هذه السورة مكية كلها. وهي مبدوءة بالإخبار عن الروم بأنهم غالبون في بضع سنين. وذلك نبأ من أنباء الغيب يخبر الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
والسورة في جمالها وجلالها وبالغ إيقاعها وتأثيرها، تفيض بمختلف المعاني والعبر، والعديد من المشاهد والصور. إلى غير ذلك من المواعظ والحكم والتذكير باليوم الآخر.
وفي السورة من الدلائل والبينات والآيات في الكون والطبيعة ما يحمل العقل على التدبر وإطالة التفكير. وفيها من وصف أحوال الكافرين يوم القيامة مما يغشاهم من الإياس والفزع الداهم ما يثير في النفس الذُعر وينشر في التصور والذهن دوام الذهول. وذلك كشأن الآيات من الكتاب الحكيم التي تصف أحوال الكون والكائنات إذا قامت الساعة.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( ٣ ) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( ٤ ) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٥ ) وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٦ ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾نزلت هذه الآيات حين غلب ملك الفرس على بلاد الشام وأقاصي بلاد الروم فاضطر هرقلَ ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة ثم عادت الدولة لهرقل كما كانت من قبل. وفي هذا الصدد روى الإمام أحمد عن ابن عباس – رضي الله عنهما- في قوله تعالى :﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ قال : غُلبت وغَلَبت، قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الرم على فارس ؛ لأنهم أهل الكتاب. فذكر ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم. فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ؛ فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا جعلتها إلى دون – أراه قال : لعشر " والبضع ما دون العشر. ثم ظهرت الروم بعد. فذلك قوله :﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ ١. غَلَب، مصدر مضاف إلى المفعول. وتقديره : وهم من بعد أن غُلبوا سيغلبون٢
وفي هذا الإخبار دليل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله نبيه أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين وسوف يفرح المؤمنون حينئذ بنصر الله للروم لأنهم أهل كتاب. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله به مما لم يعلمه الناس وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يراه المشركين على ذلك، وأن يزيد في الرهان ثم حرّم الرهان بعد ذلك ونسخ بتحريم القمار.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٥٤٨..
وفي هذا الإخبار دليل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله نبيه أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين وسوف يفرح المؤمنون حينئذ بنصر الله للروم لأنهم أهل كتاب. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله به مما لم يعلمه الناس وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يراه المشركين على ذلك، وأن يزيد في الرهان ثم حرّم الرهان بعد ذلك ونسخ بتحريم القمار.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٥٤٨..
قوله :﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد ﴾ يخبر الله عن تفرده بمطلق الإرادة والقدرة، فهو سبحانه المدبر لشئون الكون وأحوال العالمين، وهو العالم بما يجري في ذلك من أخبار وأحداث، وما من شيء أو حدث أو غلبة إلا منه وبقدرته ﴿ من قبل ومن بعد ﴾ مبنيان على الضم لاقتطاعهما عن الإضافة، أي من قبل هذا الغلب، ومن بعده، أو من قبل كل شيء ومن بعده٢.
قوله :﴿ ويومئذ يفرح المؤمنون ( ٤ ) بنصر الله ﴾ أي يفرح المؤمنون بنصر الله للروم أصحاب قيصر، على فارس أصحاب كسرى وهم مجوس، فهؤلاء وثنيون بعيدون عن ديانة السماء، أما أولئك وهم الروم فهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ٥٤٨.
قوله :﴿ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ يكتب الله النصر لمن يشاء من عباده. وهو سبحانه الغالب الذي لا يقهر، المنتقم من عباده الظالمين، أعدائه أعداء الدين، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، إذ يكتب النصر والتأييد والتمكين.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي أكثر قريش لا يعلمون أن وعد الله حق، وأنه لا يجوز في وعده إخلاف. وقيل : المراد بأكثر الناس، الكافرون، وهم الأكثرون، فإنهم لا يعلمون الحق ولا يعبأون به، وإنما يجنحون للشهوات والباطل.
قال ابن عباس عن قوله :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : يعني معايشهم متى يحصدون ؟ ومتى يغرسون ؟ وكيف يبنون ؟ وقال الحسن البصري : والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يُحسن أن يصلي.
قوله :﴿ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ أي هم في غفلة عن لقاء ربهم وعن العمل بما فيه مرضاة لله ومنجاة لهم يوم القيامة١.
ينبه الله على التفكر فيما خَلَقه من عجيب الخلائق الكثيرة والمختلفة. وهي بكثرتها وعجيب صنعها وكامل اتساقها وانسجامها وتكاملها، تدل قطعا على عظمة الخالق الصانع المدبّر وعلى أنه وحده متفرد بالخلق والإبداع، وليس له في ذلك شريك ولا نديد. وهو قوله :﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ ﴿ مّا ﴾ : نافية. والمراد بالتفكر ؛ النظر والتدبر والتأمل في الكائنات وفيما خلق الله من أشياء كثيرة في السماوات بطباقها الواسعة المديدة، وفي الأرض وما حوته من مياه ومعادن وأناسي ونبات مختلف ألوانه وأجناسه. وما بين ذلك كله وما في خلاله من أجرام ومُركَّبات وكائنات إحياء وغير أحياء. أو لم يتفكر الناس في كل هذه المخلوقات العجائب ؛ ليعلموا أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا ولا سدى. بل خلقت بالحق ؛ أي بالعدل، أو أن خلقها هو الحق، أو أن الله خلقها للحق.
قوله :﴿ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي خلق الله السماوات والأرض إلى أجل مسمى ينتهيان إليه وهو يوم القيامة. فيومئذ تُبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
قوله :﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ اللام للتوكيد. والمعنى : أن كثيرا من الخلق جاحدون مكذوبون بالبعث والدين، منكرون للمعاد بعد الموت. لا جرم أن هؤلاء هالكون خاسرون.
قوله :﴿ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ فقد كانوا أكثر من هؤلاء أموالا وأولادا، وأشد منهم بُنية وأجساما، وأطول أعمارا.
قوله :﴿ وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ إعمار الأرض تهيئتها للحرث والزراعة ؛ فقد عمر السابقون الأرض ؛ أي حرثوها لمزاولة الزراعة فيها أكثر مما عمرها هؤلاء وهم مشركوا مكة ؛ إذ لم يكونوا أهل حرث أو زراعة.
قوله :﴿ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ جاءهم المرسلون بالآيات الواضحة والدلائل الظاهرة على صدق ما جاءوهم به من عند الله لكنهم كذبوهم وجحدوا رسالتهم وأنكروا حججهم وبيناتهم فأنزل الله فيهم عذابه. فما أغنى عنهم بأسهم ولا قوتهم ولا أموالهم ؛ بل أخذهم الله بالتدمير والإبادة ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ لم يعذبهم الله من غير ذنب فعلوه. ولكن يعذبهم بكفرهم وتكذيبهم وكبير معاصيهم.
والمعنى : أن هؤلاء الكافرين المكذبين، مصيرهم ﴿ السُّوأَى ﴾ سواء في الدنيا حيث الشقاء والبوار والندامة، أو في الآخرة حيث النار وبئس القرار. وقيل : السوأى اسم جهنم كما أن الحسنى اسم الجنة. وذلك جزاء المجرمين الخاسرين يوم القيامة ؛ لأنهم كذبوا بآيات الله وكتبه ورسله وكانوا يسخرون من آيات الله ويستهزئون بها٢.
٢ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٨-١٠، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ١٨..
الله المنشئ للخلق كله. وهو سبحانه متفرد بإنشائه من غير شريك له في ذلك ولا ظهير. وهو سبحانه المعيد لهذا الخلق يوم القيامة بعد إفنائه، فيجمعهم الله جميعا في المحشر ثم يصارون بعد الحساب إما إلى الجنة وإما إلى النار، حيث الثبور والبوار.
والمعنى : يوم تقوم القيامة، ويُبعثُ الناس من قبورهم أحياء فينتشرون ويساقون إلى الحشر للحساب، يبأس المجرمون الذين كذبوا بلقاء الله وجحدوا ما أنزله على رسله من الآيات والبينات، واكتسبوا في دنياهم المعاصي والمنكرات، أو يغشاهم اليأس وتطغى عليهم الندامة والحيرة والاكتئاب فلا يملكون حيلة ولا حجة يحتجون بها، وليس لهم حينئذ إلا النار.
قوله :﴿ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ أي تبرأ الجاحدون التابعون من المتبوعين من آلهتهم المزعومة. وهي آلهة كثيرة ومختلفة، ما بين أحجار صماء تُعبد، أو أوثان متعددة الأشكال والأجناس يلين أمامها الواهمون السفهاء ويلاطفونها. أو مخاليق من طواغيت البشر يُذعن لهم الخاسرون الضعفاء من المنافقين والمرائين والخوّارين والمنتفعين أولي الأهواء والأغراض المسفّة. أ أولئك جميعا يكفرون يوم القيامة بآلهتهم الموهومة المصطنعة ويتبرأون منهم تبرأ كاملا.
يعني : الذين آمنوا بربهم وأفردوه بالتوحيد والألوهية وأطاعوه فيما أمر ولم يشركوا به أحدا من الأنداد أو الشركاء فأولئك في جنة الله يكرمون وينعمون ويسرون ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾.
٢ أساس البلاغة ص ١١٠..
سبحان : من التسبيح وهو تنزيه الله من السوء، والثناء عليه بالخير في كل الأوقات. وهذا تسبيح من الله لنفسه المقدسة وإرشاد لعباده كي يسبحوه وينزهوه عن النقائص والعيوب، ويحمدوه حمدا كثيرا دائما لا ينقطع.
وقيل : المراد بالتسبيح ههنا، الصلاة. فقد سئل ابن عباس-رضي الله عنهما- : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم. وتلا هذه الآية. فتمسون : يراد صلاتا المغرب والعشاء. و ﴿ تُصْبِحُونَ ﴾ : يراد صلاة الفجر ﴿ وَعَشِيًّا ﴾ يراد صلاة العصر. و ﴿ تُظْهِرُونَ ﴾ : يراد صلاة الظهر. والمساء معناه إقبال الليل بظلامه. والصباح هو إسفار النهار بضيائه.
المصدر من ﴿ أن ﴾ والفعل في موضع رفع مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبر. والتقدير : وخلقُكم من تراب من آياته١.
يعني : ومن آيات الله ودلالاته على ربوبيته ووحدانيته وكمال قدرته وعظمته ﴿ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ﴾ أي خلق أصلكم وهو أبوكم آدم ﴿ مِّن تُرَابٍ ﴾ وأنتم فرع آدم، والفرع كالأصل ﴿ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ وذلك بعد أن مررتم في جملة مراحل وأطوار، واحدا عقب الآخر، بدءا بالنطف في الأرحام، ثم المُضَغ، ثم العلق، ثم العظام واكتساؤه باللحم، ثم النفخ لبعث الروح، ثم الخروج إلى الدنيا أطوار، بدءا بالرضاع، ثم الفطام، ثم اليفاع، ثم الشباب فالشيخوخة والاكتهال. ويتخلل ذلك سعي وكدّ ونشاط وتعامل ونَصَب وصراع مع الباطل وأهله.
ذلك هو الإنسان المفكر والساعي والمنتشر ؛ فهو أوله نطفة مهينة مستقذرة، ثم تقلّب في مراحل شتى من التطور المتعاقب حتى صار إنسانا سويا قويا مكتمل البنية والإرادة والفهم. وصار ذا بصر وتفكير وتدبير ودهاء وحيلة، فيقطع الأمصار ويجوب البحار والفضاء مسافرا طمعا في كسب أو تحصيل. وبات يعقد المعاهدات والمؤامرات في وضح النهار أو بهيمة الظلمات. أفلا يدل ذلك على قدرة الخالق العليم.
والأعجب من ذلك أن تندرج كل هذه المعاني الكبيرة والكثيرة والمختلفة في هذه الآية القصيرة ذات الكلمات المعدودة ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ آية وجيزة تعرض لحال الإنسان كله بدءا بكونه نطفة في رحم أمه وانتهاء بكونه بشرا ذا قوة وإرادة وصورة حسنة، يسعى جادا منتشرا في الأرض. وهذا واحد من الأدلة الظاهرة على إعجاز القرآن وعلى أنه حق وأنه الخالق الموجد القادر.
قوله :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ أي تعطف قلوب بعضهم على بعض فكل منهما يحب الآخر ويحنو عليه ويجنح إليه جنوحا فطريا. وذلك بعصمة الزواج الذي تنشأ عنه الختونة والصهرية والنسب. وبذلك تتسع دائرة التعارف والتواد والتراحم بين الناس فتعمهم الألفة والمودة والوئام.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ يعني فيما تبين من عجيب قدرة الله على خلق الناس من تراب ليصيروا بشرا منتشرا، ثم خلق الإناث من جنس الذكور لتشيع بينهم المودة والرحمة ووشائج الصهرية والقربى ﴿ لَآيَاتٍ ﴾ أ ي لدلائل عظيمة تكشف عن قدرة الله وعلى حقيقة البعث يوم القيامة ﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ يعني لأولي النباهة والفطانة من أولي العقول النيرة الذين يتدبرون ويتعظون٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٢١٨، وفتح القدير ج ٣ ص ٢١٩..
هذه جملة علامات توقظ الأذهان لتتدبر وتتفكر وتستيقن أن الله حق، وأنه بالغ القدرة، مطلق الإرادة والسلطان. وأول ذلك قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ وهذه علامة هائلة وكبرى تدل على عظيم قدرة الله الذي خلق السماوات باتساعها واتساقها وامتداد طباقها وروعة نظامها وما تزدان به من زهارة الكواكب والنجوم وغير ذلك من الأجرام على كثرتها وضخامتها واختلاف أنواعها وأجناسها. وكذلك خلق الأرض على هيئتها المثيرة المذهلة من جمال النظام ومتانة الإحكام واختلاف الأجناس والمركبات.
قوله :﴿ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ وهذه علامة أخرى تكشف عن حكمة الله البالغة في خلق الناس على لغات مختلفة كثيرة. فمنهم الناطقون بالعربية أو اللاتينية أو الفارسية أو البنغالية أو التركية أو الهندية أو غير ذلك من لغات الأمم المختلفة كالأوروبيين والأفريقيين وغيرهم.
وكذلك اختلاف الألوان لبني الإنسان ليكون فيهم الأبيض والأسود والأسمر والأصفر والأحمر والأشقر. فما من أحد من البشر يشبه الآخر ؛ بل إنهم جميعا مختلفون متفاوتون في الهيئة والسمت والكلام والمشية والصوت واللون ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴾ أي فيما تبين من علامات وحجج لعبرة ظاهرة تكشف عن قدرة الله وحكمته لأولي العقول والمتفكرين.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ أي فيما تبين من دليل لهو علامة ينتبه إليها الذين يسمعون سماع تدبر وتفكر، لا سماع الغافلين المُفرّطين.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ إن في هذه الظواهر العجيبة الباهرة من البرق والمطر وإحياء الأرض بعد موات لدلالة مكشوفة بلجة يتدبرها أولوا الأفهام والنُّهى من الناس.
قوله :﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ﴿ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل : المثل الأعلى يعني وصفه الأعلى ؛ فالله سبحانه له الوصف بالوحدانية في السماوات والأرض ؛ فهو خالقهما ومبدعهما من غير شريك له في ذلك ولا نديد.
قوله :﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الله جل جلاله القوي الذي لا يغالَب، الجبار الذي لا يقهر. وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله، وفي خلقه وتدبيره وتصريفه للأمور.
يمثل الله للمشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء وأشركوا معه في العبادة آلهة أخرى، مثلا من أنفسهم، عبدا مملوكا. وهو قوله :﴿ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ أي هل لكم من مماليككم الذين اتخذتموهم لكم عبيدا، من شركاء فيما رزقناكم من مال ﴿ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء ﴾. أو هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكا له في ماله ليكون هو ومملوكه في هذا المال سواء ؟.
قوله :﴿ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي تخافون هؤلاء الشركاء من مماليككم العبيد أن يقاسموكم أموالكم كما تخافون أن يقاسم بعضكم بعضا. فإن كنتم أنتم تأنفون من مشاركة عبيدكم إياكم فيما تملكونه من المال، فكيف ترضون وتصدقون أن يكون لله أنداد من خلقه يشاركونه في الملك ؟. أو كيف يُتصور أن تنزهوا أنفسكم أيها الناس عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا أنتم عبيد الله شركاءه في خلقه ؟ ! لا جرم أن حكمكم هذا باطل ؛ بل أنه تصور فاسد ومستهجن لا يصدر إلا عن مأفونين موغلين في الضلالة والجهالة والعناد.
قوله :﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ الكاف في الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف. أي مثل ذلك التفصيل نبين لكم الحجج والدلائل الواضحات لأولي العقول النيرة والأفهام التي تتفكر وتتدبر وهؤلاء مخصوصون بتفصيل الآيات ؛ لأنهم أجدر أن يبادروا للانتفاع بآيات الله وحججه وعلاماته الدالة على قدرته على الخلق والبعث ليوم الحساب.
قوله :﴿ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾ من ذا الذي يسدّد للرشاد ويوفق للإسلام ويهدي للحق والصواب، من أضله الله فليس له من هاد سوى الله ﴿ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي ليس لمن أضله الله من ناصر ينصره فيستنقذه من الخسران وسوء المصير. ١
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته بعبادة الله وحده وأن يفردوه بالوحدانية والإلهية وأن لا يشركوا به شيئا من المخاليق.
وهو قوله :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾ خص الوجه بالذكر لما يجتمع فيه من حواس الإنسان، ولأنه أشرفه. والمراد التوجه بالنية والقول والعمل إلى الله وحده، وأن يقام ذلك للدين المستقيم، دين الإخلاص والتوحيد، دين الإسلام.
قوله :﴿ حَنِيفًا ﴾ منصوب على الحال. و ﴿ حَنِيفًا ﴾ أي مائلا إلى دين الله المستقيم غير ملتفت إلى غيره من الأديان والملل الضالة الباطلة. نقول : تحنّف إلى الشيء إذا مال إليه. ومنه قيل لمن مال عن كل دين أعوج هو حنيف، وله دين حنيف، وتحنّف فلان إذا أسلم١.
والمقصود هو تسديد الوجه على التوحيد والإقامة على الدين الذي شرعه الله لعباده من الحنيفية وهي ملة إبراهيم، ملة الحق والتوحيد.
قوله :﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ ﴿ فِطْرَت ﴾، منصوب بتقدير فعل، وتقديره : اتبع فطرة الله. وقيل : منصوب على المصدر. والتقدير : فطر الله الناس على ذلك فطرة٢.
والمراد بالفطرة الإسلام. وهو قول الجمهور من السلف. ويستدل من ذلك على أن الله خلق عباده على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره.
وعلى هذا فإن الطفل قد خلق سليما من الكفر أو الزيغ أو الضلال. بل خلق حنيفا مبرأ من الإشراك والإلحاد والزيغ عن جادة الحق والصواب. ولو نجا الإنسان منذ صغره حتى الكبر من أسباب الإضلال والإغواء والفتنة ولم تعترضه في حياته مكائد الشياطين على اختلاف أجناسهم ومسمياتهم لما زاغ هذا الإنسان عن عقيدة التوحيد ولما أعرض عن منهج الله القويم.
لقد أعرض الإنسان عن دين الله ومنهجه الحكيم القويم الذي شرعه للناس، بفعل الشياطين من الإنس والجن، أولئك الذين نصبوا المكائد والفتن، واصطنعوا الأساليب والمخططات والبرامج والحيل لإغواء الإنسان وإضلاله عن عقيدة التوحيد. عقيدة الإسلام. لقد بُذلت من أجل هذه الوجيبة الفظيعة المريعة جهود هائلة من التخطيط وفي غاية البراعة لاستدراج الإنسان كيما يسقط في حمأة الكفر والرذيلة والفساد، لا جرم أن ما بذله الشياطين من استعماريين وصليبيين ووثنيين وملحدين وماسونيين وصهيونيين، وعملاء ناعقين من جهود وخطط وأساليب فكرية وثقافية وإعلامية واقتصادية ونفسية قد أسهم إسهاما أكبر في تدنيس الفطرة البشرية وفي إفسادها وإبعادها عن صراط الحق لتسام الكفر والانحراف والاعوجاج والارتداد إلى الدركات المسفة من الهبوط والباطل.
ولقد جاء في الحديث الصحيح مما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمةُ بهيمة جمعاء٣ هل تحسون فيها من جدعاء " ٤.
وروى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظفرا، فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟ " فقال رجل : يا رسول الله أما هم أبناء المشركين ؟ فقال : " لا إنما خياركم أبناء المشركين " ثم قال : " لا تقتلوا ذرية لا تقتلوا ذرية ".
وقال عليه الصلاة والسلام : " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ؛ فأبواها يهودانها أو ينصرانها ".
وروى الإمام أحمد عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته :" إن ربي عز جل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا : كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ".
قوله :﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ أي لا تغيير لدين الله، أو لا تبديل لهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام، أو عقيدة التوحيد أو الإيمان بالله وحده لا شريك له.
قوله :﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ الإشارة، تعود إلى إقامة الوجه للدين حنيفا غير مبدّل ولا محرّف. الدين القائم على الحنيفية الكاملة والتوحيد الخالص لله. وذلك هو ﴿ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ أي الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ضلال، وهو دين الإسلام. لا جرم أن دين الإسلام بني على التوحيد، بعيدا عن كل ظواهر الإشراك أو الضلالة أو الباطل. الإسلام قد جيء به ملائما لطبائع البشر التي جُبلوا عليها وملائما لفطرة الإنسان السليمة من الخلل والشذوذ ؛ فهو وحده الذي يراعي حقيقة الإنسان بكل مركباته النفسية والعقلية والروحية والجسدية. وما من ملة أو عقيدة أو مذهب دون الإسلام إلا بني على أحد الخطأين أو كليهما وهما الإفراط والتفريط. لكن الإسلام جاء منافيا كل المنافاة هذين الخطأين ؛ فلا هو يرتضي لأهله الإفراط، وكذلك لا يقبل لهم التفريط. وإنما هو المنهج المعتدل المستقيم الوسط الذي تصلح عليه البشرية طوال الزمن لو سلمت من أفاعيل الشياطين الذين يقطعون الليل والنهار وهم يأتمرون بالبشرية لتدميرها وإفسادها وإشاعة الكفر والضلال والرذيلة فيها.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس لا يعلمون الحق ولا يدرون حقيقة الصواب، وهم غير موقنين أنهم مبطلون أو أنهم سائرون سادرون في العمه والعوج والباطل.
إن جُل البشرية مجانب لمنهج، بعيد عنه بعدا كبيرا. والبشرية في جفوتها الكبيرة هذه قد ركنت إلى الشياطين الذين يسولون لهم الشر والرذيلة وفعل المعاصي، وينفرونهم أشد تنفير من عقيدة التوحيد، ومنهج الحق والفضيلة. وذلك بما برعوا فيه من تخطيط للإضلال والإغواء، فهم جادون ناشطون في أساليب التحيل على البشرية بمختلف الأساليب والوسائل الإعلامية والثقافية والفكرية، لإفساد عقيدتها وتدمير قيمها ونسف حضارتها الناصعة الخيّرة نسفا.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٥٠..
٣ الجمعاء من البهائم: التي لم يذهب من بدنها شيء. انظر المعجم الوسيط ج ١ ص ١٣٥..
٤ الجدعاء: مقطوعة الأنف والأذن. انظر المصباح المنير ج ١ ص ١٠٠ وأساس البلاغة ص ٨٤..
قوله :﴿ وَاتَّقُوهُ ﴾ أي خافوه بالتزام أوامره واجتناب مناهيه وزواجره.
قوله :﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ﴾ خص الصلاة بالذكر من بين العبادات المفروضة بسبب أهميتها وجليل قدرها وعظيم شأنها ؛ فهي عماد الدين كله، ولا يتردد الناس في أداء الصلوات أو يثنون عنها إلا بكلال عزائمهم وهممهم، وفتور العقيدة والتقوى في قلوبهم.
قوله :﴿ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ وذلك بالفسق عن أمر الله ومخالفة دينه، والركون إلى ملل الكفر والباطل.
قوله :﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ الحزب بمعنى الطائفة١ أي كل فرقة من هذه الفرق أو طائفة من هذه الطوائف، مسرورون بما هم عليه من ضلال وعوج، معجبون بما تلبسوا به من ملل الباطل وضلالات الشيطان والهوى. وتلك هي صفة الضالين التائهين من الناس، السادرين في ظلام الكفر والزيغ عن منهج الله ؛ فإنهم معجبون بما هم عليه من ضلالات ؛ إذ يحسبون أنهم على كل شيء، وهم في الحقيقة موغلون في السقوط والانحراف عن دين الله إلى ملل الظلام والكفر٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٢٢٢، وتفسير القرطبي ج ٤١ ص ٣١-٣٣، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٢٨..
ذلك تعجيب من حال المشركين أولي الهلع والجزع، الذين يلوذون بالأصنام والآلهة المزيفة المصطنعة فيذعنون لها بالولاء والخضوع والمودة حتى إذا أصابهم البأس أو الشدة من قحط أو مرض أو خوف أو نحو ذلك من وجوه البلاء والكرب، أنابوا إلى الله خاشعين متضرعين أن يكشف عنهم ما نزل بهم من الضُّر. تلك هي صفة المشركين المكذبين، أو المرتابين أولي الخور الذين يعبدون الله على حرف ؛ فإنهم لا يتعرَّفون على الله إلا في الشدة وحين اشتداد البأس. لكنهم إذا أضلهم الرخاء والنعيم والسعة نسوا الله وأعرضوا عن دينه وجنحوا للأهواء والشهوات ومالوا إلى الدنيا بملذاتها وحطامها الدارس الداثر ؛ وهو قوله :﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ إذا أصاب هؤلاء المشركين الضُّر أو الشدة، كالقحوط أو الجدوب جأروا إلى الله بالدعاء ﴿ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ مطيعين له، مقبلين عليه بقلوبهم، تائبين راجعين من شركهم إلى إفراده بالعبادة والتوحيد وهم يستغيثونه ويتضرعون إليه ليكشف عنهم الضر النازل بهم ﴿ ثُُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً ﴾ أي إذا كشف الله عنهم هذا البلاء وأزال عنهم ما أصابهم من الكرب فأبدلهم به رخاء ونعمة وسعة ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ إذا ﴾ الفجائية ؛ أي إذا كشف الله عنهم الضر بادر الذين دعوا الله، إلى الإشراك به وإلى اتخاذ الأنداد معه والشركاء.
قوله :﴿ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ وهذا الوعيد والتهديد ؛ أي تمتعوا أيها الجاحدون الضالون بما أوتيتم من نعمة فسوف ترون ما يعقب هذا الرخاء الزائل من العذاب المهين.
قوله :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ إن، شرطية، وجوابها ﴿ إذا ﴾ بمنزلة الفاء١ أي إذا أصابهم بلاء أو شدة كالجدب أو القحط أو المرض أو غير ذلك من ضروب المرض بسبب عصيانهم وذنوبهم ﴿ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ أي يأسون من الفرج وانكشاف البلاء والكروب.
وما ينبغي للإياس أن يجد إلى نفوسهم سبيلا. وإنما الإياس والقنوط شأن الكافرين والمنافقين والخائرين من ضَعَفَة الإيمان.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ اسم الإشارة ﴿ ذلك ﴾ يعود على بسط الرزق على من بسط الله عليه، وتضييقه وتقتيره على من أراد التقتير عليه.
وفي هذا لدلالة على بالغ الحكمة لله في كل ما يريد ويفعل١.
يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإيتاء أولي القربى من الأهل وذوي الأرحام من البر والإحسان والصلة ؛ فهؤلاء يجب البر بهم ببذل المال لهم إن كان ذلك مستطاعا. أما صلتهم فإنها واجبة في كل حال إلا لعذر من مرض أو خوف أو فتنة ؛ فإنه لا يقطع صلة الأرحام متعمدا إلا كل خاسر أثيم.
وقد أوجب الله كذلك إعطاء المسكين من مال الله. والمسكين، الذي لا يجد شيئا يقتاته أو ينفقه على نفسه وعياله أو كان يملك القليل النزر الذي لا يكفيه ولا يسد خلته، وكذلك أوجب إعطاء ابن السبيل : وهو المسافر المنقطع عن أهله ووطنه وقد أعوزته البُلغة من العيش أو ما ينفقه على نفسه
قوله :﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ﴾ الإشارة إلى الإحسان والبر بذي القربى والمسكين والمسافر ؛ فإن ذلك خير للذين يقصدون وجه الله ويبتغون الفوز والنجاة في الآخرة.
قوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي الفائزون بخير العاقبة وحسن المصير في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ أي ما أعطيتم من صدقة، واجبة كانت أو تطوعا، تبتغون بها وجه الله ورضاه ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ أي ذلك الذي يقبله الله عز وعلا ويضاعف من أجله الأجر والحسنات أضعافا كثيرة.
قوله :﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ يقدس الله ذاته وينزّه جلاله الكريم عن كل ما يفتريه عليه المبطلون الظالمون من الأنداد والشركاء أو الأولاد والصاحبة١.
المراد بالفساد ههنا القحط ونقص الزروع والثمرات وذهاب البركة. والمراد بالبر : الفيافي والفلوات أي المفاوز. أما البحر : فمعناه هنا الأمصار والأرياف والقرى، والمعنى : استبان النقص في الزروع والخيرات والثمرات بسبب ما يقترفه الناس من الذنوب والمعاصي والظلم. فإن زوال النعمة والبركة عن العباد سببه المعاصي والخطايا. وهو قوله :﴿ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ﴾ أي ليعاقبهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات والأسقام وغير ذلك من وجوه المحن بسبب بعض ذنوبهم ومعاصيهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي لكي يبوءوا بآثامهم ويرجعوا إلى الله مبادرين بالتوبة ومجانبة المعاصي.
قوله :﴿ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ﴾ أي أهلكنا السابقين وأخذناهم بالعذاب والتدمير ؛ لأن أكثرهم كانوا مكذبين مشركين مثل هؤلاء.
قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ من الصدع، وهو الشق. وتصدع القوم، أي تفرقوا١ وفي هذا اليوم العصيب الذي تتزلزل فيه القلوب والأبدان يتصدع الناس، أي يتفرقون فرقتين، واحدة تساق إلى الجنة، والأخرى يُصار بها إلى النار.
يبين الله بعضا من أدلته على وحدانيته، وجلال شأنه وعظيم اقتداره. ومن جملة هذه الأدلة والعلامات إرساله الرياح ﴿ مُبَشِّرَاتٍ ﴾ أي تبشر بنزول الغيث والرحمة ﴿ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ﴾ أي ينعم عليكم بالرحمة وهي الخصب والسعة. وهذه رحمة من الله يمنُّ بها الله على العباد فيعمهم الخير والبحبوحة ﴿ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ﴾ أي تجري السفن في البحر بهبوب الرياح الدافعة لها بأمر الله.
على أن الرياح تظل سببا في حركة الوسائط النقلية جميعا سواء في الزمن الماضي ؛ إذ كانت السفائن على ظهر الماء تندفع جارية بفعل الريح الدافعة. وهي في الزمن الراهن تؤثر في كل وسائل النقل البخارية والميكانيكية والكهربية. وذلك بما يتضمنه الهواء من مختلف المركبات والعناصر، ومن بينها العنصر الأهم وهو الأوكسجين.
فإنه العامل الأساسي في استخراج الطاقة الحرارية وبقائها. وكل ذلك بأمر الله وتقديره وكماله سلطانه.
قوله :﴿ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ﴾ أي تلتمسوا الأرزاق والمعايش بالتجارات وأنتم تجوبون البحار لتصلوا البلاد والأمصار.
قوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم فتفردونه بالعبادة والطاعة والإذعان.
قوله :﴿ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾ جاءوهم بالحجج الظاهرة البلجة، كالمعجزات ونحوها التي تشهد بصدق ما جاءوا به، فكذبوهم قومهم كما كذبك قومك فانتقم الله منهم بإجرامهم وتكذيبهم ؛ إذ أخذهم بالهلاك على اختلاف صوره.
قوله :﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ حَقًّا ﴾، خبر كان. واسمها، ﴿ نَصْرُ ﴾ أي أن نصر المؤمنين على الكافرين حق أوجبه الله على نفسه. وهذا وعد من الله لا يختلف وحقيقة راسخة مستقرة ومسطورة لا تقبل المراء أو الشك. وهي أن الله ناصر عباده المؤمنين الموحدين الذين استقاموا على صراطه الحق والتزموا شرعه ومنهجه للحياة فأطاعوه وأذعنوا لجلاله بالخضوع والاستسلام ولم يرتضوا عن دين الإسلام أيما بديل. أولئك هم المؤمنون الثابتون على الحق، السائرون في ضياء الإسلام المشرق، المتوكلون على الله حق التوكل بعد أن جهدوا ما استطاعوا في اتخاذ الأسباب المادية والمعنوية إعدادا لكل معركة يجاهدون فيها أعداء الله. لا جرم أن أولئك المؤمنين الصادقين المخلصين سيكتب الله لهم النصر والتأييد والإعزاز١.
هذا إخبار من الله عن بالغ قدرته على خَلق ما يشاء ؛ فهو جل وعلا خالق كل شيء وهو مدبر الأمور في الكون كله. ومن جملة ذلك إنزال المطر من السماء عقب مراحل متتالية في الطبيعة يأتي بعضها إثر بعض وذلك بدءا يتصاعد البخار من ماء الأرض وظهوره في السماء ليلامس في الفضاء طبقات باردة مما يفضي إلى تكثفه ونزوله على الأرض ثانية مطرا. لا جرم أن الآية الكريمة ههنا ؛ إذ تنبئ قبل أدهار طويلة عن ظاهرة المطر وكيفية نزوله، لهي دليل ظاهر ساطع على أن هذا القرآن يسمو على مستوى البشر وهو من صنع إله قادر حكيم، إذ خاطب البشرية بهذه الحقيقة قبل أحقاب غابرة، حينما كانت معارف الناس عن الطبيعة وأحداثها في غاية البساطة والبدائية. وذلك هو قوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ﴾ إرسال الرياح إنما يقع بقدرة الله ومشيئته. فما من شيء في الطبيعة والكون إلا وتُسيره إرادة الله الخالق المدبّر. والرياح من شأنها أن تثير السحاب ؛ أي تهيجه وتنشره في طبقات السماء١على أبعاد مختلفة متفاوتة. والسحاب والسحب والسحائب، جمع ومفرده سحابة وهي الغيم٢.
قوله :﴿ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء ﴾ البسط، معناه النشر٣ فالله عز وجلا يسخر الرياح لتحمل في خلالها الغيم، وهو المكون من ذرات الماء، فتنشره في السماء متفرقا ممتدا تبعا لما تقتضيه مشيئة الله، فإن شاء جعله قريبا أو بعيدا، وإن شاء جعله كثيرا أو قليلا.
قوله :﴿ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا ﴾ أي يجعل الغيم في السماء قطعا متفرقة.
قوله :﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ﴾ ﴿ الْوَدْقَ ﴾، معناه المطر٤ أي يخرج المطر من خلال السحاب وهو الغيم فينزل على الأرض ﴿ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي إذا صرف الله هذا المطر إلى أرض أو بلد من البلاد استبشر أهله بذلك، وعمتهم الفرحة والبشرى.
٢ نفس المصدر السابق..
٣ أساس البلاغة ص ٣٩..
٤ أساس البلاغة ص ٦٧٠..
والثاني : أن يكون التقدير : وإن كانوا من قبل أن ينزل الغيث عليهم من قبل السحاب لمبلسين. والضمير يعود إلى السحاب.
في قوله سبحانه :﴿ فَتُثِيرُ سَحَابًا ﴾ ١ أي إن هؤلاء الذين استبشروا وفرحوا بنزول المطر عليهم كانوا قبل نزوله مكتئبين باحتباسه عنهم. أو كانوا مستيئسين قانطين. ٥٠
٢ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٤٤-٤٥، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٣٧..
يصف الله حال الكافرين المعاندين بالموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون ؛ لأنهم هامدون خامدون، لا حياة فيهم ولا حراك. وكذلك الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم فهم أولو طبائع كزَّة لا تلين لموعظة ولا تستجيب لحجة أو برهان. أولئك هم الجاحدون المعاندون الذين لا تسددهم النصيحة ولا يعطفُ قلوبهم الوعظ الكريم الحسن. وهم كذلك يشبهون الصُّمَ الذين لا يسمعون النداء. والأصم إذا ولى مدبرا لا يرده أيُّما نداء رفيع ولا هتاف صارخ ؛ لأنه سادر في صممه لا يسمع. وكذلك الجاحد المعاند ذو الفطرة البور والنفس الفاسدة الكنود ؛ فإنه لا يتعظ بالنصح وحسن الحديث ولا يزدجر بالتحذير ولا التنذير.
وعلى هذا، فإنه حقيق بالمؤمنين الداعين إلى منهج الإسلام في كل زمان أن يجتهدوا في دعوة الطيبين من الناس، أولي الفطر السوية والطبائع السليمة ؛ أولئك المبرأون من الخلل والعيوب النفسية والفطرية، لا جرم أن هؤلاء المبرأين من عيوب النفس وأمراضها مهيأون وحدهم لاستقبال العقيدة الإسلامية، وتدبر التعاليم والمعاني التي جاء بها هذا الدين الحنيف.
قوله :﴿ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أي لا تُسمع يا محمد سماع تصديق وتدبُّر إلا الذين آمنوا بآياتنا ؛ فهؤلاء مصدقون موقنون أن الذي جئتهم به حق ؛ فهم يبادرون السماع والانتفاع بخير ما يسمعون ؛ لأنهم مستسلمون لأمر الله، مذعنون له بالخضوع والطاعة.
أما غلاظ الطبائع، قساة القلوب من المعاندين العتاة فإنهم لا يستجيبون لدعوتك لهم، ولا يصيخون لندائك إياهم بأنهم أشرار قد فسدت فيهم الفطرة وجنحت فيهم الطبائع والعقول.
هذا برهان ظاهر على أن الله حق وأنه الخالق القادر المبدع، وأنه بيده المقاليد وبيده ملكوت كل شيء. إن هذا دليل ساطع مجلجل يتدبره كل ذي نباهة وعقل من أولي الطبائع السليمة من الخلل والعيوب. وذلكم هو خَلق الإنسان أطوارا. وذلك خلال مراحل متتالية من يعقب بعضها بعضا، بدءا بكونه نطفة في بطن أمه ثم يصير بعد تلقيحه البويضة علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم تكسى العظام باللحم، ثم ينفخ فيه الروح وذلكم سرّ أودعه الله في كنه بني آدم ولا تقوى الكائنات على اصطناع مثله. وعقب ذلك كله مرحلة الفصام والخروج ؛ إذ يندلق الجنين مولودا من بطن أمه إلى آفاق الحياة الدنيا ليتقلّب في مراحله العديدة المتعاقبة بدءا بكونه رضيعا ثم يصير طفلا صغيرا ثم فتى يافعا ثم شاباًّ مكتمل القوة ومتانة الجسم. ثم يعقب ذلك ضعف ومشيب. وهو قوله :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ ﴿ وَشَيْبَةً ﴾، مصدر ؛ أي بعد القوة في الجسد والهمة والإرادة والهيئة، يأخذ الإنسان في الكبر والمشيب ليتخلله الضعف كضعف الجسد والعزيمة والقدرة والفهم وكذلك ضعف الحواس كضعف السمع والبصر. وحينئذ يأخذ الإنسان في التداعي والهزال والهرم شيئا فشيئا حتى يفضي إلى المصير المحتوم وهو الموت. إلا أن يأتيه الموت من قبل ذلك.
قوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ﴾ الله يفعل ما يريد ويصنع في الخلق ما يشاء. فهو الذي يخلق الصغر والكبر. والقوة والضعف، والشباب والمشيب.
قوله :﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ الله عليم بشؤون خلقه، قدير على فعل ما يشاء ؛ لا يعز عليه شيء١.
ذلك إخبار عن هول من أهوال القيامة إذا قامت، فحينئذ ﴿ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ ﴿ الْمُجْرِمُونَ ﴾ هم الذين فرطوا في دينهم وزاغوا عن منهج الله الحكيم وآثروا الاعوجاج على الاستقامة والهدى ؛ أولئك ينالهم من الرعب والذعر واليأس ما ينالهم، وهم إذا عاينوا شدائد القيامة ولمسوا فظائعها وفوادحها الثقال راحوا يحلفون-وهم واهمون- على أنهم ﴿ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ أي يحلفون أنهم لم يلبثوا في قبورهم غير ساعة قصيرة عابرة من نهار، أو أنهم لم يلبثوا في الدنيا غير ساعة. وذلك لسرعة انقطاعها وزوالها، وقيل : يحلفون كاذبون. وهذه حالهم في الكذب في الدنيا، وكذلك يكذبون في الآخرة.
وهو قوله :﴿ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾، يُصرفون. أفكه عن رأيه : أي صرفه، ورجل أفاك : أي كذاب١ والمعنى : مثل ذلك الصرف كانوا يُصرفون عن الحق أو الصدق في الدنيا. أي كانوا يكذبون ويصدون عن دين الله وهو الحق.
قوله :﴿ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ أي ما كنتم تعلمون أن هذا اليوم حق، بل كنتم تستعجلونه تهكما واستخسارا. هكذا يقال للمجرمين يوم القيامة على سبيل التوبيخ والتبكيت، زيادة لهم في التنكيل. وحينئذ يصيبهم من شدائد الندم والقنوط ما يصيبهم، من غير أن يجديهم ذلك نفعا.
قوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي لا يطلب منهم العتبى وهي الطاعة أو الرجوع إلى ما يرضي الله. يقال : استعتبني فأعتبته : أي استرضاني فأرضيته١ والمعنى : أن المجرمين الخاسرين يوم القيامة، لا يطلب منهم الإعتاب وهو الرجوع إلى الدنيا للطاعة والتوبة عما فعلوه من المعاصي٢.
٢ مختار الصحاح ص ٤١٠، والمعجم الوسيط ج ٢ ص ٥٨٢..
المراد بالأمثال : الصفات والقصص والحجج التي تدل على وحدانية الله وأنه المعبود الحق، المتفرد بالإلهية والربوبية. وهو قوله :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ أي مثَّلنا بمختلف الأمثال والدلائل التي تبين وحدانية الله وتكشف عن صدق ما جاء به المرسلون.
قوله :﴿ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴾ يعني لئن جئت هؤلاء المشركين المعاندين بآية، أي معجزة أو دلالة على صدق ما جئتهم به، ليجيبنّك هؤلاء الضالون الجاحدون قائلين :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴾ يعني ما أنتم أيها المصدقون محمدا فيما جاءكم به من نبوة وكتاب إلا أصحاب أباطيل تتبعون السحر والباطل.
قوله :﴿ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾ ﴿ يَسْتَخِفَّنَّكَ ﴾، من الاستخفاف استخف فلان فلانا أي استجهله واستفزّه، استخف قومه : أي حملهم على الخفة والجهل ؛ أي لا يحملنك قومك الضالون على الخفة فيستفزوك عن دينك ويثبطوك عن أمر الله. والذين لا يوقنون، أي لا يصدقون بالبعث ولا بالنبوة. وهو من اليقين، أي العلم وزوال الشك، ومنه أيقنت واستيقنت وتيقنت١.