تفسير سورة الرعد

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(١٣) سورة الرّعد مدنيّة وآياتها ثلاث وأربعون
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
80
اللغة:
(عَمَدٍ) بفتحتين وقد اضطربت أقوال علماء اللغة فقال بعضهم هو جمع عماد على غير قياس والقياس أن يجمع على عمد بضم العين والميم وقيل إن عمدا جمع عماد في المعنى أي انه اسم جمع لا جمع صناعي والذي في القاموس والتاج: «العمود ما يقوم عليه البيت وغيره وقضيب الحديد وجمعه أعمدة وعمد وعمد» وقال بعضهم:
والعمد جمع عمود ولم يأت في كلام العرب على هذا الوزن إلا أحرف أربعة: أديم وأدم وعمود وعمد وأفيق وأفق وإهاب وأهب، وزاد الفراء خامسا: قضيم وقضم يعني الصكاك والجلود.
(صِنْوانٌ) : الصنو بكسر الصاد وفتحها وضمها نخلة لها رأسان وأصلهما واحد والاثنان صنوان والجمع صنوان بكسر الصاد فيهما وفي المختار «إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد فكل واحدة منهن صنو والاثنتان صنوان والجمع صنوان» أي فهو معرب وفي الأساس: «شجر صنوان: من أصل واحد وكل واحد صنو ومن المجاز: هو شقيقه وصنوه قال:
أتتركني وأنت أخي وصنوي فيا للناس للأمر العجيب
وركيتان صنوان متقاربتان وتصغيره: صنيّ قالت ليلى الاخيلية:
أنابغ لم تنبغ ولم تك أولا وكنت صنيّا بين صدّين مجهلا
أي ركيا مجهولا بين جبلين، وقال بعض اللغويين: «والصنو الفرع يجمعه وفرعا آخر أصل واحد والمثل»
وفي الحديث «عم الرجل
81
صنو أبيه» أي مثله أو لأنهما يجمعهما أصل واحد والنخيل والنخل بمعنى واحد والواحدة نخلة قال:
ألا يا نخلة من ذات عرق عليك ورحمة الله السلام
وعبارة أبي حيان:
«الصنو الفرع يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ومنه قيل للعم صنو وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان وبضمها في لغة تميم وقيس كذئب وذؤبان ويقال صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته» وقال: «ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ولا يوجد لهما ثالث».
(الْأُكُلِ) : بضم الكاف وسكونها وفي المصباح: الأكل بضمتين واسكان الثاني للتخفيف: المأكول.
الإعراب:
(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) المر: تقدم اعرابها والقول فيها وفي أوائل السور عموما واسم الاشارة مبتدأ وآيات الكتاب خبر.
(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة من عطف الجمل على الجمل والذي مبتدأ وجملة أنزل إليك صلة ومن ربك جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا والحق خبر الذي ولكن الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب وأكثر الناس اسمها وجملة لا يؤمنون خبرها. (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الله مبتدأ والذي خبره ويجوز أن يكون صفة والخبر سيأتي وجملة
82
رفع السموات صلة وبغير عمد هذا الجار والمجرور في محل نصب على الحال من السموات أي رفعها خالية من عمد وجملة ترونها فيها وجهان أولهما أن تكون مستأنفة ويكون الضمير عائدا على النون أو نصبا على الحال من السموات أي مرئية لكم ويجوز أن تكون صفة لعمد إذا كان الضمير عائدا إليها والجملة كلها مستأنفة مسوقة للشروع في ذكر دلائل العالم العلوي تمهيدا لذكر دلائل العالم السفلي. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واستوى فعل ماض وفاعل مستتر وعلى العرش متعلقان باستوى وسخر الشمس والقمر عطف على استوى وكل مبتدأ وتقدم الكلام في تسويغ الابتداء به وجملة يجري خبر ولأجل متعلقان بيجري ومسمى صفة. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) الجملة مستأنفة أو خبر لله على ما تقدم ويدبر الأمر فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ويفصل الآيات عطف ولعل واسمها وبلقاء ربكم متعلقان بتوقنون وجملة توقنون خبر لعلكم. (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) هو مبتدأ والذي خبره وجملة مدّ الأرض صلة وجعل عطف على مدّ وفيها متعلقان بجعل ورواسي مفعول به وأنهارا عطف عليه. (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يجوز في هذا الجار والمجرور أن يتعلق بجعل بعده والتقدير وجعل فيها زوجين اثنين من كل الثمرات ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اثنين لأنه في الأصل صفة له ويجوز أن يتم الكلام عند قوله من كل الثمرات فيتعلق بجعل الأولى والتقدير أنه جعل في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات ويكون جعل الثاني مستأنفا وفيها متعلقان بجعل على كل حال وزوجين مفعول جعل واثنين صفة لزوجين. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) الجملة مستأنفة أو حال من فاعل
83
الأفعال قبلها والفاعل ليغشي مستتر والليل مفعول أول والنهار مفعول ثان والمعنى يلبسه مكانه فيصير أسود مدلهما بعد ما كان أبيض منيرا والأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي ولذلك جعلناه المفعول الأول وان كان الكلام يحتمل الثاني. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن وخبرها المقدم ولآيات اللام المزحلقة للتأكيد وآيات اسم ان المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) الواو عاطفة وفي الأرض خبر مقدم وقطع مبتدأ مؤخر ومتجاورات صفة لقطع أي بقاع مختلفة متباينة مع كونها متجاورة.
(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) وجنات عطف على قطع ومن أعناب صفة وزرع ونخيل معطوفان أيضا وصنوان صفة لنخيل وغير عطف وصنوان مضاف إليه. (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) جملة يسقى صفة لجنات وما بعدها وبماء متعلقان بيسقى وواحد صفة لماء ونفضل بعضها فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى بعض متعلقان بنفضل وفي الأكل حال من بعضها أي نفضل بعضها مأكولا أو وفيه الأكل ويجوز أن يتعلق بنفضل لأنه ظرف له. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم اعراب مثيلتها قريبا.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «ثم استوى على العرش» استعارة مكنية أو تخييلية حسب تعريف الأقدمين لها فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له الحق سبحانه ليتخيل السامع عند سماع لفظ هذه الاستعارة ملكا فرغ من ترتيب ممالكه وتشييد ملكه
84
وجميع ما تحتاج اليه رعاياه وجنده من عمارة بلاده، وتدبير أحوال عباده استوى على سرير ملكه استواء عظمة فيقيس السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هي متخيلة ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما وإن لم يكن ثمة سرير منصوب ولا جلوس محسوس ولا استواء على ما يدل عليه الظاهر من تعريف هيئة مخصوصة.
٢- وفي قوله تعالى «بغير عمد ترونها» فن رفيع تقدم ذكره وهو نفي الشيء بايجابه أي رفع السموات خالية من العمد فالوجه انتفاء العمد والرؤية جميعا فلا رؤية ولا عمد.
وقد أثارت هذه الآية في النفس موضوع غزو القمر وكيف ارتاد الإنسان الفضاء ورأى عجائب صنع الله وشهد الأرض معلقة والقمر معلقا وكذلك الكواكب والنجوم الأخرى معلقات بغير سناد يسندها ولا عمد تقوم عليها مصداقا لقول الله «بغير عمد ترونها».
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٥ الى ٦]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦)
85
اللغة:
(الْمَثُلاتُ) : جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء وفي القاموس: المثلة العقوبة وما أصاب القرون الماضية من العذاب وهي عبر يعتبر بها، وشرحها الزمخشري شرحا لطيفا فقال: المثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة. وقال غيره: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع غيره به. وقال ابن الأنباري: المثلة كسمرة العقوبة التي تبقي في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه.
الإعراب:
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) الواو استئنافية وإن شرطية وتعجب فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد والفاء رابطة وعجب خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر وجملة فعجب قولهم في محل جزم جواب الشرط الجازم. (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) هذه الجملة مقول للقول ولك أن تعربها بدلا منه والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه ومتعلق بجوابه وهو مدلول قوله أإنا لفي خلق جديد والتقدير نبعث أو نحشر واختار أبو حيان أن تكون إذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى للشرط فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره أنبعث أو أنحشر، وكنا كان واسمها وترابا خبرها، أإنا الهمزة للاستفهام الانكاري وان واسمها واللام المزحلقة وفي خلق خبر إن وجديد صفة لخلق. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة
86
كفروا صلة وبربهم متعلقان بكفروا. (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) الواو عاطفة وأولئك مبتدأ والأغلال مبتدأ ثان وفي أعناقهم خبر الأغلال والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الاول والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يجعل في العنق. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة أيضا وأولئك مبتدأ وأصحاب النار خبره وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم وجملة هم فيها خالدون خبر ثان لأولئك أو حال. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) الواو عاطفة ويستعجلونك فعل وفاعل ومفعول به وبالسيئة متعلقان بيستعجلونك لأنه ظرف للاستعجال. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) الواو للحال وقد حرف تحقيق وخلت فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة للالتقاء الساكنين ومن قبلهم متعلقان بخلت والمثلات فاعل خلت. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) الواو للحال أيضا وان واسمها واللام المزحلقة وذو مغفرة خبر إن وللناس جار ومجرور متعلقان بمغفرة وعلى ظلمهم حال من الناس والعامل فيها مغفرة لأنه العامل في صاحبها والمعنى ظالمين لأنفسهم ومعنى على هنا المصاحبة أي كمع. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وشديد العقاب خبرها.
الفوائد:
في هذه الآية فن من فنون العرب في كلامهم وهو القلب وذلك في قوله تعالى: «وأولئك الأغلال في أعناقهم» لأن الأعناق هي التي تكون في الأغلال ولا عكس ومنه قول رؤبة:
ومهمه مغبرة أرجاؤه... كأن لون أرضه سماؤه
87
أي كأن لون سمائه لون أرضه فعكس التشبيه مبالغة وحذف المضاف.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٧ الى ١١]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
اللغة:
(الْأَرْحامُ) : جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وبكسر الراء وسكون الحاء مستودع الجنين في أحشاء الحبلى وهي مؤنثة والرحم أيضا القرابة والمراد هنا الأول.
(سارِبٌ) : ذاهب في سربه بالفتح أي في طريقه ووجهه يقال سرب في الأرض سروبا وفي المصباح: سرب في الأرض سروبا من باب
88
قعد ذهب، وسرب الماء سروبا جرى وسرب المال سربا رعي نهارا بغير راع فهو سارب وسرب تسمة بالمصدر والسرب أيضا الطريق ومنه يقال خل سربه أي طريقه والسرب بالكسر النفس وهو واسع السرب أي رخيّ البال ويقال واسع الصدر بطيء الغضب والسرب بفتحتين بيت في الأرض لا منفذ له وهو الوكر.
«معقبات» : فيها احتمالان: أحدهما أن يكون جمع معقبة بمعنى معقب والتاء للمبالغة كعلامة ونسابة، أي ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات ونسابات. والثاني أن يكون جمع معقبة صفة لجماعة ثم جمع هذا الوصف كجمل وجمال وجمالات وقال الزمخشري: «وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه، وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله أو على التهكم به».
الإعراب:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو استئنافية ويقول الذين فعل وفاعل وعدل عن الإضمار الى الموصول ذما لهم بكفرهم بآيات الله وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآية نائب فاعل ومن ربه صفة لآية. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومنذر خبر ولكل خبر مقدم وقوم مضاف اليه وهاد مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة. (اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) الله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وما تحتمل ثلاثة أوجه متساوية أحدها أن تكون موصولة في محل نصب مفعول يعلم وجملة تحمل كل أنثى صلة والعائد محذوف أي تحمله والثاني أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها مفعول يعلم فالجملة بعدها لا محل
89
لها ولا حاجة الى العائد والثالث أن تكون استفهامية إما مبتدأ وجملة تحمل خبر والجملة معلقة للعلم واما مفعول مقدم لتحمل. (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) عطف على الجملة السابقة وتسري على «ما» الأوجه المتقدمة وغاض وزاد يستعملان متعديين ولازمين ومعنى غيض الأرحام وازديادها أفاض فيه المفسرون وخلاصته أن المراد به غذاء الولد في الرحم فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد وإذا لم تحض يزداد الولد وينمو وقيل ما يتعلق بمدة الحمل والرجوع لمعرفة التفاصيل الى المطولات أولى. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) كل مبتدأ وشيء مضاف اليه وعنده ظرف متعلق بمحذوف صفة لشيء أو لكل وبمقدار خبر والمراد بالعندية العلم بكمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين أو العلم بوقت كل شيء وحالته المعينة. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف أي هو والغيب مضاف اليه والشهادة عطف والكبير خبر ثان للمبتدأ المحذوف والمتعال خبر ثالث ورسمت بغير ياء لأنها رأس آية ولولا ذلك لكان الجيد إثباتها.
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) يجوز في سواء أن تكون خبرا مقدما ومنكم حال من ضميره ومن موصول مبتدأ مؤخر وهو في الأصل مصدر بمعنى مستو وقد تقدم القول فيه في البقرة ويجوز أن تكون مبتدأ ومنكم صفة ومن خبر وجملة أسر القول صلة أي أخفاه في نفسه ومن جهر به عطف على من أسر القول. (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) ومن عطف على من السابقة وهو مبتدأ ومستخف خبر والجملة الاسمية صلة وبالليل جار ومجرور متعلقان بمستخف وسارب عطف على مستخف وبالنهار متعلقان بسارب وقياس الكلام: ومن هو سارب، والسر فيه أن الموصول حذف وصلته باقية والمعنى ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع خصوصا وقد تكرر
90
الموصول في الآية ثلاثا ومنه قوله تعالى: «وما أدري ما يفعل بي ولا بكم» والأصل ولا ما يفعل بكم وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنهي موقع وانما صحب في الأول الموصول لا الصلة ومنه قول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
أي ومن يمدحه وينصره سواء.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) له خبر مقدم والضمير مردود على «من» كأنه قيل لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب معقبات، ومعقبات مبتدأ مؤخر ومن بين يديه صفة لمعقبات أو متعلقان بمعقبات نفسها ومن خلفه عطف على من بين يديه وجملة يحفظونه صفة لمعقبات أيضا ومن أمر الله متعلقان بيحفظونه وتقدّم القول في المراد بالمعقبات في باب اللغة ومعنى يحفظونه من أمر الله أي مما أمر هو به لأنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر وهو ان من بمعنى الباء أي يحفظونه بأمر الله وقيل ان من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله لا من عند أنفسهم كقوله: أطعمهم من جوع أي عن جوع وقيل يحفظونه من ملائكة العذاب وقيل يحفظونه من الجن واختار ابن جرير ان المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء.
وعبارة الفراء: «في هذا قولان أحدهما أنه على التقديم والتأخير تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه والثاني ان كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به».
91
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) إن واسمها وجملة لا يغير خبرها وفاعل يغير عائد على الله وما موصول مفعول يغير وبقوم صلة وحتى حرف غاية وجر ويغيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وما مفعول به وبأنفسهم صلة. (وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة أراد الله مضاف إليها وبقوم متعلقان بأراد والفاء رابطة ولا نافية للجنس ومرد اسمها وله خبرها. (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم ومن دونه حال ومن زائدة ووال مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر.
البلاغة:
١- الطباق في قوله «الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد» أي ما تنقص وتزيد.
٢- المبالغة أو الافراط في الصفة على اختلاف في التسمية والأولى لقدامة والثانية لابن المعتز والناس على تسمية قدامة وعرفها قدامة فقال: هي أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده وهي أقسام عديدة نوردها مختصرة فيما يلي:
آ- المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية بمعنى المبالغة وقد جاءت على ستة أمثلة: فعلان كرحمن عدل عن راحم للمبالغة، كما تقدم في البسملة، ولا يوصف به إلا الله تعالى ولم تنعت العرب به أحدا في جاهلية ولا إسلام إلا مسيلمة الكذاب نعتوه به فقال شاعرهم:
92
فأما الرحمن فلم يوصف به إلا الله.
وفعال كقوله تعالى: «وإني لغفار لمن تاب».
وفعول كغفور وشكور وودود.
وفعيل كعليم وحكيم وسميع.
ومفعل كمدعس كمنبر الرمح يدعس به أي يطعن كما في تاج العروس.
ومفعال كمطعام ومقدام.
ب- ما جاء بالصيغة العامة موضع الخاصة كقولك أتاني الناس كلهم ولم يكن أتاك إلا واحد منهم أردت تعظيمه ومنه قوله تعالى:
«إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» فوعدهم سبحانه بجزاء غير مقدر لاخراج العبارة مخرجا عاما لتردد الأذهان في مقدار الثواب.
ج- إخراج الكلام مخرج الاخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة كقوله تعالى: «وجاء ربك والملك صفا صفا» فجعل مجيء آياته مجيئا له سبحانه.
د- إخراج الممكن من الشرط الى الممتنع ليمتنع وقوع المشروط كقوله تعالى في سورة الأعراف وقد تقدم: «ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».
هـ- ما جرى مجرى الحقيقة وقد كان مجازا كقوله تعالى:
«يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار» فإن اقتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الإمكان.
93
وهذه مبالغة ظاهرة في جميع هذه الاقسام على أن هناك مبالغة مدمجة وهي قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها وهي «سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار» فإن مبالغة هذه الآية جاءت مدمجة في المقابلة.
وسيأتي مزيد من المبالغة وأقسامها في مواضع متفرقة من هذا الكتاب.
الفوائد:
يكاد المفسرون يجمعون على أن هذه الآية تدل على أنه إذا عاش قوم في نعمة فإن الله لا يغيرها عنهم إلا إذا عصوا ربهم وظلم بعضهم بعضا ولازم هذا التفسير أن النعمة تدوم وتزداد بالشكر والطاعة وانها تزول بالجحود والطغيان وكان وما زال في النفس شيء من هذا التفسير لأمور:
أولها: اننا نرى المحتكرين والمستثمرين كلما نشطوا في الطغيان والسلب والنهب كثرت أموالهم وربت.
وثانيها: ان هذا التفسير يتنافى مع قول الله تعالى في الآية الثالثة والثلاثين من سورة الزخرف «ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين» إذن فالسعة في الرزق لا تدل على رضا الله كما أن الضيق لا يشعر بغضبه لأنه لا يجزي الشاكرين
94
بالذهب والفضة ولا يعاقب العاصين بالحرمان منهما بل الأمر بالعكس فقد جاء في القرآن الكريم أن الله يعاقب الجاحدين بكثرة الأموال «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون».
وثالثها: انه متناف مع ما هو مأثور ومتعالم من أن المؤمن مبتلى وممتحن.
ولعل خير تفسير تتحمله الآية هو أن يقال: ان المرء الذي يثور أولا على نفسه فيصلحها إنما هو المصلح الحقيقي وعلى ما ورث من تقاليد ونظم ربما كانت فاسدة أو على ما أفسده الزمان فيصلحه هو الذي يصح أن يكون معنيا بهذه الآية التي تكمن فيها روح الشجاعة والثورة على فساد العادات والتقاليد وفساد العقائد والمبادئ وعلى الفقر والجهل وعلى الاستعمار والاقطاع، كما تكمن فيها روح الثورة على الذين يبنون قصورا من عرق الكادحين ويعدون سيارات من دموع المنكوبين.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
95
اللغة:
(السَّحابَ) : الغيم المنسحب في الهواء والسحاب اسم جنس واحده سحابة فلذلك وصف بالجمع وهو الثقال جمع ثقيلة، ويفهم من كلام صاحب القاموس انه جمع سحابة قال: والسحابة: الغيم والجمع سحاب وسحائب وسحب.
(الْمِحالِ) : المماحلة وهي شدة المماكرة والمكايدة ومنه تحمل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ومحل بفلان إذا كاده وسعى به الى السلطان ومنه الحديث «ولا تجعله علينا ماحلا مصدقا» وقال الأعشى:
فرع نبع يهشّ في غصن المجد غزير الندى شديد المحال ولعل أصله المحل بمعنى القحط وقيل: فعال من المحل بمعنى القوة فالميم أصلية وقيل أصله مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس وفي القاموس: «والمحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة كالمماحلة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، ومحل به مثلث الحاء محلا ومحالا كاده بسعاية الى السلطان وماحله مماحلة ومحالا قاواه حتى يتبين أيهما أشد» وفي الأساس: وماحله كايده، وهو شديد المحال ورجل متماحل فاحش الطول وبلد متماحل: بعيد، قال يصف فرسا:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا فأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
96
وقال آخر يصف بعيرا:
من المسبطرّات الجياد طمرّة لجوج هواها السبسب المتماحل
بعيد من الحادي إذا ما ترقّصت بنات الصّوى في السبسب المتماحل
قال الزجاج يقال: ما حلته محالا: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان وأصله من الكون قال الأزهري: غلط ابن قتيبة ان الميم فيه زائدة بل هي أصلية وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسور فهي أصلية مثل مهاد وملاك ومراس.
الإعراب:
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) هو مبتدأ والذي خبره ويريكم البرق فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعولاه والجملة صلة وخوفا وطمعا اختلف في نصبهما فقيل على المصدرية أي لتخافوا خوفا ولتطمعوا طمعا وقيل هما حالان من الكاف في يريكم أي حال كونكم خائفين وطامعين ويجوز أن يكونا مفعولا لهما واختاره أبو البقاء ومنعه الزمخشري ونص عبارته: «لا يصح أن يكونا مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعا ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع أو على ذا خوف وذا طمع أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ومعنى الخوف والطمع أن
97
وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ويطمع في الغيث قال أبو الطيب:
فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى يرجّى الحيا منها وتخشى الصواعق
على أن منع الزمخشري فيه تعسف ويمكن أن يكونا مفعولا لهما على أن المفعول له في مثل هذا الفعل فاعل في المعنى لأنه إذا أراهم فقد رأوا والأصل: وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا أي ترقبونه وتتراءونه تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع. وينشىء السحاب عطف والسحاب مفعول به والثقال صفة للسحاب. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) عطف على ما تقدم ويسبح الرعد فعل مضارع وفاعل وبحمده في موضع نصب على الحال وفي هذه الباء خلاف ترى بحثا عنه في باب الفوائد، والملائكة عطف على الرعد أي ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله فهو متعلق بيسبح ولك أن تنصبه على الحال أي هائبين وخائفين. (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) ويرسل الصواعق عطف على ما تقدم فيصيب عطف أيضا وبها متعلقان بيصيب ومن مفعول به ليصيب وجملة يشاء صلة. (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) الواو استئنافية أو حالية وهم مبتدأ وجملة يجادلون خبر وفي الله متعلقان بيجادلون والواو حالية وهو مبتدأ وشديد المحال خبره والجملة حالية. (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) له خبر مقدم ودعوة الحق مبتدأ مؤخر وهي من اضافة الموصوف الى صفته أي لدعوة الحق المطابقة للواقع. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة والضمير في يدعون عائد على الكفار والعائد على الذين محذوف أي يدعونهم ويؤيده قراءة من قرأ تدعون
98
بالتاء في تدعون وقيل الذين أي الكفار الذين يدعون ومفعول يدعون محذوف أي يدعون الأصنام والعائد على الذين الواو في يدعون والواو في ولا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف وعلى القول الأول على الذين، ومن دونه حال وجملة لا يستجيبون خبر ولهم متعلقان بيستجيبون وكذلك بشيء. (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) إلا أداة حصر وكباسط متعلق بمحذوف نعت لمصدر محذوف أي إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه وكفيه مضاف لباسط والى الماء جار ومجرور متعلقان بباسط وليبلغ اللام للتعليل ويبلغ مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بباسط وفاه مفعول به وعلامة نصبه الألف لأنه من الأسماء الخمسة وفاعل يبلغ ضمير الماء والواو حالية وما نافية حجازية وهو اسمها واختلف في هذا الضمير فقيل انه ضمير الماء والهاء في ببالغه للفم وقيل انه ضمير الفم والهاء في ببالغه للماء وقيل انه ضمير لباسط والهاء في ببالغه للماء، وببالغه الباء حرف جر زائد وبالغه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية ودعاء الكافرين مبتدأ وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا» فن رائع من فنون البلاغة وهو «صحة الاقسام» ويمكن تحديده بأنه عبارة عن استيفاء المعنى من جميع اقسامه ووجوهه بحيث لا يغادر
99
المتكلم منها شيئا، ففي الآية المذكورة استوفي قسمي رؤية البرق إذ لبس فيها إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار كما ألمعنا في الاعراب ولا ثالث لهذين القسمين ولكن مجرد استيفاء الأقسام لا يعتبر بيانا بل هناك أمر أبعد من ذلك وأدق وأبعد منالا وهذا الأمر هو تقديم ما هو أولى بالذكر وأجدر بالتقديم وفي الآية قدم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر الا براق لأن تواتره لا يكاد يخلف ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة وتنتجع فلا تخطىء الغيث والكلأ وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة العالية فقال:
وقد أرد المياه بغير هاد سوى عدي لها برق الغمام
يقول: لا أحتاج في ورود الماء الى دليل يدلني سوى أن أعد برق الغمام فأتبعه كعادة العرب في عدها بروق الغمام، قال ابن السكيت:
«العرب إذا عدت مائة برقة لم تشك في أنها ماطرة قد سقت فتتبعها على الثقة بالمطر» وقال ابن الاعرابي في النوادر: «العرب كانوا إذا لاح البرق عدوا سبعين برقة فإذا كملت وثقوا بأنه برق ماطر فرحلوا يطلبون موضع الغيث، وأنشد عمر بن الأعور:
100
ولما كان الأمر المخوف من البرق يجوز وقوعه من أول برقة واحدة أتى ذكر الخوف في الآية مقدما أولا لكون الواحد أول العدد ولما كان الأمر المطمع من البروق إنما يقع بعد عدد من الابراق أتى ذكر الطمع تاليا لكونه لا يقع إلا في أثناء العدد وليكون الطمع ناسخا للخوف كمجيء الرخاء بعد الشدة، والفرج بعد الكربة، والمسرة بعد الحزن، فيكون ذلك أحلى موقعا في القلوب ويشهد لهذا التفسير قوله:
«وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحتمه» فجاء معنى الآية على ما جاء رحمة من الله سبحانه بخلقه وبشرى لعباده.
المؤاخاة بين المعاني والمؤاخاة بين المباني
وحيث وصلنا الى هذا المدى من ترتيب الاقسام يجدر بنا أن نتحدث عن المؤاخاة بين المعاني والمؤاخاة بين المباني وانها سر البيان ونسمة الروح فيه وقد أخذوا على أبي الطيب قوله على أنه آية في الحسن والروعة:
سقى الله جيرانا حمدت جوارهم كراما إذا عدّوا وفوق كرام
يعدون برق المزن في كل مهمه فما رزقهم إلا بروق غمام
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها سرور محب أو مساءة مجرم
فإن المقابلة الصحيحة بن المحب والمبغض لا بين المحب والمجرم وليس كل من أجرم إليك كان مبغضا لك.
وروى أبو الفرج في الأغاني انه اجتمع نصيب والكميت وذو الرمة فأنشد الكميت:
101
فعقد نصيب واحدة فقال له الكميت: ماذا تحصي؟ قال: خطأك فإنك تباعدت في القول، أين الدل من الشنب؟ ألّا قلت كما قال دو الرمة:
أم هل ظعائن بالعلياء رافعة وإن تكامل فيها الدّلّ والشنب
لمياء في شفتيها حوّة لعس وفي اللّثات وفي أنيابها شنب
وهذا موضع دقيق- كما قلنا- يتورط فيه أرباب النظم والنثر كثيرا وهو مظنة الغلط لأنه يحتاج الى شفوف طبع وثقوب نظر وقد وقع الخطأ لأبي نواس في قوله في وصف الديك وهي أرجوزة سنوردها في باب الفوائد لملاحتها وندرتها ولأن الدواوين الموجودة بين أيدينا أوردتها خطأ قال:
له اعتدال وانتصاب قدّ وجلده يشبه وشي البرد
كأنها الهداب في الفرند محدودب الظهر كريم الجد
فإن ذكر الظهر من جملة الخلق والجد من النسب وكان ينبغي أن يذكر مع الظهر ما يقرب منه ويؤاخيه أيضا وسيرد من أمثلة هذا الفن في كتابنا الشيء الكثير.
٢- وفي قوله تعالى: «والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه» تشبيه تمثيلي رائع فقد شبه دعوة الكفار للآلهة ليستجيبوا لهم ثم صمم الآلهة وجمودها وعدم استجابتها وهذا هو المشبه المركب بمن يبسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وهو بعيد عنه ثم يبالغ في الدعوة ويحمله الهوس على الرجاء من الماء أن يستجيب وهو جماد لا يشعر فهذا هو المشبه به
102
وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه لبشربه فبسطها ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا ولم يبلغ طلبته وشربته.
وقال أبو عبيدة «أي كالقابض على الماء ليس على شيء» قال والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء وأنشد سيبويه:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد
وقال آخر:
وإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تطعه أنامله
وقال آخر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الأصابع
الفوائد:
١- خلاف حول الباء:
اختلف النحاة والمعربون في الباء من قوله تعالى «ويسبح الرعد بحمده» فقيل: هي للمصاحبة أو الملابسة أو باء الحال أي يسبحه حامدا له أي ينزهه عما لا يليق به ويثبت له ما يليق به، وضابط هذه الباء أن يغني عنها وعن مصحوبها الحال كما رأيت أو يحسن في موضعها «مع» وقيل هي للاستعانة أي يسبحه بما حمد به نفسه فيكون الحمد مضافا الى الفاعل أما في الأولى فهو مضاف الى المفعول
103
ومن العجيب أن ابن خالويه النحوي أعربها في كتابه اعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم عند إعرابه «فسبح بحمد ربك» أعربها زائدة ولا أدري كيف استساغ ذلك ومواضع زيادة الباء معروفة وهي هنا ليست واحدة منها.
سبحانك اللهم وبحمدك:
قال ابن هشام في مغني اللبيب: واختلف في «سبحانك اللهم وبحمدك» فقيل جملة واحدة، وليس مراد المغني الخلاف في الباء بل في الواو «على أن الواو زائدة وقيل جملتان على أنها عاطفة ومتعلق الباء محذوف أي بحمدك سبحتك وقال الخطابي: المعنى وبمعونتك التي هي نعمة توجب علي حمدك سبحتك لا بحولي وقوتي يريد انه مما أقيم فيه المسبّب مقام السبب.
٢- قصيدة أبي نواس في وصف الديك:
وعدناك بإثبات أرجوزة أبي نواسس في وصف الديك وبرا بالوعد نتبتها كما رأينا وخلافا لما وردت عليه في الدواوين:
104
كأنه الهدّاب في الفرند... مضمّر الخلق عميم ا
لقدّ له اعتدال وأنصاب قد... محدودب الظهر كريم الجدّ
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
105
اللغة:
(الغدو) جمع غدوة بضم الغين وتجمع أيضا على غدى والغداة بفتح الغين وتجمع على غدوات والغديّة وتجمع على غدايا وغديات:
البكرة أو ما بين الفجر وطلوع الشمس.
(الْآصالِ) جمع الأصيل وهو الوقت بين العصر والمغرب ويجمع أيضا على آصال وأصائل وأصل وأصلان.
(احتمل) : أي حمل فافتعل بمعنى المجرد أو هو بمعنى المطاوع كما يفهم من عبارة الأساس: «وحملت الشيء وحملنيه غيري فاحتملته وتحملته ومن المجاز حملت إدلاله عليّ واحتملته قال:
أنعت ديكا من ديوك الهند أحسن من طاووس قطر المهدي
أسجع من عادي عرين الأسد ترى الدجاج حوله كالجند
يقعين منه خيفة للسّفد له سقاع كدويّ الرّعد
منقاره كالمعول المحدّ يقهر ما ناقره بالنقد
عيناه منه في القفا والخد ذو هامة وعنق كالورد
وجلدة تشبه وشي البرد ظاهرها زفّ شديد الوقد
أدلّت فلم أحمل وقالت فلم أجب لعمر أبيها انني لظلوم
(زَبَداً) : الزبد وضر الغليان والوضر بفتحتين وبالضاد المعجمة وسخ الدسم ونحوه وعبارة الخازن: الزبد ما يعلو على وجه الماء عند الزيادة كالحبب وكذلك ما يعلو على القدر عند غليانها والمعنى فاحتمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا رابيا أي عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا عليها، وفي القاموس: الزبد ما يعلو على وجه الماء ونحوه من الرغوة ومن معانيه الخبث ومنه المثل: «صرّح المخض عن الزبد» يعنون بالزبد رغوة اللبن يضرب للصدق يحصل بعد الخبر المظنون (جُفاءً) قال ابن الأنباي: الجفاء المتفرق يقال جفأت الريح السحاب أي قطعته ومزقته وقيل الجفاء ما يرمي به السيل يقال جفأت
106
القدر بزبدها تجفأ من باب قطع وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام وفي همزة جفاء وجهان أظهرهما أنها أصل لوجودها في تصاريف هذه المادة والثاني أنها بدل من واو وقال في الأساس: «ذهب الزبد جفاء أي مدفوعا مرميا به قد جفأه الوادي الى جنباته ويقال: جفأت القدر بزبدها، ومرّ جفاء من العسكر الى البيات أي جماعة معتزلة من معظمه وتقول سامه جفاء ونبذه جفاء إذا عزله عن صحبته».
وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ جفالا قال أبو عبيدة يقال:
أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته» قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفأر.
الإعراب:
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ومسوقة لبيان انقياد الخلائق جميعها والكائنات بأسرها للقوة الخالقة المدبرة والتصرف على مشيئته في الحركة والسكون والامتداد والزوال أو الفيء والتقلص ولله متعلقان بيسجد ومن فاعل يسجد وفي السموات والأرض صلة من وطوعا وكرها نصب على الحال أي طائعين وكارهين أو على المصدرية أي انقياد طوع وانقياد كره. (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) الواو عاطفة وظلالهم عطف على من وبالغدو والآصال متعلقان بيسجد. (قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) قل فعل أمر وفاعله أنت والجملة بعده مقول القول ومن اسم استفهام مبتدأ ورب السموات والأرض خبر وقل فعل أمر والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف أي لله رب السموات والأرض. (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)
107
الهمزة للاستفهام الانكاري التهكمي والفاء عاطفة على محذوف كأن في الكلام تقديرا بين الهمزة والفاء تقديره قل أأقررتم بالجواب المذكور فاتخذتم، وقد تقرر هذا كثيرا، واتخذتم فعل وفاعل ومن دونه حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء وأولياء مفعول به وجملة لا يملكون صفة ولأنفسهم حال أو بالنفع والضر على أنهما مصدر ان ونفعا مفعول به ولا ضرا عطف عليه. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) هل حرف استفهام بمعنى النفي أي لا يستويان ويستوي الأعمى فعل مضارع وفاعل وأم حرف عطف وهل تستوي الظلمات والنور عطف على الجملة السابقة ولك أن تجعل أم منقطعة بمعنى بل. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أم المنقطعة وجعلوا فعل وفاعل ولله حال لأنه كان صفة لشركاء وشركاء مفعول به أو لله مفعول به ثان لجعلوا وجملة خلقوا صفة والكاف مع مدخولها نعت لمفعول محذوف أي خلقوا خلقا مثل خلقه والفاء حرف عطف وتشابه الخلق فعل ماض وفاعل وعليهم متعلقان بتشابه. (قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الله مبتدأ وخالق كل شيء خبر وهو مبتدأ والواحد خبر والقهار خبر ثان. (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) الجملة مستأنفة مسوقة لضرب مثل لتقدير ما تقدم وأنزل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي الله تعالى ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزل وماء مفعول به والفاء حرف عطف وسالت أودية فعل وفاعل وبقدرها متعلقان بسالت أو بمحذوف صفة لأودية أي بمقدار ما يملؤها وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) الفاء عاطفة واحتمل السيل فعل ماض وفاعل وزبدا مفعول احتمل لأنه بمعنى حمل ورابيا صفة
108
لزبدا أي طافيا على وجهه وعاليا عليه، ومما الواو عاطفة لتعطف مثلا آخر على المثل الأول ومما خبر مقدم وجملة يوقدون صلة وعليه متعلقان بيوقدون وفي النار حال وابتغاء حلية مفعول لأجله على الأصح وقيل مصدر بمعنى الحال أي مبتغين حلية وليس ثمة مانع من ذلك وأو حرف عطف ومتاع معطوف على حلية وزبد مبتدأ مؤخر ومثله صفة أي مثل زبد السيل وهو وضره الذي ينفيه كير الحداد. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك المذكور من الأمور الأربعة مثلين للحق ومثلين للباطل فالأولان الماء والجوهر والآخران الزبد والوضر. ويضرب الله الحق فعل مضارع ومفعول به والباطل عطف على الحق. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) الفاء عاطفة للتفريع وأما حرف شرط وتفصيل والزبد مبتدأ والفاء رابطة وجملة يذهب خبر وجفاء حال. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل وما موصول مبتدأ وجملة ينفع الناس صلة والفاء رابطة وجملة يمكث في الأرض خبر. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) تقدم إعرابه. (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) اختلفت آراء المعربين في إعراب هذه الآية ونرى أن هنالك وجهين هما أولى نوردهما فالأول:
للذين خبر مقدم وجملة استجابوا صلة ولربهم متعلقان باستجابوا والحسنى مبتدأ مؤخر والثاني: للذين متعلقان بيضرب في الآية السابقة والحسنى صفة لمصدر محذوف أي الاستجابة الحسنى. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) ويتمشى على هذه الآية الاعرابان المتقدمان فلك أن تجعل الذين مبتدأ فيكون الكلام مستأنفا وخبره لو وما في حيزها، ولك أن تعطفها نسقا على الذين السابقة وجملة لم يستجيبوا صلة وله متعلقان بيستجيبوا ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف وقد تقدم، ولهم خبر
109
ان وما اسمها وفي الأرض صلة وجميعا حال ومثله عطف ومعه ظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا معه، لافتدوا اللام واقعة في جواب لو وافتدوا فعل ماض والواو فاعل وبه متعلقان بافتدوا. (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وسوء الحساب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر مأواهم وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو هي.
البلاغة:
١- استعارة السجود للانقياد والخضوع وهما من خصائص العقلاء للكائنات العاقلة وغير العاقلة والطوع الناشئ عن اختيار وهو الصادر عن الإنسان والكره الناشئ عن غير اختيار وهو الصادر عن الجماد ومعنى انقياد الظلال مطاوعتها لما يراد منها كطولها وقصرها وامتدادها وتقلصها.
ولأبي حيان كلام لطيف نثبته فيما يلي دفعا للأوهام قال:
«وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه قول ابن الأنباري: انه تعالى جعل للظلال عقولا تسجد بها وتخشع بها كما جعل للجبال أفهاما حتى خاطبت وخوطبت لأن الجبل لا يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به».
٢- التهكم والفرق بينه وبين الهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل لمجيئه على سبيل الاستهزاء والسخرية هذا على
110
ما تعارفناه بيننا والهزل الذي يراد به الجد ظاهره هزل وباطنه جد وفي قوله تعالى «خلقوا كخلقه» في سياق الإنكار تهكم بهم لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة لا بطريق المشابهة والمساواة ولا بطريق الانحطاط والقصور فقد كان يكفي في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا ولكن جاء قوله تعالى كخلقه تهكما يزيد الإنكار تأكيدا وقد أسلفنا القول في التهكم وأوردنا أبياتا لابن الرومي وغيره فيه ونرى من المفيد أن نتحدث قليلا عن نقيضه وهو الهزل المراد به الجد وهو من يقصد المتكلم مدح شيء أو ذمه فيخرج ذلك المقصود مخرج الهزل المعجب والمجون المطرب وخير مثال عليه قول أبي نصر بن أبي الفتح كشاجم:
111
صديق لنا من أبدع الناس في البخل وأفضلهم فيه وليس بذي فضل
دعاني كما يدعو الصديق صديقه فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي
فلما جلسنا للطعام رأيته يرى أنه من بعض أعضائه كلّيّ
ويغتاظ أحيانا ويشتم عبده وأعلم أن الشتم والغيظ من أجلي
فأقبلت أستل الغذاء مخافة وألحاظ عينيه رقيب على فعلي
أمدّ يدي سرا لأسرق لقمة فيلحظني شزرا فأعبث با
لبقل إلى أن جنت كفي لحتفي جناية وذلك أن الجوع أعدمني
عقلي فجرت يدي للحين رجل دجاجة فجرت كما جرت يدي رجلها
رجلي وقدم من بعد الطعام حلاوة فلم أستطع منها أمر ولا
أحلي وقمت لو اني كنت بيّتّ نية ربحت ثواب الصوم من عدم الأكل
٣- المثل: تقدم القول في المثل السائر ونقول هنا إن كتاب الله الكريم طافح بالأمثال وفي قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع فيمكث في الأرض» مثلان ضربهما الله للحق وأهله والباطل وحزبه فمثّل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فتخصوصب وتخضر وتنبت وتزدهر وينتفعون بأنواع المنافع وبالجواهر التي يصوغون منها الحلي والآلات التي تضفي عليهم القوة والهيبة والجمال والبأس الشديد وإن ذلك كله ماكث
112
في الأرض لا تخلق له جدة ولا تذبل منه نضارة وشبّه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنافع بزبد السيل الطافي الذي تقحمه العين وينبو عنه البصر لعدم جدواه وبالوضر الذي يطفو فوق الجوهر إذا أذيب وقد انطوت تحت هذا المثل الرائع أنواع من البلاغة نوردها باختصار:
آ- تنكير الأودية لأن المطر لا يأتي إلا على طريق التناوب بين البقاع.
ب- الاحتراس بقوله «بقدرها» أي بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار وإلا فلو طما واستحال سيلا لا جتاح الأخضر واليابس ولأهلك الحرث والنسل.
ج- تعريف السيل لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو قوله تعالى:
«فسالت» وهو لو ذكر لكان نكرة فلما أعيد أعيد معرفة نحو رأيت رجلا فأكرمت الرجل وهكذا تطرد القاعدة في النكرة إذا أعيدت.
د- مراعاة النظير في ألفاظ الماء والسيل والزبد والربو وفي ألفاظ النار والجوهر والفلزات المعدنية والإيقاد والحلية والمتاع.
هـ- اللف والنشر الموشى في قوله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء» الى آخر الآية.
واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدا رابيا فوقه وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى
113
يذوب من الأجسام المنطرقة فان أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثا مرتفعا فوقها.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
الإعراب:
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أفمن تقدم القول في هذا التركيب كثيرا ونعيده للفائدة فالهمزة للاستفهام الانكاري والفاء مؤخرة من تقديم أو عاطفة على محذوف هو
114
مدخول الهمزة والتقدير: أيستوي المؤمن والكافر أفمن يعلم. ومن مبتدأ وجملة يعلم صلة ولك في أنما وجهان أن تجعلها كافة ومكفوفة فأنزل فعل ماض مبني للمجهول وإليك حال ومن ربك متعلقان بأنزل والحق نائب فاعل، ولك أن تفصل ما فتعرب أن حرفا مشبها للفعل وما اسمها والحق خبرها وأن وما في حيزها على الوجهين سدت مسد مفعولي يعلم والكاف اسم بمعنى مثل خبر من وهو مبتدأ وأعمى خبر والجملة الاسمية صلة من. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) إنما كافة ومكفوفة ويتذكر فعل مضارع وأولو فاعله وهو مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والألباب مضاف اليه. (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الذين مبتدأ وخبره سيأتي فيما بعد وهو قوله أولئك لهم عقبى الدار ولك أن تعربه بدلا من أولي الألباب تفاديا لطول الفصل بين الابتداء والخبر وجملة يوفون صلة وبعهد الله متعلقان بيوفون، ولا ينقضون الميثاق عطف على الجملة السابقة وستأتي سبع صفات أخرى لهم فتكون صفاتهم ثمانيا. (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) والذين عطف على الذين وجملة يصلون صلة وما مفعول به وجملة أمر الله صلة ومفعول أمر محذوف والتقدير ما أمرهم وبه متعلقان بأمر وأن وما في حيزها بدل من الضمير المجرور وهو الهاء أي بوصله. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ويخشون عطف على يصلون ويخشون فعل مضارع وفاعل وربهم مفعول به ويخافون عطف على يخشون وسوء الحساب مفعول به. (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) والذين عطف على الذين السابقة وصبروا صلة وابتغاء وجه ربهم مفعول لأجله، وقال بعضهم:
«والذين صبروا» قيل هو كلام مستأنف وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ المضي للتنبيه على أنه ينبغي تحققه. (وَأَقامُوا
115
الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)
وأقاموا الصلاة عطف وهي فعل وفاعل ومفعول به وأنفقوا عطف على أقاموا ومما متعلقان بأنفقوا وجملة رزقناهم صلة وهي فعل وفاعل ومفعول به وسرا وعلانية منصوبان بنزع الخافض أو هما مصدران في موضع الحال واختار هذا أبو البقاء أي في السر والعلانية ويجوز نصبهما على الحال أي مسرين ومعلنين. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) عطف على ما تقدم وبها تكتمل أوصافهم الثمانية وبالحسنة متعلقان بيدرءون والسيئة مفعول به ليدرءون. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعقبى الدار مبتدأ مؤخر وجملة لهم عقبى الدار خبر أولئك والجملة كلها خبر الذين الأولى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) جنات عدن بدل من عقبى الدار أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي جنات أو مبتدأ وجملة يدخلونها خبر وعلى الأولين تكون الجملة حالية.
ومن عطف على الواو في يدخلونها ولا حاجة لتقدير ضمير كما فعل بعض المعربين لوجود الفصل بالضمير المنصوب ولك أن تعربها مفعولا معه والواو واو المعية وجملة صلح صلة ومن آبائهم حال وما بعده عطف عليه. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) الواو حالية والملائكة مبتدأ وجملة يدخلون خبر وعليهم متعلقان بيدخلون ومن كل باب متعلقان بيدخلون أيضا. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) سلام مبتدأ وعليكم خبر وساغ الابتداء لما فيه من معنى الدعاء والجملة مقول قول محذوف في موضع نصب على الحال أي قائلين وبما صبرتم الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم أي هذا بسبب صبركم فهما خبر لمبتدأ محذوف أو متعلق بسلام أي نسلم
116
عليكم ونكرمكم بصبركم وعن النبي ﷺ أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. والفاء الفصيحة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وعقبى الدار فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف أي هي.
البلاغة:
في قوله تعالى «صبروا ابتغاء وجه ربهم» فن الاحتراس وقد تقدم فقد انتفى بقوله ابتغاء وجه ربهم أن يكون صبرهم ناشئا عن حب الجاه والشهرة أو ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل وأوقره عند الزلازل لئلا يشمت به الأعداء كقول أبي ذؤيب:
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتزعزع
ولا اعتقادا منهم بأن الأمر مقدور ولا مفر منه ولا طائل من الهلع ولا مرد للفائت ولا دافع لقضاء الله كقوله:
ما إن جزعت ولا هلع.... ت ولا يرد بكاي زندا
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
117
اللغة:
(طُوبى) : مصدر من الطيب كبشرى ورجعى وزلفى فالمصدر قد يجيء على وزن فعلى وأصله يائي فهي طيبى قلبت الياء واوا لوقوعها ساكنة إثر ضمة كما قلبت في موقن وموسر من اليقين واليسر ومعنى طوبى لك أصبت خير طيبا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما لك وسلام لك وفي القاموس: الطوبى مؤنث الأطيب والغبطة والسعادة والخير والخيرة وجمع طيبة وهذا من نوادر الجموع.
الإعراب:
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الذين مبتدأ وجملة ينقضون صلة والواو فاعل وعهد الله مفعول به ومن بعد ميثاقه حال.
(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) تقدم إعراب نظيرتها.
(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) عطف على الجمل السابقة. (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أولئك مبتدأ وخبره لهم اللعنة وقد تقدم اعراب نظيرتها وجملة أولئك لهم اللعنة خبر الذين ولهم سوء الدار عطف على لهم اللعنة. (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الله مبتدأ وجملة
118
يبسط الرزق خبر ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يشاء. (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) الواو استئنافية وجملة فرحوا مستأنفة مسوقة لبيان قبح أفعالهم مع ما أفاضه عليهم من رزق ونعم سوابغ وبالحياة جار ومجرور متعلقان بفرحوا والدنيا صفة للحياة.
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) الواو حالية وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا صفة وفي الآخرة حال على حذف مضاف أي في جنب الآخرة و «في» هذه للمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لا حق والتقدير وما الحياة الدنيا كائنة في جنب الآخرة ولا يجوز أن تكون «في» للظرفية لأن الحياة الدنيا لا تكون في الآخرة وإلا أداة حصر ومتاع خبر. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو عاطفة ليتساوق الارتباط بين قولهم وما كانوا عليه من ضلال.
ويقول الذين فعل مضارع وفاعل وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض بمثابة هلا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل والضمير يعود على النبي محمد عليه السلام وآية نائب فاعل ومن ربه صفة. (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) إن واسمها وجملة يضل خبرها ومن مفعول به وجملة يشاء صلة ويهدي عطف على يضل واليه متعلقان بيهدي ومن مفعول به وجملة أناب صلة.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الذين بدل وجملة آمنوا صلة، أو الذين مبتدأ خبره الذين آمنوا والأول أولى، وتطمئن عدل عن الماضي إلى المضارع لإفادة التجدد وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة وقلوبهم فاعل تطمئن وبذكر الله متعلقان بتطمئن والقلوب فاعل. (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الذين مبتدأ أو خبر الذين الأولى وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على الصلة وطوبى مبتدأ ولهم خبر وساغ
119
الابتداء بها لما فيها من معنى الدعاء، وقيل طوبى خبر لمبتدأ محذوف واللام في لهم للبيان مثل سقيا لك ورعيا لك أو مفعول لفعل محذوف أي أصبت خيرا طيبا وقرىء وحسن مآب بالنصب والرفع، ولك أن تعربها مفعولا مطلقا كما قدمنا على قراءة من نصب حسن لظهور حركة الاعراب عليها والأول أولى لأن الجمهور قرأ بالرفع ولأبي البقاء وهم فيها إذ أجاز اعرابها حالا مقدرة ولا أدري ما هو مبرره وحسن عطف على طوبى ومآب مضاف اليه.
البلاغة:
في قوله تعالى «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم» فن رفيع من فنون البلاغة وقد سبق ذكره ونعيد الآن ما يتعلق بهذه الآية فقد عدل عن عطف الماضي على الماضي فلم يقل واطمأنت قلوبهم لسر من الأسرار يدق إلا على العارفين بأسرار هذه اللغة الشريفة ذلك أن من خصائص الفعل المضارع أنه قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال وهما الزمانان اللذان يحتملهما المضارع فلا يدل إلا على مجرد الاستمرار ومنه هذه الآية أي أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بصورة مطردة مهما تتالت المحن، وتعاقبت الأرزاء، وحدثت المفاجأة فكأنما أعدوا لكل محنة صبرا ولكل رزء اطمئنانا جديدا فتدبر هذه الملاحظة فإنها عمود الجمال وسره.
120

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٠ الى ٣١]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
اللغة:
(يَيْأَسِ) قال الزمخشري: ومعنى أفلم ييئس: أفلم يعلم قيل:
هي لغة قوم من النخع وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف والنسيان في معنى الترك قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم
وفي المختار: «اليأس: القنوط وقد يئس من الشيء من باب فهم وفيه لغة أخرى يئس ييئس بالكسر فيهما وهو شاذ ويئس أيضا بمعنى علم في لغة النخع ومنه قوله تعالى: «أفلم ييئس الذين آمنوا».
(قارِعَةٌ) : داهية تقرعهم بصنوف البلاء وفي المختار قرع الباب من باب قطع والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية.
121
الإعراب:
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) الكاف في محل نصب كنظائرها أي مثل ذلك الإرسال أرسلناك إرسالا له شأن وقد تقدمت نظائرها كثيرا وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وفي أمة متعلقان بأرسلناك وجملة قد خلت صفة لأمم ومن قبلها حال لأنه كان صفة لأمم وأمم فاعل. (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتتلو اللام للتعليل وتتلو مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتتلو والفاعل أنت وعليهم متعلقان بتتلو والذي مفعول به وجملة أوحينا إليك صلة. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الواو للحال أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن والجار والمجرور متعلقان بيكفرون ولا مانع من جعلها استئنافية كما قال بعضهم. (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو ربي مبتدأ وخبر والجملة الاسمية مقول القول ولا إله إلا هو تقدم القول فيها مفصلا في البقرة فجدد به عهدا. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) عليه متعلقان بتوكلت وإليه خبر مقدم ومتاب مبتدأ مؤخر. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للرد على من طلبوا من رسول الله أن يسيّر الجبال بقرآنه عن مكة حتى تتسع لهم ويبعث لهم آباءهم ليشهدوا بنبوته. ولو شرطية وان حرف مشبه بالفعل وقرآنا اسمها وجملة سيرت خبر ان وبه متعلقان بسيرت والجبال نائب فاعل وأو حرف عطف وقطعت به الأرض معطوفة وكذلك أو كلم به الموتى وجواب لو محذوف كما تقول لمن تهدده لو أني قمت إليك وتترك الجواب والمعنى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال عن مقارها أو
122
قطعت به الأرض حتى تتصدع وتتزايل وتتهافت أو كلم به الموتى فتسمع وتجيب لما آمنوا وقدرة أبو حيان «لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الانذار والتخويف» وسيأتي مزيد بحث عن هذا الحذف في باب البلاغة. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) بل حرف إضراب ولله خبر مقدم والأمر مبتدأ مؤخر وجميعا حال وهو عطف للاضراب عما تضمنته لو من معنى النفي أي بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه متعنتين. (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) الهمزة للاستفهام والتقرير ولم حرف نفي وقلب وجزم وييئس مضارع مجزوم بلم والذين فاعل وجملة آمنوا صلة وأن مخففة من الثقيلة لتقدم معنى العلم عليها واسمها ضمير الشأن ولو حرف شرط ويشاء فعل مضارع والله فاعل واللام رابطة وجملة هدى الناس جواب لولا محل لها وجميعا حال وجملة الشرط وجوابه خبر ان. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) الواو عاطفة ولا يزال فعل مضارع ناقص والذين اسمها وجملة كفروا صلة وجملة تصيبهم خبر لا تزال وبما صنعوا متعلقان بتصيبهم أي بسبب صنعهم فالباء سببية وما مصدرية وقارعة فاعل تصيبهم. (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أو حرف عطف وتحل عطف على تصيبهم والفاعل هي أي القارعة وقريبا ظرف مكان أي مكانا قريبا من دارهم ومن دارهم متعلقان بقريبا فيتطاير عليهم شرارها وتطوح بهم ويلاتها وقيل إن الفاعل لتحل يعود الى المخاطب وهو الرسول ﷺ أي تحل أنت بجيشك قريبا من دارهم كما حل بالحديبية وقد أتى فتح مكة والأول أظهر وأولى. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) حتى حرف غاية وجر ويأتي مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ووعد الله فاعل والمراد بوعده النصر المحتوم وان واسمها وجملة لا يخلف خبرها والميعاد مفعول به.
123
البلاغة:
في قوله تعالى: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الى آخر الآية إيجاز عجيب فقد حذف الجواب كما تقدم، واختلف المعربون والمفسرون في تقديره وقد قدرناه في الإعراب: لما آمنوا وقد اختار الزمخشري هذا التقدير ولكنه جعله مرجوحا وقدر الأرجح بقوله «لكان هذا القرآن» لكونه غاية في التذكير ونهاية في الانذار وهو تقدير لا بأس به وإن كان الأول أقرب الى سياق الحديث وأوكد في تقرير المعنى وحذف جواب «لو» شائع في كلامهم ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه عمورية:
لو يعلم الكفر كم من أعصر كنت له المنية بين السّمر والقضب
فإن جواب لو محذوف تقديره لأخذ أهبته ولأعد للأمر عدته أو لما أقدم على ما أقدم عليه من اجتراء كما تدل عليه قصة المرأة الهاشمية التي سباها أحد العلوج فصرخت وا معتصماه.
وعبارة ابن هشام: «ولو أن قرآنا سيرت به الجبال» الآية أي لما آمنوا به بدليل وهم يكفرون بالرحمن والنحويون يقدرون: لكان هذا القرآن وما قدرته أظهر».
أي للدليل المذكور وفيه أن ما قدروه أيضا دل عليه قوله تعالى:
«لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله» فلم يتبين كون تقديره أظهره من تقديرهم واعلم أن كلّا من الوجهين
124
ودليل كل واحد ذكره الزمخشري فلم يقدر المصنف شيئا انفرد به عن غيره خلافا لما يشعر به قوله: وما قدرته أظهر. هذا وقد أطلق الباقلاني على هذه الآية فن الاشارة وعرفه «بأنه اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة وقال بعضهم في وصف البلاغة «لمحة دالة» وهو بعينه تعريف الإيجاز.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
اللغة:
(فَأَمْلَيْتُ) : الاملاء أن يترك مدة طويلة من الزمن في دعة وأمن وفي القاموس وشرحه: «أملي إملاء الله فلانا أطال عمره: أطاله ومتعه به وأملى الله الظالم وله أمهله» وقال: والاملاء مصدر والامهال والتأخير وما يملى من الأقوال والمليّ الطويل من الزمان يقال: انتظرته مليا أي زمنا طويلا ومر مليّ من الليل وهو ما بين أوله إلى ثلثه وقيل هو قطعة منه لم تحد.
125
(أَشَقُّ)
أشد منه اسم تفضيل من شق يشق من باب نصر مشقة وشقّ الأمر: اشتد وصعب.
الإعراب:
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الواو عاطفة ليتساوق الكلام وللتمهيد الى تسلية النبي ﷺ واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق واستهزىء فعل ماض مبني للمجهول وبرسل سد مسد نائب الفاعل ومن قبلك صفة لرسل. (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) الفاء للعطف وأمليت فعل وفاعل وللذين متعلقان بأمليت وجملة كفروا صلة وثم حرف عطف وأخذتهم فعل وفاعل ومفعول به، فكيف: الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر لكان مقدم وكان فعل ماض ناقص وعقابي اسمها وحذفت الياء لمراعاة الفواصل. (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وجوابه محذوف تقديره لا كما سيأتي والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم تقديره ومن اسم موصول مبتدأ وهو مبتدأ ثان وقائم خبر المبتدأ الثاني والجملة الاسمية صلة الموصول وعلى كل متعلقان بقائم والباء حرف جر بمعنى مع وما موصول مجرور بالباء أو مصدرية وهي مع مدخولها مجرورة بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وخبر من محذوف تقديره كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع وقد دل عليه قوله فيما بعد: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) وجواب الاستفهام «لا» كما قدرناه. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على خبر من المحذوف كما تقدم وهذا أحسن الأقوال فيها وجعلها أبو البقاء عاطفة وجعلها غيره حالية، وجعلوا فعل وفاعل ولله متعلقان بمحذوف مفعول ثان أو بمحذوف حال وشركاء مفعول جعلوا الأول إن كانت جعل بمعنى صيّر.
126
(قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) سموهم فعل أمر للتعجيز وهو فعل وفاعل ومفعول به وأم هي المنقطعة وتنبئونه فعل مضارع حذفت منه همزة الاستفهام والتقدير أتنبئونه وهو فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بتنبئونه وجملة لا يعلم صلة ومفعول يعلم محذوف أي يعلمه وفي الأرض حال والمراد نفي أن يكون له شركاء كما سيأتي في باب البلاغة وإلا لتناولهم علمه. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أم المنقطعة أيضا وهي بمعنى بل وبظاهر متعلقان بتنبئونه أي من غير حقيقة واعتبار معنى ومن القول صفة لظاهر. (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) بل حرف إضراب وعطف وزين فعل ماضي مبني للمجهول وللذين متعلقان بزين وكفروا صلة ومكرهم نائب فاعل. (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الواو عاطفة وصدوا فعل وفاعل وعن السبيل متعلقان بصدوا ومن الواو استئنافية ومن شرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليضلل ويضلل فعل الشرط والله فاعل، فما: الفاء رابطة لجواب الشرط وما نافية حجازية وله خبرها المقدم ومن حرف جر زائد وهاد اسم ما محلا مجرور بما لفظا. (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)
لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الحياة صفة لعذاب والدنيا صفة للحياة. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ)
الواو عاطفة أو حالية واللام للابتداء والآخرة مضاف اليه وأشق خبر عذاب وما لهم من الله من واق تقدم اعرابها.
البلاغة:
انطوت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت... » الى آخر الآية على فنون عديدة من البلاغة لأنها وردت في معرض الاحتجاج عليهم في اشراكهم بالله ندرجها فيما يلي:
127
١- الاستفهام الانكاري في قوله تعالى أفمن وحذف خبره تصريحا في التوبيخ والزراية عليهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما وهذا ما يسميه علماء البيان: الإضمار على شريطة التفسير وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره فيكون الآخر دليلا على الأول وهو على ثلاثة أضرب:
آ- أن يأتي عن طريق الاستفهام فتذكر الجملة الأولى دون الثانية كالآية التي نحن بصددها وكقوله تعالى أيضا: «أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين» تقدير الآية أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه ويدل على المحذوف قوله «فويل للقاسية قلوبهم».
ب- أن يرد على حد النفي والإثبات كقوله «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا» تقديره لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل.
ج- أن يرد على غير هذين الوجهين فلا يكون استفهاما ولا نفيا واثباتا كقول أبي تمام:
يتجنب الآثام ثم يخافها... فكأنما حسناته آثام
ففي صدر البيت إضمار مفسر في عجزه وتقديره انه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة ثم يخاف تلك الحسنة فكأنما حسناته آثام والبيت بعد مأخوذ بطرف خفي من قوله تعالى: «والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة».
٢- وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن
128
هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه وذلك في قوله «وجعلوا لله شركاء».
٣- التعجيز في قوله «قل سموهم» أي عيّنوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجودا فسمّه لأن المراد بالاسم العلم.
٤- نفي الشيء بايجابه أو عكس الظاهر وقد تقدم بحث هذا الفن وهو من متطرفات علم البيان وهو في قوله تعالى «أم تنبئونه بما لا يعلم» وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء وان الله لا يعلمهم كذلك لأنهم- في الواقع- ليسوا كذلك وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة. معبودة ولكن مجيء النفي على هذه السنن المتلو بديع لا تكاد تكتنه بلاغته وعبارته ومن طريفه قول علي بن أبي طالب في وصف مجلس رسول الله ﷺ «لا تثنى فلتاته» أي لا تذاع سقطاته فظاهر هذا اللفظ انه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع وليس المراد ذلك بل المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتثنى.
٥- الاستدارج بقوله «أم بظاهر من القول» ليحثهم على التفكير دون القول المجرد من الفكر كقوله في مكان آخر: «ذلك قولهم بأفواههم» ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها» وهذا الاحتجاج من أعجب الأساليب وأقواها.
٦- التدرج في كل من الإضرابات بأم المنقطعة وب «بل» على أنطف وجه.
129

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
الإعراب:
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) مثل الجنة مبتدأ وخبره محذوف على مذهب سيبويه أي فيما قصصناه عليكم مثل الجنة أي صفتها التي هي مثل في الغرابة وقد تقدمت مقتطفات من كلام سيبويه في مثل هذا التركيب وقال الزجاج معناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. والتي صفة للجنة ووعد المتقون فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل وجملة تجري من تحتها الأنهار تفسير للمحذوف على رأي سيبويه فهي نصب على الحال وكذلك جملة أكلها دائم، وأكلها مبتدأ ودائم خبر وظلها مبتدأ حذف خبره دل عليه ما قبله أي دائم وتلك مبتدأ وعقبى خبر والذين مضاف اليه وجملة اتقوا صلة. (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) عقبى مبتدأ والنار خبر أو بالعكس
130
لمناسبة الاول ولعله أولى. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والذين مبتدأ وجملة آتيناهم صلة والكتاب مفعول آتيناهم الثاني وجملة يفرحون خبر الذين وبما متعلقان بيفرحون وجملة أنزل إليك صلة وسر الفرح موافقته لما ورد عندهم.
(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) الواو عاطفة ومن الأحزاب خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة ينكر صلة وبعضه مفعول به وسيرد في باب الفوائد كتاب الصلح يوم الحديبية. (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ) إنما كافة ومكفوفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأن أعبد الله والجار والمجرور متعلقان بأمرت. (وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) ولا أشرك عطف على أن أعبد وبه متعلقان بأشرك واليه متعلقان بأدعو وإليه الثانية خبر مقدم ومآب مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل أي واليه مآبي أي مرجعي. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه، وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وحكما عربيا حالان أي حاكما بين الناس عربيا أي بلغة العرب ولما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم وقد تقدمت له نظائر. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) اللام موطئة لتقسم وان شرطية واتبعت فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وأهواءهم مفعول به وبعد ظرف متعلق باتبعت وما موصول مضاف اليه وجملة جاءك صلة ومن العلم حال. (ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ما نافية حجازية أو تميمية ولك خبر مقدم ومن الله حال لأنه كان في الأصل صفة ومن زائدة وولي اسم ما أو مبتدأ ولا واق عطف عليه وجملة مالك لا محل لها لأنها جواب القسم ولذلك لم تقترن بالفاء
131
وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفقا للقاعدة في اجتماع الشرط والقسم.
الفوائد:
لما كتب رسول الله ﷺ كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله تعالى «وهم يكفرون بالرحمن قل: هو ربي» وانما قال: «ومن الأحزاب من ينكر بعضه» لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن وقيل لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم وكانوا ينكرون نعت رسول الله وغير ذلك.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٨ الى ٤٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
132
اللغة:
(أُمُّ الْكِتابِ) : أصله الذي يرتد إليه فكل كائن مكتوب فيه والأم أصل الشيء والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة.
(مُعَقِّبَ) : المعقب في الأصل هو الذي يتعقب الشيء بالابطال ومنه قيل الحق معقب لأنه يتعقب غريمه بالطلب والمعقب هو الذي يكر على الشيء فيبطله.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة لابطال الشبهات التي كانوا يوردونها لابطال النبوة وقد أنهاها المفسرون إلى ست شبهات ويمكن الرجوع إليها في المطولات واللام مواطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلا مفعول به ومن قبلك متعلقان بأرسلنا. (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) وجعلنا فعل وفاعل ولهم في موضع المفعول الثاني وأزواجا هو المفعول الأول وذرية عطف على أزواجا وهذا إبطال للشبهة الأولى من شبهاتهم وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بالنسوة ولما انهمك في تعدد الزوجات ولا نصرف الى النسك والزهادة فأجاب بأن الرسل الذين سبقوك كانت لهم زوجات كثيرة فلم يقدح ذلك في نبوتهم.
133
(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص ولرسول خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبآية جار ومجرور متعلقان بيأتي وإلا أداة حصر وبإذن الله استثناء من أعم الأحوال فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكل خبر مقدم وأجل مضاف اليه وكتاب مبتدأ مؤخر. (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) يمحو الله فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يشاء صلة ويثبت عطف على يمحو وعنده الظرف خبر مقدم وأم مبتدأ مؤخر والكتاب مضاف وهذا رد على شبهة ثانية كانوا يوردونها تعطيلا وإرجافا وهي أن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر كاستقبال بيت المقدس ثم يأمرهم في الغد بخلافه كاستقبال الكعبة فرد عليهم مفندا شبهتهم بأنه سبحانه إنما شرع الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم ورأب صدوعهم واختيار الأنفع لهم ولكنهم معطلة لا يأبهون لصلاح أمورهم ومقتضيات أحوالهم. (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) الواو عاطفة وإن الشرطية أدغمت بما الزائدة ونرينك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض مفعول به ثان والذي مضاف اليه وجملة نعدهم صلة الذي وأو حرف عطف ونتوفينك عطف على نرينك ويقدر المعربون جواب الشرط محذوفا أي فذلك شافيك ودليل صدقك ويعربون الفاء في قوله فإنما للتعليل لهذا المحذوف ولا داعي لهذا التكلف بل الأسهل أن يكون قوله فانما هو الجواب وتقدير الكلام ومهما يكن من أمر وكيفما دارت الأحوال وإن أريناك مصارعهم وأنزلنا بهم ما أوعدناهم به من عذاب أو توفيناك قبل أن ترى شيئا من ذلك فما يترتب عليك وليس قصاراك إلا تبليغ الرسالة فحسب. وإنما كافة ومكفوفة وعليك خبر مقدم والبلاغ مبتدأ مؤخر وعلينا خبر مقدم
134
والحساب مبتدأ مؤخر. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف- كما تقدم- تقديره أأنكروا نزول ما أوعدناهم وشكوا في ذلك وامتروا فيه ألم ينظروا في ذلك؟ ألم يروا؟ ألم تكن لهم في تلك المشاهد الكافية والدلائل الوافية عبرة لهم؟ ولم حرف نفي وقلب وجزم وأن واسمها سدت مسد مفعولي يروا وجملة نأتي خبر أن وفاعل نأتي مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به وجملة ننقصها من أطرافها حالية من فاعل نأتي أو من مفعوله أي نفتحها أرضا بعد أرض بما ينقص من أطراف المشركين ويزيد في أطراف المؤمنين. (وَاللَّهُ يَحْكُمُ) لفظ الجلالة مبتدأ وجملة يحكم خبر. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا نافية للجنس ومعقب اسمها المبني على الفتح ولحكمه خبر لا وهو الواو عاطفة وهو مبتدأ وسريع الحساب خبر هو وجملة لا معقب لحكمه حال أيضا من فاعل نأتي على الالتفات كأنه قيل والله يحكم نافذا حكمه وستأتي الفائدة من الالتفات في باب البلاغة. (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق وجملة مكر الذين من قبلهم استئنافية مسوقة لتسليته ﷺ وقد مر بحث اسناد المكر الى الله كثيرا فعرج عليه، فلله المكر الفاء عاطفة على محذوف بمثابة التعليل أي فلا تأبه لمكرهم ولا تخش ضيرا منه فحذف هذا اكتفاء
بدلالة القصر المستفاد من التعليل، والله خبر مقدم والمكر مبتدأ مؤخر وجميعا حال وشتان بين مكرهم ومكره. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) الجملة تفسير لقوله فلله المكر جميعا ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تكسب صلة وكل نفس فاعل.
(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) السين للاستقبال ويعلم الكفار وفي قراءة الكافر فعل وفاعل ولمن اللام حرف جر ومن اسم استفهام في محل
135
جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعقبى الدار مبتدأ مؤخر. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) الجملة مستأنفة مسوقة لاجمال الشبهات الست التي أوردوها والتي تنتهي في اعتقادهم الى هذه النتيجة وهي إبطال رسالته ﷺ وجملة لست مرسلا مقول قولهم وهو مجمل شبهاتهم وليس واسمها وخبرها.
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) كفى فعل ماض تقدم بحثه مستوفى وبالله الباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور لفظا مرفوع محلا وشهيدا تمييز وبيني وبينكم ظرفان متعلقان بشهيدا ومن عطف على الله وعنده الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الكتاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة من.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب في حكمه» التفات بليغ، وقد سبق ذكر الالتفات مشفوعا بالأمثلة والشواهد ونزيده هنا بسطا بصدد ما يتعلق بالآية فتقول: الرجوع عن خطاب النفس الى الغيبة في الآية وبناء الحكم على الاسم الجليل ينطوي على أعظم الأسرار وأبهرها فإنه لما أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة المشوبة بالتحذير كان لا بد أن يتوجه إليهم بالخطاب ليريهم مكان القوة والعظمة لديه، عاد الى تصوير الفخامة والمهابة، وتحقيق مضمون الخبر بالاشارة الى العلة التي هي السبب في إتيان الأرض وانتقاص أطرافها وإدالة الأمر من قوم لقوم، ونقل السيطرة من الظالمين بالأمس الى المظلومين ومن الغالبين بالأمس الى المغلوبين وهذه الفخمية لا تتأتى إلا بإيراد الكلام في معرض الغيبة فقال ملتفتا والله يحكم في خلقه بما يشاء لا راد لحكمه ثم أردف ذلك بقوله لا معقب
136
لحكمه ولا مبطل لمشيئته وثلث بقوله وهو سريع الحساب فكل شيء محسوب لديه وعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا وستأتي شواهد بديعة من هذا الفن الرفيع.
٢- الاستخدام:
وفي قوله «لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» فن رفيع من فنون البلاغة أطلق عليه علماء هذا الفن اسم:
«فن الاستخدام» وعزفوه بتعريفات لا تخلو من غموض وسنحاول بسط ما أجملوه فأما تعريفه كما أورده ابن أبي الإصبع وابن منقذ وصاحب نهاية الأرب فهو: أن يأتي المتكلم بلفظة لها محملان ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما وتستخدم كل لفظة منهما أحد محملي اللفظة المتوسطة، ففي الآية المذكورة لفظة «كتاب» تحتمل الأمد المحتوم بدليل قوله تعالى في البقرة «حتى يبلغ الكتاب أجله» أي حتى يبلغ الكتاب أمده أي أمد العدة وأجله منتهاه والكتاب المكتوب وقد توسطت لفظه كتاب بين لفظتي «أجل» و «يمحو» فاستخدمت لفظة أجل أحد مفهوميها وهو الأمد واستخدمت لفظة يمحو مفهومها الآخر وهو المكتوب فيكون التقدير على ذلك لكل حد مؤقت مكتوب يمحي ويثبت.
وهنالك تعريف آخر يتمشى على طريقة صاحب الإيضاح ومشى عليه كثير من الناس وهو أن الاستخدام اطلاق لفظ مشترك بين معنيين فتريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم تعيد عليه ضميرا تريد به المعنى الآخر أو تعيد عليه إن شئت ضميرين تريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر ومثال هذا النوع قول القائل:
137
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
فلفظة السماء يراد بها المطر وهو أحد المعنيين والضمير في رعيناه يراد به المعنى الآخر وهو النبات وأما شاهد الضميرين فمثاله قول البحتري:
فسقى الغضا والساكنيه وان هم شبّوه بين جوانحي وضلوعي
فإن لفظة الغضا محتملة الموضع والشجر والسقيا صالحة لكل منهما فلما قال والساكنيه أحد معنى اللفظة وهو الموضع بدلالة القرينة عليه ولما قال شبوه استعمل المعنى الآخر وهو الشجر بدلالة القرينة عليه، وقد أورد الشيخ عز الدين الموصلي في شرح بديعيته نقدا حسنا لبيت البحتري فقد قال: «شرط علماء البديع أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكا أصليا والنظر هنا في اشتراك لفظة الغضا فإنه ليس بأصلي لأن أحد المعنيين منقول من الآخر والغضا في الحقيقة الشجر وسموا الوادي غضا لكثرة نبته فيه وقالوا جمر الغضا لقوة ناره فكل منقول من أصل واحد.
ومن الاستخدام قول أبي العلاء في داليته الشهيرة:
قصد الدهر من أبي حمزة الأ واب مولى حجا وخدن اقتصاد
وفقيها أفكاره شدن للنعمان ما لم يشده شعر زياد فالنعمان يحتمل هنا أبا حنيفة رحمه الله ويحتمل النعمان بن المنذر وقد أراد أبو العلاء بلفظ النعمان أبا حنيفة بدليل قوله وفقيها وأراد
138
بالضمير المحذوف النعمان بن المنذر ملك الحيرة بدليل زياد وهو النابغة وكان معروفا بمدح النعمان بن المنذر وقد انتقدوه أيضا لأن ضمير يشده لم يعد على واحد منهما لأن شرط الضمير في الاستخدام أن يكون عائدا على اللفظة المشتركة ليستخدم بها معناها الآخر كما قال البحتري في شبوه فهذا الضمير عائد على الغضا وهذا قد جعل الضمير في يشده غير عائد على اللفظة المشتركة التي هي النعمان فصار طيب الذكر الذي شيده زياد لا يعلم لمن هو لأن الضمير لا يعود على النعمان.
139
Icon