تفسير سورة الأنعام

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يسؤون به غيره ويجعلون له عِدْلاً وشريكاً يقال: عدل فلاناً بفلان أي سواه به ﴿تَمْتَرُونَ﴾ تشكّون يقال امترى في الأمر إِذا شك فيه ﴿قَرْنٍ﴾ القرن: الأمة المقترنة في مدةٍ من الزمان ومنه حديث «خير القرون قرني» وأصل القرن مائة سنة ثم أصبح يطلق على الأمة من الناس التي تعيش في ذلك قال الشاعر:
إِذا ذهب القرنُ الذي كنتَ فيهم وخُلِّقت في قرنٍ فأنت غريب
﴿مِّدْرَاراً﴾ غزيرة دائمة ﴿قِرْطَاسٍ﴾ القرطاس: الصحيفة التي يكتب فيها ﴿لَبَسْنَا﴾ خلطنا يقال لَبسْتُ عليه الأمر أي خلطته عليه حتى اشتبه ﴿حَاقَ﴾ نزل بهم وأصابهم ﴿وَلِيّاً﴾ ناصراً ومعيناً.
سَبَبُ النّزول: روي أن مشركي مكة قالوا: يا محمد والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله فأنزل الله ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
التفِسير: ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ بدأ تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه تعليماً لعباده أن يحمدوه بهذا الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال وإِعلاماً بأنه
350
المستحق لجميع المحامد فلا نِدَّله ولا شريك، ولا نظير ولا مثيل ومعنى الآية: احمدوا الله ربكم المتفضل عليكم بصنوف الإِنعام والإِكرام الذي أوجد وأنشأ وابتدع خلق السماوات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة، بما يدهش العقول والأفكار تبصرة وذكرى لأولي الأبصار ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ أي وأنشأ الظلمات والأنوار وخلق الليل والنهار يتعاقبان في الوجود لفائدة العوالم بما لا يدخل تحت حصر أو فكر، وجمع الظلمات لأن شعب الضلال متعددة، ومسالكه متنوعة، وأفرد النور لأن مصدره واحد هو الرحمن منوّر الأكوان قال في التسهيل: وفي الآية ردٌّ على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم إِن الخير من النور والشر من الظلمة، فإِن المخلوق لا يكون إِلهاً ولا فاعلاً لشيء من الحوادث ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته يشرك الكافرون بربهم فيساوون به أصناماً نحتوها بأيديهم، وأوهاماً ولّدوها بخيالهم، ففي ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم قال ابن عطية: والآية دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلقه السماوات والأرض وغيرها قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإِنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتُك وأكرمتُك وأحسنتُ إليك ثم تشتمني؟ أي بعد وضوح هذا كله ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ﴾ أي خلق أباكم آدم من طين ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً﴾ أي حكم وقدَّر لكم أجلاً من الزمن تموتون عند انتهائه ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ﴾ أي وأجلٌ آخر مسمّى عنده لبعثكم جميعاً، فالأجل الأول الموتُ والثاني البعثُ والنشور ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ أي ثم أنتم أيها الكفار تشكّون في البعث وتنكرونه بعد ظهور تلك الآيات العظيمة ﴿وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض﴾ أي هو الله المعظّم المعبود في السماوات والأرض قال ابن كثير: أي يعبدوه ويوحده ويقر له بالألوهية من في السماوات والأرض ويدعونه رغباً ورهباً ويسمونه الله ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ أي يعلم سركم وعَلَنكم ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ أي من خير أو شر وسيجازيكم عليه، ثم أخبر تعالى عن عنادهم وإِعراضهم فقال ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ أي ما يظهر لهم دليل من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن ﴿إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي إِلاّ تركوا النظر فيها ولم يلتفتوا إليها قال القرطبي: والمراد تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، والمعجزات التي أقامها لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي يستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به عن ربه ﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ أي كذبوا بالقرآن الذي جاءهم من عند الله ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ أي سوف يحل بهم العقاب أن عاجلاً أو آجلاً ويظهر لهم خبر ما كانوا به يستهزئون، وهذا وعيدٌ بالعذاب والعقاب على استهزائهم، ثم حضهم تعالى على الاعتبار بمن سبقهم من الأمم فقال ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ أي ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم الأنبياء ألم يعرفوا ذلك؟ ﴿مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ أي
351
منحناهم من أسباب السعة والعيش والتمكين في الأرض ما لم نعطكم يا أهل مكة ﴿وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً﴾ أي أنزلنا المطر غزيراً متتابعاً يدرُّ عليهم درّاً ﴿وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾ أي من تحت أشجارهم ومنازلهم حتى عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي فكفروا وعصوا فأهلكناهم بسبب ذنوبهم، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم في الأرض ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ أي أحدثنا من بعد إِهلاك المكذبين قوماً آخرين غيرهم قال أبو حيان: وفيه تعريض للمخاطبين بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ﴾ أي لو نزّلنا عليك يا محمد كتاباً مكتوباً على ورقٍ كما اقترحوا ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ أي فعاينوا ذلك ومسّوه باليد ليرتفع عنهم كل إِشكال ويزول كل ارتياب ﴿لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي لقال الكافرون عند رؤية تلك الآية الباهرة تعنتاً وعناداً ما هذا إِلا سحرٌ واضح، والغرضُ أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات وأظهر الدلائل ﴿وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ أي هلاّ أنزل على محمد ملك يشهد بنبوته وصدقه و ﴿لولا﴾ بمعنى هلاّ للتحضيض قال أبو السعود: أي هلاّ أُنزل عليه ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيّ وهذا من أباطيلهم المحقّقة وخرافاتهم الملفّقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيَل وعييت بهم العلل ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر﴾ أي لو أنزلنا الملك كما اقترحوا وعاينوه ثم كفروا لحقًّ إِهلاكهم كما جرت عادة الله بأن من طلب آية ثم لم يؤمن من أهلكه الله حالاً ﴿ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ﴾ أي ثم لا يُمهلون ولا يُؤخرون، والآية كالتعليل لعدم إِجابة طلبهم، فإِنهم - في ذلك الإِقتراح - كالباحث عن حتفه بظِلْفه ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ أي لو جعلنا الرسول ملكاً لكان في صورة رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، فإِنهم لو رأوا الملك في صورة إِنسان قالوا هذا إِنسانٌ وليس بملك قال ابن عباس: لو أتاهم ملكٌ ما أتاهم إِلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور، ثم قال تعالى تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ أي والله لقد استهزأ الكافرون من كل الأمم بأنبيائهم الذين بعثوا إِليهم ﴿فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ أي أحاط ونزل بهؤلاء المستهزئين بالرسل عاقبة استهزائهم، وفي هذا الإِخبار تهديد للكفار ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين الساخرين: سافروا في الأرض فانظروا وتأملوا ماذا حلّ بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب لتعتبروا بآثار من خلا من الأمم كيف أهلكهم الله وأصبحوا عبرةً للمعتبرين ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض﴾ أي قل يا محمد لمن الكائنات جميعاً خلقاً وملكاً وتصرفاً؟ والسؤال لإِقامة الحجة على
352
الكفار فهو سؤال تبكيت ﴿قُل للَّهِ﴾ أي قل لهم تقريراً وتنبيهاً هي لله لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة لأنه خالق الكل إِما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم ﴿كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ أي ألزم نفسه الرحمة تفضلاً وإِحساناً والغرضُ التلطف في دعائهم إِلى الإِيمان وإِنابتهم إِلى الرحمن ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي ليحشرنكم من قبوركم مبعوثين إِلى يوم القيامة الذي لا شك فيه ليجازيكم بأعمالكم ﴿الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي أضاعوها بكفرهم وأعمالهم السيئة في الدنيا فهم لا يؤمنون ولهذا لا يقام لهم وزن في الآخرة وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار﴾ أي لله عَزَّ وَجَلَّ ما حلّ واستقر في الليل والنهار الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه، والمراد عموم ملكه تعالى لكل شيء ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي السميع لأقوال العباد العليم بأحوالهم ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ الاستفهام للتوبيخ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أغير الله أتخذ معبوداً؟ ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ أي هو جل وعلا يْرزق ولا يُرْزَق قال ابن كثير: أي هو الرازق لخلقه من غير احتياج إليهم ﴿قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ أي قل لهم يا محمد إِن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم لله من هذه الأمة ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ أي وقيل لي: لا تكوننَّ من المشركين قال الزمخشري ومعناه: أُمرتُ بالإِسلام ونُهيت عن الشرك ﴿قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي قل لهم أيضاً إِنني أخاف إِن عبدتُ غير ربي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة ﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ أي من يصرف عنه العذاب فقد رَحِمَهُ اللَّهُ ﴿وَذَلِكَ الفوز المبين﴾ أي النجاة الظاهرة ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ أي إِن تنزل بك يا محمد شدةٌ من فقرٍ أو مرضٍ فلا رافع ولا صارف له إِلا هو ولا يملك كشفه سواه ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ﴾ أي وإن يصبك بخيرٍ من صحةٍ ونعمة فلا رادّ له لأنه وحده القادر على إِيصال الخير والضر قال في التسهيل: والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحكيم الخبير﴾ قال ابن كثير: أي هو الذي خضعت له الرقاب وذلّت له الجبابرة وعنت له الوجوه وقهر كل شيء وهو الحكيم في جميع أفعاله الخبير بمواضع الأشياء.
البَلاَغَة: ١ - ﴿الحمد للَّهِ﴾ الصيغة تفيد القصر أي لا يستحق الحمد والثناء إلا الله رب العالمين.
٢ - ﴿الظلمات والنور﴾ فيه من المحسنات البديعية الطباق.
353
٣ - ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ فيه استبعاد أن يعدلوا به غيره بعد وضوح آيات قدرته ووضع الرب ﴿رَبِّهِم﴾ موضع الضمير لزيادة التشنيع والتقبيح.
٤ - ﴿سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ بينهما طباق.
٥ - ﴿ِّن قَرْنٍ﴾ أي أهل قرن فهو مجاز مرسل.
٦ - ﴿وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً﴾ أي المطر عبَّر عنه بالسماء لأنه ينزل من السماء فهو مجاز أيضاً.
٧ - ﴿استهزىء بِرُسُلٍ﴾ تنكير رسل للتفخيم والتكثير.
٨ - ﴿السميع العليم﴾ من صيغ المبالغة.
فَائِدَة: في القرآن العظيم خمس سور ابتدأت ب ﴿الحمد للَّهِ﴾ وهي سورة الفاتحة ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الآية: ٢] والأنعام ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ [الآية: ١] وسورة الكهف ﴿الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب﴾ [الآية: ١] وسورة سبأ ﴿الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [الآية: ١] وسورة فاطر ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ [الآية: ١].
354
المنَاسَبَة: لما أفاض جلّ ذكره في إِقامة الدلائل والبراهين على قدرته ووحدانيته من أول السورة الكريمة ذكر هنا شهادته تعالى على صدق نبوة محمد عليه السلام ثم ذكر موقف الجاحدين للقرآن المكذبين للوحي، وحسرتهم الشديدة يوم القيامة.
اللغَة: ﴿لأُنذِرَكُمْ﴾ الإِنذار: إِخبار فيه تخويف ﴿فِتْنَتُهُمْ﴾ الفتنة الاختبار ﴿أَكِنَّةً﴾ جمع كِنان وهو الغطاء ﴿وَقْراً﴾ ثقلاً يقال وقرت أذن هإِذا ثقلت أو صُمّت ﴿أَسَاطِيرُ﴾ خرافات وأباطيل جمع أسطورة قال الجوهري الأساطير: الأباطيل والتُّرهات ﴿يَنْأَوْنَ﴾ يبعدون يقال نأى عنه إذا ابتعد ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة يقال: بغتة إِذا فَجَأَه ﴿فَرَّطْنَا﴾ فرّط: قصّر مع القدرة على ترك التقصير قال أبو عبيد: فرَّط: ضيّع ﴿أَوْزَارَهُمْ﴾ ذنوبهم جمع وزر ﴿يَزِرُونَ﴾ يحملون ﴿لَهْوٌ﴾ اللهو: صرف النفس عن الجدّ إِلى الهزل، وكل ما شغلك فقد ألهاك.
سَبَبُ النّزول: أ - روي أن رؤساء مكة قالوا يا محمد: ما نرى أحداً يصدقك بما تقول من أمر الرسالة، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرنا من يشهد لك أنك رسول كما تزعم؟ فأنزل الله ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً؟ قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ الآية.
ب - عن ابن عباس أن «أبا سفيان» و «الوليد بن المغيرة» و «النضر بن الحارث» جلسوا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية فأنزل الله ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ... ﴾ الآية.
ج - روي أن «الأَخنْس بن شُريق» التقى ب «أبي جهل بن هشام» فقال له: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب؟ فإِنه ليس عندنا أحدٌ غيرنا فقال أبو جهل: والله إِن محمداً لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب «بنو قصيّ» باللواء، والسقاية، والحجابة، والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً﴾ أي قل لهم يا محمد أي شيء أعظم شهادة حتى يشهد لي بأني صادقٌ في دعوى النبوة؟ ﴿قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي أجبهم أنت وقل لهم الله يشهد لي بالرسالة والنبوة وكفى بشهادة الله لي شهادة قال ابن عباس: قال الله لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإِن أجابوك وإِلاّ فقل لهم الله شهيد بيني وبينكم {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ
355
بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي وأوحي إِليَّ هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إِلى يوم القيامة قال ابن جزيّ: والمقصودُ بالآية الاستشهاد بالله - الذي هو أكبر شهادة - على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِظهار معجزته الدالة على صدقه ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى﴾ استفهام توبيخ أي أئنكم أيها المشركون لتقرون بوجود آلهة مع الله؟ فكيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة وقيام الحجة على وحدانية الله؟ ﴿قُل لاَّ أَشْهَدُ﴾ أي قل لهم لا أشهد بذلك ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ أي قل يا محمد إِنما أشهد بأن الله واحد أحدٌ، فرد صمد ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ أي وأنا بريء من هذه الأصنام، ثم ذكر تعالى أن الكفار بين جاهل ومعاند فقال ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ﴾ يعني اليهود والنصارى الذين عرفوا وعاندوا يعرفون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحليته ونعته على ما هو مذكور في التوراة والإِنجيل كما يعرف الواحد منهم ولده لا يشك في ذلك أصلاً قال الزمخشري: وهذا استشهادٌ لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب وبصحة نبوته ﴿الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي أولئك هم الخاسرون لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد وضوح الآيات ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ الاستفهام إِنكاري ومعناه النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب أو كذّب بالقرآن والمعجزات الباهرة وسمّاها سحراً قال أبو السعود: وكلمة ﴿أَوْ﴾ للإِيذان بأن كلاً من الافتراء والتكذيب وحده بالغٌ غاية الإِفراط في الظلم، فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله ونفوا ما أثبته! قاتلهم الله أنّى يؤفكون ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي لا يفلح المفتري ولا المكذّب وفيه إِشارة إِلى أن مدّعي الرسالة لو كان كاذباً مفترياً على الله فلا يكون محلاً لظهور المعجزات ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ أي اذكر يوم نحشرهم جميعاً للحساب ونقول لهم على رءوس الأشهاد ﴿أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أي أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله؟ قال البيضاوي: والمراد من الاستفهام التوبيخ و ﴿تَزْعُمُونَ﴾ أي تزعمونهم آلهة وشركاء مع الله فحذف المفعولان ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذٍ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو كذب ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ أي أقسموا كاذبين بقولهم والله يا ربنا ما كنا مشركين قال القرطبي: تبرءوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين قال ابن عباس: يغفر الله لأهل الإِخلاص ذنوبهم فإِذا رأى المشركون ذلك قالوا تعالوا نقول: إِنّا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ أي انظر يا محمد كيف كذبوا على أنفسهم بنفي الإِشراك عنها أمام علاّم الغيوب، وهذا التعجيب من
356
كذبهم الصريح ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم وغاب عنهم ما كانوا يفترونه على الله من الشركاء، ثم وصف تعالى حال المشركين حين استماع القرآن فقال ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ أي ومن هؤلاء المشركين من يصغي إِليك يا محمد حين تتلو القرآن ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ أي جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن ﴿وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ أي ثقلاًَ وصمماً يمنع من السمع قال ابن جزي: والمعنى أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه وعبّر بالأكنَّة والوقر مبالغة ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ أي مهما رأوا من الآيات والحجج البيّنات لا يؤمنوا بها لفرط العناد ﴿حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إِلى أنهم إِذا جاءوك مجادلين يقولون عن القرآن ما هذا إلا خرافات وأباطيل الأولين ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي هؤلاء المشركون المكذبون ينهون الناس عن القرآن وعن اتباع محمد عليه السلام ويُبعدون هم عنه ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي وما يهلكون بهذا الصنيع إِلا أنفسهم وما يشعرون بذلك قال ابن كثير: فهم قد جمعوا بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يدعون أحداً ينتفع ولا يعود وباله إِلا عليهم وما يشعرون ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار﴾ أي لو ترى يا محمد هؤلاء المشركين إِذ عرضوا على النار لرأيت أمراً عظيماً تشيب لهوله الرءوس قال البيضاوي: وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف تقديره لرأيت أمراً شنيعاً وإِنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع ﴿فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ أي تمتّوا الرجوع إِلى الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً ولا يكذبوا بآيات الله ﴿وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ أي إِذا رجعنا إِلى الدنيا نصدّق ونؤمن بالله إِيماناً صادقاً فتمنوا العودة ليصلحوا العمل ويتداركوا الزلل قال تعالى ردّاً لذلك التمني ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾ أي ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم فتمنوا ذلك ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي لو ردّوا - على سبيل الفرض لأنه لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت - لعادوا إلى الكفر والضلال وإِنهم لكاذبون في وعدهم بالإِيمان ﴿وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ أي قال أولئك الكفار الفجار ما هي إِلا هذه الحياة الدنيا ولا بعث ولا نشور ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ﴾ أي لو ترى حالهم إذ حُبسوا للحساب أمام رب الأرباب كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف للتهويل من فظاعة الموقف ﴿قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق﴾ أي أليس هذا المعاد بحق؟ والهمزة للتقريع على التكذيب ﴿قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا﴾ أي قالوا بلى والله إِنه الحق ﴿قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون﴾ أي ذوقوا العذاب بسبب كفركم في الدنيا وتكذيبكم رسل الله، ثم أخبر تعالى عن هؤلاء الكفار فقال ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله﴾ أي لقد خسر هؤلاء المكذبون بالبعث ﴿حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾ أي حتى إِذا جاءتهم القيامة فجأةً من غير أن يعرفوا وقتها قال القرطبي: سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها ﴿قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ أي قالوا يا ندامتنا على
357
ما قصَّرنا وضيّعنا في الدنيا من صالح الأعمال ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾ أي والحال أنهم يحملون أثقال ذنوبهم على ظهورهم قال البيضاوي: وهذا تمثيلٌ لاستحقاقهم آصار الآثام وقال ﴿على ظُهُورِهِمْ﴾ لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، قال ابن جزي: وهذا كناية عن تحمل الذنوب، وقيل إِنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة فقد رُوي أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتمثل له في أحسن صورة ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ أي بئس ما يحملونه من الأوزار ﴿وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ أي لذتها ﴿وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أي الآخرة وما فيها من أنواع النعيم خير لعباد الله المتقين من دار الفناء لأنها دائمة لا يزول عنهم نعيمها ولا يذهب عنهم سرورها ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا يعقلون أن الآخرة خير من الدنيا؟ ثم سلَّى تعالى نبيه لتكذيب قومه له فقال ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ﴾ أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم قال الحسن: كانوا يقولون إِنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ أي فإنهم في دخيلة نفوسهم لا يكذبونك بل يعتقدون صدقك ولكنهم يجحدون عن عناد فلا تحزن لتكذيبهم قال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون فكان أبو جهل يقول: ما نكذبك يا محمد وإِنك عندنا المصدّق وإِنما تكذّب ما جئتنا به ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ﴾ أي صبروا على ما نالهم من قومهم من التكذيب والاستهزاء ﴿وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ أي وأُوذوا في الله حتى نصرهم الله، وفي الآية إرشادٌ إلى الصبر، ووعدٌ له بالنصر ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ قال ابن عباس: أي لمواعيد الله، وفي هذا تقوية للوعد ﴿وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين﴾ أي ولقد جاءك بعض أخبار المرسلين الذين كُذّبوا وأُوذوا كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم فتسلَّ ولا تحزن فإِن الله ناصرك كما نصرهم ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ أي إِن كان إِعراضهم عن الإِسلام وقد عظم وشقّ عليك يا محمد ﴿فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض﴾ أي إِن قدرت أن تطلب سرَباً ومسكناً في جوف الأرض ﴿أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ أي مصعداً تصعد به إِلى السماء فتأتيهم بآيةٍ ممّا اقترحوه فافعل ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين﴾ أي لو أراد الله لهداهم إِلى الإِيمان فلا تكوننَّ يا محمد من الذين يجهلون حكمة الله ومشيئته الأزلية.
البَلاَغة: ١ - ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ﴾ فيه تشبيه يسمى «المرسل المجمل».
٢ - ﴿الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ فيه إيجاز بالحذف أي تزعمونهم شركاء.
٣ - ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ الصيغة للتعجيب من كذبهم الغريب.
٤ - ﴿آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ عبَّر بالأكنة في القلوب والوقر في الآذان وهو تمثيل بطريق الاستعارة لإِعراضهم عن القرآن.
358
٥ - ﴿يَقُولُ الذين كفروا﴾ وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم.
٧ - ﴿يَنْهَوْنَ... وَيَنْأَوْنَ﴾ وردت الصيغة مؤكدة بمؤكدين «إنَّ» و «اللام» للتنبيه على أن الكذب طبيعتهم.
٨ - ﴿وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا نفس اللعب واللهو مبالغة كقول الخنساء: «فإِنما هي إقبال وإدبار».
٩ - ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ الاستفهام للتوبيخ.
١٠ - ﴿كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ تنوين رسل للتفخيم والتكثير.
تنبيه: قال الإِمام الفخر: قوله تعالى ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار﴾ يقتضي له جواباً وقد حُذف تفخيماً للأمر وتعظيماً للشأن، وأشباهه كثير في القرآن والشعر، وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ألا ترى أنك لو قلت لغلامك: والله لئن قمتُ إليك - وسكتَّ عن الجواب - ذهب فكره إلى أنواع المكروه من الضرب، والقتل، والكسر، وعظم خوفه لأنه لم يدر أي الأقسام تبغي، ولو قلت: والله لئن قمتُ إِليك لأضربنك فأتيتَ بالجواب لعلم أنك لم تبلغ شيئاً غير الضرب، فثبت أن حذف لجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف.
359
المنَاسَبَة: لما ذكر الله تعالى إعراض المشركين عن القرآن وعن الإِيمان بالنبي عليه السلام، ذكر في هذه الآيات السبب في ذلك وهو أن القرآن نور وشفاء يهتدي به المؤمنون، وأما الكافرون فهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يستجيبون، ثم ذكر اقتراح المشركين بعض الآيات وشبههم بالصم البكم الذين لا يعقلون.
اللغَة: ﴿تَضَرَّعُواْ﴾ التضرع من الضراعة وهي الذلة يقال: ضرع فهو ضارع ﴿البأسآء﴾ من البؤس وهو الفقر ﴿الضرآء﴾ من الضر وهو البلاء قال القرطبي: البأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، هذا قول الأكثر ﴿مُّبْلِسُونَ﴾ المبلس: اليائس من الخير من أبلس الرجل إذا يئس ومنه «إبليس» لأنه أبلس من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿دَابِرُ﴾ الدابر: الآخر ودابر القوم: خلفهم من نسلهم قال قطرب: يعني استؤصلوا وأهلكوا قال الشاعر:
فأهلكوا بعذابٍ حصَّ دابرهم فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا
﴿يَصْدِفُونَ﴾ صَدَف عن الشيء أعرض عنه ﴿تَطْرُدِ﴾ الطرد: الإِبعاد مع الإِهانة ﴿الفاصلين﴾ الحاكمين.
سَبَبُ النّزول: عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنده «صهيب، وخبّاب، وبلال، وعمّار» وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد: أرضيتَ بهؤلاء من قومك {
360
أفنحن نكون تبعاً لهم} أهؤلاء الذين منّ الله عليهم ﴿اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم إِتَّبعناك فأنزل الله تعالى {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ﴾ أي إنما يستجيب للإِيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء، وهنا تمَّ الكلام ثم ابتدأ فقال ﴿والموتى يَبْعَثُهُمُ الله﴾ قال ابن كثير: يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم الله بأموات الأجساد، وهذا من باب التهكم بهم والإِزراء عليهم وقال الطبري: يعني والكفار يبعثهم الله مع الموتى، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتاً، ولا يعقلون دعاءً، ولا يفقهون قولاً، إذ كانوا لا يتدبرون حجج الله ولا يعتبرون بآياته ولا يتذكرون فينزجرون عن تكذيب رسل الله ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ أي ثم مرجعهم إلى الله فيجازيهم بأعمالهم ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي قال كفار مكة هلاّ نُزّل على محمد معجزة تدل على صدقه كالناقة والعصا والمائدة قال القرطبي وكان هذا منهم تعنتاً بعد ظهور البراهين وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة من مثله ﴿قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً﴾ أي هو تعالى قادرٌ على أن يأتيهم بما اقترحوا ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعلمون أن إنزالها يستجلب لهم البلاء لأنه لو أنزلها وَفْق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السابقة ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض﴾ أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ أي ولا من طائر يطير في الجو بجناحيه ﴿إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أي إِلا طوائف مخلوقة مثلكم خلقها الله وقدَّر أحوالها وأرزاقها وآجالها قال البيضاوي: والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزّل آية ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ أي ما تركنا وما أغفلنا في القرآن شيئاً من أمر الدين يحتاج الناس إليه في أمورهم إلا بيّناه وقيل: إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ويكون المعنى: ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئاً فلم نكتبه ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ أي يجمعون فيقضي بينهم قال الزمخشري: يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات﴾ أي والذين كذبوا بالقرآن صمٌ لا يسمعون كلام الله سماع قبول بكمٌ لا ينطقون بالحق خابطون في ظلمات الكفرر قال ابن كثير: وهذا مثل أي مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم وهو الذي لا يسمع، أبكم وهو الذي لا يتكلم، وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر، فكيف يهتدى مثل هذا إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه} {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ
361
يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي من يشأ الله إضلاله يضلله ومن يشأ هدايته يرشده إلى الهدى ويوفقه لدين الإِسلام ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة﴾ استفهام تعجيب أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله كما أتى من قبلكم أو أتتكم القيامة بغتة من تدعون؟ ﴿أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي أتدعون غير الله لكشف الضر عنكم؟ إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ﴾ أي بل تخصونه تعالى بدعائكم في الشدائد فيكشف الضر الذي تدعونه إلى كشفه إن شاء كشفه ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ أي تتركون الآلهة فلا تدعونها لاعتقادكم أن الله تعالى هو القادر على كشف الضر وحده دون سواه ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ هذه تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي والله لقد أرسلنا رسلاً إلى أمم كثيرين من قبلك فكذبوهم ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء﴾ أي بالفقر والبؤس والأسقام والأوجاع ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي لكي يتضرعوا إِلى الله بالتذلل والإِنابة ﴿فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ لولا للتحضيض أي فهلا تضرعوا حين جاءهم العذاب، وهذا عتاب على ترك الدعاء وإخبارٌ عنهم أنهم لم يتضرعوا مع قيام ما يدعوهم إلى التضرع ﴿ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي ولكن ظهر منهم النقيض حيث قست قلوبهم فلم تلن للإِيمان ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ﴾ أي زين لهم المعاصي والإِصرار على الضلال ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أي لما تركوا ما وُعظوا به ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي من النعم والخيرات استدارجاً لهم ﴿حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا﴾ أي فرحوا بذلك النعيم وازدادوا بطراً ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾ أي أخذناهم بعذابنا فجأة فإذا هم يائسون قانطون من كل خير ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ﴾ أي استؤصلوا وهلكوا عن آخرهم ﴿والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي على نصر الرسل وإهلاك الكافرين قال الحسن: مُكر بالقوم وربّ الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا وفي الحديث «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم قرأ ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين المعاندين من أهل مكة أخبروني لو أذهب الله حواسكم فأصمكم وأعمالكم ﴿وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ﴾ أي طبع على قلوبكم حتى زال عنها العقل والفهم ﴿مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ أي هل أحد غير الله يقدر على ردّ ذلك إليكم إِذا سلبه الله منكم؟ ﴿انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ أي انظر كيف نبيّن ونوضح الآيات الدالة على وحدانيتنا ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها فلا يعتبرون ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ أي قل لهؤلاء المكذبين أخبروني إن أتاكم عذاب الله العاجل فجأة أو عياناً بالليل أو بالنهار ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون﴾ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي ما يهلك بالعذاب إلا أنتم لأنكم كفرتم وعاندتم ﴿وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ أي ما نرسل الرسل إلا لتبشير المؤمنين بالثواب، وإنذار الكافرين بالعقاب، وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحه الكافرون من الآيات ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي فمن آمن بهم وأصلح عمله فلا خوف عليهم في
362
الآخرة ولا هم يحزنون والمراد أنهم لا يخافون ولا يحزنون لأن الآخرة دار الجزاء للمتقين ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ أي وأما المكذبون بآيات الله فيمسهم العذاب الأليم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله قال ابن عباس: يفسقون أي يكفرون ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الذين يقترحون عليك تنزيل الآيات وخوارق العادات لستُ أدعي أن خزائن الله مفوضةٌ إليَّ حتى تقترحوا عليَّ تنزيل الآيات ولا أدعي أيضاً أني أعلم الغيب حتى تسألوني عن وقت نزول العذاب ﴿ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ أي ولست أدعي أني من الملائكة حتى تكلفوني الصعود إلى السماء وعدم المشي في الأسواق وعدم الأكل والشرب قال الصاوي: وهذه الآية نزلت حين قالوا له إن كنت رسولاً فاطلب من ربك أن يوسّع علينا ويغني فقرنا وأخبرنا بمصالحنا ومضارنا فأخبر أن ذلك بيد الله سبحانه لا بيده.
والمعنى: إني لا أدعي شيئاص من هذه الأشياء الثلاثة حتى تجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحة رسالتي ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ أي ما أتّبع فيما أدعوكم إليه إلاّ وحي الله الذي يوحيه إليَّ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ أي هل يتساوى الكافر والمؤمن والضال والمهتدي؟ ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ تقريعٌ وتوبيخ أي أتسمعون فلا تتفكرون؟ ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ﴾ أي خوِّف يا محمد بهذا القرآن المؤمنين المصدقين بوعد الله ووعيده الذي يتوقعون عذاب الحشر قال أبو حيان: وكأنه قيل: أنذر بالقرآن من يُرجى إيمانهُ وأما الكفرة المعرضون فدعهم ورأيهم ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ أي ليس لهم غير الله وليٌّ ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي أنذرهم لكي يتقوا الكفر والمعاصي ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ أي لا تطرد هؤلاء المؤمنين الضعفاء من مجلسك يا محمد الذين يعبدون ربَّهم دوما في الصباح والمساء يلتمسون بذلك القرب من الله والدنوَّ نم رضاه قال الطبري: نزلت الآية في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين قال المشركون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك وأراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك طمعاً في إسلامهم ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ أي لا تؤاخذ بأعمالهم وذنوبهم كقول نوح ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي﴾ [الشعراء: ١١٣] قال الصاوي: هذا كالتعليل لما قبله والمعنى لا تؤاخذ بذنوبهم ولا بما في قلوبهم إن أرادوا بصحبتك غير وجه الله، وهذا على فرض تسليم ما قاله المشركون وإلا فقد شهد الله لهم بالإِخلاص بقوله ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ﴾ وهذا التأكيد لمطابقة الكلام والمعنى لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك فلم تطردهم؟ وقيل إن المراد بالحساب الرزق، والمعنى ليس رزقهم عليك ولا رزقك عليهم وإنما يرزقك وإياهم الله رب العالمين ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾ أي لا تطردهم فإنك إن طردتهم تكون من الظالمين، وهذا لبيان الأحكام وحاشاه من وقوع ذلك منه عليه السلام قال القرطبي: وهذا كقوله
363
تعالى ﴿لئن أشركت ليحبطنَّ عملك﴾ وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله ﴿فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي ابتلينا الغنيّ بالفقير والشريف بالوضيع ﴿ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ﴾ أي ليقول الأشراف والأغنياء أهؤلاء الضعفاء والفقراء منَّ الله عليهم بالهداية والسبق إلى الإِسلام من دوننا!! قالوا ذلك إِنكاراً واستهزاء كقولهم
﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١] قال تعالى رداً عليهم ﴿أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ ؟ أي الله أعلم بمن يشكر فيهديه ومن يكفر فيخزيه، والاستفهام للتقرير ﴿وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ قال القرطبي: نزلت في الذين نهى الله نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال «الحمدلله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» وأُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يبدأهم بالسلام إِكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ أي ألزم نفسه الرحمة تفضلاً منه وإِحساناً ﴿أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ﴾ أي خطيئة من غير قصد قال مجاهد: أي لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته ركب الأمر ﴿ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي ثم تاب من بعد ذلك الذنب وأصلح عمله فإن الله يغفر له، وهو وعدٌ بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات﴾ أي كما فصلنا في هذه السورة الدلائل والحجج على ضلالات المشركين كذلك نبيّن ونوضّح لكم أمور الدين ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين﴾ أي ولتتوضح وتظهر طريق المجرمين فينكشف أمرهم وتستبين سبلُهم ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إني نُهيت أن أعبد هذه الأصنام التي زعمتموها آلهة وعبدتموها من دون الله ﴿قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ﴾ أي في عبادة غير الله، وفيه تنبيه على سبب ضلالهم ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين﴾ أي قد ضللت إِن أتبعتُ أهواءكم ولا أكون في زمرة المهتدين ﴿قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليّ ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ أي وكذَّبتم بالحق الذي جاءني من عند الله ﴿مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ أي ليس عندي ما أبادركم به من العذاب قال الزمخشري: يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ﴾ أي ما الحكم في أمر العذاب وغيره إلا لله وحده ﴿يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين﴾ أي يخبر الحق ويبينه البيان الشافي وهو خير الحاكمين بين عباده ﴿قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ أي لو أن بيدي أمر العذاب الذي تستعجلونه ﴿لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي لعجلته لكم لأستريح منكم ولكنه بيد الله قال ابن عباس: لم أهملكم ساعةً ولأهلكتكم ﴿والله أَعْلَمُ بالظالمين﴾ أي هو تعالى أعلم بهم إِن شاء عاجلهم وإِن شاء آخّر عقوبتهم، وفيه وعيد وتهديد.
البَلاَغَة: ١ - ﴿والموتى يَبْعَثُهُمُ الله﴾ فيه استعارة لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم.
٢ - ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ تأكيد لدفع توهم المجاز لأن الطائر قد يستعمل مجازاً للعمل كقوله ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣].
364
٣ - ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ تشبيه بليغ أي كالصم والبكم في عدم السماع وعدم الكلام فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.
٤ - ﴿إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ فيه قصر أي لا تدعون غيره لكشف الضر، فهو قصر صفة على موصوف.
٥ - ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ﴾ كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.
٦ - ﴿الأعمى والبصير﴾ استعارة عن الكافر والمؤمن.
٧ - ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ﴾ في هاتين الجملتين من أنواع البديع ما يسمى ردّ الصدر على العجز.
فَائِدَة: قال الزمخشري في قوله تعالى ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم.
فَائِدَة: قال بعض المفسرين: إن الواجب في الدعاء الإِخلاص به لأنه تعالى قال ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ وهكذا جميع الطاعات لا ينبغي أن تكون لشيء من أغراض الدنيا.
365
المنَاسَبَة: لّما أقام تعالى الأدلة والبراهين على وجوده ووحدانيته، أعقبه بذكر الأدلة على صفاته القدسية: علمه، وقدرته، وعظمته، وجلاله، وسائر صفات الجلال والجمال، ثم ذكر نعمته على العباد بإِنجائهم من الشدائد، وقدرته على الانتقام ممَّن خالف أمره وعصى رسله.
اللغَة: ﴿كَرْبٍ﴾ الكرب: الغمُّ الذي يأخذ بالنفس ﴿شِيَعاً﴾ الشيعة: الفرقة تتبع الأخرى ويجمع على شيع وأشياع ﴿أُبْسِلُواْ﴾ الإِبسال: تسليم الإِنسان نفسه للهلاك ﴿عْدِلْ﴾ فدية ﴿حَمِيمٍ﴾ الحميم: الماء الحار ﴿حَيْرَانَ﴾ الحَيرْة: التردد في الأمر لا يهتدي إِلى مخرجٍ منه ﴿الغيب﴾ ما غاب عن الحواس ﴿الشهادة﴾ ما كان مشاهداً ظاهراً للعيان ﴿تُحْشَرُونَ﴾ تجمعون.
التفِسير: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ أي عند الله خزائن الغيب وهي الأمور المغّيبة الخفيّة لا يعلمها ولا يحيط بها إلا هو ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر﴾ أي ويعلم ما في البر والبحر من الحيوانات جملةً وتفصيلاً وفي كلٍ عوالم وعجائب وسعها علمه وقدرته ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾ مبالغةٌ في إِحاطة علمه بالجزئيات أي لا تسقط ورقة من الشجر إِلا يعلم وقت سقوطها والأرض التي تسقط عليها ﴿وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض﴾ أي ولا حبة صغيرة في باطن الأرض إِلا يعلم مكانها وهل تنبت أولاوكم تنبتُ ومن يأكلها ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي ولا شيءٍ فيه رطوبة أو جفاف إِلا وهو معلوم عند الله ومسجّل في اللوح المحفوظ قال أبو حيان:
366
وانظر إلى حسن ترتيب هذه المعلومات: بدأ أولاً بأمرٍ معقول لا ندركه نحن بالحسّ وهو ﴿مَفَاتِحُ الغيب﴾ ثم ثانياً بامرٍ ندرك كثيراً منه بالحسّ وهو ﴿البر والبحر﴾ ثم ثالثاً بجزأين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط الورقة من علوّ والثاني سفلي وهو اختفاء حبةٍ في بطن الأرض فدل ذلك على أنه تعالى عالمٌ بالكليّات والجزئيات ﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم باليل﴾ أي ينيمكم بالليل ويعلم ما كسبتم من العمل بالنهار قال القرطبي: وليس ذلك موتاً حقيقةً بل هو قبض الأرواح، قال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم، وفي هذا اعتبار واستدلالٌ على البعث الأخروي ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ أي ثم يوقظم في النهار لتبلغوا الأجل المسمّى لانقطاع حياتكم، والضمير عائد على النهار لأن غالب اليقظة فيه وغالب النوم بالليل ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي ثم مرجعكم إِليه يوم القيامة ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي يخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها إِن خيراً فخيرٌ، وإِن شراً فشرٌّ، ثم ذكر تعالى جلال عظمته وكبريائه فقال ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ أي هو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ أي ملائكة تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون قال أبو السعود: وفي ذلك حكمة ونعمة جليلة لأن المكلّف إِذا علم أن أعماله تُحفظ عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ أي حتى إِذا انتهى أجل الإِنسان توفته الملائكة الموكلون بقبض الأرواح والمعنى أن حفظ الملائكة للأشخاص ينتهي عند نهاية الأجل فهم مأمورون بحفظ ابن آدم ما دام حياً فإِذا انتهى أجله فقد انتهى حفظهم له ﴿وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ أي لا يقصّرون في شيءٍ مما أُمروا به من الحفظ والتوفي ﴿ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق﴾ أي ثم يردُّ العباد بعد البعث إِلى الله خالقهم ومالكهم الذي له الحكم والتصرف والذي لا يقضي إِلا بالعدل ﴿أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين﴾ أي نه جل وعلا الحكم وحده يوم القيامة وله الفصل والقضاء لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن، يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا كما ورد به الحديث وروي أنه يحاسب الناس في مقدار حلب شاة ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة من ينقذكم ويخلصكم في أسفاركم من شدائد وأهوال البر والبحر؟ ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ أي تدعون ربكم عند معاينة هذه الأهوال مخلصين له الدعاء مظهرين الضراعة، تضرعاً بألسنتكم وخفية في أنفسكم قال ابن عباس المعنى: تدعون ربكم علانيةً وسرا قائلين ﴿لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي لئن خلّصتنا من هذه الظلمات والشدائد لنكوننَّ من المؤمنين الشاكرين والغرض: إذا خفتم الهلاك دعوتموه فإِذا نجّاكم كفرتموه قال القرطبي: وبّخهم الله في دعائهم إِيّاه عند الشدائد وهم يدعون معه في حالة الرخاء غيره {قُلِ الله
367
يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} أي الله وحده ينجيّكم من هذه الشدائد ومن كل كربٍ وغمّ ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ تقريعٌ وتوبيخ أي ثم أنتم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققه تشركون به ولا تؤمنون ﴿قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة إِنه تعالى قادر على إهلاككم بإِرسال الصواعق من السماء سوما تلقيه البراكين من الأحجار والحُمَم وكالرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح كما فُعل بمن قبلكم ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ بالخسف والزلازل والرجفة كما فُعل بقارون وأصحاب مدين ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ أي يجعلكم فرقاً متحزبين يقاتل بعضكم بعضاً قال البيضاوي: أي يخلطكم فرقاً متحزبين على أهواء شتّى فينشب القتال بينكم وقال ابن عباس: أي يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً، والكل متقارب والغرض منه التوعيد ﴿انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ أي انظر كيف نبيّن ونوضّح لهم الآيات بوجوه العيَر والعظات ليفهموا ويتدبروا عن الله آياته وبراهينه وحججه، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية ﴿قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ﴾ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أعوذ بوجهك ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قال: أعوذ بوجهك ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذه أهون أو أيسر ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق﴾ أي وكذَّب بهذا القرآن قومك يا محمد - وهم قريش - وهو الكتاب المنزّل بالحق ﴿قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أي لستُ عليكم بحفيظ ومتسلّط إنما أنا منذر ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ أي لكل خبرٍ من أخبار الله عَزَّ وَجَلَّ وقتٌ يقع فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ مبالغة في الوعيد والتهديد أي سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا﴾ أي إِذا رأيت هؤلاء الكفار يخوضون في القرآن بالطعن والتكذيب والاستهزاء ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أي لا تجالسهم وقم عنهم حتى يأخذوا في كلامٍ آخر ويدعو الخوض والاستهزاء بالقرآن قال السدي: كان المشركون إِذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن فسبّوه واستهزءوا به فأمرهم الله ألاّ يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان﴾ أي إِن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم فجالستهم ثم تذكرت ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين﴾ أي لا تجلس بعد تذكر النهي مع الكفرة والفسّاق الذين يهزءون بالقرآن والدين قال ابن عباس: أي قم إِذا ذكرت النهي ولا تقعد مع المشركين ﴿وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ أي ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإِضلالهم إِذا تجنبوهم فلم يجسلوا معهم ﴿ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي ولكنْ عليهم أن يذكّروهم ويمنعوهم عمّا هم عليه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير، ويُظهروا لهم الكراهة لعلهم يجتنبون الخوض في القرآن حياءً من المؤمنين إِذا رأوهم قد تركوا مجالستهم قال ابن عطية: تينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية
368
مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً﴾ أي اترك هؤلاء الفجرة الذين اتخذوا الدين الذي كان ينبغي احترامه وتعظيمه لعباً ولهواً باستهزائهم به ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي خدعتهم هذه الحياة الفانية حتى زعموا أن لا حياة بعدها أبداً ﴿وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي وذكّر بالقرآن الناس مخالفة أن تُسْلم نفسٌ للهلاك وتُرهن بسوء عملها ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ أي ليس لها ناصرٌ ينجيها من العذاب ولا شفيع يشفع لها عند الله ﴿وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ﴾ أي وإِن تُعْط تلك النفس كل فدية لا يقبل منها قال قتادة: لو جاءت بملء الأرض ذهباً لم يُقبل منها ﴿أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ﴾ أي أُسلموا العذاب الله بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الشنيعة ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ أي لهؤلاء الضالين شرابٌ من ماء مغليّ يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم، ونارٌ تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم المستمر فلهم مع الشراب الحميم العذاب الأليم والهوان المقيم ﴿قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل لهم يا محمد أنعبد ما لا ينفعنا إِن دعوناه ولا يضرنا إِن تركناه؟ والمراد به الأصنام ﴿وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا﴾ أي نرجع إِلى الضلالة بعد الهدى ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله﴾ أي بعد أن هدانا الله للإِسلام ﴿كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض﴾ أي فيكون مثلنا كمثل الذي اختطفته الشياطين وأضلته وسارت به في المفاوز والمهالك فألقته في هوّة سحيقة ﴿حَيْرَانَ﴾ أي متحيراً لا يدري أين يذهب ﴿لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى ائتنا﴾ أي إِلى الطريق الواضح يقولون ائتنا فلا يقبل منهم ولا يستجيب لهم ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى﴾ أي قل لهؤلاء الكفار إِنَّ ما نحن عليه من الإِسلام هو الهدى وحده وما عداه ضلال ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين﴾ أي أمرنا بأن نستسلم لله عَزَّ وَجَلَّ ونخلص له العبادة في جميع أمورنا وأحوالنا، وهذا تمثيلٌ لمن ضلّ عن الهدى وهو يُدْعى إِلى الإِسلام فلا يُجيب قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله للآلهة ومن يدعو إِليها وللدعاة الذين يدعون إِلى الله، كمثل رجلٍ ضلّ عن الطريق تائهاً ضالاً إِذ ناداه منادٍ يا فلان هلُمَّ إِلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلُمَّ إِلى الطريق، فإِن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة وإِن أجاب من يدعوه إِلى الهدى اهتدى إلى الطريق يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله فإِنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الهَلَكة والندامة ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه﴾ أي وأُمرنا بإِقامة الصلاة وبتقوى الله في جميع الأحوال ﴿وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي تجمعون إِليه يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ أي هو سبحانه الخالق المالك المدبر للسماوات والأرض ومن فيهما خلقهما بالحق ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ﴾ أي واتقوه واتقوا عقابه والشدائد يوم يقول كن فيكون قال أبو حيان: وهذا تمثيلٌ لإِخراج الشيء من العدم إِلى الوجود وسرعته لا أنَّ ثَمَ شيئاً يؤمر ﴿قَوْلُهُ الحق وَلَهُ الملك﴾ أي قوله الصدق الواقع لا محالة وله الملك يوم القيامة ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ أي يوم
369
ينفخ إِسرافيل في الصور النفخة الثانية وهي نخفة الإِحياء ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ أي يعلم ما خفي وما ظهر وما يغيب عن الحواس والأبصار وما تشاهدونه بالليل والنهار ﴿وَهُوَ الحكيم الخبير﴾ أي الحكيم في أفعاله الخبير بشئون عباده.
البَلاَغَة: ١ - ﴿مَفَاتِحُ الغيب﴾ استعار المفاتح للأمور الغيبية كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات قال الزمخشري: مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إِلى ما في المخازن المغلقة بالأقفال، فهو سبحانه العالم بالمغيّبات وحده.
٢ - ﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل﴾ استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال الإِحساس والتمييز.
٣ - ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين﴾ وضع الظاهر موضع المضير «معهم» للتسجيل عليهم بشناعة ما ارتكبوا حيث وضعوا التكذيب والاستهزاء مكان التصديق والتعظيم.
٤ - ﴿وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا﴾ عبّر بالرد على الأعقاب عن الشرك لزيادة تقبيح الأمر وتشنيعه.
٥ - ﴿تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٦ - من المحسنات البديعية الطباق في كلٍ من ﴿رَطْبٍ ويَابِسٍ﴾ و ﴿الليل وَالنهار﴾ و ﴿فَوْقَ وَتَحْتِ﴾ و ﴿يَنفَعُنَا وََيَضُرُّنَا﴾ و ﴿الغيب والشهادة﴾ والسجع في ﴿شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والله أعلم.
تنبيه: قال الحاكم: دلّ قوله تعالى ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب﴾ على بطلان قول الإِمامية: إن الإِمام يعلم شيئاص من الغيب، انتهى أقول: هذا كذب وبهتان لأن الغيب لا يعلمه إِلا الله.
370
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الحجج الدامغة الدالة على التويحيد وبطلان عبادة الأوثان، ذكر هنا قصة أب الأنبياء «إِبراهيم» لإِقامة الحجة على مشركي العرب في تقديسهم الأصنام، فإِنه جاء بالتوحيد الخالص الذي يتنافى مع الإِشراك بالله، وجميع الطوائف والملل معترفةٌ بفضل إِبراهيم وجلالة قدره، ثم ذكر شرف الرسل من أبناء إِبراهيم، وأمر رسوله بالاقتداء بهديهم الكريم.
اللغَة: ﴿مَلَكُوتَ﴾ ملك والواو والتاء للمبالغة في الوصف كالرَّغبوت والرَّهبوت من الرغبة والرهبة ﴿جِنُّ﴾ سترة بظلمته قال الواحدي: جنَّ عليه الليلُ وأجنّه الليل ويقال لكل ما سترته جنَّ وأجنَّ ومنه الجنَّة، والجِنُّ والجنون، والجنين وكل هذا يعود أصله إِلى الستر والاستتار ﴿بَازِغاً﴾ طالعاً يقال: بزغ القمر إِذا ابتدأ في الطلوع قال الأزهري: كأنه مأخوذ من البزغ وهو الشق لأنه بنوره يشق الظلمة شقاً ﴿أفل﴾ غاب يقال: أفل أفولاً إِذا غاب ﴿سُلْطَاناً﴾ حجة ﴿يلبسوا﴾ يخلطوا يقال: لبس الأمر خلطة ولبس الثوب اكتسى به ﴿اجتبيناهم﴾ اصطفيناهم ﴿قَرَاطِيسَ﴾ جمع قرطاس وهو
371
الورق قال الشاعر:
استودعَ العلمَ قرطاساً فضيَّعه... فبئسَ مستودعُ العلم القراطيسُ
﴿غَمَرَاتِ﴾ الغمرة: الشدة المذهلة وأصله من غمرة الماء وهي ما يغطي الشيء ﴿خَوَّلْنَاكُمْ﴾ أعطيناكم وملّكناكم والتحويل: المنح والإِعطاء ﴿ضَلَّ عَنكُم﴾ ضاع وبطل.
سَبَبُ النّزول: «عن سعيد بن جبير أن» مالك بن الصَّيْف «من اليهود جاء يخاصم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أنَّ الله يبغض الحَبْر السمين؟ - وكان حبراً سميناً - فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ....﴾ الآية».
التفِسير: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً﴾ أي واذكر يا محمد لقومك عبدة الاوثان وقت قول إِبراهيم - الذي يدّعون أنهم على ملّته - لأبيه آزر منكراً عليه أتتخذ أصناماً آلهة تعبدها وتجعلها رباً دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك؟ ﴿إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي فأنت وقومك في ضلال عن الحق مبين واضح لا شك فيه ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض﴾ أي نُرى إِبراهيم المُلْك العظيم والسلطان الباهر ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين﴾ أي وليكون من الراسخين في اليقين أريناه تلك الآيات الباهرة قال مجاهد: فُرجت له السماوات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً﴾ أي فلما ستر الليلُ بظلمته كل ضياء رأى كوكباً مضيئاً في السماء هو الزهرة أو المشتري ﴿قَالَ هذا رَبِّي﴾ أي على زعمكم قاله على سبيل الرد عليهم والتوبيخ لهم واستدراجاً لهم لأجل أن يعرفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله قال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إِلى الحق من طريق النظر والاستدلال، ويعرّفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إِلى ألا يكون شيء منها إِلهاً وأن وراءها محدثاً أحدثها، ومدبراً دبّر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وقوله ﴿هذا رَبِّي﴾ قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطلٌ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأن ذلك أدعى إِلى الحق ثم يكرُّ عليه فيبطله بالحجة ﴿فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين﴾ أي فلما غاب الكوكب قال لا أحب عبادة من كان كذلك، لأن الرب لا يجوز عليه التغيّر والانتقال لأن ذلك من صفات الأجرام ﴿فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي﴾ أي فلما رأى القمر طالعاً منتشر الضوء قال هذا ربي على الأسلوب المتقدم لفتاً لأنظار قومه إِلى فساد ما يعبدونه وتسفيهاً لأحلامهم ﴿فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين﴾ أي فلما غاب القمر قال إِبراهيم لئن لم يثبتني ربي هلى الهدى لأكوننَّ من القوم الضالين، وفيه تعريضٌ لقومه بأنهم على ضلال ﴿فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ﴾ أي هذا أكبر من الكوكب والقمر {فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا
372
تُشْرِكُونَ} أي فلما غابت الشمس قال أنا بريء من إشراككم وأصنامكم قال أبو حيان: لّما أوضح لهم أن هذا الكوكب الذي رآه لايصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ فرأى القمر أول طلوعه، ثم لما غاب ارتقب الشمس إِذ كانت أنور من القمر وأضوأ، وأكبر جرماً وأعم نفعاً، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبيّن أنها مساوية للنجم في صفة الحدوث وقال ابن كثير: والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والكواكب السيارة وأشدهن إضاءة الشمس ثم القمر ثم الزهرة فلما انتفت الإِلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع ﴿قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أي قصدت بعبادتي وتوحيدي ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض﴾ أي الله الذي اتبدع العالم وخلق السماوات والأرض ﴿حَنِيفاً﴾ أي مائلاً عن الأديان الباطلة إِلى الدين الحق ﴿وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ أي لست ممن يعبد مع الله غيره ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ﴾ أي جادلوه وناظروه في شأن التوحيد قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم وخوّفوه بها فأجابهم منكراً عليهم ﴿قَالَ أتحاجواني فِي الله﴾ أي أتجادلونني في وجود الله ووحدانيته ﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ أي وقد بصّرني وهداني إِلى الحق ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ أي لا أخاف هذه الآلهة المزعومة التي تعبدونها من دون الله لأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع وليست قادرة على شيء مما تزعمون ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً﴾ أي إِلا إِذا أراد ربي أن يصيبني شيءٌ من المكروه فيكون ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ أي أحاط علمه بجميع الأشياء ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ استفهام للتوبيخ أي أفلا تعتبرون وتتعظون؟ وفي هذا تنبيهٌ لهم على غفلتهم التامة حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع وأشركوا مع ظهور الدلائل الساطعة على وحدانيته سبحانه ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ﴾ أي كيف أخاف آلهتكم التي أشركتموها مع الله في العبادة! ﴿وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً﴾ أي وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء الذي أشركتم به بدون حجة ولا برهان ﴿فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي أيّنا أحقُّ بالأمن أنحن وقد عرفنا الله بأدلة وخصصناه بالعبادة أم أنتم وقد أشركتم معه الأصنام وكفرتم بالواحد الديان؟ ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ أي لم يخلطوا إِيمانهم بشرك ﴿أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾ أي لهم الأمن من العذاب وهم على هداية ورشاد،
373
روي أن هذه الآية لما نزلة أشفق منها أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ليس كما تظنون وإِنما هو كما قال لقمان لابنه
﴿يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ﴾ الإِشارة إِلى ما تقدم من الحجج الباهرة التي أيّد الله بها خليله عليه السلام أي هذا الذي احتج به إِبراهيم على وحدانية الله من أفول الكواكب والشمس والقمر من أدلتنا التي أرشدناه لها لتكون له الحجة الدامغة على قومه ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾ أي بالعلم والفهم والنبوّة ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ أي حكيم يضع الشيء في محله عليم لا يخفى عليه شيء ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ أي وهبنا لإِبراهيم ولداً وولد ولد لتقر عينه ببقاء العقب ﴿كُلاًّ هَدَيْنَا﴾ أي كلاً منهما أرشدناه إِلى سبيل السعادة وآتيناه النبوة والحكمة قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإِبراهيم إِسحق بعد أن طعن في السنّ وأيس من الولد، وبُشّر بنبوته وبأن له نسلاً وعقباً وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وكان هذا مجازاةً لإِبراهيم حين اعتزل قومه وهاجر من بلادهم لعبادة الله، فعوّضه الله عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه لتقرَّ بهم عينه ﴿وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل إِبراهيم، وذكر تعالى نوحاً لأنه أب البشر الثاني فذكر شرف أبناء إِبراهيم ثم ذكر شرف آبائه ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ أي ومن ذرية إِبراهيم هؤلاء الأنبياء الكرام، وبدأ تعالى بذكر داود وسليمان لأنهما جمعا الملك مع النبوة وسليمان بن داود فذكر الأب والإِبن ﴿وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ﴾ قرنهما لاشتراكهما في الامتحان والبلاء ﴿وموسى وَهَارُونَ﴾ قرنهما لاشتراكهما في الأخوّة وقدَّم موسى لأنه كليم الله ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي مثل ذلك الجزاء الكريم لإِبراهيم نجزي من كان محسناً في عمله صادقاً في إِيمانه ﴿وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ﴾ قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإِعراض عن الدنيا ﴿كُلٌّ مِّنَ الصالحين﴾ أي الكاملين في الصلاح ﴿وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً﴾ اسماعيل هو ابن إِبراهيم، ويونس بن متّى، ولوط بن هاران وهو ابن أخ إِبراهيم ﴿وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين﴾ أي كلاً من هؤلاء المذكورين في هذه الآية فضلناه بالنبوة على عالمي عصرهم ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم جماعاتٍ كثيرة ﴿واجتبيناهم وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي اصطفيناهم وهديناهم إِلى الطريق الحق المستقيم الذي لا عوج فيه قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إِلى ذرية إِبراهيم وإِن كان فيهم من لا يلحقه بولادةٍ من قبل أمٍ ولا أب ﴿ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي ذلك الهدى إِلى الطريق المستقيم هو هدى الله يهدي به من أراد من خلقه ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو قدرهم لبطل عملهم فكيف بغيرهم؟ ﴿أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة﴾ أي أنعمنا عليهم بإِنزال الكتب السماوية والحكمة الربانية والنبوة والرسالة ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أي فإِن يكفر
374
بآياتنا كفار عصرك يا محمد فقد استحفظناها واسترعيناها رسلنا وأنبياءنا ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ أي هؤلاء الرسل المتقدم ذكرهم هم الهداة المهديّون فتأس واقتد بسيرتهم العطرة ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي قل يا محمد لقومك لا أسألكم على تبليغ القرآن شيئاً من الأجر والمال ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ﴾ أي ما هذا القرآن إِلا عظةٌ وتذكير لجميع الخلق ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي ما عرفوا الله حق معرفته ولا عظّموه حقَّ تعظيمه ﴿إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ أي حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل، والقائلون هم اليهود للعناء تفوهوا بهذه العظيمة الشنْعاء مبالغة في إِنكار نزول القرآن على محمد عليه السلام ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين من أنزل التوراة على موسى نوراً يستضاء به وهداية لبني إِسرائيل؟ ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾ أي تكتبونه في قراطيس مقطعة وورقات مفرقة تبدون منها ما تشاءون وتخفون ما تشاءون قال الطبري: ومما كانوا يكتمونه إِياهم ما فيها من أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونبوته ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ﴾ أي عُلّمتم يا معشر اليهود من دين الله وهدايته في هذا القرآن ما لم تعلموا به من قبل لا أنتم ولا آباؤكم ﴿قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ أي قل لهم في الجواب: الله أنزل هذا القرآن ثم اتركهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يهزءون ويلعبون، وهذا وعيدٌ لهم وتهديد على إِجرامهم ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ أي وهذا القرآن الذي أُنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبارك كثير النفع والفائدة ﴿مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي يصدّق كتب الله المنزّلة كالتوراة والإِنجيل ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أي لتنذر به يا محمد أهل مكة ومن حولها سائر أهل الأرض قاله ابن عباس ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي والذين يصدّقون بالحشر والنشر يؤمنون بهذا الكتاب ما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد ﴿وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل في أوقاتها قال الصاوي: خصّ الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء وأنداداً ﴿أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ أي زعم أن الله بعثه نبياً كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي مع أن الله لم يرسله ﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله﴾ أي ومن ادعى أنه سينظم كلاماً يماثل ما أنزله الله كقوله الفجار
﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا﴾ [الأنفال: ٣١] قال أبو حيان: نزلت في النضر بن الحارث ومن معه من المستهزئين لأنه عارض القرآن بكلام سخيف لا يُذكر لسخفه ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ أي ولو ترى يا محمد هؤلاء الظلمة وهم في سكرات الموت وشدائده، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً عظيماً ﴿والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ﴾ أي وملائكة العذاب يضربون
375
وجوههم وأدبارهم لتخرج أرواحهم من أجسادكم، وهذه عبارة عن العنف في السياق والإِلحاح الشديد في الإِزهاق من غير تنفيس وإِمهال ﴿اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾ أي تُجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد مع الخزي الأكيد ﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق﴾ أي بافترائكم على الله ونسبتكم إِليه الشريك والولد ﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي تتكبرون عن الإِيمان بآيات الله فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي جئتمونا للحساب منفردين عن الأهل والمال والولد حفاةً عراة غرلاً كما ورد في الحديث «أيها الناس إِنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده..» ﴿وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ أي تركتم ما أعطيناكم من الأموال في الدنيا فلم تنفعكم في هذا اليوم العصيب ﴿وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ﴾ أي وما نرى معكم آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم والذين اعتقدتم أنهم شركاء لله في استحقاق العبادة ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ أي تقطّع وصلكم وتشتّت جمعكم ﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أي ضاع وتلاشى ما زعمتوه من الشفعاء والشركاء.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ﴾ حكاية حال ماضية أي أريناه.
٢ - ﴿لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين﴾ فيه تعريض بضلال قومه، وبين لفظ ﴿الهداية والضلالة﴾ طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
٣ - ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٤ - ﴿هُدَى الله﴾ الإِضافة للتشريف وبين ﴿هُدَى﴾ و ﴿يَهْدِي﴾ جناس الاشتقاق أيضاً.
٥ - ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ مبالغة في إِنكار نزول شيء من الوحي على أحدٍ من الرسل.
٦ - ﴿مَنْ أَنزَلَ الكتاب﴾ استفهام للتبكيت والتوبيخ.
٧ - ﴿تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ﴾ بينهما طباق.
٨ - ﴿أُمَّ القرى﴾ مكة المكرمة وفيه استعارة حيث شبهت بالأم لأنها أصل المدن والقرى.
٩ - ﴿فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ قال الشريف الرضي: هذه استعارة عجيبة حيث شبه سبحانه ما يعتورهم من كُرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه وسميت غمرة لأنها تغمر قلب الإِنسان.
تنبيه: ذهب بعض المفسرين إِلى أن ﴿آزَرَ﴾ عم إِبراهيم وليس أباه وقال آخرون: إنه اسم
376
للصنم، والصحيح كما قال المحققون من المفسرين أنه اسم لوالد إِبراهيم وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والآية صريحة في أن آزر كان كافراً ولا يقدح ذلك في مقام إِبراهيم عليه السلام وفي صحيح البخاري «يلقى إِبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة..» الحديث ودعوى إِيمانه مرفوضة بنص الكتاب والسنة والله أعلم.
377
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أمر التوحيد وأردفه بتقرير أمر النبوة، ذكر هنا الأدلة الدالة على وجود الخالق وكمال علمه وقدرته وحكمته، تنبيهاً على أن المقصود الأصلي إنما هو معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله.
اللغَة: ﴿فَالِقُ﴾ الفلق: الشقُّ، وانفلق الصبح انشق ﴿سَكَناً﴾ السَّكن ما يسكن إليه الإِنسان ويأنس به، والسَّكن: الرحمة ﴿حُسْبَاناً﴾ أي بحساب قال الزمخشري: الحُسبان مصدر حَسَب كما
377
أن الحِسْبان مصدر حَسِب ونظيره الكُفران والشُكران ﴿مُّتَرَاكِباً﴾ بعضه فوق بعض ﴿قِنْوَانٌ﴾ جمع قِنْو وهو العِذِقُ أي عنقود النخلة ﴿وَيَنْعِهِ﴾ أي نُضْجه وإدراكه يقال: يَنَعت الشجرةُ وأيْنعتْ إذا نضجت ﴿خَرَقُواْ﴾ اختلقوا كذباً وإِفكاً ﴿بَدِيعُ﴾ مبدع وهو الخالق على غير مثال سابق، والإِبداع الإِتيان بشيء لم يُسبق إليه ولهذا يقال لمن أتى في فنّ من الفنون لم يسبقه فيه غيره إنه أبدع ﴿نُصَرِّفُ﴾ التصريف: نقل الشيء من حال إلى حال.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: قال كفار قريش لأبي طالب إمّا أن تنهى محمداً وأصحابه عن سب آلهتنا والنَّيل منها وإِمّا أن نسب إِلهه ونهجوه فنزلت ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ... ﴾ الآية وفي رواية أخرى أن المشركين قالوا يا محمد: لتنتهينّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك فنزلت.
التفِسير: عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع ولطائف التدبير فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى﴾ أي يفلق الحبَّ تحت الأرض لخروج النبات منها ويفلق النوى لخروج الشجر منها قال القرطبي: أي يشق النواة الميتة فيُخرج منها ورقاً أخضر وكذلك الحبة ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ أي يخرج النبات الغضِّ الطريّ من الحبّ اليابس، ويخرج الحبَّ اليابس من النبات الحيّ النامي عن ابن عباس: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وعلى هذا فالحي والميت استعارة عن المؤمن والكافر ﴿ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي ذلكم الله الخالق المدبر فكيف تُصرفون عن الحق بعد هذا البيان ﴿ {فَالِقُ الإصباح﴾ أي شاقُّ الضياء عن الظلام وكاشفه قال الطبري: شقَّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده ﴿وَجَعَلَ الليل سَكَناً﴾ أي يسكن الناس فيه عن الحركات ويستريحون ﴿والشمس والقمر حُسْبَاناً﴾ أي بحساب دقيق يتعلق به مصالح العباد، ويُعرف بهما حساب الأزمان والليل والنهار ﴿ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم تقدير الغالب القاهر الذي لا يستعصي عليه شيء العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ أي خلق لكم النجوم لتهتدوا بها في أسفاركم في ظلمات الليل في البر والبحر، وإنما امتنّ عليهم بالنجوم لأن سالكي القفار، وراكبي البحار إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أبي بيّنا الدلائل على قدرتنا لقوم يتدبرون عظمة الخالق ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي خلقكم وأبدعكم من نفسٍ واحدة هي آدم عليه السلام ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ قال ابن عباس: المستقرُّ في الأرحام والمستودع في الأصلاب، أي لكم استقرار في أرحام أمهاتكم وأصلاب آبائكم، وقال ابن مسعود: مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ
378
يَفْقَهُونَ} أبي بينا الحجج لقوم يفقهون الأسرار والدقائق قال الصاوي: عبّر هنا ب ﴿يَفْقَهُونَ﴾ إشارة إلى أن أطوار الإِنسان وما احتوى عليه أمرٌ خفيٌّ تتحير فيه الألباب، بخلاف النجوم فأمرها ظاهر مشاهد، ولذا عبّر فيها ب ﴿يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي أنزل من السحاب المطر فأخرج به كل ما ينبتُ من الحبوب والفواكه والثمار والبقول والحشائش والشجرَ قال الطبري: أي أخرجنا به ما ينبتُ به كل شيء وينمو عليه ويصلح ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً﴾ أي أخرجنا من النبات شيئاً غضّاً أخضر ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً﴾ أي نُخرج من الخضر حباً متراكباً بعضُه فوق بعض كسنابل الحنطة والشعير قال ابن عباس: يريد القمح والشعير والذرة والأرز ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ أي وأخرجنا من طلع النخل - والطلعُ أول ما يخرج من التمر في أكمامه - عناقيد قريبة سهلة التناول قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلّت من الطلع دانيةً ممن يجتنيها ﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ أي وأخرجنا بالماء بساتين وحدائق من أعناب ﴿والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ أي وأخرجنا به أيضاً شجر الزيتون وشجر الرمان مشتبهاً في المنظر وغير متشابه في الطعم قال قتادة: مشتبهاً ورقُه مختلفاً ثمرُه، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار العليم القدير ﴿انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ أي انظروا أيها الناس نظر اعتبار واستبصار إلى خروج هذه الثمار من ابتداء خروجها إلى انتهاء ظهورها ونضجها كيف تنتقل من حال إلى حال في اللون والرائحة والصغر والكبر، وتأملوا ابتداء الثمر حيث يكون بعضه مراً وبعضه مالحاً لا يُنتفع بشيء منه، ثم إذا انتهى ونضج فإنه يعود حلواً طيباً نافعاً مستساغ المذاق} فسبحان القدير الخلاّق!! ﴿إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي إن في خلق هذه الثمار والزروع مع اختلاف الأجناس والأشكال والألوان لدلائل باهرة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يصدّقون بوجود الله قال ابن عباس: يصدّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾ أي وجعلوا الجنَّ شركاء لله حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ أي وقد عملوا أنه تعالى هو الذي خلقهم وانفرد بإيجادهم فكيف يجعلونهم شركاء له؟ وهذه غاية الجهالة ﴿وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي واختلقوا ونسبوا إليه تعالى البنين والبنات حيث قالوا: عزيرٌ ابن الله والملائكة بناتُ الله سفهاً وجهالة ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزّه الله وتقدس عن هذه الصفات التي نسبها إليه الظالمون وتعالى علواً كبيراً ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض﴾ أي مبدعهما من غير مثالٍ سبق ﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ﴾ أي كيف يكون له ولد وليس له زوجة؟ والولد لا يكون إلا من زوجة ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي وما من شيء إلا هو خالقه والعالم به ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء قال في التسهيل: والغرض الرد على من نسب لله الولد من وجهين: أحدهما أن الولد لا يكون إلا من جنس والده والله تعالى متعالٍ عن الأجناس لأنه مبدعها فلا يصح أن يكون له ولد، والثاني: أن الله خلق السماوات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء
379
ثم أكّد تعالى على وحدانيته وتفرده بالخلق والإيجاد فقال ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي ذلكم الله خالقكم ومالككم ومدبّر أموركم لا معبود بحق سواه ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه﴾ أي هو الخالق لجميع الموجودات ومن كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ أي وهو الحافظ والمدبر لكل شيء ففوّضوا أموركم إليه وتوسلوا إليه بعبادته ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ أي لا تصل إليه الأبصار ولا تحيط به وهو يراها ويحيط بها لشمول علمه تعالى للخفيات ﴿وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ أي اللطيف بعباده الخبير بمصالحهم قال ابن كثير: ونفيُ الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة إذ يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس فلا تدركه الأبصار ولهذا كانت عائشة تثبت الرؤية في الآخرة وتنفيها في الدنيا وتحتج بهذه الآية ﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ أي قد جاءكم البينات والحجج التي تُبصرون بها الهدى من الضلال وتميزون بها بين الحق والباطل قال الزجاج: المعنى قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ قال الزمخشري: المعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإيّاها نفع ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإيّاها ضرَّ بالعمى ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي لست عليكم بحافظ ولا رقيب وإنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم ﴿وكذلك نُصَرِّفُ الآيات﴾ أي وكما بينا ما ذُكر نبيّن الآيات ليعتبروا ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ أي وليقول المشركون درست يا محمد في الكتب وقرأت فيها وجئتَ بهذا القرآن واللامُ لامُ العاقبة ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه ﴿اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ أي اتبع يا محمد القرآن الذي أوحاه الله إليك قال القرطبي: أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم بل اشتغل بعبادة الله ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود بحقٍ إلا هو ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين﴾ أي لا تحتفل بهم ولا تلتفت إلى آرائهم ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ﴾ أي لو شاء الله هدايتهم لهداهم فلم يشركوا ولكنه سبحانه يفعل ما يشاء
﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣] ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ أي وما جعلناك رقيباً على أعمالهم تجازيهم عليها ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ أي ولستَ بموكل على أرزاقهم وأمورهم قال الصاوي: وهذا تأكيد لما قبله أي لستَ حفيظاً مراقباً لهم فنجبرهم على الإِيمان وهذا كان قبل الأمر بالقتال ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم ﴿فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي فيسبوا الله جهلاً واعتداءً لعدم معرفتهم بعظمة الله قال ابن عباس: قال المشركون: لتنتهينَّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك فنهاهم الله أن يسبّوا أوثانهم ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ أي كما زينّا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينّا لكل أمةٍ عملهم قال ابن عباس: زينّا لأهل الطاعة الطاعة ولأهل الكفر الكفرَ ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ثم معادهم ومصيرهم إلى الله فيجازيهم بأعمالهم، وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب {
380
وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف كفار مكة بأغلظ الأيمان وأشدها ﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ أي لئن جاءتهم معجزة أو أمر خارقٌ مما اقترحوه ليؤمننَّ بها ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾ أي قل لهم يا محمد أمر هذه الآيات عند الله لا عندي هو القادر على الإتيان بها دوني ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي وما يدريكم أيها المؤمنون لعلها إذا جاءتهم لا يصدقون بها!! ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي ونحوّل قلوبهم عن الإِيمان كما لم يؤمنوا بما أُنزل من القرآن أول مرة قال الصاوي: وهو استئناف مسوقٌ لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله لا غيره فمن أراد له الهدى حوّل قلبه له، ومن أراد الله شقاوته حوّل قلبه لها ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ونتركهم في ضلالهم يتخبطون ويتردّدون متحيرين.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ بين لفظ الحيّ والميت طباقٌ وهو من المحسنات البديعية وفي الآية أيضاً من المحسنات ما يسمى ردّ العجز على الصدر في قوله ﴿وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾.
٢ - ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا وجه لصرفكم عن الإِيمان بعد قيام البرهان.
٣ - ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ فيه التفاتٌ عن الغيبة والأصل فأخرج به والنكتة هي الاعتناء بشأن المُخْرج والإِشارة إلى أنَّ نِعَمَه عظيمة.
٤ - ﴿والزيتون والرمان﴾ من عطف الخاص على العام المزيد الشرف لأنهما من أعظم النعم.
٥ - ﴿بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ مجاز مرسل من باب تسمية المسبب باسم السبب أي حجج وبراهين تبصرون بها الحقائق.
٦ - ﴿أَبْصَرَ عَمِيَ﴾ طباق وبين لفظ ﴿بَصَآئِرُ أَبْصَرَ﴾ جناس الاشتقاق.
تنبيه: قوله تعالى ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ الآية نفت الإِحاطة ولم تنف الرؤية فلم يقل تعالى: لا تراه الأبصار فمن ذهب إلى عدم رؤية الله في الآخرة كالمعتزلة فقد جانب الحق وضلّ السبيل بمخالفة ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المتواترة أما الكتاب فقوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] وأما السنة فما أخرجه البخاري «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته..» الحديث وكفى بالكتاب والسنة دليلاً وهادياً.
381
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى دلائل التوحيد والنبوّة والبعث، واقتراح المشركين بعض الآيات على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ذكر هنا أن رؤية المعجزات لن تفيد من عميت بصيرته، وأنه لو أتاهم بالآيات التي اقترحوها من إِنزال الملائكة، وإِحياء الموتى حتى يكلموهم، وحشر السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول ما آمنوا بمحمد والقرآن لتأصلهم في الضلال.
اللغَة: ﴿قُبُلاً﴾ مقابلة ومواجهة ومنه قولهم أتيتُك قُبُلاً لا دُبُراً أي من قِبَل وجهك ﴿وَحَشَرْنَا﴾ الحشر: الجمع مع سوقٍ وكل جمعٍ حشرٌ ومنه ﴿فَحَشَرَ فنادى﴾ [النازعات: ٢٣]. ﴿زُخْرُفَ﴾ قال الزجاج: الزخرف الزينة وقال أبو عبيدة: كلُّ ما حسنته وزينته وهو باطل فهو زخرف ﴿ولتصغى﴾ صغى إِلى الشيء مال إِليه ومثله أصغى وفي الحديث «فأصغى إليها الإِناء» وأصله الميل ﴿يَقْتَرِفُونَ﴾ اقترف: اكتسب وأكثر ما يكون في الشر يقال: قرف الذنبَ واقترفه أي اكتسبه ﴿يَخْرُصُونَ﴾ يكذبون قال الأزهري: أصله
382
الظن فيما لا يستيقن ﴿صَغَارٌ﴾ ذلة وهوان ﴿يَشْرَحْ﴾ يوسّع والشرح: البسط والتوسعة ﴿حَرَجاً﴾ الحَرج: شدة الضيق قال ابن قتيبة: الحَرج الذي ضاق فلم يجد منفذاً.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن أبا جهل رمى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفرث - وحمزة لم يؤمن من بعد - فأُخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس قال أبو جهل: أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا، وسبب آلهتنا، وخالف آباءنا قال حمزة: ومن أسفهُ منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فأنزل الله ﴿مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى﴾ هذا بيانّ لكذب المشركين في أيمانهم الفاجرة حين أقسموا ﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ﴾ [الأنعام: ١٠٩] والمعنى: ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه من آيةٍ واحدة من الآيات بل نزلنا إِليهم الملائكة وأحيينا لهم الموتى فكلموهم وأخبروهم بصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما اقترحوا ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾ أي وجمعنا لهم كل شيء من الخلائق عياناً ومشاهدة ﴿مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ أي لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها وكل آية لم يؤمنوا إِلا أن يشاء الله، والغرضُ التيئيسُ من إِيمانهم ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثر هؤلاء المشركين يجهلون ذلك قال الطبري: أي يجهلون أن الأمر بمشيئة الله، يحسبون أن الإِيمان إِليهم والكفر بأيديهم متى شاءوا آمنوا، ومتى شاءوا كفروا، وليس الأمر كذلك، ذلك بيدي لا يؤمن منهم إِلا من هديتُه لو فوقته، ولا يكفر إِلا من خذلتُه فأضللتُه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن﴾ أي كما جعلنا هؤلاء المشركين أعداءك يعادونك ويخالفونك كذلك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء من شياطين الإِنس والجن، فاصبر على الأذى كما صبروا قال ابن الجوزي: أي كما ابتليناك بالأعداء ابتلينا من قبلك من الأنبياء ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾ أي يوسوس بعضهم إِلى بعض بالضلال والشر ﴿زُخْرُفَ القول غُرُوراً﴾ أي يوسوسون بالكلام المزيّن والأباطيل المموّهة ليغروا الناس ويخدعوهم قال مقاتل: وكَلَ إِبليسُ بالإِنس شياطينَ يُضلونهم فإِذا التقى شيطان الإِنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إِني أضللتُ صاحبي بكذا وكذا فأضللْ أنتَ صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحيُ بعضهم إِلى بعض ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أي لو شاء الله ما عادى هؤلاء أنبياءهم ولكنَّ حكمة الله اقتضت هذا الابتلاء قال ابن كثير: وذلك كله بقدر الله وقضائه وإِرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدوٌ من هؤلاء ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ أي اتركهم وما يدبرونه من المكائد فإن الله كافيك وناصرُكَ عليهم ﴿ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي ولتميل إِلى هذا القول المزخرف قلوبُ الكفرة
383
الذين لا يصدّقون بالآخرة ﴿وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾ أي وليرضوا بهذا الباطل وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام ﴿أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً﴾ أي قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب قاضياً بيني وبينكم؟ قال أبو حيان: قال مشركو قريش لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجعلْ بيننا وبينك حكماً إِن شئتَ من أحبار اليهود أو النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت ﴿وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً﴾ أي أنزل إِليكم القرآن بأوضح بيان، مفصَّلاً فيه الحق والباطل موضّحاً الهدى من الضلال ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق﴾ أي وعلماء اليهود والنصارى يعلمون حق العلم أن القرآن حقً لتصديقه ما عندهم ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي فلا تكوننَّ من الشاكين قال أبو السعود: وهذا من باب التهييج والإِلهاب وقيل: الخطاب للرسول والمراد به الأمة ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ أي تمَّ كلام الله المنزّل فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أي لا مغيّر لحكمه ولا رادَّ لقضائه ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي السميع لأقوال العباد العليم بأحوالهم ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي إِن تطع هؤلاء الكفار وهم أكثر أهل الأرض يضلّوك عن سبيل الهدى قال الطبري: وإِنما قال ﴿أَكْثَرَ مَن فِي الأرض﴾ لأنهم كانوا حينئذٍ كفاراً ضُلاّلاً والمعنى: لا تطعهم فيما دعوك إِليه فإِنك إِن أطعتهم ضللتَ ضلالهم وكنت مثلهم لأنهم لا يدعونك إِلى الهدى وقد أخطأوه ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ أي ما يتبعون في أمر الدين إِلا الظنون والأوهام يقلّدون آباءهم ظناً منهم أنهم كانوا على الحق وما هم إِلا قومٌ يكذبون ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي إِن ربك يا محمد أعلم بالفريقين بمن ضلّ عن سبيل الرشاد وبمن اهتدى إلى إلى طريق الهدى والسداد قال في البحر: وهذه الجملة خبريةٌ تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدى كناية عن مجازاتهما ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ أي كلوا مما ذبحتم وذكرتم اسم الله عليه إِن كنتم حقاً مؤمنين قال ابن عباس: قال المشركون للمؤمنين إِنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله - يريدون الميتة - أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم فنزلت الآية ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله﴾ أي وما المانع لكم من أكل ما ذبحتموه بأيديكم بعد أن ذكرتم اسم ربكم عليه عند ذبحه؟ ﴿عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ﴾ أي وقد بيَّن لكم ربكم الحلال والحرام ووضّح لكم ما يحرم عليكم من الميتة والدم الخ في آية المحرمات إلا في حالة الاضطرار فقد أحلّ لكم ما حرّم أيضاً فما لكم تستمعون إِلى الشبهات التي يثيرها أعداؤكم الكفار؟ ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي وإِن كثيراً من الكفار المجادلين ليُضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام بغير شرعٍ من الله بل بمجرد الأهواء والشهوات ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين﴾ أي المجاوزين الحدَّ في الاعتداء فيحلّلون ويحرمون بدون دليل شرعي من كتاب أو سنّة، وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لمن اعتدى حدود الله ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ أي اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها وسرَّها وعلانيتها قال مجاهد: هي المعصية في السر والعلانية وقال
384
السدي: ظاهره الزنى مع البغايا وباطنه الزنى مع الصدائق والأخدان ﴿إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾ أي يكسبون الإِثم والمعاصي ويأتون ما حرّم الله سيلقون في الآخرة جزاء ما كانوا يكتسبون ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ أي لا تأكلوا أيها المؤمنون ممَّا ذُبح لغير الله أو ذكر اسم غير الله عليه كالذي يذبح للأوثان ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي وإِن الأكل منه لمعصيةً وخروجٌ عن طاعة الله ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ أي وإِن الشياطين ليوسوسون إِلى المشركين أوليائهم في الضلال لمجادلة المؤمنين بالباطل في قولهم: أتأكلون ممّا قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله؟ يعني الميتة ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ أي وإِن أطعتم هؤلاء المشركين في استحلال الحرام وساعدتموهم على أباطيلهم إِنكم إِذاً مثلهم قال الزمخشري: لأن من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به، ومن حق ذي البصيرة في دينه ألا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان للتشديد العظيم ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ قال أبو حيان: لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثَّل تعالى بأن شبّه المؤمن بالحيّ الذي له نور يتصرف به كيفما سلك، والكافر بالمتخبط في الظلمات المستقر فيها ليظهر الفرق بين الفريقين والمعنى: أو من كان بمنزلة الميت أعمى البصيرة كافراً ضالاً، فأحيا الله قلبه بالإِيمان، وأنقذه من الضلالة بالقرآن ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس﴾ أي وجعلنا مع تلك الهداية النور العظيم الوضاء الذي يتأمل به الأشياء فيميز به بين الحق والباطل ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ أي كمن هو يتخبط في ظلمات الكفر والضلالة لا يعرف المَنْفذ ولا المخْلص؟ قال البيضاوي: وهو مَثلٌ لمن بقي في الضلالة لا يفارقها بحال ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي وكما بقي هذا في الظلمات يتخبّط فيها كذلك حسناً للكافرين وزينا لهم ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي ﴿وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا في كل بلدةٍ مجرميها من الأكابر والعظماء ليفسدوا فيها قال ابن الجوزي: وإِنما جعل الأكابر فُسَّاق كل قرية لأنهم أقربُ إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي وما يدرون أن وبال هذا المكر يحيق بهم ﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ﴾ أي وإِذا جاءت هؤلاء المشركين حجةٌ قاطعة وبرهانٌ ساطع على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا لن نصدّق برسالته حتى نُعطى من المعجزات مثل ما أُعطي رسُل الله، قال في البحر: وإِنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ولو كانوا موقنين غير معاندين لاتبعوا رسل الله تعالى، وروي أن أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد منافٍ في الشرف حتى إِذا صرنا كفَرَسيْ رهان قالوا: منّا نبيٌ يُوحى إِليه! والله لا نرضي به ولا نتبعه أبداص إِلا أن يأتينا وحيٌ كما يأتيه فنزلت الآية ﴿الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ أي الله أعلم من هو أهلٌ للرسالة فيضعها فيه وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ
385
بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} أي سيصيب هؤلاء المجرمين الذل والهوان، والعذاب الشديد يوم القيامة بسبب استكبارهم ومكرهم المستمر قال في البحر: وقدَّم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع الرسول وتكبّروا طلباً للعزّ والكرامة فقوبلوا بالهوان والذل أولاً ثم بالعقاب الشديد ثانياً ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ أي من شاء الله هدايته قذف في قلبه نوراً فينفسح له وينشرح وذاك علامة الهداية للإِسلام قال ابن عباس: معناه يوسّع قلبه للتوحيد والإِيمان، وحين سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن هذه الآية قال: إِذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: الإِنابة إِلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ أي ومن يرد شقاوته وإِضلاله ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ أي يجعل صدره ضيّقاً شديد الضيق لا يتسع لشئ من الهدى، ولا يخلص إِليه شئ من الإِيمان قال عطاء: ليس للخير فيه منفذ ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء﴾ أي كأنما يحاول الصعود إِلى السماء ويزاول أمراً غير ممكن قال ابن جرير: وهذا مثلٌ ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإِيمان إِليه، مثلُ امتناعه من الصعود إِلى السماء وعجزه عنه لأنه ليس في وسعه ﴿كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي مثل جعل صدر الكافر شديد الضيق كذلك يلقي الله العذاب والخذلان على الذين لا يؤمنون بآياته قال مجاهد: الرجسُ كل ما لا خير فيه وقال الزجاج: الرجس اللعنةُ في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً﴾ أي وهذا الدين الذي أنت عليه يا محمد هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه فاستمسك ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي بينا ووضحنا الآيات والبراهين لقوم يتدبرون بعقولهم ﴿لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهؤلاء الذين يؤمنون ويعتبرون وينتفعون بالآيات دار السلام أي السلامة من المكاره وهي الجنة في نُزل الله وضيافته ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي هو تعالى حافظهم وناصرهم ومؤيدهم جزاءً لأعمالهم الصالحة قال ابن كثير: وإِنما وصف تعالى الجنة هنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إِلى دار السلام.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ﴾ التعرض لوصف الربوبية والإِضافة إِلى ضميره عليه السلام ﴿رَبُّكَ﴾ لتشريف مقامه وللمبالغة في اللطف في التسلية.
٢ - ﴿الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين﴾ [آل عمران: ٦٠] الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على طريق التهييج والإِلهاب.
٣ - ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي تمَّ كلامه ووحيه أطلق الجزء وأراد الكل فهو مجاز مرسل.
٤ - ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ بين لفظ ﴿ظاهر﴾ و ﴿باطن﴾ طباقٌ.
٥ - ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ الموت والحياة، والنور والظلمة كلها من باب الاستعارة فقد
386
استعار الموت للكفر والحياة للإِيمان وكذلك النور والظلمات للهدى والضلال.
٦ - ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ الشرح كناية عن قبول النفس للحق والهدى الذي جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين لفظ الشرح والضيق طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
فائِدَة: الحكم أبلغ من الحاكم وأدلُّ على الرسوخ لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرّر منه الحكم بخلاف الحاكم.
تنبيه: قال الرازي: دلّت هذه الآية ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قولٌ بمحض الهوى والشهوة، والآية دلّت على أن ذلك حرام.
387
المنَاسَبَة: لما ذكر سبحانه أن البشر فريقان: مهتد وضال، وذكر أن منهم من شرح الله صدره وأنار قلبه فآمن واهتدى، ومنهم من اتبع الهوى وسار بقيادة الشيطان فضلً وغوى، ذكر هنا أنه سيحشر الخلائق جميعاً يوم القيامة للحساب، لينال كلٌّ جزاءه العادل على ما قدّم في هذه الحياة.
اللغَة: ﴿مَثْوَاكُمْ﴾ مأواكم يقال ثوى بالمكان إِذا أقام فيه ﴿يَقُصُّونَ﴾ يحكون يقال قصًّ الخبر يقصُّه قصاً أي حكاه ﴿ذَرَأَ﴾ خلق ﴿الحرث﴾ الزرع ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ الإِرداء: الإِهلاك يقال أرادهُ يرديه أي أهلكه ﴿حِجْرٌ﴾ الحِجر: الحرام وأصله المنع يقال حجره أي منعه والحِجْر: العقل سمي به لأنه يمنع عن القبائح قال تعالى ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ﴾ [الفجر: ٥] ﴿سَفَهاً﴾ حماقة وجهالة والسَّفه: خفة العقل.
التفِسير: ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ أي اذكر يوم يجمع الله الثقلَين: الإِنس والجن جميعاً للحساب قائلاً ﴿يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس﴾ أي استكثرتم من إِضلالهم وإِغوائهم قال ابن عباس: أضللتم منهم كثيراً، وهذا بطريق التوبيخ والتقريع ﴿وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ أي وقال الذين أطاعوهم من الإِنس ربنا انتفع بعضنا ببعض قال البيضاوي: انتفع الإِنس والجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إِليها، وانتفع الجنُّ بالإِنس بأن أطاعوهم وحصّلوا مرادهم ﴿وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ أي وصلنا إِلى الموت والقبر ووافينا الحساب، وهذا منهم اعتذارٌ واعترافٌ بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتحسر على حالهم ﴿قَالَ النار مَثْوَاكُمْ﴾ أي قال تعالى رداً عليهم النارً موضع مقامكم وهي منزلكم ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي ماكثين في النار في حال خلودٍ دائم إِلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدوا فيها قال الطبري: هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وقال الزمخشري: يخُلدون في عذاب النار الأبد كلَّه إلا ما شاء الله أي إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد رُوي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير فيتعَاوَوْن ويطلبون الرد إِلى الجحيم ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ أي حكيم في أفعاله عليم بأعمال عباده ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي كما متعنا الإِنس والجن بعضهم ببعض نسلّط بعض الظالمين على بعض بسبب كسبهم للمعاصي والذنوب قال القرطبي: وهذا تهديد للظالم إِن لم يمتنع من ظلمه سلّط الله عليه ظالماً آخر قال ابن عباس: إِذا رَضِيَ اللَّهُ عَنْ قوم ولّى أمرهم خيارهم، وإِذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم وعن مالك بن دينار قال: قرأتُ في بعض كتب الحكمة إِن الله تعالى يقول: «إِني أنا الله مالك
388
الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشْغلوا أنفسكم بسبّ الملوك ولكن توبوا إِليَّ أعطفْهم عليكم»
﴿يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ هذا النداء أيضاً يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم تأتكم الرسل يتْلون عليكم آيات ربكم؟ ﴿وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم الشديد؟ ﴿قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا﴾ أي لم يجدوا إِلا الإِعتراف فقالوا: بلى شهدنا على أنفسنا بأن رسلك قد أتتنا وأنذرتنا لقاء يومنا هذا قال ابن عطية: وهذا إقرارٌ منهم بالكفر واعتراف على أنفسهم بالتقصير كقولهم ﴿قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ [الملك: ٩] ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي خدعتهم الدنيا بنعيمها وَبَهْرجِها الكاذب ﴿وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ أي اعترفوا بكفرهم قال البيضاوي: وهذا ذمٌ لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإِنهم اغتروا الحياة الدنيا ولذاتها الفانية، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا بالشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلّد تحذيراً للسامعين من مثل حالهم ﴿ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ أي إِنما فعلنا هذا بهم من إِرسال الرسل إِليهم لإِنذارهم سوء العاقبة لأن ربك عادل لم يكن ليهلك قوماً حتى يبعث إِليهم رسولاً قال الطبري: أي إِنما أرسلنا الرسل يا محمد يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم من أجل أن ربك لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعير ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أي ولكل عاملٍ بطاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يلقاها في آخرته إِن كان خيراً فخير، وإِن كان شراً فشر، قال ابن الجوزي: وإِنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي ليس الله بلاهٍ أو ساهٍ عن أعمال عباده، وفي ذلك تهديد ووعيد ﴿وَرَبُّكَ الغني﴾ أي هو جل وعلا المستغني عن الخلق وعبادتهم، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ﴿ذُو الرحمة﴾ أي ذو التفضل التام قال ابن عباس: ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته، وقال غيره: بجميع الخلق ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين قال أبو السعود: وفيه تنبيهٌ على أنَّ ما سلف ذكره من الإِرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أي لو شاء لأهلككم أيها العصاة بعذاب الاستئصال ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ﴾ أي وأتى بخلقٍ آخر أمثل منكم وأطوع ﴿كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أي كما خلقكم وابتدأكم من بعد آخرين كانوا قبلكم قال أبو حيان: وتضمنت الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بالإِهلاك ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ أي ما توعدونه من مجيء الساعة والحشر لواقعٌ لا محالة ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أي لا تخرجون عن قدرتنا وعقابنا وإِن ركبتم في الهرب متن كل صعبٍ وذَلول ﴿قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ أي قل لهم يا محمد يا قوم اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي واعملوا ما أنتم عاملون، والأمر هنا للتهديد كقوله
﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ﴿إِنَّي عَامِلٌ﴾ أي عاملٌ ما أمرني به ربي من الثبات على دينه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ
389
الدار} أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في الدار الآخرة أنحن أم أنتم؟ ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي لا ينجح ولا يفوز بمطلوبه من كان ظالماً قال الزمخشري: في الآية طريقٌ من الإِنذار لطيف المسلك، فيه إِنصاف في المقال وأدبٌ حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأن المُنْذر محِقٌ، والمْنذَر مبطل ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً﴾ أي جعل مشركو قريش لله ممّا خلق من الزرع والأنعام نصيباً ينفقونه على الفقراء ولشركائهم نصيباً يصرفونه إِلى سدنتها قال ابن كثير: هذا ذمٌ وتوبيخٌ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً، وجعلوا لله شركاء وهو خالق كل شيء سبحانه ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾ أي خلق وبرأ من الزرع والثمار والأنعام جزءاً وقسماً ﴿فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ﴾ أي قالوا: هذا نصيب الله بزعمهم أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع قال في التسهيل: وأكثرُ ما يقال الزعم في الكذب ﴿وهذا لِشُرَكَآئِنَا﴾ أي وهذا النصيب لآلهتنا وأصنامنا قال ابن عباس: إِنَّ أعداء الله كانوا إِذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً، فما اكن من حرثٍ أو ثمرةٍ أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإِن سقط منه شيء فيما سُمي لله ردّوه إِلى ما جعلوه للوثن وقالوا إِن الله غنيٌّ والأصنام أحوج ولهذا قال: ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله﴾ أي ما كان للأصنام فلا يصل إلى الله منه شيء ﴿وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ﴾ وما كان من نصيب الله فهو يصل إِلى أصنامهم قال مجاهد: كانوا يسمُّون جزءاً من الحرث لله وجزءاً لشركائهم وأوثانهم فما ذهبت به الريح من نصيب الله إلى أوثانهم تركوه وما ذهب من نصيب أوثانهم إلى نصيب الله ردوه، وكانوا إِذا اصابتهم سَنَةٌ «قحط» أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي بئس هذا الحكم الجائر حكمهم ﴿وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ أي مثل ذلك التزيين في قسمة القربان بين الله وبين آلهتهم زيَّن شياطينُهم لهم قتل أولادهم بالوأد أو بنحرهم لآلهتهم قال الزمخشري: كان الرجل في الجاهلية يحلف لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنَّ أحدهم كما حلف عبد المطلب ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ أي ليهلكوهم بالإِغواء ﴿وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ أي وليخلطوا عليهم ما كانوا عليهم من دين إِسماعيل عليه السلام ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ﴾ أي لو شاء الله ما فعلوا ذلك القبيح ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ أي دعْهم وما يختلقونه من الإِفك على الله، وهو تهديد ووعيد ﴿وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ هذه حكاية عن بعض قبائحهم وجرائمهم أيضاً أي قال المشركون هذه أنعام وزروع أفردناها لآلهتنا حرام ممنوعة على غيرهم ﴿لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ﴾ أي من خَدمة الأوثان وغيرهم ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ أي بزعمهم الباطل من غير حجة ولا برهان ﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ أي لا تركب كالبحائر والسوائب والحوامي ﴿وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا﴾ أي عند الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام ﴿افترآء عَلَيْهِ﴾ أي كذباً واختلاقاً على الله ﴿سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي سيجزيهم على ذلك الافتراء، وهو تهديد شديد ووعيد {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ
390
لِّذُكُورِنَا} هذا إِشارة إِلى نوع آخر من أنواع قبائحهم أي قالوا ما في بطون هذه البحائر والسوائب حلال لذكورنا خاصة ﴿وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا﴾ أي لا تأكل منه الإِناث ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ﴾ أي وإِن كان هذا المولود منها ميتةً اشترك فيه الذكور والإِناث ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أي سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم ﴿إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه ﴿قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ﴾ أي والله لقد خسر هؤلاء السفهاء الذين قتلوا أولادهم قال الزمخشري: نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر ﴿سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي جهالة وسفاهة لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله هو الرازق لهم ولأولادهم ﴿وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله﴾ أي حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة وشبهها ﴿افترآء عَلَى الله﴾ أي كذباً واختلافاً على الله ﴿قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي لقد ضلوا عن الطريق المستقيم بصنيعهم القبيح وما كانوا من الأصل مهتدين لسوء مسيرتهم، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: إِذا سرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام ﴿قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس﴾ أي أفرطتم في إِضلال وإِغواء الإِنس، ففيه إِيجاز بالحذف ومثله ﴿استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ أي استمتع بعض الإِنس ببعض الجن، وبعضُ الجن ببعض الإِنس.
٢ - ﴿النار مَثْوَاكُمْ﴾ تعريف الطرفين لإِفادة الحصر.
٣ - ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
٤ - ﴿وَلِكُلٍّ﴾ أي لكل من العاملين فالتنوين عوضٌ عن محذوف.
٥ - ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ صيغة الاستقبال ﴿تُوعَدُونَ﴾ للدلالة على الاستمرار التجددى، ودخولُ إِنَّ واللام على الجملة للتأكيد لأن المخاطبين منكرون للبعث لذا أكّد الخبر بمؤكدين.
٦ - ﴿مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله﴾ إظهار الاسم الجليل في موضع الإِضمار لإِظهار كمال عتوهم وضلالهم أفاده أبو السعود.
الفوَائِد: الأولى: قال السيوطي في الإِكليل: قوله تعالى ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً﴾ الآية في معنى حديث «كما تكونون يولَّى عليكم» وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيتَ ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجباً.
الثانية: الجمهور على أن الرسل من الإِنس ولم يكن من الجن رسول وقوله تعالى ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ هو من باب التغليب كقوله ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرجان من البحر المالح دون العذب.
391
الثالثة: ذكر القرطبي في تفسيره «أن رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يزال مغتماً بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له الرسول: مالك تكون محزوناً؟ فقال يا رسول الله: إِني أذنبتُ في الجاهلية ذنباً فأخاف ألاّ يغفره الله لي وإِن أسلمت! فقال له: أخبرني عن ذنبك؟ فقال يا رسول الله: إني كنتُ من الذين يقتلون بناتهم فوُلدت لي بنتٌ فتشفعتْ إليَّ امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء فخطبوها فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيغ بغير زوج فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب لزيارة أقربائي فابعثيها معي فَسُرَّت بذلك وزينتها بالحليّ والثياب، وأخذت عليَّ المواثيق بألا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرتُ في البئر ففطنت الجارية بأني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني وجعلت تبكي فرحمتها، ثم نظرتُ في البئر فدخلت عليَّ الحمية حتى غلبني الشيطان فألقيتها في البئر منكوسة ومكثتُ هناك حتى انقطع صوتها فرجعتُ فبكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: لو أُمرتْ أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتُك».
392
المنَاسَبَة: لّما أخبر تعالى عن المشركين أنهم حرّموا أشياء مما رزقهم الله وحكى طرفاً من قبائحهم وجرائمهم، ذكر تعالى هناما امتنَّ به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إِذنه تعالى افتراءً منهم عليه واختلافاً، ثم أعقبه باحتجاجهم على الشرك وعدم الإِيمان بالقضاء والقدر، وهذا أيضاً من جملة الكذب والبهتان والافتراء على الله.
اللغَة: ﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ مرفوعات على ما يحملها من العيدان ﴿حَصَادِهِ﴾ الحصاد: جمع الثمر كالجُذاذ ﴿حَمُولَةً﴾ الحمولة: الإِبل التي تحمل الأثقال على ظهورها ﴿فَرْشاً﴾ الفرش: الصغا التي لا تصلح للحمل كالفُصلان والعجاجيل قال الزجاج: الفرشُ صغار الإِبل قال الشاعر:
أورثني حمولةً وفرْشاً أمُشُّها في كلِّ يومٍ مَشَاً
التفِسير: ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ أي هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم لتعبدوه وحده، فخلق لكم بساتين من الكروم منها مرفوعات على عيدان، ومنها متروكات على وجه الأرض لم تعرش ﴿والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ﴾ أي وأنشأ لكم شجر النخيل المثمر بما هو فاكهة وقوت، وأنواع الزرع المحصّل لأنواع القوت مختلفاً ثمره وحبُّه في اللون والطعم والحجم والرائحة ﴿والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ أي متشابهاً في اللون والشكل وغير متشابه في الطعم ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ﴾ أي كلوا أيها الناس من ثمر كل واحد مما ذكر إِذا أدرك من رطبه وعنبه ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ أي أعطوا الفقير والمسكين من ثمره يوم الحصاد ما تجود به نفوسكم وقال ابن عباس: يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيْلُه ﴿وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ أي ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن قال الطبري: المختار قول عطاء أنه نهيٌ عن الإِسراف في كل شيء ﴿وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ أي وخلق لكم من الأنعام ما يحمل الأثقالَ وما يُفرش للذبح «أي يضجع» قال ابن أسلم: الحمُولةُ ما تركبون، والفَرْشُ ما تأكلون وتحلبون ﴿كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ أي كلوا من الثمار والزروع والأنعام فقد جعلها الله لكم رزقاً ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي طريقه وأوامره في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي إِن الشيطان ظاهر العداوة للإِنسان فاحذروا كيده ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين﴾ أي وأنشأ لكم من الأنعام ثمانية أنواعٍ أحلّ لكم أكلها، من الضأن ذكراً وأنثى، ومن المعز ذكراً وأنثى قال القرطبي: يعني ثمانية أفرادٍ، وكلُّ فردٍ عند العرب يحتاج إِلى آخر يُسمَّى زوجاً فيقال
393
للذكر: زوجٌ وللأنثى زوجٌ ويراد بالزوجين من الضأن: الكبشُ والنعجة، ومن المعز: التيسُ والعنز ﴿قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين﴾ هذا إنكارٌ لما كانوا يفعلونه من تحريم ما أحلَّ الله أي قل لهم يا محمد على وجه التوبيخ والزجر: الذكرين من الضأن والمعز حرّم الله عليكم أيها المشركون أم الانثيين منهما؟ ﴿أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين﴾ أي أو ما حملت إِناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى؟ ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ تعجيزٌ وتوبيخ أي أخبروني عن الله بأمرٍ معلوم لا بافتراءٍ ولا بتخرص إِن كنتم صادقين في نسبة ذلك التحريم إِلى الله ﴿وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين﴾ أي وأنشأ لكم من الإِبل اثنين هما الجمل والناقة ومن البقر اثنين هما الجاموس والبقرة ﴿قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين﴾ ؟ كرره هنا مبالغة في التقريع والتوبيخ قال أبو السعود: والمقصود إِنكار أن الله سبحانه حرّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة وإِظهار كذبهم في ذلك فإِنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادها تارة أخرى ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا﴾ زيادة في التوبيخ أي هل كنتم حاضرين حين وصاكم الله بهذا التحريم؟ وهذا من باب التهكم ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي لا أحد أظلم ممن كذب على اله فنسب إِليه تحريم ما لم يحرّم بغير دليلٍ ولا برهان ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ عمومٌ في كل ظالم، ثم أمر تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يبيّن لهم ما حرمه الله عليهم فقال ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ أي قل يا محمد لكفار مكة لا أجد فيما أوحاه الله إِليَّ من القرآن شيئاً محرماً على أيّ إِنسان إِلا أن يكون ذلك الطعام ميتةً أو دماً سائلاً مصبوباً أو يكون لحم خنزير فإِنه قذرٌ ونجس لتعوده أكل النجاسات ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ أي أو يكون المذبوح فسقاً ذبح على اسم غير الله كالمذبوح على النُّصب، سُميّ فسقاً مبالغةً كأنه نفس الفسق لأنه ذبح على اسم الأصنام ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي من أصابته الضرورة واضطرته إِلى أكل شيء من المحرمات فلا إِثم عليه إِن كان غير باغٍ أي غير قاصد التلذذ بأكلها بدون ضرورة ولا عادٍ أي مجاوزٍ قدر الضرورة التي تدفع عنه الهلاك فالله غفور رحيم بالعباد، ثم بيّن تعالى أن ما حرّمه على اليهود إِنما كان بسبب بغيهم وعصيانهم فقال ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ أي وعلى اليهود خاصةً حرمنا عليهم كل ذي ظُفر قال ابن عباس: هي ذوات الظِّلْفِ كالإِبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والأوز ﴿وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ﴾ أي وحرّمنا عليهم أكل شحوم البقر وشحوم الغنم ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ أي إِلا الشحم الذي علق بالظهر منهما ﴿أَوِ الحوايآ﴾ أي الأمعاء والمصارين ﴿أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ﴾ كشحم الألية والمعنى أن الشحم الذي تعلَّق بالظهور أو احتوت عليه المصارين أو اختلط بعظم كشحم الألية جائز لهم ﴿ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أي ذلك التحريم بسبب ظلمهم وعدوانهم الذي سبق من قتل الأنبياء وأكل الربا واستحلال أموال الناس بالباطل وإِنّا لصادقون
394
فيما قصصنا عليك يا محمد، وفي ذلك تعريضٌ بكذب من حرّم ما لم يحرّم الله والتعريض بكذب اليهود ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ أي فإِن كذبك يا محمد هؤلاء اليهود فيما جئت به من بيان التحريم فقل متعجباً من حالهم ربكم ذو رحمة واسعة حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة إِجرامكم قال في البحر: وهذا كما تقول عند رؤية معصية عظيمة: ما أحلم الله تعالى! وأنت تريد ما أحلمه لإِمهاله العاصي، ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بالوعيد الشديد فقال ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين﴾ أي لا تغتروا بسعة رحمته فإِنه لا يُردُّ عذابه وسطوتُه عمن اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات فهو مع رحمته ذو بأس شديد، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب حتى لا يقنط المذنب من الرحمة ولا يغتر العاصي بحلم الله.
﴿سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ أي سيقول مشركو العرب لو أراد الله ما كفرنا ولا أشركنا نحن ولا آباؤنا يريدون أن شركهم وتحريمهم لما حرّموا كان بمشيئة الله ولو شاء ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على ذلك بإِرادة الله كما يقول الواقع في معصية إِذا طلب منه الإِقلاع عنها: هذا قدرُ الله لا مهربَ ولا مفرَّ منه، ولا حجة في هذا لأنهم مكلفون مأمورون بفعل الخير وترك القبيح ولكنها نزعةٌ جبرية يحتج بها السفهاء عندما تدمغهم الحجة قال تعالى في الرد عليهم ﴿كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ أي كذلك كذَّب من سبقهم من الأمم حتى أنزلنا عليهم العذاب ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ﴾ استفهام إِنكاري يقصد به التهكم أي قل لهم هل عندكم حجة أو برهان على صدق قولكم فتظهروه لنا ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ أي ما تتبعون في ذلك إِلا الظنون والأوهام وما أنتم في الحقيقة إِلا تكذبون على الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي قل لهم إِن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البينة والواضحة التي بلغت غاية الظهور والإِقناع، فلو شاء لهداكم إِلى الإِيمان أجمعين ولكنه تعالى ترك للخلق أمر الاختيار في الإِيمان والكفر ليتم التكليف ﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
[الكهف: ٢٩] ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا﴾ أي قل لهم يا محمد احضروا لي من يشهد لكم على صحة ما تزعمون أن الله تعالى حرَّم هذه الأشياء التي تدَّعونها من البحيرة والسائبة وغيرهما ﴿فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ أي فإِن حضروا وكذبوا في شهادتهم وزوَّروا فلا تشهد بمثل شهادتهم ولا تصدّقهم فإِنه كذبٌ بحتٌ ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي ولا تتبع أهواء المكذبين بآيات الرحمن الذين لا يصدقون بالآخرة ﴿وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي وهم يشركون بالله غيره فيعبدون الأوثان.
البَلاَغَة: ١ - ﴿حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ بينهما طباقٌ لأن الحمولة الكبارُ الصالحة للحمل، والفرشُ الصغار الدانية من الأرض كأنها فرش.
٢ - ﴿خُطُوَاتِ الشيطان﴾ هذا من لطيف الاستعارة وهي أبلغ عبارة للتحذير من طاعة الشيطان والسير في ركابه.
395
٣ - ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ من صيغ المبالغة أي مبالغ في المغفرة والرحمة.
٤ - ﴿رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين﴾ جاءت الأولى جملة اسمية لأنها أبلغ في الإِخبار من الفعلية فناسبت وصفه تعالى بالرحمة الواسعة وجاءت الجملة الثانية فعلية ﴿وَلاَ يُرَدُّ﴾ لئلا يتعادل الإِخبار عن الوصفين، وباب الرحمة أوسع أفاده في البحر.
فَائِدَة: في قوله تعالى ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً﴾ إِيذان بأن التحريم إِنما يعلم بالوحي لا بالهوى، وأن الله عَزَّ وَجَلَّ وعلا على المشرع للأحكام والرسول مبلّغٌ عن الله ذلك التشريع كقوله ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ [النجم: ٢ - ٣]
396
المنَاسَبَة: لّما ذكر تعالى ما حرّمه الكفار افتراء عليه وذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان، ذكر هنا ما حرّمه تعالى عليهم حقيقة من الأمور الضارة، وذكر الوصايا العشر التي اتفقت عليها الشرائع السماوية وبها سعادة البشرية.
اللغَة: ﴿أَتْلُ﴾ أقرأ وأقص ﴿إمْلاَقٍ﴾ فقر يقال أملق الرجل إِذا افتقر ﴿أَشُدَّهُ﴾ قوته وهو بلوغ سن النكاح والرشد، والأشدُّ جمعٌ لا واحد له ﴿بالقسط﴾ بالعدل بلا بخس ولا نقصان ﴿السبل﴾ جمع سبيل وهي الطريق ﴿شِيَعاً﴾ فرقاً وأحزاباً جمع شيعة وهي الفرقة تتشيع وتتعصب لمذهبها ﴿قِيَماً﴾ مستقيماً لا عوج فيه ﴿نُسُكِي﴾ النُّسُك جمع نسيكة وهي الذبيحة وقال الزجاج: عبادتي ومنه الناسك الذي يتقرب إِلى الله بالعبادة.
التفِسير: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أي قل يا محمد تعالوا أقرأ الذي حرّمه ربكم عليكم باليقين لا بالظن والتخمين ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ أي لا تعبدوا معه غيره ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ أي وأحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً، وذُكر ضمن المحرمات لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده فكأنه قال: ولا تسيئوا إِلى الوالدين قال أبو السعود: والسرُّ في ذلك المبالغةُ والدلالة على أن ترك الإِساءة إِليهما غير كافٍ في قضاء حقوقهما ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ أي ولا تقتلوا أولادكم خشية الفقر قال ابن الجّوزي: المراد دفن البنات أحياء من خوف الفقر ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ أي رزقكم ورزقهم علينا فإِن الله هو الرازق للعباد ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ أي لا تقربوا المنكرات الكبائر علانيتها وسرّها قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأساً في السرّ ويستقبحونه في العلانية فحرمه الله في السر والعلانية ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ أي لا تقتلوا النفس البريئة التي حرّم الله قتلها إِلا بموجب وقد فسّره قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يحل دم امرئ مسلم إِلا بإِحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينه المفارق للجماعة» ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي ذلكم المذكور هو ما أوصاكم تعالى بحفظه وأمركم به أمراً مؤكداً لعلكم تسترشدون بعقولكم إِلى فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا قال أبو حيان: وفي لفظ وصّاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإِحسان ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ أي لا تقربوا مال اليتيم بوجه من الوجوه إِلا بالخصلة التي هي أنفع له حتى يصير بالغاً رشيداً، والنهي عن القرب يعمُّ وجوه التصرف لأنه إِذا
397
نُهي عن أن يقرب المال فالنهيُ عن أكله أولى وأحرى والتي هي أحسن منفعةُ اليتيم وتثمير ماله قال ابن عباس: هو أن يعمل له عملاً مصلحاً فيأكل منه بالمعروف ﴿وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط﴾ أي بالعدل والتسوية في الأخذ والعطاء ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا نكلّف أحداً إٍلا بمقدار طاقته بما لا يعجز عنه قال البيضاوي: أي إِلا ما يسعها ولا يعسرُ عليها، وذكره بعد وفاء الكيل لأن إِيفاء الحق عسرٌ فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ أي اعدلوا في حكومتكم وشهادتكم ولو كان المشهود عيه من ذوي قرابتكم ﴿وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ﴾ أي أوفوا بالعهد إِذا عاهدتم قال القرطبي: وهذا عام في جميع ما عهده الله إِلى عباده ويحتمل أن يراد به ما انعقد بين الناس وأضيف إِلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لعلكم تتعظون ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي وبأن هذا ديني المستقيم شرعته لكم فتمسكوا به ولا تتبعوا الأديان المختلفة والطرق الملتوية فتفرقكم وتزيلكم عن سبيل الهدى عن ابن مسعود قال:
«خطّ لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوماً خطاً ثم قال هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه ويساره ثم قال: هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إِليها ثم قرأ ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه﴾ الآية» ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ كرر الوصية على سبيل التوكيد أي لعلكم تتقون النار بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه قال ابن عطية: لما كانت المحرمات الأولى لا يقع فيها عاقل جاءت العبارة ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣] والمحرمات الأخر شهوات وقد ويقع فيها من لم يتذكر جاءت العبارة ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ والسير في الجادة المستقيمة يتضمن فعل الفضائل ولا بد لها من تقوى الله جاءت العبارة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٦٣] ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ أي أعطينا موسى التوراة تماماً للكرامة والنعمة على من كان محسناً وصالحاً قال الطبري: أي آتينا موسى الكتاب تماماً لنعمتنا عليه في قيامه بأمرنا ونهينا فإِن إِيتاء موسى الكتاب نعمةٌ من الله عليه ومنَّةٌ عظيمة لما سلف منه من صالح العمل وحسن الطاعة ﴿وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إِليه بنو إِسرائيل في الدين ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أي وهدى لبني إِسرائيل ورحمة عليهم ليصدّقوا بلقاء الله قال ابن عباس: كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ أي وهذا القرآن الذي أنزلناه على محمد كتابٌ عظيم الشأن كثير المنافع مشتملٌ على أنواع الفوائد الدينية والدنيوية ﴿فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي تمسكوا به واجعلوه إِماماً واحذروا أن تخالفوه لتكونوا راجين للرحمة ﴿أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ﴾ أي أنزلناه بهذا الوصف العظيم الجامع لخيرات الدنيا والآخرة كراهة أن تقولوا يوم القيامة ما جاءنا كتاب فنتّبعه وإِنما نزلت الكتب المقدسة على اليهود والنصارى قال ابن جرير: فقطع الله بإِنزاله القرآن على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حجتهم تلك {وَإِن كُنَّا عَن
398
دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} أي وإِنه الحال والشأن كنا عن معرفة ما في كتبهم ورداستهم غافلين لا نعلم ما فيها لأنها لم تكن بلغتنا ﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ﴾ أو تقولوا لو أننا أُنزل علينا الكتاب كما أُنزل على هاتين الطائفتين لكنَّا أهدى منهم إِلى الحق وأسرع إِجابة لأمر الرسول لمزيد ذكائنا وجدّنا في العمل ﴿فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ أي فقد جاءكم من الله على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرآن عظيم، فيه بيانٌ للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعبادة قال القرطبي: أي قد زال العذر بمجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ابن عباس: بيّنة أي حجة وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله﴾ أي من أكفر ممن كذّب بالقرآن ولم يؤمن به ﴿وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ أي أعرض عن آيات الله قال أبو السعود: أي صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإِضلال ﴿سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ﴾ وعيدٌ لهم أي سنثيب هؤلاء المعرضين عن آيات الله وحججه الساطعة شديد العقاب بسبب إِعراضهم عن آيات الله وتكذيبهم لرسله ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة﴾ أي ما ينتظر هؤلاء المشركون إِلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعذيبها وهو وقتٌ لا تنفع فيه توبتُهم ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ قال ابن عباس: أي يأتي أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره وقال الطبري: المراد أن يأتيهم ربك في موقف القيامة للفصل بين خلقه أو يأتيهم بعض آيات ربك وهو طلوع الشمس من مغربها ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ أي يوم يأتي بعض أشراط الساعة وحينئذٍ لا ينفع الإِيمان نفساً كافرة آمنت في ذلك الحين ولا نفساً عاصيةً لم تعمل خيراً قال الطبري: أي لا ينفع من كان قبل ذلك مشركاً بالله أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله، فحكم إِيمانهم كحكم إِيمانهم عند قيام الساعة وفي الحديث
«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ﴿قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ أي انتظروا ما يحلُّ بكم وهو أمر تهديد ووعيد ﴿إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ أي فرّقوا الدين فأصبحوا شيعاً وأحزاباً قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى فرّقوا دين إِبراهيم الحنيف ﴿لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ أي أنت يا محمد بريء منهم ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله﴾ أي جزاؤهم وعقابهم على الله هو يتولى جزاءهم ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ أي يخبرهم بشنيع فعالهم قال الطبري: أي أخبرهم في الآخرة بما كانوا يفعلون وأجازي كلاً منهم بما كان يفعل ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ واحدة جوزي عنها بعشر حسناتٍ أمثالها فضلاً من الله وكرماً وهو أقلُّ المضاعفة للحسنات فقد تنتهي إِلى سبعمائة أو أزيد ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ أي ومن جاء بالسيئة عوقب بمثلها دون مضاعفة ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي لا يُنقصون من جزائهم شيئاً وفي الحديث
399
القدسي:
«يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغْفرُ» فالزيادة في الحسنات من باب الفضل، والمعاملة بالمثل في السيئات من باب العدل ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين إِن ربي هداني إِلى الطريق القويم وأرشدني إِلى الدين الحق دين إِبراهيم ﴿دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ أي ديناً مستقيماً لا عوج فيه هو دين الحنيفية السمحة الذي جاء به إِمام الحنفاء إِبراهيم الخليل ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ أي وما كان إِبراهيم مشركاً، وفيه تعريضٌ بإِشراك من خالف دين الإِسلام لخروجه عن دين إِبراهيم ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي﴾ أي قل يا محمد إِنَّ صلاتي التي أعبد بها ربي ﴿وَنُسُكِي﴾ أي ذبحي ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ أي حياتي ووفاتي وما أقدّمه في هذه الحياة من خيرات وطاعات ﴿للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي ذلك كله لله خالصاً له دون ما أشركتم به ﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ أي لا أعبد غير الله ﴿وبذلك أُمِرْتُ﴾ أي بإِخلاص العبادة لله وحده أُمرتُ ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين﴾ أي أولُّ من أقرَّ وأذعنَ وخضع لله جلّ وعلا ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً﴾ تقريرٌ وتوبيخ للكفار، وسببها أنهم دعوة إِلى عبادة آلهتهم والمعنى: قل يا محمد أأطلب رباص غير الله تعالى؟ ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي والحال هو خالق ومالك كل شيء فكيف يليق أن أتخذ إِلهاً غير الله؟ ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ أي لا تكون جناية نفسٍ من النفوس إِلا عليها ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي لا يحمل أحدٌ ذنب أحد، ولا يؤاخذ إِنسانٌ بجريرة غيره ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وهذا وعيدٌ وتهديد أي مرجعكم إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ويميز بين المحسن والمسيء ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض﴾ أي جعلكم خلفاً للأمم الماضية والقرون السالفة يخلف بعضكم بعضاً قال الطبري: أي استخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ أي خالف بين أحوالكم في الغنى والفقر، والعلم والجهل، والقوة والضعف وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ﴾ أي ليختبر شكركم على ما أعطاكم قال ابن الجوزي: أي ليختبركم فيظهر منكم ما يكون به الثواب والعقاب ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إِن ربك سريع العقاب لمن عصاه وغفور رحيم لمن أطاعه، قال في التسهيل: جمع بين الخوف والرجاء، وسرعة العقاب إِما في الدنيا بتعجيل الأخذ أو في الآخرة لأن كل ما هو آتٍ قريب.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل﴾ السُّبل استعارة عن البدع والضلالات والمذاهب المنحرفة.
٢ - ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً﴾ التنكير لإِفادة العموم والشمول.
400
٣ - ﴿وَبِعَهْدِ الله﴾ الإِضافة للتشريف والتعظيم.
٤ - ﴿يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا﴾ وضع الظاهر مكان الضمير ﴿عَنْهَا﴾ لتسجيل شناعة وقباحة طغيانهم.
٥ - ﴿قُلِ انتظروا﴾ الأمر للتهديد والوعيد.
٦ - ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا... ﴾ الآية اشتمل هذا الكلام على النوع المعروف من علم البيان باللَّف وأصل الكلام: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنةً قبلُ إيمانُها بعدُ، ولا نفساً لم تكسب في إِيمانها خيراً قبلُ ما تكسبه من الخير بعد، إِلا أنه لفّ الكلامين فجعلهما كلاماً واحداً بلاغة واختصاراً وإِعجازاً، أفاده صاحب الانتصاف.
٧ - ﴿ظَهَرَ﴾ و ﴿بَطَنَ﴾ طباق وبين ﴿الحسنة﴾ و ﴿السيئة﴾ طباق كذلك وهو من المحسنات البديعية.
٨ - ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ قال الشريف الرضي: ليس هناك على الحقيقة أحمال على الظهور وإِنما هي أثقال الآثام والذنوب فهو من الاستعارة اللطيفة.
فَائِدَة: وحّد تعالى ﴿سَبِيلِهِ﴾ لأن الحق واحد وجمع ﴿السبل﴾ لأن طرق الضلالة كثيرة ومتشعبة.
تنبيه: قال الحافظ ابن كثير: كثيراً ما يقرن تبارك وتعالى في القرآن بين هاتين الصفتين ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ كقوله تعالى ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾ [الحجر: ٤٩ - ٥٠] إِلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب، فتارةً يدعو عباده إِليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إِليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كلٍ بحسبه.
401
Icon