تفسير سورة ص

اللباب
تفسير سورة سورة ص من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة ص مكية، وهي خمس وثمانون آية، وسبعمائة واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا.

مكية وهي خمس وثمانون آية وسبعمائة واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿ص﴾ قرأ العامة بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور وقد مر ما فيه.
وقرأ أبيٌّ والحسنُ وابن أبي إسحاق وابن أبي عَبْلَة وأبو السّمَال بكسر الدال من غير تنوين وفيه وجهان:
أحدهما: أنه كسر لالتقاء الساكنين وهذا أقرب.
والثاني: أنه (أمر) من المصاداة وهي المعارضة ومنه صوت الصَّدَى لمعارضته لصوتك، وذلك في الأماكن الصُّلبة الخالية.
والمعنى عارض القرآن بعملك فاعل بأوامره (وانته عن نواهيه قاله الحسن. وعنه أيضاً أنه من صَادَيْتُ أي حَادَثْتُ) والمعنى حَادِث النَّاسَ بالقرآن، وقرأ ابنُ
362
أبي إسْحَاقَ كذلك إلاَّ أنه نونه وذلك على أنه مجرور بحرف قسم مقدر حذف وبقي عمله كقولهم: اللَّهِ لاَفْعَلَنَّ بالجر إلا أن الجر يقل في غير الجلالة، وإنما صرفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب أو التنزيل وعن الحسن أيضاً وابن السميقع وهَارونَ الأَعْورض صادُ ومنع من الصرف للعملية والتأنيث وكذلك قرأ ابن السَّمَيْقَع وهارُون قافُ ونونُ بالضم على ما تقدم وقرأ عيسى وأبو عمرو - في رواية محبوب - صَادَ بالفتح من غير تنوين وهي تحتمل ثلاثة أوجه: البناء على الفتح تخفيفاً كأينَ وكَيْفَ، والجر بحرف القسم المقدر وإنما منع من الصرف للعملية والتأنيث كما تقدم. والنصب بإضمار فعل أو على حذف حرف القسم نحو قوله:
٤٢٣٢ - فَذَالكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ... وامتنعت من الصرف لما تقدم. وكذلك قرأ قاف ونون بالفتح فيهما وهما كما تقدم ولم يحفظ التنوين مع الفتح والضم.

فصل


قيل: هذا قسم، وقيل: اسم للسورة كما ذكر في الحروف المقطعة في أوئل
363
السور قال محمد بن كعب القُرَظِيّ: (ص) اسم الصّمد وصادق الوعد وقال الضحاك: معناه صدق الله وروي عن ابن عباس صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها وسلتم قادرين على معارضته.
فإن قيل: قوله ﴿والقرآن ذِي الذكر﴾ قسم فأين المقسم عليه؟.
فالجواب من وجوه:
أحدهما: قال الزجاج والكوفيون غير الفراء: هو قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ﴾ [ص: ٦٤] قال الفراء: لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قوله ﴿والقرآن﴾ وقال ثعلب والفراء هو قوله: «كَمْ أَهْلَكْنَا» والأصل: «لكم أهلكنا» فحذف اللام كما حذفها في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: ٩] بعد قوله: ﴿وَالشَّمْسِ﴾، لما طال الكلام.
الثالث: قال الأخفش هو قوله: «إنْ كُلُّ لَمَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ» كقوله: ﴿تالله إِن كُنَّا﴾ [الشعراء: ٩٧] وقوله: ﴿والسمآء والطارق﴾ ﴿إِن كُلُّ﴾ [الطارق: ١و ٤]
الرابع: قوله: ﴿إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا﴾ [ص: ٥٤].
الخامس: هو قوله: « (ص) » لأن المعنى والقرآن لقد صدق محمد قاله الفراء وثعلب أيضاً؛ وهذا بناء منهما على جواز تقديم جواب القسم وأن هذه الحرف مقتطع من جملة دالّ هو عليها وكلاهما ضعيف.
السادس: أنه محذوف واختلفوا في تقديره فقال الحَوْفيُّ تقديره: «لَقَدْ جَاءَكُم الحَقُّ» ونحوه وقدره ابن عطية: ما الأمر كما تزعمون. ودل على هذا المحذوف
364
قوله: ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ﴾ والزمخشري: أنه لمعجز، وأبو حيان: إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ. قال: لأنه نظير: ﴿يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ [يس: ١ - ٣].
وللزمخشري هنا عبارة بشعة جداً قال: فإن قلت: قوله: «ص. والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق» كلام ظاهر متناف غير منتظم فما وجه انتظامه؟.
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحديث والتنبيه على الإعجاز كما مر في أول الكتاب ثم أتبعه القسم محذوف الجواب بدلالة التَّحدِّي عليه كأنه قال: والقرآن ذِي الذِّكْر إنه لكلام معجز.
والثاني: أن يكون (صاد) خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة كأنه قال: هذه «ص» يعني هذه السورة التي أعجزت العرب وَالقُرآنِ ذي الذكر كما تقول: «هذا حَاتمٌ واللَّهِ» تريد هو المشهور بالسخاء واللَّهِ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمتُ بصاد والقرآنِ ذي الذكر إنه لمعجز. ثم قال: بلِ الذَّينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف (بالحق) وشِقَانِ لله ورسوله (و) جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها «والقرآن ذي الذكر» جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها ومعناه: أُقْسِمُ بالسُّورةِ الشًّرِيفة والقرآنِ ذِي الذِّكر كما تقول: مَرَرْتُ بالرَّجُلِ الكَرِيم وبالنِّسْبَة المُبَارَكَةِ، ولا تريد بالنّسبة غيرَ الرجل. وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاق والقرآنِ ذي الذكر.
(والمراد بكون القرآن ذي الذكر) أي ذي الشرف، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] وقال: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء: ١٠] كما تقول: «لِفُلاَنٍ ذٍكْرٌ فِي النَّاسِ» ويحتمل أن يكون معناه ذو النبأ أي فيه أخبرا الأولين والآخرين وبيان العلوم الأصلية والفرعية.
365
قوله: ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ﴾ إضراب انتقال من قصةٍ إلى أخرى. وقرأ الكسائي - في رواية سَوْرَةَ - وحماد بن الزِّبرقَان وأبو جعفر وَالجَحْدَريّ: في غَرَّة بالغين المعجمة والراء وقد نقل أن حَمَّاداً الراوية قرأها كذلك تصحيفاً فلما رُدّت عليه قال: ما ظننت أن الكافرين في عِزّةٍ. وهو وَهَمٌ منه، لأن العزة المشار إليها حمية الجاهلية. والتنكير في (عزة وشقاق) دلالة على شدّتهما وتفاقمهما.

فصل


قالت المعتزلة دل قوله: (ذِي الذّكْر) على أنه مُحْدَث، ويؤيده قوله: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ﴾ [الأنبياء: ٥٠] ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ [يس: ٦٩] والجواب: أنا نصرف دليلكم إلى ما نقرأه نحن به.

فصل


قال القُتَيْبيُّ: بل لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم بصاد والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة وحَمِيَّة جاهلية وتَكَبُّر عن الحق وشِقَاق خلاف وعداوة لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال مجاهد: في عزة وتغابن.
قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ (كم) مفعول «أَهْلَكْنَا» و «مِنْ قَرْنٍ» تَمْييزٌ، و «مِنْ قَبْلِهِمْ» لابتداء الغاية والمعنى كم أهلكنا من قبلهم من قرن يعني من الأمم الخالية فنادوا استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النِّقْمَة. وقيل: نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب.
قوله: ﴿وَّلاَتَ حِينَ﴾ هذه الجملة في محل نصب على الحل من فاعل «نَادَوْا» أي استغاثوا والحال أنه مَهْرَبَ ولا مَنْجِى.
366
وقرأ العامة «لاَتَ» بفتح التاء وحينَ منصوبة وفيها أوجه:
أحدها وهو مذهب سيبويه: أن لا نافية بمعنى ليس والتاء مزيدة فيها كزيادتها في رُبَّ وثُمّ، كقولهم: رُبَّت وثُمَّت وأصلها «ها» وُصِلَتْ بلا فقالوا «لاَه» كما قالوا ثُمّهْ «ولا يعمل إلا في الزمان خاصة نحو: لات حين، ولات أوان كقوله:
٤٢٣٣ - طَلَبُوا صُلْحَنَا ولاَتَ أَوَانٍ فَأجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاء
وقوله الآخر:
٤٢٣٤ - نَدِمَ البُغَاةُ لاَتَ سَاعَةَ مَنْدَم والبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُ
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها تقديره: وَلاَتَ الحِينُ حِينَ مَنَاصٍ. وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع وقد قرأ هنا بذلك بعضهم لقوله:
٤٢٣٥ - مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ
أي لا براح لي. ولا تعمل في غير الأحيان على المشهور، وقد تمسك بإعمالها في غير الأحيان في قوله:
٤٢٣٦ - حَنًّتْ نَوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّت وَبدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أَجَنَّتِ
فإن»
هنّا «من ظروف الأمكنة، وفيه شذوذ من ثلاثة أوجه:
367
أحدهما: عملها في اسم الإشارة وهو معرفة ولا تعمل إلا في النكرات.
والثاني: كونه لا ينصرف.
الثالث: كونه غير زمان. وقد رد بعضهم هذا بأن» هنا «قد خرجت عن المكانية واستعملت في الزمان كقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١] وقوله:
٤٢٣٧ - (وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمتْ وَتَشَاكَلَتْ)
فَهُنضاك يَعْتَرِفُون أَيْنَ المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب.
إلا أن الشذوذين الأخيرين باقيان. وتأول بعضهم البيت أيضاً بتأويل آخر وهو أن»
لات «هنا مُجْمَلَةٌ لا عمل لها، و» هنا «ظرف خبر مقدم و» حنت «مبتدأ بتأويل حذف» أن «المصدرية تقديره» أَنْ حَنَّت «نحو:» تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّي خَيْرٌ مِنْ أنْ ترَاهُ «وفي هذا تكلف وبعد ألى أن فيه الاستراحة من الشذوذات المذكورة أو الشذوذين وفي الوقف عليها مذهبان: أشهرهما عند [علماء] العربية وجماهير القراء السبعة بالتاء المجبورة اتباعاً لمرسوم الخط، والكسائي وحْدَهُ من السبعة بالهاء.
والأول: مذهب الخليل وسِيبوَيْهِ والزَّجَّاج والفراءِ وابْنِ كَيْسَانَ.
والثاني: مذهب المبرد.
وَأَغْرَبَ أبو عبيدة فقال: الوقف على»
لا «والتاء متصلة بحين فيقولون: قمت تحين قمت وتحين كان كذا فعل كذا، وقال: رأيتها في الإمام كذا» وَلاَ تَحِينَ «متصلةً، وأنشد على هذا أيضاً قول أبي وَجْزَة السَّعديِّ:
368
ومنه حديث ابن عمر وسأله رجل من عثمان فذرك مناقبهُ ثم قال: «اذْهَبْ تَلاَنَ إلَى أَصْحَابِكَ» يريد «الآن» والمصاحف إنما هي لات حين. وحمل العامة ما رآه على أنه مما شذ عن قياس الخط كنَظَائِرَ له مرت. فأما البيت فقيل فيه: إنه شاذ لا يلتفت إليه وقيل: إنه إذا حذف الحين المضاف إلى الجملة التي فيها «لات حين» جاز أن يحذف (لا) وحدها ويستغنَى عنها بالتاء، والأصل: العاطفُونَ حِينَ لاَتَ حِينَ لاَ من عاطف، فحذف الأول ولا وحدها كما أنه قد صرح بإضافة حين إليها في قوله الآخر: _ _
٤٢٣٩ - وَذَلِكَ حِينَ لاَتَ أَوَانِ حِلْمٍ.............................
ذكر هذا الوجه ابن مالك؛ وهو متعسف جداً وقد يقدر إضافة «حين» إليها من غير حذف لها كقوله:
٤٢٤٠ - تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاَتَ حِينَا.................................
أي حين لات حين. وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدة بقوله: «وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ، ولات أوانِ» فإِنه قد وجدت التاء من «لا» دُونَ حِينَ؟!
الوجه الثاني من الأوجه السابقة: أنها عالمة عمل «أن» يعني أها نافية للجِنْس فيكون «حِينَ مَنَاصٍ» اسمها، وخبرها مقدر تقديره ولات حِينَ مَنَاصٍ لَهُمْ، كقولك: لاَ غُلاَمَ سَفَرٍ لَكَ. واسمُها معربٌ لكونه مضافاً.
369
الثالث: أنّ بعدها فعلاً مقدّراً ناصباً حلين مناص بعدها أي لات أرى حينَ مناص لهم بمعنى لَسْتُ أرى ذلك، ومثله: «لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ولا أهْلاً ولا سَهْلاً» أي لا أتوا مرحباً ولا وَطِئُوا سهلاً ولا لَقُوا أهلاً.
وهذا الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان وليس إضمار الفعل هنا نظير إضماره في قوله:
٤٢٤١ - ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً...............................
لضرورة أن اسمها المفرد النكرة مبني على الفتح فلما رأينا هنا معرباً قدرنا له فعلاً خلافاً للزجَّاج فإنه يجوز تنوينه في الضرورة ويدعي أن فتحته للإِعراب، وإنما حذف التنوين لتخفيف ويَسْتَدِلُّ بالبيت المذكور وقد تقدم تحقيق هذا.
الرابع: أن لات هذه ليست هي ليس فأبدلت السين تاء، وقد أبدل تمنها في مواضع قالواك النَّاتُ يريدون الناسَ ومنه سُتٌّ وأصله سُدْسٌ، وقال:
٤٢٣٨ - العَاطِفونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ وَالمُطْعِمونَ زَمَانَ لاَ مِنْ مُطْعِمِ
لَيْسُوا بأخْيَارٍ وَلاَ أَليَاتِ... وقرئ شاذاً: «قل أعوذُ بربِّ النّاتِ» إلى آخرها [الناس: ١ - ٦] يريد شِرار
370
الناسِ ولا أكياس فأبدل، ولما أبدل السين تاءً خاف من التباسها بحرف التمني فقلب الياء ألفاً فبقيت تاء «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلة، لأن حرف العلة لا يبدل ألفاً إلاّ بشرطٍ منها أن يتحركَ، وأن ينفتحَ ما قبله فيكون «حين مناص» خبرها والاسم محذوف على ما تقدم والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيَّةِ.
وقرأ عيسى بن عمر: ولاتِ حينِ مناص بكسر التاء وجر حين. وهي قارءة مشكلةٌ جداً، زعم الفراء أن لات يجر بها وأنشد:
٤٢٤٣ - وَلَتَنْدمُنَّ وَلاَتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ... وأنشد غيره:
٤٢٤٤ - طَلَبُوا صُلحَنَا وَلاَتَ أوان... وقال الزمخشري: ومثله قول أبي زَبيد الطَّائِي:
٤٢٤٥ - طَلَبُوا صُلْحَنَا................ البيت قال: فإن قلت: ما وجه الجر في أوانٍ «؟.
قلت: شُبّه بإذْ في قَولِهِ:
٤٢٤٦ - وَأَنْتَ إِذْ صَحِيح... في أنه زمان قطع عنه المضاف إليه وعوض منه التنوين لأن الأصل: وَلاَت أوانَ صلح. فإن قلت: فما تقول في»
حِينَ مَنَاص «والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من» مناص «لأن أصله حين مناصهم منزلة قطعه من» حين «لاتّحاد
371
المضاف والمضاف إليه وجعل تنوينه عوضاً عن المضاف المحذوف، ثم بين الجهة لكونه مضافاً إلى غير متمكن انتهى.
وخرجها أبو حيان على إضمار» من «والأصل ولات مِنْ حين ماص فحذفت» مِنْ «وبقي عملها نحو قولهم:» عَلَى كَمْ جذع بنيتَ بَيْتكَ «أي مِنْ جذعٍ في أصحِّ القولين وفيه قول آخر: بالإضافة مثل قوله:
٤٢٤٢ - يَا قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي السَّعْلاَتِ عَمْرٌو بْنُ يَرْبُوع شِرار النَّاتِ
٤٢٤٨ -........................ وقال أَلاَ لاَ مِنْ سَبِيل إلى هِنْدِ
٤٢٤٧ - ألاَ رَجُلٍ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً أنشده بجرّ رجلٍ أي ألا مِن رجلٍ.
قال: ويكون موضع (من حين مناص) رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول: لَيْسَ مِنْ رَجُلِ قائماً والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، (و) على أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول الأخفش» ولات أوان «على حذف مضاف يعني أن (هـ) حذف المضاف وبقي المضاف إليه مجرواً على ما كان والأصل ولات حين أوان.
وقدر هذا الوجه مكي بأنه كان ينبغي أن يقوم المضاف إليه مُقَامه في الإِعراب فيرفع.
372
قال شهاب الدين: قد جاء بقاءُ المضاف إليه على جرِّه وهو قسمان قليلٌ وكثيرٌ: فالكثير أن يكون في اللفظ مثل المضاف نحو قوله:
٤٢٤٩ - أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ امْرَءًا وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا
أي وكل نار، والقليل أن لا يكون كقراءة من قرأ:» وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةِ «بجر الآخرة فليكن هذا منه. على أن المبرد رواه بالرفع على إقامته مُقَام المضاف، وقال الزجاج: الأصل ولات أواننا، فحذف المضاف إليه فوجب أن لا يعرف وكَسَرَهُ لالتقاء الساكني.
وقال أبو حيان: وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري أخذه من أبي إسحاق يعني الوجه الأول وهو قوله ولات أوان صلح. هذا ما يتعلق بجر»
حين «وأما كسرة لاَتِ فعلى أصل التقاء الساكينن كحِين إلا أنه لا يعرف تاء تأنيث إلاّ مفتوحةً وقرأ عيس أيضاً بكسر التاء فقط ونصب حين كالعامة.
وقرأ ايضاً ولات حينُ بالرفع. مناص بالفتح وهذه قراءة مشكلة جداً لا تبعد عن الغلط من راويها عن عيسى فإنه بمكان من العِلم المانع له من مثل هذه القراءة. وقد خرجها أبو الضل الرازي في لوامحه على التقديم والتأخير وأن «حين»
أُجْرِيَ مُجْرَى «قَبْلُ وبَعْدُ» في بنائه على الضم عند قطعه عن الإضافة بجامع ما بينه وبينها من الظرفية الزمانية و «مناص» اسمها مبين على الفتح فصل بينه وبينها بحين المقطوع عن الإضافة والأصل: ولات مَنَاصَ حينُ كذا، ثم حذفت المضاف إليه حين وبني على الضم وقدم فاصلاً بين لات واسمها قال: وقد
373
يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه وقد ريو في تار لات الفَتْحُ والكسرُ والضمُّ.
(قوله) :﴿فَنَادَواْ﴾ لا مفعول له لأن الأصل فَعَلُوا النداء من غير قصد منادًى وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطربوا نادى بعضهم لبعض مناص أي عليكم بالفراء فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله لهم: وَلاَت حِينَ مناص قال القشيري فعلى هذا يكون التقدير نفادوا فحذف لدلالة ما بعده (عليه).
قال شهاب الدين: فيكون قد حذف المنادى وهو بعضاً وما ينادون به وهو «مناص» أي نادوا بعضهم بهذا اللفظ وقال الجُرْجَانيّ: أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا مَنْجَى ولا فَوْتَ، فلما قدم «لا» وأخر «حين» اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداءً وخبراً مثل ما تقول: جَاءَ زَيْدٌ راكباً، ثم نقول: جاء وهُوَ رَاكبٌ، «فحين» طفرف لقوله: ﴿فَنَادَواْ﴾ (وقال أبو حيان: وكون أصْل هذه الجملة فنادوا حين لا مناص وأن حين ظرف لقوله) : فنادوا دعوى أعجمية في نظم القرآن والمعنى على نظمه في غاية الوضوح قال شهاب الدين: الجُرْجَانيّ لا يعني أن «حين» ظرف «لِنَادَوْا» في التركيب الذي عليه القرآن الآن إنما يعني بذلك في أصل المعنى والتركيب كما شبه ذلك بقوله: «جَاءَ زَيْدٌ راكباً، ثم جَاءَ زَيْدٌ وَهُو راكبٌ» «فراكباً» في التركيب الأول
374
حال وفي الثاني خبراً مبتدأ حين كان (في الأصل) ظرف للنداء، ثم صار خبر «لات» أو اسمها على حَسبِ الخلاف المتقدم.
و «المَنَاص» مَفْعَلٌ من نَاصَ يَنُوصُ أي هرَبَ فهو مصدر يقال نَاصَهُ يَنُوصُهُ إذا فَاَهُ فهو متعدٍّ، ونَاصَ يَنُوصُ أي تأخر، ومنه نَاصَ عن قِرْنِهِ أي تأخر عنه جبناً. قاله الفراء وأنشد قَوْلَ امْرئِ القيسل: [من الطويل]
٤٢٥٠ - أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِنْ نأَتْكَ تَنُوصُ فَتَقْصُرَ عَنْهَا حِقْبَةً وتَنُوصُ
قال أبو جعفر النحاس: نَاصَ يَنُوصُ إذا تقدم فيكون من الأضْدَاد، واسْتَنَاص طلب المَنَاصَ، قال حارثة بن بدر:
٤٢٥١ - غَمْرُ الجِرَاءِ إِذَا قَصَرْتُ عِنَانَهُ بِيدي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ المِسْحَلِ
ويقال: نَاصَ إلى كَذَا يَنُوصُ نَوْصاً إذَا التَجأ إليه. قال بعضهم المناص المَنْجَى والغَوْثُ، يقال نَاصَهُ ينُوصُهُ إذا أغاثه قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطربوا في الحب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخُذُوا حذْرَكم، فلما نزل بهم العذاب ببدر، وقالوا مناص فانزل الله تعالى: ولات حين مناص أي ليس حين هذا القول.
375
قوله :﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ ﴾ إضراب انتقال من قصةٍ إلى أخرى. وقرأ الكسائي - في رواية سَوْرَةَ - وحماد بن الزِّبرقَان وأبو جعفر وَالجَحْدَريّ : في غَرَّة بالغين المعجمة والراء. وقد نقل أن حَمَّاداً الراوية قرأها كذلك تصحيفاً فلما رُدّت عليه قال : ما ظننت أن الكافرين في عِزّةٍ. وهو وَهَمٌ منه، لأن العزة المشار إليها حمية الجاهلية. والتنكير في ( عزة وشقاق ) دلالة على شدّتهما وتفاقمهما.

فصل


قالت المعتزلة دل قوله :( ذِي الذّكْر ) على أنه مُحْدَث، ويؤيده قوله :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ ﴿ وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ﴾ [ الأنبياء : ٥٠ ] ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾ [ يس : ٦٩ ]، والجواب : أنا نصرف دليلكم إلى ما نقرأه نحن به.

فصل


قال القُتَيْبيُّ : بل لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم بصاد والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة وحَمِيَّة جاهلية وتَكَبُّر عن الحق وشِقَاق خلاف وعداوة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال مجاهد : في عزة وتغابن.
قوله :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ :( كم ) مفعول، «أَهْلَكْنَا » و «مِنْ قَرْنٍ » تَمْييزٌ، و «مِنْ قَبْلِهِمْ » لابتداء الغاية والمعنى كم أهلكنا من قبلهم من قرن يعني من الأمم الخالية فنادوا استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النِّقْمَة. وقيل : نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب.
قوله :﴿ وَّلاَتَ حِينَ ﴾ : هذه الجملة في محل نصب على الحال من فاعل «نَادَوْا » أي استغاثوا والحال أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجِى٠٠٠٣.
وقرأ العامة «لاَتَ » بفتح التاء وحينَ منصوبة وفيها أوجه : أحدها وهو مذهب سيبويه : أن لا نافية بمعنى ليس والتاء مزيدة فيها كزيادتها في رُبَّ وثُمّ، كقولهم : رُبَّت وثُمَّت وأصلها «ها » وُصِلَتْ بلا فقالوا «لاَه » كما قالوا «ثُمّهْ » ولا يعمل إلا في الزمان خاصة نحو : لات حين، ولات أوان كقوله :
طَلَبُوا صُلْحَنَا ولاَتَ أَوَانٍ. . . فَأجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاء
وقوله الآخر :
نَدِمَ البُغَاةُ لاَتَ سَاعَةَ مَنْدَم. . . والبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُ
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها تقديره : وَلاَتَ الحِينُ حِينَ مَنَاصٍ. وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع. وقد قرأ هنا بذلك بعضهم لقوله :
مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا. . . فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ
أي لا براح لي. ولا تعمل في غير الأحيان على المشهور، وقد تمسك بإعمالها في غير الأحيان في قوله :
حَنًّتْ نَوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّت. . . وَبدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أَجَنَّتِ
فإن «هنّا » من ظروف الأمكنة، وفيه شذوذ من ثلاثة أوجه : أحدها : عملها في اسم الإشارة وهو معرفة ولا تعمل إلا في النكرات. الثاني : كونه لا ينصرف. الثالث : كونه غير زمان. وقد رد بعضهم هذا بأن «هنا » قد خرجت عن المكانية واستعملت في الزمان كقوله تعالى :﴿ هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون ﴾ [ الأحزاب : ١١ ] وقوله :
وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمتْ وَتَشَاكَلَتْ. . . فَهُناك يَعْتَرِفُون أَيْنَ المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب.
إلا أن الشذوذين الأخيرين باقيان. وتأول بعضهم البيت أيضاً بتأويل آخر وهو أن «لات » هنا مُجْمَلَةٌ لا عمل لها، و «هنا » ظرف خبر مقدم و «حنت » مبتدأ بتأويل حذف «أن » المصدرية تقديره «أَنْ حَنَّت » نحو :«تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّي خَيْرٌ مِنْ أنْ ترَاهُ ». وفي هذا تكلف وبعد إلى أن فيه الاستراحة من الشذوذات المذكورة أو الشذوذين. وفي الوقف عليها مذهبان : أشهرهما عند [ علماء ] العربية وجماهير القراء السبعة بالتاء المجبورة اتباعاً لمرسوم الخط، والكسائي وحْدَهُ من السبعة بالهاء.
والأول : مذهب الخليل وسِيبوَيْهِ والزَّجَّاج والفراءِ وابْنِ كَيْسَانَ. والثاني : مذهب المبرد.
وَأَغْرَبَ أبو عبيد فقال : الوقف على «لا » والتاء متصلة بحين فيقولون : قمت تحين قمت وتحين كان كذا فعل كذا، وقال : رأيتها في الإمام كذا «وَلاَ تَحِينَ » متصلةً، وأنشد على هذا أيضاً قول أبي وَجْزَة السَّعديِّ :
العَاطِفونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ. . . وَالمُطْعِمونَ زَمَانَ لاَ مِنْ مُطْعِمِ
ومنه حديث ابن عمر وسأله رجل من عثمان فذكر مناقبهُ ثم قال :«اذْهَبْ تَلاَنَ إلَى أَصْحَابِكَ » يريد «الآن »والمصاحف إنما هي لات حين. وحمل العامة ما رآه على أنه مما شذ عن قياس الخط كنَظَائِرَ له مرت. فأما البيت فقيل فيه : إنه شاذ لا يلتفت إليه. وقيل : إنه إذا حذف الحين المضاف إلى الجملة التي فيها «لات حين » جاز أن يحذف ( لا ) وحدها ويستغنَى عنها بالتاء، والأصل : العاطفُونَ حِينَ لاَتَ حِينَ لاَ من عاطف، فحذف الأول ولا وحدها كما أنه قد صرح بإضافة حين إليها في قوله الآخر :
وَذَلِكَ حِينَ لاَتَ أَوَانِ حِلْمٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذكر هذا الوجه ابن مالك ؛ وهو متعسف جداً. وقد يقدر إضافة «حين » إليها من غير حذف لها كقوله :
تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاَتَ حِينَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي حين لات حين. وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدة بقوله :«وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ، ولات أوانِ » فإِنه قد وجدت التاء من «لا » دُونَ حِينَ ؟ !
الوجه الثاني من الأوجه السابقة : أنها عاملة عمل «أن » يعني أنها نافية للجِنْس فيكون «حِينَ مَنَاصٍ » اسمها، وخبرها مقدر تقديره ولات حِينَ مَنَاصٍ لَهُمْ، كقولك : لاَ غُلاَمَ سَفَرٍ لَكَ. واسمُها معربٌ لكونه مضافاً.
الثالث : أنّ بعدها فعلاً مقدّراً ناصباً لحين مناص بعدها أي لات أرى حينَ مناص لهم بمعنى لَسْتُ أرى ذلك، ومثله :«لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ولا أهْلاً ولا سَهْلاً » أي لا أتوا مرحباً ولا وَطِئُوا سهلاً ولا لَقُوا أهلاً.
وهذا الوجهان ذهب إليهما الأخفش. وهما ضعيفان وليس إضمار الفعل هنا نظير إضماره في قوله :
ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لضرورة أن اسمها المفرد النكرة مبني على الفتح فلما رأينا هنا معرباً قدرنا له فعلاً خلافاً للزجَّاج فإنه يجوز تنوينه في الضرورة ويدعي أن فتحته للإِعراب، وإنما حذف التنوين للتخفيف ويَسْتَدِلُّ بالبيت المذكور وقد تقدم تحقيق هذا.
الرابع : أن لات هذه ليست هي " لا " مرادا فيها تاء التأنيث. وإنما هي ليس فأبدلت السين تاء، وقد أبدلت منها في مواضع قالوا : النَّاتُ يريدون الناسَ ومنه سُتٌّ وأصله سُدْسٌ، وقال :
يَا قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي السَّعْلاَتِ. . . عَمْرٌو بْنُ يَرْبُوع شِرار النَّاتِ
َ ليْسُوا بأخْيَارٍ وَلاَ أَليَاتِ. . .
وقرئ شاذاً :«قل أعوذُ بربِّ النّاتِ » إلى آخرها [ الناس : ١-٦ ] يريد شِرار الناسِ ولا أكياس فأبدل، ولما أبدل السين تاءً خاف من التباسها بحرف التمني فقلب الياء ألفاً فبقيت تاء «لات » وهو من الاكتفاء بحرف العلة، لأن حرف العلة لا يبدل ألفاً إلاّ بشرطٍ منها أن يتحركَ، وأن ينفتحَ ما قبله فيكون «حين مناص » خبرها والاسم محذوف على ما تقدم والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيَّةِ.
وقرأ عيسى بن عمر : ولاتِ حينِ مناص بكسر التاء وجر حين. وهي قراءة مشكلةٌ جداً، زعم الفراء أن لات يجر بها وأنشد : وَلَتَنْدمُنَّ وَلاَتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ. . . وأنشد غيره : طَلَبُوا صُلحَنَا وَلاَتَ أوان. . . وقال الزمخشري : ومثله قول أبي زَبيد الطَّائِي : طَلَبُوا صُلْحَنَا. . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : فإن قلت : ما وجه الجر في أوانٍ « ؟.
قلت : شُبّه بإذْ في قَولِهِ : وَأَنْتَ إِذْ صَحِيح. . . في أنه زمان قطع عنه المضاف إليه وعوض منه التنوين لأن الأصل : وَلاَت أوانَ صلح. فإن قلت : فما تقول في «حِينَ مَنَاص » والمضاف إليه قائم ؟ قلت : نزل قطع المضاف إليه من «مناص » لأن أصله حين مناصهم منزلة قطعه من «حين » لاتّحاد المضاف والمضاف إليه وجعل تنوينه عوضاً عن المضاف المحذوف، ثم بين الجهة لكونه مضافاً إلى غير متمكن انتهى.
وخرجها أبو حيان على إضمار «من » والأصل ولات مِنْ حين مناص فحذفت «مِنْ » وبقي عملها نحو قولهم :«عَلَى كَمْ جذع بنيتَ بَيْتكَ » أي مِنْ جذعٍ في أصحِّ القولين. وفيه قول آخر : أن الجر بالإضافة مثل قوله :
ألاَ رَجُلٍ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً. . .
أنشده بجرّ رجلٍ أي ألا مِن رجلٍ.
وقد يتأيد بظهورها في قوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال أَلاَ لاَ مِنْ سَبِيل إلى هِنْدِ
قال : ويكون موضع ( من حين مناص ) رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول : لَيْسَ مِنْ رَجُلِ قائماً والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، ( و ) على أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول الأخفش. وخرج الأخفش «ولات أوان » على حذف مضاف يعني أن ( ه ) حذف المضاف وبقي المضاف إليه مجروراً على ما كان والأصل ولات حين أوان.
وقدر هذا الوجه مكي بأنه كان ينبغي أن يقوم المضاف إليه مُقَامه في الإِعراب فيرفع.
قال شهاب الدين : قد جاء بقاءُ المضاف إليه على جرِّه وهو قسمان قليلٌ وكثيرٌ : فالكثير أن يكون في اللفظ مثل المضاف نحو قوله :
أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ امْرَءًا. . . وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا
أي وكل نار، والقليل أن لا يكون كقراءة من قرأ :«وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةِ » بجر الآخرة فليكن هذا منه. على أن المبرد رواه بالرفع على إقامته مُقَام المضاف، وقال الزجاج : الأصل ولات أواننا، فحذف المضاف إليه فوجب أن لا يعرف وكَسَرَهُ لالتقاء الساكنين.
وقال أبو حيان : وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري أخذه من أبي إسحاق يعني الوجه الأول وهو قوله ولات أوان صلح. هذا ما يتعلق بجر «حين » وأما كسرة لاَتِ فعلى أصل التقاء الساكنين كحِين إلا أنه لا يعرف تاء تأنيث إلاّ مفتوحةً. وقرأ عيسى أيضاً بكسر التاء فقط ونصب حين كالعامة.
وقرأ أيضاً ولات حينُ بالرفع. مناص بالفتح. وهذه قراءة مشكلة جداً لا تبعد عن الغلط من راويها عن عيسى فإنه بمكان من العِلم المانع له من مثل هذه القراءة. وقد خرجها أبو الفضل الرازي في لوامحه على التقديم والتأخير وأن «حين » أُجْرِيَ مُجْرَى «قَبْلُ وبَعْدُ » في بنائه على الضم عند قطعه عن الإضافة بجامع ما بينه وبينها من الظرفية الزمانية و «مناص » اسمها مبني على الفتح فصل بينه وبينها بحين المقطوع عن الإضافة والأصل : ولات مَنَاصَ حينُ كذا، ثم حذف المضاف إليه حين وبني على الضم وقدم فاصلاً بين لات واسمها قال : وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه. وقد روي في تاء لات الفَتْحُ والكسرُ والضمُّ.
( قوله ) :﴿ فَنَادَواْ ﴾ لا مفعول له لأن الأصل فَعَلُوا النداء من غير قصد منادًى. وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطربوا نادى بعضهم لبعض مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله لهم : وَلاَت حِينَ مناص. قال القشيري فعلى هذا يكون التقدير فنادوا فحذف لدلالة ما بعده ( عليه ).
قال شهاب الدين : فيكون قد حذف المنادى وهو بعضاً وما ينادون به وهو «مناص » أي نادوا بعضهم بهذا اللفظ وقال الجُرْجَانيّ : أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا مَنْجَى ولا فَوْتَ، فلما قدم «لا » وأخر «حين » اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداءً وخبراً مثل ما تقول : جَاءَ زَيْدٌ راكباً، ثم تقول : جاء وهُوَ رَاكبٌ، «فحين » ظرف لقوله :﴿ فَنَادَواْ ﴾ وقال أبو حيان : وكون أصْل هذه الجملة فنادوا حين لا مناص وأن حين ظرف لقوله ) : فنادوا دعوى أعجمية في نظم القرآن والمعنى على نظمه في غاية الوضوح. قال شهاب الدين : الجُرْجَانيّ لا يعني أن «حين » ظرف «لِنَادَوْا » في التركيب الذي عليه القرآن الآن إنما يعني بذلك في أصل المعنى والتركيب كما شبه ذلك بقوله :«جَاءَ زَيْدٌ راكباً، ثم جَا
قوله: ﴿وعجبوا أَن جَآءَهُم﴾ أي مِنْ أَنْ، ففيها الخلاف المشهور. «وقَالَ الكَافِرُونَ» من باب وضع الظاهر موضع المضر شهادةً عليهم بهذا الوصف القبيح.

فصل


لما حكى عن الكفار في كونهم في غزّة وشقاقٍ أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال: ﴿وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾ وفي قوله: «منهم» وجهان:
الأول: أنهم قالوا: إن محمداً مساوٍ لنا في الخِلْقَة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يُخْتَصَّ من بيننا بهذا المنصب العالي؟ ﴿.
والثاني: أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم (لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ثم إن هذا الرجل) من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً عن الكذب والتهمة وكان ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون له من قوله. ونظيره قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾
[المؤمنون: ٦٩] ﴿وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ مبالغة في «عجب» كقولهم: رَجُلٌ طُوَال وأمْر سُرَاعٌ، هما أبلغ من طَوِيل وسَرِيع، وقرأ عليٌّ والسُّلَمي وعيسى وابن مِقْسم: عُجَّاب بتشديد الجيم. وهي أبلغ مما قبلها فهي مثل رجل كريم وكُرَّام.
376
قال مقاتل: وعجاب - يعني بالتخفيف - لغة أَزْدِ شَنُوءَةَ، وهذه القراءة أعني بالتشديد كقوله: ﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً﴾ [نوح: ٢٢] وهو أبلغ من كُبَارٍ وكُبَارٌ أبلغ من كَبِير، وقوله: «أَجَعَلَ» أي أصَيَّرها إلَهاً واحداً في قوله وزعمه.
قوله: ﴿وانطلق الملأ مِنْهُمْ﴾ الملأ: هم القوم الذين إذا حضروا امتلأت العيونُ والقلوبُ من مهابتهم، وقوله «مِنْهُمْ» أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكَّتهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالجواب العنيد قائلين بعضهم لبعض: «أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلِهَتِكُمْ»، وذلك «أن عُمَرَ بْنَ الخطاب أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسةً وعشرينَ رجلاً أكبرهم سنًّا الوليد بن المغيرة قال لهم: امشوا إلى أبي طالب فأتَوْا أبا طالب وقالوا له: انت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا قد أتينَاك لتقضيَ بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فدعا به فقال يا ابن أخي: هؤلاء قومك يسألونَك السَّوَاءَ فلا تَمِلْ كُلَّ الميل على قلومك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» مَاذَا تسألون؟ «فقالوا: ارْفُضْ ذكرَ آلهتنا ونَدَعُكَ وآلهتَك فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أعطوني كلمةً واحدة تملكون بها العرب وتدين لكمن بها العجز فقال أبو جهل لله أبوك لنُعْطِيكَها وعشراً أمثالها فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟} ﴿هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ أي عجيب».
قوله: ﴿أَنِ امشوا﴾ يجوز أن تكون «أن» مصدرية أي انطلقوا بقولهم أَنِ امْشُوا، وأن تكون مفسِّرَة إما «لانْطَلَقَ» لأنه ضمن معنى القول، قول الزمخشري: لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا ويتعارضوا فيما جرى لهم انتهى.
وقيل: بل هي مفسرة لجملة محذوفة في محل حال تقديره وانْطَلَقُوا يتحاورون أَن امْشوا.
ويجوز أن تكون مصدرية معمولة لهذا المقدر وقيل: الانطلاق هنا الاندفاع في
377
القول والقول والكلام نحو: انْطَلَقَ لسانُه فان مفسرة له من غير تضمين ولا حذف. والمشيُ الظاهرُ أنَّه هو المتعارف. وقيل: (بل) هو دعاء بكثرة الماشية. وهذا فاسد لفظاً بالألف؛ أي صار ذا ماشية فكان ينبغي على أن يقرأ أَمْشُوا بقطع الهمزة مفتوحة. وأما المعنى فليس مراداً البتة وأي معنى على ذلك، إلا أن الزمخشري ذكر وجهاً صحيحاً من حيث الصناعة وأقرب معنًى ممَّا تقدم (فقال) : ويجوز أنهم قالوا امشوا أي اكثروا واجتمعوا من: مَشَت المرأة إذا كثرتْ ولاَدَتُها، ومنه: الماشية للتفاؤل انتهى وإذا وقف على «أن» وابتدئ بما بعدها فليبتدأ بكسر الهمزة لا بضمِّها، لأن الثالث مكسرو تقديراً إذ الأصل: امْشِيُوا، ثم أُعِلّ بالحذف، وهذا كما يبتدأ بضم الهمزة في قولك: أُغْزِي يا امرأة، وإن كانت الزاي مكسورة لأنها مضمومة، إذا الأصل اعْزُوِي كاخْرُجِي فأعلّ بالحذف.

فصل


لما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة لمكانه قال المشركون: إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لشيء يراد بنا، وقيل: يراد بأهل الأرض، وقيل: يراد بمحمد (أن) يملك علينا، وقيل: إن دينكم لشيءٌ يُرَادُ أي يطلب ليؤخذ عنكم.
قوله: ﴿مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة﴾ أي ما سمعنا بهذا الذي يقول (هـ) محمد من التوحيد في الملة الآخرة، قال ابن عباس والكلبي ومقاتل: يعنون في النصرانية لأنها آخر المِلَلِ وهُمْ لا يوحدون بل يقولون: ثالثُ ثلاثةٍ، وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملَّة قريشٍ دينهم الذي هم عليه.
378
قوله: ﴿فِى الملة﴾ وفيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق «بسَمِعْنَا» أي (لم نسمع في الملة الآخرة بهذا الذي جئت به.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من هذا أي ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة) أي لم نسمع من الكُهَّان ولا من أهل الكتب أنه يحدث توحيد الله في الملة الآخرة. وهذا من فَرْطِ كَذِبِهم.
قوله: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾ أي افتعال وكذب.
(قوله) : أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ (مِنْ بَيْنِنَا)، قد تقدم حكم هاتين الهمزتين في أوائل آل عمران، وأن الوارد منه في القرآن ثلاثى أماكن، والإضرابات في هذه الآية واضحة و «أم» منقطعة.

فصل


المعنى أأنزل عليه الذكر أي القرآن من بيننا وليس بأكبرنا ولا أشرفنا، وهذا استفهام على سبيل الإنكار فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي﴾ (أي وحيي وما أنزلتُ)، (قويل: بل هم في شك من ذكري) أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ» ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول، وقيل: معنى «بل هم في شك من ذكري» هو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا على الكفر ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه و ﴿قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾ [الأنفال: ٣٢] (مِنَ السَّمَاءِ).
قوله: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ يعني مفاتيح نعمة ربك وهي النبوة يعطونها
379
من شاءوا، ونظيره: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: ٣٢] أي نبوة ربك العزيز في ملكه الكامل القدر الوهاب أي وهاب النبوة لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: ﴿أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا﴾ لما قال: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ فخزائن الله تعالى غير متناهية كما قال: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ [الحجر: ٢١] ومن جملة تلك الخزائن السموات والأرض، فلما ذكر الخزائن أولاً على العموم أردفها بذكر السموات والرض وما بينهما يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله فإذا كانوا عاجزين عن هذا القسم فبأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله أولى.
قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُواْ﴾ قال أبو البقاء: هذا كلام محمول على المعنى أي إِن زعموا ذلك فليرتقوا، فجعَلَهَا جواباً لشرط مقدر.
وكثيراً ما يفعل الزمخشري ذلك، ومعنى الكلام إن ادَّعَوْا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون.
قال مجاهد: أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه، وهذا أمر توبيخ وتعجيز واستدل حكماء الإسلام بقوله: ﴿فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب﴾ على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسباباً، وذلك يدل على ما ذكَرْنَا.
قوله: ﴿جُندٌ﴾ يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم جند و «ما» فيها وجهان:
أحدهما: أنها مزيدة.
والثاني: أنها صفة لجند على سبيل التعظيم للهزء بهم أو للتحقير ومثله قوله امرئ القيس:
٤٢٥٢ -.........................
380
وَحَدِيثٍ مَا عَلَى قَصْرِهِ
وقد تقدم هذا في أوائل البقرة و «هنالك» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن يكون خبر الجند و «ما» مزيدة، ومهزوم نعت لجند. ذكره مكي.
الثاني: أن يكون صفة لجند.
الثالث: أن يكون منصوباً «بمهزوم» ومهزوم يجوز فيه أيضاً وجهان:
أحدهما: أنه خبر ثانٍ لذلك المبتدأ المقدر.
والثاني: أنه صفة لجند إلا أن الأحسن على هذا الوجه أن لا يجعل «هنالك» صفة بل متعلقاً به لئلا يلزم تقدم الوصف غير الصريح على الصرح.
و «هنالك» مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة وهو مكة أي سيهزمون بمكة، وهو إخبار بالغيب. وقيل: مشار به نُصْرَة الأصنام، وقيل: إلى حَفْر الخَنْدق يعني إلى مكان ذلك.
الثاني من الوجهين الأولين: أن يكون «جند» مبتدأ و «ما» مزيدة، و «هنالك» نعت ومهزوم خبره، قاله أبو البقاء قال أبو حيان: وفيه بعد لتفلته عن الكلام الذي قبله قال شهاب الدين وهذا الوجه المنقول عن أبي البقاء يبقه إليه مكي.
قوله: ﴿مِّن الأحزاب﴾ يجوز أن يكون لجند وأن يكون صفة «لمهزوم» وجوز أبو البقاء أن يكون متعلقاً به وفيه بعد لأن المراد بالأحزاب هم المهزومون.
381

فصل


المعنى أن الذين يقولون هذا القول جند هنالِك و «ما» صلة مهزومة مغلوب من الأحزاب أي من جملة الأجناد، عين قريشاً، قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو بمكة أنه سيزم جندَ المشركين فقال: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥] فجاء تأويلها يوم بدر، وهنالك إشارة إلى (يوم) بدر ومصارعهم، وقيل: يوم الخندق. وقال ابن الخطيب: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح.
وقوله: «من الأحزاب» أي من جملة الأحزاب أي هم من القرون الماضية الذين تَحَزَّبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا.
382
وقوله :«أَجَعَلَ » أي أصَيَّرها إلَهاً واحداً في قوله وزعمه.
﴿ وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ مبالغة في «عجب » كقولهم : رَجُلٌ طُوَال، وأمْر سُرَاعٌ، هما أبلغ من طَوِيل وسَرِيع، وقرأ عليٌّ والسُّلَمي وعيسى وابن مِقْسم : عُجَّاب بتشديد الجيم. وهي أبلغ مما قبلها فهي مثل رجل كريم وكُرَّام بالتخفيف وكرام بالتشديد.
قال مقاتل : وعجاب- يعني بالتخفيف - لغة أَزْدِ شَنُوءَةَ، وهذه القراءة أعني بالتشديد كقوله :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٢ ]. وهو أبلغ من كُبَارٍ وكُبَارٌ أبلغ من كَبِير،
قوله :﴿ وانطلق الملأ مِنْهُمْ ﴾ الملأ : هم القوم الذين إذا حضروا امتلأت العيونُ والقلوبُ من مهابتهم، وقوله «مِنْهُمْ » أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكَّتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجواب العنيد قائلين بعضهم لبعض :«أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلِهَتِكُمْ »، وذلك «أن عُمَرَ بْنَ الخطاب أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسةً وعشرينَ رجلاً أكبرهم سنًّا الوليد بن المغيرة قال لهم : امشوا إلى أبي طالب فأتَوْا أبا طالب وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا قد أتينَاك لتقضيَ بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا به فقال يا ابن أخي : هؤلاء قومك يسألونَك السَّوَاءَ فلا تَمِلْ كُلَّ الميل على قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«مَاذَا تسألون » ؟ فقالوا : ارْفُضْ ذكرَ آلهتنا ونَدَعُكَ وآلهتَك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتعطوني كلمةً واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل لله أبوك لنُعْطِيكَها وعشراً أمثالها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد ؟ ! ﴿ إن هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ أي عجيب ».
قوله :﴿ أَنِ امشوا ﴾ يجوز أن تكون «أن » مصدرية أي انطلقوا بقولهم أَنِ امْشُوا، وأن تكون مفسِّرَة إما «لانْطَلَقَ » لأنه ضمن معنى القول، قال الزمخشري : لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا ويتعارضوا فيما جرى لهم انتهى.
وقيل : بل هي مفسرة لجملة محذوفة في محل حال تقديره وانْطَلَقُوا يتحاورون أَن امْشوا.
ويجوز أن تكون مصدرية معمولة لهذا المقدر. وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام نحو : انْطَلَقَ لسانُه فأن مفسرة له من غير تضمين ولا حذف. والمشيُ الظاهرُ أنَّه هو المتعارف. وقيل :( بل ) هو دعاء بكثرة الماشية. وهذا فاسد لفظاً ومعنى، أما اللفظ فلأنه إنما يقال من هذه المعنى : أمشى الرجل إذا كثرت ماشيته، بالألف ؛ أي صار ذا ماشية فكان ينبغي على هذا أن يقرأ أَمْشُوا بقطع الهمزة مفتوحة. وأما المعنى فليس مراداً البتة وأي معنى على ذلك، إلا أن الزمخشري ذكر وجهاً صحيحاً من حيث الصناعة وأقرب معنًى ممَّا تقدم فقال : ويجوز أنهم قالوا امشوا أي اكثروا واجتمعوا من : مَشَت المرأة إذا كثرتْ ولاَدَتُها، ومنه : الماشية للتفاؤل انتهى. وإذا وقف على «أن » وابتدئ بما بعدها فليبتدأ بكسر الهمزة لا بضمِّها، لأن الثالث مكسور تقديراً إذ الأصل : امْشِيُوا، ثم أُعِلّ بالحذف، وهذا كما يبتدأ بضم الهمزة في قولك : أُغْزِي يا امرأة، وإن كانت الزاي مكسورة لأنها مضمومة، إذا الأصل اعْزُوِي كاخْرُجِي فأعلّ بالحذف.

فصل


لما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة لمكانه، قال المشركون : إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لشيء يراد بنا، وقيل : يراد بأهل الأرض، وقيل : يراد بمحمد أن يملك علينا، وقيل : إن دينكم لشيءٌ يُرَادُ أي يطلب ليؤخذ عنكم.
قوله :﴿ مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة ﴾ أي : ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة، قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : يعنون في النصرانية لأنها آخر المِلَلِ وهُمْ لا يوحدون بل يقولون : ثالثُ ثلاثةٍ، وقال مجاهد وقتادة : يعنون ملَّة قريشٍ دينهم الذي هم عليه.
قوله :﴿ فِى الملة ﴾ وفيه وجهان : أحدهما : أنه متعلق «بسَمِعْنَا » أي : لم نسمع في الملة الآخرة بهذا الذي جئت به.
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من هذا أي ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة، أي : لم نسمع من الكُهَّان ولا من أهل الكتب أنه يحدث توحيد الله في الملة الآخرة. وهذا من فَرْطِ كَذِبِهم.
قوله :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق ﴾ أي : افتعال وكذب.
قوله :( أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا )، قد تقدم حكم هاتين الهمزتين في أوائل آل عمران، وأن الوارد منه في القرآن ثلاثة أماكن، والإضرابات في هذه الآية واضحة و «أم » منقطعة.

فصل :


المعنى :( أأنزل عليه الذكر ) أي : القرآن من بيننا وليس بأكبرنا ولا أشرفنا، وهذا استفهام على سبيل الإنكار فأجابهم الله تعالى بقوله :﴿ بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ﴾ أي : وحيي وما أنزلتُ، وقيل :( بل هم في شك من ذكري ) أي : من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ » ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول، وقيل : معنى «بل هم في شك من ذكري » هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا على الكفر ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه و ﴿ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] ( مِنَ السَّمَاءِ ).
قوله :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ﴾ يعني : مفاتيح نعمة ربك وهي النبوة يعطونها من شاءوا، ونظيره :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] أي نبوة ربك العزيز في ملكه الكامل القدر الوهاب أي وهب النبوة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
قوله :﴿ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا ﴾ : لما قال :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ﴾ فخزائن الله تعالى غير متناهية كما قال :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ [ الحجر : ٢١ ] ومن جملة تلك الخزائن السموات والأرض، فلما ذكر الخزائن أولاً على العموم أردفها بذكر السموات والأرض وما بينهما يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله فإذا كانوا عاجزين عن هذا القسم فبأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله أولى.
قوله :﴿ فَلْيَرْتَقُواْ ﴾ : قال أبو البقاء : هذا كلام محمول على المعنى أي إِن زعموا ذلك فليرتقوا، فجعَلَهَا جواباً لشرط مقدر. وكثيراً ما يفعل الزمخشري ذلك، ومعنى الكلام إن ادَّعَوْا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون.
قال مجاهد : أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه، وهذا أمر توبيخ وتعجيز. واستدل حكماء الإسلام بقوله :﴿ فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب ﴾ على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسباباً، وذلك يدل على ما ذكَرْنَا.
قوله :﴿ جُندٌ ﴾ يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم جند و «ما » فيها وجهان :
أحدهما : أنها مزيدة، والثاني : أنها صفة لجند على سبيل التعظيم للهزء بهم أو للتحقير ومثله قول امرئ القيس :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَحَدِيثٍ مَا عَلَى قَصْرِهِ
وقد تقدم هذا في أوائل البقرة.
و «هنالك » يجوز فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون خبر الجند و «ما » مزيدة، ومهزوم نعت لجند. ذكره مكي. الثاني : أن يكون صفة لجند. الثالث : أن يكون منصوباً «بمهزوم ».
ومهزوم يجوز فيه أيضاً وجهان : أحدهما : أنه خبر ثانٍ لذلك المبتدأ المقدر. والثاني : أنه صفة لجند إلا أن الأحسن على هذا الوجه أن لا يجعل «هنالك » صفة بل متعلقاً به لئلا يلزم تقدم الوصف غير الصريح على الصريح.
و «هنالك » مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة وهو مكة أي سيهزمون بمكة، وهو إخبار بالغيب. وقيل : مشار به نُصْرَة الأصنام، وقيل : إلى حَفْر الخَنْدق يعني إلى مكان ذلك.
الثاني من الوجهين الأولين : أن يكون «جند » مبتدأ و «ما » مزيدة، و «هنالك » نعت ومهزوم خبره، قاله أبو البقاء قال أبو حيان : وفيه بعد لتفلته عن الكلام الذي قبله قال شهاب الدين وهذا الوجه المنقول عن أبي البقاء سبقه إليه مكي.
قوله :﴿ مِّن الأحزاب ﴾ : يجوز أن يكون صفة لجند وأن يكون صفة «لمهزوم » وجوز أبو البقاء أن يكون متعلقاً به وفيه بعد لأن المراد بالأحزاب هم المهزومون.

فصل :


المعنى : أن الذين يقولون هذا القول جند هنالِك و «ما » صلة مهزوم مغلوب من الأحزاب أي من جملة الأجناد، يعني قريشاً، قال قتادة : أخبر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة أنه سيهزم جندَ المشركين فقال :﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ] فجاء تأويلها يوم بدر، وهنالك إشارة إلى يوم بدر ومصارعهم، وقيل : يوم الخندق. وقال ابن الخطيب : والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح.
وقوله :«من الأحزاب » أي : من جملة الأحزاب أي هم من القرون الماضية الذين تَحَزَّبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا.
ثم قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معزياً له: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد﴾ قال ابن عباس ومحمد بن كعب: ذو البِناء المحكم، وقيل: أراد ذو الملك الشديد الثابت، وقال القتيبيّ: تقول العرب: هم في عِزٍّ ثابت الأوتاد بريدون أنه دائم شديد، وقال الضحاك: ذو القوة البطش، وقال عطية: ذو الجنود والجموع الكثيرة، وسميت الأجناد أوتاداً لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم وهي رواية عطية العوفي عن ابن عباس يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يثبت إلا بالأوتاد والأطْنَاب كما قال الأفوه الأودي:
382
فاستعير لثبات العز والملك واستقرار الأمر كقول الأسود بن يعفر:
٤٢٥٣ - والْبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إلاَّ عَلَى عُمُدٍ وَلاَ عِمَادَ إذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ
٤٢٥٤ - وَلَقَدْ غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشةٍ فِي ظِلّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ
والأوتاد جمع وتد فيه لغات: وَتِدٌ بفتح الواو وكسر التاء وهي الفصحى، ووتَدَ بفتحتين، وَوَدٌّ بإدغام التاء في الدال قال:
٤٢٥٥ - تُخْرِجُ الْوَدَّ إذَا ما أَشْجذَتْ وَتُوَارِيه إذَا تَشْتَكِرْ
ووت بإبدال (الدال) تاء، ثم إدغام التاء فيها، وهذا شاذ؛ لأن الأصل إبدال الأول للثاني لا العكس، وقد تقدم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قوله: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة﴾ [آل عمران: ١٨٥].
ويقال: وَتِدٌ (وَاتِد) أي قويّ ثابتٌ وهو مثلُ مجازِ قولهم: شُغل شاغِل.
أنشد الأصمعي:
٤٢٥٦ - لاَقَتْ (عَلَى) الْمَاءِ جُذَيْلاَ واتدا وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفُهَا الْمَوَاعِدَا
وقيل: الأوتاد هنا حقيقة لا استعارة، (و) قال الكبي ومقاتل: الأوتاد جمع الوَتدِ وكان له أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أَحَد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد تشدّ كل يد ولك رجل منه إلى سارية ويتركه كذلك في
383
الهواء بين السماء والأرض حتى يموت. وقال مجاهد ومقاتل بن حيَّان كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يسد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقاربَ والحيَّاتِ. وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه، ثم قال: ﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ﴾ تقدم الخلاف في الأيكة في سورة الشعراء.
قوله: ﴿أولئك الأحزاب﴾ يجوز أن تكون مستأنفةً لا محل لها (من الإعراب) وأن تكون خبراً، والمبتدأ قال أبو البقاء (من) قوله: «وعاد» وأن يكون من «ثمود» وأن يكون من قوله «وقوم لوط».
قال شهاب الدين: الظاهر عطف (عاد) وما بعدها على «قوم نوح» واستئناف الجملة بعده، وكان يسوغ على ما قاله أبو البقاء أن يكون المبتدأ وحده ﴿وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ﴾.

فصل


المعنى أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم وكذلك قومك هم من جنس الأحزاب المتقدمين.
وقيل: المعنى أولئك الأحزاب مع كمال قوّتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء (المساكين) ؟
قوله: ﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل﴾ إن نافية ولا عمل لها هنا البتة ولو على لغة من قال:
384
٤٢٥٧ - إنْ هُوَ مُسْتوْلِياً عَلَى أَحَدٍ........................
وعلى قراءة: ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ﴾ [الأعراف: ١٩٤] لانتقاض النفي ب «إلاّ» فإن انتقاضه مع الأصل وهي «ما» مبطل فكيف بفرغها؟ وقد تقدم أنه يجوز أن تكون جواباً للقسم.

فصل


المعنى كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين، والمقصود منه زجر السامعين. ثم بين تعالى أن هؤلاء المذكبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم ﴿وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء﴾ أي وما نتظر هؤلاء يعني كفار مكة ﴿إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً﴾ وهي نفخة الصور الأولى كقوله: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٤٩ - ٥٠] والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا ينتظر الشيء فهو ماد الطَّرْف إليه يقطع كل ساعة في حضوره. وقيل: المراد بالصيحة عذاب يفجأهُمْ ويجيئهم دَفْعةً واحدة كما يقال: صَاحَ الزمانُ بهم إذَا هَلَكُوا (قال) :
٤٦٥٨ - صَاحَ الزَّمَانُ بآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً خَرُّوا لِشدَّتِهَا عَلَى الأّذْقَانِ
ونطيره قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾ [يونس: ١٠٢].
قوله: ﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ يجوز أن يكون «لها» رافعاً «لِمنْ فَوَاقٍ» بالفاعلية؛ لاعتماده
385
على النفي، وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر وعلى التقديرين فالجملة المنفية في محل نصب صفة «لصَيْحَة» و «من» مزيدة وقرأ الأخوان: «فُوَاق» بضم الفاء، والباقون بفَتْحها، قال الكسائيُّ والفراءُ وأبو عبيدة: هما لغتان وهما الزمان الذي بين حَلْبَتَي الحَالِبِ، ورَضْعَتَي الرَّاضع، والمعنى ما لها من توقف قدر فواق ناقة.
وفي الحديث: «العِيادَةُ قَدْر فَوَاق نَاقَةٍ» وهذا في المعنى كقوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ [الأعراف: ٣٤].
وقال ابن عباس: ما لها من رُجُوع من أفاقَ المريضُ إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال: أَفَاقَتِ النَّاقَةُ تُفِيقُ إفاقة رجَعَت الفِيقَةُ في ضَرعها، والفِيقةُ اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق وأما أفاويق فجمع الجمع، ويقال: ناقة مُفِيقٌ ومُفِيقَةٌ.
وقال الفراء وأبو عُبَيْدَة ومؤرّج السّدوسيّ: الفواق بالفتح الإفاقة والاسْتِراحة كالجواب من الإجابة وهو قول ابن زيدٍ والسُّدِّيِّ.
وأما المضموم فاسم لا مصدر أي اسم لما بين الحَلْبَتَيْن، والمشهور أنهما بمعنى واحد كقَصَاصٍ الشّعر وقُصاصِهِ وجَمَام المَكُور وجُمَامِهِ، فالفتح لغة قريش،
386
والضم لغة تميم قال الواحدي: الفَوَاق والفُواق اسمان من الإفاقة والإفاقة معناها الرجوع والسكون كما في إفاقة المريض إلا أن الفَوَاق بالفتح يجوز أن يُقَام المصدر، والفُواق بالضم اسم لذلك الزمان، الذي يعوج فيه اللبن، وروي الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال في هذه الآية: يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ نفخة الفزع قال: فَيمدّها ويطولها وهي التي يقول ما لها من فواق، ثم قال الواحدي: وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: ما لها من سكون.
الثاني: ما لها من رجوع والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ويقال لكل من بقي على حالة واحدة بأنه لايُفيقُ منه ولاَ يَسْتَفيقُ.
قوله: ﴿قِطَّنَا﴾ أن نَصِيبَنَا وحَظَّنَا، وأصله من قَطَّ الشيءَ أي قَطَعَهُ، ومنه قَطّ القلم والمعنى قطعه مما وعدتنا به ولهذا يطلق على الصحيفة والصك قِطّ، لأنهما قطعتان يقطعان، ويقال للجائزة أيضاً قِطّ لأنها قطعة من العطية، قال الأعشى:
٤٢٥٩ - وَلاَ الْمَلِكُ النُّعْمَان يَوْمَ لَفِيتُهُ بِغِبْطِتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ وَيَأفِقُ
وأكثري استعماله في الكتاب، قال أمية بن أبي الصّلت:
387
ويجمع على قُطُوط كما تقدم، وعلى قِطَطَةٍ نحو: قِرْد وقِرَدَةٍ وقُرُود، وفي القلة على أَقِطَّةٍ وأَقْطَاطٍ كقِدْح وأَقْدِحَةٍ وأَقْدَاحٍ، إلا أن أفْعِلَةً في فِعْلٍ شاذ.

فصل


قال سعيد بن جبير عن ابن عباس عين كتابنا. والقِطّ: الصحيفة أحصت كل شيء، قال الكلبي: لما نزل قوله في الحاقة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [الحاقة: ١٩ - ٢٥] قالوا استهزاء: عجل لنا كتابنا في الدنيا قل يوم الحساب، وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول. وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: عين عقوبتنا ونصيبنا من العذاب قال عطاء: قاله النَّضْر بن الحَرث وهو قوله: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] وعن مجاهد قطنا: حسابنا يقال للكتاب قط.
قال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتابة بالجوائز واعلم أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة، أولها: من أمر النبوات وإثباتها فقال: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ «.
وثانيها: تعجبهم من الإليهات فقالوا: أَجَعَلَ الآلهةَ إلهاً وَاحِداً.
وثالثها: تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا: ﴿رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ قالوا ذلك استهزاء فأمره الله تعالى بالصبر على سسفاهتهم فقال: ﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾.
فإن قيل: أي تعلق بين قوله: ﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ وبين قوله ﴿واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ ؟
فالجواب: هذا التعلق من وجوه:
الأول: كأنه قيل: إن كنت شاهدت من هؤلاء الجُهّال جَرَاءتَهم على الله وإنكارَهم الحَشْرَ والنشرَ فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر فإن بقَدْرِ ما يَزْدَادُ أحدُ الضِّدين شرفاً يزاد (الضّدّ) الآخ نقصاناً.
الثاني: كأنه قيل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لا) تضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم وإن خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك.
388
الثالث: أن للناس في قصة داود قولان: منهم من قال: إنها تدل على دِينه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنّ حزنك ليس إلا لأن الكفار كذبوك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوع ذلك الذنب، ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن. ومن قال بالثاني قال الخَصْمَان اللذان دخلا على دَاوُدَ كَانَا من البشي وإنما دخلا عليه لقصد قتله، فخاف منهما داودُ ومع ذلك فلم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسُوء بل اسْتَغْفَر لم على (ما سيجيء تقرير هذه الطريقة)، فلا جَرَمَ أمر الله تعالى محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأن يقتدي به في حسن الخلق.
الرابع: أن قريشاً إنما كذبوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واستخفوا به لقولهم: إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قصَّ على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما كان في مَمْلَكَةِ داود، ثم بين بعد ذلك أنه ما سلم من الأحكان والغموم ليَعْلم أن الخَلاص من الحزن لاسبيل إليه في الدنيا.
الخامس: قوله تعالى ﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ ولم يقتصر على قصة داود بل ذكر عقيبَ قصة داود قصص أنبياء كثيرة فكأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليُعْلِمَهُ أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهَمٍّ خاص وحزن خاص فيعلم حنيئذ أن لا انفكاك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجة العالية عند الله لا تحصل إلى بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
قال ابن الخطيب: وههنا وجه آخر قويٌّ وأحسن من كل هذه الوجوه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ الآية [ص: ٢٩].
قوله: ﴿دَاوُودَ﴾ بدل أو عطف بيان، أو منصوب بإضمار أعْنِي و «ذَا الأَيْدِ» نعت له والأيد القوة، قال ابن عباس: أي القوة في العبادة، وقيل: القوة في المِلك، واعلم أن قوله: ﴿عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ فوصفه بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المعراج، قال: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] وأيضاً فإن وصف الأنبياء بالعبودية مُشْعِرٌ بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة والمراد بالأيد القوة في الطاعة والاحتراز عن المعاصي لأن مدحه بالقوة يوجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح العظيم وليست إلا القوة على فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى
389
عنه، والأيد المذكورة ههنا كالقوة المذكروة في قوله:
﴿يايحيى
خُذِ
الكتاب بِقُوَّةٍ﴾
[مريم: ١٢] وقوله: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥] أي باجتهاد وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف، والأيد (و) القوة سواء ومنه قوله: ﴿هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ [الأنفال: ٦٢] وقوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ [البقرة: ٨٧] (وقوله) :﴿والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات: ٤٧] وقال عليه (الصلاة و) السلام: «أحَبُّ الصِّيَام إلَى الله صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ (الصَّلاَة و) السَّلام وأَحَبُّ الصَّلاَة إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاَةُ دَاوُدَ كَان يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ».
قوله: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي رجاع إلى الله عزّ وجلّ بالتوبة عل كل ما يكره، والأَوَّابُ فعَّالٌ من آبَ يَؤُوبُ إذا رَجَعَ قال تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٥] وهذا بناء مبالغة كما يقال: قَتّال وضَرَّاب وهو أبلغ من قَاتِل وضارب، وقال ابن عباس: مطيع، وقال سعيد من جبير: مسبِّح بلغة الحبشة.
390
ثم قال :﴿ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ ﴾ تقدم الخلاف في الأيكة في سورة الشعراء.
قوله :﴿ أولئك الأحزاب ﴾ يجوز أن تكون مستأنفةً لا محل لها ( من الإعراب ) وأن تكون خبراً، والمبتدأ قال أبو البقاء ( من ) قوله :«وعاد » وأن يكون من «ثمود » وأن يكون من قوله «وقوم لوط ».
قال شهاب الدين : الظاهر عطف ( عاد ) وما بعدها على «قوم نوح » واستئناف الجملة بعده، وكان يسوغ على ما قاله أبو البقاء أن يكون المبتدأ وحده ﴿ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ ﴾.

فصل :


المعنى أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم وكذلك قومك هم من جنس الأحزاب المتقدمين.
وقيل : المعنى أولئك الأحزاب مع كمال قوّتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين ؟
قوله :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل ﴾ إن نافية ولا عمل لها هنا البتة ولو على لغة من قال :
إنْ هُوَ مُسْتوْلِياً عَلَى أَحَدٍ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعلى قراءة :﴿ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادا ﴾ [ الأعراف : ١٩٤ ] لانتقاض النفي ب «إلاّ » فإن انتقاضه مع الأصل وهي «ما » مبطل فكيف بفرعها ؟ وقد تقدم أنه يجوز أن تكون جواباً للقسم.

فصل :


المعنى كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين، والمقصود منه زجر السامعين.
ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم ﴿ وَمَا يَنظُرُ هؤلاء ﴾ أي وما ينتظر هؤلاء يعني كفار مكة ﴿ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ﴾ وهي نفخة الصور الأولى كقوله :﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [ يس : ٤٩-٥٠ ] والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معد لهم يوم القيامة فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطَّرْف إليه يقطع كل ساعة في حضوره. وقيل : المراد بالصيحة عذاب يفجأهُمْ ويجيئهم دَفْعةً واحدة كما يقال : صَاحَ الزمانُ بهم إذَا هَلَكُوا، قال :
صَاحَ الزَّمَانُ بآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً***َرُّوا لِشدَّتِهَا عَلَى الأّذْقَانِ
ونظيره قوله تعالى :﴿ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ﴾ [ يونس : ١٠٢ ].
قوله :﴿ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴾ يجوز أن يكون «لها » رافعاً «لِمنْ فَوَاقٍ » بالفاعلية ؛ لاعتماده على النفي، وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر وعلى التقديرين فالجملة المنفية في محل نصب صفة «لصَيْحَة » و «من » مزيدة. وقرأ الأخوان :«فُوَاق » بضم الفاء، والباقون بفَتْحها، قال الكسائيُّ والفراءُ وأبو عبيدة : هما لغتان وهما الزمان الذي بين حَلْبَتَي الحَالِبِ، ورَضْعَتَي الرَّاضع، والمعنى ما لها من توقف قدر فواق ناقة.
وفي الحديث :«العِيادَةُ قَدْر فَوَاق نَاقَةٍ ». وهذا في المعنى كقوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ].
وقال ابن عباس : ما لها من رُجُوع من أفاقَ المريضُ إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال : أَفَاقَتِ النَّاقَةُ تُفِيقُ إفاقة رجَعَت الفِيقَةُ في ضَرعها، والفِيقةُ اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق وأما أفاويق فجمع الجمع، ويقال : ناقة مُفِيقٌ ومُفِيقَةٌ.
وقال الفراء وأبو عُبَيْدَة ومؤرّج السّدوسيّ : الفواق بالفتح الإفاقة والاسْتِراحة كالجواب من الإجابة وهو قول ابن زيدٍ والسُّدِّيِّ.
وأما المضموم فاسم لا مصدر أي اسم لما بين الحَلْبَتَيْن، والمشهور أنهما بمعنى واحد كقَصَاصٍ الشّعر وقُصاصِهِ وجَمَام المَكُول وجُمَامِهِ، فالفتح لغة قريش، والضم لغة تميم. قال الواحدي : الفَوَاق والفُواق اسمان من الإفاقة. والإفاقة معناها الرجوع والسكون كما في إفاقة المريض إلا أن الفَوَاق بالفتح يجوز أن يُقَام المصدر، والفُواق بالضم اسم لذلك الزمان، الذي يعود فيه اللبن، وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية : يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ نفخة الفزع قال : فَيمدّها ويطولها وهي التي يقول ما لها من فواق، ثم قال الواحدي : وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : ما لها من سكون.
الثاني : ما لها من رجوع والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ويقال لكل من بقي على حالة واحدة بأنه لا يُفيقُ منه ولاَ يَسْتَفيقُ.
قوله :﴿ قِطَّنَا ﴾ أن نَصِيبَنَا وحَظَّنَا، وأصله من قَطَّ الشيءَ أي قَطَعَهُ، ومنه قَطّ القلم والمعنى قطعه مما وعدتنا به ولهذا يطلق على الصحيفة والصك قِطّ، لأنهما قطعتان يقطعان، ويقال للجائزة أيضاً قِطّ لأنها قطعة من العطية، قال الأعشى :
وَلاَ الْمَلِكُ النُّعْمَان يَوْمَ لَقِيتُهُ*** بِغِبْطِتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ وَيَأفِقُ
وأكثر استعماله في الكتاب، قال أمية بن أبي الصّلت :
قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ أَرْضِ العِرَاقِ وَمَا*** يَجْبِى إَليْهِمْ بِهَا وَالقِطُّ وَالْقَلَم
ويجمع على قُطُوط كما تقدم، وعلى قِطَطَةٍ نحو : قِرْد وقِرَدَةٍ وقُرُود، وفي القلة على أَقِطَّةٍ وأَقْطَاطٍ، كقِدْح وأَقْدِحَةٍ وأَقْدَاحٍ، إلا أن أفْعِلَةً في فِعْلٍ شاذ.

فصل :


قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني كتابنا. والقِطّ : الصحيفة أحصت كل شيء، قال الكلبي : لما نزل قوله في الحاقة :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾، ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ﴾ [ الحاقة : ١٩-٢٥ ] قالوا استهزاء : عجل لنا كتابنا في الدنيا قبل يوم الحساب، وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول. وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي : يعني عقوبتنا ونصيبنا من العذاب قال عطاء : قاله النَّضْر بن الحَرث وهو قوله :﴿ إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] وعن مجاهد قطنا : حسابنا يقال للكتاب قط.
قال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتابة بالجوائز. واعلم أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة، أولها : من أمر النبوات وإثباتها فقال : وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ".
وثانيها : تعجبهم من الإلهيات فقالوا : أَجَعَلَ الآلهةَ إلهاً وَاحِداً. وثالثها : تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا :﴿ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب ﴾ قالوا ذلك استهزاء فأمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال :﴿ اصبر على مَا يَقُولُونَ ﴾.
فإن قيل : أي تعلق بين قوله :﴿ اصبر على مَا يَقُولُونَ ﴾ وبين قوله ﴿ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ﴾ ؟
فالجواب : هذا التعلق من وجوه :
الأول : كأنه قيل : إن كنت شاهدت من هؤلاء الجُهّال جَرَاءتَهم على الله وإنكارَهم الحَشْرَ والنشرَ فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر فإن بقَدْرِ ما يَزْدَادُ أحدُ الضِّدين شرفاً يزداد ( الضّدّ ) الآخر نقصاناً.
الثاني : كأنه قيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - لا تضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم وإن خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك.
الثالث : أن للناس في قصة داود قولان : منهم من قال : إنها تدل على دِينه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنّ حزنك ليس إلا لأن الكفار كذبوك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوع ذلك الذنب، ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن. ومن قال بالثاني قال الخَصْمَان اللذان دخلا على دَاوُدَ كَانَا من البشر وإنما دخلا عليه لقصد قتله، فخاف منهما داودُ ومع ذلك فلم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسُوء بل اسْتَغْفَر لهم على ( ما سيجيء تقرير هذه الطريقة )، فلا جَرَمَ أمر الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأن يقتدي به في حسن الخلق.
الرابع : أن قريشاً إنما كذبوا محمداً- صلى الله عليه وسلم - واستخفوا به لقولهم : إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قصَّ على محمد - صلى الله عليه وسلم - ما كان في مَمْلَكَةِ داود، ثم بين بعد ذلك أنه ما سلم من الأحزان والغموم ليَعْلم أن الخَلاص من الحزن لا سبيل إليه في الدنيا.
الخامس : قوله تعالى ﴿ اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ﴾ ولم يقتصر على قصة داود بل ذكر عقيبَ قصة داود قصص أنبياء كثيرة فكأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليُعْلِمَهُ أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهَمٍّ خاص وحزن خاص فيعلم حينئذ أن لا انفكاك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجة العالية عند الله لا تحصل إلى بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
قال ابن الخطيب : وههنا وجه آخر قويٌّ وأحسن من كل هذه الوجوه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ [ ص : ٢٩ ].
قوله :﴿ دَاوُودَ ﴾ بدل أو عطف بيان، أو منصوب بإضمار أعْنِي و «ذَا الأَيْدِ » نعت له، والأيد القوة، قال ابن عباس : أي القوة في العبادة، وقيل : القوة في المِلك، واعلم أن قوله :﴿ عَبْدَنَا دَاوُودَ ﴾ فوصفه بكونه عبداً له. وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، قال :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ١ ] وأيضاً فإن وصف الأنبياء بالعبودية مُشْعِرٌ بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة، والمراد بالأيد القوة في الطاعة والاحتراز عن المعاصي لأن مدحه بالقوة يوجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح العظيم وليست إلا القوة على فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، والأيد المذكورة ههنا كالقوة المذكورة في قوله :
﴿ يا يحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ ﴾ [ مريم : ١٢ ] وقوله :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ] أي باجتهاد وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف، والأيد و القوة سواء، ومنه قوله :﴿ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ﴾ [ الأنفال : ٦٢ ] وقوله :﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس ﴾ [ البقرة : ٨٧ ] وقوله :﴿ والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ] وقال عليه ( الصلاة و ) السلام :«أحَبُّ الصِّيَام إلَى الله صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ ( الصَّلاَة و ) السَّلام وأَحَبُّ الصَّلاَة إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاَةُ دَاوُدَ كَان يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ».
قوله :﴿ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي رجاع إلى الله عزّ وجلّ بالتوبة على كل ما يكره، والأَوَّابُ فعَّالٌ من آبَ يَؤُوبُ إذا رَجَعَ قال تعالى :﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾ [ الغاشية : ٢٥ ] وهذا بناء مبالغة كما يقال : قَتّال وضَرَّاب وهو أبلغ من قَاتِل وضارب، وقال ابن عباس : مطيع، وقال سعيد من جبير : مسبِّح بلغة الحبشة.
قوله: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ﴾ فقوله: «يسبحن» جملة حالية من «الجبال» وأتى بها هنا فعلاً مضارعاً دون اسم الفاعل فلم يقل مسبِّحات، دلالة على
390
التجدد والحدوث شيئاً بعد شيء كقول الأعشى:
٤٢٦٠ - قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ أَرْضِ العِرَاقِ وَمَا يَجْبِى إَليْهِمْ بِهَا وَالقِطُّ وَالْقَلَم
٤٢٦١ - لَعَمْرِي لَقَدْ لاَحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ إلَى ضَوْءٍ نَارٍ فِي بِقَاعِ تَحَرَّقُ
أي تحرق شيئاً فشيئاً، ولو قال: مُحْرِقة لم يدل على هذا المعنى.

فصل


المعنى يسبحن بتسبيحه (و) في كيفية تسبيح الجبال وجوه:
الأول: أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاٌ وقُدرة ونُطقاً، فحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى.
الثاني: قال القفال: إن داود - عليه (الصلاة و) السلام - أوتي من شدة الصوت وحسنة ما كان له في الجبال دويٌّ حسن وما يصغي الطير (إليه) لحسنه فيكون دويّ الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً، وروى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود حتى إنه كان إذا قرأ الزبور دنَتْ منه الوحوش حتى تؤخَذَ بأعْنَاقِهَا.
الثالث: أن الله تعالى سخر الجبال حتى إنّها كانت تسير إلى حيث يريده داود فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدة الله وحكمته.
قوله: ﴿بالعشي والإشراق﴾ قال الكلبي غَدْوةً وعَشِيًّا والإشراق هو أن تشرق الشمسُ ويتناهى ضوؤها قال الزجاج: يقال شَرقَت الشمس (إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، وقيل: هما بمعنًى. والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس) والماء يُشرق، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى «قال ابن عباس كنت أمر به الآية لا أدري ما هي حتى حدثَتْنِي أمّ هانِئ بنت أبي طالب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل عليها فدعا بوَضُوء فتوضأ ثمّ صلّى وقال يا أم هانئ: هذه صلاة الإشراق» وروى
391
طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكرَ صلاةِ الضحى في القرآن؟ قالوا: لا؛ فقرأ: «إنا سَخَّرْنَا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق» قال: وكانت صلاة يصليها داود علي السلام وقال لم يزل في نفس شيء من صلاة الضحى حتى طلبتها فوجدتها في قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق﴾.
قوله: ﴿والطير مَحْشُورَةً﴾ العامة على نصبها عَطَفَ مفعولاً على مفعول، وحالاً على حال كقولك: ضربت زيداً مكتوفاً وعمراً مطلقاً وأتى بالحال اسماً لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئاً فشيئاً لأن حشرها دفعة واحدة وأدلُّ على القدرة والحاشر الله تعالى.
وقرأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ والجَحْدري برفعهما جعلاها مستقلة من مبتدأ وخبر.
والمعنى وسخرنا الطير محشورةً، قال ابن عباس: كان داود إذا سبح جاءته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله تعالى.
فإن قيل: كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها؟
فالجواب: أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولاً حتى تعرف الله فتسبحه حنيئذ ويكون ذلك معجزة لداودَ قال الزمخشري قوله: ﴿مَحْشُورَةً﴾ في مقابلة: «يسبحن» إلا أنه ليس في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء فلا جَرَمَ أتى به اسماً لا فعلاً، وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير (محشورة) (يحشرن) على تقدير أن الحشر يوجد من حاشرها شيئاً بعد شيء والحاشر هو الله عزّ وجلّ خلفاً لأنه تعالى حشرهم جملةً واحدة.
قوله: ﴿كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي كل من الجبال والطير لداود أي لأجل تسبيحه، فوضع أواب موضع مسبَح. وقيل: (إنَّ) الضمير في: «لَهُ» للباري تعالى والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.
قوله: ﴿وَشَدَدْنَا﴾ العامة على تخفيف شددنا أي قَوَّيْنَا كقوله: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ [القصص: ٣٥] وابنُ أبي عَبْلَةَ والحسن «شَدَّدْنَا» بالتشديد وهي مبالغة
392
كقراءة العامة، ومعنى الكلام قويناه بالحرس والجنود.
قال ابن عباس: كان اشد ملوك الأرض سُلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ستةٌ وثلاثون ألفَ رجلٍ.
قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب﴾ فهي النبوة، وقيل: العلم والخير؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [البقرة: ٢٦٩] وأما فصل الخطاب فقال بعض المفسرين: إن داود أول من قال في كلامه: أما بعد وقيل: المراد منه: معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين.
قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير على كل ما يخطر بالبال ويحضُر في الخيال بحيث لا يخلِط شيئاً بشي وبحيث يفصل كُلّ مقام عن ما يخالفه. هذا معنى عامّ يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى الدين الحق ويتناول جميع الأقسام والله أعلم.
وروى ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجلٍ من عظمائهم عند داود أن هذا غَصَبني بقراً فسَألَهُ (داود) فجَحَد فقال للآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود: قوما حتى ينظر في أمركما فأوحى الله إلى داود من منامه أن يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت فأوحى الله إليه ثانيةً فلم يفعل فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة، فأرسل داود إليه فقال إن الله أوحى إليَّ أن أقتلك؛ فقال: تقتلني بغير بينة، فقال داود نعم والله لأنفذنَّ أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكن اغتلت والد هذا فقتلته ولذلك أخذت فأمر به داود فقتل فاشتد هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل، واشتد به مُلْكه فذلك قوله: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكمة﴾ يعني النبوة والإصابة في الأمور و «فَضْلَ الْخِطَابِ» قال ابن عباس: بيان الكلام وقال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل: على الحكم بالقضاء، وقال علي بن أبي طالب: هو أن البينة على المدَّعِي واليمين على ما أنكر؛ لأن كلام الخصوم ينقطع وينقصل به، ويروى ذلك
393
عن أبي بن كعب قال: فصل الخطاب الشهود والأيْمَان.
وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن الشعبي: فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر.
قوله (تعالى) :﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم﴾ قد تقدم أن الخصم في الأصل مصدر فلذلك يصلح للمفرد والمذكر وضِدَّيْهِما، وقد يطاَبق، ومنه ﴿لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ﴾ [ص: ٢٢] والمراد بالخصم هنا جمعٌ بدليل قوله: ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ﴾ وقوله: ﴿إِذْ دَخَلُواْ﴾ قال الزمخشري: وهو يقع للواحد والجمع كالضَّيْفِ، قال تعالى: ﴿أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين﴾ [الذاريات: ٢٤] لأنه مصدر في أصله، يقال خَصَمَهُ يَخْصِمَهُ كما تقول: ضَافَهُ ضَيْفاً. فإن قلت: هذا جمع وقوله: خَصْمَان تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى خصمان فريقان خصمان، والدلي قراءة من قرأ: «بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ونحوه قوله تعالى: ﴿هذان خَصْمَانِ اختصموا﴾ [الحج: ١٩] فإن قلت: فما تَصْنَعُ بقوله: ﴿إِنَّ هَذَآ أَخِي﴾ وهو دليل على الاثنين؟ قلت: معناه أنّ التحاكم بين ملكين ولا يمنع أن يصحبهاما آخرون، فإن قلت: كيف سماهم جميعاً خَصْماً في قوله: «نَبَأُ الخَصْمِ وخَصْمَان» ؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخسم صحت التسمية به.
قوله: ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ﴾ في العامل في «إذْ» أَوْجُهٌ:
أحدهما: أنه معمول للنبأ إذا لم يرد به القصة. وإليه ذهب ابنُ عطية وأبو البقاء ومكِّيٌّ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تَسَوُّرهم المحراب، وقد ردّ بعضهم هذا بأن النبأ الواقع في ذلك الوقت لا يصح إتيانه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإن أريد بالنبأ القصة لم يكن ناصباً. قاله أبو حَيَّانَ.
الثاني: أن العامل فيه «أَتَاكَ» وُردَّ بما رُدَّ به الأول وقد صرح الزَّمَخْشَريُّ
394
بالرد على هذين الوجهين: فقال: «فإن قلت: بم انتصب إذ؟ قلت: لا يخلوا إما أن ينتصب» بأتَاكَ «أو» بالنَّبَأ «أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأَتَاك لأن إتيان النبأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يقع إلا في عهده لا في عهد داودَ فلا يصح إتيانه رسولَ الله - صلى اله عليه وسلم - وإن أرادت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن نصاباً، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره: وهَلْ أَيَاكَ نَبَأُ تَحَاكُمِ الخَصْمِ إذْ» فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف.
الرابع: أن ينتصب بالخصم؛ لما فيه من معنى الفِعْل.
قوله: «إذْ دَخَلُوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «إذ» الأُولَى.
الثاني: أنه منصوب بتَسَوَّرُوا.
ومعنى تسوروا عَلَوْ أَعْلَى السّور، وهو الحائط غير مهموز كقولك: تَسَنَّم البَغِيرَ أي بَلَغَ سَنَامَهُ. والضمير في «تَسَوَّرُوا» و «دَخَلُوا» راجع على الخصم، أنه جمع في المعنى على ما تقدم، (أو على أنه مثنًّى والمثنى جمع في المعنى وتقدم) تحقيقه.
قوله: ﴿خَصْمَانِ﴾ خبر مبتدأ مضمر أي نَحْنُ خَصْمَانِ ولذلك جاء بقوله: ﴿بَعْضُنَا﴾، ومن قرأ «بعضهم» بالغيبة يجوز أن يقدره كذلك ويكون قد راعى لقظ: خَصْمَان، ويجوز أن يقدرهم خَصْمَان ليتطابق وروي عن الكسائي خِصْمَانِ بكسر الخَاء وقد تقدم أنه قرأها كذلك في الحَجِّ.
قوله: ﴿بغى بَعْضُنَا﴾ جملة يجوز أن تكون مفسِّرة لحالهم، وأن تكون خبراً ثانياً.
فإن قيل: كيف قالا: بغى بعضنا على بعض وهما مَلَكَان - على قول بعضهم -
395
والملكان لا يبغيان؟ قيل: معناه أرأيت خَصْمَيْن بَغَى أحَدُهُما على الآخر، وهذا من مَعَارِيضِ الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما.
قوله: ﴿فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ﴾ العامة على ضم التاء وسكون الشين، وضم الطاء الأولى من (أ) شْطَطَ يُشْطِطُ إشْطَطاً إذا تجاوز الحق قال أبو عبيدة: شَطَطْتُ في الحكم وأَشْطَطْتُ إذا جُرْت؛ فهو مما اتفق فيه فَعَلَ وأَفْعَلَ، وإنما فكَّهُ على أحد الجائزين كقوله: ﴿مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٧] وقد تقدم تحقيقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة تَشطُطْ بفتح التاء وضم الطاء من «شَطّ» بمعنى «أَشَطَّ» كما تقدم.
وقرأ قتادة: تُشِطّ من «أَشَطَّ رباعياً إلا أنه أدغم وهو أحد الجائزين كقراءة من قرأ» مَنْ يَرْتَدَّ منْكُمْ «وعنه أيضاً تُشَطِّطْ» بفتح الشين وكسر الطاء مشددة من شَطَّط يشطِّطُ. شَطَّتِ الدَّارُ وأَطَّتْ إذا بَعُدَتْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاء الصِّرَاطِ «أَرْشِدْنَا إلى طريق الصواب فقال لهما داود: تَكَلَّمَا فقال أحدهما:» إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً «يعني امرأة» وَلِيَ نعْجَةٌ وَاحِدَةٌ «أي امرأة واحدة.
396
قوله: ﴿تِسْعٌ وَتِسْعُونَ﴾ العامة على كسر التاء وهي اللغة الفاشية، وزيد بن عليّ والحسنُ بفتحها وهي لُغَيَّةٌ لبعض تميم، وكثر في كلامهم الكناية بها عن المرأة قال ابن عَوْن:
٤٢٦٢ - أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلاَثٌ هُنَّةْ رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ... وَنَعْجَتِي خَمْساً تُوَفِّيهُنَّهْ
وقال آخر:
٤٢٦٣ - هُمَا نَعْجَتَانِ مِنْ نِعَاجِ تِبَالَةَ... لَدَى جُؤْذُرَيْنِ أَوْ كَبَعْضِ دُمَة هَكِرْ
قال الحسين: بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي كقولهم: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً، أو اشْتَرَى بَكْرٌ دَاراً. ولا ضَرْب هناك ولا شِرَاء.
قال الزمخشري:» أخِي «بدل من» هذا «وقر عبد الله:» تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة أُنْثَى «وهذا تأكيد كقوله:
﴿وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ [النحل: ٥١] وقال الليث: النَّعْجَةُ الأنثى من الضأن والبقر الوحشي والشاة والجمع النِّعَاجُ.
قوله: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ قال ابن عباس أعْطِنِيها، وقال مجاهد: انزل لي عنها. وحقيقة ضُمَّها إلَيَّ واجْعَلْنِي كافلا، وهو الذي يعولُها ويُنْفق عليها، والمعنى: طلقها لأتزوج إياها.
397
قوله: ﴿وَعَزَّنِي﴾ أي غَلَبَنِي، قال:
٤٢٦٤ - قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَاكٌ فَبَاتَتْ تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ
يقال: عَزَّهُ يَعُزُّهُ بضم العين. وتقدم تحقيقه في يس عند قوله تعالى: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ [يس: ١٤].
وقرأ طلحةُ وأبو حيوةَ: «وَعَزَنِي» بالتخفيف قال ابن جنِّي: حذف الزاي الواحد تخفيفاً كما قال الشاعر:
٤٢٦٥ -.................... أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
يريد أحْسَسْنَ فحذف. وتروى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك وَعَازَّنِي بألف مع تشديد الزاي أي غَالَبَنِي.
قوله: ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾ مصدر مضاف لمفعوله. والفاعل محذوف أي بأَنْ سَأَلَكَ نَعْجَتَكَ، وضمّن السؤال معنى الإضافة والانضمام أي بإضافة نعجتك على سبل السؤال ولذلك عدي (بإلى).

فصل


قال ابن الخطيب: للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة عنه.
وثانيها: دلالتها على الصغيرة.
وثالثها: لا تدل على كبيرة ولا على صغيرة، فأما القول الأول فقالوا: إن داودَ
398
أحبًَّ امرأة «أُوريَا» فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله (تعالى) ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته (وعرضا تلك الواقعة عليه) فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبيه لذك فاشتغل بالتوبة. وقال ابن الخطب: والذي أدين به وأذهبُ إليه أنّ ذلك باطلٌ لوجوهٍ:
الأول: أن هذه الحكاية لا تناسب داودَ لأنها لو نُسبت إلى أفْسَقِ النَّاس وأشدهم فجوراً لانتفى منها، والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل العمل لبالغ في تنزيه نفسه وروعاً ولعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إليه؟ ﴿.
الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي وقتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول فأمر منكر؛ قال - عليه (الصلاة و) السلام: «مَنْ سَعَى فِي دَمِ مُسْلِمٍ ولَوْ بشَرِّ كَلمَةٍ جَاءَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أيسٌ مِن رَحمةِ اللَّهِ» وأما الثاني فمنكر عظيم، قال - عليه (صلاة و) السلام -: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» وإن «أوريا» لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه.
الثالث: أن الله تعالى وصل داودَ بصفات تنافي كونه - عليه (الصلاة و) السلام - موصوفاً بهذا الفعل المنكر فالصفة الأول أنه تعالى أمر محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (في) أن يقتدي بداود في المصابرة مع المكاره فلو قيل إنَّ داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحد الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله؟﴾
.
وأما الصفة الثانية فإنه وصفه بكونه عبداً له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصف كاملاً في وصف العبودية أما في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحضورات، فلو قلنا: إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلاَّ في طعة الهوى والشهوة. وأما الصفة الثالثة وهي قوله: ﴿ذَا الأيد﴾ [ص: ١٧] أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحضورات، وأي قولة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟ ﴿الصفة الرابعة: كونه أوَّاباً كثيرَ الرجوع إلى الله تعالى فكيف يليق هذا بمن قلبه مشغوفٌ بالقتل والفجور؟﴾ الصفة الخامسة: قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ﴾ أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذوا سبيله
399
إلى القتل والفجور؟ ﴿الصفة السادسة: قوله تعالى: {والطير مَحْشُورَةً﴾ قيل: إنه كان محرَّماً عليه صيد شيءْ من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على زوجته ومنكوحه الصفة السابعة: قوله تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ ومحال أن يكون المراد أنه تعالى: شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد بأنا ملكناه تقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة، أو المراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لايملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟} الصفة الثامنة: قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب﴾ (والحكمة اسم جامع لك ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال: إِنَّا آتَيْنَاهُ) الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف عنه الشيطان من مُزاَحَمَة أخصِّ أصحابه في الروح والمنكوح؟! فهذه الصات التي وصف بها قبل شحر القصَّة.
وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فأولها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ وهذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة (على قوته في طاعة الله أما لو كانت القصة المتقدمة) دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ لائقاً.
وثانيها: قوله تعالى: ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه: الأول: أن الملك الكبير إذا حُكِي عن عبده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فعند فراغه من شرح قصته على الناس يقبح منه أن يقول عقيبة أيها العبد إنّي فوضت إليك خلافتي ونبوتي لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر فأما جعله نائباً وخليفة لنفسه فذلك مما (لا) يليق البتة.
الثاني: أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذل الوصف فلما حكمى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ أشعر هذا (الوصف) بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعل المنكرة. ومعلوم أن هذا فاسد أما لوك ذكرنا أن تلك
400
القصة كانت على وجه يدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدّة مصابرته في طاعة الله تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ فثبت أن الذي نختاره أولى.
الثالث: أنه لما كان مقدمة الآية دالة على محد داود - عليه (الصلاة و) السلام - وتعظيمه ومؤخرتها أيضاً دالة على ذلك فلو كانت الواسطة دالة على المقابح والمعايب لجرى مَجْرى أن يقال: فلان عظيم الدردة عالي المرتبة في طاعة الله تعالى يقتل ويزني ويسرق وقد جعله اللخ خليفة له في أرضه وصوب أحكامه فكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب.
ورابعها: أن بعض القائلين ذكر في هذه الآية أن داود - عليه (الصلاة و) السلام - تمنى أن يحصل له في الدين كلا حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثلَ ما حصل للخيل من الإلقاء في النار، وحل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوبَ من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه (الصلاة و) السلام الابتلاء فأوحى الله إليه إنك مبتلي في يوم كذا فبالغ في الاحتراز، ثم وَقَعَت الواقعة فنقول: إن حكايتهم تدلّ على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه، فالسعي في قتل النفس (بغير الحق) والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة بحيث إن الحكاية التي ذكروها يناقص أولُها آخرَها.
وخامسها: أن داود عليه (الصلاة و) السلام (تمنَّى أن يحصل له في الدين كما بحل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية) قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغيا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ استثنى الذين آمنوا من البغي. فلو قلنا: إنه كان موصوفاً بالبغي لزم أن يقال: إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل.
وسادسها: حضرت في مجلس وفيه بعض أكابر المسلمين وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك فقلت له: لا شك أن داود عليه (الصلاة و) السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل وقال الله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] ومن مدحه الله (تعالى بمثل) هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في المطعن فيه وأيضاً فتبقدير أنه ما كان من الأنبياء فلا شك أنه كان مسلماً؛ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
401
«لاَ تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلاَّ بِخَيْر» ثم على تقدير أنَّا لا نلتفت إلى شيء من هده الدلائل إلاَّ أَنَّا نقول: إنَّ من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها في حقه صحيحةً فإن روياتها وذكرها لا يوجب شيئاً مِنَ الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من ألاَّ توجب الثواب. وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة فإن ذكرها مستحق به أعظم العقاب، والواقعة التي هذا شأنها وصفتها فإنَّ صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور، فلما سمع ذلك الملك الشديد هذا الكلام سكت ولم يذكر شيئاً.
السابع: أن ذكر هذه القصة وذكر قصة يوسف - عليه (الصلاة و) السلام - يقتضي إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
الثامن: لو سعى داودُ في قتل ذلك الرجل دخل تحت قوله: «مَنْ سَعَى فِي دَمِ المرىءٍ مُسْلِم وَلَوْ بِشَكْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ». وأيضاً لو فعل ذلك لكان ظالماً وكان يدخل تحت قوله: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [هود: ١٨].
التاسع: عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال: مَنْ حَدَّثَكُمْ بحَدِيث دَاودَ عَلَى مَاتَرْويه القُصَّاصُ فاجلدوه مائةً وسينَ (جَلْدةً) وهو حّد الفِرية على الأنبياء، وما يقوي هذا انَّهُمْ لما قالوا: إن المغيرة بنَ شعبة زنى وشهد ثلاثةٌ من عدول الصحابة وأما الرابع فإنه لم يقل: إني رأيت ذلك بعيني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، فإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك فكيف الحال مع داود عليه (الصلاة و) السلام؟ {مع أنه كان من كابر الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام -.
العاشر: رُوي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله، ثم قال: فما بنبغي أن يزاد عليها وإن كنت الواقعة على ما ذكرت ثم إنه تعالى لم يذكرها لسَتْر تلك الواقعة على داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ستر ستره الله ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر: سماعي هذا الكلام أحب إلي ما طلعت عليه الشمسُ.
402
فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها باطلة فاسدة فإن قال قائل: إن كثيراً من أكابر المحدثين المفسرين ذكروا هذه القصة فكيف الحال فيها؟}
فالجواب الحقيقي: أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر (كل) واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى.
وأيضاً فالأصل براءة الذمة، وأيضاً فلما تعارض ذكر التَّحرُّم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضاً طريقة الاحتياط توجب ترجيحَ قولِنَا، وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير (وقوع) هذا الواقعة لا يقول لنا الله يوم القيامة لِمَ لَمْ تَسعَوْا في تشهير هذه الواقعة أما بتقدير كونها باطلة فإنه يوجب أن لا تجوزَ الشهادة بها، وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول، بل الأكثرون والمحققون يردونه ويحكمون عليه بالكذب، وإذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدِّثين تساقطت وبَقِيَ الرجوع فيه إلا الدلائل التي ذكرناها.
الاحتمال الثاني أن نحمل هذه القصة على حُصُول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه:
الأول: أن هذه المرأة خطبها «أوريا» فأجابوه، ثم خطبها داود فآثره أهلها فكان ذنبه أن خَطبَ على خطبته أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
الثاني: قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألْبَتَّةَ، أما وقوع بصره عليها من غير قصد بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً، لأن الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها لأجل أنه طمع في أن يتزوج بتلك المرأة فَحَصَلت بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل.
والثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه (الصلاة و) السلام يسأل بعضهم بعضاَ أن يطلق زوجته حتى تزوجها وكانت عادتها مألوفة مفهومة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود (عليه السلام) وقعت على تلك المرأة فأحبها فسألوه النزول فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإنَّ حسناتِ الأبرار سيئات المقربين. فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حَقِّ داود عليه (الصلاة و) السلام إلا ترك الأفضل، والأولى.
الاحتمال الثالث: أن تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا
403
صغيرة لداود عليه (الصلاة و) السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أنه نقول: روي أنَّ جماعة من الأعداء طمعواأن يقتلوا داود - عليه (الصلاة و) السلام - وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوَّرُوا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً يحتج به في إلحاق الذنب بداود عليه (الصلاة و) السلام إلا ألفاظ أربعة:
أحدهما: قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾
وثانيها: قوله: ﴿فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً﴾.
وثالثها: ﴿وَأَنَابَ﴾.
ورابعها: قوله: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ ثم نقول: هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه من وجه:
الأول: أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذه الطريق وعلم داود عليه السلام دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم أي أنه مال إلى الصَّفْح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله تعالى فكانت هي الفتنة لأنها جاريةٌ مَجْرَى الابتلاء والامتحان ثم إنَّه استغفر به مما هَمَّ به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهمِّ وَأَنَابَ فغفر له ذلك القدر من الهمِّ والعزم.
الثاني: أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال: لَمَّا لَمْ تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك فَلَبِئْسَ ما عَمِلْتُ حيث ظننت فيهم هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد من قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ ثم إنه استغفر ربه وأناب منه فغفر الله له ذلك.
الثالث: دخولهم عليه كان فتنة لداود - عليه (الصلاة و) السلام - إلا أنه عليه (الصلاة و) السلام استغفر لذلك العازم على قتلهم كقوله في حق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ [محمد: ١٩] فداود (عليه السلام) استغفر لهم، وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب المغفرة لذلك الرجل الداخل القاصد القتل، وقوله: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ أي فَغَفَرْنَا ذلك الذنب لأجل احترام داود وتعظيمه كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] إن معناه: إن الله يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذَنْب أمّتك.
404
الرابع: أنه عاتب داود عليه السلام عن زلَّة صدرت منه لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة ولِم لا يجوز أن يقال: إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني لأنه لما قال: «لقد ظلمت بسؤال نعجتك» حكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوة الخصم بلا بينة فيكون هذا الحكم مخالفاً للصواب. فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة إلا أن هذا من باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إِذَا حَمَلْنَا هذه الآيات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيءٍ من الذنوب إلى دَاودَ - عليه (الصلاة و) السلام - بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطَّاعَاتِ إليه. ثم نقول: وحمل الآية عليه أولى لوجوه:
الأول: أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) :«اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ» فإن قوم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أظهروا السفاهة حيث قالوا: إنه ساحرٌ كذاب، واستهزأوا به حيث قالوا: ربَّنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب، فقال تعالى في أول الآية: اصبر على ما يقولون يا محمد وعلى سفاهتهم وتحمل ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على أذاهم وتحمل سفاهتهم وحَلِمَ ولم يظهر الطيش والغضب وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه.
أما إذا حملنا الآية على ما ذكروه صار الكلام متناقضاً.
الرابع: أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا: إن الخَصْمَيْن كانا ملكين وإذا كانا ملكين ولم يكن بينهما مخاصمة ولم يبغ أحدُهما على الآخر كان قولهما: «خَصْمَان بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» كذب فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين.
أحدهما: إسناد الكذب إلى الملائكة.
والثاني: إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا أولى.
405

فصل


قال المفسرون قوله: وَعَزَّني (في الخِطَاب) اي قهرني وغلبني «في الخطاب» أي في القول. قال الضحاك يقول: إن تكلم كان أفصحَ مني، وإن حارب كان أبطشَ مني وحقيقة المعنى أن الغلبة كانت له فضعفي في يده وإن كان الحق معي فقال داود: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ» أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه.
فإن قيل: كيف قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك ولم يكن سمع قوله صاحبه؟!.
فالجواب: قيل: إن معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك، قال ابن إسحاق: لما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال: «لَئِنْ صَدَقَ لَقَدْ ظَلَمَهُ».
وقال ابن الأنباري: لما ادعى أحد الخَصْمَيْن) اعترف الثاني فحكم داود عليه ولم يذكر الله ذلك الاعتراف لدلالة الكلام عليه وقيل التقدير: إن الخَصْمَ الذي هذا شأنه قد ظلمك ثم قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغيا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾.
قال الليث: خَلِيطُ الرَّجُلِ مُخَالِطُهُ، وقال الزجاج: الخلطاء: الشركاء.
فإن قيل: لم خص الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك؟
فالجواب: أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة لأنها إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أحوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفسية إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيُفْضِي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة فلهذا خص داود - عليه (الصلاو ة) السلام الخلطاء بزيادة البغير والعُدْوَان ثم استثنى عن هذا الحكم الذين آمنوا وعملوا الصلحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون لأجل الدين. وهذا استثناء متصل من قوله: ﴿بَعْضهم﴾.
قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ خبر مقدم و «ما» مزيدة للتعظيم و «هم» مبتدأ.
406
قال الزمخشري: و «ما» في قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ للإبهام وفيه تعجب من قتلهم قال: فإن أرادت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرئ القيس:
٤٢٦٦ - وَحَدِيثٍ مَا عَلَى قَصْرِهِ... وانظر هل بقي لها معنى قط؟ «وَظَنَّ داوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ» أي امتحناه، قرأ العامة فتَنَّاهُ بالتخفيف وإسناده إلى الضمير المتكلم المعظِّم نفسه، وعمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء فَتَّنَاه بتشديد التاء. وهي مبالغة وقرأ الضحاك: أَفْتَنَّاهُ يقال: فَتَنَهُ وأَفْتَنَهُ أي حَمَلَهُ على الفِتْنَةِ ومنه:
٤٢٦٧ - لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهيَ بِالأَمْسِ أَفْتَنَتْ..........................
وقرأ قتادة وأبو عمرو - في رواية فَتَنَّاهُ بالتخفيف وَفتَّنَّاه بالتشديد، والألف ضمير الخصمين، و «راكعاً» حال مقدرة، قال أبو البقاء، وفيه نظر لظهور المُقَارنةِ.

فصل


قال المفسرون: إن الظن ههنا بمعنى العلم؛ لأن داودَ عليه (الصلاة و) السلام لما قضى بينهما نظر أحَدُهُمَا إلى صاحبه فضحك، ثم صَعَد إلى السماء قبل وجهه فعل داود أنَّ الله ابْتَلاَهُ بذلك فثبت أن داود علم بذلك. وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم، لأن العلم الاستدلاليّ يشبه الظنّ مشابهةً عظيمةم والمشهابهة علة لجواز المجاز قال ابن
407
الخطيب: هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين إما إذا لم يُقَلْ ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العمل بل لقائل أن يقول: إنه لمَّا غَلَب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
قوله: ﴿فاستغفر رَبَّهُ﴾ أي سأل الغفران من ربه، ثم ههنا وجهان إن قلنا: إنه صدرت منه زَلَّة حمل هذا الاستغفار عليها وإن لم يُقَلء به قلنا فيه وجوه:
الأول: أن القوم لما دخولا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطاناً شديدَ القهر عظيمَ القوة مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع محصول الفزغ في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئاً قَرُب الأمر من أن يدخل قبله شي من العُجْب فاستغر ربَّه من تلك الحالة وأناب إلى الله، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله فغفر له وتجاوز عنه بسبب طَرَيَانِ ذلك الخاطر.
الثاني: لعله هَمَّ بإيذاء القوم، ثم قال: إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر من ذلك الهم.
الثالث: لعل القوم تابوا إلى الله تعالى وطَلَبُوا منه أن يستغفر الله (لهم) ولأجل أن يَقْبَلَ توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله فغفر له توبتهم بسبب شفاعته ودعائه. وهه كلها وجوهٌ محتلمة ظاهرةٌ، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه، وإذا كان الفظ محتملاً لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام ما ذكروه من المنكرات فما الذي دل عليه التزامه والقول به؟ ويؤد ما ذكرنا أنه تعالى ختم هذه القصة بقوله: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ومثل هذه الخاتمة إنما يحصل في حقّ من صدر عن امتثال الأوامر في الخدمة والطاعة وتحمل أنواعاً من الشدائد في الموافقة والانقياد.
قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ الظاهر أنه مفعول «غَفَرْنا» وجوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي الأمرُ ذلِك ولا حاجة إلى هذا والمشهور أَنَّ الاستغفار إنما كان بسبب قصة النَّعْجَة، والنِّعاج، وقيل: بسبب أنه حَكَمَ لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الثاني، وذلك غير جائز.
قوله: ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ أي تدبر أمور العباد بأمرنا، واعلم أنه لما تمم الكلام في شرح الفقصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داودَ خلافةَ الأرض
408
وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في القصة لأن من البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين رغبة ف انتزاع أزواجهم منهم، ثم يذكر عقيبه أن الله فوَّضَ خلافة الأرض إليه. ثم في تفسير كونه خليفة وجهان:
الأول: جلعناك تَخْلُفُ من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفُه وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة، وذلك على الله محال.
الثاني: إنا جعلناك ممكناً في الناس نافذ الحكم فيهم. فبهذا التأويل يسمى خليفة، ومنه يقال خليفة الله في الرض وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذَ الحكم في رَعيته، وحيقية الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة (مفيدةً) للزوم نفاذ لك الحكم في تلك الحقيقة.
قوله: ﴿فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾ أي بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقةً للشريعة الحقيقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات، وإذا كانت الأحكام على وَفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أقضى إلى تخريب العالم ووقوع الهَرَج والمَرَج في الخلق وذلك يُفْضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾، لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب.
قوله: ﴿فَيُضِلَّكَ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب في جواب النهي.
الثاني: أنه عطف على «لاَ تَتَّبعْ» فهو مجزومٌ وإنما فتحت اللام لالتقاء الساكنين. وهو ونهي عن كل واحدة على حدته والأول فيه النهي عن الجمع بينهما وقد يترجح الثاني لهذا المعنى، وقد تقدم تقرير ذلك في البقرة في قوله ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ [البقرة: ٤٢].
409
وفاعل «فيضلك» يجوز أن يكون الهَوَى، ويجوز أن يكون ضميرَ المصدر المفهوم من الفعل أي فيضلك إتِّبَاعُ الهوى.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَضِلُّونَ﴾ قرأ العامة بتفح ياء يضلون. وقرأ ابن عباس والحَسَنُ وأبو حيوةَ بضمها أي يُضِلونَ الناس وهي مستلزمة للقراءة الأولى فإنه لا يُضل غيره إلا ضَالٌّ بخلاف العكس.
قوله: ﴿بِمَا نَسُواْ﴾ ما مصدرية والجار يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه «لهم» و «لَهُمْ عَذَابٌ» يجوز أن يكون جملة خبراً ل «إنَّ» ويجوز أن يكون الخبر وحده الجار، و «عَذَابٌ» فاعل به وهو الأحس لقربه من المفرد.

فصل


قيل: معناه بما تركوا الإيمان بيوم الحساب. وقال الزجاج: بتركهم العمل ذلك اليوم، وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يَوْم الحساب بما نسوا أي تركوا القضاء بالعدل.
410
قوله :﴿ والطير مَحْشُورَةً ﴾ العامة على نصبها عَطَفَ مفعولاً على مفعول، وحالاً على حال كقولك : ضربت زيداً مكتوفاً وعمراً مطلقاً، وأتى بالحال اسماً لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئاً فشيئاً لأن حشرها دفعة واحدة أدلُّ على القدرة والحاشر الله تعالى. وقرأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ والجَحْدري برفعهما جعلاها مستقلة من مبتدأ وخبر.
والمعنى وسخرنا الطير محشورةً، قال ابن عباس : كان داود إذا سبح جاءته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله تعالى.
فإن قيل : كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها ؟ فالجواب : أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولاً حتى تعرف الله فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداودَ قال الزمخشري قوله :﴿ مَحْشُورَةً ﴾ في مقابلة :«يسبحن » إلا أنه ليس في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء فلا جَرَمَ أتى به اسماً لا فعلاً، وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير ( محشورة ) ( يحشرن ) على تقدير أن الحشر يوجد من حاشرها شيئاً بعد شيء والحاشر هو الله عزّ وجلّ لكان خلفاً لأنه تعالى حشرهم جملةً واحدة.
قوله :﴿ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي كل من الجبال والطير لداود أي لأجل تسبيحه، فوضع أواب موضع مسبَح. وقيل : إنَّ الضمير في :«لَهُ » للباري تعالى، والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.
قوله :﴿ وَشَدَدْنَا ﴾ العامة على تخفيف شددنا أي قَوَّيْنَا، كقوله :﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ [ القصص : ٣٥ ] وابنُ أبي عَبْلَةَ والحسن «شَدَّدْنَا » بالتشديد. وهي مبالغة كقراءة العامة، ومعنى الكلام قويناه بالحرس والجنود.
قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سُلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ستةٌ وثلاثون ألفَ رجلٍ.
قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب ﴾ : أما الحكمة فهي النبوة، وقيل : العلم والخير ؛ قال تعالى :﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ] وأما فصل الخطاب فقال بعض المفسرين : إن داود أول من قال في كلامه : أما بعد. وقيل : المراد منه : معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين.
قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير على كل ما يخطر بالبال ويحضُر في الخيال بحيث لا يخلِط شيئاً بشي وبحيث يفصل كُلّ مقام عن ما يخالفه. هذا معنى عامّ يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى الدين الحق ويتناول جميع الأقسام والله أعلم.
وروى ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجلٍ من عظمائهم عند داود أن هذا غَصَبني بقراً فسَألَهُ ( داود ) فجَحَد فقال للآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود : قوما حتى النظر في أمركما فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت فأوحى الله إليه ثانيةً فلم يفعل فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة، فأرسل داود إليه فقال إن الله أوحى إليَّ أن أقتلك ؛ فقال : تقتلني بغير بينة، فقال داود نعم والله لأنفذنَّ أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكن اغتلت والد هذا فقتلته ولذلك أخذت فأمر به داود فقتل فاشتد هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل، واشتد به مُلْكه فذلك قوله :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ ﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكمة ﴾ يعني النبوة والإصابة في الأمور، و «فَصْلَ الْخِطَابِ » قال ابن عباس : بيان الكلام. وقال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل : على الحكم بالقضاء، وقال علي بن أبي طالب : هو أن البينة على المدَّعِي واليمين على من أنكر ؛ لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به، ويروى ذلك عن أبي بن كعب قال : فصل الخطاب الشهود والأيْمَان.
وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن الشعبي : فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه : أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر.
قوله تعالى :﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم ﴾ قد تقدم أن الخصم في الأصل مصدر فلذلك يصلح للمفرد والمذكر وضِدَّيْهِما، وقد يطاَبق، ومنه ﴿ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ ﴾ [ ص : ٢٢ ]. والمراد بالخصم هنا جمعٌ بدليل قوله :﴿ إِذْ تَسَوَّرُواْ ﴾
وقوله :﴿ إِذْ دَخَلُواْ ﴾. قال الزمخشري : وهو يقع للواحد والجمع كالضَّيْفِ، قال تعالى :﴿ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين ﴾ [ الذاريات : ٢٤ ] لأنه مصدر في أصله، يقال خَصَمَهُ يَخْصِمَهُ خصما كما تقول : ضَافَهُ ضَيْفاً. فإن قلت : هذا جمع وقوله : خَصْمَان تثنية فكيف استقام ذلك ؟ قلت : معنى خصمان فريقان خصمان، والدليل قراءة من قرأ :«بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ » ونحوه قوله تعالى :﴿ هذان خَصْمَانِ اختصموا ﴾ [ الحج : ١٩ ] فإن قلت : فما تَصْنَعُ بقوله :﴿ إِنَّ هَذَآ أَخِي ﴾ وهو دليل على الاثنين ؟ قلت : معناه أنّ التحاكم بين ملكين ولا يمنع أن يصحبهما آخرون، فإن قلت : كيف سماهم جميعاً خَصْماً في قوله :«نَبَأُ الخَصْمِ وخَصْمَان » ؟ قلت : لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به.
قوله :﴿ إِذْ تَسَوَّرُواْ ﴾ في العامل في «إذْ » أَوْجُهٌ : أحدها : أنه معمول للنبأ إذا لم يرد به القصة. وإليه ذهب ابنُ عطية وأبو البقاء ومكِّيٌّ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تَسَوُّرهم المحراب، وقد ردّ بعضهم هذا بأن النبأ الواقع في ذلك الوقت لا يصح إتيانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن أريد بالنبأ القصة لم يكن ناصباً. قاله أبو حَيَّانَ.
الثاني : أن العامل فيه «أَتَاكَ ». وُردَّ بما رُدَّ به الأول، وقد صرح الزَّمَخْشَريُّ بالرد على هذين الوجهين : فقال :«فإن قلت : بم انتصب إذ ؟ قلت : لا يخلوا إما أن ينتصب «بأتَاكَ » أو «بالنَّبَأ » أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأَتَاك لأن إتيان النبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقع إلا في عهده لا في عهد داودَ ( و ) لا بالنبأ، لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن ناصباً، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره : وهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ تَحَاكُمِ الخَصْمِ إذْ ». فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف.
الرابع : أن ينتصب بالخصم ؛ لما فيه من معنى الفِعْل.
قوله :«إذْ دَخَلُوا » فيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من «إذ » الأُولَى. الثاني : أنه منصوب بتَسَوَّرُوا.
ومعنى تسوروا عَلَوْ أَعْلَى السّور، وهو الحائط غير مهموز كقولك : تَسَنَّم البَعِيرَ أي بَلَغَ سَنَامَهُ. والضمير في «تَسَوَّرُوا » و «دَخَلُوا » راجع على الخصم، لأنه جمع في المعنى على ما تقدم، أو على أنه مثنًّى والمثنى جمع في المعنى. وتقدم تحقيقه.
قوله :﴿ خَصْمَانِ ﴾ خبر مبتدأ مضمر أي نَحْنُ خَصْمَانِ ولذلك جاء بقوله :﴿ بَعْضُنَا ﴾، ومن قرأ «بعضهم » بالغيبة يجوز أن يقدره كذلك ويكون قد راعى لفظ : خَصْمَان، ويجوز أن يقدرهم خَصْمَان ليتطابق، وروي عن الكسائي خِصْمَانِ بكسر الخَاء. وقد تقدم أنه قرأها كذلك في الحَجِّ.
قوله :﴿ بغى بَعْضُنَا ﴾ جملة يجوز أن تكون مفسِّرة لحالهم، وأن تكون خبراً ثانياً.
فإن قيل : كيف قالا : بغى بعضنا على بعض وهما مَلَكَان - على قول بعضهم- والملكان لا يبغيان ؟ قيل : معناه أرأيت خَصْمَيْن بَغَى أحَدُهُما على الآخر، وهذا من مَعَارِيضِ الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما.
قوله :﴿ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ ﴾ العامة على ضم التاء وسكون الشين، وضم الطاء الأولى من ( أ )شْطَطَ يُشْطِطُ إشْطَطاً إذا تجاوز الحق، قال أبو عبيدة : شَطَطْتُ في الحكم وأَشْطَطْتُ إذا جُرْت ؛ فهو مما اتفق فيه فَعَلَ وأَفْعَلَ، وإنما فكَّهُ على أحد الجائزين كقوله :﴿ مَنْ يَرْتَدِدْ ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ]. وقد تقدم تحقيقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة تَشطُطْ بفتح التاء وضم الطاء من «شَطّ » بمعنى «أَشَطَّ » كما تقدم.
وقرأ قتادة : تُشِطّ من «أَشَطَّ » رباعياً إلا أنه أدغم. وهو أحد الجائزين كقراءة من قرأ «مَنْ يَرْتَدَّ منْكُمْ » وعنه أيضاً «تُشَطِّطْ » بفتح الشين وكسر الطاء مشددة من شَطَّط يشطِّطُ. والتثقيل فيه للتكثير. وقرأ زر بن حبيش تشاطط من المفاعلة وأصل الكلمة من : شَطَّتِ الدَّارُ وأَطَّتْ إذا بَعُدَتْ. «وَاهْدِنَا إلَى سَوَاء الصِّرَاطِ » أَرْشِدْنَا إلى طريق الصواب.
فقال لهما داود : تَكَلَّمَا فقال أحدهما :«إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً » يعني امرأة «وَلِيَ نعْجَةٌ وَاحِدَةٌ » أي امرأة واحدة.
قوله :﴿ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ ﴾ العامة على كسر التاء وهي اللغة الفاشية، وزيد بن عليّ والحسنُ بفتحها. وهي لُغَيَّةٌ لبعض تميم، وكثر في كلامهم الكناية بها عن المرأة، قال ابن عَوْن :
أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلاَثٌ هُنَّةْ***رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ. . .
وَنَعْجَتِي خَمْساً تُوَفِّيهُنَّهْ
وقال آخر :
هُمَا نَعْجَتَانِ مِنْ نِعَاجِ تِبَالَةَ***لَدَى جُؤْذُرَيْنِ أَوْ كَبَعْضِ دُمَى هَكِرْ
قال الحسين بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي كقولهم : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً، أو اشْتَرَى بَكْرٌ دَاراً. ولا ضَرْب هناك ولا شِرَاء.
قال الزمخشري :«أخِي » بدل من «هذا » وقرأ عبد الله :«تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة أُنْثَى » وهذا تأكيد كقوله :
﴿ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴾ [ النحل : ٥١ ] وقال الليث : النَّعْجَةُ الأنثى من الضأن والبقر الوحشي والشاة والجمع النِّعَاجُ.
قوله :﴿ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ﴾ قال ابن عباس أعْطِنِيها، وقال مجاهد : انزل لي عنها. وحقيقته ضُمَّها إلَيَّ واجْعَلْنِي كافلها، وهو الذي يعولُها ويُنْفق عليها، والمعنى : طلقها لأتزوج إياها.
قوله :﴿ وَعَزَّنِي ﴾ أي غَلَبَنِي، قال :
قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ***تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ
يقال : عَزَّهُ يَعُزُّهُ بضم العين. وتقدم تحقيقه في يس عند قوله تعالى :﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ [ يس : ١٤ ].
وقرأ طلحةُ وأبو حيوةَ :«وَعَزَنِي » بالتخفيف. قال ابن جنِّي : حذف الزاي الواحدة تخفيفاً كما قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . ***أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
يريد أحْسَسْنَ فحذف. وتروى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك : وَعَازَّنِي بألف مع تشديد الزاي أي غَالَبَنِي.
قوله :﴿ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ ﴾ مصدر مضاف لمفعوله. والفاعل محذوف أي بأَنْ سَأَلَكَ نَعْجَتَكَ، وضمّن السؤال معنى الإضافة والانضمام أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال ولذلك عدي ( بإلى ).

فصل :


قال ابن الخطيب : للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال :
أحدها : أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة عنه. وثانيها : دلالتها على الصغيرة. وثالثها : لا تدل على كبيرة ولا على صغيرة، فأما القول الأول فقالوا : إن داودَ أحبًَّ امرأة «أُوريَا » فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله تعالى ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته وعرضا تلك الواقعة عليه، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة. وقال ابن الخطيب : والذي أدين به وأذهبُ إليه أنّ ذلك باطلٌ لوجوهٍ :
الأول : أن هذه الحكاية لا تناسب داودَ لأنها لو نُسبت إلى أفْسَقِ النَّاس وأشدهم فجوراً لانتفى منها، والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه ورعاً ولعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إليه ؟ !.
الثاني : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي وقتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول فأمر منكر ؛ قال - عليه ( الصلاة و ) السلام :«مَنْ سَعَى فِي دَمِ مُسْلِمٍ ولَوْ بشَرِّ كَلمَةٍ جَاءَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيسٌ مِن رَحمةِ اللَّهِ ». وأما الثاني فمنكر عظيم، قال - عليه ( صلاة و ) السلام- :«المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ». وإن «أوريا » لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه.
الثالث : أن الله تعالى وصف داودَ بصفات تنافي كونه- عليه ( الصلاة و ) السلام- موصوفاً بهذا الفعل المنكر فالصفة الأول أنه تعالى أمر محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أن يقتدي بداود في المصابرة مع المكاره فلو قيل إنَّ داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحد الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله ؟ !.
وأما الصفة الثانية فإنه وصفه بكونه عبداً له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في وصف العبودية أما في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحضورات، فلو قلنا : إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلاَّ في طاعة الهوى والشهوة. وأما الصفة الثالثة وهي قوله :﴿ ذَا الأيد ﴾ [ ص : ١٧ ] أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم ؟ ! الصفة الرابعة : كونه أوَّاباً كثيرَ الرجوع إلى الله تعالى فكيف يليق هذا بمن قلبه مشغوفٌ بالقتل والفجور ؟ ! الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ ﴾ أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذوا سبيله إلى القتل والفجور ؟ ! الصفة السادسة : قوله تعالى :﴿ والطير مَحْشُورَةً ﴾ قيل : إنه كان محرَّماً عليه صيد شيءْ من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على زوجته ومنكوحه. الصفة السابعة : قوله تعالى :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ ومحال أن يكون المراد أنه تعالى : شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد بأنا ملكناه تقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة، أو المراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك ؟ ! الصفة الثامنة : قوله تعالى :﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب ﴾ والحكمة : اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال : إِنَّا آتَيْنَاهُ ) الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف عنه الشيطان من مُزاَحَمَة أخصِّ أصحابه في الروح والمنكوح ؟ !
الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فأولها قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ وهذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوته في طاعة الله أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ لائقاً.
قوله تعالى :﴿ يا داوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض ﴾ وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه : الأول : أن الملك الكبير إذا حُكِي عن عبده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فعند فراغه من شرح قصته على الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد إنّي فوضت إليك خلافتي ونبوتي لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر فأما جعله نائباً وخليفة لنفسه فذلك مما لا يليق البتة.
الثاني : أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض ﴾ أشعر هذا الوصف بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة. ومعلوم أن هذا فاسد. أما لو ذكرنا أن تلك القصة كانت على وجه يدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدّة مصابرته في طاعة الله تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض ﴾ فثبت أن الذي نختاره أولى.
الثالث : أنه لما كان مقدمة الآية دالة على مدح داود- عليه ( الصلاة و ) السلام- وتعظيمه ومؤخرتها أيضاً دالة على ذلك فلو كانت الواسطة دالة على المقابح والمعايب لجرى مَجْرى أن يقال : فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله تعالى يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة له في أرضه وصوب أحكامه فكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب.
ورابعها : أن بعض القائلين ذكر في هذه الآية أن داود - عليه ( الصلاة و ) السلام- تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثلَ ما حصل للخليل من الإلقاء في النار، وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوبَ من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه ( الصلاة و ) السلام الابتلاء فأوحى الله إليه إنك مبتلى في يوم كذا فبالغ في الاحتراز، ثم وَقَعَت الواقعة فنقول : إن حكايتهم تدلّ على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه، فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة بحيث إن الحكاية التي ذكروها يناقص أولُها آخرَها.
وخامسها : أن داود عليه الصلاة و السلام تمنَّى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية ) قال :﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾ استثنى الذين آمنوا من البغي. فلو قلنا : إنه كان موصوفاً بالبغي لزم أن يقال : إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل.
وسادسها : حضرت في مجلس وفيه بعض أكابر المسلمين وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك فقلت له : لا شك أن داود عليه ( الصلاة و ) السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل وقال الله :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في المطعن فيه وأيضاً فبتقدير أنه ما كان من الأنبياء فلا شك أنه كان مسلماً ؛ وقال صلى الله عليه وسلم :«لاَ تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلاَّ بِخَيْر » ثم على تقدير أنَّا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلاَّ أَنَّا نقول : إنَّ من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها في حقه صحيحةً فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئاً مِنَ الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من ألاَّ توجب الثواب. وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة فإن ذكرها مستحق به أعظم العقاب، والواقعة التي هذا شأنها وصفتها فإنَّ صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور، فلما سمع ذلك الملك الشديد هذا الكلام سكت ولم يذكر شيئاً.
السابع : أن ذكر هذه القصة وذكر قصة يوسف- عليه ( الصلاة و ) السلام- يقتضي إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
الثامن : لو سعى داودُ في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله :«مَنْ سَعَى فِي دَمِ المرىءٍ مُسْلِم وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ». وأيضاً لو فعل ذلك لكان ظالماً وكان يدخل تحت قوله :﴿ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ [ هود : ١٨ ].
التاسع : عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال :( مَنْ حَدَّثَكُمْ بحَدِيث دَاودَ عَلَى مَا تَرْويه القُصَّاصُ فاجلدوه مائةً وستينَ جَلْدةً ) وهو حّد الفِرية على الأنبياء، وما يقوي هذا أنَّهُمْ لما قالوا : إن المغيرة بنَ شعبة زنى وشهد ثلاثةٌ من عدول الصحابة وأما الرابع فإنه لم يقل : إني رأيت ذلك بعيني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، فإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك فكيف الحال مع داود عليه ( الصلاة و ) السلام ؟ ! مع أنه كان من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام.
العاشر : رُوي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله، ثم قال : فما ينبغي أن يزاد عليها وإن كانت الواقعة على ما ذكرت ثم إنه تعالى لم يذكرها لسَتْر تلك الواقعة على داود عليه الصلاة والسلام فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ستر ستره الله ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر : سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمسُ.
فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها باطلة فاسدة. فإن قال قائل : إن كثيراً من أكابر المحدثين المفسرين ذكروا هذه القصة فكيف الحال فيها ؟ !
فالجواب الحقيقي : أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر كل واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى.
وأيضاً فالأصل براءة الذمة، وأيضاً فلما تعارض ذكر التَّحرُّم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضاً طريقة الاحتياط توجب ترجيحَ قولِنَا، وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول لنا الله يوم القيامة لِمَ لَمْ تَسعَوْا في تشهير هذه الواقعة أما بتقدير كونها باطلة فإنه يوجب أن لا تجوزَ الشهادة بها، وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول، بل الأكثرون والمحققون يردونه ويحكمون عليه بالكذب، وإذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدِّثين تساقطت وبَقِيَ الرجوع فيه إلى الدلائل التي ذكرناها.
الاحتمال الثاني أن نحمل هذه القصة على حُصُول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه :
الأول : أن هذه المرأة خطبها «أوريا » فأجابوه، ثم خطبها داود فآثره أهلها فكان ذنبه أن خَطبَ على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
الثاني : قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألْبَتَّةَ، أما وقوع بصره عليها من غير قصد فليس بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً، لأن الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها لأجل أنه طمع في أن يتزوج بتلك المرأة فَحَصَلت بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل.
والثالث : أنه كان أهل زمان داود عليه ( الصلاة و ) السلام يسأل بعضهم بعضاَ أن يطلق زوجته حتى يتزوجها وكانت عادتهم مألوفة مفهومة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسألوه النزول فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإنَّ حسناتِ الأبرار سيئات المقربين. فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حَقِّ داود عليه الصلاة والسلام إلا ترك الأفضل، والأولى.
الاحتمال الثالث : أن تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا صغيرة لداود عليه ( الصلاة و ) السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول : روي أنَّ جماعة من الأعداء طمعوا أن يقتلوا داود - عليه ( الصلاة و ) السلام- وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوَّرُوا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً وقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة. وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود عليه ( الصلاة و ) السلام إلا ألفاظ أربعة :
أحدها : قوله :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾، وثانيها : قوله :﴿ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً ﴾، وثالثها :﴿ وَأَنَابَ ﴾.
ورابعها : قوله :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾. ثم نقول : هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه من وجوه :
الأول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق وعلم داود عليه السلام دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم أي أنه مال إلى الصَّفْح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله تعالى فكانت هي الفتنة لأنها جاريةٌ مَجْرَى الابتلاء والامتحان ثم إنَّه استغفر ربه مما هَمَّ به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهمِّ وَأَنَابَ فغفر له ذلك القدر من الهمِّ والعزم.
الثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال : لَمَّا لَمْ تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك فَلَبِئْسَ ما عَمِلْتُ حيث ظننت فيهم هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد من قوله :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ ثم إنه استغفر ربه وأناب منه فغفر الله له ذلك.
الثالث : دخولهم عليه كان فتنة لداود - عليه الصلاة و السلام -إلا أنه عليه الصلاة و السلام استغفر لذلك العازم على قتله كقوله في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - :﴿ واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات ﴾ [ محمد : ١٩ ] فداود عليه السلام استغفر لهم، وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب المغفرة لذلك الرجل الداخل القاصد القتل، وقوله :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ أي فَغَفَرْنَا ذلك الذنب لأجل احترام داود وتعظيمه كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى :﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [ الفتح : ٢ ] إن معناه : إن الله يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذَنْب أمّتك.
الرابع : أنه عاتب داود عليه السلام عن زلَّة صدرت منه لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة. ولِم لا يجوز أن يقال : إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني لأنه لما قال :«لقد ظلمت بسؤال نعجتك » حكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوة الخصم بلا بينة فيكون هذا الحكم مخالفاً للصواب. فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة إلا أن هذا من باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إِذَا حَمَلْنَا هذه الآيات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيءٍ من الذنوب إلى دَاودَ - عليه ( الصلاة و ) السلام- بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطَّاعَاتِ إليه. ثم نقول : وحمل الآية عليه أولى لوجوه :
الأول : أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي لا سي
قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ قال ابن عباس: أي لا لثواب ولا لعقاب، احْتَجَّ الجُبَّائِيّ بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأعمال العِبَادِ قال: لأنه مشتملة على الكفر والفِسْق وكلها أباطيل فلما بين تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً دل هذا على أنه لم يخلق أعمال العباد.
(وأيضاً قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ وعند المُجْبِرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل، فقد خلق الباطل، ثم أكد تعالى
410
ذلك بأن قال: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي كل من قال بهذا القول فهو كافر فهذا تصريح بأن مذهب المُجْبَرَةِ من الكفر. واحتج أهل السنة بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى خلق أعمال العباد لأن الآية دَلَّت على أنه تعالى خلق ما بين السماء والأرض وأعمال العباد مما بين السماء والأرض فوجب أن يكون تعالى خالقاً لها.

فصل


دلت الآية على صحة القَوْل بالحَشْر لأنه تعالى لما خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يكون خلقهم للإضرار أو الانتفاع، أو لا لشيء، والأول باطلن لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضاً باطل؛ لأن هذه الحالة حاصلةٌ حين كانوا معدومين، فلم يبق إلا أن يقال: خلقهم للانتفاع فذلك الانتفاع إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة، والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارَّها كثيرة وتحمل الضرر الكثير لوجدان المنفعة القليلة لا يليق بالحكمة، ولما بطل هذا القول ثبت القول بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة، وذلك هو القول بالحشر والنَّشْرِ والقِيَامَة.
قوله: ﴿بَاطِلاً﴾ يجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير أي خلقاً باطلاً، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «خَلقنا» أي مُبْطِلِنَ، أو ذَوِي باطِلٍ، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي لِلْبَاطِل وهو العَبَثُ.
قوله: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنهم خلقوا لغير شيءٍ وأنه لا بعثَ ولا حِسَاب ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار﴾.
قوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض﴾ أم في الموضعين منقطعة وقد تقدم ما فيها. قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنَا نُعْطَى في الآرخة من لاخير ما تُعْطَوْنَ فنزلت هذه الآية: ﴿أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار﴾ أي المؤمنين كالكفار، قيل: أراد بالمتقين أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ يجوز أن يكون «كتاب» خبر مبتدأ مضمر، أي هذا كتاب
411
و «أَنْزَلْنَاهُ» و «مبارك» خبر مبتدأ مضمر أو خبر ثاني ولا يجوز أن يكون نعتاً ثانياً لأنه لا يقتدم عند الجمهور غير الصريح على الصَّريحِ، ومن يرى ذلك استدل بظاهرها وقد تقدم تحرير هذا في المائِدَةِ.
قوله: ﴿ليدبروا﴾ متعلق «بأَنْزَلْنَاه» وقرئ: مباركاً على الحال اللاَّزمة، لأن البركة لا تفارقه وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ليَتَدبَّرُوا، وهي أصل قراءة العامة، فأدغمت التاء في الدال، وأصلها لتتدبروا بتاءين فحذفَت إحداهما، وفيها الخلاف المشهور هل هي الأولى أو الثانية، قال الحسن: تدبروا آياته (أتباعه) «وليتذكَّر» ليتعظ أولو الألباب أي العقول.
412
قوله :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض ﴾ أم في الموضعين منقطعة، وقد تقدم ما فيها. قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين : إنَا نُعْطَى في الآخرة من الخير ما تُعْطَوْنَ فنزلت هذه الآية :﴿ أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ﴾ أي المؤمنين كالكفار، قيل : أراد بالمتقين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ ﴾ يجوز أن يكون «كتاب » خبر مبتدأ مضمر، أي هذا كتاب و «أَنْزَلْنَاهُ » و «مبارك » خبر مبتدأ مضمر أو خبر ثان. ولا يجوز أن يكون نعتاً ثانياً لأنه لا يتقدم عند الجمهور غير الصريح على الصَّريحِ، ومن يرى ذلك استدل بظاهرها. وقد تقدم تحرير هذا في المائِدَةِ.
قوله :﴿ ليدبروا ﴾ متعلق «بأَنْزَلْنَاه » وقرئ : مباركاً على الحال اللاَّزمة، لأن البركة لا تفارقه وقرأ علي - رضي الله عنه - ليَتَدبَّرُوا، وهي أصل قراءة العامة، فأدغمت التاء في الدال، وأبو جعفر ورويت عن عاصم والكسائي ليتدبروا بتاء الخطاب وتخفيف الدال، وأصلها لتتدبروا بتاءين فحذفَت إحداهما، وفيها الخلاف المشهور هل هي الأولى أو الثانية، قال الحسن : تدبروا آياته أتباعه، «وليتذكَّر » ليتعظ أولو الألباب أي العقول.
(قوله) :﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العبد﴾ المخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد سليمانُ، وقيل: داود؛ لأنه وصفه بهذا المعنى وقد تقدم حيث قال: ﴿ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ١٧] والأول أظهر لأنه هو المسوق للحديث عنه، وقرئ: بكسر العين وهي الأصل كقوله:
٤٢٦٨ -.....................
412
نِعْمَ السَّاعُونَ فِي القَوْمِ في القوم الشُّطُر

فصل


قوله: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ يدل على أنه كان نعم العبد لأنه كان أواباً؛ أي كثير الرجوع إلى الله في أكثر أوقاته ومهماته.
قوله: ﴿إِذْ عُرِضَ﴾ في ناصبه أوجهٌ:
أحدها: «نِعْمَ» : وهو أضعفها؛ لأنه لا يتقيد مدحه بوَقْتٍ، (و) لِعدم تصرف «نِعْمَ» قال ابن الخطيب: التقدير نعم العبد إذْ كَانَ من أعماله أنَّه فَعَلَ كَذَا.
الثاني: «أواب» وفيه تقييد وصفه بذلك بهذا الوقت.
والثالث: اذكر مقدّراً، وهو أسلمها.
والعَشِيُّ من العصر إلى آخر النهار. والصَّافِنَاتُ جمع صَافن، وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج: هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وعي علامة الفراهة وأنشد:
413
وقيل: هو الذي يجمع بين يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المُخِيم، قاله أبو عبيدة.
وقيل: هو القائم مطلقاً أي سواء كان من الخيل، أو من غيرها، قاله القُتَبِيّ واستدل (بحديث) وبقوله عليه (الصلاة و) السلام «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقُومَ النَّاسُ لَهُ صُفُوناً فَلْيَتَبوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّار» أي يديمون له القيام. وحكاه قطرب أيضاً وجاء في الحديث «قُمْنَا صُفُوناً» أي صافِّين أقدامَنا، وقيل: هو القيام مطلقاً سواء وقفت على طرف سنبك أم لا، قال الفراء: على هذا رأيت أشعارَ العرب، وقال النابغة:
٤٢٦٩ - أَلِفَ الصُّفُونَ فَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ مِمّا يَقُومُ عَلَى الثُّلاثِ كَسِيرا
٤٢٧٠ - لَنَا قُبًّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفنَائِهَا عِتَاقُ المَهَارَى والجِيَادُ الصَّوَافِنُ
والجياد إما من الجَوْدَة، يقال: جَادَا الفرسُ يَجودُ جَوْدَةً وجُودَةً بالفتح والضم فهو جَوَاد، للذكر والأنثى. والجمع جِيَادٌ وأجْوَادٌ، وأَجاوِيدُ، وقيل: جمع لِجَوْد بالفتح كثَوْبٍ وثِيَاب. وقيل: جمع جَيِّد. وإِما م الجِيدِ وهو العُنُق، والمعنى: طويلة الأعناق الأجياد. وهو دال على فراهَتِها.
قوله: ﴿حُبَّ الخير﴾ فيه أوجه:
أحدها: هو مفعول أحببت لأنه بمعنى آثرت، و «عن» على هذا بمعنى «عَلَى» أي على ذكر ربِّي، لأنه روي أن عرض الخيل حتى شغلته عن صلاة العصر أول الوقت حتى غَربت الشَّمْسُ.
وقال أبو حيان - وكأنه منقول عن الفراء - إنّه ضمن «أَحْبَبْتُ» معنى آثرتُ، حيث نصب «حب الخير» مفعولاً (به) وفيه نظر؛ لأنه متعد بنفسه وإنما يحتاج إلى التضمين وإن لم يكن مُتَعَدِّياً.
414
الثاني: أن «حب» مصدر على حذف الزوائدة ولاناصب له «أَحْبَبْتُ».
الثالث: أنه مصدر تشبيهي أي حُبًّا مِثْلَ حُبِّ الخَيْر.
الرابع: أنه قيل: ضمن معنى أنبت فلذلك تعدى بعَنْ.
الخامس: أن أحببت بمعنى لَزمْتُ.
قال ابن الخطيب: إن الإنسان قد يحب (شيئاً ولكنه يجب أن) لا يحبه كالمريض الذي يشتهي في مرضه فأما من أحب شيئاً وأحب أن يحبه فذلك غاية المحبة، فقوله: ﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير﴾ أي أحببت حبير للخير.
السادس: أن أحببت من أَحَبَّ البعيرُ إذا سقط وَبَرَكَ من الإعياء، والمعنى قعدت عن ذكر ربي فيكون «حب الخير» على هذا مفعولاً من أجله، والمراد بقوله: ﴿عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ قيل: عن صلاة العصر، وقيل: عن كتاب ربي وهو التوراة، لأن إرتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوحٌ فكذلك في التوراة ممدوح وقوله ﴿ذِكْرِ رَبِّي﴾ يجوز أن يكون مضافاً للمفعول أي عن أن أذكر ربي، وأن يكون مضافاً للفاعل أي عن ذكر بي ربي والمراد بالخير: الخيل والعرب تعاقبت بين الراء واللام (تقول) : خَتَلْتُ الرجلَ وختَرْتُه أي خَدَعْتُه، وسميت الخيلُ (خيراً) لأنه معقود بواصيها الخَيْر الأجرُ والمَغْنم.
قوله: ﴿حتى تَوَارَتْ﴾ في الفاعل وجهان:
أحدهما: هو: «الصّافنات»، والمعنى: حتى دخلت إصْطَبْلاَتِها فتوارتْ وغابت.
والثاني: أنه: «الشمس» أضمرت لدلالة السياق عليها، وقيل: لدلالة «العَشِيِّ»
415
عليها فإنها تشعر بها، وقيل: يدل عليها الإشراق في قصة داودَ وما أبْعَدَهُ.
قوله: ﴿رُدُّوهَا﴾ هذا الضمير للصّافنات، وقيل: للشمس وهو غريب جدًّا قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لوجوه:
منها: أن الصَّافِنَات مذكورة بالتصريح، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدَّر، ومنها: أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقهُ التّضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة فإما أن يقول على سبيل العَظَمَة لربِّ العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجُرْم العظيم (فهذا) لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول المطهر المكرم ومنها أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول رُدَّها عليَّ، ولا يقول: ردوها عليَّ لأن هذا اللفظ مشعر بأعظم أنواع الاستعلاء فيكف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم؟ ومنها: أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلم مشاهداً لأهل الدنيا ولو كان كذلك لوفرت الدواعي على نقهل وحيث لم ينقل علِمْنَا فَسَادَهُ.
قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً﴾ نصب «مسحاً» بفعل مقدر، هو خبر طفق أي (ف) طفق يَمْسَحُ مَسْحاً، لأن خبر هذه الأفعال لا يكون إلا مضارعاً في الأمر العام وقال أبو البقاء - وبه بدأ -: مصدر في موضع الحال وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن «طَفِقَ» لا بدّ لها من خَبَرٍ.
وقرأ زيد بن علي: مِسَاحاً بزنة قِتَال، والباء في «بالسوق» مزيدة مثلها في قوله: ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وحكى سيبويه: مَسَحْتُ رَأْسَهُ وبرأسِهِ بمعنى واحدٍ.
ويجوز أن تكون للإلصاق كما تقدم، وتقدم همز السوق وعدمه في النمل.
416
وجعل الفارسيُّ الهمز ضعيفاً وليس كما قال لما تقدم من الأدلة. وقرأ زيد بن عليّ (أيضاً) «بالسَّاقِ» مُفْرَداً اكتفاءً بالواحد لعدم اللَّبْسِ كقوله:
٤٢٧١ -................... وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
وقوله:
٤٢٧٢ -..................... كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكم تَعفُّوا
وقوله:
٤٢٧٣ -...................... فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا
قال الزمخشري: فإن قلت: بِمَ اتَّصل قوله «ردوها علي» ؟
قلت: بمحذوف تقديره قال ردوها فأضمر وأضمر ما هو جواب له كأنّ قائلاً قال: فماذا قال سليمان؟ لنه موضع متقض للسؤال اقتضاءاً ظاهراً.
قال أبو حيان: وهذا لا يحتاج إليه لأن هذه الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو: «فَقَال: إنِّي أَحْبَبْتُ».
417

فصل


قال المفسرون: إنه - عليه (الصلاة و) السلام - لما فاتته صلاة العصر لاشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقرباً إلَى الله تعالى، وبقي منها مائة، فالخيل التي في أيدي الناس اليوم، من نسل تلك المائة، قال الحسن: فلما عقر الخيل، أبدله الله - عزّ وجلّ - خيرايً منها وأوسع وهي الريح تجري بأمره كيفْ شاء. قال ابن الخطيب: وهذا عندي بعيد لوجوه:
الأول: أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعا لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل، بل لو قيل: مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العُنُق، أما إذا لم يُذْكَر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح.
الثاني: أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - أنواعاً من الأفعال المذمومة.
فأولها: ترك الصلاة.
وثانيها: أنه استولي عليه الاشتغل بحُبِّ الدنيا حيث نَسِيّ الصلاة وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: « (حُبُّ) الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطيئَةٍ».
وثالثها: أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة.
ورابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾ وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحَصِيف إلا مع الخادم الخسيس.
وخامسها: أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل من سوقها وأعناقها وقد «نَهَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ _ عن ذبح الحيوان إلا لمأكله»، وهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - مع أن لفظ القرآن لم يدلّ على شيء منها. وخلاصتها: أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ [ص: ١٦] وأن الكفار لما لبلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله عزّ وجلّ لمحمد - عليه (الصلاة و) السلام -: يا محمد اصبر على سفاهتهم، واذكر عبدنا داود، ثم ذكر عقيبه قصّةَ سليمان فكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد - عليه (الصلاة و) السلام -: يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان.
وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا: إن سليمان عليه (
418
الصلاة و) السلام - أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً. والصواب أن نقوله: إن رِبَاط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد عليه (الصلاة و) السلام؛ ثم إنَّ سليمانَ - عليه (الصلاة و) السلام - احتاج إلى الغزو فجلس وأمَرَ بإحْضَارِ الخَيْل وأمر بإجرائها، وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما حبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله: ﴿عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ ثم إنه - عليه السلام - أمر بإجرائها وسيَّرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره، ثم إنه أمر الرابضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعناقها والغرض من ذلك أمور:
الأول: تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يَتَّضِعُ إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من تلك المنكرات إلى سليمان عليه - (الصلاة و) السلام - والعَجَبُ منهم كيف قَبِلُوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة؟
فإن قيل: فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه.
فالجواب: أن نقول لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا، وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قاطع، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا نلتفت إلى أقوالهم؟ والذي ذهبنا إليه قولُ الزهري وابن كيسان.
قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ قال بعض المفسرين: إن سليمان - عليه (الصلاة و) السلام بلغهُ خبرُ مدينة في البحر يقال لها: صيد، فخرج إليها بجنوده فأخذها وقتل ملكها وأخذ بنتاً له اسمها: «جرادة» من أحسن الناس وجهاً فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبَّها فكانت تبكي على أبيها، فأمر سليمان الشيطان فمثل هلا صورة أبيها فكستها مثل
419
كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بُكْرةً وعَشِيًّا مع جواريها يَسْجُدُ (و) نَ لها فأخبر «آصف» سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرّماد وجلس عليه تائباً لله تعالى، وكانت له أم ولد يُقال لها: الأمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمة عندها وكان ملكه فيه موضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة «سليمان» وقال لها يا أمينة: خاتمي فناولته الخاتم فَتَختَّم به وجلس على كرسي سليمان فعكفت عليه الطير والجن والإنس وتغيرت هيئة سليمان فأتى الأمينة لطلب الخاتم فأنكرته فعل أن الخطيبئة قد أدرتكته فكان يدور على البيوت يتكفف، وإذا قال: أنا سليمان حَثَوا عليه التراب وسَبُّوه، وأخذ ينقل السمك للسَّماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقُلْن: ما يدع امرأة (منا) في دمها ولا تغتسل من جنابة، وقيل: (بل) نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة، ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجداً لله تعالى ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان فحبسه في صخرة ألقاها في البحر.
وقيل: إن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصوةر افتتن سليمان فكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتُبْ إلى الله تعالى.
وقيل: إن سليمان قال لبعض الشياطين: كيف تفتنون الناس: فقال: أرني خاتَمَكَ أُخْبِرْك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، وذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ثم ذكر الحكاية إلى آخرها فقالوا: المراد من قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ أن الله تعالة ابتلاه، وقوله: ﴿وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً﴾ عقوبة له. قال ابن الخطيب: واستبعد أهل التحقيق هذا الكلام من وجوه:
الأول: أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى
420
وموسى - عليهم (الصلاة و) السلام) - ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال وذلك يبطل الدين بالكلية.
الثاني: أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقلتهم ويمزق تَصَانِيفَهُمْ، ويُخَرِّب دِيَارَهُم، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولَى.
الثالث: كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ (ولا شك أنه قبيح.
الرابع: لو قلنا: إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادت (ها) تلك الصورة فهذا كفر منه) وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر منه؟
وأما أهل التحقيق فذكروا وجوهاً:
الأول: أن فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ابنٌ فقال الشيطان إن عاش صار ملكاً مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ لقي ذلك (الولد) ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يَثِقْ ويتوكلْ على الله فاستغفر ربه وتاب.
الثاني: روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «قَالَ سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأةً كُلُّ امْرَأةٍ تَأتِي بِفَارسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَم يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَطَافَ عَلَيْهنّ فَلَمْ تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رَدل والذي نفسي بِيَدِهِ لو قال إن شاء الله تعالى لَجَاهَدوا في سبيل الله فُرْسَاناً أجْمَعِينَ» فذَلك قولهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً﴾ وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف: «إنه لَحْمٌ على وَضَم وجسمٌ بلاَ رُوح» «ثُمَّ أَنَاب» أي رَجَعَ إلى حال الصحة. فاللفظ يحتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.
الثالث: لا يبعد أيضاً أن يقال: إنه ابْتَلاه الله تعالى بتسليط خوفٍ أو وقوع بلاء تَوَقَّعه من بعض الجهات حتى صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجَسَدِ الضعيف الخفي على ذلك الكرسي. ثم إن الله تعالة أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب.
421
قوله: ﴿جَسَداً﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول به لأَلْقَيْنَا.
والثاني: أنه حال، وصاحبها إما سُلَيْمَانُ لأنه يروى أنه مَرِضَ حتى صار كالجَسَد الذي لا رُوحَ فيه، وإما ولده، قالهما أبو البقاء ولكن «جَسَدٌ» جامد فلا بدّ من تأويله بمشتق أي ضعيفاً أو فارغاً.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ اغفر لِي﴾ تمسك به من حَمَلَ الكلام المتقدم على صدور الزَّلَّة لأنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب: بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسان الأبرار سيئات المقربين ولأنه أبداً في مقام هَضْم النفس وإظهار الذِّلَّة والخضوع كما قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» مع انه غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قوله: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي﴾ دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مُهِمّ الدين على مُهِمّ الدينا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم طلب المملكة بعده، ثم دلت الآية أيضاً على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً، ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح - عليه (الصلاة و) السلام - قال:
﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [نوح١٠ - ١٢] وقال لمحمد عليه (الصلاة و) السلام: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى﴾ [طه: ١٣٢].
فإن قيل: قول سليمان - عليه (الصلاة و) السلام -: «هَبْ لِي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي» مشعر بالحسد.
فالجواب: أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معناه هو: أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه ألبتة، وأما المنكرون فأجوابوا بوجوه:
الأول: أن المُلْكَ هو القدرة فكان المراد أقدرنِي على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نُبُوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا
422
قوله تعالى عقيبه: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته.
الثاني: أنه - عليه (الصلاة و) السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل عنّي إلى غيري.
الثالث: أنَّ الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حالَ عَدَمِ القدرة فكأنه قال: يا إلهي أعطني مملكةً فائقةً على ممالك البشر بالكلية حتى أحْتَرِزَ عنها مع القدرة عليها ليصير (ثوابي) أكمل وأفضلَ.
الرابع: سأل ذلك ليكون علماً على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد عليه مُلْكَهُ وزاده فيه.
قوله: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً﴾ لَيّنة أي رخوة لَيّنة، وهي من الرخاوة والريحُ إذا كانت لينة لا تزعزع (ولا تمتنع عليه إذا كانت طيبة).
فإن قيل: قد قال في آية أخرى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ [الأنبياء: ٨١].
فالجواب: من وجهين:
الأول: لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرِّيح العاصفة إلا أنها لما أمرت بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رُخَاء.
الثاني: أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين.
قوله: ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ ظرف ل «تَجْرِي» أو لسَخَّرْنَا «و» أَصَابَ «أراد بلغة حِمْيَرَ.
وقيل: بلغة هَجَر وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون: أصاب الصواب فأخطأ الجواب.
423
وروي أن رجلين خرجا يقصدان» رُؤْبَةَ «ليسألاه عن هذا الحرف فقال لهما: أين تصيبان فعرفاها وقالا هذه بغيتنا، وأنشد الثعلبيُّ على ذلك:
٤٢٧٤ - أَصَابَ الْجَوَابَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَخْطَا الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصَلِ
أي أراد الجواب ويقال:»
أصَابَ اللَّهُ بكَ خَيْراً «أي أراد بك وقيل: الهمزة في أصاب للتعدية من (أَ) صَابَ يَصُوبُ أي نزل، قال:
٤٢٧٥ -.................... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
والمفعول محذوف أي أصاب جنوده أي حيث وَجَّهَهُمْ وَجَعَلهُمْ يَصُوبُونَ صَوْبَ المطر، و «الشياطين»
نسقٌ على «الريح» و «كل بناء» بدل من «الشياطين» كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية.
روي أن سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - أمر الجانَّ فبنت له إصْطَخْرَ، فكانت فيها قرار مملكة النزل قيدماً، وبنت هل الجان أيضاً «تَدْمُر» وبين المقدس وباب جبرون وباب البريد الذين بدمشق على أحد الأقوال، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غدان وشالخين ويبنون ومدينة صنعاء. قوله: «وغواص» نسق على «بناء» أي يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. وألا بصيغة المبالغة لأنه في معرض الامتنان.
قوله: ﴿وَآخَرِينَ﴾ عطف على «كُلَّ» فهو داخل في حكم البدل وتقدم شرح «مُقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ» آخِرَ سورة إبراهيم.
424

فصل


قال ابن الخطيب: دلت هذه الآية على أن الشياطين لها قولة عظيمة قدروا بها على بناء تلك الأبنية العطيمة التي لا يقدر عليها البَشَر، وقدروا على الغوص في البحار واستخراد الآلئ وقيدهم سليمان - عليه (الصلاة و) السلام -. ولقائل أن يوقل: هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهُم كثيفةً أو لطيفةً؛ فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان شديد الحاسّة؛ إذْ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجْسادهم فليَجُزْ أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها وذلك وذلك دخول في السَّفْسَطَةِ وإن كانت أجسادهم لطيفةً فمثل ها يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة، ويلزم أيضاً أن تتفرق أجسادُهُمْ وأن تَتَمزَّق بالرِّياح العاصفة القوية وأن يموتوا (في الحال) وذلك يمنع وصفهم بالقوة وأيضاً فالجِنّ والشياطين وإن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة فِلَمَ لا يقتلون العُلَمَاء والزُّهَّاد في زماننا هذا ولِمَ لا يُخَرِّبُون ديار الناس مع أن المسلمين يبالغون في إظهار لعنتهم وعدواتهم وحيث لم يحس بشَيْءٍ مِنْ ذلكَ عَلِمْنَا أن القولَ بإثبات الجنِّ ضعيفٌ.
قال ابن الخطيب: واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسادهم كثيفة مع أنا لا نراهم وأيضاً لا يبعد أن تكون أجسادهم لطيفة بمعنى عدم الكون ولكنها صُلبة بمعنى أنها لا تقل التفرق. وأما الجُبَّائيّ فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونَهُمْ في زمن سُلَيْمَان - عليه (الصلاة و) السلام - ثم إنه لما توفي سليمان - عليه (الصلاة و) السلام - أمات الله أولئك الجنَّ والشياطين وخلق أنواعاً أخر من الجن والشياطين تكون أجسادهم في غاية الرّقَّة، ولا يكون لهم شيء من القوة، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس - والله أعلم -.
قوله
: ﴿هذا
عَطَآؤُنَا﴾
أي قلنا له: هذَا عَطاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ، قال ابن عباس: أعطِ من شئت وامنع من شئت.
قوله: «بغير حساب» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق «بعَطَاؤُنَا» أي أعطيناك بغَيْر حساب ولا تقدير. وهو دلالة على كثرة الإعطاء.
425
الثاني: أنه حال من «عَطَاؤُنَا» أي في حال كونه غَيْر مُحَاسَبٍ عليه لأن جَمٌّ كثيرٌ يعسر عَلى الحُسَّابَ ضَبطُهُ.
الثالث: أنه متعلق «بامْنُنْ» أو «أَمْسِكْ»، ويجوز أن يكون حالاً من فاعلهما أي غير محاسَبٍ عليه.

فصل


قال المفسرون: معناه لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما (أَ) مْسَكْتَ، قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان، فإنه (إنْ) أعْطى أجر إن لم يعط لم يكن عليه تبعة. وقال مقاتل: هذا في أمر الشياطين عين خل من شئت منهم وأمْسِكْ من شئت (منهم) في وثَاقِك لا تبعة عليك فيما تتعطاه.
قوله: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ نسقاً على اسم «إنَّ» هو «لَزُلْفَى» وقرأ الحسنُ وابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه على الابتداء، وخبره مضمر، لدلالة ما تقدم عليه، ويقفان على (لَزُلْفَى) ويَبْتدَئانِ ب «حُسْنَ مَآب» ؛ أي وحسن مآب له أيضاً.
426
قوله :﴿ إِذْ عُرِضَ ﴾ في ناصبه أوجهٌ :
أحدها :«نِعْمَ » : وهو أضعفها ؛ لأنه لا يتقيد مدحه بوَقْتٍ، ( و ) لِعدم تصرف «نِعْمَ ». قال ابن الخطيب : التقدير نعم العبد إذْ كَانَ من أعماله أنَّه فَعَلَ كَذَا.
الثاني :«أواب » وفيه تقييد وصفه بذلك بهذا الوقت.
والثالث : اذكر مقدّراً، وهو أسلمها.
والعَشِيُّ من العصر إلى آخر النهار. والصَّافِنَاتُ جمع صَافن، وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج : هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه، قال وهي علامة الفراهة وأنشد :
أَلِفَ الصُّفُونَ فَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ*** مِمّا يَقُومُ عَلَى الثُّلاثِ كَسِيرا
وقيل : هو الذي يجمع بين يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المُخِيم، قاله أبو عبيد.
وقيل : هو القائم مطلقاً أي سواء كان من الخيل، أو من غيرها، قاله القُتَبِيّ. واستدل ( بحديث ) وبقوله عليه الصلاة و السلام :«مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقُومَ النَّاسُ لَهُ صُفُوناً فَلْيَتَبوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّار » أي يديمون له القيام. وحكاه قطرب أيضاً. وجاء في الحديث «قُمْنَا صُفُوناً » أي صافِّين أقدامَنا، وقيل : هو القيام مطلقاً سواء وقفت على طرف سنبك أم لا، قال الفراء : على هذا رأيت أشعارَ العرب، وقال النابغة :
لَنَا قُبًّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفنَائِهَا***عِتَاقُ المَهَارَى والجِيَادُ الصَّوَافِنُ
والجياد إما من الجَوْدَة، يقال : جَادَ الفرسُ يَجودُ جَوْدَةً وجُودَةً بالفتح والضم فهو جَوَاد، للذكر والأنثى. والجمع جِيَادٌ وأجْوَادٌ، وأَجاوِيدُ، وقيل : جمع لِجَوْد بالفتح كثَوْبٍ وثِيَاب. وقيل : جمع جَيِّد. وإِما من الجِيدِ وهو العُنُق، والمعنى : طويلة الأعناق الأجياد. وهو دال على فراهَتِها.
قوله :﴿ حُبَّ الخير ﴾ فيه أوجه :
أحدها : هو مفعول أحببت لأنه بمعنى آثرت، و «عن » على هذا بمعنى «عَلَى » أي على ذكر ربِّي، لأنه روي أن عرض الخيل حتى شغلته عن صلاة العصر أول الوقت حتى غَربت الشَّمْسُ.
وقال أبو حيان- وكأنه منقول عن الفراء- إنّه ضمن «أَحْبَبْتُ » معنى آثرتُ، حيث نصب «حب الخير » مفعولاً ( به ). وفيه نظر ؛ لأنه متعد بنفسه وإنما يحتاج إلى التضمين إن لم يكن مُتَعَدِّياً.
الثاني : أن «حب » مصدر على حذف الزوائدة والناصب له «أَحْبَبْتُ ».
الثالث : أنه مصدر تشبيهي أي حُبًّا مِثْلَ حُبِّ الخَيْر.
الرابع : أنه قيل : ضمن معنى أنبت فلذلك تعدى بعَنْ.
الخامس : أن أحببت بمعنى لَزمْتُ.
قال ابن الخطيب : إن الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يجب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي في مرضه فأما من أحب شيئاً وأحب أن يحبه فذلك غاية المحبة، فقوله :﴿ أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير ﴾ أي أحببت حبي للخير.
السادس : أن أحببت من أَحَبَّ البعيرُ إذا سقط وَبَرَكَ من الإعياء، والمعنى قعدت عن ذكر ربي فيكون «حب الخير » على هذا مفعولاً من أجله، والمراد بقوله :﴿ عَن ذِكْرِ رَبِّي ﴾، قيل : عن صلاة العصر، وقيل : عن كتاب ربي وهو التوراة، لأن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوحٌ فكذلك في التوراة ممدوح وقوله ﴿ ذِكْرِ رَبِّي ﴾ يجوز أن يكون مضافاً للمفعول أي عن أن أذكر ربي، وأن يكون مضافاً للفاعل أي عن ذكر بي ربي والمراد بالخير : الخيل والعرب تعاقب بين الراء واللام، تقول : خَتَلْتُ الرجلَ وختَرْتُه أي خَدَعْتُه، وسميت الخيلُ خيراً لأنه معقود بنواصيها الخَيْر الأجرُ والمَغْنم.
قوله :﴿ حتى تَوَارَتْ ﴾ في الفاعل وجهان :
أحدهما : هو :«الصّافنات »، والمعنى : حتى دخلت إصْطَبْلاَتِها فتوارتْ وغابت.
والثاني : أنه :«الشمس » أضمرت لدلالة السياق عليها، وقيل : لدلالة «العَشِيِّ » عليها فإنها تشعر بها، وقيل : يدل عليها الإشراق في قصة داودَ. وما أبْعَدَهُ.
قوله :﴿ رُدُّوهَا ﴾ هذا الضمير للصّافنات، وقيل : للشمس وهو غريب جدًّا. قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لوجوه :
منها : أن الصَّافِنَات مذكورة بالتصريح، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدَّر، ومنها : أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقهُ التّضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة فإما أن يقول على سبيل العَظَمَة لربِّ العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجُرْم العظيم، فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول المطهر المكرم ومنها أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول رُدَّها عليَّ، ولا يقول : ردوها عليَّ لأن هذا اللفظ مشعر بأعظم أنواع الاستعلاء فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم ؟ ومنها : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلك مشاهداً لأهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقل علِمْنَا فَسَادَهُ.
قوله :﴿ فَطَفِقَ مَسْحاً ﴾ نصب «مسحاً » بفعل مقدر، هو خبر طفق أي ( ف ) طفق يَمْسَحُ مَسْحاً، لأن خبر هذه الأفعال لا يكون إلا مضارعاً في الأمر العام. وقال أبو البقاء - وبه بدأ- : مصدر في موضع الحال وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأن «طَفِقَ » لا بدّ لها من خَبَرٍ. وقرأ زيد بن علي : مِسَاحاً بزنة قِتَال، والباء في «بالسوق » مزيدة مثلها في قوله :﴿ وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [ المائدة : ٦ ] وحكى سيبويه : مَسَحْتُ رَأْسَهُ وبرأسِهِ بمعنى واحدٍ.
ويجوز أن تكون للإلصاق كما تقدم، وتقدم همز السوق وعدمه في النمل. وجعل الفارسيُّ الهمز ضعيفاً. وليس كما قال لما تقدم من الأدلة. وقرأ زيد بن عليّ أيضاً «بالسَّاقِ » مُفْرَداً اكتفاءً بالواحد لعدم اللَّبْسِ كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . ***وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
وقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكم تَعفُّوا
وقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا
قال الزمخشري : فإن قلت : بِمَ اتَّصل قوله «ردوها علي » ؟ قلت : بمحذوف تقديره قال ردوها فأضمر وأضمر ما هو جواب له كأنّ قائلاً قال : فماذا قال سليمان ؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاءاً ظاهراً.
قال أبو حيان : وهذا لا يحتاج إليه لأن هذه الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو :«فَقَال : إنِّي أَحْبَبْتُ ».

فصل


قال المفسرون : إنه - عليه ( الصلاة و ) السلام- لما فاتته صلاة العصر لاشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقرباً إلَى الله تعالى، وبقي منها مائة، فالخيل التي في أيدي الناس اليوم، من نسل تلك المائة، قال الحسن : فلما عقر الخيل، أبدله الله - عزّ وجلّ - خيراً منها وأوسع وهي الريح تجري بأمره كيفْ شاء. قال ابن الخطيب : وهذا عندي بعيد لوجوه :
الأول : أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل، بل لو قيل : مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العُنُق، أما إذا لم يُذْكَر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح.
الثاني : أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان - عليه ( الصلاة و ) السلام- أنواعاً من الأفعال المذمومة.
فأولها : ترك الصلاة.
وثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحُبِّ الدنيا حيث نَسِيّ الصلاة وقال - عليه الصلاة والسلام- :«( حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطيئَةٍ ».
وثالثها : أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة.
ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله :﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ ﴾ وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحَصِيف إلا مع الخادم الخسيس.
وخامسها : أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل من سوقها وأعناقها وقد «نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم _ عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة »، وهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان- عليه ( الصلاة و ) السلام - مع أن لفظ القرآن لم يدلّ على شيء منها. وخلاصتها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب ﴾ [ ص : ١٦ ] وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله عزّ وجلّ لمحمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- : يا محمد اصبر على سفاهتهم، واذكر عبدنا داود، ثم ذكر عقيبه قصّةَ سليمان فكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- : يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان.
وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا : إن سليمان عليه ( الصلاة و ) السلام- أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً. والصواب أن نقول : إن رِبَاط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد عليه ( الصلاة و ) السلام ؛ ثم إنَّ سليمانَ - عليه ( الصلاة و ) السلام- احتاج إلى الغزو فجلس وأمَرَ بإحْضَارِ الخَيْل وأمر بإجرائها، وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما حبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله :﴿ عَن ذِكْرِ رَبِّي ﴾. ثم إنه -عليه السلام- أمر بإجرائها وسيَّرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره، ثم إنه أمر الرابضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعناقها والغرض من ذلك أمور :
الأول : تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يَتَّضِعُ إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض. فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من تلك المنكرات إلى سليمان عليه- ( الصلاة و ) السلام- والعَجَبُ منهم كيف قَبِلُوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة ؟
فإن قيل : فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه. فالجواب : أن نقول لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا، وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء - عليهم ( الصلاة و ) السلام- ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قاطع، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا نلتفت إلى أقوالهم ؟ والذي ذهبنا إليه قولُ الزهري وابن كيسان.
قوله :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾ قال بعض المفسرين : إن سليمان - عليه ( الصلاة و ) السلام- بلغهُ خبرُ مدينة في البحر يقال لها : صيد، فخرج إليها بجنوده فأخذها وقتل ملكها وأخذ بنتاً له اسمها :«جرادة » من أحسن الناس وجهاً فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبَّها فكانت تبكي على أبيها، فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بُكْرةً وعَشِيًّا مع جواريها يَسْجُدُونَ لها فأخبر «آصف » سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرّماد وجلس عليه تائباً لله تعالى، وكانت له أم ولد يُقال لها : الأمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه فيه موضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة «سليمان » وقال لها يا أمينة : خاتمي فناولته الخاتم فَتَختَّم به وجلس على كرسي سليمان فعكفت عليه الطير والجن والإنس وتغيرت هيئة سليمان فأتى الأمينة لطلب الخاتم فأنكرته فعلم أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف، وإذا قال : أنا سليمان حَثَوا عليه التراب وسَبُّوه، وأخذ ينقل السمك للسَّماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقُلْن : ما يدع امرأة منا في دمها ولا تغتسل من جنابة، وقيل : بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة، ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجداً لله تعالى ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان فحبسه في صخرة وألقاها في البحر.
وقيل : إن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان فكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتُبْ إلى الله تعالى.
وقيل : إن سليمان قال لبعض الشياطين : كيف تفتنون الناس : فقال : أرني خاتَمَكَ أُخْبِرْك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، وذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ثم ذكر الحكاية إلى آخرها فقالوا : المراد من قوله :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾ أن الله تعالى ابتلاه، وقوله :﴿ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾ عقوبة له. قال ابن الخطيب : واستبعد أهل التحقيق هذا الكلام من وجوه :
الأول : أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى وموسى - عليهم ( الصلاة و ) السلام - ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال. وذلك يبطل الدين بالكلية.
الثاني : أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقتلهم ويمزق تَصَانِيفَهُمْ، ويُخَرِّب دِيَارَهُم. ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولَى.
الثالث : كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان ؟ ( ولا شك أنه قبيح.
الرابع : لو قلنا : إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادتها تلك الصورة فهذا كفر منه وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر منه ؟
وأما أهل التحقيق فذكروا وجوهاً :
الأول : أن فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ابنٌ فقال الشيطان إن عاش صار ملكاً مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ لقي ذلك الولد ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يَثِقْ ويتوكلْ على الله فاستغفر ربه وتاب.
الثاني : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«قَالَ سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأةً كُلُّ امْرَأةٍ تَأتِي بِفَارسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَم يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَطَافَ عَلَيْهنّ فَلَمْ تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رَجل والذي نفسي بِيَدِهِ لو قال إن شاء الله تعالى لَجَاهَدوا في سبيل الله فُرْسَاناً أجْمَعِينَ »
فذَلك قولهُ تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾ وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف :«إنه لَحْمٌ على وَضَم وجسمٌ بلاَ رُوح ». «ثُمَّ أَنَاب » أي رَجَعَ إلى حال الصحة. فاللفظ يحتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.
الثالث : لا يبعد أيضاً أن يقال : إنه ابْتَلاه الله تعالى بتسليط خوفٍ أو وقوع بلاء تَوَقَّعه من بعض الجهات حتى صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجَسَدِ الضعيف الخفي على ذلك الكرسي. ثم إن الله تعالى أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب.
قوله :﴿ جَسَداً ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول به لأَلْقَيْنَا.
والثاني : أنه حال، وصاحبها إما سُلَيْمَانُ لأنه يروى أنه مَرِضَ حتى صار كالجَسَد الذي لا رُوحَ فيه، وإما ولده، قالهما أبو البقاء ولكن «جَسَدٌ » جامد فلا بدّ من تأويله بمشتق أي ضعيفاً أو فارغاً.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ اغفر لِي ﴾ تمسك به من حَمَلَ الكلام المتقدم على صدور الزَّلَّة لأنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأنه أبداً في مقام هَضْم النفس وإظهار الذِّلَّة والخضوع كما قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :«إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً » مع أنه غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قوله :﴿ وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي ﴾ دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مُهِمّ الدين على مُهِمّ الدينا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم طلب المملكة بعده، ثم دلت الآية أيضاً على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً، ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح - عليه ( الصلاة و ) السلام- قال :﴿ فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ [ نوح١٠-١٢ ] وقال لمحمد عليه ( الصلاة و ) السلام :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى ﴾ [ طه : ١٣٢ ].
فإن قيل : قول سليمان - عليه الصلاة والسلام- :«هَبْ لِي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي » مشعر بالحسد.
فالجواب : أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معناه هو : أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه ألبتة، وأما المنكرون فأجابوا بوجوه :
الأول : أن المُلْكَ هو القدرة فكان المراد أقدرنِي على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نُبُوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا قوله تعالى عقيبه :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته.
الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام- لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل عنّي إلى غيري.
الثالث : أنَّ الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حالَ عَدَمِ القدرة فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكةً فائقةً على ممالك البشر بالكلية حتى أحْتَرِزَ عنها مع القدرة عليها ليصير ( ثوابي ) أكمل وأفضلَ.
الرابع : سأل ذلك ليكون علماً على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد عليه مُلْكَهُ وزاده فيه.
قوله :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً ﴾ لَيّنة أي رخوة لَيّنة، وهي من الرخاوة والريحُ إذا كانت لينة لا تزعزع١ ( ولا تمتنع٢ عليه إذا كانت طيبة ).
فإن قيل : قد قال في آية أخرى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
فالجواب من وجهين :
الأول : لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرِّيح العاصفة إلا أنها لما أمرت٣ بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رُخَاء.
الثاني : أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين٤.
قوله :﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ ظرف ل «تَجْرِي » أو «لسَخَّرْنَا »٥ و «أَصَابَ » أراد بلغة حِمْيَرَ.
وقيل : بلغة هَجَر٦. وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون : أصاب الصواب فأخطأ الجواب٧.
وروي أن رجلين خرجا يقصدان «رُؤْبَةَ » ليسألاه عن هذا الحرف فقال لهما : أين تصيبان فعرفاها وقالا هذه بغيتنا٨، وأنشد الثعلبيُّ على ذلك :
٤٢٧٤-أَصَابَ الْجَوَابَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ. . . فَأَخْطَا الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصَلِ٩
أي أراد الجواب ويقال :«أصَابَ اللَّهُ بكَ خَيْراً » أي أراد بك١٠. وقيل : الهمزة في أصاب للتعدية من ( أَ )١١ صَابَ يَصُوبُ أي نزل١٢، قال :
٤٢٧٥-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ١٣
والمفعول١٤ محذوف أي أصاب جنوده أي حيث وَجَّهَهُمْ وَجَعَلهُمْ يَصُوبُونَ صَوْبَ المطر١٥،
١ ريح زعزع وزعزاع وزعزوع: شديدة. الأخيرة عن ابن جني، انظر اللسان: "ز ع ع" ١٨٣٢..
٢ زيادة من الفخر الرازي..
٣ كذا في ب وفي "أ" مرت وفي الرازي: جرت وكلها متقاربة..
٤ وانظر: تفسير الإمام الرازي ٢٦/٢٠٩ و ٢١٠..
٥ التبيان ١١٠١ والدر المصون ٤/٦١١ و ٦١٠..
٦ المرجع الأخير وانظر كذلك القرطبي ١٥/٢٠٥ و ٢٠٦ وانظر: معاني الفراء ٢/٤٠٥ ومعاني الزجاج ٤/٣٣٣..
٧ القرطبي المرجع السابق والبغوي ٦/٦٠..
٨ الفخر الرازي ٢٦/٢١٠ والكشاف ٣/٣٧٥ و ٣٧٦ والبحر المحيط ٧/٣٩٨ والدر المصون ٤/٦١٠..
٩ من المتقارب وهو مجهول قائله. وهو يبين أن واحدا أراد أن يبين الكلام فلم يستطع وأراد هو المعنى فأصاب وهو محل الشاهد. وانظر: القرطبي ١٥/٢٠٥ والبحر ٧/٣٩٨ والدر المصون ٤/٦١٠ وتفسير الغريب ٣٨٠..
١٠ مجاز القرآن ٢/١٨٣ واللسان :"ص و ب" ٢٥٢٠..
١١ الهمزة مزيدة من ب خطأ..
١٢ اللسان :"ن ز ل" ٢٥١٨ و٢٥١٩..
١٣ عجز بيت من الطويل لعلقمة الفحل وصدره:
فلست لإنسي ولكن لملأك .............................
وملأك مهموز ملاك. وشاهده أن "يصوب" بمعنى ينزل. وانظر اللسان: "ص و ب" ٢٥١٩..

١٤ في ب والفعل خطأ..
١٥ قال بهذا أبو حيان في البحر ٧/٣٩٧ والسمين في الدر ٤/٦١١..
و «الشياطين » نسقٌ على «الريح » و «كل بناء » بدل من «الشياطين »، كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية.
روي أن سليمان - عليه الصلاة والسلام- أمر الجانَّ فبنت له إصْطَخْرَ، فكانت فيها قرار مملكة النزل قديماً، وبنت له الجان أيضاً «تَدْمُر » وبيت المقدس وباب جبرون وباب البريد الذين بدمشق على أحد الأقوال، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غدان وشالخين ويبنون ومدينة صنعاء. وقوله :«وغواص » نسق على «بناء » أي يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. وأتى بصيغة المبالغة لأنه في معرض الامتنان.
قوله :﴿ وَآخَرِينَ ﴾ عطف على «كُلَّ » فهو داخل في حكم البدل وتقدم شرح «مُقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ » آخِرَ سورة إبراهيم.

فصل :


قال ابن الخطيب : دلت هذه الآية على أن الشياطين لها قوة عظيمة قدروا بها على بناء تلك الأبنية العظيمة التي لا يقدر عليها البَشَر، وقدروا على الغوص في البحار واستخراج الآلئ وقيدهم سليمان - عليه ( الصلاة و ) السلام-. ولقائل أن يقول : هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهُم كثيفةً أو لطيفةً ؛ فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان شديد الحاسّة ؛ إذْ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجْسادهم فليَجُزْ أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في السَّفْسَطَةِ وإن كانت أجسادهم لطيفةً فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة، ويلزم أيضاً أن تتفرق أجسادُهُمْ وأن تَتَمزَّق بالرِّياح العاصفة القوية وأن يموتوا في الحال وذلك يمنع وصفهم بالقوة وأيضاً فالجِنّ والشياطين وإن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة فِلَمَ لا يقتلون العُلَمَاء والزُّهَّاد في زماننا هذا ولِمَ لا يُخَرِّبُون ديار الناس مع أن المسلمين يبالغون في إظهار لعنتهم وعداوتهم وحيث لم يحس بشَيْءٍ مِنْ ذلكَ عَلِمْنَا أن القولَ بإثبات الجنِّ ضعيفٌ.
قال ابن الخطيب : واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسادهم كثيفة مع أنا لا نراهم وأيضاً لا يبعد أن تكون أجسادهم لطيفة بمعنى عدم الكون ولكنها صُلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق. وأما الجُبَّائيّ فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونَهُمْ في زمن سُلَيْمَان - عليه الصلاة والسلام- ثم إنه لما توفي سليمان - عليه الصلاة والسلام- أمات الله أولئك الجنَّ والشياطين وخلق أنواعاً أخر من الجن والشياطين تكون أجسادهم في غاية الرّقَّة، ولا يكون لهم شيء من القوة، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس- والله أعلم-.
قوله :﴿ هذا عَطَآؤُنَا ﴾ أي قلنا له : هذَا عَطاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ، قال ابن عباس : أعطِ من شئت وامنع من شئت.
قوله :«بغير حساب » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق «بعَطَاؤُنَا » أي أعطيناك بغَيْر حساب ولا تقدير. وهو دلالة على كثرة الإعطاء.
الثاني : أنه حال من «عَطَاؤُنَا » أي في حال كونه غَيْر مُحَاسَبٍ عليه لأنه جَمٌّ كثيرٌ يعسر عَلى الحُسَّابَ ضَبطُهُ.
الثالث : أنه متعلق «بامْنُنْ » أو «أَمْسِكْ »، ويجوز أن يكون حالاً من فاعلهما أي غير محاسَبٍ عليه.

فصل :


قال المفسرون : معناه لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمْسَكْتَ، قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان، فإنه إنْ أعْطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين يعني خل من شئت منهم وأمْسِكْ من شئت منهم في وثَاقِك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه.
قوله :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ نسقاً على اسم «إنَّ » وهو «لَزُلْفَى ». وقرأ الحسنُ وابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه على الابتداء، وخبره مضمر، لدلالة ما تقدم عليه، ويقفان على ( لَزُلْفَى ) ويَبْتدَئانِ ب «حُسْنَ مَآب » ؛ أي وحسن مآب له أيضاً.
قوله: (تعالى) :﴿واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ﴾ كقول « (وَاذكر) عَبدنا دَاوُدَ» وفيه الثلاثة الأوجه، و «إذْ نَادَى» بدل منه بدل اشتمال أي بأني، وقوله: ﴿أَنِّي﴾ جاء به على حكاية كلامه الذي ناداه بسببه ولو لم يحكه لقال: «إنَّه مَسَّهُ» لأن غائب
426
وقرأ العامة بفتح الهمزة على أنه هو المُنَادِي بهذا اللفظ. وعيسى بن عُمَر بكسرها على إضمار القول أو على إجراء النداء مُجْرَاهُ.
قوله: ﴿بِنُصْبٍ﴾ قرأ العامة بالضم والسكون، فقيل: هو جمع نَصَب بفتحتين، نحو: (وثَن) وَوُثْنٍ وأَسد وأُسْدٍ وقيل: هو لغة في النَّصَب نحو: رَشَدٍ ورُشْد وحَزَنٍ وحُزْنٍ وعَدَم وعُدْمٍ. وأبو جعفر وشَيْبَةُ وحَفْصٌ ونافعٌ - في رواية - بضمتين - وهو تثقيل نُصْبٍ بضمةً وسكون، قاله الزمخشري. وفيه بعد لما تقرر أن مقُتْضَى اللغة تخفيف فُعُل كعُنُق لا تثقيل فُعْل كقُفُل. وفيه خلاف وقد تقدم في هذا العُسْر واليُسْر في البَقَرَة.
وقرأ أبو حيوة ويعقوب وحفصٌ - في رواية - بفتح وسكون وكلها بمعنى واحد وهو التّعب والشمقة.

فصل


النُّصُب المشقة والضر. قال قتادة ومقاتل: النصب في الجسد والعذاب في المال واعلم أن داود سُلَيْمَانَ - عليهما (الصلاة و) السلام - كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنَّعْمَاء، وأيوب كان ممن خصَّه الله تعالى بأنواع البلاء. والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال: يا محمد اصْرِرْ على سفاهة قومِكَ فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمةً ومالاً وجاهاً أكثر من داودَ وسليمانَ، وما كان أكثر بلاءً ولا محنة من أيوب. فتأمل في أحوالِ هؤلاء لتعرف أنَّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره.
427

فصل


قال بعض الحكماء: الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان، وقيل: إنما حصلت بفعل الله تعالى. والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة أما تقرير القول الأول فهو ما روي أنَّ إبليسَ سأل فيه ربه فقال: هل في عبيدك منْ لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله تعالى: نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوَسَاوِسِهِ وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه فقال: رب إنه قد امتنع عليّ فسلِّطْني على ماله فكان يجيئه ويقول له: هَلَكَ من مالك كذا وكذا فيقول: الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله تعالى فقال: يا رب إنّ أيوبَ لا يُبَالي بماله فسلّطني على ولده فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال: يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلّطني على جسده فأذِن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه فمكث في ذلك البلاء سنينَ حتى اسْتَقَدَرَهُ أهلُ بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يَقْرُبُ منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال: إنَّ زوجك إن استغاث إلَيَّ خَلَّصْتُهُ من هذه البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحَلف بالله لئن عافاه الله ليَجلِدُها مائةَ جلده وعند هذه الواقعة قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ فأجاب الله دعاءَهُ وأوحى إليه أن: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» وأظهر الله تعالى من تحت رجله عيناً بَاردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه، ورد عليه أهله وماله.
وأما القول الثاني أن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه:
الأول: أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندما من الخيرات والسعادات قد حصل بفعل الشيطان وحينئذ لاسبيل (لنا) إلى معرفة معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى أم الشيطان.
الثاني: أن الشيطان لو قدر على ذلك فِلمَ لا يَسْعَى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم (لا) يخرب دورهم ولم يقتل أولادهم.
الثالث: أن الله حكى عن الشيطان أنه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢] فصرح بأنه لا قدرة له في حقّ البشر، إلا إلقاء الوَسَاوِ والخواطر الفاسدة فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.
428
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يقال: إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله لكن على وَفْق التماس الشيطان؟
قلنا: فإذا كان لا بدّ من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأيّ فائدةٍ في جعل الشيطان واسطة في لك بل الحق أن المراد في قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ أنه سبب إلقاء الوساوس الفاسدة كأن يلقيه في أنواع العذاب، والقائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا وجوهاً:
الأول: أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له مال ألبتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل قدرَ القوت، ثم بلغت نُفْرةُ الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن خدمتهم والشيطان كان يذكر (هُ) النِّعم التي كانت، والآفات التي حصلت وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال: ﴿مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.
الثاني: أنه لما طالت مدة المرض جاء الشيطان فكان يقنطه مدة ويَزْلزِلُه أن يجزع فخاف من خاطر القنوط في قلبه وتضرع إلى الله تعالى وقال: إنِّي مسني الشيطان.
الثالث: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «بَقِيَ أَيُّوبُ فِي البلاء ثمانِ عَشْرَةَ سنةً حتى رَفَضَه القريُ والبَعِيدُ إلاَّ رَجُلَيْن، ثم قال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيوبُ فقال: لاَ أدْرِي ما تقولان غير أنني كنت أَمُر عَلَى الرجلين يتنازعان فيذكر أن الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالة إلا في حق».
الرابع: قيل: إنّ امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب فاتَّفق أنهم ما استخدموها ألبتة وطلب بعض الناس منها قطع إحدى ذُؤَابَتَيْهَا على أن تُعْطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب - عليه (الصلاة و) السلام - إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذُّؤَابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه، فعند ذلك قال: ﴿مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾.
الخامس: روي أنه - عليه (الصلاة و) السلام - قال في بعض الأيام: يا رب لقد علمتَ أني ما اجتمع عليَّ أمران إلا آثرت طاعتك، ولما أعطيتني المالَ كنت للأرامل
429
قيماً، ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً فنودي: يا أيوب ممِّن كان ذلك التوفيق؟ فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه وقال: منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال: مَسَّنِي الشيطان بنُصْبٍ وعذاب وذكر احوالاً أُخَرَ. والله أعلم.
قوله: ﴿اركض بِرِجْلِكَ﴾ معناه أنه لما اشتكى مَسَّ الشَّيْطَان فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله بأن قال: ﴿اركض بِرِجْلِكَ﴾ والرَّكْضُ هو الدفع القويُّ بالرجل. ومنه ركضَ الفَرَسُن والتقدير قُلْنَا له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ قيل: إنه ضرب برجله تلك الأرض فنبعت عين، فقيل: هذا مغتسل باردٌ وشراب أي هذا ما تَغْتَسِلُ به فيبرأ ظاهرك وتشرب منه فيبرأ باطنك. وظاهر (هذا) اللفظ يدل على أنه نَبَعَت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه، وشرب منه، والمفسرون قالوا: نَبَعَت له عَيْنَانٍ فاغتسل من إحْدَاهُما وشرب من الأُخْرَى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى. وقيل: ضرب بِرجْلِهِ اليمين فنبعت عين حارّة فاغتسل منها ثم بالسرى فنبعت عينٌ باردة فشرب منها.
قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ﴾ قيل: هم عين أهله وديراه «ومثلهم» قيل: غيرهم مثلهم، والأول أولى؛ لأنه الظاهر فلا يجوز العُدُولُ عنه من غير ضرورة ثم اختلفوا فقيل: أزلنا عنهم السَّقَم فأعيدوا أَصِحَّاء، وقيل: بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا عبد أن تفرقوا، وقيل: بل تمكن منهم وتمكنوا منه كما يفعل بالعِشْرَة والخِدْمَة.
قوله: ﴿وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ﴾ الأقرب أنه تعالى (متَّعه) بصِحَّتِهِ وماله وقواه حتى كثر نسله وصاروا أهله ضعف ما كانوا وأضعاف ذلك. وقال الحسن: المراد بِهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هَلَكُوا.
430
قوله: «رَحْمَةً وَذِكْرى» مفعول من أجله وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليَتَذَكَّرَ بحاله أولو الألباب يعني سلطنا عليه البلاء أولاً فصبر، ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلنا إليه الآلاء والنَّعْمَاءَ تنبيهاً لأولي الألباب عن أن من صبر ظفر. وهو تسلية لمحمد - عليه (الصلاة و) السلام - كما تقدم. قالت المعتزلة: وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض والمقاصد لقوله: ﴿رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب﴾.
قوله: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾ (ضغثاً) معطوف على «اركُضْ» والضَّغْثُ الحِزْمة الصَّغيرة من الحَشِيش والقُضْبَان، وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان وفي المثل: «ضِغْثٌ عَلَى إبَّالة» والإبَّالَةُ الحزمة من الحَطَب، قال الشاعر:
٤٢٧٦ - وَأَسْفَلَ مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطتُهاَ وَأَلْقَيْتُ ضِغْثاً مِنْ خَلًى مُتَطَيبِ
وأصل المادة يدل على جمع المختلطات، وقد تقدم هذا في يُوسُفَ في قوله: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ [يوسف: ٤٤].
قوله: ﴿ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ الحِنْثُ الإثم ويطلق على فعل ما حُلف على تَرْكه أو تَرك ما حلف على فعله لأنهما سببان فيه غالباً.

فصل


هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وقد روي أنه حلق على أهله، وختلفوا في سبب حلفه عليها، ويبعد ما قيل: إنها رغبة في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما رُوِيَ أنها قطعت ذَوَائِبَها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليَضرِبنَّهَا مائةً إذا برئ،
431
ولما كانت حسنة الخدمة لا جَرَمَ حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى برجل ضَعيفٍ زَنَا بأمةٍ فقال: «خُذُوا (عِثْكَالاً فيه) مائة شِمراخ فاضربوه بها ضربةً واحدةً».
قوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً﴾ فإن قيل: كيف وجده صابراً وقد شكا إليه؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه شكى مَسَّ الشيطان إليه وما شكى إلى أحدٍ.
والثاني: أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما عظمت الوَسَاوِسُ خاف على القلب والدين (ف) تَضَرَّع.
الثالث: أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر.
قوله: ﴿نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ يدل على أن التشريف بقوله: ﴿نِّعْمَ العبد﴾ إنما حصل لكونه أواباً.
روي أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿نِّعْمَ العبد﴾ في حق سليمان تَارةً وفي حق أيوبَ أخرى عظم في قلوب أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالوا: إن قوله: نعم العبد تشريفٌ عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله: ﴿فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ [الحج: ٧٨] والمراد أنك إن لم تكن نعما لعبد فأنا نعم المولى فإن كان منك الفضل فمني الفضل وإن كان منك التقصير فمني الرحمةُ والتَّيْسِيرُ.
432
قوله :﴿ اركض بِرِجْلِكَ ﴾ معناه أنه لما اشتكى مَسَّ الشَّيْطَان فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله بأن قال :﴿ اركض بِرِجْلِكَ ﴾. والرَّكْضُ : هو الدفع القويُّ بالرجل. ومنه ركضَ الفَرَسُ، والتقدير : قُلْنَا له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ قيل : إنه ضرب برجله تلك الأرض فنبعت عين، فقيل : هذا مغتسل باردٌ وشراب أي هذا ما تَغْتَسِلُ به فيبرأ ظاهرك وتشرب منه فيبرأ باطنك. وظاهر هذا اللفظ يدل على أنه نَبَعَت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه، وشرب منه، والمفسرون قالوا : نَبَعَت له عَيْنَانٍ فاغتسل من إحْدَاهُما وشرب من الأُخْرَى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى. وقيل : ضرب بِرجْلِهِ اليمين فنبعت عين حارّة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عينٌ باردة فشرب منها.
قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ ﴾ قيل : هم عين أهله ودياره «ومثلهم » قيل : غيرهم مثلهم، والأول أولى ؛ لأنه الظاهر فلا يجوز العُدُولُ عنه من غير ضرورة. ثم اختلفوا فقيل : أزلنا عنهم السَّقَم فأعيدوا أَصِحَّاء، وقيل : بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا، وقيل : بل تمكن منهم وتمكنوا منه كما يفعل بالعِشْرَة والخِدْمَة.
قوله :﴿ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ ﴾ الأقرب أنه تعالى متَّعه بصِحَّتِهِ وماله وقواه حتى كثر نسله وصاروا أهله ضعف ما كانوا وأضعاف ذلك. وقال الحسن : المراد بِهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هَلَكُوا.
قوله :«رَحْمَةً وَذِكْرى » مفعول من أجله أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليَتَذَكَّرَ بحاله أولو الألباب يعني سلطنا عليه البلاء أولاً فصبر، ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلنا إليه الآلاء والنَّعْمَاءَ تنبيهاً لأولي الألباب على أن من صبر ظفر. وهو تسلية لمحمد - عليه الصلاة والسلام- كما تقدم. قالت المعتزلة : وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض والمقاصد لقوله :﴿ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب ﴾.
قوله :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ﴾ :( ضغثاً ) معطوف على «اركُضْ ». والضَّغْثُ الحِزْمة الصَّغيرة من الحَشِيش والقُضْبَان، وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان. وفي المثل :«ضِغْثٌ عَلَى إبَّالة » والإبَّالَةُ الحزمة من الحَطَب، قال الشاعر :
وَأَسْفَلَ مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطتُهاَ*** وَأَلْقَيْتُ ضِغْثاً مِنْ خَلًى مُتَطَيبِ
وأصل المادة يدل على جمع المختلطات، وقد تقدم هذا في يُوسُفَ في قوله :﴿ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ﴾ [ يوسف : ٤٤ ].
قوله :﴿ فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ : الحِنْثُ الإثم ويطلق على فعل ما حُلف على تَرْكه أو تَرك ما حلف على فعله لأنهما سببان فيه غالباً.

فصل :


هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وقد روي أنه حلف على أهله، وختلفوا في سبب حلفه عليها، ويبعد ما قيل : إنها رغبة في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما رُوِيَ أنها قطعت ذَوَائِبَها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليَضرِبنَّهَا مائةً إذا برئ، ولما كانت حسنة الخدمة لا جَرَمَ حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل ضَعيفٍ زَنَا بأمةٍ فقال :«خُذُوا عثْكَالاً فيه مائة شِمراخ فاضربوه بها ضربةً واحدةً ».
قوله :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾ فإن قيل : كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه شكى مَسَّ الشيطان إليه وما شكى إلى أحدٍ.
والثاني : أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما عظمت الوَسَاوِسُ خاف على القلب والدين فتَضَرَّع.
الثالث : أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر.
قوله :﴿ نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ يدل على أن التشريف بقوله :﴿ نِّعْمَ العبد ﴾ إنما حصل لكونه أواباً.
روي أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ نِّعْمَ العبد ﴾ في حق سليمان تَارةً وفي حق أيوبَ أخرى عظم في قلوب أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إن قوله : نعم العبد تشريفٌ عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله ؟ فأنزل الله تعالى قوله :﴿ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير ﴾ [ الحج : ٧٨ ]. والمراد أنك إن لم تكن نعم لعبد فأنا نعم المولى فإن كان منك الفضل فمني الفضل وإن كان منك التقصير فمني الرحمةُ والتَّيْسِيرُ.
قوله: ﴿واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ قرأ ابن كثير: عَبْدَنا بالتوحيد. والباقون عِبَادَنَا بالجمع والرسم يحلتملهما، فأما قراءة ابن كثير فإبراهيم بدل، أو بيان،
432
أو بإضمار أعني، وما بعده عطف على نفس «عبدنا» لا على: «إبراهيم» ؛ إذ يلزم إبدالُ جمعٍ من مفرد.
ولقائل أن يقول: لما كان المراد بِعَبْدِنَا الجنس جاز إبدال الجمع منع كقراءة ابن عباس: «وإلهِ أبيك إبراهيم» في البقرة [١٣٣] في أحد القولين. وقد تقدم. وأما قراءة الجماعة، فواضحة لأنها موافقة للأول في الجمع.
قال ابن الخطيب: لأن غير إبراهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في حق عيسى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ٥٩] وفي أيوب: ﴿نِّعْمَ العبد﴾ [ص: ٤٤] وفي نوح: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً﴾ [الإسراء: ٣] والمعنى اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر صبر أيوب على البلاء واذكر صبر إبراهيم حينَ أُلْقِيَ في النار وصبر إسحاق حين عرض على الذّبح وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بَصَرُهُ.
قوله: ﴿أُوْلِي الأيدي﴾ العامة على ثبوت الياء وهو جمع «يَد» وهي إما الجارحة وكني بذلك عن الأعمال لأن أكثر الأعمال إنما تُزَاوَلُ باليد، وقيل: المراد بالأيدي - جمع يد - المراد بها النّعمة. وقرأ عبدُ الله والأعمش والحسنُ وعيسى: الأيدِ بغير ياء، فقيل: هي الأولى. وإنما حُذِفَت الياء اجتزاء عنها بالكسرة ولأن «أَلْ» تعاقبت التنوين والياء تحذف مع التنوين فأُجْرِيتْ مع «أل» إجراؤها معه. وهذا ضعيفٌ جدّاً وقيل: الأيد القوة، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَري قال: وتفسيره بالأيد من التأييد قَلِقٌ غير متمكن انتهى.
وكأنه إنما قلق عنده لعطف «الأَبْصار» عليه فهو مناسب للأيدي لا لِلأَيْدِ من
433
التأييد. وقد يقال: إنه لا يراد حقيقة الجوارحن إذ كُلّ أحدٍ كذلك إنما المراد الكناية عن العمل الصالح والتفكير ببصيرته، فلم يقلق حينئذ إذ لم يرد حقيقة الأبصار وكأنه قيل أولي القوة والتفكر بالبصيرة، وقد نَحَا الزمخشري إلى شيء من هذا قبل ذلك، قال ابن عباس: أولي القوة في طاعة الله والأبصار في المعرفة بالله أي البصائر في الدين، وقال قتادة ومجاهد أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين.
أحدها: أن يكون إضافة خالصة إلى «ذكرى»، للبيان لأن الخَالصةَ تكون ذكرى وغيرَ ذكرى كما في قوله: ﴿بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ [النمل: ٧] لأن الشهاب يكون قبساً وغيره.
الثاني: أن «خالصة» مصدر بمعنى إخلاص فيكون مصدراً مضافاً لمفعوله والفاعل محذوف أي بأنْ أَخْلَصُوا ذكرى الدار واتناسوا عندها ذكر (ى) الدنيا، وقد جاء المصدر على فاعله كالعَافِيَةِ، أو يكون المعنى بأن أَخْلَصْنَا نَحْنُ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ.
الثالث: أنها مصدر أيضاً بمعنى الخُلُوص فتكون مضافة لفاعلها أي بأن خَلستْ لهم ذِكْرى الدار وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة وفيها أوجه:
أحدها: أنها مصدر بمعنى الإخلاص فتكون: «ذِكْرَى» منصوباً به، وأن يكون بمعنى الخُلُوص فيكون «ذكرى» مرفوعاً به كما تقدم.
والمصدر يعمل منوناً كما يعمل مضافاً. أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، «وذكرى» بدل أو بيان لها أو منصوب بإضمار أعني، أو مرفوع على إضمار مبتدأ و «الدار» يجوز أن يكون مفعولاً به «بذكرَى» وأن يكون ظرفاً إما على الاتِّساع، وإما على إسقاط الخافض. ذكرهما أبو البقاء و «خالصة» إذا كانت صفة فهي صفة لمحذوف أي بسبب خَصْلَةٍ خالصة.
434
قوله :" بخالصة ذكرى الدار " بالإضافة وفيها أوجه :
أحدها : أن يكون إضافة خالصة إلى «ذكرى »، للبيان لأن الخَالصةَ تكون ذكرى وغيرَ ذكرى كما في قوله :﴿ بِشِهَابٍ قَبَسٍ ﴾ [ النمل : ٧ ] لأن الشهاب يكون قبساً وغيره.
الثاني : أن «خالصة » مصدر بمعنى إخلاص فيكون مصدراً مضافاً لمفعوله والفاعل محذوف أي بأنْ أَخْلَصُوا ذكرى الدار وتناسوا عندها ذكرى الدنيا، وقد جاء المصدر على فاعله كالعَافِيَةِ، أو يكون المعنى بأن أَخْلَصْنَا نَحْنُ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ.
الثالث : أنها مصدر أيضاً بمعنى الخُلُوص فتكون مضافة لفاعلها أي بأن خَلصتْ لهم ذِكْرى الدار. وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة وفيها أوجه :
أحدها : أنها مصدر بمعنى الإخلاص فتكون :«ذِكْرَى » منصوباً به، وأن يكون بمعنى الخُلُوص فيكون «ذكرى » مرفوعاً به كما تقدم.
والمصدر يعمل منوناً كما يعمل مضافاً. أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، «وذكرى » بدل أو بيان لها. أو منصوب بإضمار أعني، أو مرفوع على إضمار مبتدأ. و «الدار » يجوز أن يكون مفعولاً به «بذكرَى » وأن يكون ظرفاً إما على الاتِّساع، وإما على إسقاط الخافض. ذكرهما أبو البقاء. و «خالصة » إذا كانت صفة فهي صفة لمحذوف أي بسبب خَصْلَةٍ خالصة.

فصل :


من قرأ بالإضافة فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة إن لم يعملوا لها، والذّكرى بمعنى الذكر. قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وقال قتادة : كانوا يَدعُون إلى الآخرة وإلى الله عزّ وجلّ. وقال السدي : أخلصوا الخوْف للآخرة، وقيل : أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، قاله ابن زيد. ومن قرأ بالتنوين فمعناه بخُلّةٍ خالصةٍ وهي ذكرى الدار فتكون «ذكرى الدار » بدلاً عن الخالصة أو جعلناهم مخلصين بما اخترنا من ذكر الآخرة. والمراد بِذكرى الدار : الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة.
وقيل : إنهم أبقي لهم الذكر الجميل في الدنيا، وقيل : هو دعاؤهم ﴿ واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين ﴾ [ الشعراء : ٨٤ ].
قوله :﴿ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار ﴾ أي المختارين من أبناء جنسهم، والأخيار : جمع خَيْر أو خَيِّر- بالتثقيل والتخفيف - كأموات في جميع مَيِّتٍ أو مَيْتٍ. واحتج العلماء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء منه.
قوله تعالى :﴿ واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار ﴾ وهم ( قوم ) آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله، وقد تقدم شرح أصحاب هذه الأسماء في سورة «الأنعام ».

فصل


من قرأ بالإضافة فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة إن لم يعملوا لها، والذّكرى بمعنى الذكر. قال مالك بن دينار: نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وقال قتادة: كانوا يَدعُون إلى الآخرة وإلى الله عزّ وجلّ. وقال السدي: أخلصوا الخوْف للآخرة، وقيل: أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، قال ابن زيد. ومن قرأ بالتنوين فمعناه بخُلّةٍ خالصةٍ وهي ذكرى الدار فتكون «ذكرى الدار» بدلاً عن الخاصلة أو جعلناهم مخلصين بما اخترنا من ذكر الآخرة والمراد بِذكرى الدار: الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة.
وقيل: (إنهم) أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا، وقيل: هو دعاؤهم ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٤].
قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار﴾ أي المختارين من أبناء جنسيهم، والأخيار: جمع خَيْر أو خَيِّر - بالتثقيل والتخفيف - كأموات في جميع مَيِّتٍ أومَيْتٍ. واحتج العملاء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يعم حصلو الخيرية في جميع الأفعال ولاصفات بدليل صحة الاستثناء منه.
قوله تعالى: ﴿واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار﴾ وهم (قوم) آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله، وقد تقدم شرح أصحاب هذه الأسماء في سورة «الأنعام».
قوله
: ﴿هذا
ذِكْرٌ﴾
جملة جيء بها إيذاناً بأنَّ القصَّة قد تَمَّتْ وأَخَذَ في أخرى وهذا كما فعل الجاحظ في كتبه يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر ويدل على ذلك أنه لما
435
أراد أن يعقب بذكر أهل النار ذكر أهل الجنة ثم قال: «هَذَا وإنَّ لِلطَّاغِين» وقيل: المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء يذكرون أبداً والصحيح الأول.
قوله: ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ المآب المرجعُ، لما حكى سَفَاهَة قُرَيْش على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقولهم: «سَاحِر كَذَّاب» وقولهم له استهزاء: «عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا» ثم أمره بالصبر على سَفَاهَتهم واقتدائه بالأنبياء المذكورين في صبرهم على الشدائد والمكاره بين ههنا أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا وكل من خالفه كان له من العقاب كذا وكذا. وذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى. وهذا نظم حسن، وترتيب لطيف.
قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ العامة على نصب «جنات» بدلاً من «حسن مآب» سواء كانت «جنات عدن» معرفة أم نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس، ويجوز أن تكون عطف بيان إن كانت نكرة ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفةً.
(وقد جوز الزمخشري ذلك بعد حكمه) واستدلاله على أنها معرفة، وهذا كما تقدم له في مواضع يجيز عطف البيان وإن تخلفا تعريفاً وتنكيراً. وقد تقدم هذه في قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] ويجوز أن ينتصب «جَنَّاتِ عَدْنٍ» بإضمار فعل، و «مُخَتَّحَةً» حال من «جَنَّات عَدْنٍ» أو نعت لها إن كانت نكرة.
وقال الزمخشري: حال، والعامل فيها ما في «المُتَّقِينَ» من معنى الفعل. انتهى.
وقد علل أبو البقاء بعلة في «مُتَّكِئِينَ» تقتضي مع «مفتحةً» أن تكونَ حالاً وإن كانت العلة غير صحيحة فقال: ولا يجوز أن تكون - يعني متكئين - حالاً من «للمتقين» ؛ لأنه قد أخبر عنهم قبل الحال وهذه العلة موجودة في جعل «مُفَتَّحةً حالاً من للمتقين كما ذكره الزمخشري إلاّ أنّ هذه العلة ليست صحيحة. وهو نظير قولك:» إنَّ لهندٍ لاً قائمةً «وأيضاً في عبارته تجوز فإن» للمتقين «لم يخبر
436
عنهم صناعة إنما أخبر عنهم معنى وإلا فقد أخبر عن» حُسْنَ مَآبٍ «بأنه لهم، وجعل الحوفي العامل مقدراً أي يَدْخُلُونَها مفتحةً.
قوله: ﴿الأبواب﴾ في ارتفاعها وجهان:
أشهرهما عند الناس: أنها مرتفعة باسم المفعول كقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣] واعترض على هذا بأن»
مُفَتَّحَةً «إما حال، وما نعت» لجَنَّات «.
وعلى التقديرين فلا رابطَ. وأجيب بوجهين:
أحدهما: قول البصريين وهو أن ثَمَّ خبراً مقدراً تقديره الأبوابُ منها.
والثاني: أن ( «أل»
) قامت مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها، وهو قول الكوفيين وتقد تحقيق هذا. والوجهان جريان في قوله: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١].
الثاني: أنها مرتفعة على البدل من الضمير في متفحة العائد على جنات. وهو قول الفارسي لما رأى خلوّها من الرابط لفظاً ادّعى ذلك. واعترض على هذا بأن هذا من بدل البعض أو الاشتمال وكلاهما لا بدّ فيهما من ضمير فيضطر إلى تقديره كما تقدم. ورجح بعضهم الأول بأن فيه إضماراً واحداً وفي هذا إضماران وتبعه الزمخشري فقال «والأبواب» بدل من الضمير في «مفتحة» أي مفتحة هي الأبواب كقولك: «ضُرِبَ زَيْدٌ الْيَدُ والرِّجْلُ» وهو من بدل الاشْتِمال.
فقوله: «بدل الاشتمال» إنما يعني به الأبواب لأن الأبواب قد يقال: إنها ليست بعض الجنات، وأما ضرب زيد اليد والرجل فهو بعض من كل ليس إلا.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة جنات عدن مفتحة برفعها إما على أنها جملة من
437
مبتدأ وخبر، وإما على كل واحدة خبر مبتدأ مضمر أي هِيَ جناتٌ هِيَ مفتحةٌ.
قوله: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من «لهم» العامل فيها مفتحة، وقيل: العامل «يَدْعُونَ» (و) تأخر عنها. وقد تقدم منع أبي البقاء أنها حال من «للمتقين» وما فيه، و «يَدْعُونَ» يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً إما من ضمير «متكئين» وإما حالاً ثانيةً.

فصل


اعلم أنه تعالى وصف أحوال أهل الجنة في هذه الآية بأشياء:
أولها: أحوال مساكنهم جنات عدن وذلك يدل على أمرين:
أحدهما: كونها بساتينَ.
والثاني: كونها دائمةً ليست منقضيةً، وقوله: ﴿مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ قيل: المراد أن الملائكة يفتحو (ن) لهم أبواب الجنة يُحَيُّونهم بالسلام كما قال تعالى: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] وقيل: الحق أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم، وقيل: المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسِّعة وقُرَّة العيون فيها، وقوله: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ قد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتّكاء فقال في آيةٍ ﴿عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ﴾ [يس: ٥٦] وق في آخرى: ﴿مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ [الرحمن: ٧٦] «يَدْعُونَ فِيهَا» فِي الجنات بألوان الفاكهة وألوان الشراب والتقدير بفاكهة كثيرة وشارب كثير، ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر ألأمر المنكوح فقال ﴿أَتْرَابٌ﴾ أي من غيرهم وقوله «أَتْرَابٌ» أي على سنِّ واحد، وقيل: بنات ثلاث وستين سنة واحدها تِرْب. وعند مجاهد: متواخِيات لا يَتَبَاغَضْنَ ولا
438
قوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ العامة على نصب «جنات » بدلاً من «حسن مآب » سواء كانت «جنات عدن » معرفة أم نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس، ويجوز أن تكون عطف بيان إن كانت نكرة ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفةً.
وقد جوز الزمخشري ذلك بعد حكمه واستدلاله على أنها معرفة، وهذا كما تقدم له في مواضع يجيز عطف البيان وإن تخالفا تعريفاً وتنكيراً. وقد تقدم هذا في قوله تعالى :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، ويجوز أن ينتصب «جَنَّاتِ عَدْنٍ » بإضمار فعل، و «مُفَتَّحَةً » حال من «جَنَّات عَدْنٍ » أو نعت لها إن كانت نكرة.
وقال الزمخشري : حال، والعامل فيها ما في «المُتَّقِينَ » من معنى الفعل. انتهى.
قد علل أبو البقاء بعلة في «مُتَّكِئِينَ » تقتضي منع «مفتحةً » أن تكونَ حالاً وإن كانت العلة غير صحيحة فقال : ولا يجوز أن تكون - يعني متكئين - حالاً من «للمتقين » ؛ لأنه قد أخبر عنهم قبل الحال. وهذه العلة موجودة في جعل «مُفَتَّحةً » حالاً من للمتقين كما ذكره الزمخشري إلاّ أنّ هذه العلة ليست صحيحة. وهو نظير قولك :«إنَّ لهندٍ ما لاً قائمةً » وأيضاً في عبارته تجوز فإن «للمتقين » لم يخبر عنهم صناعة إنما أخبر عنهم معنى وإلا فقد أخبر عن «حُسْنَ مَآبٍ » بأنه لهم، وجعل الحوفي العامل مقدراً أي يَدْخُلُونَها مفتحةً.
قوله :﴿ الأبواب ﴾ في ارتفاعها وجهان :
أشهرهما عند الناس : أنها مرتفعة باسم المفعول كقوله :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]. واعترض على هذا بأن «مُفَتَّحَةً » إما حال، وإما نعت «لجَنَّات ». وعلى التقديرين فلا رابطَ. وأجيب بوجهين :
أحدهما : قول البصريين وهو أن ثَمَّ خبراً مقدراً تقديره الأبوابُ منها.
والثاني : أن «أل » قامت مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها، وهو قول الكوفيين. وتقدم تحقيق هذا. والوجهان جريان في قوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ [ النازعات : ٤١ ].
الثاني : أنها مرتفعة على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات. وهو قول الفارسي. لما رأى خلوّها من الرابط لفظاً ادّعى ذلك. واعترض على هذا بأن هذا من بدل البعض أو الاشتمال وكلاهما لا بدّ فيهما من ضمير فيضطر إلى تقديره كما تقدم. ورجح بعضهم الأول بأن فيه إضماراً واحداً وفي هذا إضماران وتبعه الزمخشري فقال «والأبواب » بدل من الضمير في «مفتحة » أي مفتحة هي الأبواب كقولك :«ضُرِبَ زَيْدٌ الْيَدُ والرِّجْلُ » وهو من بدل الاشْتِمال.
فقوله :«بدل الاشتمال » إنما يعني به الأبواب لأن الأبواب قد يقال : إنها ليست بعض الجنات، وأما ضرب زيد اليد والرجل فهو بعض من كل ليس إلا.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة جنات عدن مفتحة برفعها إما على أنها جملة من مبتدأ وخبر، وإما على أن كل واحدة خبر مبتدأ مضمر أي هِيَ جناتٌ هِيَ مفتحةٌ.
قوله :﴿ مُتَّكِئِينَ ﴾ حال من «لهم » العامل فيها مفتحة، وقيل : العامل «يَدْعُونَ ». و تأخر عنها. وقد تقدم منع أبي البقاء أنها حال من «للمتقين » وما فيه، و «يَدْعُونَ » يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً إما من ضمير «متكئين » وإما حالاً ثانيةً.

فصل :


اعلم أنه تعالى وصف أحوال أهل الجنة في هذه الآية بأشياء :
أولها : أحوال مساكنهم جنات عدن وذلك يدل على أمرين : أحدهما : كونها بساتينَ. والثاني : كونها دائمةً ليست منقضيةً.
وقوله :﴿ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب ﴾ قيل : المراد أن الملائكة يفتحون لهم أبواب الجنة ويُحَيُّونهم بالسلام كما قال تعالى :﴿ حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]. وقيل : الحق أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم، وقيل : المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسِّعة وقُرَّة العيون فيها، وقوله :﴿ مُتَّكِئِينَ ﴾ قد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتّكاء فقال في آيةٍ :﴿ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ ﴾ [ يس : ٥٦ ] وقال في آخرى :﴿ مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾[ الرحمن : ٧٦ ]، وقوله :«يَدْعُونَ فِيهَا » فِي الجنات بألوان الفاكهة وألوان الشراب والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير،
لما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح، فقال :﴿ وعندهم قاصرات الطرف ﴾ أي : من غيرهم، وقوله «أَتْرَابٌ » أي : على سنِّ واحد، وقيل : بنات ثلاث وستين سنة، واحدها تِرْب. وعن مجاهد : متواخِيات لا يَتَبَاغَضْنَ ولا يَتَغَايَرن، وقيل : أتراب للأزواج، وقال القفال : والسبب في اعتبار هذه الصفة أنهن لما تَشَابَهْنَ في الصِّفة والسن والجِبِلّة كان الميل إليهن على السَّوِيَّة وذلك يقتضي عدم الغيرة.
قوله :﴿ هذا مَا تُوعَدُونَ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو :«هذا ما يُوعَدُونَ » بياء الغيبة وفي ( ق ) وابن كثير وحده. والباقون بالخطاب فيهما. ووجه الغيبة هنا وفي ( ق ) تقدم ذكر المتقين ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقبال عليهم ؛ أي قُلْ لِلْمُتَّقِين هذا ما توعدون ليوم الحساب أي في يوم الحساب
«إنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ » أي فناء وانقطاع، وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب.
قوله :«من نفاد » إما مبتدأ وإما فاعل و «من » مزيدة، والجملة في محل نصب على الحال من رزْقُنَا أي غير فانٍ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً.
يَتَغَايَرن، وقيل: أتراب للأزواج، وقال القفال: والسبب في اعتبار هذه الصفة أنهن لما تَشَابَهْنَ في الصِّفة والسن والجِبِلّة كان الميل إليهن على السَّوِيَّة وذلك يقتضي عدم الغيرة.
قوله
: ﴿هذا
مَا تُوعَدُونَ﴾
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «هذا ما يُوعَدُونَ» بياء الغيبة وفي (ق) (و) ابن كثير وحده. والباقون بالخطاب فيهما وجه الغيبة هنا وفي (ق) تقدم ذكر المتقين ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقابل عليهم؛ أي قُلْ لِلْمُتَّقِين هذا ما توعدون ليوم الحساب أي في يوم الحساب «إنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ» أي فناء وانقطاع، وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب.
قوله: «من نفاد» إما مبتدأ وإما فاعل و «من» مزيدة، والجملة في محل نصب الحال من رزْقُنَا أي غير فانٍ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً.
قوله
: ﴿هذا
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾
يجوز أن يكون «هذا» مبتدأ، والخبر مقدر، فقدره الزمخشري: «هذا كما ذكر» وقدره أبو علي للمؤمنين، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي الأمرُ هذا.

فصل


لما وصف ثواب المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكوراً عقيبَ الوعد والترهيب عقيب الترغيب فقال: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ أي مرجع، وهذا في
439
مقابلة قوله: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ والمراد «بالطاغين» : الكفار، وقال الجبائي: هم أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أم لا، واحتج الأولون بقوله: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً﴾ ؛ ولأن هذا ذمّ مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان وهو الكافر، واحتج الجبائي بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق ٦ - ٧] فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة، لأن كل من تجاوز حدّ تكاليف الله وتعداها فقد طغى.
قوله: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «شَرَّ مَآبِ» أو منصوبة بإضمار أعني فعل، وقياس قول الزمخشري في: «جَنَّاتِ عَدْنٍ» أي يكون عطف بيان وأن يكون جهنم منصوبة بفغل يتقدمه على الاشتغل أي يَصْلَوْنَ جَهْنَّمَ يَصْلَوْنَها، والمخصوص بالذم محذوف أي «هِيَ».
قوله: ﴿فَبِئْسَ المهاد﴾ هو معنى قوله: ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١] شبَّه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرشه النائمُ.
قوله: ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾ في هذا أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ وخبره: «حميمٌ وغَسَّاقٌ» وقد تقدم أن اسم الإشارة يكتفي بواحدة في المثنى كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨] أو يكون المعنى: هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله: ﴿فَلْيَذُوقُوهُ﴾ جملة اعتراضية.
الثاني: أن يكون «هذا» منصوباً بمقدر على الاشتغال أي لِيَذُوقُوا هذا، وشبهه الزمخشري بقوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] يعني على الاشتغال والكلام على مثل هذه الفاء قد تقدم و «حمِيمٌ» على هذا خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره مضمر أي مِنْهُ حميمٌ ومنهُ غسَّاقٌ كقوله:
440
٤٢٧٧ - حَتَّى إذَا مَا أَضَاءَ الْبَرْقُ فِي غَلَسٍ وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُودُ
أي منه ملويٌّ ومنه محصود.
الثالث: أن يكون «هذا» مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كَمَا ذُكِرَ أو هذا للطاغين.
الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر أي الأمر هذا ثم استأنف أمراً فقال «فَلْيَذُوقُوهُ».
الخامس: أن يكون مبتدأ خبره فليذوقوا وهو رأي الأخفش ومنه:
٤٢٧٨ - وَقَائِلَةٍ خَوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ... وتقدم تحقيق هذا عند قوله: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا﴾ [المائدة: ٣٨] وقرأ الأَخَوانِ وحفصٌ غَسَّاق بتشديد السين هنا وفي ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [النبأ: ١] وخَفَّفَهُ الباقون فيها فأما المثقل فهو صفة كالجّبَّار والضَّرَاب مثال مبالغةٍ وذلك أن «فَعَّالاً» في الصفات أغلب منه في الاسم ومِنْ وُرُودِهِ في الأسماء الكلاَّء والحَبَّان والفَيًَّاد لذَكَر البوم والعَقَّار والخَطَّار وأما المخفف فهو اسم لا صفة لأن فَعَالاً بالتخفيف في الأسماء كالعَذَاب والنَّكَال أغلب منه في الصفات على أنَّ منْهُمْ من جعلَهُ صفةً بمعنى «ذو كذا» أي ذِي غَسَق، وقال أبو البقاء أو يكون «فَعَّال» بمعنى
441
فَاعِلٍ.
قال شهاب الدين: وهذا غير معروفٍ.

فصل


قيل: هذا على التقديم والتأخير والتقدير: هذا حميمٌ وغَسَّاق (فَليَذُوقُوهُ، وقيل: التقدير: جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدئ فيقوله: حَمِيمٌ وغَسَّاق أي منه حميم وغساق) والغَسَقُ السَّيَلاَنُ، يقال: غَسَقَتْ عَيْنهُ أي سَالَتْ، قال المفسرون: إنه ما يسيل من صديدهم، وقيل: غسق أي امتلأ، ومه غسبقت عينه أي امتلأت بالدمع ومنه الغَاسِق للقمر لامتلائه وكماله. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَلَ ببردِهِ، ومنه قيل: لليل: غاسِقٌ، لأنه أبرد من النهار، (و) قال ابن عباس: هو الزَّمْهَريرُ يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرِّها. وقال مجاهد وقتادة: هوا لذي انتهى برده، وقيل: الغسق شدة الظلمة ومنه قيل للَيل غاسق، ويقال للقمر غاسق إذا كسف لا سُوِدَادِهِ، والْقَولان منقوللان في تفسير قوله تعالى: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: ٢] وقيل: الغساق: المنتن بلغة الترك وحكى الزاج: «لو قَطَرَتْ منه قطرة بالمغرب لأَنْبَنَتْ أهل المشرق» وقال ابن عُمَر: هوا لقيح الذي يسيل منهم يجتمع فيُسْقَوْنَهُ، قال قتادة: هو ما يَغْسِقُ أي يسيل من القيح والصَّديد من جلودها أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم: غَسَقَتْ عَيْنُهُ إذا انْصَبَّتْ والغَسَقَانُ الانْصَابُ، قال كعب: الغَسّاق عينٌ في جهنم يسيل إليهم كل ذوات حية وعقرب.
قوله: ﴿وَآخَرُ﴾ قرأ أبو عمرو بضم الهمزة على أنه جمع وارتفاعه من أوجهٍ:
أحدها: أنه مبتدأ و «مِنْ شكْلِهِ» خبره، و «أَزْوَاجٌ» فاعل به.
الثاني: أن يكون مبتدأ أيضاً و «مِنْ شَكْلِهِ» خبر مقدم، و «أزواج» مبتدأ. والجملة خبره، وعلى هذين القولين فيقال: كيف يصحُّ من غير ضمير يعود على «آخر» فإن
442
الضمير في «شكله» يعود على ما تقدم أي من شكل المذوق؟ والجواب أن الضمير عائد على المبتدأ وإنما أفرد وذكر لأن المعنى من شكل ما ذكرنا. ذكر هذا التأويل أبُو البَقَاء. قود منعَ مَكِّيٌّ ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير وجوابه ما ذكرنا.
الثالث: أن يكون «مِنْ شَكْلِهِ» نعتاً «لآخر» و «أزواج» خبر المبتدأ أي «آخر من شكله المذوق أزواج».
الرابع: أن يكون «مِنْ شَكْلِهِ» نعتاً أيضاً، و «أزواج» فاعل به والضمير عائد على «آخر» بالتأويل المتقدم وعلى هذا فيرتفع «آخر» على الابتداء، والخبر مقدر أي ولهم أنواع أخرُ استقر من شكلها أزواج.
الخامس: أن يكون الخبر مقدراً كما تقدم أي ولهم آخر و «مِنْ شَكْلِهِ» و «أزواج» صفتان لآخر، وقرأ العامة «من شَكْله» بفتح الشين، وقرأ مجاهد بكسرها وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. تقوله: هذَا عَلَى شَكْلِهِ أي مثله وضربه وأما الشِّكْل بمعنى الغنج فبالكسر لا غير. قاله الزمخشري وقرأ البَاقُونَ وآخر بفتح الهمزة عليه من غير تأويل لأنه مفرد إلا أن في أحد الأوجه يلزم الإخبار عن المفرد بالجمع أو وصف المفرد بالجمع لأن من جملة الأوجه المتقدمة أن يكون «أزواج» خبراً عن «آخر» أو نعت له كما تقدم. وعنه جوابان:
أحدهما: أن التقدير وعذاب آخر أوم ذوق آخر، وهو ضروب ودرجات فكان في قوة الجمع أو يجعل كل جزء من ذلك الآخر مثل الكل وسماه باسمه وهو شائع كثير نحو غَلِيظ الحَوَاجب وشابت مفارقه.
443
على أن لقائل أن يقول: إن «أزواجاً» صفة للثلاثة الأشياء أعني الحميم والغساقَ وآخرَ من شكله فيلغي السؤال.
قوله: ﴿هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ﴾ مفعول «مقتحم» محذوف أي مُقْتَحِمٌ النار، والاقتحام الدخول في الشيء بشدة والقُحْمةُ الشدة. وقال الراغب: الاقتحام توسط شدة مخيفة ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي توغل به ما يخاف منه، والمقاحيم الذين يقتحمون في الأمر الذي يتجنب.
قوله: ﴿مَعَكُمْ﴾ يجوز أن يكون نعتاً ثانياً «لِفَوْجٍ» وأن يكون حالاً من الضمير المستتر في «مُقْتَحِمٌ» قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون طرفاً لفساد المعنى، قال شهاب الدين: ولَمْ أدرِ من أي وجه يفسد والحالية والصفة في المعنى كالظرفية، وقوله: «هَذَا فَوْجٌ» إلى «النار» يجوز أن يكون من كلام الرؤساء بعضهم لبعض بدليل قول الأتباع «لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوه لَنَا» وأن يكون من كلام الخَزَنَة، ويجوز أن يكون «هَذَا فَوجٌ» من كلام الملائكة والباقي من كلام الرؤساء. وكان القياس على هذا أن يقال: بَلْ هُمْ لا مرحباً بهم لا يقولون للملائكة ذلك إلا أنهم عدلوا عن خطاب الملائكة إلى خطاب أعدائهم تشفياً منهم. والمعنى هنا جمع كثيف وقد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال، والفَوْجُ القطيعُ من النَّاسِ وجمعه أفواجٌ.
(قوله) :﴿﴾ في «مرحباً» وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول بفعل مقدر أي لا أتيتم مرحباً (أولا سعتم مرحباً.
والثاني: أنه منصوب على المصدر قاله أبو البقاء أي لا رَجُبَتكُمْ دارُكُمْ مَرْحَباً) بل ضِيقاً، ثم في الجملة المنفية وجهان:
444
أحدهما: أنها مستأنفة سِيقَتْ للدعاء عليهم، وقوله: «بِهِمْ» بيان للمدعُوِّ عليهم.
والثاني: أنها حالية، وقد يعترض عليه بأنه دعاء والدعاء طلب (والطلب) لا يقع حالاً والجواب أنه على إضمار القول أي مقولاً لهم لا مرحباً قال المفسرون قوله تعالى: ﴿لاَ مَرْحَباً﴾ دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له: مرحباً أي أتيت رَحْباً من البلاد لا ضيقاً أو رَحُبَتْ بلاَدُكَ رَحْباً، ثم تدخل عليه كلمة «لا» في دعاء النفي.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ صَالُو النار﴾ تعليل لاستجابة الدعاء عليهم ونظير هذه الآية قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: ٣٨] «قالوا» أي الأتباع ﴿بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به وعللوا ذلك بقوهم: «أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا» والضمير للعذاب أو للضَّلال.
فإن قيل: ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟
فالجواب: الذي أوجب التقديم عو عمل السوء كقوله تعالى: ﴿يقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ٩، ١٠] إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل: أنتم قدمتموه لنا، وقوله: «فبئس القرار» أي بئس المستقرّ والمستكنّ جهنم.
قوله: ﴿مَن قَدَّمَ﴾ يجوز أن تكون «مَنْ شرطية و (» ف (زِدُهُ «جوابها، وأن تكون استفهامية وقدّم خبرها أي (أن) أي شخص قم لنا هذا؟ ثم استأنفوا دعاءً، بقوله:» فَزِدْهُ «وأن تكون موصولة بمعنى الذي وحينئذ يجوز فيها وجهان: الرفع بالابتداء والخبر» فَزِدْهُ «والفاء زائدة تشبيهاً له بالشرط، والثاني: أنها منصوبة بفعل مقدر على الاشتغال والكلام في مثل هذه الفاء (قَدْ) تقدم.
وهذا الوجه يجوز عند بعضهم حال كونهم شرطية أو استفهامية أعين الاشتغال إلا أنه لا يقدر الفعل إلا بعدها لأن لها صدر الكلام و»
ضِعْفاً «نعت لعذاب أي مضاعفاً.
445
قوله: ﴿فِي النار﴾ يجوز أن تكون ظرفاً» لِزدْهُ «أو نعتاً» لعَذَابٍ «أو حالاً منه لتخصيصه أو حالاً من مفعول» زِدْهُ «.
قوله: ﴿قَالُوا﴾ يعني الأتباع»
رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا «أي شرعَهُ وسنَّهُ لنا فزده عذاباً ضعفاً أي مضاعفاً» فِي النًَّارِ «ونظيره قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً (ضِعْفاً) مِّنَ النار﴾ [الأعراف: ٣٨] وقولهم ﴿إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً﴾ [الأحزاب: ٦٧ - ٦٨].
فإن قيل: كل مِقْدَارٍ يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً وإن كان زائداً عليه كان ظلماً وإنه لا يجوز.
فالجواب: المراد منه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -»
مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وزْرُها ووِزْرُ من عَمِلَ بِهَا إلى يَوم الْقِيَامَةِ «والمعنى أنه يكون أحد القِسمين عذاب الضَّلاَلِ، والثَّانِي عذاب الإضْلاَلِ، والله أعلم.
وهذا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا اعاء لهم في الدنيا فهو قوله: ﴿وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار﴾ أي أن صناديد قريش قالوا، وهم في النار: ﴿وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار﴾ في الدنيا يعنون فقراء المؤمنين عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً وسلمان وسموهم أشراراً إما بمعنى الأرذال الذين لاَ خير فيهم ولا جدوى أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشْراراً.
قوله: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً﴾ قرا الأخوان وأبو عمرو بوصل الهمزة، وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خبراً محضاً وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية «لرجالاً»
كما وقع «كُنَّا نَعُدُّهُمْ» صفة وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة «أَمْ» عليها كقوله:
446
٤٢٧٩ - تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِر وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِر
«فأم» متصلة على هذا، وعلى الأول منقطعة، بمعنى «بل» والهمزة لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، والباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل، والظاهر أنه لا محل للجملة حينئذ لأنه طلبية، وجوز بعضهم أن تكون صفة لكن على إضمار القول أي رجالاً مقولاً فيهم أتخذناهم كقوله:
٤٢٨٠ -........................... جَاؤُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطّ
إلا أن الصفة في الحقيقة ذلك القول المضمر، وقد تقدم الخلاف في «سُخْرِيًّا» في «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» والمشهور من الهُزْء كقوله:
٤٢٨١ - إنّي أَتَانِي لِسَانٌ لاَ أُسَرُّ بَِهَا مِنْ عَلْوِ لاَ كَذِبٌ فِيهَا ولا سُخْرُ
وتقدم معنى لحاق الياء المشددة في ذلك، و «أم» مع الخبر منقطعة فقط كما تقدم ومع الاستفهام يجوز أن تكون متصلةً، وأن تكون منقطعةً كقولك: (أ) زَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عِنْدَكَ عَمْرو، ويجوز أن يكون «أَمْ زَاغَتْ» متصلاً بقوله: ﴿مَا لَنَا﴾ ؛ لأنه استفهام إلا أنه يتعين انقطاعها لعدم الهمزة ويكون ما بينهما معترضاً على قراءة «أَتَّخَذْنَاهُمْ» بالاستفهام إن لم
447
تجعله صفةً على إضمار القول كما تقدم. قال أَهْلُ المعاني: قراءة الأخوين أولى لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخرياً لقوله تعالى: ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ [المؤمنون: ١١٠] فلا يستقيم الاستفهام. وتكون «أم» على هذه القراءة بمعنى «بل» وأجاب الفراء عن هذا بأَن قال: هذا من الاستفهام الذي معاه التعجب والتوبيخ. ومثلُ هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم ومن فتح الألف قال هو على اللفظ لا على المعنى ليعادِل «أمْ» في قوله «أَمْ زَاغتْ».
فإن قيل: فما الجملة المعادلة بقوله: «أم زاغت» على القراءة الأولى؟
فالجواب: أنها محذوفة، والتقدير: أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ وقرأ نافعٌ سُخْريًّا - بضم السِّين - والباقون بكسرها فقيل: هما بمعنى، وقيل: الكسر بمعنى الهُزْء، وبالضم التذليل والتسخير وأما نظم الآية على قراءة الإخبار فالتقدير: مَا لَنَا نَرَاهُمْ حَاضِرينَ لأجْلِ أنَّهُمْ لحَقَارَتِهمْ تُركوا لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار، ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم: «أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْريًّا» وأما على قراءة الاستفهام فالتقدير لأجل أنّا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار.

فصل


معنى الآية: ومَا لَنَا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخرياً لم يدخلوا معنا النَّار أم دخلو (ها) فزاغت أي فمالت عنهم أبصارنا فَلَمْ نَرَهُمْ حتى دخلوا.
وقيلي: (أم) هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا، وقال ابن كيسان أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكان أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدُهُّمْ شيئاً.
448
قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ﴾ أي الذي ذكرت لحق أي لا بدّ وأن يتكلموا به، ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم فقال: ﴿تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾ العامة على رفع «تخاصم» مضافاً «لأهل» وفيه أَوْجُهٌ:
أحدها: أنه بدل من «لَحَقّ».
الثاني: أنه عطفُ بيان.
الثالث: أنه بدل من «ذَلِكَ» على الموضع حكاه مكي وهذا يوافق قولَ بعضِ الكوفيين.
الرابع: أنه خبر ثانٍ ل «إنَّ».
الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُو تَخَاصُمُ.
السادس: أنه مرفوع بقوله: «لحَقّ» إلا أن أبا البقاء قال: ولو قيل: هو مرفوع «بحق» لكان بعيداً لأنه يصير جملة ولا ضمير فيها يعود على اسم «إنّ»، وهذا رد صحيح. وقد يجاب عنه بأن الضمير مقدر أن لحقٌّ تَخَاصُم أهل النار فِيهِ، كقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] أي مِنْهُ، وقرأ ابن مُحَيْصِن بتنوين «تَخَاصُمٌ» ورفع «أَهْلُ» فرفع «تخاصم» على ما تقدم، وأما رفع «أهل» فعلى الفاعلية بالمصدر المنون كقولك: «يعجبني تَخَاصُمٌ الزيدونَ» أي «أَنْ» تَخَاصَمُا «وهذا قولُ البَصْرِيِّينَ، وبعض الكوفيين خَلاَ الفراءَ وقرأ ابنُ أبي عبلة تَخَاصُمَ بالنصب مضافاً» لأهل «وفيه أوجه:
449
أحدها: أنه صفة» لذلك «على اللفظ، قال الزمخشري: لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس وهذا فيه نظر لأنهم نصوا على أن أسماء الإشارة لا توصف إلا بما فيه أل نحوه: (مَرَرْتُ) بهَذَا الرجل ولا يجوز:» مَرَرْتُ «بهذا غلامِ الرجلِ، فهذا أبعد، ولأن الصحيح أن الواقع بعد اسم الإشارة المقارن» لأل «إن كان مشتقاً كان صفة وإلا كان بدلاً، و» تخاصم «ليس مشتقاً.
الثاني: أنه بدل من»
ذَلِكَ «الثالث: أنه عطف بيان.
الرابع: على إضمار أَعْنِي، وقال أَبُو الفَضْلِ: ولو نصب»
تَخَاصُم «على أنه بدل من» ذلك «لجاز انتهى. كأنه لم يطلع عليها قراءة. وقرأ ابن السَّمَيْقَع» تَخَاصَمَ «فعلاً ماضياً» أَهْلُ «فاعل به وهي جملة استئنافية، وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء:» لا مرحباً بهم «وقول الأتباع» بل أنتم لا مرحباً بكُم «من باب الخُصُومَة.
450
قوله :﴿ جَهَنَّمَ ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «شَرَّ مَآبِ » أو منصوبة بإضمار أعني فعل، وقياس قول الزمخشري في :«جَنَّاتِ عَدْنٍ » أي يكون عطف بيان وأن يكون جهنم منصوبة بفعل يتقدمه على الاشتغال أي يَصْلَوْنَ جَهْنَّمَ يَصْلَوْنَها، والمخصوص بالذم محذوف أي «هِيَ ».
قوله :﴿ فَبِئْسَ المهاد ﴾ هو معنى قوله :﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ [ الأعراف : ٤١ ] شبَّه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرشه النائمُ.
قوله :﴿ هذا فَلْيَذُوقُوهُ ﴾ في هذا أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ وخبره :«حميمٌ وغَسَّاقٌ ». وقد تقدم أن اسم الإشارة يكتفي بواحدة في المثنى كقوله :﴿ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك ﴾ [ البقرة : ٦٨ ] أو يكون المعنى : هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله :﴿ فَلْيَذُوقُوهُ ﴾ جملة اعتراضية.
الثاني : أن يكون «هذا » منصوباً بمقدر على الاشتغال أي لِيَذُوقُوا هذا، وشبهه الزمخشري بقوله تعالى :﴿ وَإِيَّايَ فارهبون ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] يعني على الاشتغال والكلام على مثل هذه الفاء قد تقدم. و «حمِيمٌ » على هذا خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ وخبره مضمر أي مِنْهُ حميمٌ ومنهُ غسَّاقٌ كقوله :
حَتَّى إذَا مَا أَضَاءَ الْبَرْقُ فِي غَلَسٍ*** وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُودُ
أي منه ملويٌّ ومنه محصود.
الثالث : أن يكون «هذا » مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كَمَا ذُكِرَ أو هذا للطاغين.
الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي الأمر هذا. ثم استأنف أمراً فقال «فَلْيَذُوقُوهُ ».
الخامس : أن يكون مبتدأ خبره فليذوقوه، وهو رأي الأخفش. ومنه :
وَقَائِلَةٍ خَوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتقدم تحقيق هذا عند قوله :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا ﴾ [ المائدة : ٣٨ ]. وقرأ الأَخَوانِ وحفصٌ غَسَّاق بتشديد السين هنا وفي ﴿ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ النبأ : ١ ] وخَفَّفَهُ الباقون فيهما. فأما المثقل فهو صفة كالجّبَّار والضَّرَاب مثال مبالغةٍ وذلك أن «فَعَّالاً » في الصفات أغلب منه في الاسم. ومِنْ وُرُودِهِ في الأسماء الكلاَّء والحَبَّان والفَيًَّاد لذَكَر البوم والعَقَّار والخَطَّار. وأما المخفف فهو اسم لا صفة لأن فَعَالاً بالتخفيف في الأسماء كالعَذَاب والنَّكَال أغلب منه في الصفات على أنَّ منْهُمْ من جعلَهُ صفةً بمعنى «ذو كذا » أي ذِي غَسَق، وقال أبو البقاء أو يكون «فَعَّال » بمعنى فَاعِلٍ. قال شهاب الدين : وهذا غير معروفٍ.

فصل :


قيل : هذا على التقديم والتأخير. والتقدير : هذا حميمٌ وغَسَّاق فَليَذُوقُوهُ، وقيل : التقدير : جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدئ فيقول : حَمِيمٌ وغَسَّاق أي منه حميم وغساق. والغَسَقُ السَّيَلاَنُ، يقال : غَسَقَتْ عَيْنهُ أي سَالَتْ، قال المفسرون : إنه ما يسيل من صديدهم، وقيل : غسق أي امتلأ، ومنه غسقت عينه أي امتلأت بالدمع ومنه الغَاسِق للقمر لامتلائه وكماله. وقيل : الغَسَّاق ما قَتَلَ ببردِهِ، ومنه قيل لليل : غاسِقٌ، لأنه أبرد من النهار، وقال ابن عباس : هو الزَّمْهَريرُ يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرِّها. وقال مجاهد وقتادة : هو الذي انتهى برده، وقيل : الغسق شدة الظلمة ومنه قيل للَيل غاسق، ويقال للقمر غاسق إذا كسف لاسُوِدَادِهِ، والْقَولان منقولان في تفسير قوله تعالى :﴿ ومِن شَرِّ غاسق ﴾[ الفلق : ٢ ]. وقيل : الغساق : المنتن بلغة الترك وحكى الزجاج :«لو قَطَرَتْ منه قطرة بالمغرب لأَنتَنَتْ أهل المشرق ». وقال ابن عُمَر : هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيُسْقَوْنَهُ، قال قتادة : هو ما يَغْسِقُ أي يسيل من القيح والصَّديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم : غَسَقَتْ عَيْنُهُ إذا انْصَبَّتْ والغَسَقَانُ الانْصبَابُ، قال كعب : الغَسّاق عينٌ في جهنم يسيل إليها كل ذوات حية وعقرب.
قوله :﴿ وَآخَرُ ﴾ قرأ أبو عمرو بضم الهمزة على أنه جمع وارتفاعه من أوجهٍ : أحدها : أنه مبتدأ و «مِنْ شكْلِهِ » خبره، و «أَزْوَاجٌ » فاعل به.
الثاني : أن يكون مبتدأ أيضاً و «مِنْ شَكْلِهِ » خبر مقدم، و «أزواج » مبتدأ. والجملة خبره، وعلى هذين القولين فيقال : كيف يصحُّ من غير ضمير يعود على «آخر » فإن الضمير في «شكله » يعود على ما تقدم أي من شكل المذوق ؟ والجواب أن الضمير عائد على المبتدأ وإنما أفرد وذكر لأن المعنى من شكل ما ذكرنا. ذكر هذا التأويل أبُو البَقَاء. وقد منعَ مَكِّيٌّ ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير. وجوابه ما ذكرنا. الثالث : أن يكون «مِنْ شَكْلِهِ » نعتاً «لآخر » و «أزواج » خبر المبتدأ أي «آخر من شكله المذوق أزواج ». الرابع : أن يكون «مِنْ شَكْلِهِ » نعتاً أيضاً، و «أزواج » فاعل به والضمير عائد على «آخر » بالتأويل المتقدم وعلى هذا فيرتفع «آخر » على الابتداء، والخبر مقدر أي ولهم أنواع أخرُ استقر من شكلها أزواج. الخامس : أن يكون الخبر مقدراً كما تقدم أي ولهم آخر و «مِنْ شَكْلِهِ » و «أزواج » صفتان لآخر، وقرأ العامة «من شَكْله » بفتح الشين، وقرأ مجاهد بكسرها. وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. تقول : هذَا عَلَى شَكْلِهِ أي مثله وضربه وأما الشِّكْل بمعنى الغنج فبالكسر لا غير. قاله الزمخشري. وقرأ البَاقُونَ وآخر بفتح الهمزة وبعدها ألف بصيغة أفعل التفضيل والإعراب فيه كما تقدم، والضمير في أحد الأوجه يعود عليه من غير تأويل لأنه مفرد إلا أن في أحد الأوجه يلزم الإخبار عن المفرد بالجمع أو وصف المفرد بالجمع لأن من جملة الأوجه المتقدمة أن يكون «أزواج » خبراً عن «آخر » أو نعت له كما تقدم. وعنه جوابان :
أحدهما : أن التقدير وعذاب آخر أو مذوق آخ، وهو ضروب ودرجات فكان في قوة الجمع أو يجعل كل جزء من ذلك الآخر مثل الكل وسماه باسمه وهو شائع كثير نحو غَلِيظ الحَوَاجب وشابت مفارقه. على أن لقائل أن يقول : إن «أزواجاً » صفة للثلاثة الأشياء المتقدمة أعني الحميم والغساقَ وآخرَ من شكله فيلغى السؤال.
قوله :﴿ هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ﴾ مفعول «مقتحم » محذوف أي مُقْتَحِمٌ النار، والاقتحام الدخول في الشيء بشدة والقُحْمةُ الشدة. وقال الراغب : الاقتحام توسط شدة مخيفة ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي توغل به ما يخاف منه، والمقاحيم الذين يقتحمون في الأمر الذي يتجنب.
قوله :﴿ مَعَكُمْ ﴾ يجوز أن يكون نعتاً ثانياً «لِفَوْجٍ » وأن يكون حالاً منه لأنه قد وصف وأن يكون حالا من الضمير المستتر في «مُقْتَحِمٌ ». قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون طرفاً لفساد المعنى، قال شهاب الدين : ولَمْ أدرِ من أي وجه يفسد والحالية والصفة في المعنى كالظرفي، وقوله :«هَذَا فَوْجٌ » إلى «النار » يجوز أن يكون من كلام الرؤساء بعضهم لبعض بدليل قول الأتباع «لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوه لَنَا » وأن يكون من كلام الخَزَنَة، ويجوز أن يكون «هَذَا فَوجٌ » من كلام الملائكة والباقي من كلام الرؤساء. وكان القياس على هذا أن يقال : بَلْ هُمْ لا مرحباً بهم لا يقولون للملائكة ذلك إلا أنهم عدلوا عن خطاب الملائكة إلى خطاب أعدائهم تشفياً منهم. والمعنى هنا جمع كثيف وقد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال، والفَوْجُ القطيعُ من النَّاسِ وجمعه أفواجٌ.
قوله :﴿ لا مرحبا ﴾ في «مرحباً » وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول بفعل مقدر أي لا أتيتم مرحباً أو لا سمعتم مرحباً.
والثاني : أنه منصوب على المصدر. قاله أبو البقاء أي لا رَحُبَتكُمْ دارُكُمْ مَرْحَباً بل ضِيقاً، ثم في الجملة المنفية وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة سِيقَتْ للدعاء عليهم، وقوله :«بِهِمْ » بيان للمدعُوِّ عليهم.
والثاني : أنها حالية، وقد يعترض عليه بأنه دعاء والدعاء طلب، والطلب لا يقع حالاً والجواب أنه على إضمار القول أي مقولاً لهم لا مرحباً. قال المفسرون قوله تعالى :﴿ لاَ مَرْحَباً بهم ﴾ دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له : مرحباً أي أتيت رَحْباً من البلاد لا ضيقاً أو رَحُبَتْ بلاَدُكَ رَحْباً، ثم تدخل عليه كلمة «لا » في دعاء النفي.
قوله :﴿ إِنَّهُمْ صَالُو النار ﴾ تعليل لاستجابة الدعاء عليهم. ونظير هذه الآية قوله :﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]
«قالوا » أي الأتباع ﴿ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ﴾ يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم :«أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا » والضمير للعذاب أو للضَّلال.
فإن قيل : ما معنى تقديمهم العذاب لهم ؟ فالجواب : الذي أوجب التقديم هو عمل السوء كقوله تعالى :﴿ ونذيقُهُ عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ [ الحج : ٩، ١٠ ] إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل : أنتم قدمتموه لنا، وقوله :«فبئس القرار » أي بئس المستقرّ والمستكنّ جهنم.
قوله :﴿ مَن قَدَّمَ ﴾ يجوز أن تكون «مَنْ » شرطية و ( فزِدُهُ » جوابها، وأن تكون استفهامية وقدّم خبرها أي أن أي شخص قدم لنا هذا ؟ ثم استأنفوا دعاءً، بقولهم :«فَزِدْهُ » وأن تكون موصولة بمعنى الذي وحينئذ يجوز فيها وجهان : الرفع بالابتداء والخبر «فَزِدْهُ » والفاء زائدة تشبيهاً له بالشرط، والثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر على الاشتغال والكلام في مثل هذه الفاء قَدْ تقدم.
وهذا الوجه يجوز عند بعضهم حال كونها شرطية أو استفهامية أعني الاشتغال إلا أنه لا يقدر الفعل إلا بعدها لأن لها صدر الكلام و «ضِعْفاً » نعت لعذاب أي مضاعفاً.
قوله :﴿ فِي النار ﴾ يجوز أن تكون ظرفاً «لِزدْهُ » أو نعتاً «لعَذَابٍ » أو حالاً منه لتخصيصه أو حالاً من مفعول «زِدْهُ ».
قوله :﴿ قَالُوا ﴾ يعني الأتباع «رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا » أي شرعَهُ وسنَّهُ لنا فزده عذاباً ضعفاً أي مضاعفاً «فِي النًَّارِ » ونظيره قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] وقولهم ﴿ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٦٧-٦٨ ].
فإن قيل : كل مِقْدَارٍ يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً وإن كان زائداً عليه كان ظلماً وإنه لا يجوز.
فالجواب : المراد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وزْرُها ووِزْرُ من عَمِلَ بِهَا إلى يَوم الْقِيَامَةِ » والمعنى أنه يكون أحد القِسمين عذاب الضَّلاَلِ، والثَّانِي عذاب الإضْلاَلِ، والله أعلم.
وهذا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله :﴿ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار ﴾ أي أن صناديد قريش قالوا، وهم في النار :﴿ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار ﴾ في الدنيا يعنون فقراء المؤمنين عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً وسلمان وسموهم أشراراً إما بمعنى الأرذال الذين لاَ خير فيهم ولا جدوى أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشْراراً.
قوله :﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً ﴾ قرأ الأخوان وأبو عمرو بوصل الهمزة، وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون خبراً محضاً، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية «لرجالاً » كما وقع «كُنَّا نَعُدُّهُمْ » صفة وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة «أَمْ » عليها كقوله :
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِر*** وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِر
«فأم » متصلة على هذا، وعلى الأول منقطعة، بمعنى «بل » والهمزة لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، والباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل، والظاهر أنه لا محل للجملة حينئذ لأنها طلبية، وجوز بعضهم أن تكون صفة لكن على إضمار القول أي رجالاً مقولاً فيهم أتخذناهم كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** جَاؤُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطّ
إلا أن الصفة في الحقيقة ذلك القول المضمر، وقد تقدم الخلاف في «سُخْرِيًّا » في «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ » والمشهور أن المكسور من الهُزْء كقوله :
إنّي أَتَانِي لِسَانٌ لاَ أُسَرُّ بَِهَا*** مِنْ عَلْوِ لاَ كَذِبٌ فِيهَا ولا سُخْرُ
وتقدم معنى لحاق الياء المشددة في ذلك، و «أم » مع الخبر منقطعة فقط كما تقدم ومع الاستفهام يجوز أن تكون متصلةً، وأن تكون منقطعةً كقولك :( أ ) زَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عِنْدَكَ عَمْرو، ويجوز أن يكون «أَمْ زَاغَتْ » متصلاً بقوله :﴿ مَا لَنَا ﴾ ؛ لأنه استفهام إلا أنه يتعين انقطاعها لعدم الهمزة ويكون ما بينهما معترضاً على قراءة «أَتَّخَذْنَاهُمْ » بالاستفهام إن لم تجعله صفةً على إضمار القول كما تقدم. قال أَهْلُ المعاني : قراءة الأخوين أولى لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخرياً لقوله تعالى :﴿ فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ [ المؤمنون : ١١٠ ] فلا يستقيم الاستفهام. وتكون «أم » على هذه القراءة بمعنى «بل » وأجاب الفراء عن هذا بأَن قال : هذا من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ. ومثلُ هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم ومن فتح الألف قال هو على اللفظ لا على المعنى ليعادِل «أمْ » في قوله «أَمْ زَاغتْ ».
فإن قيل : فما الجملة المعادلة بقوله :«أم زاغت » على القراءة الأولى ؟ فالجواب : أنها محذوفة، والتقدير : أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ. وقرأ نافعٌ سُخْريًّا - بضم السِّين- والباقون بكسرها. فقيل : هما بمعنى، وقيل : الكسر بمعنى الهُزْء، وبالضم التذليل والتسخير وأما نظم الآية على قراءة الإخبار فالتقدير : مَا لَنَا نَرَاهُمْ حَاضِرينَ لأجْلِ أنَّهُمْ لحَقَارَتِهمْ تُركوا لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار، ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم :«أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْريًّا » وأما على قراءة الاستفهام فالتقدير لأجل أنّا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار.

فصل :


معنى الآية : ومَا لَنَا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخرياً لم يدخلوا معنا النَّار أم دخلو ( ها ) فزاغت أي فمالت عنهم أبصارنا فَلَمْ نَرَهُمْ حتى دخلوا. وقيل : أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا، وقال ابن كيسان أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكان أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدُهُّمْ شيئاً.
قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ ﴾ أي الذي ذكرت لحق أي لا بدّ وأن يتكلموا به، ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم فقال :﴿ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار ﴾ العامة على رفع «تخاصم » مضافاً «لأهل » وفيه أَوْجُهٌ : أحدها : أنه بدل من «لَحَقّ ». الثاني : أنه عطفُ بيان. الثالث : أنه بدل من «ذَلِكَ » على الموضع حكاه مكي وهذا يوافق قولَ بعضِ الكوفيين. الرابع : أنه خبر ثانٍ ل «إنَّ ». الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُو تَخَاصُمُ.
السادس : أنه مرفوع بقوله :«لحَقّ » إلا أن أبا البقاء قال : ولو قيل : هو مرفوع «بحق » لكان بعيداً لأنه يصير جملة ولا ضمير فيها يعود على اسم «إنّ »، وهذا رد صحيح. وقد يجاب عنه بأن الضمير مقدر أن لحقٌّ تَخَاصُم أهل النار فِيهِ، كقوله :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور ﴾ [ الشورى : ٤٣ ] أي مِنْهُ، وقرأ ابن مُحَيْصِن بتنوين «تَخَاصُمٌ » ورفع «أَهْلُ » فرفع «تخاصم » على ما تقدم، وأما رفع «أهل » فعلى الفاعلية بالمصدر المنون كقولك :«يعجبني تَخَاصُمٌ الزيدونَ » أي «أَنْ » تَخَاصَمُوا وهذا قولُ البَصْرِيِّينَ، وبعض الكوفيين خَلاَ الفراءَ، وقرأ ابنُ أبي عبلة تَخَاصُمَ بالنصب مضافاً «لأهل » وفيه أوجه :
أحدها : أنه صفة «لذلك » على اللفظ، قال الزمخشري : لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس وهذا فيه نظر لأنهم نصوا على أن أسماء الإشارة لا توصف إلا بما فيه أل نحوه : مَرَرْتُ بهَذَا الرجل ولا يجوز : مررت بهذا غلامِ الرجلِ، فهذا أبعد، ولأن الصحيح أن الواقع بعد اسم الإشارة المقارن «لأل » إن كان مشتقاً كان صفة وإلا كان بدلاً، و «تخاصم » ليس مشتقاً. الثاني : أنه بدل من «ذَلِكَ ». الثالث : أنه عطف بيان.
الرابع : على إضمار أَعْنِي، وقال أَبُو الفَضْلِ : ولو نصب «تَخَاصُم » على أنه بدل من «ذلك » لجاز انتهى. كأنه لم يطلع عليها قراءة. وقرأ ابن السَّمَيْقَع «تَخَاصَمَ » فعلاً ماضياً «أَهْلُ » فاعل به وهي جملة استئنافية، وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء :«لا مرحباً بهم » وقول الأتباع «بل أنتم لا مرحباً بكُم » من باب الخُصُومَة.
قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ﴾ لما شرح الله نعيمَ أهلِ الثَّوَابِ وعقابَ أهلِ العقاب عاد إلى تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورين أول السورة فقال: قُلْ يا محمد إنما أَنا مُنْذِرٌ مخوف ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار فكونه واحداً يدل على عدم التشريك وكونه قهاراً مشعر بالترهيب والتخويف ولما ذكر ذلك أردفهبما يدل على الرجاء والترغيب فقال: ﴿رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا العزيز الغفار﴾ فكونه ربًّا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفاراً يشعر بأن العبد لو أقدر على المعاصي والذنوب فإنه يغفر برحمته. وهذا الموصوف هو الذي (يجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويُرْجَى ثوابه ويجوز أن يكون) «رب السموات» خبر مبتدأ مضمر، وفيه معنى المدح.
قوله ﴿هُوَ نَبَأٌ﴾ (هو) يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار، وقيل: على
450
تخاصم أهل النار وقيل: على ما تقدم من إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأنه نذير مبين وبأن الله إله واحدٌ متصف بتِلْكَ الصفات الحُسْنَى و ﴿أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ صفة «لنبأ»، أو مستأنفة، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد بالنبأ العظيم القرآن، وقيل: القيامة لقوله: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم﴾ [النبأ: ١ ٢].
قال ابن الخطيب: هذا النبأ العظيم يحتمل وجوهاً: فيمكن أن يكون المراد به القول بأن «الإله» واحد، وأن يكون المراد القول بإثبات الحشر والقيامة نبأ عظيم ويمكن أن يكون المراد (كون) القرآن معجزاً لتقدم ذكره في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ﴾ [ص: ٢٩] وهؤلاء الأقوام أعراضوا عنه قوله: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى﴾ [ص: ٦٩] يعني الملائكة فقوله: ﴿بالملإ الأعلى﴾ [ص: ٦٩] متعلق بقوله: ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ [ص: ٦٩] وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدي بالباء و (قد) تقدم تحقيقه.
451
ولما ذكر ذلك أردفه بما يدل على عدم الرجاء والترغيب فقال :﴿ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا العزيز الغفار ﴾ فكونه ربًّا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفاراً يشعر بأن العبد لو أقدر على المعاصي والذنوب فإنه يغفر برحمته. وهذا الموصوف هو الذي ( يجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويُرْجَى ثوابه ويجوز أن يكون ) «رب السموات » خبر مبتدأ مضمر، وفيه معنى المدح.
قوله ﴿ هُوَ نَبَأٌ ﴾ ( هو ) يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار، وقيل : على تخاصم أهل النار وقيل : على ما تقدم من إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنه نذير مبين وبأن الله إله واحدٌ متصف بتِلْكَ الصفات الحُسْنَى.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : المراد بالنبأ العظيم القرآن، وقيل : القيامة لقوله :﴿ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم ﴾ [ النبأ : ١ ٢ ].
قال ابن الخطيب : هذا النبأ العظيم يحتمل وجوهاً : فيمكن أن يكون المراد به القول بأن «الإله » واحد، وأن يكون المراد القول بإثبات الحشر والقيامة نبأ عظيم ويمكن أن يكون المراد ( كون ) القرآن معجزاً لتقدم ذكره في قوله :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ ﴾ [ ص : ٢٩ ]
و ﴿ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ صفة «لنبأ »، أو مستأنفة.
قوله: ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: هو منصوب بالمصدر أيضاً.
والثاني: بمضاف مقدر أي بكَلاَم الملأ الأعلى إذْ؛ قال الزمخشري والضمير
451
في «يَخْتَصِمُونَ» للملأ الأعلى هذا هو الظاهر، وقيل: لقُرَيْش أي يختصمون في الملأ الأعلى فبعضهم يقول: بنات الله، وبعضهم يقول غير ذلك فالتقدير إذْ يختصمون فيهم؛ (يعني) في شأنِ آدم، قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠].
فإن قيل: الملائكة لا يجوز أن يقال: إنهم اختصموا بسبب قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، والمخاصمة مع الله كفر.
فالجواب: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه، ولما أمر الله تعالى محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول: ﴿إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ يعني أنا ما عرفت هذها لمخاصمة إلا بالوحي.
قوله: ﴿إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ﴾ العامة على فتح همزة «أنَّما» وفيها وجهان:
أحدهما: أنها مع ما في خبرها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل أي ما يوحى إلَيَّ (إلا) الإنذار أو إلا كوني نذيراً مبيناً.
والثاني: أنها في محل نصب أو جر بعْدَ إسقاط لام العلة والقائمة مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور أيْ ما يوحى إليّ إلاّ للإنذار، أو لكوني نذيراً، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل على هذا ضميراً يدل عليه السياق أي ما يوحى إليّ ذَلِكَ الشيءُ إلا للإنذار. وقرأ أبو جعفر الكسر؛ لأن الوحي قول، قاله البغوي. وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه قيل: ما يُوحَى إلَيَّ إلا هذه
452
الجملة المتضمنة لهذا الإخْبار، وقال الزمخشري: (على) الحكاية أي إلا هذا القول وهو أنْ أولَ لكم إنَّمَا أَنَا نذيرٌ مبينٌ ولا أَدَّعِي شيئاً آخَرَ. قال أبو حيان: وفي تخريجه تعارض لأنه قال إلا هذا فظاهره الجملة التي هي «إنِما أنَا نذيرٌ مبين» ثم قال: وهو أن أقول لكم إني نذير، فالقائم مقام الفاعل هو أن أقوال لكم وإنِّي وما بعده في موضع نصب. وعلى قوله: «إلاّ هذا القول» يكون في موضع رفع فتَعَارَضَا.
قال شهاب الدين: ولا تعارض البتة لأنه تفسير معنى في التقدير الثاني وفي الأول تفسير إعراب فلا تعارض.
قوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «إذْ» الأولى وأن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً قال الأول الزمخشري وأطلق، (و) أبو البقاء الثاني وأطلق وفصل أبو حيان فقال بدل من «إِذْ يضخْتَصِمُونَ» هذا إذا كانت الخصومة في شأن مَنْ يستخلف في الرض وعلى غيره من الأقوال يكون منصوباً «باذْكُرْ» انتهى قال شهاب الدين: وتِلْكَ الأقوال أن التَّخَاصُمَ إما بين الملأ الأعلى أو بين قريش وفي ما (إ) ذا كان المخاصمة خلاف.
قوله: ﴿مِّن طِينٍ﴾ يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة «لِبَشَراً» وأن يتعلق بنفس «خَالِق».

فصل


اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحَسَد والكِبْر؛ لأن إبليس وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر والكفار إنما نازعُوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بسبب الحَسَد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعُها زادراً لهم عن هاتين الخَصْلَتَيْن
453
المذمومتين، والمراد بالبشر ههنا: آدم عليه (الصلاة و) السلام -.
قوله: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أتمت خلقه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ فأضاف الروح إلى نفسه وذلك يدل على أنه جوهر شريف علويّ قدسيّن والفاء في قوله: ﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ يدل على أنه كما تم (نفخ) الروح في الجَسَد توجه أمر الله عليهم بالسجود. وقد تقدم الكلام في الملائكة المأمورين بالسجود (و) هل هم ملائكة الأرض أو يدخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل والروح الأعظم المذكور في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً﴾ [النبأ: ٣٨] وقال بعض الصوفية: الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم القوى النَّباتيّة والحيوانية والحسيّة والحركيّة فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة، وإبليس الذي لم يسجد هو القوى الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل.
قوله: ﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ تأكيدان. وقال الزمخشري «كل» للإحَاطَةِ و «أجْمَعُونَ» للاجْتماع، فأفادا معاً أنهم سدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إى سجد وأنهم سدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرّقين.
وقد تقدم الكلام معه في ذلك في سورة الحِجرِ.
قوله: ﴿أَن تَسْجُدَ﴾ قد يستدل به من رى أن «لا» في «أنْ لا تَسْجُدَ» في السورة الأخرى زائدة، حيث سقطت هنا والقصة واحدة. وقوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ﴾ قد يستدل به من يرى جواز وقوع «ما» على العاقل؛ لأن المراد به آدم، وقيل: لا دليل فيه لأنه كان فَخَّاراً غير جسم حسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحالة. وهذا ليس بشيء؛ لأن هذا الخطاب إنما كان بعد نَفْخ الرُّوح فيه لقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن
454
رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: ٢٩] فلما امتنع من السجود قال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وقيل: ما مصدرية غير مارد فيكون واقعاً موقع المفعول به أي لمخْلُوقي. وقرأ الجّحْدريّ «لَمَّا» بتشديد الميم وفتح اللام وهي «لَمَّا» الظرفية عند الفارسيِّ، وحرف وجوب لوجوب عند سيبَويْهِ، والمسجود له على هذا غير مذكور؛ أي ما منعك من السجود لَمَّا خلقتُ أي حين خلقتُ لمن مرتك بالسجود له.
قرئ: «بِيدَيِّ» بكسر الياء كقراءة حمزة: ﴿بِمُصْرِخِكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢] وتقدم ما فيها وقرى: بِيَدِي بالإفراد.
قوله: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾ قرأ العامة بهمزة الاستفهام، وهو استفهام توبيخ وإنكار، و «أم» متصلة هنا، وهذا قول جمهور النَّحْويِّينَ ونقله ابنُ عطيةَ عن بعض النحويين أنا لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد كقولك: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو، وأزيدٌ قَامَ أمْ عمرٌو، وإذا اختلفت الفعلان كهذه الآية فليست معادلةً وهذا الذي حكاه عن بعض النحاة مذهب فاسد بل جمهور النحاة على خلافه. قال سيبويه: وتقول: أَضَرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَهُ، فالبداءَةُ هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحَدِهما لا تدري أيُّهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت: أيّ ذلك كان انتهى، فعادل بها الألف مع اختلاف الفعلين، وقرأ جماعة منهم ابنُ كَثيرٍ - وليست مشهورةً عنه - اسْتكْبَرْتَ بألف الوصل؛ فاحتملت وجهين:
455
أحدهما: أن يكون الاستفهام مراداً يدل عليه «أم» كقوله:
٤٢٨٢ -.................... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمانِ
وقوله:
٤٢٨٣ - تَرَوَّحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ....................
فتتفق القراءتان في المعنى، واحتمل أن يكون خبراً محضاً، وعلى هذا «فأم» منقطعة لعدم شرطها.

فصل


المعنى استكبرت الآن أم كنت من المتكبرين أبداً أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله: ﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ فبين كونه خيراً منه بأن أصله من النار، وأصل آدم من الطين، والنار أشرق من الطين، والدليل على أن النَّارَ أفضلُ من الطين أن الأجرام الفَلَكِيَّة أفضلُ من الأجرام العُنْصُريَّة، والنار أقرب العاصر من الفَلَك والأرض أبعدها عنه، فوجب كونُ النار أفضلَ من الأرض وأيضاً فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما، والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض وأيضاً فالكيفية الفاعلة الأصلية غما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحَرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت، وأيضاً فالنار لطيفة، والأرض كثيفة، واللطافة أشرف من الكثافة وأيضاً فالنار مشرقة والأرض مظلمة، والنور خير من الظلمة، وأيضاً فالنار خفيفة تشبه الروح، والأرض كثيفة تشبه الجسد، والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض، وذهب آخرون إلى تفضيل الأرض على النار، وقالوا: إن الأرض
456
أمينٌ مُصلح فإذا أوْدَعْتَهُ حبَّةً ردَّها إليك شجرةً مثمرةً، والنار خائنٌ مفسد كُلَّ ما سلمته إليه وأيضاً فالنار بمنزلة الخادم لِمَا في الأرض إن احتيج إليها استُدْعِيَتْ استدعَاء الخادم وإن استغني عنها طردت وأيضاً والأرض مستولية على النار فإنها تطفئ النار وأيضا فإن استدلال إبليس بكون أصله خيراً من أصله فهو استدلال فاسدلأن أصل الرماد وأصل البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين، ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد وأيضاً (هب) أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفَضيلة إلا ان هذا يمكن أن يعارَض بجهةٍ أخرى فوجب الرُّجْحَانُ مثل إنسان نَسِيب عارٍ عن كل الفضائل فإنّ نَسَبَهُ يوجب رُجْحَانَهُ إلا أن من لا يكون نسيباً قد يكونُ كثيرَ العلم والزهد فيكون أفضل من النّسيب بدرجات لا حدّ لها فكذبت مقدمة إبليس.
فإن قيل: هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكنه كيف لزمخ الكفر في تلك المخالفة؟ وتقرير هذا السؤال من وجوه:
الأول: أن قوله: «اسْجُدُوا» أمرٌ والأمر لا يقتضي الوجوب بل النَّدْبَ، ومخالفة الندب لا تقضي العصْيَانَ فضلاً عن الكفر، (وأيضاً فالذين يقولون: إن الأمر للوجوب فهم لا ينكورن كونه محتملاً للندب احتمالاً ظاهراً ومع قيام الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر؟ ﴿).
الثاني: هب أنها للوجوب إلاّ أنَّ إبليس ما كان من الملائكة فالأمر (بالسدود) لآدم لا يدخل فيه إبليس.
الثالث: هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس.
الرابع: هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العِصْيَانَ ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر؟﴾
.
فالجواب: هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القراءن ما يدل على الوجوب وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين﴾، فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد ودل ذلك على أنه إنما ذكر القياس
457
ليتوسل به إلى القَدْح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر. وإذا عرفتَ هذا فنقول: إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى: ﴿فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ وقد ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وههنا الحكم بكونه رجمياً ورد عيبَ ما حكمى عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم.
قوله: «مِنْهَا» أي من الجنة أو من الخِلْقَة لأنه كان حَسَناً فرَجَعَ قبيحاً؛ وكان نُورَانِيًّا فعاد مُظْلِماً. وقيل: من السَّمَوَاتِ وقال هنا لَعْنَتِي وفي غيرها اللَّعنة، وهما وإن كانا في اللفظ عامًّا وخاصًّا إلا أنهما من حيث المعنى عامًّان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل أحدٍ لا مَحَالَةَ، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: ١٦١] وباقي الجملة تقدم نظيرُها؟
قوله: «الرَّجِيم» المرجوم والرَّجم ههنا عبارة عن الطَّرْد؛ لأن الظاهر أن من طُرِدَ فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد.
فإن قيل: الطرد هو اللَّعن، فلو جملنا قوله: «رَجيمٌ» (على الطرد) لكان قوله بعد ذلك: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا﴾ تَكْرَاراً.
فالجواب: من وجهين:
الأول: أنّا نحمل الرجم على الطرد من الجنة من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله.
الثاني: أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين﴾ على أنه الطرد إلى يوم القيامة فيكون على هذا فيه فائدة زائدة ولا يكون تكراراً، وقيل: المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب.
فإن قيل: كلمة «إلى» لانتهاء الغاية فقوله: ﴿إلى يَوْمِ الدين﴾ يقتضي
458
انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين وأجاب الزمخشري بأن اللغنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة حصل مع اللعنة أنواع من العذاب فتصير اللعنة مع حصرها منفية واعمل أنَّ إبليس لما صار مغلوباً قال: «فَانْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»، قيل: إنما طلب الإنظار إلى يوم القيامة لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أُنظر إلى يوم البعث لم يَمُت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ أي إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه فقال إبليس: «فَبِعِزَّتِكَ» وهو قسم بعزة الله وسلطانه لأُغْوِيَنَّهُم أَجْمَعِينَط فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه على مذهب القَدَرِيَّة، وقال مرة أخرى: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهبُ الجَبْرية. ثم قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ قيل: إن غرض إبلس من هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء او أدعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله المخلصين وعند هذا يقال: إن الكذب شيء يستنكفُ منه إبليس فكيف يليق بالمسلم (الإقدام عليه) ؟ وهذا يدل على أن إبليس لا يُغْوي عباد الله المخلصين، وقد قال الله تعالى في صفة يُوسُفَ عليه (الصلاة و) السلام -: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤] فتحصل من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسفَ عليه السلام فدل على كذب المَانَوِيَّة فيما نسبوه إلى يوسف - عليه (الصلا و) السلام - من القبائح.
قوله: ﴿فالحق والحق﴾ قرأهما العامة منصوبيين، وفي نصب الأول أوجه:
أحدها: أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كقوله:
٤٢٨٤ - فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ... وقوله: لأَمْلأَن (جَهَنَّمَ) جواب القسم، قال أبو البقاء: إِلاَّ أَنَّ سِيبَوَيْهِ يدفعه
459
لأنه لا يجوز حذف حرف القسم إِلاَّ مع اسم الله ويلكون قوله: ﴿والحق أَقُولُ﴾ معترضاً بين القسم وجوابه قال الزمخشري: كأنه قيل: ولا أقولُ إلاَّ الحَقَّ يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر.
والمراد بالحق إما الباري تعالى كقوله: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ [النور: ٢٥] وإمّا نقيض الباطل.
والثاني: أنه منصوب على الإغراء أي الزّمُوا الحَقَّ.
والثالث: أنه مصدر مؤكد لمضْمُونِ قَوْلِهِ: «لأَمْلأَنَّ» قال الفَّرَاء: هو على معنى قولك: حَقًّا لآتَينَّكَ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء (أي لأملأن جهنم حقاً) انتهى. وهذا لا يتمشّى مع قول البصريين، فإن شرط نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة أن يكون بعد جملة ابتدائية جزءاها معرفتان جَامِدان وجوز ابن العِلْجِ أن يكون الخبر نكرة، وأيضاً فإن المصدر المؤكد لا يجوز تقديمه على الجملة المؤكدة هو لمضمونها؛ وهذا قد تقدم.
وأما الثاني فمنصوب «بأَقُولُ» بعده، والجملة معترضة كما تقدم، وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً على التكرير بمعنى (أنَّ) الأولَ والثانيَ كليهما منصوبان بأقُولُ وسيأتي إيضاح ذلِك في عبارته وقرأ عاصمٌ وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول من أوجه:
460
أحدهما: أنه مبتدأ وخبره مضمر تقديره فالحق مِنِّي أو فالحَقُّ أَنَا.
والثاني: أنه مبتدأ خيره «لأَمْلأَنَّ»، قاله ابن عطية، قال: لأن المعنى إني أمْلأُ. قال أبو حيان: وهذا ليس بشيء؛ لأن «لأَمْلأَنَّ» جوابُ قسم ويجب أن يكون جملة فلا تَتَقَدَّرُ بمفرد، وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدريّ والفعل حتى ينحل إليهما وَلِكنَّهُ لما صحَّ إِسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنَّه خبرٌ عنه.
قال شهاب الدين: وتأويل ابن عطية صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيثُ الصناعةُ.
الثالث: أنه مبتدأ خبره مضمر تقديره فالحَقُّ قَسَمِي و «لأَمْلأَنَّ» جواب القسم، كقوله: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢] ولكن حذف الخبر هنا ليس بواجب لأنه ليس نصاً في اليمين، بخلاف «لعمرك» ومثله قول امرئ القيس:
٤٢٨٥ - فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
وأما نصب الثاني فبالفعل بعده، أي وأنا أقولُ الحقَّ وقرأ ابنُ عَبَّاس ومجاهدٌ والأعمشُ برفعهما، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء وخبره الجملة بعده، والعائدُ محذوفٌ كقوله تعالى في قراءة ابن عارم: «وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى» وقوله أبي النَّحْمِ:
٤٢٨٦ - قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
ويجوز أن يرتفع على التكرير عند الزمخشري وسيأتي، وقرأ الحسن وعيسى بجرِّهما وتخريجهما على أن الأول مجرور بواو القسم مقدرة فَوَالحَقِّ و «الحَقّ»
461
عطف عليه كقولك: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لأَقُومَنّ «، و» أَقُولُ «اعتراضٌ بين القسم وجوابه ويجوز أن يكون مجرواً على الحكاية وهو منصوب المحلّ» بأقولُ «قال الزمخشريّ: ومجرورين - أي وَقُرِئَا مَجْرُورَيْنِ - على أن الأول مقسم به قد أضمِر حرف قسمه كقولك:» (و) اللَّهِ لأَفْعَلَنّ والحَقِّ أقولُ «أي ولا أقولُ إلاّ الحقَّ على حكاية لفظ المقسم به ومعناه التوكيد والتشديد، وهذا الوجه جائز في المرفوع والمنصوب أيضاً وهو جهٌ دقيقٌ حسنٌ انتهى.
يعني أنه أعمل القول في قوله: «وَالحَقّ»
على سبيل الحكاية فيكون منصوباً بأقول سواء نُصب أو رُفِعَ أو جر كأنه قيل: وأقول هذا اللفظ المتقدم مقيداً بما لفظ به أولاً.

فصل


معنى لأملأن جهنم منك أي من جنْسِكَ وهم الشياطين وممَّن تبعك منهم من ذرية آدم.
قوله: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه توكيد للضمير في «منك» ولمن عطف عليه في قوله «ومَّنْ تَبِعَكَ» والمعنى لأملأن جهنم من (المَتْبُوعينَ والتابعين لا أترك منهم أحداً، وجيء بأجمعين دون كلن وقد تقدم أن الأكثر خلافُهُ وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في «مِنْهُمْ» خاصة، فقدر: لأملأن جهنَّم من) الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناسٍ وناسٍ.
462
لما أمر الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول :﴿ إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي.
قوله :﴿ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ ﴾ العامة على فتح همزة «أنَّما » وفيها وجهان :
أحدهما : أنها مع ما في خبرها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل أي ما يوحى إلَيَّ إلا الإنذار أو إلا كوني نذيراً مبيناً.
والثاني : أنها في محل نصب أو جر بعْدَ إسقاط لام العلة والقائم مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور أيْ ما يوحى إليّ إلاّ للإنذار، أو لكوني نذيراً، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل على هذا ضميراً يدل عليه السياق أي ما يوحى إليّ ذَلِكَ الشيءُ إلا للإنذار. وقرأ أبو جعفر بالكسر ؛ لأن الوحي قول، قاله البغوي. وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه قيل : ما يُوحَى إلَيَّ إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخْبار، وقال الزمخشري : على الحكاية أي إلا هذا القول وهو أنْ أقولَ لكم إنَّمَا أَنَا نذيرٌ مبينٌ ولا أَدَّعِي شيئاً آخَرَ. قال أبو حيان : وفي تخريجه تعارض لأنه قال إلا هذا فظاهره الجملة التي هي «إنِما أنَا نذيرٌ مبين » ثم قال : وهو أن أقول لكم إني نذير، فالقائم مقام الفاعل هو أن أقول لكم وإنِّي وما بعده في موضع نصب. وعلى قوله :«إلاّ هذا القول » يكون في موضع رفع فتَعَارَضَا.
قال شهاب الدين : ولا تعارض البتة لأنه تفسير معنى في التقدير الثاني وفي الأول تفسير إعراب فلا تعارض.
قوله :﴿ إِذْ قَالَ ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «إذْ » الأولى وأن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً. قال الأول الزمخشري وأطلق، و أبو البقاء الثاني وأطلق. وفصل أبو حيان فقال بدل من «إِذْ يخْتَصِمُونَ » هذا إذا كانت الخصومة في شأن مَنْ يستخلف في الأرض وعلى غيره من الأقوال يكون منصوباً «باذْكُرْ » انتهى. قال شهاب الدين : وتِلْكَ الأقوال أن التَّخَاصُمَ إما بين الملأ الأعلى أو بين قريش وفي ما إذا كان المخاصمة خلاف.
قوله :﴿ مِّن طِينٍ ﴾ يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة «لِبَشَراً » وأن يتعلق بنفس «خَالِق ».

فصل :


اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحَسَد والكِبْر ؛ لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر والكفار إنما نازعُوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بسبب الحَسَد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعُها زاجراً لهم عن هاتين الخَصْلَتَيْن المذمومتين، والمراد بالبشر ههنا : آدم عليه ( الصلاة و ) السلام-.
قوله :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ﴾ أتممت خلقه ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ فأضاف الروح إلى نفسه وذلك يدل على أنه جوهر شريف علويّ قدسي، والفاء في قوله :﴿ فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ يدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجَسَد توجه أمر الله عليهم بالسجود. وقد تقدم الكلام في الملائكة المأمورين بالسجود وهل هم ملائكة الأرض أو يدخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل والروح الأعظم المذكور في قوله :﴿ يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً ﴾ [ النبأ : ٣٨ ]. وقال بعض الصوفية : الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم القوى النَّباتيّة والحيوانية والحسيّة والحركيّة فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة، وإبليس الذي لم يسجد هو القوى الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل.
قوله :﴿ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ تأكيدان. وقال الزمخشري «كل » للإحَاطَةِ و «أجْمَعُونَ » للاجْتماع، فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرّقين. وقد تقدم الكلام معه في ذلك في سورة الحِجرِ.
قوله :﴿ أَن تَسْجُدَ ﴾ قد يستدل به من يرى أن «لا » في «أنْ لا تَسْجُدَ » في السورة الأخرى زائدة، حيث سقطت هنا والقصة واحدة. وقوله :﴿ لِمَا خَلَقْتُ ﴾ قد يستدل به من يرى جواز وقوع «ما » على العاقل ؛ لأن المراد به آدم، وقيل : لا دليل فيه لأنه كان فَخَّاراً غير جسم حسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحالة. وهذا ليس بشيء ؛ لأن هذا الخطاب إنما كان بعد نَفْخ الرُّوح فيه لقوله :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ الحجر : ٢٩ ].
فلما امتنع من السجود قال :﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾. وقيل : ما مصدرية والمصدر غير مراد فيكون واقعاً موقع المفعول به أي لمخْلُوقي. وقرأ الجّحْدريّ «لَمَّا » بتشديد الميم وفتح اللام وهي «لَمَّا » الظرفية عند الفارسيِّ، وحرف وجوب لوجوب عند سيبَويْهِ. والمسجود له على هذا غير مذكور ؛ أي ما منعك من السجود لَمَّا خلقتُ أي حين خلقتُ لمن أمرتك بالسجود له.
قرئ :«بِيدَيِّ » بكسر الياء كقراءة حمزة :﴿ بِمُصْرِخِي ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ]، وتقدم ما فيها وقرى : بِيَدِي بالإفراد.
قوله :﴿ أَسْتَكْبَرْتَ ﴾ قرأ العامة بهمزة الاستفهام، وهو استفهام توبيخ وإنكار، و «أم » متصلة هنا، وهذا قول جمهور النَّحْويِّينَ ونقله ابنُ عطيةَ عن بعض النحويين أنها لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد كقولك : أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو، وأزيدٌ قَامَ أمْ عمرٌو، وإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست معادلةً. وهذا الذي حكاه عن بعض النحاة مذهب فاسد بل جمهور النحاة على خلافه. قال سيبويه : وتقول : أَضَرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَهُ، فالبداءَةُ هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحَدِهما لا تدري أيُّهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت : أيّ ذلك كان. انتهى، فعادل بها الألف مع اختلاف الفعلين، وقرأ جماعة منهم ابنُ كَثيرٍ- وليست مشهورةً عنه - اسْتكْبَرْتَ بألف الوصل ؛ فاحتملت وجهين :
أحدهما : أن يكون الاستفهام مراداً يدل عليه «أم » كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ***بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمانِ
وقوله :
تَرَوَّحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ***. . . . . . . . . . . . . . .
فتتفق القراءتان في المعنى، واحتمل أن يكون خبراً محضاً، وعلى هذا «فأم » منقطعة لعدم شرطها.

فصل :


المعنى استكبرت الآن أم كنت من المتكبرين أبداً أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم
فأجاب إبليس بقوله :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ فبين كونه خيراً منه بأن أصله من النار، وأصل آدم من الطين، والنار أشرف من الطين، والدليل على أن النَّارَ أفضلُ من الطين أن الأجرام الفَلَكِيَّة أفضلُ من الأجرام العُنْصُريَّة، والنار أقرب العناصر من الفَلَك والأرض أبعدها عنه، فوجب كونُ النار أفضلَ من الأرض وأيضاً فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما، والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض وأيضاً فالكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحَرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت، وأيضاً فالنار لطيفة، والأرض كثيفة، واللطافة أشرف من الكثافة وأيضاً فالنار مشرقة والأرض مظلمة، والنور خير من الظلمة، وأيضاً فالنار خفيفة تشبه الروح، والأرض كثيفة تشبه الجسد، والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض، وذهب آخرون إلى تفضيل الأرض على النار، وقالوا : إن الأرض أمينٌ مُصلح فإذا أوْدَعْتَهُ حبَّةً ردَّها إليك شجرةً مثمرةً، والنار خائنٌ مفسد كُلَّ ما سلمته إليه وأيضاً فالنار بمنزلة الخادم لِمَا في الأرض إن احتيج إليها استُدْعِيَتْ استدعَاء الخادم وإن استغني عنها طردت وأيضاً والأرض مستولية على النار فإنها تطفئ النار وأيضا فإن استدلال إبليس بكون أصله خيراً من أصله فهو استدلال فاسد لأن أصل الرماد وأصل البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين، ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد وأيضاً هب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفَضيلة إلا أن هذا يمكن أن يعارَض بجهةٍ أخرى فوجب الرُّجْحَانُ مثل إنسان نَسِيب عارٍ عن كل الفضائل فإنّ نَسَبَهُ يوجب رُجْحَانَهُ إلا أن من لا يكون نسيباً قد يكونُ كثيرَ العلم والزهد فيكون أفضل من النّسيب بدرجات لا حدّ لها فكذبت مقدمة إبليس.
فإن قيل : هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكنه كيف لزمه الكفر في تلك المخالفة ؟ وتقرير هذا السؤال من وجوه :
الأول : أن قوله :«اسْجُدُوا » أمرٌ والأمر لا يقتضي الوجوب بل النَّدْبَ، ومخالفة الندب لا تقتضي العصْيَانَ فضلاً عن الكفر، ( وأيضاً فالذين يقولون : إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملاً للندب احتمالاً ظاهراً ومع قيام الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر ؟ ! ).
الثاني : هب أنها للوجوب إلاّ أنَّ إبليس ما كان من الملائكة فالأمر بالسجود لآدم لا يدخل فيه إبليس.
الثالث : هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس.
الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العِصْيَانَ ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر ؟ !.
فالجواب : هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى :﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين ﴾، فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد ودل ذلك على أنه إنما ذكر القياس ليتوسل به إلى القَدْح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر. وإذا عرفتَ هذا فنقول : إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد
قال تعالى :﴿ اخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ وقد ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وههنا الحكم بكونه رجمياً ورد عقيبَ ما حكى عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم.
قوله :«مِنْهَا » أي من الجنة أو من الخِلْقَة لأنه كان حَسَناً فرَجَعَ قبيحاً ؛ وكان نُورَانِيًّا فعاد مُظْلِماً. وقيل : من السَّمَوَاتِ. وقال هنا لَعْنَتِي وفي غيرها اللَّعنة، وهما وإن كانا في اللفظ عامًّا وخاصًّا إلا أنهما من حيث المعنى عامًّان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل أحدٍ لا مَحَالَةَ، وقال تعالى :﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ البقرة : ١٦١ ] وباقي الجملة تقدم نظيرُها ؟
قوله :«الرَّجِيم » المرجوم والرَّجم ههنا عبارة عن الطَّرْد ؛ لأن الظاهر أن من طُرِدَ فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم، فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد.
فإن قيل : الطرد هو اللَّعن، فلو حملنا قوله :«رَجيمٌ » على الطرد لكان قوله بعد ذلك :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي ﴾ تَكْرَاراً. فالجواب : من وجهين :
الأول : أنّا نحمل الرجم على الطرد من الجنة ومن السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله.
الثاني : أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله :﴿ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين ﴾ على أنه الطرد إلى يوم القيامة فيكون على هذا فيه فائدة زائدة ولا يكون تكراراً، وقيل : المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٧:قال تعالى :﴿ اخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ وقد ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وههنا الحكم بكونه رجمياً ورد عقيبَ ما حكى عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم.
قوله :«مِنْهَا » أي من الجنة أو من الخِلْقَة لأنه كان حَسَناً فرَجَعَ قبيحاً ؛ وكان نُورَانِيًّا فعاد مُظْلِماً. وقيل : من السَّمَوَاتِ. وقال هنا لَعْنَتِي وفي غيرها اللَّعنة، وهما وإن كانا في اللفظ عامًّا وخاصًّا إلا أنهما من حيث المعنى عامًّان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل أحدٍ لا مَحَالَةَ، وقال تعالى :﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ البقرة : ١٦١ ] وباقي الجملة تقدم نظيرُها ؟
قوله :«الرَّجِيم » المرجوم والرَّجم ههنا عبارة عن الطَّرْد ؛ لأن الظاهر أن من طُرِدَ فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم، فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد.
فإن قيل : الطرد هو اللَّعن، فلو حملنا قوله :«رَجيمٌ » على الطرد لكان قوله بعد ذلك :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي ﴾ تَكْرَاراً. فالجواب : من وجهين :
الأول : أنّا نحمل الرجم على الطرد من الجنة ومن السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله.
الثاني : أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله :﴿ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين ﴾ على أنه الطرد إلى يوم القيامة فيكون على هذا فيه فائدة زائدة ولا يكون تكراراً، وقيل : المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب.

فإن قيل : كلمة «إلى » لانتهاء الغاية فقوله :﴿ إلى يَوْمِ الدين ﴾ يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين وأجاب الزمخشري بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة حصل مع اللعنة أنواع من العذاب فتصير اللعنة مع حصرها منفية واعلم أنَّ إبليس لما صار مغلوباً قال :«فَانْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »، قيل : إنما طلب الإنظار إلى يوم القيامة لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أُنظر إلى يوم البعث لم يَمُت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت.
فقال تعالى :﴿ إِنَّكَ مِنَ المنظرين ﴾ أي إنك من المنظرين.
إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه.
فقال إبليس :«فَبِعِزَّتِكَ » وهو قسم بعزة الله وسلطانه لأُغْوِيَنَّهُم أَجْمَعِينَ " فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه على مذهب القَدَرِيَّة، وقال مرة أخرى : رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهبُ الجَبْرية.
ثم قال :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾ قيل : إن غرض إبليس من هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء أو أدعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله المخلصين وعند هذا يقال : إن الكذب شيء يستنكفُ منه إبليس فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه ؟ وهذا يدل على أن إبليس لا يُغْوي عباد الله المخلصين، وقد قال الله تعالى في صفة يُوسُفَ عليه ( الصلاة و ) السلام- :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] فتحصل من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسفَ عليه السلام فدل على كذب المَانَوِيَّة فيما نسبوه إلى يوسف - عليه ( الصلا و ) السلام- من القبائح.
قوله :﴿ فالحق والحق ﴾ قرأهما العامة منصوبين، وفي نصب الأول أوجه :
أحدها : أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كقوله :
فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ***. . . . . . . . . . . . . . .
وقوله : لأَمْلأَن جَهَنَّمَ جواب القسم، قال أبو البقاء : إِلاَّ أَنَّ سِيبَوَيْهِ يدفعه لأنه لا يجوز حذف حرف القسم إِلاَّ مع اسم الله ويكون قوله :﴿ والحق أَقُولُ ﴾ معترضاً بين القسم وجوابه قال الزمخشري : كأنه قيل : ولا أقولُ إلاَّ الحَقَّ يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر.
والمراد بالحق إما الباري تعالى كقوله :﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين ﴾ [ النور : ٢٥ ] وإمّا نقيض الباطل.
والثاني : أنه منصوب على الإغراء أي الزّمُوا الحَقَّ.
والثالث : أنه مصدر مؤكد لمضْمُونِ قَوْلِهِ :«لأَمْلأَنَّ » قال الفَّرَاء : هو على معنى قولك : حَقًّا لآتَينَّكَ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء : أي لأملأن جهنم حقاً. انتهى. وهذا لا يتمشّى مع قول البصريين، فإن شرط نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة أن يكون بعد جملة ابتدائية جزءاها معرفتان جَامِدان. وجوز ابن العِلْجِ أن يكون الخبر نكرة، وأيضاً فإن المصدر المؤكد لا يجوز تقديمه على الجملة المؤكد هو لمضمونها ؛ وهذا قد تقدم.
وأما الثاني فمنصوب «بأَقُولُ » بعده، والجملة معترضة كما تقدم، وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً على التكرير بمعنى أنَّ الأولَ والثانيَ كليهما منصوبان بأقُولُ وسيأتي إيضاح ذلِك في عبارته وقرأ عاصمٌ وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول من أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ وخبره مضمر تقديره فالحق مِنِّي أو فالحَقُّ أَنَا.
والثاني : أنه مبتدأ خبره «لأَمْلأَنَّ »، قاله ابن عطية، قال : لأن المعنى إني أمْلأُ. قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء ؛ لأن «لأَمْلأَنَّ » جوابُ قسم ويجب أن يكون جملة فلا تَتَقَدَّرُ بمفرد، وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدريّ والفعل حتى ينحل إليهما وَلِكنَّهُ لما صحَّ إِسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنَّه خبرٌ عنه.
قال شهاب الدين : وتأويل ابن عطية صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيثُ الصناعةُ.
الثالث : أنه مبتدأ خبره مضمر تقديره فالحَقُّ قَسَمِي و «لأَمْلأَنَّ » جواب القسم، كقوله :﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الحجر : ٧٢ ] ولكن حذف الخبر هنا ليس بواجب لأنه ليس نصا في اليمين، بخلاف «لعمرك » ومثله قول امرئ القيس :
فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً***وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
وأما نصب الثاني فبالفعل بعده، أي وأنا أقولُ الحقَّ وقرأ ابنُ عَبَّاس ومجاهدٌ والأعمشُ برفعهما، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء وخبره الجملة بعده، والعائدُ محذوفٌ كقوله تعالى في قراءة ابن عارم :«وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى » وقول أبي النَّحْمِ :
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي***عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
ويجوز أن يرتفع على التكرير عند الزمخشري وسيأتي، وقرأ الحسن وعيسى بجرِّهما وتخريجهما على أن الأول مجرور بواو القسم مقدرة فَوَالحَقِّ و «الحَقّ » عطف عليه كقولك : وَاللَّهِ وَاللَّهِ لأَقُومَنّ «، و «أَقُولُ » اعتراضٌ بين القسم وجوابه ويجوز أن يكون مجروراً على الحكاية وهو منصوب المحلّ «بأقولُ » بعده، قال الزمخشريّ : ومجرورين- أي وَقُرِئَا مَجْرُورَيْنِ- على أن الأول مقسم به قد أضمِر حرف قسمه كقولك :«واللَّهِ لأَفْعَلَنّ والحَقِّ أقولُ » أي ولا أقولُ إلاّ الحقَّ على حكاية لفظ المقسم به ومعناه التوكيد والتشديد، وهذا الوجه جائز في المرفوع والمنصوب أيضاً وهو وجهٌ دقيقٌ حسنٌ. انتهى. يعني أنه أعمل القول في قوله :«وَالحَقّ » على سبيل الحكاية فيكون منصوباً بأقول سواء نُصب أو رُفِعَ أو جر كأنه قيل : وأقول هذا اللفظ المتقدم مقيداً بما لفظ به أولاً.
معنى لأملأن جهنم منك أي من جنْسِكَ وهم الشياطين وممَّن تبعك منهم من ذرية آدم.
قوله :﴿ أَجْمَعِينَ ﴾ فيه وجهان : أظهرهما : أنه توكيد للضمير في «منك » ولمن عطف عليه في قوله «وممَّنْ تَبِعَكَ » والمعنى لأملأن جهنم من المَتْبُوعينَ والتابعين لا أترك منهم أحداً، وجيء بأجمعين دون كل، وقد تقدم أن الأكثر خلافُهُ وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في «مِنْهُمْ » خاصة، فقدر : لأملأن جهنَّم من ) الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناسٍ وناسٍ.
قوله: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على تبليغ الرسالة «من أجر» جعل فقوله: «عليه» متعلق «بأَسْأَلَكُمْ» لاَ «بالأَجر» لأنه مصدر، ويجوز أن يكون حالاً منه والضمير إما للقرآن وإما للوَحْي وإما للدعاء إلى الله.
462
قوله: ﴿وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾ المتقولين القرآن من تلقاء نفسي، وكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه فقد تكلف له وقيل: معناه أن هذا الدين الذين أدعوكم إليه ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التَّكْلِيفَات الكثيرة بل هو دين يشهد صريح القعل بصحته.
قوله: ﴿إِنْ هُوَ﴾ ما هو يعني القرآن «إِلاَّ ذِكْرٌ» موعظة «للعالمين» أي للخلق أجمعين «لَتَعْلَمُنَّ» جواب قسم مقدر ومعناه لَتَعْرْفُنَّ «نَبَأهُ» أنتم يا كفار (مكة) خبر صدقه «بَعْدَ حِينٍ» قال ابن عباس وقتادة: بعد الموت، وقال عكرمة: يعني يوم القيامة، وقال الكلبي: من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا من مات عَلِمَهُ بعد الموت. قال الحسن: ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
روى الثعلبي في تفسيره أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ» ص «أُعْطيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلّ جَبَل سَخَّره اللَّهُ لِدَاوُدَ - عليه السلام - عشرَ حَسَناتٍ وعُصِمَ أن يصرًَّ على ذنب صغير أو كبير» وقال أبو أُمامة عصمة الله من كل ذنب صغير أو كبيرٍ، وأعلم (وهو الرحيم الغفور، وإليه ترجع الأمور).
463
سورة الزمر
464
قوله :﴿ إِنْ هُوَ ﴾ ما هو يعني القرآن «إِلاَّ ذِكْرٌ » موعظة «للعالمين » أي للخلق أجمعين.
«لَتَعْلَمُنَّ » جواب قسم مقدر ومعناه لَتَعْرْفُنَّ «نَبَأهُ » أنتم يا كفارمكة خبر صدقه «بَعْدَ حِينٍ » قال ابن عباس وقتادة : بعد الموت، وقال عكرمة : يعني يوم القيامة، وقال الكلبي : من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا من مات عَلِمَهُ بعد الموت. قال الحسن : ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
Icon