمته وعموم تدبيراته لِلْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدة الحق وكمالات أسمائه وصفاته هذا في خلق الآفاق
وَفِي خَلْقِكُمْ خاصة اى في خلق انفسكم وايجادكم من كتم العدم وَكذا في خلق ما يَبُثُّ ينتشر ويتفرق على الأرض مِنْ دابَّةٍ مركبة من العناصر متحركة على وجه الأرض من انواع الحيوانات والحشرات وأصنافها آياتٌ دلائل وشواهد واضحات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وحدة الحق وينكشفون بشئونه وتجلياته التي لا تعد ولا تحصى
وَكذا في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وايلاجهما
وازديادهما وانتقاصهما في الفصول الاربعة حسب الأوضاع الفلكية وأشكالها وبحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها وَكذا في ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِنَ جانب السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مطر مبشر مؤذن لحصول الرزق بعد تصعيد الابخرة والادخنة وتراكمها سحبا وصيرورتها ماء في غاية الصفاء فَأَحْيا بِهِ اى بانزال المطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها وجفافها وَكذا في تَصْرِيفِ الرِّياحِ السائقة للسحب الى الأراضي الميتة اليابسة بعد ما تعلق ارادته سبحانه باحيائها آياتٌ اى انواع من الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على وحدة القادر العليم الحكيم لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في كيفية انبعاث هذه الأوضاع والحركات وارتباط بعضها مع بعض وترتب الأمور الغير المحصورة عليها وانشعاب الحوادث الغير المتناهية منها وتفرعها عليها وبالجملة
تِلْكَ الآيات المجملة الكلية آياتُ اللَّهِ اى بعض من آياته الدالة على نبذ من كمالاته اللائقة لذاته سبحانه والا فلا يفي درك احد من عباده لتفصيل كمالاته كلها نَتْلُوها ونقصها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك ملتبسة بِالْحَقِّ بلا ريب فيه وتردد وانما نتلوها عليك يا أكمل الرسل لتبين أنت لمن تبعك من المؤمنين الموحدين طريق توحيدنا وتنبههم على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ اى فهم بأى كلام وقول بَعْدَ نزول كتاب اللَّهِ وَآياتِهِ المنزلة من عنده المبينة لتوحيده يُؤْمِنُونَ يذعنون ويوقنون وبعد ما قد وضح محجة الحق واتضح دلائل توحيده
وَيْلٌ عظيم وهلاك شديد لِكُلِّ أَفَّاكٍ مفتر كذاب أَثِيمٍ منغمس في الإثم والعدوان مغمور في العناد والطغيان الى حيث
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته حين تُتْلى عَلَيْهِ سيما مع كمال وضوحها وسطوعها ثُمَّ يُصِرُّ يقوم ويدوم على ما هو عليه من الكفر والضلال مُسْتَكْبِراً بلا علة وسند سوى العناد والاستكبار ويصر من شدة عتوه وعناده حين يسمعها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها اغترارا بما عنده من الجاه والثروة وبالجملة فَبَشِّرْهُ يا أكمل الرسل جزاء إصراره وعناده بِعَذابٍ أَلِيمٍ في غاية الإيلام ألا وهو انحطاطه عن رتبة الخلافة الانسانية إذ لا عذاب عند العارف أشد من ذلك
وَمن نهاية استكباره واغتراره إِذا عَلِمَ بعد ما بلغ مِنْ آياتِنا الدالة على ضبط الظواهر وتهذيب البواطن شَيْئاً اى آية قد اتَّخَذَها وأخذها من غاية تكبره وتجبره هُزُواً محل استهزاء وسخرية يستهزئ بها ويتهكم عليها أُولئِكَ البعداء الأفاكون الضالون المنحرفون عن منهج الحق وصراطه لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ في الدنيا بإعلاء كلمة الحق واظهار دين الإسلام على الأديان كلها وإغواء الكفر والكفران في مهاوي الهوان ومفاوز الخزي والخسران ومع تلك الاهانة العاجلة
مِنْ وَرائِهِمْ اى قدامهم جَهَنَّمُ العبد والخذلان وسعير الطرد والحرمان وَبالجملة لا يُغْنِي ولا يدفع عَنْهُمْ يومئذ ما كَسَبُوا وجمعوا من الأموال والأولاد والجاه والثروة شَيْئاً من الدفع والإغناء من غضب الله عليهم وَكذا لا ينفعهم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية المتفرد بالربوبية أَوْلِياءَ من الأصنام والأوثان يدعون ولايتهم كولاية الله ويعبدونهم كعبادته سبحانه عدوانا وظلما بل وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بشؤم اتخاذهم لا عذاب أعظم منه وبالجملة
هذا الذي ذكر في كتابك يا أكمل الرسل هُدىً من الله يبين طريق الهداية والرشد لأهل العناية والتوفيق وَالمسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة في كتابك
هذا والتي نزلت في الكتب السالفة لَهُمْ عَذابٌ نازل ناش مِنْ رِجْزٍ وغضب عظيم من الله المقتدر على انواع الانتقام أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام وكيف تكفرون ايها الجاحدون المسرفون بآيات المنعم المفضل الكريم مع انه سبحانه
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ وسهل عليكم العبور عنه حيث جعله أملس مستوى السطح ساكنا على هيئته لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ اى بمقتضى حكمه وحكمته وتسخيره وَأنتم تركبون عليها لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والصيد والغوص وغير ذلك من الأغراض وَانما سخر وسهل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه وتواظبون على أداء حقوق كرمه
وَبالجملة قد سَخَّرَ لَكُمْ وهيأ لتربيتكم وتدبير معاشكم مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إذ أنتم زبدة الكائنات وخلاصة الموجودات كل ذلك منتشى مِنْهُ سبحانه مستند اليه أولا وبالذات فعليكم ان لا تسندوه الى الوسائل والأسباب العادية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تتابع آلاء الله وترادف نعمائه وكيفية ظهور العالم منه سبحانه وصدوره عنه وارتباطه له واستمداده منه على الدوام. ثم قال سبحانه على سبيل العظة
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا لِلَّذِينَ آمَنُوا تذكرة للمؤمنين وتهذيبا لأخلاقهم اغفروا واصفحوا واعفوا ايها المؤمنون الموقنون عن عموم الأنام سيما عن المسيئين منهم ليكون العفو والغفران ديدنة راسخة في نفوسكم حتى يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ اى للكافرين المسرفين المفرطين الذين لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ اى لا يأملون ولا يخطر ببالهم انعكاس الدول وتقلبها عليهم اغترارا بما عندهم من الثروة والجاه. وانما امر سبحانه المؤمنين بالصفح والعفو عن المسيئ لِيَجْزِيَ سبحانه جزاء حسنا قَوْماً من المتخلقين بالعفو عند القدرة وكظم الغيظ عند الغضب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الإحسان بدل الإساءة لان
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ اى يعود نفعه اليه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وبال إساءته ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ جميعا يحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم بمقتضاها لكن ما أخذ الله سبحانه عباده الا بعد ان يرسل عليهم رسلا مبشرين ومنذرين وينزل عليهم كتبا مبينة لهم طريق الهداية والرشد فان اهتدوا فقد فازوا بصلاح الدارين وان اعتدوا فقد ضلوا عن سواء السبيل واستحقوا بالعذاب الأليم كما اخبر سبحانه حكاية عن ضلال بنى إسرائيل وانحرافهم عن سواء السبيل
وَلَقَدْ آتَيْنا حسب فضلنا وجودنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ اى التوراة المبينة لهم طريق الهداية والرشد وَالْحُكْمَ اى الحكمة المنبئة عن العدالة الإلهية في قطع الخصومات وَالنُّبُوَّةَ إذ اكثر الأنبياء بعث منهم وأرسل إليهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى الرزق الصوري والمعنوي وَبالجملة قد فَضَّلْناهُمْ بافاضة النعم الجليلة عليهم عَلَى الْعالَمِينَ من اهل عصرهم
وَمع ذلك قد آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ دلائل مبينات موضحات لهم مِنَ الْأَمْرِ المعهود الموعود يعنى التوحيد الذاتي الذي أنت يا أكمل الرسل بعثت عليه وعلى تبيينه وبالجملة فَمَا اخْتَلَفُوا في شأنك إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ والدليل القطعي في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم بانك وكتابك ودينك يا أكمل الرسل بأحق على الحق لتبيين الحق وبالجملة ما أنكروا ذلك الا بَغْياً وطغيانا وعدوانا ناشئا بَيْنَهُمْ حسدا وغيظا عليك بلا مستند عقلي او نقلي فاصبر يا أكمل الرسل على مضضهم وغيظهم إِنَّ رَبَّكَ الذي اصطفاك بكرامته واجتباك لرسالته يَقْضِي ويحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعنى في شأنك ودينك وكتابك سيما بعد ما عرفوا صدقك وحقية كتابك
بالدلائل العقلية والنقلية بأنواع المؤاخذة والمجازاة وبأصناف العقاب والعقبات
ثُمَّ اعلم يا أكمل الرسل انا من مقام فضلنا وجودنا معك قد جَعَلْناكَ تابعا مقتديا مقتفيا عَلى شَرِيعَةٍ وطريقة منبئة موضحة مِنَ الْأَمْرِ والشأن الذي أنت تظهر عليه وأتيت لتبيينه ألا وهي الحقيقة المتحدة التي هي عبارة عن الوحدة الذاتية الإلهية والهوية الشخصية السارية في عموم المكونات فَاتَّبِعْها اى تلك الشريعة الموصلة الى الحقيقة بالعزيمة الخالصة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ القوم الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يؤمنون بها فكيف ينكشفون بسرائرها وحكمها ولا تقبل منهم أباطيلهم الناشئة من آرائهم الفاسدة وأحلامهم السخيفة الكاسدة وبالجملة
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا ولن يدفعوا عَنْكَ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً ان تعلقت مشيته بمقتك وطردك بسبب موالاتهم ومتابعتهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية المنحرفين عن جادة العدالة الفطرية بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لكمال مناسبتهم وموالاتهم إذ الجنسية علة التضام وعلقة الالتيام بينهما فعليك الاعراض والانصراف عنهم وعن موالاتهم وَاللَّهُ المطلع على عموم ما في ضمائر عباده وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله ويوالون اولياء الله لله وفي الله
هذا الذي ذكر في كتابك من الأخلاق المرضية المنبهة على القسط الحقيقي والعدل الإلهي بَصائِرُ لِلنَّاسِ يبصرهم طريق الهداية والرشد ويوصلهم الى التوحيد الذاتي ان استقاموا عليها بالعزيمة الصادقة الصحيحة الصافية عن كدر الرياء والرعونات وَهُدىً يهديهم الى سواء السبيل وَرَحْمَةٌ نازلة من قبل الحق لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ويوفقون على الايمان والإيقان والكشف والعيان. ثم قال سبحانه
أَمْ حَسِبَ
الغافلون الضالون المسرفون الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
واكتسبوا طول عمرهم السَّيِّئاتِ
المبعدة لهم عن طريق الحق وسبيل الهداية والرشد أَنْ نَجْعَلَهُمْ
ونصيرهم بعد ما رجعوا إلينا كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
المقربة لهم الى الحق وتوحيده اى مثلهم بلا مزية لهم عليهم بل ظنوا انهم هم (٣) سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
يعنى حياة المشركين ومماتهم عندنا كحياة الموحدين المخلصين ومماتهم ايضا كذلك كلا وحاشا ساءَ ما يَحْكُمُونَ
اى حكمهم هذا وما حكموا به لأنفسهم أولئك الجاحدون الجاهلون
وَكيف يحكم المتقن في عموم أحكامه وأفعاله بمساواة المطيع والعاصي مع انه قد خَلَقَ اللَّهُ المستوي بالعدل القويم على عروش عموم المظاهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ملتبسة بِالْحَقِّ اى بالعدالة الصورية المنبئة عن العدالة المعنوية الحقيقية الحقية وَانما خلقها كذلك لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير وشر بعد ما امر الحق بما امر ونهى بما نهى وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في أجور أعمالهم وجزائها لا زيادة ولا نقصانا الا تفضلا وإحسانا في جزاء المحسنين
أَفَرَأَيْتَ وأبصرت متعجبا ايها المعتبر الرائي الى مَنِ اتَّخَذَ اى الى الجاحد المسرف والجاهل المعاند الذي قد أخذ واتخذ إِلهَهُ هَواهُ اى ما يهواه وكيف أطاع الى ما يتمناه وعبد الى ما يحبه ويرضاه ولم يفوض امره الى مولاه بل نبذه الى ما وراه واتبع هواه وَما ذلك الا انه قد أَضَلَّهُ اللَّهُ العليم الحكيم باسمه المذل المضل مع انه أظهره سبحانه عَلى عِلْمٍ اى صوره بصورة ذي علم وجبله على فطرة اى معرفة وتوحيد وَمع إظهاره وخلقه كذلك قد خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ لئلا يسمع كلمة الحق من اهله وَقد ختم ايضا على قَلْبِهِ لئلا يتفكر في آيات الله ودلائل توحيده وَقد جَعَلَ ايضا عَلى
بَصَرِهِ غِشاوَةً
غليظة وغطاء كثيفا لئلا يعتبر من عجائب مصنوعاته سبحانه وغرائب مخترعاته وبعد خلقه سبحانه كذلك فَمَنْ يَهْدِيهِ ويرشده اى ينقذه من الضلال ويهديه الى فضاء الوصال مِنْ بَعْدِ إضلال اللَّهُ إياه واذلاله أَفَلا تَذَكَّرُونَ وتتعظون من تبدل أحواله ايها العقلاء المجبولون على فطرة العبرة وفطنة العظة والتذكرة
وَمن غاية غوايتهم وضلالهم عن مقتضى كمال قدرة الله وعدم تنبههم وتفطنهم بوحدة ذاته وبكمالات أسمائه وصفاته واستقلاله في تدبيراته وتصرفاته قالُوا منكرين للحشر والنشر ما هِيَ اى ما الحال والحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن نَمُوتُ وَنَحْيا فيها لا منزل لنا سواها ولا مرجع لنا غيرها وَبالجملة ما يُهْلِكُنا وما يميتنا ويعدمنا فيها إِلَّا الدَّهْرُ اى مر الزمان وكر الدهور والأعوام لا فاعل لنا سواه ولا متصرف فينا غيره وَالحال انه ما لَهُمْ بِذلِكَ الذي صدر عنهم مِنْ عِلْمٍ عقلي او نقلي او كشفى بل إِنْ هُمْ اى ما هم باعتقادهم هذا إِلَّا يَظُنُّونَ ظنا على وجه التقليد والتخمين بلا سند لهم يستندون اليه سوى الالف بالمحسوسات والتقليد بالرسوم والعادات
وَمن نهاية جهلهم وغفلتهم عن الله ومقتضى ألوهيته وربوبيته إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال تربيتنا إياهم مع كونها بَيِّناتٍ مبينات لهم طريق الهداية والرشد ومنبهات على ميعاد المعاد ما كانَ حُجَّتَهُمْ ودليلهم حين سمعوها إِلَّا أَنْ قالُوا على سبيل الإنكار والاستبعاد ائْتُوا بِآبائِنا وأسلافنا الذين مضوا وانقرضوا احياء كما كانوا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في دعوى الحشر والنشر والمعاد الجسماني والروحاني وبعد ما اعرضوا عن الحق وانصرفوا عن الآيات البينات مكابرة وعنادا وتشبثوا بأذيال أمثال هذه الحجج الواهية والتخمينات الغير الوافية
قُلِ لهم يا أكمل الرسل كلاما يحرك سلسلة حميتهم الفطرية ومحبتهم الجبلية لو ساعدهم التوفيق والعناية من لدنا اللَّهُ المظهر للكل المحيط به المتصرف فيه على الإطلاق بالاختيار والاستحقاق يُحْيِيكُمْ ويبعثكم في النشأة الاخرى كما أوجدكم وأظهركم من كتم العدم أولا في النشأة الاولى بمد ظله ورش نوره عليكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ويعدمكم بقبضه عنكم ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ مع من انقرض منكم ومن آبائكم واسلافكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الذي لا رَيْبَ فِيهِ وفي وقوعه ووقوع ما فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان لا يَعْلَمُونَ وقوعه وقيامه بل يكذبونه وينكرون عليه لاعتيادهم بالأمور الحسية وقصورهم عن مدركات الكشف والشهود
وَكيف ينكرون جمع الله عباده في النشأة الاخرى أولئك المكابرون المعاندون إذ لِلَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وناسوتهما وملكوتهما وجبروتهما ولاهوتهما جميعا وله التصرف المطلق في عموم مظاهره ومجاليه مطلقا بكمال الاستحقاق والاستقلال ارادة واختيارا وَبالجملة يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ المعدة للحشر والجزاء يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ المنكرون حين يشاهدون أرباح المحقين المؤمنين بقيام الساعة وبحقية جميع ما فيها من الوعد والوعيد
وَتَرى ايها المعتبر الرائي حين تقوم الساعة ويحشر الناس الى المحشر للحساب كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم جاثِيَةً مجتمعة مستوحشة باركة على الركب جالسة على رؤس الأصابع من شدة دهشتهم وخوفهم كُلَّ أُمَّةٍ اى كل فرد من افراد الأمم تُدْعى إِلى كِتابِهَا بين يدي الله اى صحيفة أعمالهم التي قد كتب فيها عموم أحوالهم وأفعالهم الكائنة الحاصلة منهم الجارية في النشأة الاولى فيقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ كل منكم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
في نشأتكم الاولى ان خيرا فخير وان شرا فشر وبالجملة
هذا كِتابُنا الذي قد فصلنا فيه أعمالكم على حدة بلا فوت شيء منها يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ ويذكركم بِالْحَقِّ على الوجه الذي صدر عنكم بلا زيادة ونقصان إِنَّا بعد ما كلفناكم على امتثال أوامرنا والاجتناب عن نواهينا قد كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ونأمر الملائكة الموكلين عليكم المراقبين لأحوالكم وأعمالكم ان يكتبوا عموم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على التفصيل حسناتها وسيئاتها صغائرها وكبائرها على وجوهها وبعد ما تحاسبون حسب صحائفكم وكتبكم
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا اى قد أذعنوا وأيقنوا بوحدة الحق وصدقوا رسله وكتبه وَمع كمال ايمانهم ويقينهم قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأخلاق والأفعال تقربا الى الله وتأدبا معه سبحانه بما يليق بعبوديته وتعظيم شأنه فَيُدْخِلُهُمْ اليوم رَبُّهُمْ الذي يوفقهم على الايمان والتوحيد فِي سعة رَحْمَتِهِ وفسحة وحدته بفضله ولطفه ذلِكَ الذي بشر به سبحانه عباده المؤمنين المخلصين هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ والفضل العظيم لا فوز أعظم منه وأعلى
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا وحدة ذاته بل اثبتوا له شركاء ظلما وزورا يقال حينئذ من قبل الحق مستفهما على سبيل التوبيخ والتقريع أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ايها المفسدون المسرفون المفرطون يعنى ألم يأتكم رسلي ولم يتلوا عليكم آياتي الدالة على عظمة ذاتى وكمالات أسمائي وصفاتي ووفور قدرتي وقوتي على انواع الانتقامات والوعيدات التي أخبرتم بها فكذبتم بها وبهم جميعا بل فَاسْتَكْبَرْتُمْ علىّ وعلى رسلي ومن قبول الآيات وتصديقها وَبالجملة قد كُنْتُمْ أنتم في انفسكم قَوْماً مُجْرِمِينَ مستكبرين ليس عادتكم الا الاجرام والعدوان
وَقد كنتم أنتم من نهاية استكباركم واغتراركم بما عندكم من الجاه والثروة إِذا قِيلَ لكم امحاضا للنصح إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعدكم به على ألسنة رسله وكتبه حَقٌّ ثابت محقق مطابق للواقع لا بد وان يقع الموعود منه سبحانه البتة بلا خلف في وعده وَلا سيما السَّاعَةُ الموعودة آتية لا رَيْبَ فِيها وفي قيامها ووقوعها وأنتم إذا سمعتم هذا قُلْتُمْ على وجه الاستبعاد والاستكبار وانواع الكبر والخيلاء ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الموعودة وما معنى قيامها ووقوعها وما الايمان بها إِنْ نَظُنُّ اى ما نظن بها وبشأنها إِلَّا ظَنًّا ضعيفا بل وهما مرجوحا سخيفا وما لنا علم بها سوى السماع والاستماع من أفواه الناس وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بها وبشأنها حتى نؤمن بها وبقيامها ونصدق بما فيها من المواعيد والوعيدات
وَبالجملة قد بَدا لَهُمْ وظهر ولاح وانكشف عندهم بعد ما تبلى السرائر وتكشف الحجب والأستار سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا مصرين عليه وعرفوا وخامة عاقبته وَحينئذ قد حاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ على رسل الله وخلص عباده
وَقِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في النار خالدين مخلدين كَما كنتم أنتم قد نَسِيتُمْ ونبذتم وراء ظهوركم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا بل قد انكرتم لقياه مطلقا وكذبتم الرسل المبلغين لكم وأحباركم المنذرين لكم من أهواله وَبالجملة مَأْواكُمُ مرجعكم ومثواكم النَّارُ أبدا مخلدا لا منزل لكم سواها ولا مقام لكم غيرها وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ منقذين لكم منها بعد ما استوجبتم بها بمفاسد أعمالكم ومقابح أفعالكم وبالجملة
ذلِكُمْ الذي قد وقعتم فيها وابتليتم بها بِأَنَّكُمُ اى بسبب انكم قد اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ الدالة على الرشد والهداية هُزُواً محل استهزاء واستهزأتم بها بلا مبالاة بشأنها وانكرتم عليها بلا تأمل
Icon