تفسير سورة الطور

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الطور من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الطور مكية آياتها تسع وأربعون، نزلت بعد سورة السجدة. و هي من السور المكية التي تُعنى بأصول الإيمان، وتبدأ بالقسم بخمسة من أعظم المخلوقات بأن العذاب واقع بالمكذبين. وهذه الخمسة هي : جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى، وما أنزل الله تعالى من كتب سماوية كالقرآن الكريم، والبيت المعمور وهي الكعبة المعمورة بالحجاج والطائفين، والسقف المرفوع وهو السماء وما فيها من عجائب لا تنتهي، والبحر المملوء من مخلوقات الله العديدة.
ثم تتحدث السورة عن ألوان عذاب الكافرين يوم القيامة حيث يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون. هل ما ترونه سحرا أم أنتم لا تبصرون ؟ ادخلوها وذوقوا حرها. وسواء أصبرتم أم لم تفعلوا فإن هذا جزاؤكو على كفركم وعنادكم.
ثم في مقابل ألوان العذاب هذه ينتقل الحديث عن نعيم المتقين وما يتفكهون به في جنات الخلد. ويأتي النص واضحا بأن الإنسان يلقى ما يعمله من خير أو شر لا ينقصه الله منه شيئا : كل امرىء بما كسب رهين.
ثم يأتي الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمداومة على التذكير دون مبالاة بما يتقول الكافرون أو التفات لما يصفون به القرآن الكريم. وهو يتحداهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين. وقد سفهت السورة كثيرا من آراء المشركين أقوالهم الفاسدة، مبينة ضلالهم، وسوء تقديرهم، وهل لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون.
ثم يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بخطاب كريم بقوله تعالى : فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون فيهلكون جميعا. في ذلك اليوم لا يغني عنهم أحد، ولايجدون من ينصرهم. ثم يسليه بكلام لطيف بأن يصبر لحكم الله على أذاهم، وأنه في حفظ ربه ورعايته، ويحثه على الذكر والتسبيح والعبادة في ختام هذه السورة الكريمة بقوله تعالى : وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم.

الطور : هو طور سيناء، والطور في اللغة : الجبلُ، وفناء الدار، وجبلٌ قرب العقبة يضاف الى سيناء وسينين، وجبلٌ بالقدس عن يمين المسجد، وجبلٌ مطلّ على طبرية. « القاموس ». ويقال لجميع بلاد الشام الطور. « معجم البلدان ».
أقسم الله تعالى بخمسة مقدَّسات في الأرض والسماء، بعضُها مكشوفٌ معلوم وبعضُها مغيَّب مجهول، بطورِ سيناء الذي كلّم الله عليه موسى، وبالكتُب المنزلة من عنده ( وعبر عنها بكتابِ، بالإفراد، لأنها وحدةٌ واحدة تدعو الى نهجٍ واحد ) في صحفٍ ميسّرة للقراءة،
كتاب مسطور : كل كتاب نزل من عند الله، مسطور : مكتوب بسطور منتظمة.
ورَقٍّ منشور : الرق بفتح الراء : جلدٌ رقيق يكتب فيه.
منشور : مفتوح للناس.
البيت المعمور : الكعبة المعمورة بالحجّاج والطائفين.
وبالبيت المعمور بالعبادةِ ليلَ نهار.
والسقف المرفوع : السماء وما فيها من عجائب.
وبالسماء وما فيها من عجائب الكون.
والبحر المسْجور : المملوء، يقال : سجر النهر ملأه، والمسجور : البحر الذي ماؤه أكثر منه « القاموس ».
وبالبحر المملوء بالمخلوقات.
أقسم الله تعالى بهذه المقدسات أن عذابه لا بدّ أن يقع بالكافرين
لا يستطيع أحدٌ دفعه عنهم.
تمور : تضطرب وترتج.
وذلك يوم القيامة، يوم تضطربُ السماء اضطراباً شديداً بما فيها.
وتسير الجبال سيراً شديداً وتمرُّ مر السحاب.
﴿ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أعداءِ الله
في خوضٍ يلعبون : الذي يلْهون بالباطل، وأصل الخوض : السيرُ في الماء، ثم غلبَ على الخوض في الباطل.
الذين يخوضون في الباطل ويتخذون الدينَ لَهواً ولعبا.
يدعّون : يدفعون دفعا عنيفا.
ففي ذلك اليوم يُدفعون الى النار دفعاً شديدا
ويقال لهم :﴿ هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾
اصلَوها : ذوقوا حرها.
فادخلوها وقاسوا حَرَّها وعذابها. وسواء عليكم أصبرتم أم لم تصبروا، فليس لكم منها مَهرب، وأنتم تلاقون اليوم ذلك الجزاء الذي كنتم توعَدون به على أعمالكم السيئة في الدنيا.
بعد أن بيّن ما يصيب الكافرين الكذّابين من العذاب، ذكَر هنا بالمقابل ما أعدّ الله للمؤمنين.
فاكهين : نفوسُهم طيبة متمتعين بما أعطاهم الله من نعيم الجنة.
وقاهم : حفظهم.
وما يتمتعون به في جنّات النعيم، من مختلِفِ أنواع الملذّات في المسكَن والمأكل والأزواج.
وزوّجناهم بحورٍ عين : الحور : نساء الجنة.
ويجلسون على الأسرّة يتجاذبون أطراف الاحاديث.
وما ألَتناهم من عملهم : ما أنقصناهم.
رهين : مرهون بعمله عند الله.
هم وذريّاتهم الطيبة، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم، وكل إنسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : واتبعناهم ذرياتهم بجمع ذريات. وقرأ ابن عامر ويعقوب : واتبعتهم ذرياتهم بالجمع. والباقون : واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع.
ويُنعم الله عليهم بأنواع الفاكهة واللّحم ومما يشتهون.
يتنازعون : يتعاطَون ويتجاذبون.
لا لغو فيها ولا تأثيم : إن خمر الجنة لا تذهبُ بعقل الشارب، فيلغو ويأثمُ في كلامه.
ويشربون من شراب الجنة ﴿ كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾ فيها شرابٌ لا يَعْبَث بالعقل، ولا يدع شاربها يتكلم باللغو او الباطل.
غلمان : مماليك مختصون بهم.
مكنون : مصون.
ويقوم على خدمتهم غلمانٌ غاية في الحسن والجمال ﴿ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴾ من حيث الصفاء والبياض وحُسن الرونق.
ثم يُقبل بعضهم على بعض يتساءلون ويتحدّثون في أخبار الدنيا وما مرّ عليهم.
مشفِقين : خائفين.
ويقولون : كنا في دار الدنيا خائفين من عذاب الآخرة، ﴿ فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم ﴾.
السّموم : النار.
إذ تفضّل برحمته لنا، ووقانا عذاب النار.
البر : الواسع الاحسان.
إنا كنّا نعبده في الدنيا، ونسأله أن يمنَّ علينا بالمغفرة و الرحمة، فاستجابَ لنا وأعطانا مآلنا، إنه هو المُحسِن الواسعُ الرحمة والفضل.
الكاهن : الذي يوهم الناسَ أنه يعلم الغيب عن طريق اتصاله بالجنّ.
يأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يداوم على التذكير والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد المشركون، فما أنت أيها الرسول، بفضل ما أنعم الله به عليك من النبوة ورجاحة العقل بكاهن، ولا بمجنون كما يزعمون.
نتربص : ننتظر.
المنون : المنية، والدهر. ريب المنون : حوادثُ الدهر وصروفه.
ولا أنت شاعرٌ كما يقولون حتى يتربّصوا بك حوادثَ الدهر ونكباته.
قل لهم أيها الرسول : انتظِروا، فإني معكم من المنتظرين.
أحلامهم : عقولهم.
قومٌ طاغون : ظالمون تجاوزوا حد المكابرة والعناد.
ثم سفّه أحلامَهم بقوله تعالى :﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ؟ ﴾
هل تأمرهم عقولهم بهذا القول المتناقِض، فالكاهنُ والشاعر من أهلِ الفطنة والعقل والذكاء، والمجنونُ لا عقل له، فكيف بكون شاعراً أو مجنوناً ! ؟، بل الحقّ أنهم قومٌ طاغون، يفتَرون الأقاويل دون دليل عليها.
تقوّله : اختلقه من عند نفسه.
ثم زادوا في الإنكار ونسَبوا الى النبيِّ الكريم أنه اختلق القرآن من عنده، بل هم بمكابرتهم لا يؤمنون.
فإن صحَّ ما يقولون فليأْتوا بحديثٍ مثل القرآن، إن كانوا صادقين في قولهم أن محمداً اختلقه.
من غير شيء : من غير خالق.
ثم انتقل الكتابُ الى الردّ عليهم في إنكارهم وجودَ الخالق كما هو شأن الدهريين فقال :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون ؟ ﴾
هل خُلقوا من غير إله، أم هم الّذين خلَقوا أنفسَهم، فلا يعترفون بخالقٍ يعبدونه.
وهل هم الذين خلَقوا السمواتِ والأرضَ على هذا الصنع البديع ؟ بل حقيقةُ أمرهم أنهم لا يوقنون بما يقولون.
خزائن ربك : خزائن رزقه.
المصيطرون : بالصاد وبالسين : القاهرون، المسلَّطون، سيطر عليه : تسلط عليه.
وهل عندهم خزائنُ ربّك يتصرفون بها، ﴿ أَمْ هُمُ المسيطرون ﴾ القادرون المدبِّرون للأمور كما يشاؤون. الحقيقة أن الأمرَ ليس كذلك، بل اللهُ هو المالكُ المتصرف الفعال لما يريد.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي المسيطرون بالسين. والباقون بالصاد.
يقال : سيطر وصيطر.
روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرِب بالطّور، فلما بلغ قوله تعالى :
﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون ؟ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المسيطرون ﴾ قال : كادَ قلبي يطير، وأثّرت فيه هذه الآياتُ وكان ذلك من أسباب دخوله الاسلام.
وكان جبير من الذين وفَدوا على النبي الكريم بعد وقعةِ بدرٍ في فداء أسرى قريش.
بسلطان مبين : بحجة واضحة.
فإذا كانت أقوالُهم هذه غيرَ صحيحة فهل يدَّعون أنهم ارتقوا بمصعَدٍ إلى السماء وسمعوا شيئاً من الله ؟
﴿ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾
فليأتِ الذي استمع شيئاً بحجّة واضحةٍ تصدِّق دعواه.
ثم رد على الذين قالوا إن الملائكة بناتُ الله، وسفّه أحلامهم، إذ اختاروا له البناتِ ولأنفسِهم البنينَ فقال :﴿ أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون ﴾ كما تشاؤون وتحبّون ؟ ولماذا يكذِّبون رسول الله ؟
من مَغرم مثقلون : من غرامة ثقيلة عليهم.
هل طلبَ منهم أجرة باهظة تُثقل كواهلهم ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ ؟
أم عندَهم عِلم الغيب، فهم يكتبون منه ما يشاؤن ؟
كيداً : شراً.
مَكيدون : يحيق بهم الشر ويعود عليهم وباله.
بل يريد هؤلاء المشركون بقولهم هذا وافترائهم كيداً في رسول الله وفي الناس. فإن كان هذا ما يريدون فكيدُهم راجعٌ إليهم ووبالُه على أنفسهم.
أم لهم إلهٌ يعبدونه غير الله يمنعهم من عذاب الله ؟ ﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
كسفا : جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. مركوم : متراكم بعضه فوق بعض
إن هؤلاء القوم معانِدون مكابرون، فحتى لو رأَوا بعضَ ما سألوه من الآيات، فعاينوا بعضَ السماءِ ساقطاً لكذّبوا وقالوا : هذا سحابٌ بعضُه فوق بعض. وذلك لأن الله ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارَهم.
يُصعقون : يهلكون.
يتّجه الخطاب هنا الى الرسول الكريم تسليةً له بأن يدعَ هؤلاء الكفار وشأنهم حتى يلاقوا يومَهم الذي يهلكون فيه.
لا تكترثُ تكذيبم وعنادهم، فإن لهم يوما لا يجدون فيه من يدافع عنهم
أو ينصرهم.
دون ذلك : غيره.
بل إن لِلذين ظلموا أنفسهم بالكفر، مثل هؤلاء، عذاباً آخر قبل يوم القيامة،
﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
بأعيُننا : في حِفظنا ورعايتنا.
فاصبر يا محمد لحكم ربك بإمهالهم، وعلى ما يلحقُك من أذاهم، فإنك في حِفظِنا ورعايتنا فلا يضرّك كيدهم.
إدبار النجوم، بكسر الهمزة : وقتُ مغيبها.
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ في الليل، وسبِّحه حين تغيبُ النجوم، واذكر الله في جميع الحالات والأوقات، آناءَ الليل وأطرافَ النهار.
Icon