تفسير سورة ص

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة ص من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة ص مكية

سُورَةُ (ص)
مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (ص) لنا هو اسم تلك السورة التي ذكر، وكذلك قوله: (ق وَالْقُرْآنِ) وكذلك جميع الحروف المقطعات، ولله أن يسمي ما شاء بما شاء وبأي اسم شاء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ لنا: هو أسماء الرب، تبارك وتعالى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ لنا: هو فواتح السورة، وقد ذكرنا أنه يفسره ما ذكر على أثره، وقد ذكرنا في غير موضع ما قيل في الحروف المقطعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: صاد، أي: عارض بالقرآن.
قال أبو عبيدة: صاد: من المصاداة.
وقال الزجاج: صاد بالقرآن، أي: قاتل به، وحارب بالقرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: صاد بالقرآن، أي: ناد بالقرآن.
وقيل: أقبل بالقرآن ونحوه، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو قسم أقسم بقوله: (وَالْقُرْآنِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي الذِّكْرِ).
يحتمل ذي الشرف، سماه: ذكرا؛ لأن كل شريف يذكر في كل ملأ من الخلق، أو سماه: ذكرًا؛ لما يذكرهم كل ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يذر، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذي البيان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢)
قوله تعالى :﴿ بل الذين كفروا في عزة وشقاق ﴾ : ذكر أن أبا طالب كان مريضا، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل، فجلس فيه، وعنده ملأ من قريش، فشكوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب، فقال : يا ابن أخي ما تريد منهم ؟ قال : يا عم إني أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، ويؤدي إليهم بها العجم الجزية. قال : وما هي ؟ قال : لا إله إلا الله. فقال أبو جهل : أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ " [ أحمد ١/٢٢٧ ]. فتلك العزة التي ذكر :﴿ بل الذين كفروا في عزة وشقاق ﴾.
وقوله عز وجل :﴿ في عزة وشقاق ﴾ قال بعضهم : منعة معاندين ممتنعين. وقال بعضهم :﴿ في عزة ﴾ في حمية واعتزاز، والحمية هي التي تحمل على الخلاف والمعصية، والله أعلم.
ذكر أن أبا طالب كان مريضًا فجاءه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعوده وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل، فجلس فيه وعنده ملأ من قريش، فشكوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أبي طالب، فقالوا: إنه يقع في آلهتنا، قال: يا ابن أخي، ما تريد منهم؟ قال: " يا عم، إني أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية "، قال: وما هي؟ قال: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فقال أبو جهل: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا، بذلك أخبرهم " العزة " التي ذكر حيث قال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ).
وقوله: (فِي عِزَّةٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: منعة معاندين ممتنعين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِي عِزَّةٍ) في حمية واعتزاز، والحمية هي التي تحمل على الخلاف والمعصية، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في موضع القسم هاهنا:
قَالَ بَعْضُهُمْ: القسم في قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣) قيل: في قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) بوجهين:
أحدهما: أن هذا في كل كافر ومشرك ينادي عند موته وهلاكه، ويسأل ربه الرجوع والعود إلى الدنيا ليؤمن؛ كقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا...)، (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الآية، ونحوه، لكن لم ينفع ذلك النداء والغوث والسؤال التأخير على ما أخبر أنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ومنهم من يقول: هذا في الجملة في الأمم التي أهلكت من قبل واستؤصلت بالتكذيب والعناد، كانوا ينادون عند نزول ذلك بهم ووقوعه عليهم، ويسألون الغوث ويظهرون الإيمان؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأنه إيمان دفع العذاب واضطرار لا إيمان اختيار، يخوف بهذا أهل مكة أن ينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ ويندمون على
صنيعهم كما ندم أُولَئِكَ، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) وهو في الأصل (ولاه)، فإذا وصل بـ (حين) صارت (ولات) كأنه يمين، أي: واللَّه، وهو قول الكسائي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو (ولا) وليس هنالك تاء وإنما التاء في (حين)، أي: (تحين)، وربما يزاد التاء في (حين) و (لا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ولات) بالتاء، وقد قرئ بالتاء والوقف عليها.
وقوله: (حِينَ مَنَاصٍ) ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: " ليس بحين تزور ولا فرار ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس بحين مغاث.
وقيل: ليس بحين جزع، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ (٤)]
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي: من بشر مثلهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)، وقولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، كانوا ينكرون الرسالة في البشر ويقولون: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ).
والثاني: [(وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)] أي: من دونهم في أمر الدنيا، لما رأوا أنفسهم قد فضلوا في أمر الدنيا دونه، فقالوا: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، وقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، لم يروا من دونهم في أمر الدنيا أهلًا لذلك على ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ).
دل هذا القول منهم: أنه قد كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه معجزة أتى بها حتى قالوا: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، علموا أنه رسول اللَّه، لكنهم عاندوا وأرادوا بقولهم: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) وأن [يغروا] أتباعهم عليه، كما [أغرى] فرعون قومه على موسى - عليه السلام - حيث قال: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، وهو - عليه السلام - لم يرد أن
يخرجهم من أرضهم، إنما يريد الإسلام منهم؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الرؤساء عرفوا أنه ليس بساحر ولكنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن أرادوا أن [يغروا] قومهم وأتباعهم عليه ولبسوا أمره عليهم؛ لئلا يتبعوه، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) هذا القول من الرؤساء والمتبوعين منهم [إغراء] عليه لما عرفوا من خبر عبادة الأصنام والأوثان في قلوبهم، فقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ (٦) اختلف في قوله: (أَنِ امْشُوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الملأ منهم والأتباع، أتوا أبا طالب يشكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يذكر آلهتهم بسوء، فلما كلموه في ذلك لم يلتئم أمرهم فيما طمعوا منه ولم يجبهم إلى ما دعوه إليه وسألوه، فقال الملأ وهم أشرافهم للأتباع: امشوا من عنده واصبروا على عبادة آلهتكم.
أو أن يقال: أن قال الملأ للأتباع: (أَنِ امْشُوا) إلى آلهتكم (وَاصْبِرُوا) على عبادتها.
أو أن يكون قولهم لهم: (أَنِ امْشُوا) إلى أبي طالب وقولوا له كذا (وَاصْبِرُوا) على كذا.
أو يقولون: امشوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ).
لسنا ندري ما أرادوا بقولهم: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)، فجائز أن يكونوا أرادوا بذلك أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإن دعاكم إلى ترك عبادة الأصنام لا يترككم كذلك، ولكن يدعوكم إلى عبادة غيرها، أو يطلب منكم أشياء أحوالا، أو أشياء أرادوا لسنا نعرف ما أرادوا بذلك، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧)
قَالَ بَعْضُهُمْ: الملة الآخرة: هي ملة عيسى - عليه السلام - قالوا ذلك؛ لأن النصارى اختلفوا في عيسى - عليه السلام - منهم من اتخذه إلهًا، ومنهم من اتخذه ولدًا لله - عَزَّ وَجَلَّ - فيقولون: عبادة الواحد الذي يدعو إليه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الملة الآخرة وهي النصرانية إذ من صيره إلها عنده ومن قال: إنه صيره بحيث يحتمل الشريك؟! فيقولون: ظهرت عبادة العدد في الملة الآخرة فكيف يمنعنا مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - عن عبادة العدد ويدعونا إلى عبادة الواحد؟!
قوله تعالى :﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ ﴾ :
اختلف في قوله :﴿ أن امشوا ﴾ : قال بعضهم : إن الملأ والأتباع أتوا أبا طالب يشكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يذكر آلهتهم بسوء. فلما كلموه في ذلك لم يلتم أمرهم في ما طمعوا منه، ولم يجبهم إلى ما دعوه إليه، وسألوه، فقال الملأ، وهم أشرافهم للأتباع : امشوا من عنده، واصبروا على عبادة آلهتكم.
ويحتمل أن يقال : إن الملأ قال للأتباع : أن امشوا إلى آلهتكم من عنده، واصبروا على عبادتها، أو أن يكون قولهم لهم : أن أمشوا إلى أبي طالب، وقولوا له : كذا، واصبروا على كذا، أو أن يقولوا : أن امشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إن هذا لشيء يراد ﴾ : لسنا ندري ما أرادوا بقولهم :﴿ إن هذا لشيء يراد ﴾ : فجائز أن يكونوا أرادوا بذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم وإن دعاكم إلى ترك عبادة الأصنام لا يترككم كذلك، ولكن يدعوكم إلى عبادة غيرها، أو يطلب منكم أحوالا أو أشياء أراد، ولسنا نعرف ذلك : ما أرادوا بذلك، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْأخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴾ : قال بعضهم : الملة الآخرة، هي ملة عيسى عليه السلام قالوا ذلك لأن النصارى اختلفوا في عيسى عليه السلام.
منهم من اتخذه إلها، ومنهم من اتخذه ولدا لله عز وجل فيقولون : عبادة الواحد الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم في الملة الآخرة، وهي النصرانية ؛ إذ من صيره إلها ومن قال : إنه ولده صيره بحيث يحتمل الشريك. فيقولون : ظهرت عبادة العدد في الملة الآخرة، فكيف يمنعنا محمد صلى الله عليه وسلم عن عبادة العدد، ويدعونا إلى عبادة الواحد ؟
فقال بعضهم في قوله :﴿ في الملة الآخرة ﴾ هي الحال التي كانوا عليها ؛ يقولون :﴿ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ﴾ التي نحن عليها، وكان آباؤنا عليها لا على عبادة الواحد، يقولون :﴿ إن هذا إلا اختلاق ﴾ من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ): هي الحال التي كانوا عليها يقولون: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) التي نحن عليها وكان آباؤنا عليها لا على عبادة الواحد، يقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) من عند مُحَمَّد - ﷺ -.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨)
يدل على أنهم قد رأوا أن من أنزل عليه الذكر من السماء إنما ينزل لفضل وخصوصية، لكن إنما رأوا الفضل والخصوصية لأنفسهم؛ لما لهم الفضل في الدنيا؛ فلم يروا ذلك لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لذلك أنكروا إنزال الذكر عليه دونهم؛ ولذلك قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقوله: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا).
ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم شاكون في ذكره، حيث قال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي).
وتأويل هذا - واللَّه أعلم -: أن الشك هو الذي لا يوجب القطع على شيء بل يوجب الوقف فبطل القطع على شيء، فكيف قطعتم علي الرد والإنكار دون أن تقفوا فيه؟! والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ).
ثم يحتمل أن يكون هذا على الإخبار عن الإياس من إيمانهم أنهم لا يؤمنون حتى، يذوقوا العذاب؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
وقال مقاتل: اللام زائدة كأنه قال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) يذكر سفههم في ردهم الذكر وتكذيبهم إياه على الشك منهم، والشك يوجب الوقف في الشيء لا القطع في الرد والتكذيب له.
ثم فيه الدلالة على أن الحجج والبراهين قد تلزم من جهلها ولم تتحقق عنده إذا كانت يسهل التحقق منها والوقوف عليها بالتأمل والنظر فيها وإن كانت لم تتحقق عنده بالبديهة وعند قرعها سمعه؛ فهو حجة لقول علمائنا: إن من أسلم في دار الإسلام ولم يعلم أن عليه الشرائع والأحكام كان مأخوذاً بها غير معذور في جهله فيها؛ لأنها يسهل ما يوصل إليها بالسؤال والبحث عنها والفحص منها، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (١٤) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا
قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ...).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف الاستفهام من اللَّه تعالى يخرج على الإيجاب والإلزام مما لو كان ذلك من مستفهم حقيقة يتضمن الجواب له، فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) جواب لقولهم: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) فجوابه لهم ليس عندهم رحمة ربك حتى يختاروا الرسالة والنبوة لأنفسهم أو لمن شاءوا هم؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، كانوا لا يرون وضع الرسالة إلا [فيمن] كانت له أموال وله سعة في الدنيا وفضل مال، فيذكر أن ليس عندهم خزائن ربك حتى يجعلوا الرسالة والنبوة فيمن شاءوا هم واختاروا لذلك، قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)، أي: لا يملكون قسمة رحمة ربك، بل (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) الآية، يخبر أنهم على ما لا يملكون توسيع المعيشة على من ضيق عليه ورفع من وضع؛ فعلى ذلك ليس إليهم اختيار النبوة والرسالة لمن شاءوا واختاروا، بل اختيار ذلك إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فقالوا: أئذا كنا أحق بهذا في الدنيا فنحن أيضًا أحق بالرسالة والنبوة على ما نحن أحق في الدنيا بالسعة والفضل فيها، بل لو عرفوا أن ما نالوا من السعة في الدنيا وفضل الأموال إنما نالوا ذلك برحمة الله وفضله لا بحق كان لهم على اللَّه، فلو عرفوا، كانوا لا ينكرون وضع الرسالة فيمن اختار اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وضعها فيمن شاء، وعلى ذلك قول المعتزلة: إنهم لا يريدون لله أن يفعل بأحد شيئًا إلا ما هو أصلح له في الدِّين، وأنه لو فعل ما ليس بأصلح له في الدِّين، كان جائرًا ظالمًا، فيرون حفظ الأصلح له حقًّا كما رأى أُولَئِكَ الكفرة السعة والأموال حقا على اللَّه، فرأوا أنفسهم أحق أيضاً بالرسالة والنبوة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثم إن المعتزلة يقولون في ألم الصغار: إن ليس لله أن يؤلمهم إلا بعوض يجعل لهم بإزاء ذلك الألم عوضاً يرضون هم بذلك؛ إذ جعلوا أنفسهم له حقيقة حيث لم يجعلوا لله الإيلام إلا بالعوض، ومن أخذ حقًّا لغير لا يأخذه إلا ببدل وعوض برضاء ذلك الغير، فهذا تناقض في قولهم: إن على اللَّه حفظ الأصلح للخلق في دينهم حيث لم يجعلوا له ذلك إلا بعوض يجعل لهم، واللَّه أعلم.
ودل اتفاق القول: إنه وهاب، على أن ما ينال من خير أو سعة أو فضل إنما ينال برحمة وفضل لا بحق عليه؛ لأن من أدى حقا عليه لا يقال: إنه وهاب، ولا يسمى: وهابًا، على ما أعطى من أعطى، إنما أعطاه تفضلا منه ورحمة لا حقًّا كان عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (١٠)
هو مثل الأول، أي: لهم ملك السماوات والأرض؛ ليملكوا ما شاءوا من الأمور ويختاروا وضع الرسالة فيمن شاءوا هم، أي: ليس لهم ملك السماوات والأرض؛ فيملكوا ما يذكرون ويختارون ما قالوا، بل نملك ذلك، وإلينا ذلك، فعند ذلك يقال: (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ).
ثم اختلف في الأسباب التي ذكر: قَالَ بَعْضُهُمْ: السبب ما بين السماء والأرض، وكذلك ما بين كل سماءين سبب، والأسباب جماعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأسباب: طرق السماء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الأبواب التي في السماء تفتح للوحي.
ومعناه - واللَّه أعلم - أي: فليرتقوا في الأسباب إن كانوا صادقين بأن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كذاب، وأنه ساحر، وأنه اختلقه من تلقاء نفسه، أي: يفتح له أبواب السماء فليستمعوا إلى الوحي حتى يوحي اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لقولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ).
أو أن يكون معناه - واللَّه أعلم -: أن يرتقوا إلى ملك فينزل فيخبر أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كاذب فيما يدعى لقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (١١)
قَالَ بَعْضُهُمْ: حرف (مَا هُنَالِكَ) صلة كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: جند بل هنالك مهزوم من الأحزاب.
وجائز أن يكون على تحقيق (مَا) فيه، أي: جند ما يهزم هنالك من الأحزاب، لا كل الأجناد، وهو الجند الذين خرجوا عليه بالمباهلة، وهم الذين قالوا: اللهم انصر أينا أوصل رحما وأنفع مالا وأخير للخلق فغلبوا هم وقهروا.
وقال عامة أهل التأويل: هو الجند الذي قتل ببدر، واللَّه أعلم.
ثم في الآية وجوه ثلاثة من الدلالة:
قوله تعالى :﴿ جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ﴾ قال بعضهم : حرف ما صلة كأنه قال عز وجل : مهزوم من الأحزاب. وقال بعضهم : جند بل هنالك مهزوم من الأحزاب. وجائز أن يكون على تحقيق ما فيه، أي جند ما يهزم هنالك من الأحزاب لا كل الأجناد، وهو الجند الذين خرجوا عليه بالمباهلة، وهم الذين قالوا : اللهم انصر أينا أوصل رحما وأنفع مالا وأخير للخلق. فغلبوا هم، وقهروا. وقال عامة أهل التأويل : هو الجند الذين قتلوا ببدر، والله أعلم.
ثم في الآية وجوه ثلاثة من الدلالة : أحدها : الأمن له من أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الآحاد والإفراد كقوله عز وجل :﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ [ هود : ٥٥ ]. والثاني : الأمن له من أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الجمع والاجتماع له كقوله عز وجل :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ]. والثالث : البشارة له أنهم يهزمون في ضعفه وقلة أعوانه وأنصاره مع كثرة هؤلاء وعدتهم.
ففي الوجوه الثلاثة التي ذكرنا دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم حين أخبر بما ذكر، فكان على ما أخبر. دل أنه بالله تعالى عرف ذلك صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ﴾ : حين تخربوا عليها قال بعضهم : إنه ساحر، وقال بعضهم : إنه كذاب، وإنه مفتر، وإنه مجنون على ما تحزبوا عليه، وتفرقت قلوبهم فيه، وتلونت، والله أعلم.
أحدها: الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الآحاد والأفراد؛ كقوله - عز وجل -: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ).
وفيه الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الجمع والاجتماع عليه؛ كقوله - عز وجل -: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم يهزمون جميعًا.
وفيه بشارة له أنهم يهزمون في ضعفه وقلة أعوانه وأنصاره مع كثرة أُولَئِكَ وعدتهم.
ففي الوجوه الثلاثة التي ذكرنا دلالة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث أخبر بما ذكر؛ فكان على ما أخبر دل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - باللَّه تعالى عرف ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ).
حين تحزبوا عليه قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه ساحر، وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كذاب، وإنه مفتر، وإنه مجنون على ما تحزبوا عليه، وتفرقت قلوبهم فيه وتلونت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢)...) إلى قوله: (أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (١٣) أي: الفرق.
وقوله: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (١٤)
يذكر هَؤُلَاءِ الأحزاب الذين كادوا لرسول اللَّه، ويخبرهم عن صنيعهم ومعاملتهم الرسل لوجهين:
أحدهما: كيفية معاملة الرسل - عليهم السلام - أُولَئِكَ الكفرة مع تكذيبهم إياهم وسوء معاملتهم وصنيعهم مع الرسل وأنواع البلايا التي كانت منهم إليهم أن كيف عاملوهم وصبروا على أذاهم؛ ليعامل هو قومه مثل معاملتهم قومهم، ويصبر على أذاهم كما صبر أُولَئِكَ على أذى قومهم، مثل معاملتهم فومهم وسوء صنيعهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
والثاني: يذكر هذا لأهل مكة ويحذرهم ما نزل بالأمم المتقدمة بتكذيبهم الرسل وعنادهم وتمردهم معهم؛ ليحذروا تكذيبهم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وألا يعاملوه كما عامل أُولَئِكَ رسلهم، فينزل بهم كما نزل بأُولَئِكَ من العذاب والإهلاك، واللَّه أعلم.
(فَحَقَّ عِقَابِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وجب عليهم عقاب، لكن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَقَّ عِقَابِ) أي: نزل بهم العقاب ووقع عليهم، وإلا كان العذاب واجبًا على الكفار.
﴿ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ﴾ أي : الفرق.
قوله تعالى :﴿ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ : يذكر هؤلاء الأحزاب الذين كادوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرهم عن صنيعهم ومعاملتهم الرسل لوجهين :
أحدهما : كيفية معاملة الرسل عليهم السلام أولئك الكفرة مع تكذيبهم إياهم وسوء معاملتهم وصنيعهم مع الرسل وأنواع البلايا التي كانت منهم إليهم ؛ كيف عاملوهم، وصبروا على أذاهم ليعامل هو قومه مثل معاملتهم قومهم، ويصبر على أذاهم كما صبر أولئك على أذى قومهم كقوله :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
والثاني : يذكر هذا لأهل مكة، ويحذرهم ما نزل بالأمم المتقدمة بتكذيبهم الرسل وعنادهم وتمردهم معهم، ليحذروا تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وألا يعاملوه كما عامل أولئك رسلهم عليهم السلام فينزل بهم كما نزل بأولئك من العذاب والإهلاك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فحق عقاب ﴾ قال بعضهم : أي وجب عليهم عقابي. لكن قوله عز وجل :﴿ فحق عقاب ﴾ أي نزل بهم العذاب، ووقع عليهم، وإلا كان العذاب واجبا على الكفرة فلا معنى لتخصيصهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ)].
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن فرعون كان إذا غضب على أحد من قومه مده بأوتاد فيعاقبه بها ويعذبه، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: [(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ)]، أي: ذي البناء المحكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت له أوتاد وأرسان، أي: جبال وتلاعيب يلاعبون بها، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥)
يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويؤيسه عن إيمانهم أنهم لا يؤمنون إلا عند وقوع العذاب بهم حتى لا ينفعهم الإيمان؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) يحتمل أن يكون سمى نفس العذاب: صيحة.
وجائز أن يكون ذكر صيحة؛ لما أن العذاب إذا نزل بهم ووقع عليهم يصيحون، فسمى ذلك: صيحة؛ لصياحهم.
أو أن يكون ذلك إذا نزل بهم كان فيه صياح، وصوت الشيء الهائل العظيم الشديد إذا هو وقع ومال إلى الأرض، كان فيه صياح وصوت حتى يفزع الناس منه؛ فعلى ذلك الصيحة التي ذكر يحتمل ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ).
قال أبو عبيدة: من فتحها أراد: ما لها من راحة ولا إقامة، كأنه ذهب إلى إفاقة المريض من علته.
ومن ضمها جعلها من فُواق الناقة وهو ما بين الحلبتين، ويريد (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ): انتظار ومكث.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ)، أي: من انقطاع؛ إذ هي دائمة أبدًا لا تنقطع به.
وقال الكسائي: الفَواق: بالنصب والرفع لغتان، وهو من فواق الناقة بين الحلبتين
605
والرضعتين.
وقال عامة أهل التأويل: (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ)، أي: من مرد ومرجع وقرار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مد البصر، يقول: هي أقرب من ذلك، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، واللَّه أعلم.
وأصل الفواق: كأنه من العود والرجوع كعود اللبن إلى الضرع بعد ما حلب مرة، والله أعلم.
ذكر عن الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) يقول: حارث القرآن بقلبك وهو من قول العرب: صادته الدابة إذا كانت امتنعت فأطعمها حتى ذلت ولانت.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ص): هو أشد كلام وهو شبه قسم، والصاد في غير هذا الموضع العطشان، وقوم صادون.
ثم اختلف في موضع القسم على ما ذكر: قال الكسائي: من القسم في القرآن ما هو ظاهر لا يخفى، ومنه غامض:
فمن ظاهره قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)، وجوابه قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).
ومن غامضه: (ص) قال بعض الناس: موضع قسمه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)، واللَّه أعلم.
لا أراه شيئًا لحال الكلام ولما قص من القصص ما لا يكون ذلك قسمه.
ولكن قسمه - واللَّه أعلم - عندي: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)، ثم اعترض: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنَا) القسم هاهنا بـ (كَمْ أَهْلَكْنَا)، ولكن لما اعترض: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) صار قوله ردا عليه وجوابًا له؛ وهو غريب ظريف غامض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي الذِّكْرِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذي الشرف، أي: من أوتيه شرف، وقيل: ذي الشأن، وقيل: ذي الذكر، فيه ذكر ما يؤتى وما يتقى، وذكر من كان قبله من الأمم الخالية.
606
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ).
قيل: في تكبر وتكذيب، وقيل: في حمية وخلاف، وقيل: في غفلة، ونحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: هربهم في غير وقت الهرب، و (مَنَاصٍ): مهرب، وناص ينوص نوصًا: وهو المنجى والغوث.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) أي: لا حين هرب؛ على ما قال أَبُو عَوْسَجَةَ، وقال: النوص: التأخر في الكلام، والنوص: المتقدم، وأصله ما ذكرنا: أن ذلك الوقت ليس هو وقت المهرب، ولا وقت المنجى ولا وقت الغوث على ما تقدم ذكره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (عُجَابٌ) بلغة قوم: عجب.
وقال الكسائي: العُجَاب والعِجَاب والعجيب والعجب كلها لغات واحدة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (عُجَابٌ) هو يكثر للعجب كما يقال: كبار وكبار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ).
أي: الأشراف منهم، وقالوا: للأتباع على ما ذكرنا (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ)، قال بعضهم: قوله: (أَنِ امْشُوا) إلى أبي طالب واثبتوا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هَذَا): قال بعضهم: بقبول إسلام وذلك كان حين أسلم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بشيء أي لأمر يراد، فمشوا إلى أبي طالب، وقالوا له ما ذكرنا فيما تقدم والقصة طويلة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَنِ امْشُوا) أي: امضوا وارجعوا إلى عبادة آلهتكم واصبروا عليها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنِ امْشُوا) من عند مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واصبروا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) يا أهل مكة، واللَّه أعلم.
وقوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ).
يعنون: عبادة إله واحد وترك عبادة آلهة في الملة الآخرة.
قال عامة أهل التأويل): (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ): النصرانية واليهودية كليهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعنون (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) الملة التي هم عليها، وآثارهم، يقولون: ما سمعنا عبادة إله واحد وترك عبادة الآلهة في الدِّين الذي نحن وآباؤنا عليه (إِنْ هَذَا) أي: ما هذا (إِلَّا اخْتِلَاقٌ) من نفسه، وقالوا: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) يعنون: النبوة
607
والكتاب والوحي، وهو أفقرنا وأصغرنا ونحن أكثر سنا وأعظم شرفًا، يقول اللَّه - عز وجل -: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) بأنه لم ينزل عليه (لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ)؛ وهو قول مقاتل، ثم قال: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ)، أي: يحتمل نعمة ربك، أي: بأيديهم مفاتيح الرحمة والنبوة والرسالة فيضعونها حيث شاءوا، أي: ليست تلك بأيديهم ولكنها بيد اللَّه، العزيز في ملكه الوهاب يهب النبوة والرسالة لمن يشاء ويضعها فيمن يشاء.
ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، أي: ليس لهم ذلك، ولكن - عَزَّ وَجَلَّ - يوحي الرسالة إلى من يشاء ويختار لها من يشاء.
ثم قال: (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ)، أي: الأبواب التي في السماء إن كانوا صادقين بأن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختلقه من تلقاء نفسه، أي: فليستمعوا إلى الوحي حين يوحي اللَّه إلى النبي مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقول أُولَئِكَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: السبب: ما بين السماء والأرض أصلب من الحديد وأدق من الشعر يعرج به الملائكة وهو المعراج يبصره الميت إذا خرجت روحه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلْيَرْتَقُوا) أي: فليصعدوا في طرقها؛ فيعلموا علم ذلك أنزل عليه الذكر أو لم ينزل؟ واللَّه أعلم. والارتقاء: الصعود.
أو أن يقول: ارتقوا أنتم السبب الذي ارتقى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأتوا بمثل الذي أتى به محمد أنه ليس برسول.
أو أن يقول: ائتوا أنتم بالذي أتى به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الدِّين والأسباب؛ حتى تختصوا بالنبوة والرسالة كما اختص مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ).
قال: وعد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سيهزم جند المشركين، فقال عامة أهل التأويل: جاء تأويلها يوم بدر، وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم، واللَّه أعلم.
والأحزاب: الذين تحزبوا عليه، أي: تفرقوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦)، اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) أي: كتابنا؛ وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يوعدهم أنهم يؤتون كتابهم بشمالهم فيه أعمالهم التي عملوها في الدنيا في الآخرة، فعند ذلك قالوا له: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا)، أي: كتابنا الذي توعدنا أنه يعطى بشمالنا، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيبًا له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) أي: نصيبنا وحظنا من العذاب الذي توعدنا به وتحذرنا يوم الحساب قبل يوم الحساب، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيباً له؛ ولذلك قال له على أثر ذلك: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) يصبره ويعزيه على ما يقولون؛ ليصبر على ذلك، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) ليس على سؤال العذاب والكتاب الذي حمله عامة أهل التأويل عليه، ولكنه سؤال السعة والنصيب في الدنيا، ويكون ذلك في قوم لا يؤمنون بالآخرة سألوا ما وعدوا من النعيم في الآخرة والسعة في الدنيا، وذلك أشبه لأنهم سألوا ربهم أن يعجل ذلك لهم، فلو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب والكتاب على الاستهزاء بالرسول والتكذيب له، لسألوا الرسول ذلك، ولم يسألوا ربهم ذلك؛ فدل ذلك على أنه أشبه وأقرب، واللَّه أعلم.
ويكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)] على ما تقدم من قولهم: إنه ساحر وإنه كذاب، وإنه اختلق هذا القرآن من ذات نفسه ونحوه، ويؤيد ذلك قول سعيد بن جبير قال: ذكرت لهم الجنة فاشتهوا ما فيها، فقالوا: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) أي: نصيبنا من الجنة.
* * *
قوله تعالى: (... وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (٢٤) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ).
يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) وجوهًا:
609
أحدها: أن اذكر نبأ داود، ونبأ من ذكر في هذه السورة من قوله: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) (وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)، ومن ذكرهم - عليهم السلام - وعلى مُحَمَّد في هذه السورة، أي: اذكر نبأهم الذي لم يكن لتعرفه أنت ولا قومك من قبل هذا، لعلهم يصدقونك ويؤمنون بك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ)، أي: اذكر صبر هَؤُلَاءِ على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم؛ لتصبر على أذى قومك وتكذيبهم إياك كما صبر أُولَئِكَ؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
والثالث: اذكر داود ومن ذكر من الأنبياء، أي: اذكر لهم المصدقين وما يكون لهم من الكرامات والثواب، كما ذكرت لهم المكذبين وما نزل بهم من العذاب، لعلهم يرجعون ويصدقونك؛ ليعلموا من هلك منهم بم هلك؟ أو ليعلموا أن في أوائلهم المصدقين له والمؤمنين، فكيف اتبعتم المكذبين منهم دون المصدقين؟! واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا)، أي: اذكر جهد داود وجهد من ذكر من هَؤُلَاءِ في العبادة والدِّين وأمثال ذلك يحتمل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
قال عامة أهل التأويل: (ذَا الْأَيْدِ)، أي: القوة على العبادة.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا الْأَيْدِ) في أمر اللَّه، أو في أمر الدِّين؛ لأنه ألين له الحديد حتى كان يتخذ منه الدروع وغيرها من الأسلحة، وسخر له الطير والجبال حتى كان يسبح معهم بالعشي والإشراق، وحتى كان يستعمل ما اتخذ الحديد فيمن شاء من أمر الدِّين من المحاربة مع الأعداء والدرء عن أهل الإسلام والدفع عنهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ أَوَّابٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوَّابٌ) مطيع لله، مقبل على طاعته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوَّابٌ)، أي: مسبح لله، ذكر أنه كان كثير التسبيح؛ وكذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ)، أي: سبحي معه، هذا محتمل.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَّابٌ)، أي: رَجَّاع إلى اللَّه، يرجع إليه في كل
610
أمر وإليه يفزع في كل نائبة وحادثة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أي: ذا الإحسان والعمل الصالح (أَوَّابٌ)، أي: تواب.
وقتادة يقول: ذا القوة في العبادة، وذا الفقه في الإسلام، وذا البصر في الدِّين.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قِطَّنَا)، أي: كتابنا، يقال: قططت -أي: كتبت- أقط قطا، فأنا قاط، والكتاب مقطوط، والقط -أيضًا-: القطع، يقال: قططت أظفاري، والقط: الدهر، ويقال: قطي، أي: حسبي، وقطك أي: حسبك.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: القط: الصحيفة المكتوبة، وهي الصك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨)
هو على التقديم والتأخير كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إنا سخرنا الجبال يسبحن)، أخبر أنه سخر الجبال والطير وما ذكر لداود كي يطعنه ويسبحن معه، وفيه لطف من اللَّه - عز وجل -: في هذه الأشياء والخصوصية لداود في ذلك؛ حيث صير الجبال والطير بحيث يقفن وقت تسبيح داود معه على ما أخبر عَزَّ وَجَلَّ.
وفيه أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - حيث صير الجبال مع شدتها وصلابتها بحيث تعرف وقت تسبيح داود، وتعرف تسبيحه وتسمعه وتلين له، فجائز أن يجعل قلب الكافر بحيث يلين ويخضع لله بلطفه؛ إذ قلبه ليس أشد قسوة وصلابة من الجبال، فإذا جعل لطفه فيها لانت وخضعت؛ فعلى ذلك إذا جعل ذلك اللطف في قلب الكافر لا يحتمل ألا يلين ولا يخضع؛ إذ هو ليس بأصلب وأشد من الجبال التي ذكرنا، واللَّه أعلم.
وأما الخصوصية له: فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل بكل من الرسل خصوصية في شيء، لم يجعل مثل تلك الخصوصية لآخر في ذلك الشيء بعينه بلطفه، وخصوصية داود: ما ذكر من تسخير ما ذكر له من الجبال والطير والتسبيح معه، وما ذكر من إلانة الحديد له وغير ذلك من الأشياء، وخصوصية سليمان ما ذكر من تسخير الرياح له وحملها إياه حيث شاء إلى ما شاء مسيرة شهر بغدوة ومسيرة شهر بعشية، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)، وما ذكر من فهم نطق الطير والنطق معه وفهمه تسبيحها ونحو ذلك كثير، ومثل هذا ما قد جعل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث ذكر أنه أخذ أحجارا فسبحن في يده حتى سمع ذلك من حضره، وما ذكر أن أصابعه يسبحن ونحوه كثير، فلكل منهم خصوصية في شيء ليست تلك لغيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً... (١٩)
أي: مجموعة مسخرة، أي: سخرت له الطير أيضاً.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كل له مطيع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل له مسبح، فإن كان قوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)، أي: مطيع، فهو يحتمل مطيع لداود، وإن كان الأواب هو المسبح، فهو لا يحتمل لداود، لكن لله تبارك وتعالى، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) جائز أن يكون لا على إرادة حقيقة العشي والإشراق، ولكن على إرادة التسبيح معه في كل وقت؛ فيكون العشي كناية عن الليل والإشراق كناية عن النهار، يخبر أنهن يسبحن في كل وقت من الليل والنهار، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون يسبحن في العشيات والغدوات خاصة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، واللَّه أعلم.
ثم جائز أن يكون ما ذكر من تسبيح هذه الأشياء صلاة (يُسَبِّحْنَ) أي: يصلين لله؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)، دل أن لها صلاة، واللَّه أعلم.
ومن الناس من يقول: تسبيح هذه الأشياء التي ذكر هو تسبيح خلقة لا تسبيح نطق وكلام، لكن لو كان على هذا، لكان لا معنى لذكر تسبيحهن مع داود - عليه السلام - إذ ذا مع داود وغيره في كل وقت؛ دل أنه على تسبيح النطق، وإن كان على الصلاة، فهو ألا يجوز الصلاة لأحد حتى تشرق الشمس وترتفع؛ حيث ذكر إشراق الشمس، واللَّه أعلم.
ثم من الناس من حمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْإِشْرَاقِ) على صلاة الضحى، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ذكر عنه أنه سأل أم هانئ عن صلاة الضحى: هل كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعل في بيتها؟ فأخبرته أنه فعل، قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: وقلت: أي: صلاة الإشراق، وهذه صلاة الإشراق، يعني: صلاة الضحى، والله
أعلم. وسميت صلاة الضحى: صلاة الأوابين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠)
قال عامة أهل التأويل في قوله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ): لأنه كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفًا من بني إسرائيل، لكن ليس فيما ذكروا كثير شد الملك وتقويته إنما هو وصف ضعف إلا أن يعنوا بما ذكروا: كثرة أعوانه وأنصاره وفضل أتباعه وحواشيه؛ فعند ذلك يحتمل ما ذكروا، فأما في نفس ما ذكروا من الحرس له والحفظ، فليس فيه كثير شد ولا فضل منقبة.
وجائز أن يكون غير هذا أشبه له وأولى بما ذكر ملكه، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: شد ملكه بما ذكر من إلانة الحديد، حتى كان يتخذ منه لباسًا من الدروع وغيرها منه أسباب الحرب والتأهب لها وما يصلح للقتال ما لم يعط مثله لأحد سواه، فينقطع بذلك طمع المنازعين له في ذلك والراغبين في ملكه، ويأمن هو بذلك ذهابه، فهو شد ملكه، واللَّه أعلم.
والثاني: شد ملكه بما ذكر من تسخير الجبال له والطير والتسبيح معه، وما ذكر من طاعة هذه الأشياء له والخضوع لأمره، فمن بلغ أمر ملكه هذا المبلغ الذي وصف من طاعة من ذكره والتسخير له وعبادته لله تعالى وطاعته لربه في نفسه حيث قال - عز وجل -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) لم يقصد أحد من ملوك الأرض قصده ولا طمع في زوال ملكه إليه بحال، وهذا أشبه أن يجعل تأويل شد ملكه الذي ذكر - والله أعلم - مما قاله أهل التأويل.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ).
قال بعض أهل التأويل: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) أي: النبوة (وَفَصْلَ الْخِطَابِ)، أي: البية على المدعي، واليمين على المدعى عليه، لكن ليس فيما ذكروا من جعل البينة على المدعي وجعل اليمين على المنكر كثير منقبة وخصوصية؛ إذ قد أعطينا نحن مثله، وقد ذكر على الخصوصية له.
ثم جائز أن يكون ما ذكر من الحكمة أنه آتاها له: إحكام أمره فيما بينه وبين ربه: العبادة له -أي: لله تعالى- والطاعة له في كل وقت؛ على ما وصفه حين قال: (ذَا الْأَيْدِ
إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أي: ذا القوة والجهد في العبادة لله والطاعة له فيهم، وإنزال كل منهم منزلة وتأليف قلوب بعضهم من بعض، وجمعهم على دين واحد، ومذهب واحد حتى لم يقع تنازع ولا خلاف في الدِّين، واللَّه أعلم.
وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَصْلَ الْخِطَابِ)، أي: قطع الخصومات فيما بينهم على التأليف والتلطف وإيصال كل إلى حقه من غير أن يقع بينهم خشونة أو ضغينة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَصْلَ الْخِطَابِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا من القضاء بين الخصوم بالبينة على المدعي واليمين على المنكر، وليس في ذلك كثير منقبة ولا خصوصية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو " أما بعد " وهذا أيضًا ليس بشيء، والأصل فيه ما ذكرنا، والله أعلم.
والخطاب: هو الخصومة؛ قال أبو معاذ: الخطاب: كالجدال والخصام، تقول: خاطبته خطابًا ومخاطبة وجادلته جدالًا ومجادلة فكل " فاعل " له مصدران: فعال ومفاعلة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الفصل: القضاء، والخطاب: الخصومة، تقول: خاطبت الرجل، أي خاصمته. والإشراق: هو طلوع الشمس ووقوعها في كل ناحية بنورها؛ كقوله - عز وجل -: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١)
قد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يخرج على الإيجاب، أو على التقرير والتنبيه.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) على وجهين:
أحدهما: أي: قد أتاك نبأ الخصم فتفكر فيه كيف ابتلاه اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وفتنه على ما ذكر؟!
والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) أتاك وأرسل إليك نبأه وخبره: أن كيف ابتلاه وفتنه؟! وعلى هذا يجوز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ)، أي: اذكر ما قربه هو، أو اذكر متقربه إياه، أو اذكر خصومة الخصمين إليه، أو
اذكر ما أعطى هو من الحكمة والحكم وفصل الخطاب.
ثم قوله: (نَبَأُ الْخَصْمِ) هو حرف التوحيد والوحدان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ).
حرف الجماعة؛ وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ... (٢٢) ذكره بالجماعة؛ وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) ذكر بحرف الجماعة، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: قوله تعالى: (قَالُوا لَا تَخَفْ)، ثم ذكر بحرف التثنية حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) وذكر بعضه بحرف الوحدان والإفراد وبعضه بحرف التثنية وهي قصة واحدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أما قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْخَصْمِ) فهو مصدر، والمصدر للجمع والفرد والتثنية واحد، وأما قوله - تعالى -: (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا) و (قَالُوا)، ونحوه قد يقال للاثنين ذلك؛ لأن الاثنين جماعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)، والقلوب جماعة، وإنما هو قلبان، وذلك كثير في القرآن، وذلك جائز في اللغة شائع فيها.
وعندنا جائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ) و (قَالُوا لَا تَخَفْ) ونحوه: أن كان مع الخصمين الملكين ملائكة سواهم شهود على دعواهما وخصومتهما تسوروا معهما ودخلوا معهما عليه فلما فزع منهم (قَالُوا لَا تَخَفْ) وإن كان الذي تخاصم بين يديه اثنان؛ لما لا يحتمل أن يقول داود لأحد الخصمين: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)، ينسبه إلى الظلم ويصفه بالبغي بلا شهود يشهدون، إلا أن يكون من الآخر إقرار على ما يدعي عليه، فإذا كان كذلك فيشبه أن يكون ما ذكرنا أنه كان مع الملكين ملائكة آخرون شهود يشهدون على ذلك، وأن حاصل الخصومة لاثنين منهم، وفيما أضيف الفعل إلى الجماعة كانوا جماعة في التسور والدخول عليه والقول منهم: (لَا تَخَفْ)، وفيما أضيف إلى الاثنين اثنين كانا في الخصومة، واللَّه أعلم.
ثم فيه من الكلام والقول حيث قالا: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ)، و (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ)، وقوله: (أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)، ونحوه من الكلام والقول الذي كان منهما كيف حققا ذلك وقطعاه أنهما خصمان ولم يكونا في الحقيقة خصمين وإن لهذا كذا وكذا نعجة ولهذا واحدة، ولم يكن في الحقيقة ذلك، وأن هذا بغى على هذا ونحو ذلك من الخصومات التي جرت بينهما، ولم يكن ذلك كذلك في الحقيقة، كيف قالا ذلك وحققاه وهم ملائكة والملائكة لا يحتمل أن يكذبوا قط، أو يرسلهم اللَّه ليكذبوا؟! لكنه - واللَّه أعلم - على التقرير والتمثيل، أي: لو كان لأحدهما
615
كذا كذا نعجة وللآخر واحدة فغلب صاحب النعاج الكثيرة على صاحب النعجة الواحدة فأخذها، أليس يكون ظالمًا أو يكون باغياً؟! ليس على التحقيق، ولكن لما ذكرنا يقرران عنده الزلة ويمثلان به القضية، لا أن كانت له على ما يقوله أهل التأويل ويقررونه، وقد ذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أشياء كثيرة على التمثيل والتقرير على تقرير أشياء غفلوا عنها وسهوا فيها ليتقرر ذلك عندهم؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون خصومة هَؤُلَاءِ الملائكة عند داود - عليه السلام - وما كان منهم من القول والخصومة ليتقرر ما كان منه من الهفوة والزلة ليعرف ذلك ويرجع عنه، واللَّه أعلم.
ثم قول أهل التأويل: إن طائرًا وقع بين يديه قريبًا منه فنظر إليه وصار معجباً به، فهم أن يأخذه وارتفع إلى كوة المحراب فصعد ليأخذه فوقع بصره على امرأة فأعجبته، فإن هذا يحتمل أن يكون، وأما قولهم: أدام النظر أما هذا فإنه لا يحتمل أن يكون مثل داود أو نبي من الأنبياء - عليهم السلام - أنه يديم النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وأما الأول من الذهاب لطلب ذلك الطائر والنظر إليه أنه من أين؟ وإلى ماذا؟ فذلك يحتمل أن يكون، ثم هو يكون معذورًا في الصعود إلى الكوة والارتفاع للنظر إلى الطائر؛ لما كان الطيور حشرت له وسخرت في التسبيح معه والطاعة له، فجائز أن يكون له البحث والفحص عن حال ذلك الطائر على ما أخبر عن سليمان حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ)، فإذا كان ما ذكرنا: هو في الصعود إلى الكوة والارتفاع إلى ذلك معذورًا، لكن وقع بصره عليها بلا قصد منه ولا علم بحالها ومال قلبه إليها لحسنها وجمالها، وذلك ما يكون بلا تكلف ولا صنع، وذلك مما لا يملك دفعه؛ نحو ما كان من ميل قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى امرأة زيد ووعد لها نكاحها حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)، وما ذكر من بعث زوجها إلى القتال ليقتل فهذا أيضاً غير محتمل، لكن يحتمل بعثه إياه ليجاهد أعداء اللَّه وكان ذلك فرضاً عليه، فصار مقتولا فيه من غير أن يتوهم منه أنه قصد قتله وإهلاكه، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: كيف عوتب كل هذا العتاب، حتى بعث إليه الملائكة بالخصومة عنده والتمثيل لما ذكر وتقرير ذلك عنده، ثم أخبر أنه غفر له بعد طول المدة، إن كان معذورًا في ذلك غير مؤاخذ به؟!
قيل: إن الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - أجمعين كانوا يؤاخذون بأدنى شيء كان منهم ما لا يؤاخذ غيرهم بذلك، بل يعدّ ذلك منهم من أرفع الخصال وأجلها نحو ما عوتب يونس - عليه السلام - في خروجه من بين قومه؛ ليسلم دينه أو نفسه، لكنه خرج بلا إذن
616
كان له من اللَّه؛ فعوتب لذلك؛ فعلى ذلك داود - عليه السلام - إنما فعل بلا إذن من الله عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم.
ثم في بعث الملائكة إليه فيما ذكر وجوه من الحكمة وأنواع من الفائدة:
أحدها: جواز الحجاب والحرس له، حيث دخلوا عليه من غير الباب.
والثاني: رفع الحجاب عن الخصوم لا على وقت حاجة نفسه حيث دخلوا من غير الباب للخصومة بلا إذن منه.
والثالث: قدرة الملائكة على التصور بصورة البشر مع كون النفس الكثيفة موجودة معهم، وذلك يرد على الفلاسفة مذهبهم أن النفس الروحانية خلقت منتشرة متحركة في كل حال، لكن الجسد الذي جعل يمنعها عن ذلك، فإذا نام ذلك الجسد أو مات ذهبت تلك النفس حيث شاءت إلى حاجتها؛ ألا ترى أن الملائكة قد تسوروا عليه بصورة البشر، واختصموا إليه خصومة البشر؟! دل على أنه ليس على ما وصفوا هم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: صعدوا، وأصل التسور: هو الدخول من العلو والارتفاع وهو النزول من السور وهو الحائط المشرف المرتفع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَزِعَ مِنْهُمْ).
لما خاف دخول الوهن في ملكه؛ إذ دخلوا بلا إذن من غير الباب.
أو خاف؛ لما ظن أنهم لصوص مكابرون.
أو لما عرف أنهم ملائكة جاءوا بأمر عظيم ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُشْطِطْ).
أي: لا تجر.
وقوله: (أَكْفِلْنِيهَا (٢٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: أعطينيها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ يقال: أكفلته، أي: أعطيته؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ضمها إليَّ، واجعلني كافلها؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.
وقوله: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: غلبني في الخصومة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (٢٤)
617
ثم استثنى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي: الذين آمنوا، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات، فإنهم لا يبغون بعضهم على بعض، ثم أخبر أن من آمن واعتقد في إيمانه العمل الصالح، أي: من اتقى من المؤمنين قليل ومن ترك البغي قليل منهم، وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا.
وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح وترك البغي على غيره - قليل في كل زمان ودهر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ).
أي: علم داود وأيقن أن خصومة الملكين عنده فيما اختصما فيه محنة له، هو الممتحن بها، لا أنهما كانا ممتحنين بذلك؛ فاستغفر ربه إذ أيقن بذلك أنه هو الممتحن بذلك لا غيره، واللَّه أعلم.
ثم فسر أهل التأويل الظن هاهنا: الإيقان، أي: أيقن، وكأن الإيقان هو علم يستفاد بالأسباب، على ما استفاد داود - عليه السلام - علما بخصومة الملكين عنده؛ ولذلك لا يضاف الإيقان إلى اللَّه أنه أيقن كذا لأنه علم يستفاد بالأسباب، وهو عالم بذاته لا بسبب، وأما العلم فإنه قد يستفاد بسبب وبغير سبب؛ لذلك أضيف إليه حرف العلم ولم يضف حرف الإيقان، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر زلات الرسل - عليهم السلام - والأصفياء في الكتاب، وهو وصف نفسه أنه غفور وأنه ستور، وقد أمرنا لنستر على من ارتكب شيئًا من ذلك وبالغفران والعفو، فكيف ذكر هو زلات أنبيائه وأصفيائه حتى نقرأ زلاتهم في المساجد والمكاتب بأعلى صوت إلى يوم التناد، وما الحكمة في ذكر ذلك؟!
قال الشيخ أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الفقيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يخرج ذكر زلات الأنبياء - عليهم السلام - في القرآن وترك الستر عليهم على وجوه:
أحدها: ذكرها؛ ليكون ذلك آية لرسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا يحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم، فإذا ذكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك؛ دل أنه على أمر من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يذكر ذلك؛ ليعلم الناس أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه عن أمر منه ذكر ذلك، واللَّه أعلم.
والثاني: ذكر زلاتهم امتحاناً منه عباده أن كيف يعاملون رسلهم بعد ما عرفوا منهم الزلات وأظهر عنهم العثرات؟ وكيف ينظرون بعين الرحمة والرأفة؟ يمتحنهم بذلك على ما امتحنهم بسائر أنواع المحن.
618
قوله تعالى :﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لََيبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ ثم استثنى ﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي الذين آمنوا، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات، فإنهم لا يبغي بعضهم على بعض.
ثم أخبر أن من آمن، واعتقد في إيمانه العمل الصالح، أي من اتقى من المؤمنين ﴿ وقليل ما هم ﴾ وترك البغي قليل منهم.
وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا.
وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح، وترك البغي على غيره قليل في كل زمان ودهر، والله أعلم.
ثم فسر أهل التأويل الظن ههنا الإيقان، أي أيقن، وكأن الإيقان، هو علم يستفاد بالأسباب على ما استفاد داوود عليه السلام علما بخصومة الملكين عنده. ولذلك لا يضاف الإيقان إلى الله ؛ أنه أيقن كذا، لأنه علم يستفاد بالأسباب، وهو عالم بذاته لا بسبب.
وأما العلم فإنه قد يستفاد بسبب وبغيره، لذلك أضيف إليه حرف العلم، ولم يضف حرف الإيقان، والله أعلم.
فإن قيل : ما الحكمة في ذكر زلات الرسل، صلوات الله عليهم، والأصفياء في الكتاب ؟ وهو وصف نفسه أنه غفور، وأنه ستور، وقد أمرنا بالتستر على من ارتكب شيئا من ذلك وبالغفران والعفو، فكيف ذكر هو زلات أنبيائه وأصفيائه حتى نقرأ زلاتهم في المساجد والمكاتب بأعلى صوت إلى يوم التنادي ؟ وما الحكمة في ذكر ذلك ؟
قال الشيخ أبو منصور محمد بن محمد الفقيه رضي الله عنه تخرج زلات الأنبياء، صلوات الله عليهم، في القرآن وترك التستر عليهم على وجوه :
أحدها : ذكرها ليكون ذلك آية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا تحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم.
فإن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك دل على أنه أمر من الله عز وجل بذكر ذلك ليعلم الناس أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عن أمر منه ذكر ذلك، والله أعلم.
والثاني : ذكر زلاتهم امتحانا منه عباده أن كيف يعاملون رسلهم بعد ما عرفوا منهم الزلات، وأظهر عنهم العثرات، وكيف ينظرون بعين الرحمة والرأفة. يمتحنهم بذلك على ما امتحنهم بسائر أنواع المحن.
والثالث : ذكر زلاتهم ليعلموا ؛ أعني الخلق، كيف عاملوا ربهم عند ارتكابهم الزلات والعثرات، فيعاملون ربهم عند ارتكابهم ذلك على ما عامله الرسل بالبكاء والتضرع والفزع إليه والتوبة عن ذلك، والله أعلم.
والرابع ذكرها ليعلم أن ارتكاب الصغائر لا يزيل الولاية عنه ولا يخرجه من الإيمان.
وذلك على الخوارج بقولهم : إن من ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج من الإيمان.
والخامس أن يكون ذكرها ليعلم أن الصغيرة ليست بمغفورة، ولكن له أن يعذب عليها.
وليس على ما قالت المعتزلة أن ليس لله أن يعذب أحدا على الصغيرة، والله أعلم.
وزلات الأنبياء عليهم السلام من الصغائر في حقهم لقيام النهي، وإن كانت مباحة في نفسها في حق غيرهم، وهي ترك الأفضل، ثم خاف الأنبياء عليهم السلام على ذلك فلولا أنهم عرفوا أن الله تعالى له أن يعذبهم عليها، وإلا لم يخافوا منها على ما ذكر منهم.
يذكر عن الحسن أن داوود جزأ الدهر أجزاء : يوما لنسائه ويوما لعباده ربه ويوما للقضاء بين بني إسرائيل ويوما لعباد بني إسرائيل يذكرهم ويذكرونه، ويبكيهم، ويبكونه. فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا، فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب به ذنبا ؟ فأضمر داوود في نفسه أنه يطيق ذلك، قال : فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه، أحد، فأكب على الزبور يقرؤها، فابتلي بما ذكروا. قال : ولذلك سمي أوابا، والله أعلم.
وابن عباس وهؤلاء قالوا : إنه كان له تسع وتسعون امرأة، فكان يكون عند كل امرأة يوما، فإذا كان رأس المئة يفرغ للعبادة. ففي ذلك اليوم أصابه ما أصابه.
وقال بعضهم في قوله عز وجل ﴿ وعزني في الخطاب ﴾ أي غالبني في الكلام، أراد إذا تكلم أن يكون أبين مني، وإذا دعا، ودعوت أن يكون أكرم مني، أو إذا ما ملت يكون أعرض على ما ذكرنا، والله أعلم.
والثالث: ذكر زلاتهم ليعلموا -أعني: الخلق- كيف عاملوا ربهم عند ارتكابهم الزلات والعثرات؟ فيعاملون ربهم عند ارتكابهم ذلك على ما عامله الرسل بالبكاء والتضرع والفزع إليه والتوبة على ذلك، واللَّه أعلم.
أو أن يكون ذكرها؛ ليعلم أن ارتكاب الصغائر لا يزيل الولاية ولا يخرجه من الإيمان، وذلك على الخوارج بقولهم: إن من ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج من الإيمان.
أو أن يكون ذلك؛ ليعلم أن الصغيرة ليست بمغفورة، ولكن له أن يعذب عليها، وليس على ما قالت المعتزلة أن ليس لله أن يعذب أحدًا على الصغيرة، واللَّه أعلم.
وزلات الأنبياء - عليهم السلام - في قلوب الناس، فخافوا عليها، فلولا أنهم عرفوا أن لله أن يعذبهم عليها وإلا لم يخافوا منها كل ما ذكر منهم، يذكر عن الحسن أن داود جزأ الدهر أجزاء: يومًا لنسائه، ويومًا لعبادة ربه، ويومًا لقضاء بني إسرائيل، ويومًا لعباد بني إسرائيل: يذكرهم ويذكرونه، ويبكيهم ويبكونه، فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب به ذنبًا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، قال: فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد، فأكب على الزبور يقرأها فابتلي بما ذكروا، قال: ولذلك سمي: أوَّابًا، واللَّه أعلم.
وابن عَبَّاسٍ وهَؤُلَاءِ قالوا: " إنه كان له تسع وتسعون امرأة، فكان يكون عند كل امرأة يومًا فإذا كان رأس المائة يفرغ للعبادة، ففي ذلك اليوم أصابه ما أصابه ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) أي: غالبني في الكلام، أراد إذا تكلم أن يكون أبين مني، وإذا دعا ودعوت كان أكثر مني أو ما قلت أن يكون أعرض، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ... (٢٥)
أي: زلته التي كانت منه وعثرته، وما يقول أهل التأويل: ربه أوحى إليه: أني قد غفرت لك، لكن لابد أن يتعلق بك أوريَّا في رءوس الخلائق، ثم أستوهبك منه أو عوض كذا - فذلك مما لا نقول به ولا نعلم ذلك، ولا يصح ذلك، ولا يستقيم على ما ذكرنا نحن: أنه لم يكن منه أوريَّا ما يلحقه ما يذكرون، إنما أمره بمجاهدة أعداء اللَّه وكان له أن يأمر، إلا أنه عوتب؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا يعاتبون بأدنى شيء كان منهم، ويعيرون على ذلك؛ لذلك كان ما ذكرنا، وقد عرفنا أنه كان منه شيء عوتب عليه، ثم
علمنا أن ربه غفر له بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ)، فأما ما سوى ذلك الذي ذكره أهل التأويل فلا نعرفه، فإن صح شيء منه يقال به، وإلَّا الترك أولى به وأسلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).
يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) في باقي عمره، أي: له في باقي عمره ما يزلفه لدينا، ويقربه عندنا، واللَّه أعلم.
أو أن يكون له زلفى عنده في الآخرة، أي: له كرامة ومنزلة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦)
يحتمل قوله: في جملة أهل الأرض من الرسل والأنبياء والملوك وغيرهم على الشريف والوضيع، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) في الرسل خاصة، وكلا التأويلين يرجعان إلى واحد، إلا أن أحدهما يرجع إلى العامة منهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى).
ثم لم ينهه عن هوى النفس، ولكن نهاه عن اتباع هواها أن النفس قد تهوى في الحكم بغير حق حيث قال: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى)؛ لأن النفس أنشئت على الهوى والميل إلى اللذات والشهوات وعلى ذلك طبعت وبنيت؛ فيكون في هواها إلى ما تهوى مدفوعًا غير مالك ولا قادر على دفعه؛ لذلك لم ينه عن هواها ولكن نهاه عن اتباع هواها، ويقدر على منعها بالعقل وردها إلى اتباع الحق؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
ذكر أنه لو اتبع هواها أضله عن سبيله، ولا كل هوى إذا اتبعه المرء، أضله عن سبيله، لكنه إذا اتبعه في شيء بعد شيء يحمله على الإضلال عن سبيله؛ إذ من ضل عن سبيله إنما يضل لاتباعه هواه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ): أخبر أن من اتخذ إلها دونه إنما اتخذه بهواه لا بحجة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
أي: تركوا الأعمال التي تعمل ليوم الحساب.
أو (بِمَا نَسُوا) أي: بما تركوا الإيمان به والإقرار، واللَّه أعلم.
قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، الباطل: هو الفعل الذي يذم عليه فاعله. والحق: هو الفعل الذي يحمد عليه فاعله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).
لم يظن أحد من الكفرة أن اللَّه خلق شيئًا باطلا، لكن يكون خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما من الأهل مخلوقا باطلا على ما عبد أُولَئِكَ الكفرة وفي حسبانهم؛ لأن عندهم أن لا بعث ولا حياة بعد ما ماتوا، فكان خلق ذلك كله لو لم يكن بعث ولا نشور خلقًا باطلا لوجهين:
أحدهما: أنه لو لم يكن بعث يحصل إنشاؤه إياهم للفناء خاصة، وإنشاء الشيء وبناؤه للفناء خاصة لا لعاقبة تقصد عبث باطل سفه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا...) إلى آخر الآية، صير خلقه إياهم إذا لم يكن رجوع إليه عبثاً؛ لذلك كان ما ذكرنا.
والثاني: أنه لو لم يكن بعث، لكان خلقهم غير حكمة؛ لأنه قد جمعهم جميعًا في نعيم هذه الدنيا ولذاتها: الولي، والعدو، وفي الحكمة التفريق والتمييز بينهما، فلو لم يكن دار أخرى ليفرق بينهما، لكان في خلقهم غير حكيم، وعندهم جميعًا أنه حكيم.
ثم يقول قتادة في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) يقول: لم يذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من شأن داود - عليه السلام - ما ذكر إلا أن يكون داود قضى نحبه من الدنيا على طاعة اللَّه والعمل له والعدل فيما ولاه الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن اللَّه تعالى وعظ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين موعظة بليغة شافية، ليعلم من ولي من هذا الحكم شيئاً أنه ليس بين اللَّه وبين العباد سبب يعطيهم خيرًا ولا يدفع عنهم به شرًّا إلا بطاعة اللَّه والعمل بما يرضى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).
أي: جعلنا لك الخلافة فيمن ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
هو صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا): كان ظنهم أن لا بعث ولا نشور، فيقول - واللَّه أعلم -: إنه لو كان على ما ظن أُولَئِكَ الكفرة: أن لا بعث لكان في ذلك
621
جعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذه الدنيا كالمفسدين في الأرض وجعل المتقين كالفجار؛ إذ قد سوى بينهم في هذه الدنيا وجمعهم في لذات هذه الدنيا وشهواتها وفي حسناتها وسيئاتها، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز، وقد سوى بينهما في الدنيا على ما ذكرنا من جمعهم في المحنة بالخير والشر، فلو كان على ما ظن أُولَئِكَ أن لا بعث ولا حياة، لكان ذلك جمع وتسوية بين الولي والعدو، وفي الشاهد من سوى بين من عاداه وبين من والاه، وجمع بينهما في البر والجزاء كان سفيها غير حكيم؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه - لو لم يجعل دارًا أخرى يفرق بينهما كان غير حكيم؛ إذ قد سوى بينهما وجمع، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ثم من الناس من يقول: يجب أن يفرق بينهما في الدارين جميعًا في الدنيا والآخرة، وقد فعل حيث سمى هَؤُلَاءِ: ضُلالا وهَؤُلَاءِ مؤمنين، وخذل الكفار، وأذلهم، ووفق المؤمنين وأعزهم؛ وهو قول المعتزلة.
ومنهم من يقول: لا يجب ذا في الآخرة؛ لأن الدنيا دار محنة وابتلاء يمتحن الفريقان جميعًا بالخير مرة والشر ثانيًا، وبالحسنة تارة وبالسيئة أخرى على ما أخبر حيث قال - عز وجل -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وما ذكر: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ...) الآية، أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يمتحنهم ويبتليهم بالخير والشر وبالسيئة والحسنة، وذلك للفريقين جميعًا على ما ذكرنا من جمعه إياهم جميعًا في الحالين، وأما الآخرة فإنما هي مجعولة للجزاء خاصة، فهنالك يقع التفريق والتمييز بينهما لا فيما فيه المحنة والابتلاء، واللَّه أعلم.
وأما قولهم: إنه قد فرق بينهما؛ حيث سمى هَؤُلَاءِ: ضُلالا، وهَؤُلَاءِ: مؤمنين، وخذل هَؤُلَاءِ، ووفق أُولَئِكَ فليس ذلك بتفريق بينهما؛ لأنه إنما سماهم: ضُلالا كفرة بفعلهم الذي اختاروه وصنعوا، أو أمر آثروه على غيره فإنما هو تسمية فعلهم لا جزاء يجزون، والله أعلم.
ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) - دلالة لزوم الحجة والوعيد على الظن والجهل، وإن لم يتحقق لهم العلم بذلك إن مكنوا من العلم وجعل لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك، وإنما لزمهم ذلك الوعيد والحجة بما هم ضيعوا معرفة ذلك والعلم به؛ لأنهم لو تأملوا فيه ونظروا، لوقع لهم علم ذلك، لكنهم تركوا علم ذلك، وضيعوه؛ فلم يعذروا في ذلك، وعلى ذلك نقول في القدرة: إن من منع عنه القدرة، وحيل
622
قوله عز وجل :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ هو صلة قوله عز وجل :﴿ ذلك ظن الذين كفروا ﴾ كان ظنهم أن لا بعث ولا نشور.
فيقول، والله أعلم : إنه لو كان على ما ظن أولئك الكفرة أن لا بعث لكان في ذلك جعل الذين آمنوا، وعملوا الصالحات في هذه الدنيا كالمفسدين في الأرض، وجعل المتقين كالفجار ؛ إذ قد سوى بينهم في هذه الدنيا وجمعهم في لذات هذه الدنيا وشهواتها وفي حسناتها وسيئاتها. وفي الحكمة التفريق بينهم والتمييز، وقد سوى بينهم في الدنيا على ما ذكرنا من جمعهم في المحنة بالخير والشر.
فلو كان على ما ظن أولئك أن لا بعث ولا حياة لكان ذلك جمعا وتسوية بين الولي والعدو. وفي الشاهد من سوى بين ما عاداه وبين من والاه، وجمع بينهم في البر والجزاء كان سفيها غير حكيم.
فعلى ذلك الله، سبحانه، لو لم يجعل دارا أخرى يفرق بينهم فيها كان غير حكيم، إذ قد سوى بينهم وجمع، تعالى الله، عز وجل عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم من الناس من يقول : يجب أن يفرق بينهم في الدارين جميعا في الدنيا والآخرة، وقد فعل حيث سمى هؤلاء ضلالا وهؤلاء مؤمنين، وخذل الكفار، وأذلهم، ووفق المؤمنين، وأعزهم، وهو قول المعتزلة.
ومنهم من يقول : لا يجب ذا في الآخرة لأن الدنيا محنة وابتلاء ؛ يمتحن الفريقان جميعا بالخير مرة والشر ثانيا وبالحسنة تارة وبالسيئة أخرى. ما أخبر حين قال عز وجل ﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] وذكر :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] أخبر عز وجل أنه يمتحنهم، ويبتليهم بالخير والشر والسيئة والحسنة، وذلك للفريقين جميعا على ما ذكرنا من جمعه إياهم جميعا في الحالين. فإنما هي مجعولة للجزاء خاصة. فهنالك يقع التفريق والتمييز بينهما لا في ما فيه المحنة والابتلاء.
وأما قولهم : إنه فرق بينهم حينٍ سمى هؤلاء ضلالا وهؤلاء مؤمنين، وخذل هؤلاء، ووفق أولئك، فليس ذلك بتفريق بينهم لأنه إنما سماهم ضلالا كفرة بفعلهم الذي اختاروه، وصنعوا أمرا آثروه على غيره. فإنما هو تسمية فعلهم لا جزاء يجزون عليه والله أعلم.
ثم في قوله عز وجل :﴿ ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ﴾ دلالة لزوم الحجة والوعيد على الظن والجهل، وإن لم يتحقق لهم العلم بذلك بعد أن مكثوا جهلاء، وقد جعل لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك.
وإنما لزمهم ذلك الوعيد والحجة بما هم صنعوا لمعرفة ذلك والعلم بها لأنهم لو تأملوا فيه، ونظروا لوقع لهم علم ذلك، لكنهم تركوا علم ذلك، وضيعوه، فلم يعذروا في ذلك.
وعلى ذلك يقول في القدرة أو من منعت عنه القدرة، أو حيل بينه وبينها، كان غير مكلف بها ولا مخاطبا معذورا، ومن لم تمنع عنه، ومكن من ذلك، إلا أنه ترك العمل به، كان مكلفا به غير معذور، لأنه هو الذي ضيع ذلك، وتركه بالاختيار، والأول غير مضيع لها ولا تارك. لذلك أمر. وذلك على المعتزلة، والله الموفق.
بينه وبينها كان غير مكلف بها ولا مخاطبًا معذورًا، ومن لم تمنع عنه ومكن من ذلك إلا أنه ترك العمل به كان مكلفاً به غير معذور؛ لأنه هو الذي ضيع ذلك وتركه بالاختيار، والأول غير مضيع لها ولا تارك لذلك أمر؛ وذلك على المعتزلة، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩)
سماه: مباركًا؛ لأن من اتبعه وتمسك به وعمل بما فيه صار شريفًا مذكورًا عند الناس عظيما على أعينهم وقلوبهم، وذلك عمل المبارك أن ينال كل بر وخير يكون أبدًا على الزيادة والنماء، واللَّه اعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
أخبر أنه أنزله؛ ليدبروا في آياته؛ ليعرفوا ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتبع، إنما يعرف ذلك بالتأمل والتدبر والتفكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
أي: ليتذكر وليتعظ أولو الألباب بما فيه من المواعظ والآداب وغير ذلك.
* * *
قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (٣٢) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
أثنى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على داود وابنه سليمان - عليهما السلام - بالأوبة إليه والرجوع، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في داود - عليه السلام -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، وقد فسرنا الأواب.
وقال في سليمان - عليه السلام -: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ...) إلى آخر ما ذكر.
دل ذكر قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) على أثر قوله: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أنه إنما كان أوابًا بالذي ذكر منه؛ لأن حرف (إِذْ) لا يذكر إلا عن شيء سبق، وسمى - عَزَّ وَجَلَّ - داود - عليه السلام -: أوابًا بما ذكر من تسبيحه بالعشي والإشراق والفزع إليه بما هو به، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (٣١)
قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أثنى الله عز وجل على داوود وابنه سليمان، عليهما الصلاة والسلام، بالأوبة إليه والرجوع، وهو ما قال عز وجل في داوود عليه السلام ﴿ واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب ﴾ [ ص : ١٧ ] فسر لنا الأواب، وقال في سليمان :﴿ نعم العبد إنه أواب ﴾.
دل ذكر قوله عز وجل :﴿ إذ عرض عليه ﴾ على إثر قوله :﴿ إنه أواب ﴾ أنه إنما كان أوابا بالذي ذكر عنه، لأن حرف : إذ لا يذكر إلا عن شيء سبق.
ويسمي عز وجل داوود عليه السلام أوابا بما ذكر من تسبيحه ﴿ بالعشي والإشراق ﴾ [ ص : ١٨ ] والفزع إليه بما هو به، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ﴾ قيل : الصافنات، وهي الخيل. وقال بعضهم : الصافنات، هن القائمات على ثلاث قوائم، رافعات إحدى الرجلين أو إحدى اليدين، على طرف الحافر. وقال بعضهم : الصافنات، هن القائمات لا غير.
وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( من تمنى أن يقوم له الرجال صفوفا ) أي قياما ( فليتبوأ مقعده من النار ) [ بنحوه الترمذي ٢٧٥٥ ] أو كلام نحوه.
والجياد : قيل : السراع، والله أعلم.
قيل: الصافنات: هو الخيل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصافنات: هن القائمات على ثلاث قوائم، رافعات إحدى الرجلين، أو إحدى اليدين على طرف الحافر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصافنات: هن القائمات لا غير؛ وعلى ذلك ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من تمنى أن يقوم له الرجال صفوناً -أي: قيامًا- فليتبوأ مقعده من النار " أو كلام نحوه. والجياد: قيل: السراع، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (٣٢)
دل ما سبق من ذكر الصافنات الجياد بالعشي على أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) إنما أراد به تواري الشمس بالحجاب؛ إذ ليس شيء يتوارى بالحجاب في ذلك الوقت سوى الشمس.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) حتى شغلني عن ذكر ربي؛ إذ المحبة يجوز أن يكنى بها عن الإيثار، واللَّه أعلم.
والثاني: إني أحببت حب الخير حبا حتى شغلني عن ذكر ربي حتى توارت الشمس بالحجاب على التقديم والتأخير، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُبَّ الْخَيْرِ) يجوز أن يكنى بالخير عن الخيل نفسه؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة "، سمى الخيل: خيرًا؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: صفونها: قيامها وبسطها قوائمها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣)
قال عامة أهل التأويل: أي: جعل يعقر سوق الخيل ويضرب أعناقها -والسوق: هو جماعة الساق- لما شغلته عن ذكر ربه وعن صلاة العصر حتى غفل عنها، فجعل
624
يقطع سوقها ويضرب أعناقها كفارة عما شغل عن ذكر ربه، ثم إن ثبت ما ذكروا من عقر السوق والأعناق أنه على الحقيقة فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه كان ذلك في شريعته جائزًا، وإن كان في شريعتنا لا يجوز، نحو ما ذكر عنه من تعذيب الهدهد وغيره حين تفقده ولم يجبه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ...) الآية، فمثله لا يجوز تعذيب الطير في شريعتنا؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكروا من عقر الخيل وضرب الأعناق له جائزًا في شريعته وإن كان ذلك لا يجوز عندنا، واللَّه أعلم.
أو أن يكون ذلك منه قبل النهي عن القتل، ثم جاء النهي عنه بعد ذلك فحرج عليه ذلك وعلينا جميعًا.
وجائز أن يخرج تأويل الآية على غير حقيقة عقر الساق وضرب الأعناق لكن ما ذكر من الأعناق يكون كناية عن الذبح، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ) كناية عن التسليم إلى الناس، أو أن يكون ما ذكر من المسح بالساق والأعناق كناية عن مسح وجهها ورأسها بعدما ردوها عليه، والتسليم إلى الناس من غير أن كان هناك عقر أو ذبح أو كفارة عما غفل عن ذكر ربه.
قال الحسن: قال سليمان - عليه السلام -: واللَّه لا يشغلن عن عبادة ربي أحد ما عليك، لكن كشف عراقبها وضرب أعناقها.
ثم اختلف في تلك الخيل التي عرضت عليه، فشغلته عن ذكر اللَّه، ففعل ما ذكر: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنها خيول، أخرجها الشياطين من مروج البحر لسليمان - عليه السلام - لها أجنحة تعدو وتطير.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كانت خيلا ورثها من أبيه داود - عليه السلام - وكان دواد - عليه السلام - أصابها من العمالقة، وقال: وما بقي في أيدي الناس من الخيل فمن نسل بقية تلك الخيل، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعًا لسليمان - عليه السلام - فأصاب منهم ألف فرس عراب، فعرض عليه الخيل حتى شغلته عن ذكر ربه، ففعل ما ذكر من قطع العراقيب وضرب الأعناق، واللَّه أعلم.
وعن الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) قال: كسر عراقيبها وضرب أعناقها، فأبدله اللَّه خيرًا منها، وأرسل الريح (تَجْرِي بِأَمْرِهِ...) الآية.
625
قوله تعالى :﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ قال عامة أهل التأويل : أي جعل يعقر سوق الخيل، ويضرب أعناقها، والسوق هي جماعة الساق ؛ لما شغلته عن ذكر ربه، وهي صلاة العصر، حتى غفل عنها، فجعل يقطع سوقها، ويضرب أعناقها كفارة عما شغل عن ذكر ربه.
ثم إن ثبت ما ذكروا من عقر السوق وضرب الأعناق أنه على الحقيقة، فهو يخرج على وجهين : أحدهما : أنه كان ذلك في شريعته جائزا، وإن كان في شريعتنا لا يجوز، نحو ما ذكر عنه من توعد الهدهد بالتعذيب حين تفقده، ولم يجده حين قال عز وجل :﴿ مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ﴾ ﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ﴾ الآية [ النمل : ٢٠و٢١ ].
فمثله : لا يجوز تعذيب الطير في شريعتنا. فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر عنه من عقر سوق الخيل وضرب الأعناق، له جائز، وإن كان ذلك لا يجوز عندنا، والله أعلم.
والثاني : أن يكون ذلك منه قبل النهي عن القتل، ثم جاء النهي عنه بعد ذلك، فحرم عليه ذلك وعلينا جميعا.
وجائز أن يخرج تأويل الآية على غير حقيقة عقر السوق وضرب الأعناق. ولكن ما ذكر من الأعناق يكون كناية عن الذبح، وقوله عز وجل :﴿ فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ كناية عن التسليم إلى الناس، أو أن يكون ما ذكر من المسح بالسوق والأعناق كناية عن مسح وجهها ورأسها بعد ما ردوها عليه من غير أن كان هنالك عقر أو ذبح أو كفارة عما غفل عن ذكر ربه.
قال الحسن : قال سليمان عليه السلام والله لا يشغلني عن عبادة ربي أحد بعدك، وكسف عراقيبها، وضرب أعناقها.
ثم اختلف في تلك الخيل التي عرضت عليه، فشغلته عن ذكر الله، ففعل ما ذكر ؛ قال بعضهم : إنها خيول أخرجها الشياطين من مروج البحر لسليمان عليه السلام لها أجنحة تعدو، وتطير. وقال بعضهم : لا، ولكن كانت خيلا، ورثها عن أبيه داوود، وكان داوود عليه السلام أصابها من العمالقة، وقالوا : وما بقي اليوم في أيدي الناس من الخيل فهو نسل بقية تلك الخيل. والله أعلم.
وقال بعضهم : لا، ولكن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعا لسليمان عليه السلام فأصاب منهم ألف فرس غرات، فعرضت عليه الخيل حتى شغلته عن ذكر ربه، ففعل ما ذكر من قطع العواقب وضرب الأعناق، والله أعلم.
وعن الحسن في قوله : عز وجل :﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ قوله : كسف عراقيبها، وضرب أعناقها، فأبدله الله خيرا منها وأسرع وهي ﴿ الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾ [ ص : ٣٦ ].
قال أبو معاذ : قوله عز وجل :﴿ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ تقول العرب : مسح علاوته بالسيف مسحا، أي ضربها. قال القتبي : قوله عز وجل :﴿ فطفق مسحا ﴾ أي فأقبل يمسح : يضرب سوقها وأعناقها. وقال أبو عوسجة :﴿ فطفق ﴾ أي أخذ، وجعل يمسح، أي يقطع [ ﴿ مسحا ﴾ يقال : مسح عنقه، أي قطع.
وقال القتبي :﴿ الصافنات الجياد ﴾ يقال : هي القائمة على ثلاث قوائم، وقد قامت الأخرى على طرف الحافر من يد كان أو رجل. والصافن في كلام العرب : الواقف من الخيل وغيرها على ما ذكر في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من سره أن يقوم له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار ) [ بنحوه الترمذي ٢٧٥٥ ] أي يديمون له القيام. وقال أبو عوسجة : الجياد من الخيل السراع، والواحد جواد، ورجل جواد، أي سخي، وجمعه أجواد، ﴿ فقال إني أحببت حب الخير ﴾ أي آثرت الخير أي المال ﴿ عن ذكر ربي ﴾. وفي حرف حفصة : أي ألهاني ﴿ حب الخير عن ذكر ربي ﴾ أي شغلني.
قال أبو معاذ: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) تقول العرب: مسح علاقة السيف مسحا، أي ضربها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَفِقَ مَسْحًا)، أي: فأقبل يمسح يضرب سوقها وأعناقها.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَطَفِقَ)، أي: أخذ، وجعل يمسح، أي: يقطع؛ يقال: مسح عنقه، أي: قطعها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) يقال: هي القائمة على ثلاث قوائم وقد قامت الأخرى على طرف الحافر من يد كان أو من رجل، والصافن في كلام العرب: الواقف من الخيل وغيرها على ما ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من سره أن يقوم له الرجال صفونًا فليتبوأ مقعده من النار " أي: يديمون له القيام.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجياد من الخيل: السراع والواحد جواد، ورجل جواد، أي: سخي وقوم أجواد، (أَحْبَبْتُ)، أي: آثرت (الْخَيْرِ) أي: المال على ذكر ربي وفي حرف حفصة: أي ألهاني حب الخير عن ذكر ربي، أي: أشغلني.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤)
اختلف أهل التأويل في سبب فتنة سليمان - عليه السلام - الذي ذكر أنه - عَزَّ وَجَلَّ - فتنه وأنه ألقى على كرسيه جسدًا - اختلافًا كثيرًا بينًا ما يطول الكتاب بذكر كل ما ذكروا، ولا ندري أكان ذلك سبب افتتانه أم لا؟ مع علمنا أن ذلك كله لم يكن سبب فتنة إن كان وإنما كان واحد منها ولا ندري ما هو؟ لذلك تركنا ذكر ما ذكر أُولَئِكَ أنه كان سبب افتتانه.
ثم يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) على وجهين:
أحدهما: أنه امتحن بأمر فكان منه في ذلك زلّة وغفلة، فعوقب بما ذكر وعوتب بنزع ملكه.
والثاني: أنه فتنه وامتحنه بنزع ملكه منه لا بزلة منه ولا عثرة، وصرفه إلى غيره لا بسبب كان منه وزلة ويجعله لغيره، ثم إن له أن ينزع الملك منه بأدنى سبب كان منه وزلة فعوقب؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا مخصوصين بالعتاب والتعيير بأدنى شيء يكون منهم ما يعد ذلك الذي كان منهم من أفضل الأعمال على ما ذكرنا فيما تقدم، ثم كان منهم من التوبة والتضرع إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالذي كان منهم لما عرفوا لأنفسهم من الخصوصية لهم من الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها، فرأوا على أنفسهم بما
أكرموا من أنواع الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها من التوبة لله وفضل التضرع والابتهال إلى اللَّه؛ لما رأوا ما ارتكبوا كفرانا له فيما أنعم عليهم وأحسن إليهم - فضل تضرع وابتهال ما لا يلزم ذلك غيرهم فيماثل ما كان منهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا).
يحتمل أن يكون كرسيه ملكه؛ فيكون ما ذكر كناية عن نزع ملكه.
وجائز أن يكون ما ذكر من إلقاء الجسد على كرسيه حقيقة الكرسي ألقى عليه جسدًا يشبه جسد سليمان في الجسمية، لا في العلم والمعرفة والبصر وما كان فيه من الكرامات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ)، أي: عجلا مجسدا في الجسدية، لا أن جسد العجل الذي اتخذه هو جسد العجل المعروف؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) أن يشبه جسد سليمان في الظاهر في الجسدانية، لا في أن جسده كجسد سليمان فيما فيه من اللحم والبصر وغير ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَنَابَ).
يحتمل وجهين:
أحدهما: ثم أناب إلى اللَّه تعالى ورجع إليه بجميع أموره إن كان فيه زلة وعثرة وأناب ورجع وأقبل وتاب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)
يحتمل سؤال المغفرة عند سؤاله الملك أمرًا فيما بينه وبين ربه؛ لأن الملك مما يتلذذ به وفيه هوى النفس؛ وعلى ذلك خرج سؤال زكريا - عليه السلام - لما سأل ربه - عز وجل - الولد سأل أمرًا بينه وبين ربه في ذلك وهو ما قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)؛ ولذلك خرج سؤال الأنبياء فيما سألوا مما فيه اللذة وهوى النفس من الولد وغيره فرقوا في ذلك السؤال أمرًا بينهم وبين ربهم، فعلى ذلك سؤال سليمان - عليه السلام - والملك قربة بالمغفرة في ذلك.
ثم يحتمل سؤاله المغفرة نفسها عما يكون منه من التقصير في ذلك.
أو يكون سؤاله المغفرة سؤال الأسباب التي بها يكون المغفرة لا نفس المغفرة؛ نحو قول نوح - عليه السلام - لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، وقول هود - عليه السلام -: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا)، لا يحتمل أن يأمروا قومهم أن قولوا: نستغفر اللَّه، ولكن أمروهم أن يأتوا بالأسباب التي بها يصيرون أهلا للمغفرة وبها يستوجبون التجاوز، فعلى ذلك يحتمل سؤال المغفرة ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل سؤاله الملك - واللَّه أعلم - أنه أراد أن يستسلم له الخلق في الإجابة إلى ما يدعو إليه من وحدانية اللَّه تعالى وجعل العبادة له؛ لما رأى أن إجابة الناس وإقبالهم إلى ما عنده من السعة والغناء أسرع ولقوله أقبل ورغبتهم فيه أكثر، وإذا كان ما ذكرنا وهو متعارف فيما بينهم أن إجابتهم -أعني: إجابة الناس- للملوك ولمن عنده السعة والغنى أسرع لهم وأطوع، فكان في سؤاله الملك له نجاة الخلق كلهم بما يستسلمون له ويجيبون إلى ما يدعوهم إليه، فينجون نجاة لا هلاك بعدها، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) يحتمل وجوهًا:
أحدها: أنه سأله ملكًا لا ينزع عنه بعد إذ نزع مرة على ما يقوله أهل التأويل.
والثاني: سأل ربه ملكًا لا يكون لأحد ما بقي وهو حي، فيكون له آية لنبوته على ما ذكرنا؛ إذ لو كان مثله لأحد منهم، لم يكن له في ذلك آية لنبوته.
والثالث: سأله ملكًا ليبقى له الذكر والثناء الحسن؛ كقول الناس: " اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد كما صليت على إبراهيم " ونحوه، فعلى ذلك جائز أن يكون سليمان - عليه السلام - أراد أن يكون مذكورًا على ألسن الخلق بالثناء الحسن بالملك الذي يناله، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦)
بين ما أعطاه من الملك بما ذكر من تسخير الريح له والجن والشياطين وغير ذلك ما لم يكن لأحد من ملوك الأرض سواه، وهذا يدل على أن تسخير هذه الأشياء التي ذكر أنه سخرها لسليمان - عليه السلام - كان بلطف من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يكون ذلك بالحيل؛ إذ لا يملك أحد من الخلائق تسخير ما ذكر من الخلق لنفسه، ولو كان يملك ذلك بالحيل لكان يبغي لذلك مع العلم أن كل ملك لا يترك لنفسه من الحيل ما يزيد من ملكه ويبقيه إلى ما بقي وهو حي، فإذا لم يكن دل أنه إنما كان لسليمان ذلك باللَّه لطفًا منه؛ ليكون آية من آيات النبوة، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ).
وصف تلك الريح باللين والرخوة في هذا الموضع، وقال في آية أخرى: (الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ)، وصفها بالشدة:
فجائز أن تكون هي في أصل الخلقة شديدة، لكنها صارت لسليمان - عليه السلام - لينة سهلة.
وقال قائلون: هي وقت الحمل شديدة، لكنها تصير بالسير لينة سهلة، واللَّه أعلم.
أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَاصِفَةً) على أعداء اللَّه رخاء لينة على أوليائه، واللَّه أعلم.
ثم فيما ذكر من جرية الريح بأمره حيث أراد وقصد، لطف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بسليمان حين جعله بحيث تفهم الريح مراده ويفهم هو منها ما أرادت حتى كان يستعملها فيما شاء، وكذلك ما فهم من نطق الطير وكلامه وكلام النمل الذي ذكر وتفهم هي منه، فذلك كله لطف منه به ورحمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)
أي: سخرنا له الشياطين حتى يستعملهم فيما شاء: بعضهم في البناء، وبعضهم في الغوص في البحر لاستخراج ما فيه من الأموال؛ ليتفرغ الناس لعبادة اللَّه والخدمة لا يكون لهم شغل في البنيان ولا في مؤنة أنفسهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨)
وآخرين لم يطيعوه فيما أمرهم من الأعمال في البناء والغوص وغير ذلك من الأعمال جعلهم في الأصفاد -وهي الأغلال تجعل في الأعناق- ليدفع شرهم وسوءهم عن الخلق حيث لم يطيعوه فيما أمرهم بالعمل للخلق ليتفرغوا للعبادة، وهو ما ذكرنا من آية عجيبة لسليمان - عليه السلام - واللطف له حيث مكن له من استعمال ما ذكر من الجن والشياطين والريح وسخر له ذلك؛ ليعلم أنه إنما قدر على ذلك بلطف منه لا بالحيل والأسباب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩)
قال عامة أهل التأويل: هذا في الشياطين التي ذكر أنه سخرها له في العمل، وآخرين في جعله إياهم في الأصفاد، خيره بين أن يمن على من شاء منهم فيخلي سبيله، وبين أن يمسك من شاء منهم فلا يخلي سبيله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك التخيير في الشياطين وفي جميع ما أعطاه له من الملك يقول: إن شئت تمن فتعطيه من شئت، وإن شئت أمسكت فلا تعط أحدا شيئًا، ولا تبعة عليك في ذلك الإعطاء ولا في الإمساك، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون لا على التخيير، ولكن امتحن بالإعطاء لقوم والمنع عن قوم، فيقول:
629
(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ) أي: أعط وابذل لمن أمرت وامتحنت بالإعطاء من كان أهلا لذلك، وأمسك عمن ليس هو بأهل لذلك ومن لم تؤمر بدفعه إليه؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، أن ليس على التخيير، ولكن على تعذيب من هو أهل للعذاب مستحق له، واتخاذ الحسن فيمن كان أهلا على ما بين في ذلك وأظهر في الآية حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ...) الآية، (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى)، فعلى ذلك يحتمل الأول، واللَّه أعلم.
وقال الحسن: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ويقول: هذا ملكنا الذي أعطيناك يقول: أعط منه ما شئت وامنع منه ما شئت، لا تبعة عليك فيه في الآخرة، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين.
وقال قتادة: احبس منهم في وثاقك هذا وعذابك وسرح منهم من شئت لا حساب عليك في ذلك، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين: رجع أحدهما إلى الشياطين خاصة في الحبس في العمل من شاء والتسريح لمن شاء منهم، والآخر إلى كل ما أعطاه من الملك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِغَيْرِ حِسَابٍ).
أي: أعطى له من الملك ما لا يحسب من الكثرة والعدد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى... (٤٠)
أي: القربة، (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي: مرجع، هذا يدل على أن ما أعطاه من الملك لم يحطه عن مرتبته ولا نقص من قدره عند اللَّه؛ لأنه إنما سأله الملك - واللَّه أعلم - لما ذكرنا من رغبته في نجاة الخلق؛ لسرعة إجابتهم إياه إلى ما يدعوهم إليه، لا رغبة منه في الدنيا ولذاتها وطلب العز فيها، ولكن لما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى).
أي: الأسباب التي تزلفه إلى اللَّه وتقربه من التوفيق والعصمة والمعونة على الطاعة، وذلك يكون في الدنيا والأول يكون في الآخرة، واللَّه أعلم. وهذا من أعظم المنن واللطف حيث أمنه عن جميع أنواع التبعات، يغفر له بغير حساب ويستر له بالزلفى وحسن المرجع، واللَّه أعلم.
630
ثم اختلف في سبب فتنة سليمان - عليه السلام - وفي ذنبه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أن اللَّه - تعالى - أمره ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل وجعل لها صنما فعبد في بيته كذا كذا يومًا، فابتلاه اللَّه بسلب ملكه عقوبة له على قدر ما عبد من الصنم في بيته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت فتنة سليمان - عليه السلام - التي ذكر في ناس من أهل الجرادة وكانت الجرادة امرأته وكانت من أحب نسائه إليه، وكان إذا أراد أن يحنث أو يدخل الخلاء أعطاها خاتمه وأن ناسا من أهلها جاءوا يخاصمون قومًا إلى سليمان، قالوا: وكان سليمان أحب أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوتب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ.
وقد ذكرنا نحن أنه يجوز أن يكون نزع الملك منه وما ذكر فتنة إياه بلا زلة ولا سبب كان منه ابتداء محنة وابتلاء، وذلك جائز، ولله أن يفعل ما يشاء بمن شاء وكيف شاء من نزع الملك وغيره، واللَّه أعلم.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (رُخَاءً) أي: رخوة لينة، وهو من اللين، ويقال: رجل رخو، أي: ضعيف في عمله، وقوم رخاء، قال: والرخاء: الساكن، ويقال: استرخى، أي: سكن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
ومثله قوله: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)، أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت.
وقال الفراء: سمى العطاء: منا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَيْثُ أَصَابَ).
أي: أراد، قال الأصمعي: العرب تقول: أصاب الصواب، فأخطأ الجواب، أي: أراد الصواب، والأصفاد: الأغلال التي يشد بها الأيدي إلى العنق.
دل قول سليمان - عليه السلام - ودعاؤه ربه باستيهابه الملك قال: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ...) على أن الملك الذي أعطاه لم يكن حقًّا عليه؛ إذ لو كان حقا له لكان لا يستوهبه ولا يقول له: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، ولكن يقول له: أعطني حقي؛ إذ كل طالب حق له قِبَل آخر لا يوصف إذا أعطاه إياه أنه وهاب، ولكن يؤدي حقًّا عليه.
ويدل هذا أيضًا على أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح في الدِّين؛ إذ لو كان عليه حفظ
631
قوله تعالى :﴿ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾ وآخرين، لم يطيعوه في ما أمرهم من الأعمال في البناء والغوص وغير ذلك من الأعمال، جعلهم في الأصفاد، وهي الأغلال، تجعل في الأعناق ليدفع شرهم وسوءهم عن الخلق حين لم يطيعوه في ما أمرهم بالعمل للخلق ليتفرغوا للعبادة.
وفيه ما ذكرنا من آية عجيبة لسليمان عليه السلام واللطف له حين مكن له من استعمال ما ذكر من الجن والشياطين والريح، وسخر له ذلك، ليعلم أنه إنما قدر على ذلك بلطف منه لا بالخيل والأسباب.
قوله تعالى :﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ قال عامة أهل التأويل : هذا في الشياطين التي ذكر أنه سخرها له في العمل ﴿ وآخرين ﴾ في جعله إياهم ﴿ في الأصفاد ﴾ خيره بين أن يمن على من يشاء منهم، فيخلي سبيله، وبين أن يمسك من شاء منهم، فلا يخلي سبيله.
وقال بعضهم : ذلك التخيير في الشياطين وفي جميع ما أعطاه له من الملك ؛ يقول : إن شئت تمن، فتعطيه من شئت، وإن شئت أمسكت، فلا تعطي أحدا شيئا، ولا تبعة عليك في ذلك الإعطاء ولا في الإمساك، والله أعلم.
وجائز أن يكون لا على التخيير. ولكن امتحنه بالإعطاء لقوم والمنع عن قوم، فيقول :﴿ هذا عطاؤنا فامنن ﴾ أي أعط، وابذل لمن أمرت، وامتحنت بالإعطاء من كان أهلا لذلك، وأمسك عمن ليس هو بأهل لذلك، ومن لم تؤمر بدفعه أليه، وهو كقوله عز وجل :﴿ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾ [ الكهف : ٨٦ ] أن ليس على التخيير، ولكن على تعذيب من هو أهل للعذاب مستحق له واتخاذ الحسن في من كان أهلا على ما بين في ذلك، وأظهر في الآية حين قال عز وجل :﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ﴾ ﴿ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ﴾ [ الكهف : ٨٧و٨٨ ] فعلى ذلك يحتمل الأول، والله أعلم.
وقال الحسن : قوله عز وجل :﴿ هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ يقول : هذا ملكنا الذي أعطيناك، يقول : أعط منه ما شئت، وامنع منه ما شئت، لا تبعة عليك فيه في الآخرة، وهو قريب مماذكرنا في أجد التأويلين.
قال قتادة : احبس منهم من شئت في وثاقك وعذابك، وسرح منهم من شئت، لا حساب عليك في ذلك. وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين.
رجع أحدهما إلى الشياطين خاصة في الحبس في العمل من شاء منهم والتسريح لمن شاء منهم، والآخر إلى كل ما أعطاه من الملك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ بغير حساب ﴾ أي أعطاه له من الملك ما لا يجب من الكثرة والعدد.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ﴾ أي القربة ﴿ وَحُسْنَ مَآَبٍ ﴾ أي مرجعا.
هذا يدل على أن ما أعطاه من الملك لم يحطه عن مرتبته، ولم ينقص من قدره عند الله لأنه إنما سأله الملك، والله أعلم، لما ذكرنا من رغبته في نجاة الخلق بسرعة إجابتهم إياه إلى ما يدعوهم إليه لا رغبة منه في الدنيا ولذاتها وطلب العز فيها، ولكن لما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإن له عندنا لزلفى ﴾ أي الأسباب التي تزلفه إلى الله، وتقربه من التوفيق والعصمة والمعونة على الطاعة. وذلك يكون في الدنيا، والأول يكون في الآخرة، والله أعلم.
وهذا من أعظم المنن واللطف حين أمنه من جميع أنواع التبعات، يغفر له بغير حساب، ويسيره بالزلفى وحسن الرجع، والله أعلم.
ثم اختلف في سبب فتنة سليمان عليه السلام وفي ذنبه :
قال بعضهم : وذلك أن الله تعالى أمره ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل، وجعل لها صنما، فعبد في بيته كذا كذا يوما، فابتلاه الله بسلب ملكه عقوبة له على قدر ما عبد الصنم في بيته.
وقال بعضهم : كانت فتنة سليمان عليه السلام التي ذكرنا في ناس من أهل الجرادة امرأته، وكانت من أحب نسائه إليه، وكان إذا أراد أن يحدث، أو يدخل الخلاء، أعطاها خاتمه، وإن ناسا من أهلها جاؤوا يخاصمون قوما إلى سليمان. قالوا : وكان سليمان أحب أن يكون الحق لأهل جرادة، فيقضي لهم، فعوتب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. وهو قول ابن عباس.
وقد ذكرنا نحن على أنه يجوز أن يكون نزع الملك منه وما ذكر عز وجل فتنته إياه بلا زلة ولا سبب : كان منه ابتداء محنة وابتلاء. وذلك جائز. ولله أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وكيف يشاء من نزع الملك وغيره، والله أعلم. وقال القتبي وأبو عوسجة :﴿ رخاء ﴾ أي رخوة لينة، وهو اللين. يقال : رجل رخو أي ضعيف في علمه، وقوم رخاء. قالا : والرخاء الساكن. ويقال : استرخى أي سكن. وقوله عز وجل :﴿ فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾ ومثله قوله تعالى :﴿ ولا تمنن تستكبر ﴾ [ المدثر : ٦ ] أي لا تعط لتأخذ من المكافآت أكثر مما أعطيت.
وقال الفراء : سمي العطاء منا.
قوله عز وجل :﴿ حيث أصاب ﴾ أي أراد : قال الأصمعي : العرب تقول : أصاب الصواب، فأخطأ الجواب، أي أراد الصواب. والأصفاد : الأغلال التي تشد بها الأيدي إلى العنق.
دل قول سليمان عليه السلام ودعاؤه ربه باستهابه الملك :﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ على أن الملك الذي أعطاه لم يكن حقا عليه ؛ إذ لو كان حقا له لكان لا يستوهبه، ولا يقول له :﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ ولكن يقول له : أعطني حقي ؛ إذ كل طالب حق له قبل الآخر لا يوصف إذا أعطاه إياه وهاب، لكن مؤدي حق عليه.
ويدل هذا أيضا على أن ليس على الله حفظ الأصلح في الدين ؛ إذ لو كان عليه حفظ الأصلح في الدين، وأعطى الآخر، لكان لا يستوهب الملك، إذ كان الملك، له أصلح في الدين، ولكن يقول : أعطني حقي. فدل استهابه منه الملك على أن ليس عليه حفظ الأصلح في الدين، ولا أعطى الأخير، وأن له ألا يعطيه. وإن إعطاءه الملك له فضل منه ورحمة، والله أعلم.
فإن قيل : فيه تفضيل الغنى والسعة على الفقر والضيق لما أن الله عز وجل جعل الغنى والسعة آية من آيات النبوة والرسالة، ولم ير الفقر والضيق جعلهما آية من آيات النبوة، فهلا دل جعل الغنى آية من آيات النبوة على أنه أفضل من الفقر ؟
يقل لهم : إن الغنى والملك إنما جعلهما آية لرسالة نبي واحد، وأكثر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كانوا فقراء وأهل الحاجة والضيق في أمر الدنيا، فهم كانوا ما ذكرنا من الضيق والفقر وقلة أعوانهم وأنصارهم أما يعدل قواهم وظهر ما دعوا الناس إلى ما دَعَوا هُمْ، وهو التوحيد والإسلام مع وجود رغبة الناس في من عنده السعة والغنى ونفاذ أمرهم وقلة رغبتهم في من عنده الفقر والضيق.
فدل اختيار أكثر الأنبياء الحال التي تنفر طباع الناس عنها على الحال التي يرغبون فيها مع حرصهم ورغبتهم في الدين. على أن الحال التي اختاروا هم أفضل وأخير من الحال الأخرى، والله أعلم.
وكذلك قوله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ﴾ [ الحجر : ٨٨ ] نهاه أن يمد عينيه إلى ذلك، ويختاره. إنما يمد، ويختار لسعة قومه وأصحابه في أبواب الشر والخير، وإنه لا يختار، ولا يأخذ إلا ما يحل، ويطيب. فدل النهي عما ذكر على العلم منه ما وصفنا على أن ذلك أفضل من الآخر، والله أعلم.
الأصلح في الدِّين وأعطى الآخر لكان لا يستوهب الملك إذ كان الملك له أصلح في الدِّين، ولكن يقول: أعطني حقي، فدل استيهابه منه الملك على أن ليس عليه حفظ الأصلح في الدِّين ولا إعطاء الأخْيَر، وأن له ألا يعطيه، وأن إعطاءه الملك له فضل منه ورحمة، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: فيه تفضيل الغنى والسعة على الفقر والضيق؛ لما أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل الغنى والسعة آية من آيات النبوة والرسالة، ولم ير الفقر والضيق جعلهما آية من آيات النبوة، فهلا دل جعل الغنى آية من آيات النبوة على أنه أفضل من الفقر؟
يقال لهم: إن الغنى والملك إنما جعله آية لرسالة نبي واحد، وأكثر الأنبياء - عليهم السلام - كانوا فقراء وأهل الحاجة والضيق في أمر الدنيا، فمع ما كانوا ما ذكرنا من الضيق والفقر وقلة أعوانهم وأنصارهم نفذ قولهم وظهر ما دعوا الناس إلى ما دعوهم وهو التوحيد والإسلام، مع وجود رغبة الناس فيمن عنده السعة والغنى، ونفارهم، وقلة رغبتهم فيمن عنده الفقر والضيق؛ فدل اختيار أكثر الأنبياء الحال التي ينفر طباع الناس عنها على الحال التي يرغبون فيها مع حرصهم ورغبتهم في الدِّين - على أن الحال التي اختاروا هم أفضل وأخير من الحال الأخرى، واللَّه أعلم.
وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسول اللَّه - ﷺ -: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)، نهاه أن يمد عينيه إلى ما متعوا هم، على العلم منه أن لو مد عينيه إلى ذلك ويختاره إنما يمد ويختار ليتبعه قومه وأصحابه في أبواب الشرف والخير، وأنه لا يختار ولا يأخذ إلا ما يحل ويطيب؛ فدل النهي عما ذكر على العلم منه ما وصفنا على أن ذلك أفضل من الآخر، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ).
ثم لا ندري ما الذي كان من اللَّه من تمكين الشيطان عليه حتى أضاف ذلك إلى الشيطان، وليس لنا أن نقول: إنه مكن عليه كذا، وفعل كذا في كذا، وفعل به كذا، إلا أن يثبت عن اللَّه.
ثم وجه الحكمة في تمكين الشيطان على أوليائه فيما مكن في أمر الدِّين؛ ليعلم جهة الفضل من جهة العدل وجهة الحكم من جهة الرحمة، وأن له أن يمتحن عباده بما شاء
وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء، بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك؛ فعلى ذلك بلاء أيوب - عليه السلام - والشدائد التي أصابته جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك، ولكن ابتداء امتحانٍ منه إياه بذلك.
ثم قوله: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) إنه وإن أضاف إليه فهو في الحقيقة من اللَّه لما أخبر أنه على يديه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أخبر أن حقيقة العذاب منه وإن كان على أيديهم يجري ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ)، أي: ما يمس الإنسان من ضر يكون على يدي آخر ويكون من اللَّه، وله في ذلك صنع وفعل لا على ما يقوله المعتزلة أن لا صنع للَّه، في فعل العباد، وأخبر أنه لو أراد بأحد ضرا ومسه بذلك، فلا كاشف لذلك الضر ولا دافع، وأنه لو أراد خيرا بأحد فلا راد لذلك الفضل غيره، فهو على المعتزلة أيضًا.
وقوله: (بِنُصْبٍ)، ونُصُب: واحد وهو تعب؛ وكذلك يقول الْقُتَبِيّ: النُّصب والنَّصب واحد مثل حُزن وحَزن وهو العناء والتعب.
وقال أبو عبيدة: النَّصَب: الشر، والنُّصب: الإعياء.
ومنهم من يقول: إن أحدهما فيما يصيب ظاهرًا من جسده، والآخر فيما يصيب باطنه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢)
جائز أن يكون لما قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) دعا عند ذلك أن يكشف عنه البلايا التي مسته، كأنه قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فاكشف ذلك عني (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ويدلك على ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) دل هذا على أن قد كان منه دعاء وسؤال في كشفه الضر عنه، فاستجاب الله دعاءه، فعند ذلك قال: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) جائز أن يكون لما ضرب برجله الأرض وركضها نبع منها عينان: إحداهما للاغتسال فيها والأخرى للشرب منها، فكانت التي للشرب منها ماؤها بارد على ما يوافق الشرب ويختار ذلك، والأخرى ماؤها ما يوافق الاغتسال وهو دونه في النزول على ما قاله أهل التأويل عامة؛ كقوله - عز وجل -: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)، وإنَّمَا السكون فيما يسكن وهو الليل والابتغاء بالنهار.
وجائز أن يكون العين واحدة إلا أنه لما اغتسل منها كان ما يوافق الشرب.
قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ﴾ اختلف أهل التأويل فيه :
قال بعضهم : ووهب له أهله، أي أحيى من هلك من أهله وماله، وزاد له على ذلك ضعفهم في الدنيا رحمة منه وفضلا. والحسن يقول كهذا : إنه أحباهم له بأعيانهم، وزاده مثلهم معهم.
وقال بعضهم : قيل له : يا أيوب إن أهلك في الجنة، فإن شئت آتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة، وعوضناك مثلهم معهم، قال : لا بل اتركوهم في الجنة، فتركوا له في الجنة، وعوض مثلهم في الدنيا. ولله أن يحيي من شاء بعد ما أماته، وله أن يؤجر على ذلك ما شاء. ألا ترى أنه قال على إثره :﴿ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ ؟
دل قوله :﴿ رحمة منا ﴾ على أنه كشف الضر عن أيوب، وأعطاه ما أعطاه رحمة منه وفضلا ونعمة ؛ كان له ألا يكشف الضر عنه، وألا يرد عليه أهله، ولا يزيد له.
وهو على المعتزلة لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أعطى، ورد عليه، أصلح له، وقد أخبر أنه برحمته كان ذلك له وفضل منه. ولو كان عليه حفظ الأصلح له في الدين كان في تركه ومنعه جائرا عندهم ظالما، وإما أن يكون منعه ذلك عنه أصلح له، فأعطاه، وترك الأصلح له. فدل أن ليس على الله حفظ الأصلح في الدين، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ أي ذكرى وعظة لمن ينتفع باللب ليعلم أن ليس التضييق لمقت منه، وسخطه لمن ضيق عليه، ولا في التوسيع رضا منه، ولكن محنتان، يمتحن من يشاء الشدة والبلاء ومن شاء بالسعة والرخاء.
قال بعض أهل التأويل: كان به البلاء بظاهر الجسد وبباطنه: فما كان بظاهره ذهب بالاغتسال، وما كان بباطنه ذهب بالشرب، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ).
أي: اذكر صبره كيف صبر على البلاء من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بأنواع الشدائد والبلايا، فاصبر أنت إذا ابتليت بشيء من البلايا، وعلى ذلك يخرج جميع ما ذكر في هذه السورة، وأمره أن يذكرهم بالذي ابتلاهم من الشدائد أن كيف صبروا له على ذلك، ومن امتحنهم بالسعة والملك يقول: أن اذكر لهم كيف شكروا ربهم وأطاعوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣)
اختلف أهل التأويل فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ) أي: أحيا من هلك من أهله وماله، وزاد له على ذلك ضعفهم في الدنيا؛ رحمة منه وفضلا.
والحسن يقول بهذا: إنه أحياهم له بأعيانهم وزاده مثلهم معهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قيل له: يا أيوب إن أهلك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم، قال: لا، بل اتركهم في الجنة، فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا، ولله أن يحيي من شاء بعد ما أماته، وله أن يؤجر على ذلك ما شاء؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، دل قوله: (رَحْمَةً مِنَّا) على أن كشف الضر عن أيوب وإعطاء ما أعطاه رحمة منه وفضلا ونعمة، كان له ألا يكشف الضر عنه، وألا يرد عليه أهله ولا يزيد له، وهو على المعتزلة؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أعطى وردّ عليه أصلح له، وقد أخبر أنه برحمته كان ذلك له وفضل منه، ولو كان عليه حفظ الأصلح له في الدِّين، كان في تركه ومنعه جائرا عندهم ظالمًا.
أو أن يكون منعه ذلك عنه أصلح له فأعطاه وترك الأصلح له؛ فدل أن ليس على الله حفظ الأصلح لأحد في الدِّين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
أي: ذكرى وعظة لمن ينتفع باللب، ليعلم أن ليس التضييق لمقت منه وسخط على من ضَيَّق عليه ولا في التوسيع رضاء منه، ولكن محنتان: يمتحن من شاء بالشدة والبلاء، ومن شاء بالسعة والرخاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
634
اختلف في السبب الذي كان من أيوب - عليه السلام - الحلف بضرب امرأته، ولكن لسنا ندري ما السبب الذي حمله على الحلف بضربها، ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك السبب، غير أنا نعلم أنه كان من المحلوف عليه معنى يستوجب بذلك الضرب حيث حلف هو بالضرب وأمره اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالضرب، ثم معلوم أن غضبه وحلفه لا يحتمل أن يكون لمنفعة نفسه ولكن لله عَزَّ وَجَلَّ، ثم الغضب لا يخرج الأنبياء - عليهم السلام - عن أيدي أنفسهم على من كان غضبه لنفسه.
ثم اختلف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: قضبان وأغصان، ونحو ذلك، لأيوب خاصة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو له ولسائر الناس أن من حلف أن يضرب كذا خشبة أو سوطًا، فجمع قضبانا أو أغصانًا فضرب بها، برّ في يمينه، وليس في الآية أنه ضرب به مرة أو مرارًا حتى يخرج به المرء عن يمينه.
ثم الأصل عندنا أن من هم بضرب آخر كان بالضارب هيئة وإبداء يعرف أنه يزيد الضرب فيحرز بالمضروب هيئته وأثره وهو السالم، فجائِز أن يكون المراد به تلك الهيئة والأثر الضرب نفسه ليس في يمينه، وأن الأفضل فيها ترك الضرب والكفارة عن الحنث.
ثم أثنى اللَّه على أيوب - عليه السلام - فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا).
بما ابتلاه اللَّه في نفسه وأهله وماله.
(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
أي: راجع إليه - عَزَّ وَجَلَّ - في جميع أحواله: في حال الشدة والبلاء، وفي حال السعة والرخاء، واللَّه أعلم.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ)، أي: اضرب بها الأرض، وكذلك ركض دابتك إذا ضربتها برجلك حتى تسرع؛ وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ، قال: والضغث: ملء الكف من الحشيش وغيره ومن كل شيء، وأضغاث جمع.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الضغث: الحزمة من الكلأ أو من العيدان وهو قريب من الأول. وقال: المغتسل: الماء وهو الغسول أيضًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْنَثْ).
من الحِنْث، والحنث في الأصل: الإثم أي: لا يحنث بيمينه إذا صدق فيها ووفى.
635
قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (٥٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ).
يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ) من ذكر من الرسل - عليهم السلام - وأهل الصفوة، أي: اذكر هَؤُلَاءِ بما لقوا من أعدائهم، فتستعين به أنت بما تلقى من أعدائك.
أو يقول: اذكر صبر هَؤُلَاءِ على قومهم؛ لتصير أنت على أذى قومك؛ وهو قريب من الأول، أي: اذكر خبر هَؤُلَاءِ في العبادة والدِّين ليحببك ذلك ويخرجك على الجهد فيها.
أو يقول: اذكر الأسباب التي بها صار هَؤُلَاءِ أهل صفوة اللَّه ومحل إحسانه؛ ليحملك ذلك على طلب تلك الأسباب؛ لتصير من أهل صفوة اللَّه ونحوه يحتمل.
أو يقول: اذكر هَؤُلَاءِ الصالحين لتتسلى بذكرهم عن بعض أمورك، وهمومك، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ).
قيل: أولي الأيدي، أي: أولي القوة في العبادة والبصر في الدِّين، ثم معلوم أن هَؤُلَاءِ لم يكونوا أهل قوة في أنفسهم، وإنَّمَا كانوا أهل قوة في العبادة في الدِّين، ليعلم أن القوة في الدِّين غير القوة في النفس.
وقيل: أولي القوة في طاعة اللَّه والبصر في الحق.
وقيل: في الفقه.
وقيل: أولي الفهم في كتاب اللَّه، وهو واحد.
وفي قوله: (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) دلالة أن قد يفهم بذكر الأيدي غير الجارحة وبذكر البصر غير العين؛ لأنه معلوم أنه لم يرد بذكر الأيدي الجوارح، ولا بذكر الأبصار الأعين ولا فهم منه ذلك، ولكن فهم باليد القوة وبذكر البصر الفهم أو ما فهم؛ فعلى ذلك لا يفهم من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، ونحوه الجارحة على ما يفهم من الخلق، ولكن القوة أو غيرها لكن كنى باليد عن القوة لما باليد يقوى، وكنى بالبصر عن درك الأشياء حقيقة لما بالبصر يدرك الأشياء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)
أي: شرف الدار وذكرهم صاروا مذكورين مشرفين في الدار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧)
أي: هم عندنا أهل صفوة اصطفاهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واختارهم لنفسه ولرسالته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) اختارهم على علم الرسالة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨)
يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ) وجوهًا على ما ذكرنا: صبر هَؤُلَاءِ على ما لقوا من قومهم، فتستعين أنت على الصبر مما تلقى من قومك.
أو يقول: اذكر حسن معاملة هَؤُلَاءِ ربهم وحسن سيرتهم فيما بينهم وبين الخلق؛ لتعامل أنت ربك مثل معاملتهم ومثل سيرتهم.
أو يقول: اذكر هَؤُلَاءِ ومن ذكر، أي أكثر عليهم بحسن الثناء واذكرهم بخير ما أثنى عليهم، وأمر الناس أن يثنوا عليهم على ما تقدم ذكره؛ ليكونوا أبدًا أحياء بحسن الثناء والذكر.
أو أن يقول: اذكر هَؤُلَاءِ أن كيف عاملهم اللَّه واختارهم لرسالته وما ذكر اللَّه، والله أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْيَسَعَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو إلياس، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو غيره، وكان ابن عم إلياس، واللَّه أعلم.
(وَذَا الْكِفْلِ) اختلف فيه إيضًا:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان إلياس في أربعمائة نبي - عليهم السلام - في زمن ملك، فقتل الملك ثلاثمائة منهم فكفل رجل إلياس في مائة نبي فكفلهم وخبأهم عنده يطعمهم ويسقيهم حتى خرجوا من عنده، وكان الكفل بمنزلة من الملك فلذلك سمي: ذا الكفل؛ لأنه خبأهم وكفلهم، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي: ذا الكفل؛ لأنه كفل لله - عَزَّ وَجَلَّ - خوفًا لله به، فسمي: ذا الكفل.
وقال أبو موسى الأشعري: إن ذا الكفل لم يكن نبيًّا، ولكن كان رجلا صالحًا فكفل بعمل رجل صالح عند موته كان يصلي لله - عَزَّ وَجَلَّ - كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عليه لسابق كفالته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن نبيًّا من الأنبياء قال لقومه: أيكم يكفل بتبليغ ما بعثت به إلى الناس بعدي لأضمن له الجنة والدرجة العليا، فقال شاب: إنا نكفل التبليغ على ذلك ووفى ما
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ أي : هم عندنا أهل صفوة ؛ صفاهم الله عز وجل واختارهم لنفسه ورسالته.
قول بعضهم :﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ : اختارهم على علم الرسالة.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ : يحتمل قوله عز وجل ﴿ واذكر ﴾ وجوها على ما ذكرنا :
أحدها : اذكر صبر هؤلاء على ما لقوا من قومهم، فتستعين أنت على الصبر بما تلقى من قومك.
والثاني : اذكر حسن معاملة هؤلاء ربهم وحسن سيرتهم في ما بين الخلق لتعامل أنت ربك مثل معاملتهم ومثل سيرتهم.
والثالث : اذكر هؤلاء ومن ذكر، أي أثن عليهم بحسن الثناء، واذكرهم بخير ما أثنى عليهم الله عز وجل وأمر الناس أن يثنوا عليهم على ما تقدم ذكره ليكونوا أبدا أحياء بحسن الثناء والذكر.
والرابع : اذكر هؤلاء أن كيف عاملهم الله، واختارهم لرسالته، وما ذكر الله، والله أعلم.
ثم قوله عز وجل :﴿ واليسع ﴾ قال بعضهم : هو إلياس، وقال بعضهم : هو غيره، وكان ابن عم إلياس، والله أعلم ﴿ وذا الكفل ﴾ اختلف فيه أيضا : قال بعضهم : كان إلياس في أربع مئة نبي عليهم السلام في زمن ملك، فقتل الملك ثلاث مئة منهم. فكفل رجل إلياس في مئة نبي، فكفلهم، وخبأهم عنده يطمعهم، ويسقيهم، حتى خرجوا من عنده. وكان الكفل بمنزلة من الملك. فلذلك سمي ذا الكفل، لأنه خبأهم، وكفلهم، والله أعلم.
وقال بعضهم : سمي ذا الكفل لأنه كفل لله عز وجل ووفى الله به، فسمي ذا الكفل.
وقال أبو موسى الأشعري : إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكن كان رجلا صالحا، تكفل بعمل رجل صالح عند موته، كان يصلي لله عز وجل كل يوم مئة صلاة، فأحسن الله عليه الثناء في كفالته.
وقال بعضهم : إن نبيا من الأنبياء قال لقومه : أيكم يتكفل بتبليغ ما بعثت أنا إلى الناس بعدي لأضمن له الجنة والدرجة العليا ؟ فقال شاب : أنا أكفل التبليغ على ذلك، ووفى ما كفل، فسمي ذا الكفل لذلك، والله أعلم.
وليس لنا معرفة ذلك حاجة أنه لماذا ؟ وأن اليسع كان فلانا سوى أن يعرفهم أنهم من الأخيار على ما ذكر الله عز وجل والله أعلم.
وبعد فإن معرفة أخبار الآحاد توجب علم العمل، ولا توجب علم الشهادة، وليس ههنا سوى الشهادة على الله، والترك أولى. .
كفل، فسمي: ذا الكفل لذلك، واللَّه أعلم.
وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة أنه لماذا؟ وأن اليسع كان فلانًا سوى أن نعرفهم أنهم من الأخيار على ما ذكر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم.
وبعد فإن معرفة ذلك بأخبار الآحاد يوجب علم العمل ولا يوجب علم الشهادة، وليس هاهنا سوى الشهادة على اللَّه، والترك أولى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هَذَا ذِكْرٌ... (٤٩)
يحتمل قوله: (هَذَا ذِكْرٌ)، أي: شرف وذكر للذي تقدم ذكرهم من الأخيار؛ لأنهم يذكرون أبدًا بخير وحسن الثناء عليهم بما كان منهم من حسن السيرة والعمل، فذلك شرفهم حيث صاروا مذكورين على ألسن الناس وهم أموات.
أو أن يكون ذكر هَؤُلَاءِ ذكرى وعظة لمن بعدهم.
أو ذكرى لك وعظة لتعرف حسن معاملة الرب لهم.
أو هذا القرآن ذكر وعظة لمن آمن به، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ).
جملة الاتقاء: هو أن يتقي المهالك، أي: اتقوا جميع ما يهلككم (لَحُسْنَ مَآبٍ)، أي: مرجع، ثم بين ووصف حسن المرجع الذي يرجعون إليه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَنَّاتِ عَدْنٍ... (٥٠).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَنَّاتِ عَدْنٍ).
أي: مقام، يقال: عدن في مكان كذا، أي: أقام، كأنه جنات يقام فيها لا يبغون عنها حولا ولا غَيرًا على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَدْنٍ) الذي هو وسط الشيء كأنه ذكر أن جنة عدن كانت وسط الجنان، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ).
يحتمل قوله: (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ) أبواب الجنة، يقال له: ادخل أي باب من أبوابها شئت على ما يقوله بعض الناس.
وجائز أن يكون أبواب كل أحد منهم في الجنة تكون مفتحة؛ لأن إغلاق الأبواب إنما يكون في الدنيا إما لخوف السرقة أو نظر الناس إلى أهله وحرمه، وخوف نظر أهله إلى الناس؛ لهذا المعنى يتخذ الأبواب في الدنيا والغلق والإغلاق دونهم، وليس ذلك المعنى في الجنة؛ لما أخبر أن أزواجهم يكن قاصرات الطرف لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا
بين حسن المرجع الذي يرجعون إليه حين قال عز وجل :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ أي مقام، يقال : عدن في مكان كذا، أي أقام، كأنه قال : جنات مقام فيها ﴿ لا يبغون عنها حولا ﴾ [ الكهف : ١٠٨ ] ولا غيرها أعلى مما أخبر الله عز وجل :﴿ ولا يبغون عنها حولا ﴾.
وقال بعضهم : عدن الذي هو وسط الشيء كأنه ذكر أن الجنة عدن، كانت وسط الجنان، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ يحتمل قوله :﴿ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ أبواب الجنة. يقال لهم : ادخل أي باب من أبوابها شئت على ما يقوله بعض الناس.
وجائز أن تكون أبواب كل أحد منهم في الجنة، تكون مفتحة، لأن الإغلاق في الأبواب إنما يكون في الدنيا إما لخوف السرق أو نظر الناس إلى أهله وحرمه وخوف نظر أهله إلى الناس. لهذا المعنى تتخذ الأبواب في الدنيا، والغلق والإغلاق دونهم، وليس ذلك المعنى في الجنة لما أخبر أن أزواجهم يكن قاصرات الطرف، لا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا يكون فيها أبواب لما ذكرنا أن الأبواب إنما تتخذ لخوف السرق والنظر في حرمهم، والله أعلم.
يكون فيها خوف السرقة؛ لذلك كان ما ذكر.
والأشبه ألا يكون فيها أبواب؛ لما ذكرنا أن الأبواب إنما تتخذ لخوف السرقة والنظر في حرمهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١)
هذا - واللَّه أعلم - كأنه وصف حال اجتماعهم؛ لأنه لذلك يدعى بالفواكه والشراب في الدنيا، وأما في حال الانفراد قلما يدعون بالشراب.
ثم فيه إخبار أنهم يدعون في الجنة بالفواكه والشراب جميعًا وفي الدنيا العرف فيهم أن أهل الشراب قلما يجمعون بين الفواكه والشراب لوجهين: إما لخوف الضرر بهم إذا جمع، أو لما لا يوجدان، وليس هذان المعنيان في الجنة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ).
كأن ذكر الكثرة كناية عن أنواع الفواكه وألوان مختلفة في كل نوع، ليس بعبارة عن الكثرة من نوع واحد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢)
أي: طرفهن يقصرنه على أزواجهن، لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا يرون غيرهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتْرَابٌ).
قالوا: مستويات الأسنان، أراد أن يكونوا جميعًا الأزواج والزوجات على سن واحد.
أو أن يخبر أنهم جميعًا يكونون على حال واحدة لا يتغيرون ولا يهرمون، كما يكون في الدنيا بعضهم أكثر سنًّا من بعض وأضعف حالا من الآخر، ولكن لا يهرمون ولا يكبرون ولا يضعفون، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣)
كأنه يقول لهم الملائكة: هذا ما توعدون أهل الجنة في القرآن، نَا مَا لَهُ مِنْ نَفَا ثم أتاهم من اللَّه بشارة يبقى لهم ذلك أبدًا وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُدٍ (٥٤) أي: انقطاع وذهاب، نفد الشي: إذا فني وذهب، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (٥٩) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (٦٢) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ
قوله تعالى :﴿ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ أي : طرفهم يقصرنه على أزواجهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا يردن غيرهم، والله أعلم.
وقوله عز وجل :﴿ أتراب ﴾ قالوا : مستويات الأسنان، أراد أن يكونوا جميعا : الأزواج والزوجات على سن واحد، أو أن يخبر أنهم جميعا يكونون على حال واحدة، لا يتغيرون، ولا يهرمون، كما يكون في الدنيا بعضهم أكثر سنا من بعض وأضعف حالا من الآخر. ولكن لا يهرمون، ولا يكبرون، ولا يضعفون، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ كأنه تقول لهم الملائكة : هذا ما توعدون أهل الجنة في القرن.
أتاهم من الله بشارة، تبقي لهم ذلك أبدا، وهو ما قال عز وجل :﴿ إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ﴾ أي انقطاع وذهاب. نفد الشيء، إذا فني، وذهب، والله ألعم. وقوله تعالى :﴿ هذا ﴾ أي هذا الذي ذكرنا ثواب المتقين، وجزاء تقواهم.
الْأَبْصَارُ (٦٣) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا... (٥٥) أي: هذا الذي ذكرنا ثواب المتقين وجزاء تقواهم.
ثم بين جزاء الطاغين، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ).
أي: لبئس المرجع، ثم بَيَّن ما هو فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) أي: بئسما مهدوا لأنفسهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) أي: هذا الذي ذكرنا جزاء الطاغين والطغيان يرجع إلى وجوه إلا أن أصله هو الذي لا يجتنب المهالك ولا يتقي، والمتقي هو الذي يتقي المهالك ويجتنبها حقيقة التقى والطغيان ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ).
كان الملاثكة تقول لهم إذا أدخلوا جهنم وألقوا فيها: (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ)، والحميم: هو الشراب الذي قد انتهى حره غايته ونهايته، والغساق: اختلفوا فيه: قال بعضهم: هو ما يسيل من الصديد والقيح واللحم، جعل ذلك شرابهم في النار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغساق: هو الزمهرير، والزمهرير: هو البرد الذي بلغ غايته ونهايته يحرق بشدة برده، كما يحرق الحميم الذي بلغ نهايته وشدة حره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)
اتفق أهل التأويل - أو أكثرهم - على أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) وهو العذاب كأنه يقول: وآخر من شكل ما ذكر من العذاب له.
ثم اختلفوا في ذلك العذاب الذي قالوا: (مِنْ شَكْلِهِ):
قال عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو الزمهرير، وروي عن الحسن: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ): ألوان من العذاب، وقَالَ بَعْضُهُمْ: زوج من العذاب.
ويشبه أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) أي: قوم من شكل أُولَئِكَ الذين ذكرهم يقربون إلى أُولَئِكَ؛ فيجمعون في العذاب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ).
أو أن يكون فوج آخر يدخلون من شكل الأولين، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا فَوْجٌ
بين ذلك المرجع، ما هو ؟ فقال : عز وجل :﴿ جهنم يصلونها فبئس المهاد ﴾ أي فبئس ما مهدوا لأنفسهم.
قوله تعالى :﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ : كأن الملائكة يقولون إذا أدخلوا جهنم، وألقوا فيها :﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ والحميم، هو الشراب الذي انتهى حره غايته ونهايته، والغساق اختلفوا فيه :
قال بعضهم : هو ما يسيل من الصديد والقيح واللحم، جعل ذلك شرابهم في النار.
وقال بعضهم : الغساق، هو الزمهرير، والرمهرير، هو البرد الذي بلغ غايته ونهايته ؛ يحرق بشدة برده كما يحرق الحميم الذي بلغ نهايته شدة حره، والله أعلم.
قال القتبي : الغساق ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من الصديد ؛ يقال : غسقت منه، أي سألت، ويقال : هو البارد المنتن. وكذلك قال أبو عوسجة.
قوله عز وجل :﴿ وآخر من شكله أزواج ﴾ من مثله، الشكل المثل، والشكل بكسر وفتح الشين الغنج، وشَكِلَت المرأة إذا تغنجت،
قوله تعالى :﴿ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ اتفق أهل التأويل، أو أكثرهم، على أن قوله عز وجل :﴿ وآخر من شكه أزواج ﴾ هو العذاب ؛ كأنه يقول : وآخر من شكل ما ذكر من العذاب لهم.
ثم اختلفوا في ذلك العذاب الذي قالوا :﴿ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : هو الزمهرير. وروي عن الحسن :﴿ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ ألوان من العذاب. وقال بعضهم : زوج من العذاب.
ويشبه أن يكون قوله عز وجل :﴿ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ أي قوم من شكل أولئك الذين ذكرهم، يقربون إلى أولئك، فيجمعون في العذاب كقوله عز وجل :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] أو أن يكون فوج آخر يدخلون من شكل الأولين.
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ... (٥٩). يقول المتبوعون للأتباع لما أدخلوا النار ورأوهم: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ) أي: لا سعة بهم وهو من الرحب وهو السعة، فأجابهم الأتباع: (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قالت الخزنة لمن في النار: (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ) فيردون على الخزنة: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ) فيرد عليهم القوم الذين اقتحموا النار بعدهم: (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ).
وأصل هذا: أن هذا منهم لعن، يلعن بعضهم بعضًا؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)، ونحو ذلك من الآيات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١)
هذا كقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)، هذا قول الأتباع للقادة والرؤساء منهم، ثم ردت القادة على الأتباع، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) فعلى ذلك هذه المناظرة التي ذكرت هاهنا بين القادة والأتباع.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا)، وقوله: (مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا) أي: أنتم شرعتموه لنا في الدنيا وسننتموه، ولذلك قولهم: (مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا) أي: من شرع لنا هذا وسن الذي كنا عليه وأمرنا به فزده عذابًا في النار وهو كما ذكر في سورة سبأ حيث قالوا: (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا)، واللَّه أعلم.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: الغساق: ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من الصديد، يقال: غسقت عنه، أي: سَالت، ويقال: هو البارد المنتن؛ وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ): من مثله، الشكل: المثل، والشكل بنصب الشين الغنج، وشكلت المرأة إذا انغنجت، والتقحم الدخول واقتحمت كلمة واحدة وهو الدخول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ).
أي: لا سعة بهم، والرحيب والرحب: الواسع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (٦٢) إلى آخر ما
أجابهم الأتباع :﴿ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾. قال بعضهم : قالت الخزنة لمن في النار ﴿ هذا فوج مقتحم ﴾ فيردون على الخزنة ﴿ لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار ﴾ فيرد عليهم القوم الذين اقتحموا النار بعدهم ﴿ بل أنتم لا مرحبا بكم ﴾.
وأصل هذا أن هذا نمهم لعن، يلعن بعضهم بعضا كقوله عز وجل :﴿ ثم يوم القيامة يكف بعضكم ببعض ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ﴾ هذا كقوله ﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] هذا قول الأتباع للقادة والرؤساء منهم، ثم ردت القادة على الأتباع، وهو قوله عز وجل :﴿ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٩ ]. فعلى ذلك المناظرة التي ذكرت ههنا بين القادة والأتباع.
ثم قوله عز وجل :﴿ أنتم قدمتموه لنا ﴾ أي أنتم شرعتموه لنا في الدنيا، وسننتموه. وكذلك قولهم :﴿ من قدم لن هذا ﴾ أي من شرع لنا هذا وسن الدين الذي كنا عليه، أمرنا به ﴿ فزده عذابا ضعفا في النار ﴾ وهو كما ذكر في سورة سبإ حين قالوا :﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ﴾ [ سبإ : ٣٣ ] والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ﴾ ﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ﴾ هذا ما يقولون في الآخرة في النار. هذا ليلزمهم الحجة وإلا ﴿ تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] لأن هذه السورة مكية نزلت محاجة أهل مكة في إثبات التوحيد وإثبات الرسالة وإثبات البعث، وإثبات البعث، لأنهم كانوا على فرق ثلاث : منهم من ينكر التوحيد، ومنهم من ينكر الرسالة ومنهم من ينكر البعث.
فذكر الآية المتقدمة لإثبات الرسالة في ما تقدم، وذكرحجج البعث في هذه الآيات وحجج التوحيد في آخره. ذكر ذلك كله ليلزمهم الحجة، وإن أنكروا ذلك لئلا يقولوا :﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ].
ثم في هذه الآية دلالة أن عقوبة الله قد تلزم، وإن لم يتحقق عنده الحق، ولم يعرفه حقيقة حين أخبر أنهم يقولون في النار ما ذكر عز وجل :﴿ ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ﴾ لأنه معلوم أنهم لو علموا حقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا على حق ما تركوا اتباعه، ولا سخروا منهم.
وعلى ذلك تخرج مباهلة أبي جهل يوم بدر حين قال : اللهم أينا أوصل رحما وأكثر كذا على ما ذكر فانظر إليه. ومعلوم أنه لو كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق لكان لا يجترئ على المباهلة.
دل أنه لم يعلم حقيقة أنه على حق، فعوقبوا، وإن لم يعلموا لما أمكن لهم من العلم والمعرفة، لو تأملوا، وأحسنوا النظر في ذلك، والله أعلم.
ثم قوله عز وجل :﴿ ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ﴾ قال أهل التأويل : إنهم ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم في دينهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا، ويسخرون منهم. يقولون : كنا نسخر منهم في الدنيا، فأين هم ؟ وما لنا لا نراهم ؟ أم زاغت عنهم الأبصار، أي حارت، وشغلت أبصارنا، فلا نراهم.
لكن لا يحتمل أن يكونوا يقولون على هذا الذي يقوله أهل التأويل، ولكن يقولون على التلهف والتندم على ما كان منهم في الدنيا من ترك اتباعهم والسخرية منهم، قد ظهر عندهم أن أولئك كانوا على حق ؛ أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنهم على باطل.
فلا يحتمل أن يقولوا ذلك على غير التلهف والتندم، وقد عرفوا بماذا عذبوا، وجعلوا في النار ؛ عرفوا أنهم يكذبون في النار ؛ يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كانوا على خلاف ما كان أولئك الكفرة، والله أعلم.
أو أن يقولوا ذلك على الاستعانة بهم ؛ يقولون : أين أولئك الذي كانوا ﴿ أتخذناهم سخريا ﴾ في الدنيا : لعلهم يشفعون لنا، فيغيثوننا ؟ يطمعون بالنجاة إذا اتبعناهم في ذلك الوقت أو نحو ذلك كقوله عز وجل :﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ﴾ [ الحجر : ٢ ] وهذا الذي ذكرنا هو أشبه بما يقوله أهل التأويل، والله أعلم.
ذكر، ذكر هذا يقول في الآخرة في النار هذا؛ ليلزمهم الحجة وألا يقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)؛ لأن هذه السورة مكية، نزلت في محاجة أهل مكة في إثبات التوحيد وإثبات الرسالة، ومنهم من ينكر البعث، ذكر الأنباء المتقدمة لإثبات الرسالة فيما تقدم، وذكر حجج البعث في هذه الآيات وحجج التوحيد في آخره، ذكر ذلك كله لهم ليلزمهم الحجة وإن أنكروا ذلك؛ لئلا يقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
ثم في هذه الآية دلالة أن عقوبة اللَّه قد تلزم وإن لم يحقق عنده الحق ولم يعرفه حقيقة؛ حيث أخبر أنهم يقولون في النار ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ)؛ لأنه معلوم أنهم لم يعلموا حقيقة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا على حق وإلا ما تركوا اتباعه ولا سخروا منهم؛ وعلى ذلك يخرج مباهلة أبي جهل يوم بدر حيث قال: " اللهم أينا أوصل رحما وآثر... كذا على ما ذكروا - نصر عليه "، ومعلوم أنه لو كان يعلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على حق لكان لا يجترئ على المباهلة دل أنه لم يعلم حقيقة أنه على حق، فعوقبوا وإن لم يعلموا لما مكن لهم من العلم والمعرفة لو تأملوا وأحسنوا النظر في ذلك، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ)
قال أهل التأويل: إنهم ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم في دينهم وهم أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا ويسخرون منهم، يقولون: كنا نسخر منهم في الدنيا فأين هم؟ وما لنا لا نراهم (أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣) أي: حارت وشغلت أبصارنا فلا نراهم.
لكن لا يحتمل أن يكونوا يقولون على هذا الذي يقوله أهل التأويل، ولكن يقولون على التلهف والتندم على ما كان منهم في الدنيا من ترك اتباعهم والسخرية منهم قد ظهر عندهم أن أُولَئِكَ كانوا على حق - أعني: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - وأنهم على باطل، فلا يحتمل أن يقولوا ذلك على غير التلهف والتندم، وقد عرفوا بماذا عذبوا وجعلوا في النار؟ عرفوا أنهم لا يكونون في النار - يعني: أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ كانوا على خلاف ما كان أُولَئِكَ الكفرة عليه، واللَّه أعلم.
أو أن يقولوا ذلك على الاستغاثة بهم يقولون: أين أُولَئِكَ الذين كانوا اتخذناهم سخريا
في الدنيا لعلهم يشفعوننا فيعينوننا يطمعون النجاة إذا اتبعوهم في ذلك الوقت أو نحو ذلك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، وهذا الذي ذكرنا هو أشبه مما يقوله أهل التأويل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
قَالَ بَعْضُهُمْ: القسم بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ص وَالْقُرْآنِ) وقع على هذا على ما ذكرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا على التقديم والتأخير، يقول: إن ذلك الذي ذكره من إحن بعض على بعض حيث قالوا: (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا)، وقولهم: (رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ)، وما ذكر في سورة الأعراف: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ...)، كذا و (أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ)، كذا، أي: ذلك التخاصم الذي ذكر الحق، أي: كائن فيما بينهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ (٦٥)
ليس عليَّ مما حملتم شيء، إنما ذلك عليكم إنما عليَّ الإنذار لكم فقط.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
يقول - واللَّه أعلم -: ما من إله عندي دونه بإله، إنما الإله هو الواحد القهار الذي تفرد وتوحد بربوبيته وألوهيته، قهر الخلائق كلهم بقدرته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦)
يخبر عن غنائه وسلطانه يقول - واللَّه أعلم -: تعلمون أنه رب السماوات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما بينهما، فلا يحتمل أن ما يأمركم به وينهاكم عنه، إنما يأمركم لحاجة
قوله تعالى :﴿ قل إنما أنا منذر ﴾ ليس علي مما حملتم شيء، إنما ذلك عليكم، إنما على الإنذار لكم فقط. وقوله تعالى :﴿ وما من إله إلا الله الواحد القهار ﴾ يقول، والله أعلم : ما من إله عند دونه لإله، إنما الإله هو الواحد القهار الذي تفرد، وتوحد بربوبيته وألوهيته، قهر الخلائق كلهم بقدرته.
قوله عز وجل :﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ : يخبر عن غناه وسلطانه ؛ يقول، والله أعلم : يعلمون أنه رب السماوات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما بينهما، فلا يحتمل أن ما يأمركم به، وينهاكم عنه لحاجة نفسه أو لمنفعة له، ولكن إنما يأمر، وينهى لمنفعة أنفسكم ولحاجتكم، أو يقول : تعلمون أنه هو ربكم ورب ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما، فكيف تعبدون من تعلمون أنه ليس بربكم، ولا إله. وإنما الإله ما ذكر، فتتركون عبادته وطاعته.
وقوله عز وجل :﴿ العزيز الغفار ﴾ أي لا يلحقه الذل بذل أوليائه وخدمه، لأنه عزيز بذاته، لا بأحد، ليس كملوك الأرض يذلون، إذ ذل أولياؤهم وأتباعهم، لأن عزهم بأوليائهم وأتباعهم. فإذا ذلوا ذل من كان عزه بهم. فأما الله سبحانه وتعالى فهو عزيز بذاته، لا يلحقه الذل بذل أوليائه ولا هلاكهم.
نفسه أو لمنفعة له، ولكن إنما يأمر وينهى لمنفعة أنفسكم ولحاجتكم.
أو يقول: تعلمون أنه هو ربكم ورب ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما، فكيف تعبدون من تعلمون أنه ليس بربكم ولا إله، وإنما الإله ما ذكر فتتركون عبادته وطاعته؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).
أي: لا يلحقه الذل بذل أوليائه وخدمه؛ لأنه عزيز بذاته لا بأحد ليس كملوك الأرض يذلون إذا ذل أولياؤهم وأتباعهم؛ لأن عزهم بأوليائهم وأتباعهم فإذا ذلوا ذل من كان عزه بهم، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فعزيز بذاته لا يلحقه الذل بذل أوليائه ولا هلاكهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) له تأويلان:
أحدهما: أن هذا القرآن الذي أنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبأ عظيم أنتم عن التفكر فيه والنظر معرضون؛ لأن فيه ذكر ما نزل بالمكذبين بالتكذيب والعناد، وفيه ذكر من نجا منهم بم نجا؟ وفيه ذكر ما يؤتى وما يتقى، وفيه ذكر البعث وذكر الجنة والنار ونحوه، وذكر ما لهم وما عليهم، فهم عن التفكر فيه والنظر معرضون ما لو تفكروا فيه وتأملوا، لأدركوا كله ووصلوا إلى معرفة كل ما فيه مما ذكرنا، واللَّه أعلم.
والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي: البعث والحشر هو نبأ عظيم أنتم عن السعي والعمل لذلك معرضون تاركون.
فمن جعل تأويله على البعث والحشر يجعل الإعراض عن السعي له والعمل لذلك اليوم، ومن حمل تأويله على القرآن يجعل الإعراض عن التفكر فيه والنظر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ...) الآية.
اختلف في الملأ الأعلى: قال عامة أهل التأويل: الملأ الأعلى: هم الملائكة الذين تكلموا في آدم - عليه السلام - حين قال لهم الرب - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فقالوا عند ذلك: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ليس على حقيقة الخصومة، ولكن على التكلم في ذلك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا)، كأنها ليس على التنازع المعروف عند الناس والخصومة، ولكن على اختلاف الأيدي فعلى ذلك ما ذكر من اختصامهم، واللَّه أعلم.
ومعناه: ما كان لي من علم من اختصام الملأ الأعلى وما كان منهم من التكلم إلا أن أوحي إليَّ فعلمت وإنما أنا نذير مبين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧: ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ له تأويلان :
أحدهما : أن هذا القرآن الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم نبأ عظيم، أنتم عن التفكر فيه والنظر معرضون، لأن فيه ذكر ما نزل بالمكذبين والعناد، وفيه ذكر من نجا منهمأنه بم نجا ؟ وفيه ذكر البعث وذكر الجنة والنار ونحوه، وذكر ما لهم وما عليهم. فهم عن التفكر فيه والنظر معرضون ما لو تفكروا فيه، وتأملوا، لأدركوه كله، ووصلوا إلى معرفة كل ما فيه مما ذكر، والله أعلم.
والثاني : قوله عز وجل :﴿ قل هو نبأ عظيم ﴾ أي البعث والحشر هو نبأ عظيم، أنتم عن السعي والعمل لذلك معرضون، تاركون. فمن جعل تأويله غير البعث والحشر يجعل الإعراض عن السعي له والعمل لذلك اليوم. ومن حمل تأويله على القرآن يجعل الإعراض عن التفكر فيه، والنظر، والله أعلم.

قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ ﴿ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ اختلف في الملأ الأعلى :
قال عامة أهل التأويل : الملأ الأعلى، هم الملائكة الذين تكلموا في آدم عليه السلام حين قال لهم الرب عز وجل :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ فقالوا عند ذلك :﴿ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ الآية [ البقرة : ٣٠ ] وقوله تعالى :﴿ إذ يختصمون ﴾ ليس على حقيقة الخصومة، ولكن على التكلم في ذلك كقوله ﴿ يتنازعون فيها ﴾ [ الطور : ٢٣ ] كأنها ليست على التنازع المعروف عند الناس والخصومة، ولكن على اختلاف الأيدي.
فعلى ذلك ما ذكر من اختصامهم، والله أعلم. ومعناه :﴿ ما كان لي من علم ﴾ من اختصام الملإ الأعلى، وما كان منهم من التكلم إلا أن أوحي إلي، فعلمت، وأنما ﴿ أنا نذير مبين ﴾.
قال بعضهم :﴿ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ﴾ وما كان اختصامهم في الكفارات وفي الدرجات وفي المنجيات والموبقات حتى علمني الله ذلك بالوحي إلي، وأعلمني ذلك.
ويذكرون " أن الكفارات، هي إسباغ الوضوء في المكاره، وبذل الطعام عند الضيق والشدائد " [ بنحو البزار في كشف الأستار : ٢١٢٩ ] ونحوها مما يطول ذكره، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله عز وجل :﴿ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ﴾ أي بالجمع الأعلى، وهو جمع يوم القيامة سماه الجمع الأعلى لأنه جمع الأولين والآخرين من الفرق جميعا ؛ أي ما كان لي من علم بذلك الجمع حتى علمت بالوحي.
وقوله عز وجل :﴿ إذ يختصمون ﴾ في ذلك اليوم تقع الخصومات كقوله عز وجل :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عن ربكم تختصمون ﴾ [ الزمر : ٣١ ] وهو على حقيقة الخصومة.
وجائز أن يكون الملأ الأعلى، هم الأشراف من أولئك الكفرة والقادة، منهم الذين أهلكوا بالتكذيب ومن نجا منهم بالتصديق، فيقول : ما كان لي من علم بهم، وما نزل بهم أوحي إلي، فعلمت بالوحي.
كأنهم سألوه عن ذلك. فأخبر أني كنت كواحد منكم في ذلك حتى عملت ذلك بالوحي ﴿ إلا أنما أنا نذير مبين ﴾ أمرني ربي، وأوحى إلي أن أنذركم بذلك متى أعلم بالوحي، والله أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٩:قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ ﴿ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ اختلف في الملأ الأعلى :
قال عامة أهل التأويل : الملأ الأعلى، هم الملائكة الذين تكلموا في آدم عليه السلام حين قال لهم الرب عز وجل :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ فقالوا عند ذلك :﴿ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ الآية [ البقرة : ٣٠ ] وقوله تعالى :﴿ إذ يختصمون ﴾ ليس على حقيقة الخصومة، ولكن على التكلم في ذلك كقوله ﴿ يتنازعون فيها ﴾ [ الطور : ٢٣ ] كأنها ليست على التنازع المعروف عند الناس والخصومة، ولكن على اختلاف الأيدي.
فعلى ذلك ما ذكر من اختصامهم، والله أعلم. ومعناه :﴿ ما كان لي من علم ﴾ من اختصام الملإ الأعلى، وما كان منهم من التكلم إلا أن أوحي إلي، فعلمت، وأنما ﴿ أنا نذير مبين ﴾.
قال بعضهم :﴿ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ﴾ وما كان اختصامهم في الكفارات وفي الدرجات وفي المنجيات والموبقات حتى علمني الله ذلك بالوحي إلي، وأعلمني ذلك.
ويذكرون " أن الكفارات، هي إسباغ الوضوء في المكاره، وبذل الطعام عند الضيق والشدائد " [ بنحو البزار في كشف الأستار : ٢١٢٩ ] ونحوها مما يطول ذكره، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله عز وجل :﴿ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ﴾ أي بالجمع الأعلى، وهو جمع يوم القيامة سماه الجمع الأعلى لأنه جمع الأولين والآخرين من الفرق جميعا ؛ أي ما كان لي من علم بذلك الجمع حتى علمت بالوحي.
وقوله عز وجل :﴿ إذ يختصمون ﴾ في ذلك اليوم تقع الخصومات كقوله عز وجل :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عن ربكم تختصمون ﴾ [ الزمر : ٣١ ] وهو على حقيقة الخصومة.
وجائز أن يكون الملأ الأعلى، هم الأشراف من أولئك الكفرة والقادة، منهم الذين أهلكوا بالتكذيب ومن نجا منهم بالتصديق، فيقول : ما كان لي من علم بهم، وما نزل بهم أوحي إلي، فعلمت بالوحي.
كأنهم سألوه عن ذلك. فأخبر أني كنت كواحد منكم في ذلك حتى عملت ذلك بالوحي ﴿ إلا أنما أنا نذير مبين ﴾ أمرني ربي، وأوحى إلي أن أنذركم بذلك متى أعلم بالوحي، والله أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ما كان اختصامهم في الكفارات وفي الدرجات وفي المنجيات والموثقات حتى علمني اللَّه ذلك بالوحي إليَّ وأعلمني ذلك، ويذكرون أن الكفارات هو إسباغ الوضوء في المكروهات وبذل الطعام عند الضيق والشدائد ونحوها مما يطول ذكره، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي: بالجمع الأعلى وهو جمع يوم القيامة، سماه: الجمع الأعلى؛ لأنه جمع الأولين والآخرين من الفرق جميعًا، أي: ما كان لي من علم بذلك الجمع حتى علمت بالوحي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَخْتَصِمُونَ).
في ذلك اليوم تقع الخصومات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، وهو على حقيقة الخصومة.
وجائز أن يكون الملأ الأعلى هم الأشراف من أُولَئِكَ الكفرة والقادة، منهم الذين أهلكوا بالتكذيب ومن نجا منهم بالتصديق؛ يقول: ما كان لي من علم بهم وما نزل بهم أوحي إلَّي فعلمت بالوحي، كأنهم سألوه عن ذلك فأخبر، أي: كنت كواحد منكم في ذلك حتى علمت ذلك بالوحي، ألا إنما أنا نذير مبين أمرني ربي وأوحى إليَّ أن أنذركم بذلك حين أعلم بالوحي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١)
ظاهر هذا أن يكون لا على القول منه لهم، ولكن على الخبر أنه كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
ثم ذكر الذي خلق منه آدم على أوصاف مختلفة: مرة ذكر أنه خلق من طين، ومرة من تراب، ومرة من حمأ مسنون، ومرة كالصلصال، ومرة كالفخار، ومرة لازب وغيره على اختلاف ما ذكر؛ فجائز أن يكون كل وصف من ذلك قد كان وصف عن حال، كان ترابًا، ثم صار طينًا ثم ما ذكر ووصف، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي... (٧٢)
إضافة الروح إلى نفسه كإضافة خلق من خلائقه إليه؛ إذ الروح خلق من خلائقه كسائر الخلائق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).
لولا صرف أهل التأويل سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود وإلا كنا نصرفه
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ : إضافة الروح إلى نفسه كإضافة خلق من خلائقه إليه، إذ الروح خلق من خلائقه كسائر الخلائق.
وقوله تعالى :﴿ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ لولا صرف أهل التأويل سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود، لكنا نصرف الأمر به إلى الخضوع له والاستسلام كما أحوج الملائكة إلى معرفة هذه الأسماء إلى آدم، وبه عرفوها حين قال عز وجل :﴿ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٣٣ ]. لكن صرف أهل التأويل سجود الملائكة إلى حقيقة السجود له جائز لأنهم ممتحنون بالأمر والنهي، وقد بينا ذلك في ما تقدم.
لآخر: إلى الخضوع له والاستسلام، كما أحوج الملائكة إلى معرفة هذه الأسماء إلى آدم وبه عرفوها حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ)، لكن صرف أهل التأويل سجود الملائكة إلى حقيقة السجود له جائز؛ لأنهم ممتحنون بالأمر والنهي وقد بينا ذلك فيما تقدم.
ثم استثنى إبليس من الملائكة وأخبر أنه استكبر وأبي أن يسجد له حيث قال - عز وجل -: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤).
على قول من يقول: إن إبليس كان من الملائكة، فلما أبى السجود، خذله ووكله إلى نفسه صار كافرًا؛ ليعلم أن كل أحد وإن عظم قدره وجلت منزلته يحتمل خلاف ما هو عليه وضده، وأنه متى امتحنه بأمر فترك أمره؛ تكبرًا أو استخفافًا - خذله ووكله إلى أمره ونفسه فصار كافرًا مخذولًا حقيرًا؛ ليكونوا أبدًا على حذر وفزع إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ما أخبر من عظم قدر الملائكة عند اللَّه وجليل منزلتهم عنده إذا خذلهم ووكلهم إلى أنفسهم صاروا كما صار إبليس، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
أي: كان في علم اللَّه أنه يكفر.
أو كان بمعنى صار من الكافرين إذ أبى السجود واستكبر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - لآدم: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، أي: تصيرا من الظالمين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥)
قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن تخصيص إضافة الشيء الواحد إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يخرج مخرج تعظيم ذلك الواحد وذلك الفرد؛ كقوله: بيت اللَّه ومساجد اللَّه ورسول الله وولي اللَّه وأشباه ذلك، وخص هذه الأشياء بالإضافة إليه وإن كانت البقاع كلها والخلق كله له على التعظيم لذلك؛ فعلى ذلك يخرج إضافة خلق آدم إلى نفسه مخرج تعظيم آدم حيث قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وإن كان جميع الخلائق هو خلقهم، ويخرج إضافة كلية الأشياء إلى اللَّه وكلية الخلائق إليه مخرج تعظيم الربّ والمدح له؛ نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، ورزاق، يخلق منشأ العالم ومبدأه، وهو على كل شيء قدير، مالك الملك، وغير ذلك على ما ذكرنا فيما تقدم، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ).
قد تكلف أهل الكلام والتأويل في تأويل إضافة اليد إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: منهم من قال: القوة، ومنهم من قال: كذا، لكن التكلف في ذلك فضل مع ما قد يضاف اليد إلى
646
من لا يد له ولا جارحة ولا عضو، نحو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: ، (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) لم يفهم أحد بذكر اليد له ولا الخلف ما يفهم من الخلق ولا ذهابهم، وكذلك ما ذكر من مجيء البرهان حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)، و (قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ)، وأمثال ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه، لم يفهم أحد من الخلائق من مجيء هذه الأشياء التي ذكرنا مجيء الخلق ولا فهم من ذكر اليد -لما ذكرنا من الأشياء- جارحة ولا عضو، فكيف يفهم من ذكر اليد ما فهم من الخلق إلا لفساد اعتقادهم لربهم والجهل بتعاليه عن معنى الغير، وإلا لم يخطر بباله بذكر ذلك لله أو إضافته إليه ما يخطر بباله من الخلق ومعنى الخلق.
أو أن يكون ذكر ذلك لنفسه وإضافته إليه من اليد وما ذكر؛ لِمَا باليد يكون في الشاهد لو احتمل كون ذلك من الخلق، نحو ما قال: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وما كسبت يداك، ونحو ذلك مما يعلم في الحقيقة أن ذلك لم يكن يكسب به حقيقة ولا عمله من نحو الكفر وغير ذلك من الأشياء، لكنه ذكر لما باليد يكتسب في الشاهد وبها يعمل أكثر الأعمال والأفعال.
أو أضاف ذلك إليها لما ذكرنا وإن لم يكن منها عمل حقيقة؛ فعلى ذلك إضافة اليد إلى اللَّه فيما أضاف على ما كان ذلك من الخلق إنما كان باليد؛ على ذلك يخرج ما ذكر من استوائه على العرش بعد أن ذكرنا فيه ما يليق به ونفينا عنه ما لا يليق، وأصل ذلك أنا عرفنا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - متعاليا عن جميع معاني الغير وعن كل صفات يوصف بها الغير، علي ما ذكر في كتابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فإذا كان كذلك فلا حاجة لنا إلى تأويل اليد وما ذكروا أنه ما أراد بها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ).
معناه - واللَّه أعلم -: أستكبرت للحال عندما أبيت السجود له، أم كنت في اعتقادك من العالين أي المستكبرين؟
ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ كُنْتَ): أم صرت من العالين، أي: استكبرت وصرت من العالين على ما في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، أي: صار من الكافرين.
ثم حرف الشك والاستفهام من اللَّه قد ذكرنا أنه على الإيجاب والقطع كأنه قال: بلى كنت في علم اللَّه أنك تكفر.
أو يقول: صرت من العالين، أي: ممن يطلب العلو؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ فِرْعَوْنَ
647
﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ على قوله من يقول : إن إبليس كان من الملائكة، فلما أبي السجود، خذله، ووكله إلى نفسه، وصار كافرا ليعلم أن كل أحد، وإن عظم قدره، وجلت منزلته، يحتمل خلاف ما هو فيه وضده، وأنه متى امتحنه بأمر، فترك أمره تكبرا أو استخفافا، خذله، ووكله إلى أمره ونفسه، فصار كافرا مخذولا حقيرا، ليكونوا أبدا على حذر وفزع إلى الله عز وجل على ما أخبر عن عظم قدر الملائكة عند الله وجليل منزلتهم عنده، إذا خذلهم، ووكلهم إلى أنفسهم صاروا كما صار إبليس، والله أعلم.
ثم قوله عز وجل :﴿ وكان من الكافرين ﴾ أي كان في علم الله أنه يكفر، أو كان بمعنى صار من الكافرين إذ أبى السجود، واستكبر، كقوله عز وجل لآدم عليه السلام عليه السلام ﴿ فتكونا من الظالمين ﴾ [ البقرة : ٣٥ ] والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ قد ذكرنا في ما تقدم في غير موضع أن تخصيص إضافة الشيء الواحد إلى الله عز وجل يخرج مخرج تعظيم ذلك الواحد وذلك الفرد كقوله ﴿ رب هذا البيت ﴾ [ قريش : ٣ ] وقوله :﴿ وأن المساجد لله ﴾ [ الجن : ١٨ ]. وقوله :﴿ محمد رسول الله ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] وقوله :﴿ ألا إن أولياء الله ﴾ [ يونس : ٦٢ ] وأشباه ذلك. وخص هذه الأشياء بالإضافة إليه، وإن كانت البقاع كلها والخلق كله له، على التعظيم لتلك الأشياء.
فعلى ذلك تخرج إضافة خلق آدم حين قال :﴿ خلقت بيدي ﴾ وإن كان جميع الخلائق، هو خلقهم، وتخرج كلية الأشياء إلى الله وكلية الخلائق مخرج تعظيم الرب والمدح له نحو قوله عز وجل :﴿ قل الله خالق كل شيء ﴾ [ الرعد : ١٦ ] [ وقوله :﴿ إن الله هو الرزاق ﴾ [ الذاريات : ٥٨ ]يخلق منشأ العالم ومبدأه كقوله :﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ [ المائدة : ١٢٠ ] وقوله :﴿ قل اللهم مالك الملك ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ] وغير ذلك على ما ذكرنا في ما تقدم، والله أعلم.
ثم قوله عز وجل :﴿ بيدي ﴾ قد تكلف أهل الكلام والتأويل إضافة اليد إلى الله عز وجل منهم من قال هي القوة، ومنهم من قال : كذا. لكن التكلف في ذلك فضل مع ما قد تضاف اليد إلى من لا يد له ولا جارحة، ولا عضو نحو ما قال عز وجل :﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴾ [ فصلت : ٤٢ ] لم يفهم أحد بذكر اليد له والخلف ما يفهم من الخلق، وكذلك لم يفهم ما ذكر من مجيء الحق ولا زهوق الباطل ما يفهم من مجيء الخلق وذهابهم كقوله : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } [ الإسراء : ٨١ ] وكذلك ما ذكر من مجيء البرهان حين قال عز وجل :﴿ يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴾ [ يونس : ٥٧ ] وقال :﴿ يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ﴾ [ النساء : ١٧٤ ] وأمثال ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه.
لم يفهم أحد من الخلائق من مجيء هذه الأشياء التي ذكرنا مجيء الخلق، ولا فهم من ذكر اليد ما ذكرنا من الأشياء جارحة ولا عضوا. فكيف يفهم من ذكر اليد ما فهم من الخلق، لولا فساد اعتقادهم لربهم، والجهل بتعاليه عن معنى الغير ؟ وإلا لم يخطر بباله بذكر لله وإضافته إليه ما يخطر ببالهم من الخلق ومعنى الخلق.
ويحتمل أن يكون ذلك ذكر لنفسه وأضافه إليه من اليد وما ذكر لما باليد يكون العمل في المشاهد لو احتمل كون ذلك من الخلق نحو ما قال ﴿ ذلك بما قدمت أيديكم ﴾ [ آل عمران : ١٨٢ ] وقال :﴿ ذلك بما قدمت يداك ﴾ [ الحج : ١٠ ] ونحوه مما يعلم في الحقيقة أن ذلك لم يكن بكسب اليد حقيقة ولا عمله من نحو الكفر ونحو ذلك من الأشياء.
لكنه ذكر اليد لما باليد يكتسب في الشاهد، وبها تعمل أكثر الأعمال والأفعال. وأضاف ذلك إليها لما ذكرنا، وإن لم يكن منها عمل حقيقة.
فعلى ذلك إضافة اليد إلى الله في ما أضاف على ما كان ذلك من الخلق إنما كان باليد. وعلى ذلك يخرج ما ذكر من استوائه على العرش بعد أن ذكرنا فيه ما يليق به ونفينا عنه ما لا يليق.
وأصل ذلك أنما عرفنا الله عز وجل متعاليا عن جميع معاني الغير عم كل صفات يوصف بها الغير على ما ذكر في كتابه :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : ١١ ]. فإذا كان كذلك فلا حاجة لنا إلى تأويل اليد وما ذكروا أنه ما أراد به، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ استكبرت أم كنت من العالين ﴾ معناه، والله أعلم، استكبرت للحال عندما أبيت السجود له أم كنت في اعتقادك من العالين ؟ أي المستكبرين.
ويحتمل قوله عز وجل :﴿ أم كنت من العالين ﴾ أم صرت من العالين أي استكبرت، وصرت من العالين على ما في قوله عز وجل :﴿ وكان من الكافرين ﴾ [ الآية : ٧٤ ] أي صار من الكافرين.
ثم حرف الشك والاستفهام من الله قد ذكرنا أنه على الإيجاب والقطع ؛ كأنه قال : بلى كنت في علم الله أنك تكفر، أو يقول : وصرت من العالين أي ممن يطلب العلو كقوله تعالى :﴿ إن فرعون علا في الأرض ﴾ [ القصص : ٤ ].
عَلَا فِي الْأَرْضِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
ظن إبليس - عليه لعنة اللَّه - أن النار لما كان من طبعها الارتفاع والعلو ومن طبع الطين التسفل والانحدار أن الذي طبعه الارتفاع والعلو خير من الذي طبعه التسفل والانحدار؛ لذلك قال - واللَّه أعلم -: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
أو لما رأى أن إصلاح الأشياء كلها ونضجها بالنار فقال هذا عند ذلك.
لكن لو نظر الملعون وحقق النظر، لعلم أن الطين خير من النار؛ لأنه من الأرض، والأرض كالأصل والأم لغيرها؛ لأن الأشياء يكون صلاحها ونضجها بالنار وأول بدئها من الأرض، كالابن من الأم الوالدة على ما ذكرنا، واللَّه الموفق.
ثم كفره بإبائه السجود له لما لم ير أمر اللَّه له بسجود من هو خير وأعلى لمن دونه حكمة وحقَّا، فكفر لما رأى أنه وضع الأمر في غير موضع الأمر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧)
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اخرج من الجنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اخرج من السماء إلى الأرض.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اخرج من الأرض إلى جزيرة البحر، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا أن نتكلف القطع على القول فيه: أن أمره بالخروج من كذا، وقد عرف اللعين أنه بماذا أمره بالخروج منها.
ثم ذكر مرة (فَاخْرُجْ مِنْهَا)، ومرة قال: (فَاهْبِطْ مِنْهَا)، ونحو ذلك من الألفاظ المختلفة؛ وكذلك ما ذكر مرة قال: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، وقال فيما وضع آخر: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)، وقال في موضع: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) و (تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)، ونحو ذلك على الألفاظ المختلفة، فذلك كله يدل على أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف، وكذلك ما ذكر في القصص على اختلاف الألفاظ مكررة معادة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).
أي: لعين، كأنه قال: فإنك لعين على ألسن الناس، ليس يذكره أحد من أعدائه وأتباعه وأوليائه إلا وقد لعنه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
كانت اللعنة عليه إلى يوم الدِّين هي خذلانه وطرده عن رحمته ودينه؛ لما علم أنه لا
قوله تعالى :﴿ قال فاخرج منها ﴾ قال بعضهم : أي اخرج من الجنة. وقال بعضهم : أي اخرج من السماء إلى الأرض. وقال بعضهم أي اخرج من الأرض إلى جزائر البحر، والله أعلم بذلك، وليس لنا أن نتكلف القطع على القول فيه إن أمره بالخروج من كذا، وقد عرف اللعين أنه لما تمادى أمره بالخروج منها.
ثم ذكر مرة :﴿ فاخرج منها ﴾ ومرة قال :﴿ فاهبط منها ﴾ [ الأعراف : ١٣ ] ونحو ذلك من الألفاظ المختلفة. وكذلك ما ذكر مرة :﴿ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾ وقال في موضع آخر :﴿ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ﴾ [ الأعراف : ١٢ ] وقال في موضع آخر :﴿ قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ﴾ [ الحجر : ٣٢ ] ونحو ذلك على الألفاظ المختلفة. فذلك كله يدل على أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف، وكذلك ما ذكر في القصص على اختلاف الألفاظ مكررة معادة.
وقوله تعالى :﴿ فإنك رجيم ﴾ أي لعين ؛ كأنه قال : فإنك لعين على ألسن الناس، ليس يذكره أحد من أعدائه وأتباعه وأوليائه إلا وقد لعنه.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ كانت اللعنة عليه إلى يوم الدين هي خذلانه وطرده عن رحمته ودينه لما علم أنه لا يعود إلى اختيار توحيده وطاعته أبدا. وكانت عليه في الدنيا والآخرة ؛ فأما في الدنيا فما ذكرنا من خذلانه وتركه في الغي، وأما في الآخرة فطرده عن جنته، والله أعلم.
ثم سأل ربه أن ينظره ﴿ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾.
يعود إلى اختيار توحيده وطاعته أبدًا، وإلا كان عليه لعنته في الدنيا والآخرة: فأما في الدنيا ما ذكرنا من خذلانه وتركه في العمر، وأما في الآخرة مطرود عن جنته، واللَّه أعلم.
ثم سأل ربه أن ينظره إلى يوم يبعثون فأجاب حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) وإنما أنظره - واللَّه أعلم - لأنه يختار الكفر والخلاف له أبدًا.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)
هو يوم اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ): هو يوم البعث، إلى ذلك أنظره على ما سبق منه السؤال على النظرة إلى يوم البعث حيث قال: (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ): هو النفخة الأولى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يبين له ذلك الوقت؛ ولذلك ذكر منه الخوف، وهو ما قال - عز وجل -: (قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، ولو كان بين له الوقت المعلوم لكان لا يخاف دون ذلك الوقت، ولكنه يأمن فدل خوفه أنه لم يبين له ذلك وهو معلوم عند اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢)
وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان أن تغويهم إلا من كان في علمه أنه يختار الغواية ويؤثر اتباعه؛ فيكون له عليهم سلطان الإغواء، فأما من كان في علم اللَّه أنه يختار الإيمان والتوحيد، فلا سبيل لك عليهم، واللَّه أعلم.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْمُخْلَصِينَ (٨٣) للتوحيد، فإن كان ذلك فيكون قوله تعالى: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) يكون كفرا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْمُخْلَصِينَ) من الهلاك، فإن كان ذلك فيكون قوله: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ)، أي: لأهلكنهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْمُخْلَصِينَ) من كل ذنب وكل معصية، لكن الوجهين الأولين أشبه وأقرب، واللَّه أَعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
قرئ بنصبهما جميعًا: (فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ)، وقد قرئ أيضًا برفع الأول ونصب الثاني: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ).
قوله عز وجل :﴿ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾ هو يوم اختلف فيه :
قال بعضهم : الوقت المعلوم هو يوم البعث إلى ذلك أنظره على ما سبق منه السؤال على النظرة إلى يوم البعث حين قال :﴿ إلى يوم يبعثون ﴾.
وقال بعضهم : الوقت المعلوم، هو النفخة الأولى. وقال بعضهم : لم يبين له ذلك الوقت، ولذلك ذكر منه الخوف، وهو ما قال عز وجل :﴿ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ] و﴿ قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ﴾ [ الحشر : ١٦ ]. ولو كان بين له الوقت المعلوم لكان لا يخاف دون ذلك الخوف. ولكنه يأمن. فدل خوفه أنه لم يبين له ذلك، وهو معلوم عند الله، والله أعلم.
قال بعضهم : المخلصين للتوحيد. فإن كان ذلك فيكون قوله :﴿ لأغوينهم ﴾ لأهلكنهم. وقال بعضهم :﴿ المخلصين ﴾ من كل ذنب وكل معصية. لكن الوجهين الأولين أشبه وأقرب، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴾ قد قرئ بنصبهما جميعا : فالحق والحق أقول، وقد قرئ أيضا برفع الأول ونصب الثاني :﴿ فالحق والحق أقول ﴾. فمن قرأ بالرفع والنصب فيكون معناه، والله أعلم : أنا الحق والحق أقول، أي مني يكون الحق على هذا. ومن قرأ على النصب فهو على التأكيد تأكيدا على ما ذكر على إثره ؛ كأنه يقول : أقول الحق والحق.
فمن قرأه بالرفع فيكون معناه - واللَّه أعلم - (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي: مني يكون الحق على هذا.
ومن قرأه على النصب فهو على التأكيد؛ تأكيدًا على ما ذكر على أثره كأنه يقول: أقول الحق الحق، وهو يقول: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥).
ثم جائز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة فيقال لهم: أراد اللَّه تعالى أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره الذي أخبر أنه كان يكون، أو لم يرد أن ينجز ما وعد وألا يخرج خبره على الصدق.
فإن قالوا: لم يرد، أعظموا القول؛ لأنهم زعموا أنه أراد أن يخلف ما وعد، وأن يكذب في خبره، فذلك عظيم القول حيث وصفوا ربهم بالسفه؛ لأن من أراد أن يخلف وعده وأن يكذب في خبره، فهو سفيه على زعم من قال ذلك.
وإن قالوا: أراد أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره، فيقال لهم: أراد أن يتبعوا إبليس، أو أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوه؟
فإن قالوا: أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوا إبليس، فيقال: أراد أن يجور ويظلم على زعمكم؛ لأنه أراد أن يملأ جهنم ولم يرد ما يستوجبون ذلك؛ فدل على أن اللَّه تعالى علم أنه يكون منهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
وقوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ).
هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: لا أسألكم على ما أدعوكم من الشرف والذكر في الدنيا والآخرة من أجر، ولا أجد في الشاهد من يبذل للآخر من الشرف أو الذكر ولا يعطيه ذلك إلا بأجر، فكيف تتركون اتباعي ولا تقبلون ذلك مني؟!
أو يقول: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر، فيمنعكم ثقل ذلك الأجر وذلك الغرم عن إجابتي؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)، أي: لست تسألهم أجرًا حتى يمنعهم ثقل ذلك الغرم عن الإجابة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).
قال عامة أهل التأويل: وما أنا ممن تكلف ذلك من تلقاء نفسي، ولا أمرتكم بما
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ هذا يحتمل وجوها :
أحدها : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من الشرف والذكر في الدنيا والآخرة من أجر، ولا أحد في الشاهد ممن يبذل للأجر من الشرف أو الذكر، ولا يعطيه ذلك إلا بأجر. فكيف يتركون اتباعي، ولا يقبلون ذلك مني ؟
والثاني : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر، فيمنعكم ثقل ذلك الأجر وذلك الغرم عن إجابتي كقوله : عز وجل :﴿ أم نسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ﴾ [ الطور : ٤٠ والقلم : ٤٦ ] أي لست تسألهم أجرا حتى يمنعهم ثقل ذلك الغرم عن الإجابة / ٤٦٥ – أ/.
وقوله تعالى :﴿ وما أنا من المتكلفين ﴾ قال عامة أهل التأويل : وما أنا ممن تكلف ذلك من تلقاء نفسه، ولا أمرتكم بما آمركم إلا بالوحي، والمتكلف عند الناس في الظاهر، هو الذي يفعل، ويقول بلا إذن. وقال أبو عوسجة : المتكلف، هو الذي يتكلف ما لا يعنيه، ويفعل مالم يؤمر به. وجائز أن يكون قوله عز وجل :﴿ وما أنا من المتكلفين ﴾ أي ما أنا من المتحملين مما حملتم إذا خالفتموني، والله أعلم.
آمركم إلا بالوحي، والمتكلف عند الناس في الظاهر: هو الذي يفعل ويقول بلا إذن.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المتكلف: هو الذي يتكلف ما لا يعنيه ويفعل ما لم يؤمر به.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)، أي: ما أنا من المتحملين مما حملتم إذا خالفتموني، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧)
أي: ما هذا القرآن وهذا النبأ إلا عظَة وذكر لمن انتفع به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
يحتمل نبأ القرآن.
ويحتمل البعث والحساب، أي: يعلمون أن ذلك حق بعد حين.
ثم ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في جهنم أنه يملؤها ولم يذكر في الجنة أنه يملؤها، فجائز أن يكون ما ذكر من الملء هو أن يضيقها عليهم، وفي التضييق زيادة في الألم.
أو أن يكون في سعة الجنة حكمة ولا يكون ذلك في جهنم؛ لأن السعة تطلب للنزهة والانتشار في البساتين وغير ذلك وليس ذلك في جهنم، واللَّه أعلم بالصواب.
* * *
قوله تعالى :﴿ ولتعلمن نبأه بعد حين ﴾ يحتمل نبأ القرآن، ويحتمل البعث والحساب، أي تعلمون أن ذلك حق بعد حين.
Icon