تفسير سورة ص

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة ص من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية وهي ست أو ثمان وثمانون آية، وسبعمائة واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ المنزه عن كل شائبة نقص ﴿ الرحمان ﴾ الذي عم جوده سائر مخلوقاته ﴿ الرحيم ﴾ بمن خلقه.

واختلف في تفسير قوله تعالى :﴿ ص ﴾ فقيل : قسم وقيل : هو اسم للسورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي في أوائل السور وقال محمد بن كعب القرظي : مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد، وقال الضحاك : معناه صدق الله، وروي عن ابن عباس : صدق محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضته. ﴿ والقرآن ﴾ أي : الجامع مع البيان لكل خير ﴿ ذي الذكر ﴾ أي : الموعظة والتذكير وقال ابن عباس : ذي البيان، وقال الضحاك : ذي الشرف ودليله قوله تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ ( الزخرف : ٤٤ )، فإن قيل : هذا قسم فأين المقسم عليه ؟ أجيب : بأنه محذوف تقديره : ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة.
وقوله تعالى :﴿ بل الذين كفروا ﴾ أي : من أهل مكة إضراب انتقال من قصة إلى أخرى ﴿ في عزة ﴾ أي : حمية وتكبر عن الإيمان ﴿ وشقاق ﴾ أي : خلاف وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والتنكير في عزة وشقاق للدلالة على شدتهما، وقيل : جواب القسم قد تقدم وهو قوله تعالى :﴿ ص ﴾ أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمد الصادق وقال الفراء :﴿ ص ﴾ معناها وجب وحق فهو جواب قوله :﴿ والقرآن ﴾ كما تقول : نزل والله، وقال الأخفش : قوله تعالى :﴿ إن كل إلا كذب الرسل ﴾ وقال السدي : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار، قال البغوي : وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة وقال مجاهد : في عزة متعازين.
﴿ كم ﴾ أي : كثيراً ﴿ أهلكنا من قبلهم ﴾ وأكد كثرتهم بقوله تعالى :﴿ من قرن ﴾ أي : من أمة من الأمم الماضية كانوا في شقاق مثل شقاقهم.
تنبيه : كم مفعول أهلكنا، ومن قرن تمييز، ومن قبلهم لابتداء الغاية ﴿ فنادوا ﴾ أي : استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وقيل : نادوا بالإيمان والتوبة ﴿ ولاَت ﴾ أي : وليس الحين ﴿ حين مناص ﴾ أي : منجى وفرار، قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب، قال بعضهم لبعض : مناص أي : اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص، فأنزل الله تعالى ذلك، والمناص مصدر ناص ينوص إذا تقدم، ولات بمعنى : ليس بلغة أهل اليمن، وقال النحويون : هي لا زيدت فيها التاء كقولهم : رب وربت، وثم وثمت، وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا : لات كما قالوا : ثمت ولا تعمل إلا في الأزمان خاصة نحو لات حين ولات أوان كقول الشاعر :
طلبوا صلحنا ولات أوان *** فأجبنا أن ليس حين بقاء
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها فتقديره ولات الحين حين مناص، وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع كقول القائل :
من صد عن نيرانها *** فأنا ابن قيس لا براحْ
أي : لا براح لي.
ولما حكى تعالى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة بقوله تعالى :﴿ وعجبوا ﴾ أي : الكفار الذين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه :﴿ بل الذين كفروا في عزة وشقاق ﴾ ﴿ أن ﴾ أي : لأجل أن ﴿ جاءهم منذر ﴾ هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي قوله تعالى :﴿ منهم ﴾ وجهان أحدهما : أنهم قالوا أن محمداً مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنية والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي. والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد والترغيب في الآخرة ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً عن الكذب والتهمة وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون من قوله :﴿ وقال الكافرون ﴾ وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشارة إلى أنهم يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ومعاندون لا غافلون وإيذاناً بشدة غضبه عليهم وذماً لهم على قولهم :﴿ هذا ﴾ أي : النذير ﴿ ساحر ﴾ أي : فيما يظهره معجزة ﴿ كذاب ﴾ أي : فيما يقول على الله تبارك وتعالى.
﴿ أجعل ﴾ أي : صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه ﴿ الآلهة ﴾ أي : التي نعبدها ﴿ إلهاً واحداً ﴾ كيف يسع الخلق كلهم إله واحد ﴿ إن هذا ﴾ أي : القول بالوحدانية ﴿ لشيء عجاب ﴾ أي : بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ونشاهده من أن الواحد لا يفي عمله وقدرته بالأشياء الكثيرة، وقال البغوي : العجب والعجاب واحد كقولهم : رجل كريم وكرام، وكبير وكبار، وطويل وطوال، وعريض وعراض، وسبب قولهم ذلك أنه روى أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش : وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلاً أكبرهم سناً الوليد بن المغيرة اذهبوا إلى أبي طالب، فأتوا إليه وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إليه فحضر فقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا تسألونني ؟ فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا، قال : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ؟ فقال أبو جهل : لله أبوك نعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقاموا » فقالوا ذلك.
﴿ وانطلق الملأ منهم ﴾ أي : أشراف قريش من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله ﴿ أن امشوا ﴾ أي : يقول بعضهم لبعض امشوا أي : اذهبوا ﴿ واصبروا ﴾ أي : اثبتوا ﴿ على آلهتكم ﴾ أي : على عبادتها، قال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا أي : أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها، ومنه الماشية للتفاؤل.
فائدة : الجميع يكسرون النون في الوصل من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا.
ولما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة بمكانه قال المشركون ﴿ إن هذا ﴾ أي : الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لشيء يراد ﴾ أي : بنا فلا مرد له أو أن الصبر على عبادة الآلهة لشيء يراد وهو أهل للإرادة فهو أهل أن لا ننفك عنه، وقيل : هذا المذكور من التوحيد لشيء يراد منا وقيل : إن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم.
﴿ ما سمعنا بهذا ﴾ أي : الذي يقوله محمد من التوحيد، ﴿ في الملة الآخرة ﴾ قال ابن عباس : يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون : ثالث ثلاثة، وقال مجاهد : يعنون ملة قريش دينهم الذي هم عليه ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هذا ﴾ أي : الذي يقوله :﴿ إلا اختلاق ﴾ : افتعال وكذب.
﴿ أأُنزل عليه ﴾ أي : محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ الذكر ﴾ أي : القرآن ﴿ من بيننا ﴾ وليس بأكبرنا ولا أشرفنا وهذا استفهام على سبيل الإنكار لاختصاصه عليه الصلاة والسلام بالوحي وهو مثلهم، وفي ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالواو، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو بخلاف عن ورش وابن كثير بغير إدخال، وعن هشام فيها ثلاثة أوجه : تحقيق الهمزتين، وإدخال ألف بينهما، وتحقيقهما من غير إدخال ألف بينهما، قال الله تبارك وتعالى :﴿ بل هم في شك ﴾ أي : تردد محيط بهم مبتدأ لهم ﴿ من ذكري ﴾ أي : وحيي وما أنزلت لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل الذي لو نظروا فيه لزال هذا الشك عنهم ﴿ بل ﴾ أي : ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك ﴿ لما يذوقوا عذاب ﴾ أي : الذي أعددته للمكذبين ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ولصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ولا ينفعهم التصديق حينئذ.
﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ عندهم خزائن ﴾ أي : مفاتيح ﴿ رحمة ﴾ أي : نعمة ﴿ ربك ﴾ وهي النبوة يعطونها من شاؤوا، ونظيره قوله تعالى ﴿ أهم يقسمون رحمة ربك ﴾ ( الزخرف : ٣٢ ) : أي : نبوة ربك ﴿ العزيز ﴾ أي : الغالب الذي لا يغلبه أحد، ﴿ الوهاب ﴾ : الذي له أن يهب كل ما يشاء من النبوة أو غيرها لمن يشاء من خلقه.
ولما كانت خزائن الله تعالى غير متناهية كما قال تعالى :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ﴾ ( الحجر : ٢١ ) ومن جملته السماوت والأرض وما بينهما وهم عاجزون عن هذا القسم قال الله تعالى :﴿ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما ﴾ أي : ليس لهم ذلك فلأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله تعالى أولى، وقوله تعالى :﴿ فليرتقوا في الأسباب ﴾ جواب شرط محذوف أي : إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم فينزلوا الوحي إلى من يريدونه وهذا غاية التهكم بهم والتعجيز أو التوبيخ، قال مجاهد : أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سبب واستدل حكماء الإسلام بقوله تعالى :﴿ فليرتقوا في الأسباب ﴾ على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله تعالى فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات : أسباباً وهذا يدل على ذلك.
وقوله تعالى :﴿ جُندٌ ما هنالك مهزوم من الأحزاب ﴾ خبر مبتدأ مضمر أي : هم قريش جند من الكفار المتحزبين على الرسل عليهم السلام، مهزوم : مكسور عما قريب، فمن أين لهم تدبير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية، فلا تكترث بما تقوله قريش، قال قتادة : أخبر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فقال تعالى :﴿ سيهزم الجمع ويولّون الدبر ﴾ ( القمر : ٤٥ ) فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم، وقيل : يوم الخندق، قال الرازي : والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون مهزومين في مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح.
تنبيه : في ما وجهان، أحدهما : أنها مزيدة، والثاني : أنها لجند على سبيل التعظيم للمهزومين وللتحقير، فإن ما الصفة تستعمل لهذين المعنيين، وقد تقدم الكلام عليها في أوائل البقرة، وهنالك صفة لجند وكذلك مهزوم ومن الأحزاب.
ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معزياً له عليه السلام :﴿ كذبت ﴾ أي : مثل تكذيبهم ﴿ قبلهم قوم نوحٍ ﴾ أنث قوم باعتبار المعنى واستمروا على عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام ﴿ وعادٌ ﴾ سماهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح العقيم ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض وهم لا يذعنون لما دعاهم إليه هود عليه السلام ﴿ وفرعونُ ذو الأوتاد ﴾ كانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد يشد كل يد وكل رجل منه إلى سارية وتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت، وقال مجاهد : كان يمد الرجل مستلقياً بين أربعة أوتاد على الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، قال السدي : كان يشد الرجل بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات، وقال ابن عباس : ذو البناء المحكم، وقيل : ذو الملك الشديد الثابت، وقال العتبي : تقول العرب : هم في عز ثابت الأوتاد يريدون أنه دائم شديد قال الأسود بن يعقوب :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقال الضحاك : ذو القوة والبطش، وقال عطية : ذو الجموع والجنود الكثيرة لأنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء، والأوتاد جمع وتد وفيه لغات وتد بفتح الواو وكسر التاء وهو الفصحى، ووتد بفتحتين، وودّ بإدغام التاء في الدال.
﴿ وثمود ﴾ واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها ولم يكن في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم ﴿ وقوم لوط ﴾ أي : الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وفي شقاقهم حتى ضربوا بالعشاء وطمس الأعين ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم ﴿ وأصحاب الأيكة ﴾ أي : الغيضة، وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام ﴿ أولئك الأحزاب ﴾ أي : المتحزبون على الرسل عليهم السلام الذين خص الجند المهزوم منهم، وقيل : المعنى أولئك الأحزاب مبالغة في وصفهم بالقوة كما يقال : فلان هو الرجل أي : أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل عليهم العذاب، وفي الآية زجر وتخويف للسامعين.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ كل ﴾ أي : من الأحزاب ﴿ إلا كذب الرسل ﴾ أي : لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم لأن دعوتهم واحدة وهي دعوة التوحيد ﴿ فحق عقاب ﴾ أي : فوجب عليهم ونزل بهم عذابي.
ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال تعالى :﴿ وما ينظر ﴾ وحقرهم بقوله تعالى :﴿ هؤلاء ﴾ أي : وما ينتظر كفار مكة ﴿ إلا صيحة واحدة ﴾ وهي نفخة الصور الأولى، كقوله تعالى :﴿ ما ينظرون إلا صيحةً واحدةً تأخذهم وهم يخصّمون ( ٤٩ ) فلا يستطيعون توصية ﴾ ( يس : ٥٠ ) الآية والمعنى : أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معدٌّ لهم يوم القيامة، فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يقطع كل ساعة بحضوره، قيل : المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة كما يقال : صاح الزمان بهم إذا هلكوا، قال الشاعر :
صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
ونظيره قوله تعالى :﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ﴾ ( يونس : ١٠٢ )
الآية. وقرأ حمزة والكسائي :﴿ ما لها ﴾ أي : الصيحة ﴿ من فواق ﴾ بضم الفاء، والباقون بفتحها، وهما لغتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع والمعنى : ما لها من توقف قدر فواق ناقة، وفي الحديث :«العبادة قدر فواق ناقة » وهذا في المعنى كقوله تعالى :﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ ( الأعراف : ٣٤ ) وقال ابن عباس : ما لها من رجوع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال : أفاقت الناقة تفيق إفاقة، رجعت واجتمعت الفيقة في ضرعها، والفيقة اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم يترك ساعة حتى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق أي : العذاب لا يمهلهم بذلك القدر.
﴿ وقالوا ﴾ أي : كفار مكة استهزاءً لما نزل قوله تعالى في الحاقة :﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه ﴾ ( الحاقة : ١٩ ) ﴿ وأما من أوتي كتابه بشماله ﴾ ( الحاقة : ٢٥ ) ﴿ ربنا ﴾ أي : يا أيها المحسن إلينا ﴿ عجِّل لنا قطنا ﴾ أي : كتاب أعمالنا في الدنيا ﴿ قبل يوم الحساب ﴾ وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول، وقال مجاهد والسدي : يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب، قال عطاء : قاله النضر ابن الحارث وهو قوله :﴿ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ( الأنفال : ٣٢ )
وقال مجاهد : قطنا حسابنا، يقال لكتاب الحساب : قط، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتاب بالجوائز ويجمع على قطوط وقططة، كقرد وقرود وقردة، وفي القلة على أقطة وأقطاط، كقدح وأقدحة وأقداح، إلا أن أفعلة في فعل شاذ.
ولما أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة أولها : من أمر النبوات وإثباتها كما قال تعالى :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ﴾ ( ص : ٤ ) وثانيها : تعجبهم من الإلهيات فقالوا ﴿ أجعل الآلهة إلهاً واحداً ﴾ وثالثها : تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا :﴿ ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ﴾ قالوا ذلك استهزاء.
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر فقال سبحانه : وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال ﴿ على ما يقولون ﴾ أي : على ما يقول الكافرون من ذلك، ثم إنه تعالى لما أمر نبيه بالصبر ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية له فكأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص، وحزن خاص، فيعلم حينئذ أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله تعالى لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
وبدأ من ذلك بقصة داود عليه السلام فقال تعالى :﴿ واذكر عبدنا ﴾ أي : الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا وأبدل منه أو بينه بقوله تعالى :﴿ داود ذا الأيد ﴾ قال ابن عباس : أي : القوة في العبادة، روي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه » وقيل : ذا القوة في الملك ووصفه تعالى بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج قال تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ﴾ ( الإسراء : ١ ) وأيضاً وصف الأنبياء عليهم السلام بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة ﴿ إنه أواب ﴾ أي : رجاع إلى مرضاة الله تعالى، والأواب فعال من آب يؤب إذا رجع قال الله تعالى :﴿ إن إلينا إيابهم ﴾ ( الغاشية : ٢٥ ) وهذا بناء مغالبة كما يقال : قتال وضراب وهو أبلغ من قاتل وضراب وقال ابن عباس : مطيع، وقال سعيد بن جبير : مسبح بلغة الحبشة.
ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ إنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ﴿ سخرنا الجبال ﴾ أي : التي هي أقسى من قلوب قومك وأنها أعظم الأراضي صلابة وقوةً وعلواً ورفعةً بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله تعالى :﴿ معه ﴾ أي : مصاحبة له ﴿ يسبحن ﴾ أي : بتسبيحه وفي كيفية تسبيحها وجوه أحدها : أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ونطقاً وحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى، ثانيها : قال القفال : إن داود عليه السلام أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً. روى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود عليه السلام حتى أنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، ثالثها : أن الله تعالى سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود عليه السلام فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدرته تعالى واتقان حكمته ﴿ بالعشي والإشراق ﴾ قال الكلبي : غدوةً وعشياً، والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها، قال الزجاج : يقال : شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، وقيل : هما بمعنى واحد والأول أكثر استعمالاً، تقول العرب : شرقت الشمس ولما تشرق، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى قال ابن عباس : كنت أمر بهذه الآية ولم أدر ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق »، وروى طاوس عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا : لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.
وقوله تعالى :﴿ والطير محشورةً ﴾ أي : مجموعة إليه تسبح معه، عطف مفعول على مفعول، وهما الجبال والطير، أو حال على حال، وهما يسبحن، ومحشورة كقولك : ضربت زيداً مكتوفاً وعمراً مطلقاً وأتى بالحال اسماً لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئاً فشيئاً لأن حشرها دفعة واحدة أدل على القدرة والحاشر هو الله تعالى ؟ فإن قيل : كيف يصدر تسبيح الله تعالى من الطير مع أنه لا عقل لها ؟ أجيب : بأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولاً ولا حتى تعرف الله تعالى فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداود عليه السلام ﴿ كلٌ ﴾ أي : من الجبال والطير ﴿ له ﴾ أي : لداود أي : لأجل تسبيحه ﴿ أواب ﴾ أي : رجاع إلى طاعته بالتسبيح وقيل : كل مسبح فوضع أواب موضع مسبح وقيل : الضمير في له للباري تبارك وتعالى والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.
﴿ وشددنا ﴾ أي : قوينا بما لنا من العظمة ﴿ ملكه ﴾ بالحرس والجنود، قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، وعن ابن عباس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود فقال : إن هذا قد غصبني بقراً فسأله داود فجحد فقال للآخر : البينة فلم تكن له بينة، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثانية فلم يفعل فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل داود إليه فقال له : إن الله تعالى أوحى إلي أن أقتلك فقال : تقتلني بغير بينة فقال : نعم والله لأنفذن أمر الله تعالى فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال : لا تعجل حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت ابن هذا فقتلته فبذلك أخذت، فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى :﴿ وشددنا ملكه ﴾ ﴿ وآتيناه ﴾ أي : بعظمتنا ﴿ الحكمة ﴾ أي : النبوة والإصابة في الأمور.
واختلف في تفسيره قوله تعالى :﴿ وفصل الخطاب ﴾ فقال ابن عباس : بيان الكلام أي : معرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير رؤية في ذلك، وقال ابن مسعود والحسن : علم الحكمة والبصر بالقضاء، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به، وقال أبي بن كعب : فصل الخطاب الشهود والإيمان، وقال مجاهد وعطاء ويروى عن الشعبي : إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه، أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه السلام، وقيل غيره كما ذكرته في شرح المنهاج عند قول المنهاج أما بعد، وقيل : هو الخطاب الفصل الذي ليس باختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء وصف كلام النبي صلى الله عليه وسلم فصل لا نزر ولا هذر.
وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وهل ﴾ استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده ﴿ أتاك ﴾ يا أفضل الخلق ﴿ نبأ ﴾ أي : خبر ﴿ الخصم ﴾ وهو في الأصل مصدر ولذلك يصلح للمفرد والمذكر والمراد به هنا الجمع بدليل قوله تعالى ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ تسوروا ﴾ أي : تصعدوا وعلوا ﴿ المحراب ﴾ أي : البيت الذي كان يدخل فيه داود ويشتغل فيه بالعبادة والطاعة، قال الزمخشري : فإن قلت : بما انتصب إذ ؟ قلت : لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك أو بنبأ أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بنبأ ؛ لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم تكن ناصباً، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا، انتهى. فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف، ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل.
وقوله تعالى :﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ دخلوا على داود ﴾ بدل من إذ الأولى أو ظرف لتسوروا، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند التاء في الأول وعند الدال في الثاني ووافقهم ابن ذكوان في الأول والباقون بالإدغام فيهما ﴿ ففزع منهم ﴾ أي : لأنهم نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه، فإنه عليه السلام كان جزأ زمانه يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للوعظ ويوماً للاشتغال بحاجته فتسور عليه ملكان على صورة الإنسان في يوم الخلوة ﴿ قالوا لا تخف ﴾ وقولهم :﴿ خصمان ﴾ خبر مبتدأ وضمر أي : نحن خصمان أي : فريقان، ليطابق ما قبله من ضمير الجمع وقيل : اثنان، والضمير بمعناهما وقد مر أن الخصم يطلق على الواحد والأكثر، وقولهم :﴿ بغى بعضنا على بعض ﴾ جملة يجوز أن تكون مفسرة لحالهم وأن تكون خبراً ثانياً، فإن قيل : كيف قالوا بغى بعضنا على بعض وهم ملائكة على المشهور ؟ أجيب : بأن ذلك على سبيل الفرض أي : أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي من أحدهما ﴿ فاحكم بيننا بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت الذي يطابق الواقع ﴿ ولا تشطط ﴾ أي : ولا تجر في الحكومة ﴿ واهدنا ﴾ أي : أرشدنا ﴿ إلى سواء الصراط ﴾ أي : وسط الطريق الصواب.
فقال لهما : تكلما فقال أحدهما :﴿ إن هذا أخي ﴾ أي : على ديني وطريقتي أو في النصح لا من جهة النسب ﴿ له تسع وتسعون نعجة ﴾ أي : امرأة ﴿ ولي نعجة واحدة ﴾ امرأة واحدة، والنعجة هي الأنثى من الضأن ولكن كثر في كلامهم الكناية عن المرأة، قال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاثة هنه رابعة في البيت صغرا هنه
ونعجتي خمساً توافيهنه
قال الحسن بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن ثم نعاج ولا بغي فهو كقولهم : ضرب زيد عمراً واشترى بكر داراً ولا ضرب هناك ولا شراء، وقرأ حفص بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿ فقال أكفلنيها ﴾ قال ابن عباس : أعطنيها وقال مجاهد : انزل لي عنها وحقيقته ضمها إلي واجعلني كافلها وهو الذي يعولها وينفق عليها والمعنى : طلقها لأتزوجها ﴿ وعزني ﴾ أي : غلبني ﴿ في الخطاب ﴾ أي : الجدال لأنه أفصح مني في الكلام، وقيل : قهرني لقوة ملكه، قال الضحاك : يقول : إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني، وحقيقة المعنى : أن الغلبة كانت له لضعفي في يده وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود وسيأتي الكلام على قصته إن شاء الله تعالى عن قريب.
﴿ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ﴾ وهذا جواب قسم محذوف أريد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والانضمام أي : ليضمها مضافة إلى نعاجه، فإن قيل : كيف قال :﴿ لقد ظلمك ﴾ ولم يكن سمع قول صاحبه ؟ أجيب : بأن معناه : إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك أو أنه قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول ولم يذكر الله تعالى ذلك لدلالة الكلام عليه، وقيل : التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه قد ظلمك، وقرأ قالون وابن كثير وهشام وعاصم بإظهار الدال عند الظاء والباقون بالإدغام، وقوله :﴿ وإن كثيراً من الخلطاء ﴾ أي : مطلقاً منكم ومن غيركم والخلطاء جمع خليط وهم الشركاء الذين خلطوا أموالهم. وقال الليث : خليط الرجل مخالطه ﴿ ليبغي ﴾ أي : ليعتدي ﴿ بعضهم ﴾ غالباً ﴿ على بعض ﴾ فيريدون غير الحق. فإن قيل : لم خص الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك ؟ أجيب : بأن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة لأنهما إذا اختلطا اطلع كل منهما على أحوال صاحبه فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيفضي ذلك إلى زيادة المنازعة والمخاصمة، فلذلك خص داود عليه السلام الخلطاء بالبغي والعدوان ثم استثنى فقال :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا ﴾ أي : تحقيقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات ﴾ أي : الطاعات فإنهم لا يقع منهم شيء لأن مخالطة هؤلاء تكون لأجل الدين وهذا استثناء متصل من قوله : بعضهم ﴿ وقليل ما هم ﴾ أي : هم قليل فقليل خبر مقدم وما مزيدة للتعظيم وهو مبتدأ، وقال الزمخشري : ما للإبهام وفيه تعجب من قلتهم قال : فإن أردت أن تحقق فائدتها وموقعها فأخرجها من قول امرئ القيس :
وحديث ما على قصره ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وانظر هل بقي لها معنى ﴿ وظن داود ﴾ أي : لذهابهم قبل فصل الأمر وقد همه من ذلك أمر من عظمه لا عهد له بمثله ﴿ أنما فتنّاه ﴾ أي : امتحناه، قال المفسرون : إن الظن هنا بمعنى العلم لأن داود لما قضى الأمر بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك، وقال ابن عباس : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه ﴿ فاستغفر ربه ﴾ أي : طلب الغفران من مولاه الذي أحسن إليه ﴿ وخرّ ﴾ أي : سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك ﴿ راكعاً ﴾ أي : ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدؤه أو خر للسجود راكعاً أو مصلياً كأنه أحرم بركعتي الاستغفار ﴿ وأناب ﴾ أي : رجع إلى الله تعالى.
قال الرازي : وللناس في هذه القصة ثلاثة أحوال ؛ أحدها : أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة منه، وثانيها : على الصغيرة، وثالثها : لا تدل على كبيرة ولا صغيرة، فأما القول الأول فقالوا : إن داود عليه السلام أحب امرأة أوريا فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله تعالى ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته وعرضا تلك الواقعة عليه، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك واشتغل بالتوبة، قالوا : وسبب ذلك أن داود عليه السلام تمنى يوماً من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسأل ربه : أن يمتحنه كما امتحنهم ويعطيه من الفضل ما أعطاهم فأوحى الله تعالى إليه أنك تبتلى في يوم كذا فاحترس، فلما كان ذلك اليوم جاءه الشيطان فتمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فطارت غير بعيدة فتبعها فطارت من كوة، فنظر داود أين تقع فأبصر داود امرأة في بستان تغتسل فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده إعجاباً، فسأل عنها فقيل له : امرأة أوريا وزوجها في غزاة فأحب داود أن يقتله ويتزوج بها، فأرسل داود إلى ابن أخته أن قدم أوريا قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل أن يرجع وراءه حتى يفتح الله تعالى على يديه أو يقتل، فقدمه ففتح على يديه فكتب إلى داود فأمر أن يقدمه بعد ذلك ففعل ثلاث مرات فقتل في الثالثة فلما انقضت عدتها تزوج بها فهي أم سليمان عليهما السلام.
قال الرازي : والذي أدين الله تعالى به وأذهب إليه أن ذلك باطل لوجوه.
الأول : أن هذه الحكاية لا تناسب داود لأنها لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لانتفى منها والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إلى داود عليه السلام.
ثانيها : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته، أما الأول : فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلم :«من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله »، وأما الثاني : فمنكر أيضاً قال صلى الله عليه وسلم :«المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه » فإن أوريا لم يسلم من داود عليه السلام لا في روحه ولا في منكوحه.
ثالثها : إن الله تعالى وصف داود عليه السلام بصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر.
الصفة الأولى : أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بداود عليه السلام في المصابرة على المكاره فلو قلنا : إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم عبد مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله تعالى.
الصفة الثانية : أنه وصفه بكونه عبداً له وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في وصف العبودية في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات، فلو قلنا : إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلا في طاعة الهوى والشهوة.
الصفة الثالثة : وهي قوله تعالى ﴿ ذا الأيد ﴾ أي : ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم.
الصفة الرابعة : كونه أواباً كثير الرجوع إلى الله فكيف يليق هذا الوصف بمن قلبه مشغول بالفسق والفجور.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن ﴾ أَفَتَرى أنه سخرت له الجبال ليتخذ سبيل القتل والفجور ؟ !.
الصفة السادسة : قوله تعالى :﴿ والطير محشورة ﴾ قيل : إنه كان محرماً عليه صيد شيء من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على روحه ومنكوحه.
الصفة السابعة : قوله تعالى :﴿ وشددنا ملكه ﴾ ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد إنا ملكناه بقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لم يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك.
الصفة الثامنة : قوله تعالى :﴿ وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ﴾ والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال : إنا آتيناه الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف من مزاحمة أخص أصحابه في الروح والمنكوح، فهذه الصفات التي وصف بها قبل شرح القصة وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة.
فأولها : قوله تعالى :﴿ وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ﴾ وقوله تعالى :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ﴾ فكيف أن الله تعالى يجعله خليفة ويقع منه ذلك، وقد روي عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : من حدثكم بحديث داود على ما ترويه القصاص فاجلدوه مائة جلدة وستين وهو حد الفرية أي : الكذب على الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم قالوا : إن المغيرة بن شعبة زنا وشهد ثلاثة من الصحابة بذلك وأما الرابع فلم يقل إني رأيت ذلك بعيني، فإن عمر رضي الله عنه كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، فإذا كان هذا الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام، فثبت بما ذكرنا أن القصة الذي ذكرها هؤلاء باطلة لا يجوز ذكرها.
قال الرازي : حضرت في مجلس وفيه بعض الأكابر فكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة بسبب اقتضى ذلك فقلت له : لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، وقال الله تعالى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالاته ﴾ ( الأنعام : ١٢٤ ) ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في الطعن فيه وأيضاً بتقدير أنه ما كان نبياً فلا شك أنه كان مسلماً وقال صلى الله عليه وسلم :«لا تذكروا موتاكم إلا بخير » وذكرت له أشياء أخر قال : سكت ولم يذكر شيئاً.
فإن قيل : قد ذكر هذه القصة كثير من المحدثين والمفسرين. أجيب : بأنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القطعية واجباً والمحققون يردون هذا القول ويحكمون عليه بالكذب، وأما القول الثاني : فقالوا : تحمل هذه القصة على حصول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه : الأول : أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود عليه السلام فآثره أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه. الثاني : قالوا : إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب البتة أما وقوع بصره عليها بغير قصد فليس بذنب وأما حصول الميل عقب النظر فليس أيضاً ذنباً لأن الميل ليس في وسعه فليس مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها تزوج بها. الثالث : أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن يطلق زوجته حتى يتزوجها وكانت عادة مألوفة معهودة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان، فقيل له ذلك، وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملت هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.
وأما القول الثالث : فقال تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا صغيرة لداود عليه السلام بل يوجب أعظم أنواع المدح والثناء له وهو أنه قد روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل فيه بطاعة ربه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً تمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً، وقالوا :﴿ خصمان بغى بعضنا على بعض ﴾ إلى آخر القصة فعلم غرضهم وقصد أن ينتقم منهم وظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى فاستغفر ربه مما هم به وأناب، فإن قيل : ههنا أربعة ألفاظ يمكن أن يحتج بها في إلحاق الذنب بداود عليه السلام أحدها : قوله تعالى :﴿ وظن داود أنما فتناه ﴾ وثانيها : قوله تعالى :﴿ فاستغفر ربه ﴾ وثالثها : قوله تعالى :﴿ وأناب ﴾ ورابعها : قوله تعالى :﴿ فغفرنا له ذلك ﴾. أجيب : بأن هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكر لاحتمال أن تكون الزلة إنما حصلت من باب ترك الأفضل
﴿ فغفرنا له ذلك ﴾ أي : ما استغفر منه ﴿ وإن له عندنا لزلفى ﴾ أي : زيادة خير في الدارين بعد المغفرة ﴿ وحسن مآب ﴾ أي : مرجع في الجنة.
ولما تم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض بقوله تعالى :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ﴾ أي : تدبر أمر العباد بأمرنا وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول الأول كما مر لأن من البعيد جداً أن يوصف الرسول بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين رغبة في انتزاع أزواجهم من أيديهم ثم يذكر عقبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه، ثم في تفسير كونه خليفة وجهان :
أحدهما : جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه وذلك إنما يعقل في حق من تصح عليه الغيبة وذلك على الله تعالى محال.
ثانيهما : إنا جعلناك ممكناً في الناس نافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة ومنه يقال : خليفة الله تعالى في أرضه.
وحاصله : أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة للزوم نفاذ الحكم في تلك الحقيقة ﴿ فاحكم بين الناس ﴾ أي : الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا ﴿ بالحق ﴾ أي : بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات وإذا كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى ذلك إلى تخريب العالم ووقوع الهرج فيه والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال تعالى :﴿ ولا تتبع الهوى ﴾ أي : لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى ثم سبب عنه قوله تعالى :﴿ فيضلك ﴾ أي : ذلك الاتباع أو الهوى ﴿ عن سبيل الله ﴾ لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب ﴿ إن الذين يضلون عن سبيل الله ﴾ أي : عن الإيمان بالله تعالى ﴿ لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا ﴾ أي : بسبب نسيانهم ﴿ يوم الحساب ﴾ أي : المرتب عليه تركهم الإيمان ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا، وقال الزجاج : بتركهم العمل لذلك اليوم، وقال عكرمة والسدي : في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا أي : تركوا القضاء بالعدل.
﴿ وما خلقنا السماء ﴾ التي ترونها ﴿ والأرض وما بينهما ﴾ أي : مما تحسون به من الرياح وغيرها خلقاً ﴿ باطلاً ﴾ أي : عبثاً قال الله تعالى :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ﴾ ( المؤمنون : ١١٥ ).
تنبيه : احتج أهل السنة بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى خلق كل ما بين السماء والأرض وأعمال العباد مما بين السماء والأرض فوجب أن يكون تعالى خالقاً لها، ودلت على صحة القول بالحشر والنشر لأنه تعالى لما خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يكون خلقهم للإضرار والانتفاع أو لا لشيء، والأول باطل لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضاً باطل، لأن هذه الحالة حاصلة خالصة حين كانوا معدومين فلم يبق إلا أن يقال : خلقهم للانتفاع وذلك الانتفاع إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة. والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل الضرر الكثير لوجدان المنفعة القليلة لا يليق بالحكمة، ولما بطل هذا القول ثبت القول بوجود حياة بعد هذه الحياة الدنيا وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة.
تنبيه : يجوز في باطلاً أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضميره أي : خلقاً باطلاً وأن يكون حالاً من فاعل خلقنا أي : مبطلين أو ذوي باطل وأن يكون مفعولاً من أجله أي : للباطل وهو العبث ﴿ ذلك ﴾ أي : خلق ما ذكر لا لشيء ﴿ ظن الذين كفروا ﴾ أي : أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب ﴿ فويل ﴾ أي : هلاك عظيم بسبب هذا الظن أو واد في جهنم ﴿ للذين كفروا ﴾ أي : مطلقاً بهذا الظن وغيره من أي شرك كان ﴿ من النار ﴾ لأن من أنكر الحشر والنشر كان شاكاً في حكمة الله تعالى في خلق السماوات والأرض.
ونزل لما قال كفار مكة للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة مثل ما تعطون :﴿ أم نجعل ﴾ أي : على عظمتنا ﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : امتثالاً لأوامرنا ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ تحقيقاً لإيمانهم ﴿ كالمفسدين ﴾ أي : المطبوعين على الفساد والراسخين فيه ﴿ في الأرض ﴾ أي : في السفر وغيره لم نجعلهم مثلهم وأم منقطعة والاستفهام فيها لإنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلاً ليدل على نفيه وكذا التي في قوله تعالى :﴿ أم نجعل المتقين كالفجار ﴾ كرر الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية، أولاً بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم.
وقوله تعالى :﴿ كتاب ﴾ خبر مبتدأ مضمر أي : هذا كتاب ثم وصفه بقوله تعالى :﴿ أنزلناه ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ إليك ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ مبارك ﴾ أي : كثير خيره ونفعه، وقوله تعالى :﴿ ليدّبروا ﴾ أصله ليتدبروا أدغمت التاء في الدال ﴿ آياته ﴾ أي : ليتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة فيأتمروا بأوامره ومناهيه فيؤمنوا ﴿ وليتذكر ﴾ أي : وليتعظ به ﴿ أولو الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول.
قوله تعالى :﴿ ووهبنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ لداود سليمان ﴾ ابنه فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنيا وعلماً وحكمة وعظمة ورحمة، والمخصوص بالمدح في قوله تعالى :﴿ نعم العبد ﴾ محذوف أي : سليمان، وقيل : داود ﴿ إنه أوّاب ﴾ أي : رجاع إلى التسبيح والذكر في جميع الأوقات.
﴿ إذ ﴾ أي : اذكر إذ ﴿ عُرض عليه ﴾ أي : سليمان، وقوله تعالى :﴿ بالعشي ﴾ وهو ما بعد الزوال إلى الغروب، وقوله تعالى :﴿ الصافنات ﴾ أي : الخيل العربية الخالصة جمع صافنة وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج : هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وهي علامة الفراهة فيه وأنشد :
ألف الصفون فلا يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقيل : هو الذي يجمع يديه ويسويهما، وقيل : هو القائم مطلقاً أي : سواء كان من الخيل أم من غيرها قاله القتيبي واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم :«من سره أن تقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار » أي : يديمون له القيام وجاء الحديث قمنا صفوناً أي : صافين أقدامنا، وقيل : هو قيام الخيل مطلقاً، أي : سواء وقف على طرف سنبكه أم لا، قال الفراء : على هذا رأيت أشعار العرب، واختلف أيضاً في قوله تعالى :﴿ الجياد ﴾ فهي إما من الجودة ويقال : جاد الفرس يجود جودة وجودة بالفتح والضم فهو جواد للذكر والأنثى، وهو الذي يجود في جريه بأعظم ما يقدر عليه، والجمع جياد وأجواد وأجاويد، وقيل : جمع لجود بالفتح كثياب وثوب، وإما من الجيد وهو العنق، والمعنى : طويلة الأجياد وهو دال على فراهتها.
قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس، وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، وقال عوف عن الحسن : بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر لها أجنحة، وعن عكرمة : أنها كانت عشرين ألف فرس لها أجنحة فصلى سليمان الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم لذلك.
﴿ فقال إني أحببت ﴾ أي : أردت ﴿ حب الخير ﴾ أي : الخيل ﴿ عن ذكر ربي ﴾ أي : صلاة العصر ﴿ حتى توارت ﴾ أي : الشمس ﴿ بالحجاب ﴾ أي : استترت بما يحجبها عن الأبصار.
﴿ ردّوها علي ﴾ أي : الخيل المعروضة، وقيل : الضمير يرجع للشمس، قال الرازي : وهذا بعيد لوجوه :
الأول : أن الصافنات مذكورة بالصريح والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر.
وثانيها : أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقه التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة، فأما أن يقول على سبيل العظمة لرب العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقب ذلك الجرم العظيم الذي لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول عليه السلام المطهر المكرم.
ثالثها : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلك مشاهداً لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقل علمنا فساده، انتهى. قال أكثر المفسرين : فلما ردوا الخيل إليه أقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف أخذاً من قوله تعالى ﴿ فطفق مسحاً ﴾ أي : فأخذ يمسح السيف مسحاً ﴿ بالسوق والأعناق ﴾ أي : سوقها وأعناقها يقطعها من قولهم : مسح علاوته إذا ضرب عنقه، قالوا : فعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لمرضاته حيث اشتغل عن طاعته وكان ذلك مباحاً له وإن كان حراماً علينا كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام وبقي منها مائة فرس فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل من نسل تلك المائة.
قال الحسن : فلما عقر الخيل أبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، قال الرازي : وهذا عندي بعيد لوجوه.
الأول : أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي : اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل : مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح.
الثاني : أن القائلين بهذا القول أجمعوا على أن لسليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة فأولها : ترك الصلاة وثانيها : أنه استولى عليه الإشتغال بحب الدنيا حتى نسي الصلاة وقال صلى الله عليه وسلم :«حب الدنيا رأس كل خطيئة » وثالثها : أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة. ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : ردوها علي وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس. وخامسها : أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لأكله، وهذه أنواع من الكبائر ينسبونها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها، وخلاصتها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقب قوله :﴿ وقالوا ربنا عجِّل لنا قِطّنا قبل يوم الحساب ﴾ ( ص : ١٦ ) وأن الكفار لما بالغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ثم ذكر عقبه قصة سليمان عليه السلام فقال تعالى :﴿ ووهبنا لداود سليمان ﴾ الآية والتقدير : أنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان، وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا : إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً.
قال : والصواب : أن تقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد صلى الله عليه وسلم ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أجريها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله :﴿ عن ذكر ربي ﴾ ثم إنه عليه السلام أمر بإجرائها وسيرها حتى توارت بالحجاب أي : غابت عن بصره ثم إنه أمر الرابضين أن يردوها فردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك أمور :
الأول : تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسها ويمسح لها سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام والعجب منهم كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة.
قال : فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه فالجواب أن نقول : لفظ الآية لا تدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قطعي ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات من أقوام لا يلتفت إلى أقوالهم والذي ذهبنا إليه قول الزهري وابن كيسان ا. ه، وقد يجاب من جهة الجمهور أن ما نسبه إليهم ممنوع.
وبيان ذلك أن قوله : إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح يقال : القرينة كافية في ذلك وقوله أنهم جمعوا أنواعاً مذمومة أولها : ترك الصلاة إنما يكون ذلك مذموماً إذا تركها متعمداً ولم يكن ذلك بل نسيها وقد نام صلى الله عليه وسلم في الوادي حتى طلعت الشمس وقضى الصبح والنسيان والنوم لا مؤاخذة فيهما، وقوله : ثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إنما اشتغل بذلك لأمر الجهاد وهو مطلوب في حقه، وقوله : ثالثها : أنه لم يشتغل بالتوبة يقال : إنه لم يأت بذنب، وقوله : رابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : ردوها علي ممنوع والمخاطب إنما هو جماعته، وقوله : خامسها إلى أن قال : وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عقر الحيوان قد مر عنهم أن ذلك كان مباحاً له فليس فيما قالوه نسبة سليمان عليه الصلاة والسلام إلى معصية فلو قال : الأولى أن يقال : كذا كان أولى، وقرأ قنبل بهمزة ساكنة بعد السين وقيل عنه أيضاً بضم الهمزة وواو بعدها.
واختلف في سبب الفتنة التي وقعت لسليمان عليه السلام في قوله تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ على كرسيه جسداً ثم أناب ﴾ فقال محمد بن إسحاق : عن وهب بن منبه قال : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر وكان الله تعالى قد أعطى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فأخذها وقتل ملكها وسبا ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشق ذلك على سليمان عليه السلام.
فقال لها : ويحك ما هذا الحزن ؟ قالت له : إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصاب فيحزنني ذلك فقال لها سليمان عليه السلام : قد أبدلك الله ملكاً هو أعظم من ملكه وسلطاناً هو أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت : إن ذلك كذلك ولكن إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يذهب ذلك حزني، فأمر سليمان عليه السلام الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فعمدت إليه حين صنعوه وألبسته ثياباً مثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان عليه السلام تذهب إليه مع ولائدها فتسجد له ويسجدن معها له تبعاً لها كما كانت تصنع في ملكه، وسليمان عليه السلام لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً، فبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقاً لسليمان عليه السلام وكان لا يرد عن أبواب سليمان عليه السلام أي ساعة أراد دخول شيء من بيوت سليمان عليه السلام حاضراً كان سليمان عليه السلام أو غائباً.
فقال : يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأثني عليهم بعملي فيهم وأعلم الناس ببعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم، فقال : افعل فجمع سليمان عليه السلام الناس فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تبارك وتعالى وأثنى على كل نبي بما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان عليه السلام فقال : ما كان أحكمك في صغرك ثم انصرف، فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى امتلأ غضباً، فلما دخل داره دعاه فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم وكل حال أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيراً في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري فما الذي أحدثت في آخر عمري فقال آصف : إن غير الله تعالى يعبد في دارك، فقال سليمان عليه السلام : إنا لله وإنا إليه راجعون لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان عليه السلام إلى داره فكسر الصورة وعاقب تلك المرأة وولائدها، وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرماد وجلس عليه تائباً إلى الله تعالى.
وكانت له أم ولد يقال لها : الأمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه فيه فوضعه عندها يوماً، فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان عليه السلام وقال لها : يا أمينة خاتمي فناولته الخاتم وتختم به وجلس على كرسي سليمان عليه السلام فعكف عليه الطير والجن والإنس وتغيرت صفة سليمان عليه السلام، فأتى الأمينة يطلب الخاتم فأنكرته فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه وأخذ ينقل السمك للسماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحداها بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها فمكث كذلك أربعين صباحاً مدة ما كان عبد الوثن في داره فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان.
وسأل آصف نساء سليمان عليه السلام فقلن : ما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة فقال آصف : إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج على بني إسرائيل فقال : ما في الخاصة أعظم مما في العامة فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان عليه السلام بسمكتين صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، وخرج سليمان عليه السلام بسمكتيه فباع السمكة التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله الخاتم في جوفها فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ورجع إلى ملكه وأخذ ذلك الشيطان وحبسه في صخرة وألقاه في البحر هذا ملخص حديث وهب، وقال الحسن : ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه.
وقال السدي : كان سبب فتنة سليمان عليه السلام أنه كانت له مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة : وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته فقالت له يوماً : إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال : نعم ولم يفعل فابتلى بقوله : نعم، وذكر نحو ما تقدم وفي بعض الروايات أن سليمان عليه السلام لما افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه فأعاده سليمان عليه السلام إلى يده فسقط فأيقن سليمان عليه السلام بالفتنة، فأتاه آصف فقال لسليمان عليه السلام : إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك ففر إلى الله تعالى تائباً فإني أقوم مقامك وأسير بسيرك إلى أن يتوب الله تعالى عليك، ففر سليمان عليه السلام إلى الله تعالى وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت فأقام آصف في ملك سليمان عليه السلام يسير بسيره أربعة عشر يوماً إلى أن رد الله تعالى على سليمان عليه السلام ملكه وتاب عليه ورجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده، فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه.
وروي عن سعيد بن المسيب قال : احتجب سليمان عليه السلام عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله عز وجل وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه.
قال الرازي : واستبعد أهل التحقيق هذا الكلام من وجوه ؛ الأول : أن الشيطان لو قدر على أن يشتبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذٍ لا يبقى اعتماد على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال وذلك يبطل الدين بالكلية.
الثاني : أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله تعالى سليمان عليه السلام بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقتلهم ويمزق تصانيفهم ويخرب ديارهم، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولى.
الثالث : كيف يليق بحكمة الله تعالى وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان عليه السلام ولا شك أنه قبيح أي : على غير رأي الحسن كما مر.
الرابع : لو قلنا إن سليمان عليه السلام أذن لتلك المرأة في عبادتها تلك الصورة فهذا كفر منه، وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله تعالى سليمان عليه السلام بفعل لم يصدر منه أي : وقد يقال : إنما أوخذ بذلك لكونه كان سبباً في عملها.
قال : فأما أهل التحقيق فقد ذكروا وجوهاً ؛ الأول : أن فتنة سليمان عليه السلام أنه ولد له ابن فقالت : الشياطين إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله، فعلم سليمان عليه السلام ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يثق ولم يتوكل على الله تعالى فاستغفر ربه وتاب.
الثاني : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله تعالى، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله تعالى لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعين » فذلك قوله تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ﴾ ( ص : ٣٤ ).
الثالث : أنه أصابه مرض فصار يجلس على كرسيه وهو مريض فذلك قوله تعالى ﴿ وألقينا على كرسيه جسداً ﴾ وذلك لشدة المرض والعرب تقول في الضعيف : أنه لحم على وضم وجسم بلا روح ﴿ ثم أناب ﴾ أي : رجع إلى حال الصحة أي : وهذا أظهر ما قيل كما قاله البيضاوي.
الرابع : لا يبعد أيضاً أن يقال : إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط وقوع خوف أو وقوع بلاء توقعه من بعض الجهات حتى صار بقوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الخفي على ذلك الكرسي ثم إن الله تعالى أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب، فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة، فإن قيل : لولا تقدم الذنب.
لما ﴿ قال رب اغفر لي ﴾. أجيب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأنه أبداً في مقام هضم النفس وإظهار الندم والخضوع كما قال صلى الله عليه وسلم :«إني لأستغفر الله تعالى في اليوم والليلة سبعين مرة » مع أنه صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى واختلف في قول سليمان عليه السلام ﴿ وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ أي :﴿ فمن يهديه من بعد الله ﴾ ( الجاثية : ٢٣ ) أي : سوى الله فقال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكاً لا تسلبنيه في باقي عمري ﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ وقال مقاتل : إن الشيطان لما استولى على ملكه طلب أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه البتة وقال : من أنكر أن الشيطان لم يستول على ذلك أن ذلك محتمل لوجوه ؛ الأول : أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي.
ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى :﴿ فسخرنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ له الريح تجري بأمره رُخاءً ﴾ أي : حالة كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا تدرك الخيل غدوها شهر ورواحها شهر ﴿ حيث أصاب ﴾ أي : أراد فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته، وقد جعل الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فهي أربعة أشهر.
الثاني : أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل مني إلى غيري.
الثالث : أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية حتى احترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل.
الرابع : سأل ذلك ليكون علامة على قبول توبته حيث أجاب الله تعالى دعاءه ورد عليه ملكه وزاده فيه، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن عفريتاً من الجن أتاني الليلة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه فذكرت دعوة أخي سليمان ﴿ وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ فرددته خاسئاً » فعلم من هذه الأوجه أنه ليس في كلام سليمان عليه السلام ما يشبه الحسد وهو طلب ما لا ينبغي لأحد غيره، وأجاب الزمخشري بأجوبة غير ذلك منها : أن سليمان عليه السلام كان ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما فأراد أن يطلب من ربه معجزة فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلاً على نبوته قاهراً للمبعوث إليهم ثم قال : وعن الحجاج أنه قيل له : إنك حسود، فقال : أحسد مني من قال :﴿ وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ قال : وهذا من جراءته على الله تعالى وشيطنته ومن شيطنته ما حكي عنه طاعتنا أوجب من طاعة الله لأنه شرط في طاعته فقال :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ ( التغابن : ١٦ ) وأطلق في طاعتنا فقال ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ ( النساء : ٥٩ )، فإن قيل : قوله تعالى :﴿ رخاء ﴾ ينافيه قوله تعالى في آية أخرى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة ﴾ ( الأنبياء : ٨١ ) أجيب عن ذلك بوجهين : الأول : أن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصفة إلا أنها لما أمرت بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رخاء. الثاني : أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ حيث ﴾ ظرف لتجري أو لسخرنا.
فائدة : روي أن رجلين خرجا يقصدان رؤبة يسألانه عن معنى : أصاب فقال لهما : أين تصيبان ؟ فعرفا، وقالا : هذا بغيتنا.
قوله تعالى :﴿ والشياطين ﴾ عطف على الريح، وقوله تعالى :﴿ كل بناءٍ ﴾ بدل من الشياطين كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، روي أن سليمان عليه السلام أمر الجان فبنت له اصطخر وكان فيها قرار مملكة الترك قديماً وبنت له الجان أيضاً تدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذين بدمشق على أحد الأقوال، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غمدان وسلحين ويبنون ومدينة صنعاء، وقوله تعالى :﴿ وغواصٍ ﴾ عطف على بناء أي : يغوصون له في البحر يستخرجون اللؤلؤ وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
وقوله تعالى :﴿ وآخرين مقرنين ﴾ أي : مشدودين ﴿ في الأصفاد ﴾ أي : القيود بجمع أيديهم إلى أعناقهم عطف على كل فهو داخل في حكم البدل، فكأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر، فإن قيل : أجسامهم إما أن تكون كثيفة أو لطيفة فإن كانت كثيفة وجب أن يراها صحيح الحاسة وإن كانت لطيفة فلا تقوى على العمل ولا يمكن تقرينها ؟ أجيب : بأن أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى وتقوى على العمل ويمكن تقرينها، أو أن المراد : تمثيل كفهم عن الشرور بالإقتران في الصفد وهو القيد ويسمى به العطاء لأنه يربط المنعم عليه وفرقوا بين فعل الصفد بمعنى القيد وفعله بمعنى العطاء فقالوا : صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد في الخير والشر في ذلك نكتة وهي : أن القيد ضيق فناسبه تقليل حروف فعله والعطاء واسع فناسبه تكثير حروف فعله، والوعد خير وهو خفيف فناسبه تقليل حروفه، والإيعاد شر وهو ثقيل فناسبه تكثير حروفه.
﴿ هذا ﴾ أي : وقلنا هذا الأمر الكبير ﴿ عطاؤنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ فامنن أو أمسك ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أعط من شئت وامنع من شئت، قال المفسرون : أي : لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت، وقال الحسن : ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان عليه السلام فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة، وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين يعني خل من شئت منهم وأمسك من شئت في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه وقوله تعالى ﴿ بغير حساب ﴾ فيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه متعلق بعطاؤنا أي : أعطيناك بغير حساب ولا تقدير وهو دال على كثرة الإعطاء، ثانيها : أنه حال من عطاؤنا أي : في حال كونه غير محاسب عليه لأنه جم كثير يعسر على الحاسب ضبطه، ثالثها : أنه متعلق بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون حالاً من فاعلهما أي : غير محاسب عليه.
ولما ذكر تعالى ما أنعم عليه به في الدنيا أتبعه بما أنعم عليه به في الآخرة بقوله سبحانه وتعالى :﴿ وإن له عندنا ﴾ أي : في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا ﴿ لزلفى ﴾ أي : قربى عظيمة ﴿ وحسن مآب ﴾ وهو الجنة.
القصة الثالثة قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ واذكر عبدنا ﴾ أي : الذي هو أهل للإضافة إلى جنابنا ويبدل منه ﴿ أيوب ﴾ وهو ابن الروم بن عيص بن اسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب عليهما السلام وقوله تعالى :﴿ إذ نادى ربه ﴾ بدل من عبدنا بدل اشتمال وأيوب عطف بيان له وقوله :﴿ إني ﴾ أي : بأني ﴿ مسني الشيطان ﴾ أي : المحترق باللعنة البعيد من الرحمة ﴿ بِنُصبٍ ﴾ أي : بمشقة وضر ﴿ وعذاب ﴾ أي : ألم جيء به على حكاية كلامه الذي نادى بسببه ولو لم يحكه لقيل : إنه مسه لأنه غائب، وقال قتادة رضي الله عنه : النصب في الجسد والعذاب في المال، واختلف العلماء في هذه الآلام والأسقام الحاصلة في جسده على قولين ؛ أحدهما : أنها حصلت بفعل الشيطان، والثاني : أنها حصلت بفعل الله تعالى، والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان وهو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة، أما تقرير القول الأول فهو ما روي أن إبليس لعنه الله سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني، فقال الله تعالى : نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه، فقال : رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله فكان الشيطان يجيئه ويقول له : يا أيوب هلك من مالك كذا وكذا، فيقول أيوب له : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله سبحانه وتعالى، فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عليه وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سنين حتى استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال : إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال ﴿ أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ﴾ فأجاب الله تعالى دعاءه وأوحى إليه أن ﴿ اركض برجلك ﴾ إلى آخر الآية.
وأما تقرير القول الثاني : فإن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه.
الأول : أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندنا من الخيرات والسعادات قد حصل بفعله وحينئذ لا سبيل إلى معرفة من يعطي الحياة والموت والصحة والسقم أهو الله تعالى أم الشيطان.
ثانيها : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ولم لا يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادهم.
ثالثها : أن الله تعالى حكى عن الشيطان أنه قال :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ ( إبراهيم : ٢٢ ) فصرح بأنه لا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان ؟.
أجيب : بأنه إذا كان لابد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحق أن المراد بقوله :﴿ أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ﴾ أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة كاد يلقيه في أنواع العذاب، والقائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا أوجهاً ؛ أولها : أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له مال البتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن خدمتهم، والشيطان كان يذكره النعمة التي كانت عليه والآفات التي حصلت له وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال : مسني الشيطان بنصب وعذاب لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.
ثانيها : أنه لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان ليقنطه مرة ويزلزله ليجزع مرة فخاف من خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال :﴿ أني مسني الشيطان ﴾.
ثالثها : قيل : إن امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب عليه السلام فاتفق لها أنهم لما استخدموها طلبت بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني فعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه فعند ذلك قال :﴿ مسني الشيطان بنصب وعذاب ﴾.
رابعها : روي أنه عليه السلام قال في بعض الأيام : يا رب لقد علمت أني ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيماً ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً، فنودي يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق فأخذ أيوب عليه السلام التراب فوضعه على رأسه وقال : منك يا رب ثم خاف من الخواطر الأولى فقال :﴿ مسني الشيطان بنصب وعذاب ﴾ وذكروا أقوالاً أخر في سبب بلائه، منها : أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه، وقيل : كانت مواشيه ترعى في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يعظه، وقيل : أعجب بكثرة ماله وأعلم أن داود وسليمان عليهما السلام كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنعماء وأيوب عليه السلام كان ممن خصه الله بأنواع البلاء والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر من الأنبياء نعمة ومالاً وجاهاً من داود وسليمان عليهما السلام، وما كان فيهم أكثر بلاء ومحنة من أيوب عليه السلام، فتأمل أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره.
ولما اشتكى أيوب عليه السلام الشيطان وسأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية أجاب الله تعالى له بأن قال له :﴿ اركض ﴾ أي : اضرب ﴿ برجلك ﴾ أي : الأرض فضرب فنبعت عين ماء، فقيل له :﴿ هذا مغتسل باردٌ ﴾ أي : ماء تغتسل منه فيبرأ ظاهرك ﴿ وشراب ﴾ أي : وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه وشرب منه، وأكثر المفسرين قالوا : نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها، وقيل : ضرب الأرض فنبعت له عين ماء فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه.
﴿ ووهبنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ له أهله ﴾ أي : بأن جعلناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، وقيل : وهبنا له مثل أهله والأول هو ظاهر الآية فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة ﴿ ومثلهم معهم ﴾ حتى كان له ضعف ما كان. وقوله تعالى :﴿ رحمة ﴾ أي : نعمة ﴿ منا ﴾ مفعول لأجله أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ﴿ وذكرى ﴾ أي : وتذكيراً بحاله ﴿ لأولي الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول ليعلموا أن من صبر ظفر وأن رحمة الله تعالى واسعة وهو عند القلوب المنكسرة فما بينه وبين الإجابة إلا حسن الإنابة فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره كما قيل :
لكل شيء إذا فارقته عوض وما عن الله إن فارقت من عوض
وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم كما مر.
قوله تعالى :﴿ وخذ بيدك ضغثاً ﴾ معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش والقضبان فيها مائة عود كشمراخ النخلة وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فاضرب به ولا تحنث ﴾ يدل على تقدم يمين منه عليه الصلاة والسلام واختلفوا في سبب حلفه عليها ويبعد ما قيل أنها رغبته في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت ذؤابتيها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب ما روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل : رحمة بنت افراثيم بن يوسف عليه السلام ذهبت لحاجة فأبطأت عليه فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برئ.
ولما كانت حسنة الخدمة جعل الله تعالى يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية في الحدود لما روي أنه صلى الله عليه وسلم :«أتي برجل ضعيف قد زنا بأمة فقال صلى الله عليه وسلم : خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة » ﴿ إنا وجدناه صابراً ﴾ أي : فيما أصابه في النفس والأهل والمال.
فإن قيل : كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ؟ أجيب بأوجه : أحدها : أن شكواه إلى الله تعالى كتمني العافية فلا يسمى جزعاً ولهذا قال يعقوب عليه السلام :﴿ إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله ﴾ ( يوسف : ٨٦ ) وكذلك شكوى العليل وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابراً مع تمني العافية أفلا يعد صابراً مع اللجوء إلى الله تعالى والدعاء بكشف ما به مع التعالج ومشاورة الأطباء. ثانيها : أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما تعاظمت الوساوس على القلب تضرع إلى الله تعالى. ثالثها : أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر، ويروى أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه ثم استأنف قوله تعالى :﴿ نعم العبد ﴾ أي : أيوب عليه السلام ثم علل بقوله تعالى : مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك ﴿ إنه أواب ﴾ أي : رجاع إلى الله تعالى روي : أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ نعم العبد ﴾ في حق سليمان عليه السلام تارة وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن قوله تعالى :﴿ نعم العبد ﴾ تشريف عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب عليه السلام لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله فأنزل الله تعالى قوله سبحانه وتعالى :﴿ نعم المولى ونعم النصير ﴾ ( الأنفال : ٤٠ ) والمراد : أنك أيها الإنسان إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى وإن كان منك غير الفضل فأنا مني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتيسير.
القصة الرابعة : قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ﴾ بن إبراهيم ﴿ ويعقوب ﴾ بن إسحاق ﴿ أولي الأيدي ﴾ أي : أصحاب القوى في العبادة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أولي القوة في طاعة الله تعالى ﴿ والأبصار ﴾ أي : المعرفة بالله أي : البصائر في الدين وأولي الأعمال الجليلة والعقائد الشرعية، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى عبادتها، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله تعالى ولا من المستبصرين في دين الله، وفيه توبيخ أيضاً على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما فهم في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والناقصي العقول الذين لا استبصار لهم، وقال قتادة ومجاهد : أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين، وقرأ ابن كثير بفتح العين وسكون الباء الموحدة ولا ألف بعدها على التوحيد على أنه إبراهيم وحده لمزيد شرفه وإبراهيم عطف بيان وإسحاق ويعقوب عطف على عبدنا والباقون بكسر العين وفتح الموحدة وألف بعدها على الجمع.
﴿ إنا أخلصناهم بخالصةٍ ﴾ أي : اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين بخصلة خالصة لا شوب فيها وهي ﴿ ذكرى الدار ﴾ الآخرة أي : ذكرها والعمل لها لأن مطمح نظرهم الفوز بلقائه وذلك في الآخرة وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار الحقيقة والدنيا معبر، وقرأ نافع وهشام خالصة بغير تنوين بالإضافة للبيان أو أن خالصة مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله والباقون بالتنوين، فمن أضاف فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة وأن يعملوا لها، والذكرى بمعنى : الذكر، قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل، وقال السدي : أخلصوا الخوف للآخرة وقال ابن زيد : أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، ومن قرأ بالتنوين فمعناه : بخلة خالصة هي ذكرى الدار فيكون ذكرى الدار بدلاً من الخالصة أو جعلناهم مخلصين بما أخبرنا من ذكر الآخرة، والمراد بذكرى الدار : الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة، وقيل : إنه أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقيل : هو دعاؤه ﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ ( الشعراء : ٨٤ ).
﴿ وإنهم عندنا لمن المصطفين ﴾ أي : اصطفاء لا يقدح فيه قادح فصاروا في غاية الرسوخ في هذا الوصف ﴿ الأخيار ﴾ أي : المختارين من أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت، واحتج العلماء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء عليهم السلام لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يفهم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء منه.
القصة الخامسة : قصة إسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ واذكر ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ إسماعيل ﴾ أي : أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والإنفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرياسة والذكر في هذه البلدة ﴿ واليسع ﴾ وهو ابن إخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ واللام كما في قوله :
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء بعدها والباقون بسكون اللام وفتح الياء بعدها ﴿ وذا الكفل ﴾ وهو ابن عم اليسع أو بشر بن أيوب واختلف في نبوته وكفلته فقيل : فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم وقيل : كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة ﴿ وكل ﴾ أي : وكلهم ﴿ من الأخيار ﴾ فهم قوم خيرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى وصبروا فاذكرهم يا أفضل الخلق بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم.
ولما أجرى تعالى ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتمه قال مؤكداً لشأنهم وشرف ما ذكر من أعمالهم :﴿ هذا ﴾ أي : ما تلوناه عليك من ذكرهم وذكر غيرهم ﴿ ذكر ﴾ أي : شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر ثم عطف على قوله تعالى :﴿ إن الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد ﴾ ( ص : ٢٦ ) ما لأضدادهم فقال تعالى رداً على من ينكر ذلك من كفار العرب وغيرهم ﴿ وإن للمتقين لحسن مآب ﴾ أي : مرجع.
ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله تعالى :﴿ جنات عدنٍ ﴾ أي : إقامة في سرور وطيب عيش، ثم إنه تعالى وصف أهل الجنة بأشياء أولها قوله تعالى :﴿ مفتحة لهم الأبواب ﴾ أي : أن الملائكة يفتحون لهم أبواب الجنة ويحيونهم بالسلام كما قال تعالى :﴿ حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ﴾ ( الزمر : ٧٣ ) الآية وقيل : المعنى أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم، وقيل : المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسعة وقرة العيون فيها.
قوله تعالى :﴿ متكئين فيها ﴾ وقد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتكاء فقال تعالى في آية :﴿ على الأرائك متكئون ﴾ ( يس : ٥٦ ) وقال في آية أخرى :﴿ متكئين على رفرف خضر ﴾ ( الرحمان : ٧٦ ) ثالثها : قوله تعالى ﴿ يدعون فيها ﴾ أي : الجنات ﴿ بفاكهة كثيرة وشراب ﴾ أي : كثير فيدعون فيها بألوان الفاكهة وألوان الشراب.
ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح تتميماً للنعمة بقوله سبحانه تعالى :﴿ وعندهم قاصرات الطرف ﴾ أي : حابسات الطرف أي : العين على أزواجهن ﴿ أتراب ﴾ أي : أسنانهن واحدة وهي بنات ثلاث وثلاثين سنة واحدها ترب، وعن مجاهد : متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن وقيل : أتراب للأزواج، قال القفال : والسبب في اعتبار هذه الصفة لما تشابهن في الصفة والسن والجبلة كان الميل إليهن على السوية وذلك يقتضي عدم الغيرة.
وقرأ قوله تعالى :﴿ هذا ما يوعدون ﴾ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالفوقية على الخطاب، وجه الغيبة تقدم ذكر المتقين، ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقبال عليهم أي : قل للمتقين هذا ما توعدون ﴿ ليوم الحساب ﴾ أي : في يوم الحساب أو لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء.
﴿ إن هذا ﴾ أي : المشار إليه إشارة الحاضر الذي لا يغيب ﴿ لرزقنا ما له من نفاد ﴾ أي : انقطاع وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب.
تنبيه : من نفاد فاعل ومن مزيدة والجملة في محل نصب على الحال من رزقنا أي : غير نافد ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لأن أي : دائم.
لما وصف تعالى ثواب المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكوراً عقب الوعد والترغيب عقب الترهيب بقوله تعالى :﴿ هذا وإن للطاغين لشر مآب ﴾ أي : مرجع هذا في مقابلة قوله تعالى :﴿ وإن للمتقين لحُسن مآب ﴾ ( ص : ٤٩ ) والمراد بالطاغين الكفار، وقال الجبائي : على مذهبه الفاسد هم أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أم لا واحتج الأول بأن هذا ذم مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان وهو الكافر، واحتج هو بقوله تعالى :﴿ إن الإنسان ليطغى ( ٦ ) أن رآه استغنى ﴾ ( العلق : ٦ ٧ ) فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة لأن من تجاوز حد تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى ورد هذا بأن المراد بالإنسان هنا هو الكافر أيضاً.
تنبيه : هذا يحتمل أن يكون مبتدأ والخبر مقدر أي : كما ذكر، كما قدره الزمخشري، وقدره أبو علي بقوله : هذا للمؤمنين، وقال الجلال المحلي : هذا المذكورة للمؤمنين ويحتمل أن يكون خبر متبدأ مضمر أي : الأمر هذا.
وقوله تعالى :﴿ جهنم ﴾ أي : الشديدة الإضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم فيه إعراب جنات المتقدم، وقوله تعالى :﴿ يصلونها ﴾ أي : يدخلونها فيباشرون شدائدها حال من جهنم ﴿ فبئس المهاد ﴾ أي : المهد والفراش مستعار من فرش النائم، وهذا معنى قوله تعالى ﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواشٍ ﴾ ( الأعراف : ٤١ )، شبه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم، والمخصوص بالذم محذوف أي : هي.
وفي قوله تعالى :﴿ هذا ﴾ أي : العذاب المفهوم مما بعده أوجه من الإعراب : أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر هذا، ثم استأنف أمر فقال :﴿ فليذوقوه ﴾ ثانيها : أنه مبتدأ أو خبره ﴿ حميمٌ وغساقٌ ﴾ واسم الإشارة يكتفي بواحده في المثنى كقوله تعالى :﴿ عوان بين ذلك ﴾ ( البقرة : ٦٨ ) أو يكون المعنى : هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله تعالى :﴿ فليذوقوه ﴾ جملة اعتراضية. ثالثها : أنه مبتدأ والخبر محذوف أي : هذا كما ذكر وهذا للطاغين وقيل غير ذلك، وقيل : هذا على التقديم والتأخير والتقدير : هذا حميم وغساق فليذوقوه وقيل التقدير : جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدئ فيقول : حميم وغساق أي : منه حميم وغساق، والحميم : الحار الذي انتهى حره، والغساق : ما يسيل من صديد أهل النار، وقال كعب : هو عين في جهنم يسيل إليها كل ذوب حية وعقرب، وقال أبو عمرو : هو القيح الذي يسيل من أهل النار فيجتمع فيسقونه، وقال قتادة : هو ما يغسق أي : يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة، وقيل : هو المنتن بلغة الترك، حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة بالمغرب لأنتنت أهل المشرق، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين والباقون بالتخفيف
قرأ أبو عمرو :﴿ وأخر ﴾ بضم الهمزة على جمع أخرى مثل الكبرى والكبر أي : أصناف أخر من العذاب ﴿ من شكله ﴾ أي : مثل المذكور من الحميم والغساق، والباقون بفتح الهمزة ممدودة على التوحيد على أنه لما ذكروا، اختار أبو عبيدة الجمع لأنه تعالى نعته بالجمع فقال سبحانه وتعالى :﴿ أزواج ﴾ أي : أصناف أي : عذابهم من أنواع مختلفة.
ويقال لهم عند دخولهم النار بأتباعهم :﴿ هذا فوج ﴾ أي : جمع كثيف ﴿ مقتحم ﴾ أي : داخل ومفعوله محذوف أي : مقتحم النار ﴿ معكم ﴾ بشدة، فيقول المتبوعون :﴿ لا مرحباً بهم ﴾ أي : لاسعة عليهم أو لا سمعوا مرحباً وقولهم :﴿ إنهم صالو النار ﴾ أي : داخلون النار بأعمالهم مثلنا تعليل لاستجابة الدعاء عليهم ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ كلما دخلت أمة لعنت أختها ﴾ ( الأعراف : ٣٨ ) وقال الكلبي : إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار خوفاً من تلك المقامع.
﴿ قالوا ﴾ أي : الأتباع ﴿ بل أنتم لا مرحباً بكم ﴾ أي : إن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به منا وعللوا ذلك بقولهم ﴿ أنتم قدمتموه ﴾ أي : الكفر ﴿ لنا ﴾ أي : بدأتم به قبلنا وشرعتموه وسننتموه لنا، وقيل : أنتم قدمتم هذا العذاب لنا بدعائكم إيانا إلى الكفر ﴿ فبئس القرار ﴾ أي : النار لنا ولكم.
﴿ قالوا ﴾ أي : الأتباع أيضاً ﴿ ربنا من قدم لنا هذا ﴾ أي : شرعه وسنه لنا ﴿ فزده عذاباً ضعفاً ﴾ أي : مثل عذابه على كفره ﴿ في النار ﴾ قال ابن مسعود : يعني حيات وأفاعي.
﴿ وقالوا ﴾ أي : الطاغون وهم في النار ﴿ ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار ﴾ يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب وصهيب وبلال وسلمان الذين كانوا يسترذلونهم ويسخرون بهم.
وقولهم :﴿ أتخذناهم سخرياً ﴾ صفة أخرى ل ﴿ رجالاً ﴾ أي : كنا نسخر بهم في الدنيا، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها ﴿ أم زاغت ﴾ أي : مالت ﴿ عنهم الأبصار ﴾ أي : فلم نرهم حين دخلوها وقال ابن كيسان : أي : أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئاً.
﴿ إن ذلك ﴾ أي : الذي حكيناه عنهم ﴿ لحق ﴾ أي : واجب وقوعه فلا بد أن يتكلموا به ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم بقوله تعالى :﴿ تخاصم أهل النار ﴾ أي : في النار وإنما سماه تخاصماً لأن قول القادة للأتباع : لا مرحباً بهم، وقول الأتباع للقادة : بل أنتم لا مرحباً بكم من باب الخصومة.
تنبيه : يصح في تخاصم أوجه من الإعراب أحدها : أنه بدل من لحق، الثاني : أنه عطف بيان، الثالث : أنه خبر ثان لأن، الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هو تخاصم.
لما شرح سبحانه نعيم أهل الثواب وعقاب أهل العذاب عاد إلى تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورات أول السورة بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ يا أفضل الخلق للمشركين ﴿ إنما أنا منذرٌ ﴾ أي : مخوف بالنار لمن عصى ﴿ و ﴾ لا بد من الإقرار بأنه ﴿ ما من إله إلا الله ﴾ أي : الجامع لجميع الأسماء الحسنى ﴿ الواحد القهار ﴾ فكونه واحداً يدل على عدم الشريك وكونه قهاراً مشعر بالتخويف والترهيب.
﴿ رب السماوات ﴾ أي : مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع ﴿ والأرض ﴾ أي : على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب ﴿ وما بينهما ﴾ أي : الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها ربى كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب فدل ذلك على قهره وتفرده ﴿ العزيز ﴾ أي : الغالب على أمره ﴿ الغفار ﴾ فكونه رباً يشعر بالتربية والكرم والإحسان والجود وكونه غفاراً يشعر بأن العبد لو أقدم على المعاصي والذنوب ثم تاب إليه فإنه يغفرها برحمته، وهذا الموصوف بهذه الصفات هو الذي تجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى ثوابه.
قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهم ﴿ هو نبأ عظيم ﴾ يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار، وقيل : تخاصم أهل النار، وقيل : على ما تقدم من إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه نذير مبين وبأن الله تعالى إله واحد متصف بتلك الصفات الحسنى.
قوله تعالى :﴿ أنتم عنه معرضون ﴾ صفة لنبأ أي : لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة إما على التوحيد فما مر وإما على النبوة.
فقوله تعالى :﴿ ما كان لي من علم بالملأ الأعلى ﴾ أي : الملائكة فقوله :﴿ بالملأ ﴾ متعلق بقوله ﴿ من علم ﴾ وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدى بالباء ﴿ إذ يختصمون ﴾ أي : في شأن آدم عليه السلام حين قال الله عز وجل :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( البقرة : ٣٠ ) الآية، فإن قيل : الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم :﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ ( البقرة : ٣٠ ) فالمخاصمة مع الله تعالى كفر ؟ أجيب : بأنه لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة.
لما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يذكر هذا الكلام على سبيل الزجر أمره أن يقول :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ يوحي إلي إلا أنما ﴾ أي : أني ﴿ أنا نذير مبين ﴾ أي : بين الإنذار فأبين لكم ما تأتونه وما تجتنبونه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«رأيت ربي في أحسن صورة، قال ابن عباس رضي الله عنه : أحسبه قال في المنام فقال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت : أنت أعلم أي رب مرتين، قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو قال : في نحري فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، وفي رواية ثم تلا هذه الآية ﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ﴾ ( الأنعام : ٧٥ ) ثم قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت : نعم في الدرجات والكفارات، قال : وما هن قلت : المشي على الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء في المكاره، قال : من يفعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال : يا محمد إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون » قال : ومن الدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام، وفي رواية :«فقلت : لبيك وسعديك في المرتين وفيهما فعلمت ما بين المشرق والمغرب » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وللعلماء في هذا الحديث وأمثاله من أحاديث الصفات مذهبان.
أحدهما : مذهب السلف وهو إقراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه مع الاعتقاد بأن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والمذهب الثاني : مذهب الخلف : وهو تأويل الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم : رأيت ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين :
أحدهما : وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالاً وكمالاً وحسناً عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعده لشدة الوحي وثقله.
الثاني : أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى الله تعالى والمعنى : أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال إليه والله تعالى تلقاه بالإكرام والإعظام فأخبر صلى الله عليه وسلم عن عظمته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبهه بالخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله وهو السميع البصير وقوله صلى الله عليه وسلم فوضع يده بين كتفي إلخ فالمراد باليد : النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام الله تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لم يعرفه حتى وجد برد النعمة والرحمة والمعرفة في قلبه، وذلك لما نور قلبه وشرح صدره فعلم ما في السماوات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تبارك وتعالى ولا على صفات ذاته سبحانه مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه، وإذا حملنا الحديث على المنام وإن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال لأن رؤية الباري سبحانه في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي، وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل، وسميت هذه الخصال كفارات ؛ لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه وسمي ذلك مخاصمة لما مر في السؤال والجواب المتقدمين.
قوله تعالى :﴿ إذ ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من إذا الأولى كما قاله الزمخشري، وأن يكون منصوباً باذكر كما قاله أبو البقاء أي : واذكر إذ ﴿ قال ربك للملائكة إني خالق ﴾ أي : جاعل ﴿ بشراً من طين ﴾ هو آدم عليه السلام، فإن قيل : كيف صح أن يقول لهم إني خالق بشراً وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل ؟ أجيب : بأنه قد يكون قال لهم : إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم.
﴿ فإذا سويته ﴾ أي : أتممت خلقه ﴿ ونفخت ﴾ أي : أجريت ﴿ فيه من روحي ﴾ فصار حياً حساساً متنفساً وإضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريف لآدم عليه السلام والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم والماء في العود الأخضر ﴿ فقعوا ﴾ أي : خروا ﴿ له ساجدين ﴾.
﴿ فسجد الملائكة ﴾ وقوله تعالى :﴿ كلهم أجمعون ﴾ فيه تأكيدان، وقال الزمخشري : كل للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرقين في أوقات، انتهى. فإن قيل : كيف ساغ السجود لغير الله ؟ أجيب : بأن الممنوع هو السجود لغير الله تعالى على وجه العبادة فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل إلا أن يكون فيه مفسدة فينهى الله تعالى عنه والأولى في الجواب أنه سجود تحية بالانحناء كما قاله الجلال المحلي.
﴿ إلا إبليس استكبر ﴾ أي : تكبر وتعظم عن السجود، فإن قيل : كيف استثنى من الملائكة عليهم السلام إبليس وهو من الجن ؟ أجيب : بأنه قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله تعالى ﴿ فسجد الملائكة ﴾ ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً وقال الجلال المحلي : هو أبو الجن وكان من الملائكة وعلى هذا فلا سؤال ﴿ وكان ﴾ أي : وصار ﴿ من الكافرين ﴾ باستكباره عن أمر الله تعالى أو كان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله تعالى.
تنبيه : المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً عن هاتين الخصلتين المذمومتين.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ يا إبليس ﴾ سماه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى تحتم العقوبة له ﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله تعالى معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل :﴿ لما خلقت بيدي ﴾ أي : توليت خلقه من غير توسط سبب كأب وأم والتثنية في اليد لما في خلقه من مزيد القدرة، وقوله تعالى :﴿ أستكبرت ﴾ استفهام توبيخ أي : تعظمت بنفسك الآن عن السجود له ﴿ أم كنت من العالين ﴾ أي : من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود له لكونك منهم.
فأجاب إبليس بقوله :﴿ قال أنا خيرٌ منه ﴾ أي : لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيراً منه بقوله :﴿ خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ والنار أشرف من الطين بدليل أن الأجرام الفلكية أفضل من الأجرام العنصرية، والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعد عنه، فوجب كون النار أفضل من الأرض، وأيضاً فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض، وأيضاً فالكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة وإما البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت، وأيضاً فالنار لطيفة والأرض كثيفة واللطافة أفضل من الكثافة، وأيضاً فالنار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة، وأيضاً فالنار خفيفة تشبه الروح والأرض كثيفة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض.
والدليل على أن الأرض أفضل من النار إنها أمينة مصلحة فإذا أودعتها حبّة ردتها إليك شجرة مثمرة، والنار خائنة مفسدة لكل ما سلمته إليها، وأيضاً فالنار بمنزلة الخادم لما في الأرض إن احتيج إليها استدعيت استدعاء الخادم وإن استغني عنها طردت، وأيضاً فالأرض مستولية على النار لأنها تطفئ النار، وأيضاً فإن استدلال إبليس يكون أصله خيراً من أصله استدلال فاسد لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد، وأيضاً هب أن اعتبار هذه الجهة توجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يعارض بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه إلا أن الذي لا يكون نسيباً قد يكون كثير العلم والزهد فيكون أفضل من النسيب بدرجات لا حد لها فكذبت مقدمة إبليس، فإن قيل : هب أن إبليس أخطأ في القياس لكن كيف لزمه الكفر في تلك المخالفة وتقرير السؤال من وجوه ؛ الأول : أن قوله تعالى :﴿ اسجدوا ﴾ أمر وهو يحتمل الوجوب والندب فكيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر، الثاني : هب أنه للوجوب وقلتم إن إبليس ليس من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود لآدم لا يدخل فيه إبليس، الثالث : هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس. الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر ؟ أجيب : بأن صيغة الأمر وإن لم يدل على الوجوب يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل عليه وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى :﴿ أستكبرت أم كنت من العالين ﴾ ( ص : ٧٥ ) فعلم بذلك أن الأمر للوجوب وأنه مخاطب بالسجود فلما أتى بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر القياس ليتوصل به إلى القدح في أمر الله تعالى وتكليفه وذلك يوجب الكفر.
لما ذكر إبليس لعنه الله تعالى هذا القياس الفاسد ﴿ قال ﴾ الله تعالى له :﴿ فاخرج ﴾ أي : بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه إلى الجور ﴿ منها ﴾ أي : من الجنة، وقيل : من الخلقة التي أنت فيها لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعدما كان أبيض وقبح بعدما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً، وقيل : من السماوات. ﴿ فإنك رجيم ﴾ أي : مطرود لأن من طرد رمي بالحجارة فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد.
فإن قيل : الطرد هو : اللعن فيكون قوله تعالى :﴿ وإن عليك لعنتي ﴾ مكرراً أجيب : بحمل الطرد على ما تقدم وتحمل اللعنة على الطرد من رحمة الله تعالى وأيضاً قوله تعالى :﴿ وإن عليك لعنتي ﴾ ﴿ إلى يوم الدين ﴾ أي : الجزاء أفاد أمراً وهو طرده إلى يوم القيامة فلا يكون تكراراً وقيل : المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب، فإن قيل : كلمة إلى لانتهاء الغاية فكأن لعنة الله إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع، أجيب : بأنها كيف تنقطع وقد قال تعالى :﴿ فأذّن مؤذّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ﴾ ( الأعراف : ٤٤ ) فأفاد أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة اقترن عليه مع اللعنة من العذاب ما تنسى عنده اللعنة فكأنها انقطعت.
تنبيه : قال تعالى هنا ﴿ لعنتي ﴾ وفي آية أخرى ﴿ اللعنة ﴾ وهما وإن كانا في اللفظ عاماً وخاصاً إلا أنهما من حيث المعنى عامان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله تعالى كانت عليه لعنة كل أحد لا محالة، وقال تعالى :﴿ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴾ ( البقرة : ١٦١ ).
لما صار إبليس ملعوناً مطروداً :﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ أي : الناس طلب الإنظار إلى يوم البعث لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أنظر ليوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فلذلك :﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ فإنك من المنظرين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٩:لما صار إبليس ملعوناً مطروداً :﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ أي : الناس طلب الإنظار إلى يوم البعث لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أنظر ليوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فلذلك :﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ فإنك من المنظرين ﴾.
﴿ إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ أي : وقت النفخة الأولى فيموت فيها فلم يجبه إلى دعائه كما قال تعالى :﴿ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾ ( الرعد : ١٤ ) ومعنى المعلوم : أنه معلوم عند الله تعالى معين لا يتقدم ولا يتأخر فلما أنظره الله تعالى إلى ذلك الوقت.
﴿ قال فبعزّتك ﴾ أقسم بعزة الله تعالى وهي قهره وسلطانه ﴿ لأغوينهم أجمعين ﴾.
ثم استثنى من ذلك ما ذكره الله بقوله :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ أي : الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم من إضلاله أو أخلصوا قلوبهم على اختلاف القراءتين فإن نافعاً والكوفيين قرؤوا بفتح اللام بعد الخاء والباقون بالكسر.
تنبيه : قيل إن غرض إبليس من هذا الاستثناء أنه لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله تعالى المخلصين وعند هذا يقال : إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فليس يليق بالمسلم وهذا يدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله تعالى المخلصين، وقد قال تعالى في صفة يوسف عليه السلام ﴿ إنه من عبادنا المخلصين ﴾ ( يوسف : ٢٤ ) فتحصل من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسف عليه السلام وما نسب إليه من القبائح كذب وافتراء.
ولما قال إبليس ذلك :﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ فالحقُّ ﴾ أي : فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق ﴿ والحقَّ أقول ﴾ أي : لا أقول إلا الحق فإن كل شيء قلته ثبت فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، والباقون بنصبهما فنصب الثاني بالفعل بعده ونصب الأول بالفعل المذكور، أو على الإغراء أي : الزموا الحق، أو على المصدر أي : أحق الحق، أو على نزع حرف القسم ورفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي : فالحق مني أو فالحق قسمي وجواب القسم.
﴿ لأملأن جهنم منك ﴾ أي : بنفسك وذريتك ﴿ وممن تبعك منهم ﴾ أي : من الناس، وقوله تعالى :﴿ أجمعين ﴾ فيه وجهان أظهرهما أنه توكيد للضمير في منك ولمن عطف عليه في قوله تعالى :﴿ وممن تبعك ﴾ والمعنى : لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحداً، وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في منهم خاصة فقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لقومك ﴿ ما أسألكم عليه ﴾ أي : على تبليغ الرسالة أو القرآن ﴿ من أجر ﴾ أي : جعل ﴿ وما أنا من المتكلفين ﴾ أي : المتصفين بما لست من أهله على ما عرفتم من حالي فانتحل النبوة وأتقوّل القرآن وكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه فهو متكلف له، وعن مسروق قال : دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال : يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول من لا يعلم : الله أعلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ﴾ وقيل المعنى : إن هذا الذي أدعوكم إليه ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هو ﴾ أي : القرآن ﴿ إلا ذكر ﴾ أي : عظة وشرف ﴿ للعالمين ﴾ أي : للخلق أجمعين.
﴿ ولتعلمن ﴾ جواب قسم مقدر ومعناه لتعرفن يا كفار مكة ﴿ نبأه ﴾ أي : خبر صدقه وهو ما فيه من الوعد والوعيد أو صدقه بإتيان ذلك ﴿ بعد حين ﴾ قال ابن عباس وقتادة : بعد الموت، وقال عكرمة : يوم القيامة، وقال الحسن : ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله تعالى لداود عشر حسنات وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير » حديث موضوع.
Icon