ﰡ
في السورة حملة على المشركين وإفحام لهم في سياق مواقف ومشاهد حجاجية وجدلية. وتقرير لوحدة المنبع والمبادئ بين الدعوة المحمدية ودعوة الأنبياء السابقين وتعليل اختلاف أهل الكتاب وعزوه إلى البغي والهوى ونفي كونه من أصل طبيعة الدعوة الربانية وتثبيت للنبي ﷺ في دعوته وموقفه. وتنويه بأخلاق المؤمنين وتوجيههم إلى خير سبل الحق والعدل والكرامة والقوة وتنويه بمصيرهم ومصير الكافرين ولفت نظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وعظمته وشمول حكمه ومشيئته، وبيان لطرق اتصال الله بأنبيائه.
وخاتمة السورة متصلة بمطلعها كما أن فصولها مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [٢٣- ٢٥] مدنيات، وسياقها وأسلوبها يسوغان الشك في ذلك.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
. (١) يتفطرن: يتشققن.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١).
٣- حفيظ عليهم: مراقب لهم ومحيط بهم ومحص لأعمالهم.
ابتدأت السورة بخمسة حروف متقطعة، وقد رسمت في آيتين خلافا لمثيلاتها التي جاءت بأكثر من حرفين مثل (كهيعص) و (المص) و (المر) وقد روى البغوي أن سبب ذلك هو الاختلاف في تلاوة الحروف هنا دون السور الأخرى. وقد روى هذا المفسر أن (حم) مبتدأ و (عسق) خبر. وروى الطبري أن ابن عباس كان يقرأ هذه الحروف بدون (ع) أي (حم سق) ويقول إن السين عمر كل فرقة كائنة، والقاف كل جماعة كائنة. ومما روي في معاني الحروف أنها ترمز إلى صفات الله تعالى وقسمه بها حيث تضمنت قسما ربانيا بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته «١». كذلك مما روي من معانيها أنها ترمز إلى كلمات (حرب) يعز فيها الذليل ويذل العزيز من قريش و (ملك) يتحول من قوم إلى قوم و (عدو) لقريش يقصدهم و (سبي) يكون فيهم و (قدرة) الله النافذة في خلقه «٢». ونحن نتحفظ إزاء هذه الأقوال التخمينية ونرجح أنها للتنبيه والاسترعاء، كما رجحنا ذلك بالنسبة للحروف المتقطعة الأخرى.
وقد أعقب الحروف توكيد وجّه الخطاب فيه إلى النبي ﷺ بأن الله العزيز الحكيم الذي له ما في السموات وما في الأرض العلي العظيم هو الذي يوحي إليه
(٢) المصدر نفسه.
وأسلوب الآيات قوي نافذ، وهي تمهيد لما يأتي بعدها.
رواية عجيبة عن سرّ (حم عسق)
ولقد روى الطبري حديثا في تفسير المقطعين وصفه المفسر ابن كثير وهو من أئمة المحدثين بأنه غريب عجيب منكر نورده كمثال لما كان يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة لما وقع من نزاع وخلاف سياسي بين الأمويين والهاشميين وبين العباسيين والعلويين. والحديث معزو إلى حذيفة بن اليمان وقد جاء فيه: أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن تفسير المقطعين فأعرض عنه مرة ثم مرة فقال حذيفة له: أنا أنبئك به إنهما نزلا في رجل من أهل بيت النبي ﷺ يقال له عبد الله أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلّا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فلذلك قوله حم (١) عسق (٢) يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء، حم عين يعني عدلا منه، سين يعني سيكون، وقاف يعني واقع بهاتين المدينتين!.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٧ الى ٨]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
(٢) يوم الجمع: كناية عن يوم القيامة.
الآيتان معقبتان على الآيات السابقة، ومتممتان لما احتوته الآية السادسة بخاصة، التي وجه فيها الخطاب للنبي ﷺ حيث احتوت أولاهما تنبيها له أيضا بأن الله إنما أوحى إليه بالقرآن بلسان عربي لينذر أهل مكة وما حولها ويدعوهم إليه وينذرهم بيوم القيامة الذي لا ريب في مجيئه والذي سوف يكون الناس فيه فريقين فريقا في الجنة وفريقا في النار.
وهذه هي مهمته وهو غير وكيل على أحد ولا مسؤول عن أحد كما ذكرت الآية التي قبلها. وقد احتوت الآية الثانية تنبيها آخر للنبي ﷺ على أن الله قادر لو شاء على جعل الناس أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم الصالحون المستجيبون الذين يهتدون بهديه ويدخلهم في رحمته وينالون برّه، والظالمون المنحرفون الفاسدون الذين لن يكون لهم ولي ولا نصير.
والآيتان مع الآية السادسة التي قبلها هي بسبيل بيان مهمة النبي ﷺ الإنذارية والتبشيرية من جهة وتسليته عن موقف الجحود الذي يقفه الكفار المشركون من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي كلمة وَالظَّالِمُونَ في الآية الثانية من الآيتين دليل على أن المقصود من (الذين يشاء الله تعالى أن يدخلهم في رحمته) هم الفريق الذي تحلى بحسن النية ورغب في الحق والهدى وابتعد عن الظلم والهوى. بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآية بسبيل بيان حكمة الله تعالى في جعل الناس ذوي إرادة واختبار. فالراغبون في الحق والهدى وذوو النيات الحسنة يختارون الهدى فيدخلون في رحمة الله وينالون رضاءه. والمنحرفون عن الحق ذوو النيات الخبيثة يختارون الضلال فيستحقون غضب الله ومقته ولا يمكن أن يكون لهم ولي يحميهم ولا ناصر ينصرهم. وفي آية سورة الأعراف: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
ضابط محكم في صدد من يدخلهم برحمته.
وفي الآية الأولى من الآيتين عود على بدء في صدد عروبة القرآن التي حكت بعض آيات السورة السابقة ما كان من المشركين من جدل فيها. فالله قد جعل القرآن عربيا حتى يفهمه أهل مكة ومن حولهم، واعتراضهم على هذا لا محل له.
فالله كما أوحى إلى الأنبياء من قبل النبي ﷺ بلسان أقوامهم أوحى الله إليه بلسان قومه.
وقد توهم الآية الأولى- لأول وهلة- اقتصار الدعوة على أهل مكة وما حولها وعلى العرب الذين أنزل القرآن بلسانهم. ولما كان شمول الدعوة قد تقرر في آيات كثيرة تقريرا حاسما مما مرت منه أمثلة عديدة فالعبارة هنا تحمل على ما كان من ظرف خاص بين النبي ﷺ من جهة وبين أهل مكة وما حولها من العرب من جهة أخرى على ما ذكرناه في مناسبات سابقة مماثلة.
تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)
ولقد روى البغوي بطرقه في صدد جملة فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) حديثا عن عبد الله بن عمرو قال: «خرج علينا رسول الله ﷺ ذات يوم قابضا على كفّيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله إلّا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. ثمّ قال للذي في يساره: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة.
. والحديث على الأرجح مدني والآية مكية وإذا صح فإن المتبادر منه أولا: أن عبارة (كتابان) في يمينه ويساره هي بسبيل التمثيل وليست بسبيل كتابين حقيقيين فيهما جميع أسماء بني البشر في جميع أدوار الدنيا.
وثانيا: إنه بسبيل التنبيه على سبق علم الله الأزلي بأهل الجنة وأهل النار وليس في نصه ولا روحه ما ينتقض ما تبادر لنا من الآية الثانية.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
. (١) يذرؤكم: يكثركم وينميكم أو يخلقكم ويظهركم.
في الآية الأولى تساؤل استنكاري عن اتخاذ المشركين أولياء من دون الله، ورد تقريري بأن الله هو وحده الجدير بالولاء لأنه هو الذي يحيي الموتى وهو القدير على كل شيء.
وفي الآية الثانية بيان صادر عن النبي ﷺ موجه إلى الناس أو على الأرجح إلى الكفار بقصد إشهاد الله وتحكيمه فيما بينه وبينهم من خلاف، فإلى
وجاءت الآيتان الأخريان للبرهنة على استحقاق الله وحده الولاء والاعتماد والإنابة والربوبية الشاملة جريا على الأسلوب القرآني: فهو الذي خلق السموات والأرض، وجعل للناس أزواجا من أنفسهم لينموا ويكثروا، وخلق لهم من الأنعام أزواجا كذلك. وهو الذي لا يماثله شيء في عظمته وقدرته وصفاته وكنهه السميع لكل شيء البصير بكل شيء الذي في يده تصريف السموات والأرض وبسط الرزق وقبضه وفقا لمقتضيات علمه وحكمته لأنه عليم بكل شيء.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة ومؤكدة لها. والآية الثانية كما قلنا موجهة مباشرة من النبي ﷺ إلى المخاطبين وفي مثل هذه الحالة يفرض محذوف بعد كلمة (من شيء) وهو (قل) فيتسق حينئذ الفصل القرآني.
وهذا مما جرى عليه الأسلوب القرآني وقد مرّ منه أمثلة عديدة.
وجملة وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ موجهة إلى مخاطبين حاضرين. وتحتمل أن يكون التوجيه فيها مطلقا وتحتمل أن يكون خاصا لفريق في موقف من المواقف. وروح الفصل والآيات السابقة معا التي تستعمل ضمير الغائب بالنسبة للكفار تجعلنا نرجح الإطلاق في التوجيه.
تعليق على جملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وجملة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ- وإن جاءت في مقامها لتنفي أي احتمال للتماثل بين الله تعالى في قدرته وعظمته وشمول تصرفه وحكمته وكمال صفاته وبين أي كان ممن يتخذهم المشركون شركاء له في الدعاء والعبادة وفي معرض
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٣]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
. (١) شرع: بيّن أو فرض أو سن أو خط.
في الآية:
١- تقرير بأن ما شرعه الله من الدين للناس الذين يوجه إليهم القرآن على لسان النبي ﷺ هو ما شرعه ووصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وقد وصاهم أن يثبتوا عليه دون خلاف ولا فرقة.
٢- وإشارة إلى ما كان من استعظام المشركين لما يدعوهم النبي ﷺ إليه من وحدة الله مع أن ذلك هو ما دعا إليه الأنبياء من قبله.
٣- وتقرير بأن الله إنما يختار ويقرب إليه من يشاء ويهدي إليه أولئك الذين ينيبون إليه ويرغبون في هداه.
والآية متصلة بالسياق الذي يندد بالمشركين لاتخاذهم أولياء من دون الله. وجملة اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) من الجمل التي يصح أن تكون مفسرة ومقيدة للجمل التي تأتي مطلقة في آيات أخرى كما
تعليق على آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
والآية في حدّ ذاتها احتوت تنويها بوحدة المنبع والمبادئ في الأديان التي جاء بها رسل الله. وتوكيدا بوجوب الثبات على ذلك وعدم الانقسام والتفرق فيه. ثم تقريرا بأن الرسالة المحمدية تنبع من نفس المنبع، وتقوم على نفس المبادئ، وتتقيد بالواجب الذي أمر الله بالثبات عليه وعدم الانقسام والتفرق فيه.
وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك إقناع العرب بأن الرسالة المحمدية ليست بدعة جديدة وإنما هي نفس الدعوة التي دعا إليها الأنبياء السابقون وهذا يلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى أرسل قبل النبي ﷺ أنبياء. وهو ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الأنبياء هذه: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ومنها آية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [٤٨] ومنها آية سورة الأنعام هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [١٥٧] وهذا ما يجعل حجة الآية دامغة لهم. ويلحظ أن الآية اقتصرت على ذكر أربعة أنبياء. ومن المتبادر أن الذين ذكروا هم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن.
ولقد ذكر الطبري في سياق تفسير الآية [٧] من سورة الأحزاب التي فيها ذكر الأنبياء الأربعة مع النبي ﷺ مثل هذه الآية وهي: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ... عزوا إلى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم
ولقد أورد ابن كثير في سياق آية الأحزاب حديثا آخر رواه أبو بكر البزار مسلسلا إلى أبي هريرة أنه قال: «خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وخيرهم محمد» وعقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله إنه موقوف وإن في أحد رواته حمزة الزيات ضعفا.
والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وفيها من العلل ما يسوغ التوقف فيها كما هو ظاهر.
ونكرر ما قلناه إن اختصاص الأنبياء الأربعة بالذكر مع النبي ﷺ هو بسبب كونهم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن. فقد كانوا ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام وينسبون إليه تقاليدهم الدينية ويزعمون أنهم على ملّته.
وموسى وعيسى هما أصل الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين كانت لهم بهما وبأتباعهما صلات وثيقة متنوعة. وكانوا متأثرين بهما إلى حد كبير. وكانتا في نظرهم هي الديانات السماوية الكتابية، ونوح هو أبو البشر بعد الطوفان حيث تفرعت الأجناس من أولاده سام وحام ويافث على ما ورد في سفر التكوين الذي كان اليهود والنصارى يتداولونه ويعتبرونه من أسفارهم الهامة والذي كان العرب يعرفون كثيرا مما جاء فيه من أخبار وقصص عن طريقهم.
ولقد روى المفسرون «١» أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين في المقصود
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٤]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
. تضمنت الآية:
١- إشارة تنديدية إلى اختلاف الذين جاءهم أنبياء الله بالدين الذي شرعه الله للناس.
٢- وتقريرا بأن ذلك إنما كان منهم بغيا وشذوذا عن الحق وعن أمر الله الذي أكّد بوجوب عدم التفرق في الدين.
٣- وتقريرا بأن الله كان جديرا بالقضاء بينهم في الدنيا فيؤيد الحق وأهله ويزهق الباطل وأصحابه لولا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده.
٤- وتقريرا بأن الذين ورثوا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه السابقين قد وقعوا منها في شكوك شديدة أدت إلى ما هم فيه من خلاف وفرقة وبلبلة.
والآية متصلة بسابقتها كما هو واضح، ومن المحتمل أن يكون ما فيها من تعليل للخلاف القائم بين الناس في دين الله الذي جاء به أنبياؤه الأولون
تعليق على جملة وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ
ولقد تضمنت الآية تقرير كون الخلاف والانقسام والنزاع بين أهل الأديان السماوية ليس ناشئا من طبيعة دين الله الذي شرعه للناس على لسان رسله وأنبيائه والذي أمر الله بالثبات عليه. وإنما هو نتيجة لما كان من بغي وأهواء ومآرب وسوء تأويل وشذوذ بين الذين ورثوا كتب الله عن أنبيائهم، لأن الدين الذي شرعه الله والذي هو- على ما هو المستمد من القرآن وجوهر الكتب السماوية- وحدة الله وربوبيته الشاملة وعدم إشراك أي شيء به والتزام الفضائل والمكارم الأخلاقية الشخصية والاجتماعية ونبذ الآثام والفواحش والمنكرات لا يتحمل انقساما ولا خلافا ولا نزاعا في أي ظرف ومكان. وقد تكرر تقرير ذلك والنعي على أهل الكتاب والتنديد بهم بسببه في مواضع كثيرة من السور المكية والمدنية. وفي هذا ما فيه من خطورة وتلقين جليل مستمر المدى.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٥]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
. (١) لا حجة بيننا وبينكم: ليس بيننا وبينكم مجال للمحاججة والخصومة.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم:
٢- وبأن يعلن أنه مؤمن بما أنزل الله من كتب ومأمور بأن ينصف الناس ويعدل بينهم فيكتفي ببيان الحق وتبليغ وحي الله والقول لهم بعد ذلك أنتم وشأنكم وليس بيني وبينكم مجال للخصومة والتنازع، ولكم أعمالكم وأنتم مسؤولون عنها ولنا أعمالنا ونحن مسؤولون عنها ومرد الجميع إلى الله وهو يحكم بيننا بالعدل ويقضي بالحق.
تعليق على آية فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ
والآية استمرار في السياق كما هو واضح، ومن المحتمل أن ينصرف ضمير الجمع المخاطب فيها إلى الذين ورثوا الكتاب وتفرقوا في دين الله كما أن من المحتمل أن ينصرف إلى المشركين. ومع أن معظم المفسرين «١» صرفوه إلى المشركين فإن روح العبارة ومقامها يلهمان أن صرفه إلى الذين ورثوا الكتاب هو الأولى.
وعلى كل حال فإن فيها تثبيتا للنبي ﷺ والمسلمين وتوكيدا عليهم بالاستقامة على ما هم عليه من حق وهدى وعدم متابعة الأهواء والنزعات التي أدت إلى انحراف الأمم السابقة عن كتب الله ودينه الذي شرعه. وإعلانا للعقيدة الإسلامية في صدد ربوبية الله الشاملة للجميع، وفي صدد الكتب السماوية وأصحابها حيث تقرر وحدة الله وربوبيته الشاملة للجميع، وتؤمن بما أنزل الله من كتاب وتأمر
وفي أمر الله للنبي ﷺ بالقول إنه أمر بإعلان إيمانه بكل ما أنزل من كتاب وبأن ربه وربهم واحد بعد أن قررت الآيات السابقة لهذه الآية وحدة المنبع والمنهج بينهم هدف عظيم المدى وهو فتح باب اللقاء والتفاهم على مصراعيه بين أهل القرآن وأهل الكتب السابقة ليتكون منهم جبهة واحدة متحدة في توحيد الله والدعوة إليه وإلى المبادئ السامية الأخلاقية والاجتماعية التي احتوتها كتب الله والتزامها تحت راية الإسلام التي هي راية أهل الكتاب وأنبيائهم معا تبعا لوصفهم بالإسلام والمسلمين في آيات كثيرة مكية ومدنية منها آيات سورة البقرة هذه:
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)، وكذا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ...
[١٢٨]، وآية سورة آل عمران هذه: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وآية سورة المائدة هذه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)، وآية سورة يونس هذه: وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) وآية سورة القصص هذه: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) وآية سورة الحج هذه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ... «١» [٧٨].
ولقد ظلت أوامر القرآن بعد هذه الآية تترى على النبي ﷺ بإعلان ما أمر
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) «١» تحصيلا لذلك الهدف العظيم.
ولقد تحقق هذا الهدف بمقياس واسع بما كان من إيمان معظم النصارى وفريق من أهل العلم من اليهود في الحجاز في عهد النبي ﷺ بالنبي والقرآن وانضووا إلى الراية الإسلامية على ما قررته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة «٢». كما آمن بها معظم الكتابيين من مسيحيين وموسويين في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال افريقية وجنوب أسبانية نتيجة لما ظهر لهم من أعلام نبوة النبي ﷺ وصدق القرآن وحملة رايته وإذا كان بقي منهم من لم يؤمن بهما فمرد ذلك إلى أسباب أخرى قررتها آيات قرآنية عديدة أوردناها في مناسبات سابقة أيضا «٣». وما يزال هذا الهدف قائما إلى الآن وإلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله الحق في آية سورة الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨).
هذا، والمتبادر أن الآية وهي تقرر العقيدة الإسلامية بالإيمان بما أنزل الله من كتاب إنما عنت كتب الله التي لا تحريف فيها. هذا في حين أن ما هو متداول اليوم من أسفار العهدين القديم والجديد لا يمكن أن يتصف بصفة كتاب الله وفيها دلالات حاسمة على أنها من تأليف كتّاب متعددين في ظروف مختلفة. وفيها ما
(٢) اقرأ آيات سور: آل عمران [١١٢- ١١٣ و ١٩٩] والنساء [١٦٢] والمائدة [٨٣- ٨٤] والأنعام [١١٤] والرعد [٣٦] والإسراء [١٠٧- ١٠٨] والقصص [٥١- ٥٣] والعنكبوت [٤٦] والأحقاف [١٠].
(٣) اقرأ آيات سور: البقرة [٤٠- ١٤٨] وآل عمران [٦٩- ١٢٠] والنساء [٤٤- ٥٥] والمائدة [١٢- ١٩ و ٥٩- ٦٦] والتوبة [٢٩- ٣٤].
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)، وسورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)، وسورة المائدة هذه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ
والمتبادر من هذا أن العقيدة الإسلامية تظل مقيدة بالنص القرآني المطلق آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وعدم الاعتراف بنسبة أي شيء إلى الله ورسله إذا كان يتنافى مع المبادئ والمثل العليا المحكمة الإيمانية والأخلاقية. ولقد جاء في سورة المائدة هذه الآية: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ... [٤٨] بحيث يسوغ القول إن الله عز وجل قد جعل القرآن- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد- للمسلم مقياسا يقيس عليه ما ينسب إلى الله مما في المتداول من الكتب الدينية فما اتسق فيه من المبادئ والمثل المحكمة مع مثلها في القرآن جاز أن يكون من عند الله وحسب والله تعالى أعلم.
وقد ركزنا الكلام على الكتب التي في أيدي النصارى واليهود لأنهم الذين يعنيهم القرآن بالدرجة الأولى بتعبير أهل الكتاب والذين كان بينهم وبين العرب قبل الإسلام ثم بينهم وبين النبي ﷺ اتصال مباشر على ما ذكرناه في التعليق على أهل الكتاب في سورة المدثر. وقد نبهنا في هذا التعليق على أن تعبير أهل الكتاب أوسع من أن يقتصر على اليهود والنصارى وأنه لا مانع من أن يشمل كل ملة تدعي أن في يدها كتابا منسوبا إلى الله وموحى به إلى أحد رجالها العظماء القدماء وعليه سمة من سمات كتب الله المعروفة ومن ذلك الكتب المنسوبة إلى عظماء رجال من الهند والصين وغيرهما وفيها شرائع ووصايا وتعاليم وعقائد ولو كان ما فيها أو بعض ما فيها مخالفا للقرآن لأن هذا شأن الكتب التي يتداولها اليهود والنصارى اليوم فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٦]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
تقرر الآية بأن حجة الذين يجادلون في وحدة الله وصفاته واستحقاقه للعبادة والولاء وحده وما في دعوة رسوله من حقّ وصدق قد سقطت وبطلت بعد أن ظهر الحق واستجاب إلى الدعوة أصحاب الرغبة الصادقة في الحق البريئون من العناد والمكابرة وعلى الذين يحاجون ويكابرون بعد ذلك غضب الله وعذابه الشديد.
تعليق على آية وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
والآية جاءت معقبة على الآية السابقة لها مباشرة في الدرجة الأولى وعلى الفصل القرآني جميعه بصورة عامة. وقد انطوى فيها ردّ على المشركين الذين رجحنا أنهم هم الذين كانوا يتحججون بما عليه أهل الكتاب من انقسام وخلاف، ومعنى الاستعلاء عليهم والإفحام لهم في الآية قوي.
والمتبادر أن الآية قد عنت استجابة من استجاب إلى دعوة النبي ﷺ من أهل الكتاب بالإضافة إلى من استجاب إليها من العرب. وهذا مما يقوي في الآية ذلك المعنى، ومما يقويه بقوة وروعة وشمول أن الذين استجابوا إلى الدعوة في العهد المكي كانوا يمثلون البشرية جميعا تقريبا تمثيلا تاما على اختلاف الطبقات والألوان والأقطار والأجناس والأديان والنحل حيث كان فيهم الغني والفقير والشريف والمسكين والزعيم والصعلوك والشباب والشيوخ والنساء والرجال والصبيان والفتيات والأحرار والأرقاء والتاجر والصانع والزارع والراعي والحضري والبدوي والقرشي وغير القرشي والشامي والمصري والعراقي واليمني والفارسي والرومي والحبشي والسوداني والمشرك والصابئي والحنيفي والوثني والكوكبي والمجوسي واليهودي والنصراني. فكان في الجماعة الإسلامية الأولى التي تكونت تحت زعامة النبي ﷺ نموذج رائع للمجتمع الإنساني الذي استهدفت الرسالة المحمدية إقامته
وهذا التمثيل للبشرية في الإسلام ظل مستمرا بعد الهجرة مع اتساع نطاقه ثم ظل مستمرا بعد النبي ﷺ مع اتساع نطاقه كذلك إلى الآن وسيظل إلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله ويظهر الإسلام على الدين كلّه مما يزيد معنى العبارة القرآنية قوة بعد قوة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)
احتوت الآيتان توكيدا بأن الله هو الذي أوحى بالكتاب لرسوله وهو حقّ لا يتحمل مراء، ووهب الناس قوة الموازنة بين الحق والباطل ليستطيعوا تمييز الحق واتباعه، وعين لهم موعدا بعد الموت يبعثهم فيه ليحاسبوا فيه على أعمالهم.
وتنبيها على أن هذا الموعد أقرب مما يظنه السامع، وبيانا بأن الذين يستعجلون هذا الموعد هم الذين لا يؤمنون به في حين أن المؤمنين يعرفون أنه حق لا ريب فيه ويحسبون حسابه في تهيب وإشفاق، وتقريعا للكفار بتقرير كونهم في مماراتهم وشكّهم في الآخرة موغلين في الضلال والباطل.
والآيتان متصلتان بما سبقهما فقد جاء في الآية السابقة لهما أن الله يجمع بين الناس وأن المصير إليه فجاءت الآيتان لتوكيد ذلك.
والاستعجال الذي ذكر في الآية الثانية كان يقع من الكفار على سبيل التحدي وفي معرض الإنكار والجحود والاستخفاف مما تكررت حكايته عنهم ومرت أمثلة عديدة منه حيث يبدو أنهم لا يفتأون يكررونه تحديا واستخفافا.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
. (١) الحرث: هنا بمعنى الثواب أو الحظ أو النفع.
وفي الثانية تنبيه إلى أن الذين يبتغون الآخرة بإيمانهم وعملهم الصالح يزيد الله حظهم فيها وأن الذين يكتفون بحظ الدنيا ولا يحسبون حساب الآخرة قد ينالون منها ما يبتغون ثم لا يكون لهم في الآخرة حظ ولا نصيب.
والآيتان متصلتان بما سبقهما حيث ذكر في الآيات السابقة الساعة أو يوم القيامة أو الآخرة فجاءت الآيتان في صدد ذلك أيضا.
والظاهر أن الكفار كانوا يتبجحون بما أوتوا من رزق وقوة ويرون في هذا دليلا على حظوتهم عند الله. فأريد بالآيتين الردّ عليهم وتقرير حقيقة الأمر في أحوال الناس الدنيوية وكونها مظهرا من مظاهر ناموس الله في ملكوته. وبيان كون ما يتيسر للناس في الدنيا من حظ لا يغني عنهم شيئا إذا لم يبتغوا وجه الله ويحسبوا حساب الآخرة بالإيمان والعمل الصالح.
وتبجح الكفار بقوتهم وما أوتوه من سعة عيش وكثرة أموال وأولاد قد تكرر، وفي آية من سورة سبأ حكى عنهم اعتقادهم أن ذلك سوف يقيهم من العذاب على ما مرّ شرحه في تفسير السورة المذكورة. وقد ردت آيات من السورة عليهم برد قوي مماثل في روحه للرد الوارد في هذه الآيات أو المنطوي فيها الذي شرحناه في التعقيب الذي أوردناه آنفا.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
. في الآية الأولى تساؤل استنكاري عما إذا كان للمشركين شركاء شرعوا لهم
وفي الآية الثانية صورة لما سوف يكون من أمر الظالمين في ذلك اليوم حيث يستولي عليهم الخوف من نتائج تمردهم وسوء أعمالهم التي هي واقعة عليهم حتما في حين يكون الذين آمنوا بالله وحده وقدموا صالح الأعمال منعمين في روضات الجنات يتمتعون بما يشاءون واحتوت الفقرة الأخيرة تنويها بهذا المصير السعيد الذي هو فضل عظيم للمؤمنين على الظالمين.
والآيتان استمرار للسياق والموضوع كما هو المتبادر، ولقد كان المشركون يزعمون أن ما هم عليه متصل بما شرعه الله وأن الله راض عنهم مما حكته آيات عديدة عنهم مرت أمثلة منها في السور السابقة. والظاهر أنهم كرروا ذلك في ظروف نزول هذه السورة وما ورد فيها من الإشارة إلى ما شرعه الله للناس على لسان أنبيائه فاحتوت الآيات تنديدا وردّا وإنذارا واستطرادا إلى ذكر المؤمنين الصالحين ومصيرهم بالمقابلة، جريا على الأسلوب القرآني.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٣]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
. في الآية تنبيه على أن ما ذكر في الآية السابقة من المصير السعيد هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأمر للنبي ﷺ بأن يقول للمخاطبين إني لا أسألكم أجرا إلّا المودة في القربى، وتقرير بأن الذي يفعل الحسنة يزاد له فيها ويضاعف أجره لأن الله غفور شكور يعامل عباده الصالحين بالمغفرة والتقدير.
وكلمة ذلِكَ تبدو بمثابة الرابطة بين هذه الآية وما سبقها كما هو المتبادر.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية احتوت توكيدا للمعنى الذي انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية [٢٠] السابقة بأسلوب آخر حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت مواصلة تطمين الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي ترضي الله تعالى بمضاعفة ثوابهم في آيات متتالية. وفي هذا ما فيه من حثّ على العمل الصالح وقد تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة.
تعليق على جملة قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
ولقد تعددت الأقوال والروايات في معنى الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها مدنيات. وروى الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن تفسير أبي حمزة الثمالي عن ابن عباس أن الأنصار جاءوا إلى النبي ﷺ بعد أن استحكم الإسلام في المدينة فقالوا له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها في غير حرج ولا محظور عليك فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال: تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد أن يذلنا لقرابته من بعده فأنزل الله الآية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً... فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله الآية التي بعدها: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فأرسل في أثرهم فبشرهم، وقد أخرج الطبراني حديثا عن ابن عباس مقاربا لما جاء في هذه الرواية «١».
القربى فيها هي قربى آل محمد. فقال ابن عباس: «عجلت إنّ النبيّ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فنزلت الآية تذكر ذلك وتقول لقريش (إلا أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم) وقد روى البخاري والترمذي هذه الرواية في كتابيهما أيضا «١». ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله: «كان لرسول الله ﷺ قرابة في جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم وذلك قول الآية: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ومما رواه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قوله: «قال محمد لقريش: لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكنّي أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم فإنّكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني» ومثل هذه الأقوال ومن بابها أقوال مروية في الآية عن عكرمة وحصين بن مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وعطاء بن دينار وابن وهب.
وإلى جانب هذه الأقوال التي يرويها الطبري يروي أيضا روايات مناقضة لها حيث يروي أن رجلا من أهل الشام قال لعلي بن الحسين لما جيء به إلى دمشق بعد مقتل أبيه: الحمد الله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. فقال له:
أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟ قال: نعم وإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وحيث يروى أيضا أنّ سعيد بن جبير قال: إن كلمة الْقُرْبى في الآية تعني قربى رسول الله ﷺ وأن عمرو بن شعيب أوّلها بمثل ذلك. وقد روى الطبري إلى جانب هذه الروايات وتلك عن الحسن أن القربى في الآية بمعنى القربى إلى الله. وعن قتادة أن الجملة في الآية بمعنى التودد والتقرب إلى الله بالطاعة.
وتعليقا على ما تقدم نقول: أما من ناحية مدنية الآية فالملحوظ أنها متصلة أوثق اتصال بالآية السابقة لها نظما وموضوعا. وهذا ما يلحظ أيضا بالنسبة للآيتين التاليتين لها اللتين ذكرت الروايات أنهما مدنيتان مثلها، ويلحظ أن رواية نزولها في المدينة معزوة إلى ابن عباس الذي رويت روايات عديدة عنه في تأويل الآية تأويلا يصرفها عن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها حديث صحّ عند البخاري والترمذي وليس يخفى ما في رواية نزولها في المدينة من غرابة بل وتهافت وقصد تلفيق وتطبيق.
ولعل قصد صرف الآية إلى أقارب رسول الله ﷺ ذو صلة بها لأن ذلك يكون ممتنعا البتة في حالة مكية الآية حيث كان أكثر أقارب رسول الله ﷺ في العهد المكي ومنهم أعمامه أبو طالب وأبو لهب والعباس كفارا، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها قد تزوجت، ولم يكن الحسن والحسين قد ولدا بعد. ولذلك فنحن نشك في رواية مدنية الآية والآيتين التاليتين لها. وأما من ناحية صرف الآية إلى أقارب
ولذلك نرى التأويلات الأخرى التي وردت في صدد الزيادة الاستثنائية التي نشأ عنها ذلك المفهوم هي الأولى والأصوب من حيث إنها قصدت أن تأمر النبي ﷺ بإعلان قومه أنه لا يسألهم على رسالته أجرا ولا يقصد نفعا خاصا وكل ما يطلبه أو يرجوه هو هدايتهم أو مودته أو عدم أذيته أو عدم الصد عن دعوته وأن هذا هو ما توجبه القرابة التي بينه وبينهم، ولا سيما أن من هذه التأويلات ما صح عند
التاج ج ٣ ص ٣٠٨- ٣٠٩.
وهناك صيغ عديدة أخرى لهذا الحديث من طرق أخرى، وهذه الصيغة أوسعها إسهابا وأوثقها سندا، وروى الترمذي عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبّوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبّوني بحبّ الله وأحبّوا أهل بيتي بحبّي». تفسير الآية لابن كثير.
وهناك أحاديث أخرى منها ما هو في صدد أفراد معينين من آل البيت. وفيها الجيد السند وفيها الضعيف فاكتفينا بما أوردناه الوارد في جميع أهل بيت النبي ﷺ عامة والقوي الإسناد.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٤]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)
. في الآية تساؤل استنكاري عما إذا كان الكفار يقولون إن النبي ﷺ يفتري على الله الكذب وردّ مفحم على ذلك بأن الله قادر لو كان قولهم صحيحا على أن يختم على قلب النبي ﷺ ويطمس على بصيرته ويمحو الباطل المفترى عليه ويحق الحق. فهو العليم بما في الصدور المحيط بكل شيء القادر على كل شيء.
والآية غير منقطعة عن السياق وإن كانت تحكي زعما للكفار وترد عليه.
(٢) انظر تفسير الزمخشري والخازن والبيضاوي والبغوي والقاسمي أيضا.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآية السابقة أن هذه الآية مما روى مدنيتها معها، وشكنا في رواية الآية السابقة ينسحب على رواية هذه الآية بطبيعة الحال.
ويلحظ أن أسلوب هذه الآية ومضمونها مما تكرر في آيات مكية وأن الصورة التي انطوت فيها هي من صور العهد المكي على الأعم الأغلب.
وفي إعلان النبي ﷺ ما أوحى إليه به في الآية يتجلى فيه بصورة رائعة إخلاص النبي ﷺ وعمق شعوره بصدق صلته بالوحي الرباني واستشعاره هيبة الله عز وجل وانتفاء أي احتمال لنسبة شيء ما إليه لم يكن قد أوحى إليه به، ومن شأن ذلك أن يفحم كل مكابر متعنت.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
. في الآيات تقرير بأن الله تعالى يقبل توبة التائبين إليه ويعفو عن السيئات ويعلم جميع ما يفعله الناس فيستجيب للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ويمنحهم عطفه ويزيدهم من فضله أما الذين كفروا فليس لهم عنده إلا شديد العذاب.
وكلمة وَهُوَ التي تبدأ بها الآيتان تدل على اتصالهما بما قبلهما كما هو المتبادر. ولا سيما أن الآيات السابقة قد ذكر الله تعالى فيها وجاءت هذه الآيات بعدها فاكتفت بالعطف عليه والإشارة إلى الله عز وجل بلفظ (هو). ومن المحتمل أن يكون استهدف في الآيتين إعلان كون باب الله مفتوحا للناس الذين يدعوهم النبي ﷺ ويبشرهم مما ذكر في الآيات السابقة وبذلك يبدو الاتصال واضحا.
ولقد ساق المفسرون «١» في سياق هذه الجملة بعض أحاديث نبوية فيها تشجيع كبير على التوبة منها حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».
ومنها حديث رواه الأغر بن بشار المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».
ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتدّ الحرّ والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
١- تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.
٢- وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.
٣- وتنبيه على أن الله عز وجل هو الذي ينزل المطر بعد ما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليّهم الذي يبرّ بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.
٤- وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث، فهو الذي خلق السموات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء لأنه هو الذي خلقهم في البدء.
٥- وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلّا بقليل مما يستحقون لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.
٦- وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.
وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون
تعليق على آية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ إلخ
ويلوح لنا أن الآية [٣٠] وهي تنبه إلى أن ما يصيب الناس من مصائب هو من كسب أيديهم قد قصدت تقرير ما هو متسق مع الواقع والحق والعقل وهو أن ما يصيب الناس في أغلب الأحيان من مصائب وبلاء وشرور وأضرار وأخطار إنما هو نتيجة لتصرفاتهم وأعمالهم، فليس لهم أن يوجهوا لومهم على ذلك إلى غيرهم.
ومن واجبهم أن يترووا في أعمالهم وتصرفاتهم ليتقوا تلك الأضرار والأخطار.
ومع ما قلناه أنه المتبادر اللائح من الآية [٣٠] فهناك أحاديث نبوية يرويها المفسرون في سياقها، منها حديث رواه البغوي بطرقه عن الحسن قال: «لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمّد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلّا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر». وحديث رواه البغوي بطرقه أيضا عن أبي سخيلة قال: «قال علي بن أبي طالب: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عزّ وجلّ حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير». قال وسأفسرها لك يا علي. «ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله عز وجل أكرم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة. وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه».
ولسنا نرى في الحديثين نقضا لما تبادر لنا بل فيهما تدعيم له وإن كان فيهما بالإضافة إلى ذلك تبشير وتطمين للمسلمين يجعلانهم يتقبلون ما يقع عليهم بالرضاء والإذعان، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل. ولقد أورد ابن كثير في سياقه أحاديث فيها تدعيم لهذا التلقين الإضافي. منها حديث رواه الإمام أحمد عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها». وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن معاوية بن
تعليق على آية وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [٢٧] وهي أولى هذه الآيات مدنية. وروى المفسر الخازن رواية مؤيدة لذلك عن خباب بن الأرت رضي الله عنه من أصحاب رسول الله ﷺ أنه قال: «إن هذه الآية نزلت فينا وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله الآية». والذي نلحظه أن الآية منسجمة في الآيات الأخرى سبكا وموضوعا انسجاما تاما. وأن آيات لا خلاف في مكيتها قد احتوت شيئا مما احتوته مرت أمثلة منها في السور السابقة وبخاصة في سورة سبأ. ولا تظهر حكمة لوضعها في السياق المكي الذي وضعت فيه لو كانت مدنية وهذا فضلا عن أن مضمونها لا ينطبق تماما على فحوى الرواية وبناء على ذلك كله فنحن نتوقف في رواية مدنيتها.
وهذا لا يمنع من أن يكون بعض أصحاب رسول الله ﷺ قد أظهروا عجبهم مما في أيدي يهود المدينة من ثروات فتلا النبي ﷺ الآية مذكرا بحكمة الله ومشيئته ونواميسه في بسط الرزق وقبضه، فظن بعضهم أنها نزلت حديثا.
وقد يكون نزول الآية في مكة متصلا بسبب مثل ذلك حيث يكون الكفار قد تبجحوا بثروتهم وغناهم وقد حكت آيات عديدة عنهم ذلك، أو يكون بعض المسلمين قد تساءلوا عن حكمة ذلك فجاءت لترد على أولئك أو تطمئن هؤلاء وظلت تساق في هذا المعرض، وفي الآية [٣٦] الآتية بعد قليل قرينة ما على ذلك على ما سوف نشرحه بعد.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية حينما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها، فقال قائل: هل يأتي الخير بالشرّ يا نبي الله؟ فردّد السؤال ثم نزل عليه الوحي فلما فصل عنه قال: إن الخير لا يأتي إلّا
ولقد ساق المفسر البغوي في سياق تفسير الآية حديثا قدسيا رواه أنس بن مالك عن النبي ﷺ عن جبريل جاء فيه: «يقول الله عز وجلّ: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة وإنّي لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد، وما تقرب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» «١».
وفي الحديث تطمين بأسلوب آخر لما قصدته الآية من تطمين على ما شرحناه قبل.
ولقد قال واحد من الذين يحبون أن يستدلوا بالآيات على ما في الكون من أسرار وعوالم مغيبة إن في هذه الآية دليلا على أن الكواكب مأهولة بالأحياء. وأن القرآن بذلك يتطابق مع ما صار معلوما عند العلماء في هذه الأيام. والآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وهذا أمر ما يزال قيد الظن والتخمين وقد يثبت وقد لا يثبت.
والآية لم تنزل بسبيل ذلك، وإنما كانت تتلى على أناس يرون ما في الأرض والسماء من مختلف الأحياء الدابة على الأرض والطائرة في السماء لتنبههم إلى ما في ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله وعظمته وكونه هو الأحق بالعبادة والاتجاه وحده. ولقد نبهنا على هذا في مناسبات سابقة مماثلة وقلنا إن في محاولة استنباط المعارف والأسرار والمغيبات الكونية من الآيات تكلفا لا طائل من ورائه وإخراجا للقرآن عن قدسيته وهدفه وتعريضا له للجدل والتكذيب بدون وجه ومبرر. وأن الواجب على المسلمين أن يقفوا من هذه الآية وأمثالها عند ما يقف عنده القرآن دون تزيد ولا تكلف مع ملاحظة الهدف الذي ترمي إليه والذي تخاطب في صدده السامعين خطابا متصلا بما يشاهدونه ويحسونه ويمارسونه.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٦]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
. (١) الجواري: جمع جارية وهي هنا كناية عن سفن البحر.
(٢) الأعلام: كناية عن ارتفاعها فوق سطح البحر كأنها جبال.
(٤) يوبقهن: يحطمهن.
في الآيات:
١- تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه.
فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة. وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفواتهم وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلّا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.
٢- وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أوتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلّا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.
والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينحسب عليها بطبيعة الحال.
والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلّا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا
ويلحظ هنا أيضا أن الآية [٣٤] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [٣٠] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.
ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [٣٦] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة مماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.
وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن الشراعية، وهي التي قصد بها في جملة الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٧ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
(٢) ينتصرون: من الانتصار بمعنى مقابلة العدوان بمثله ودفعه.
(٣) الظالمين: هنا بمعنى المعتدين.
(٤) ما عليهم من سبيل: ليس من محل للومهم ومؤاخذتهم.
الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى:
١- فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.
٢- وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلّا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.
٣- وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البرّ ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.
والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث:
١- فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.
٣- وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.
٤- ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.
ويستفاد من سياق بعض المفسرين «١» أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم، ومن سياق بعض آخر «٢» أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيّان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)، وآية سورة الجاثية: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [١٤] وآية سورة النحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أو عقب وفاته وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.
(٢) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول إنها من جهة وصف لما كان عليه الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي ﷺ في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مرّ الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعدّ من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ قد ورد في الآية [٣٤] من سورة النجم التي مرّ تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) ووَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ والغضب وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «١». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» «٢». وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعلّي أعيه.
قال: لا تغضب. فردّد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب» «٣». وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم» «٤».
وحديث رواه الترمذي عن النبي ﷺ جاء فيه: «المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» «٥».
وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: «ما أعطي أحد عطاء خيرا
(٢) التاج ج ٥ ص ٤٣- ٤٤.
(٣) التاج ج ٥ ص ٤٣- ٤٤.
(٤) التاج ج ٥ ص ٤٤- ٤٧.
(٥) التاج ج ٥ ص ٤٤- ٤٧.
وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه» «٤». وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجرّع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» «٥».
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله ﷺ أنها صدرت عن النبي ﷺ في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي ﷺ بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيما بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
(٢) التاج ج ٥ ص ٤٤- ٤٧.
(٣) التاج ج ٥ ص ٤٤- ٤٧.
(٤) تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران. [.....]
(٥) تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها.
[٢٣٧] وآية سورة آل عمران هذه: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)، وآية سورة النساء هذه: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)، وآية سورة النور هذه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)، وآية سورة التغابن هذه:
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤). وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)، وهذه: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)، وآيات سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)، وهذه:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ... [١٢٨] وهذه: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)، وآيات سورة الأنعام هذه: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨)، وهذه: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)، وآية سورة الأعراف هذه: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وآية سورة الأنفال هذه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ... [١]، وآيات سورة الحجرات هذه: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات والمهاترات والأحقاد بينهم.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك منها في صدد الإصلاح حديث يندد بالذين يلجون في الخصومة والمشاكسة رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي ﷺ قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصيم» «١». وحديث يبرر استعمال أي أسلوب في سبيل الصلح رواه أبو داود والبخاري عن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي ﷺ قال: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا» «٢».
وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة» «٣». وزاد الترمذي هذه الجملة في روايته: «لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين» «٤».
وهناك حديث مهم في بابه فيه تلقين أن الصلح يجب أن لا يحرّم حلالا ولا يحلّ حراما وقد رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عمرو بن عوف المزني عن النبي ﷺ قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، والمسلمون على شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما» «٥».
أما في صدد العفو فمن ذلك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «إن رجلا قال: يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على
(٢) التاج ج ٣ ص ٦٣- ٦٤.
(٣) التاج ج ٣ ص ٦٣- ٦٤.
(٤) التاج ج ٢ ص ٢٠٢- ٢٠٣.
(٥) التاج ج ٢ ص ٢٠٢- ٢٠٣.
هذا، ولقد زعم بعض الأغيار أن فكرة الجهاد في الإسلام إنما وجدت في العهد المدني وأن مبادئ العفو والتسامح مع غير المسلمين إنما نزلت في العهد المكي ثم أهملت في العهد المدني. وهذا تجنّ وخطأ معا، فالذي ينعم النظر في هذه الآيات يرى فيها نواة فكرة الجهاد على نفس الأسس التي قام عليها تشريع الجهاد في القرآن المدني على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) وهي قتال المعتدي ودفع البغي وتأمين حرية الدعوة الإسلامية وعدم الإسراف في المقابلة بالمثل. كما أن الذي ينعم النظر في كثير من الآيات المدنية يجد أن الباب ظل كما هو الحال في القرآن المكي مفتوحا دائما للتائبين والمنيبين والمنتهين عن مواقفهم الجحودية العنيدة المؤذية، وأن القرآن المدني حثّ في كثير من آياته على العفو والتسامح والغفران والوفاء بالوعود والعهود والعدل والبرّ مع غير المسلمين الموادين والمسالمين «٤».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
(٢) التاج ج ٥ ص ٩ و ١١ و ٤٦. (الملّ: الرماد الحار).
(٣) التاج ج ٥ ص ٩ و ١١ و ٤٦. (الملّ: الرماد الحار).
(٤) انظر مثلا آيات سورة البقرة [١٠٨] والنساء [٢٦ و ٩٠ و ٩٤ و ١٤٥ و ١٤٦] والمائدة [٢ و ٨ و ٢٣ و ٣٢- ٣٣ و ٤٢] والأنفال [١٨ و ٣٨- ٣٩ و ٦١- ٧٢] والتوبة [٤ و ٧] والممتحنة [٨- ٩].
(٢) مردّ: هنا بمعنى رجعة أو عودة إلى الدنيا.
في الآيات تنبيهات تضمنت إنذارات قوية للظالمين، فالذين يستحقون غضب الله وخذلانه بسبب ظلمهم وجحودهم لن يكون لهم نصير ولا ولي بعده، ولسوف يندمون على ما بدا منهم حينما يرون عذاب الله ويتساءلون تساؤل المضطرب المتحسر الفزع عما إذا لم يكن من سبيل للعودة إلى الدنيا لتلافي ما كان منهم. ولسوف يرون حينما يعرضون على النار وقد انهدت قواهم وتزلزلت أعصابهم من الفزع يرسلون نظرات الرعب والذل من تحت أحداقهم كما يفعل الذليل الجبان حينما يواجه الشدائد والأخطار وحينئذ يتيقن المؤمنون ويقولون إن الخاسرين الحقيقيين هم الذين يخسرون يوم القيامة أنفسهم وأهليهم حيث يكونون في عذاب دائم لا نهاية له ولا مخلص منه. ولن يكون لهم أولياء ينصرونهم وهذا هو مصير من يستحق غضب الله وخذلانه حيث لا يكون له منفذ ينفذ منه أو طريق يصل منه إلى الأمن والسلامة.
وواضح أن الآيات قد جاءت تعقيبا على الآيات السابقة لها وفي معرض المقابلة والمفاضلة بين حالتي المؤمنين والكفار ومصير كل منهم. والاتصال بينها وبين ما سبقها قائم والحالة هذه. والصورة قوية مفزعة حقا. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار الآثمين وإثارة الطمأنينة في قلوب المؤمنين، ونعت الذين يضلهم الله بالظالمين والخاسرين وتقرير كونهم فقدوا النصير والولي قرائن مؤيدة لشرحنا العبارة
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
. (١) مردّ: هنا بمعنى لا راد له ولا دافع.
(٢) نكير: هنا بمعنى نصير، وأصل معناها الذي ينكر ما يحدث من الأمور ويعترض عليها.
في الآية الأولى وجه الخطاب للسامعين بصيغة الجمع المخاطب فهتفت بهم حاثة على الاستجابة إلى دعوة الله والارعواء عما هم فيه من انحراف عن طريق الحق قبل أن يأتي اليوم الذي لا راد له ولا مفلت من الله فيه والذي لن يكون لأحد فيه ملجأ ولا نصير من دون الله. وفي الثانية وجه الخطاب إلى النبي ﷺ على طريقة الانتقال والالتفات فنبهته إلى أن الله تعالى لم يجعله رقيبا على الناس ومسؤولا عنهم وضامنا لاستجابتهم إذا هم ظلوا على ضلالهم وإعراضهم عن الدعوة وأنه ليس عليه إلا الإنذار والبلاغ. واحتوت الآية بعد ذلك تعقيبا تقريعيا للإنسان أو للجنس الإنساني بصورة عامة، فهو إذا منحه الله نعمة بطر وفرح واغترّ ونسي الله تعالى، وإذا أصابته سيئة بسبب آثامه وأخطائه يئس وكفر.
والآيتان جاءتا على ما هو المتبادر معقبتين على الآيات السابقة لها، والاتصال بين السياق قائم والحالة هذه.
والآية الأولى وإن كانت موجهة للسامعين إطلاقا فإن روح الآية الثانية
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
. (١) يزوجهم: هنا بمعنى ينوعهم ويجعلهم أصنافا خليطا من ذكور وإناث.
في الآيتين تنويه بشمول ملك الله وقدرته ومشيئته: فكل ما في السموات والأرض ملك له. وبيده خلق كل شيء وعلى الوجه الذي تتعلق به إرادته ومشيئته.
ويدخل في ذلك حمل الأمهات ونوعه. فهو الذي يهب لمن يشاء إناثا فقط ولمن يشاء ذكورا فقط. وهو الذي يهب لمن يشاء أصنافا متنوعة من ذكور وإناث معا، وهو الذي يجعل من يشاء عقيما وكل ذلك وفقا لمقتضيات علمه وحكمته فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء.
وقد يبدو أن الآيتين منقطعتان عن الموضوع والسياق السابقين، غير أنه تبادر لنا شيء من الصلة بينهما وبين ما جاء في آخر الآية الأخيرة التي احتوت تنديدا بما جبل عليه الإنسان من البطر عند النعمة والكفر واليأس عند المصيبة. ولقد كان العرب يحبون ويشتهون الذكور ويكرهون ولادة البنات ويسخطون على نسائهم حينما يلدن إناثا ويعتبرون ذلك مصيبة على ما تفيده آيات قرآنية عديدة منها سورة
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
. في الآية الأولى إشارة إلى مشاهد ثلاثة لاتصال الله في الكلام بالبشر أو اتصالهم به في ذلك. فالله لم يكن ليكلم أي إنسان مواجهة. والناس الذين يصطفيهم للاتصال به يتصل بهم إما بطريق الوحي أو من وراء حجاب أو بواسطة رسول من قبله فيوحي إليهم ما يشاء بأمره وإذنه، وهو العلي المتسامى في شأنه وكنهه، الحكيم الذي يفعل ما يفعل ويختار ما يختار وفقا لمقتضى حكمته.
وكان من شأن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن اهتدى به أن صار يهدي به غيره إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي له ما في السموات والأرض والذي ترجع جميع الأمور إليه.
تعليق على آية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ وما بعدها
وقد روى المفسر البغوي وتابعه الخازن أن هذه الآيات نزلت بناء على سؤال وقع من بعض يهود المدينة ويقتضي هذا أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تفيد ذلك ويلحظ كذلك أن الأسلوب القرآني على الإجابة على السؤال هو حكايته أو حكاية موضوعه أولا وهذا غير موجود هنا.
والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات التي جاءت خاتمة للسورة متصلة بمطلع السورة الذي احتوى إشارة إلى أن الله سبحانه يوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم كما يوحي إلى الأنبياء من قبله. وأن حكمة التنزيل قد اقتضت ربط أول السورة بخاتمتها. وهذا مما كان في سور أخرى أيضا مرّ منه بعض الأمثلة. فإذا صح ما قلناه ففيه مشهد من مشاهد النظم القرآني كما فيه دلالة على أن السورة نزلت دفعة واحدة أو فصولا مترابطة متتابعة مهما بدا على هذه الآيات أنها جاءت كفصل مستقل عن الآيات السابقة لها مباشرة.
وهذا لا ينفي بطبيعة الحال احتمال كون الإيضاح الذي احتوته الآيات قد
وفي الآيات الأولى من السورة ذكر أن الله شرع من الدين ما وصّى به الأنبياء من قبل محمد وما أوحاه الله إليه مثلهم، مما يمكن أن يكون المناسبة للتساؤل والاستيضاح، وهذه المناسبة قائمة في الآيات الأولى من السورة أيضا.
ونقول تعليقا على مدى الآيات: إن الآية الأولى احتوت الإشارة إلى مشاهد ثلاثة في صدد اتصال الله بمن يشاء من عباده بالكلام: الأول أن يكون وحيا، والثاني من وراء حجاب، والثالث برسول يرسله ويوحي بواسطته وبإذنه ما يشاء.
وأصل معنى (الوحي) هو السرعة أو اللمحة الخاطفة. أو الإلهام والقذف في القلب. وقد يعني هذا أن الوحي في الآية يعني شعورا ذاتيا وقلبيا بما ينقذف في نفس الموحى إليه من أفكار ومواضيع كإشعاع تضيء به نفسه فيشعر أنه يلهم إلهاما علويا ربانيا في قالب كلامي.
والرسول الوارد ذكره في الآية والذي هو المشهد الثالث من المشاهد هو على ما قاله جمهور المفسرين: «الملك الذي كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلم». واستعمال تعبير «فيوحي إليهم» بالنسبة إليه يلهم أن اتصال الملك بالنبي صلّى الله عليه وسلم هو كذلك اتصال روحي أو قلبي. وقد ذكر هذا بصراحة في آيات سورة الشعراء هذه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)، وفي آية سورة البقرة هذه مع صراحة باسم الملك: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) [٩٧].
ولعل الفرق بين المشهدين الأول والثالث هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم لا يشعر في الأول بملقن منفصل عن ذاتيته لما ينقذف في قلبه من وحي الله في حين أنه يشعر بذلك في المشهد الثالث.
ونحن إذ نشرح هذا إنما نفعل بالنسبة للعبارات الواردة، أما فهم حقيقة هذا الاتصال وحقيقة الشعور به وإدراكهما فهما في الحقيقة خصيصان بالذين يصطفيهم الله تعالى لوحيه وصلته وكلامه. وهما بالنسبة لغيرهم حقيقة إيمانية يجب الإيمان بها لأنها مما أخبر به هؤلاء المصطفون، وهم صادقون فيما أخبروا به وقد عبروا عنه بأمر الله ووحيه بما يمكن أن تتسع له الألفاظ التي يتفاهم البشر بها، وأما كنه الأمر فهو سرّ متصل بسرّ واجب الوجود وأنبيائه الذي يعجز العقل الإنساني عن إدراكه مع ما يقوم عليه من الدلائل المتنوعة التي لا ينكرها إلّا المكابرون.
وما قلناه هو في صدد شرح المراتب أو المشاهد التي احتوت الآية الأولى الإشارة إليها. أما مشهد الاتصال الرباني بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد استعمل في بيانه كلمتا أَوْحَيْنا ورُوحاً. وجمهور المفسرين على أن الكلمة الثانية تعني الملك جبريل. ومع أن اسم هذا الملك قد ذكر في آية البقرة التي أوردناها آنفا والتي ذكر فيها أنه كان ينزل القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم ومع أن كلمة الروح استعملت في آيات سورة الشعراء التي مرت في مقام تنزيل الروح بالقرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم أيضا فإن العبارة تلهم كون مشهد الاتصال النبوي بالله المشار إليه هنا خاصة هو مشهد إلهامي وإيحائي وروحاني، وأن مشهد تنزيل جبريل يمكن أن يكون هو المشهد الثالث الذي عبر عنه بجملة أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. على أنه ليس في الحقيقة تعارض بين ما تلهمه العبارة هنا وما تلهمه آيات سورتي الشعراء والبقرة، لأن الإنزال على القلب لا يعدو كما يستلهم من روح الآيات مشهدا إلهاميا وإيحائيا وروحانيا أيضا.
وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا».
وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت، وجاء في الثاني: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد وجهه». وجاء في الثالث: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فلما انجلى عنه رفع رأسه» «١».
هذا، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلّا بعد اتصال وحي الله به. وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل وهذا لا ينفي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملّة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربّا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه.
ولقد كان هذا حقا، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء
ولقد قال بعض المفسرين «١» إن قصد العبارة هو نفي معرفة النبي صلّى الله عليه وسلم لشرائع الإيمان والإسلام التفصيلية وأشكال الصلاة ومواقيتها معرفة مستندة إلى وحي رباني توقيفي، وأن العبارة لا تنفي أن يكون قد حصل عند النبي صلّى الله عليه وسلم إيمان عام عقلي، وهذا لا ينقض ما قررناه بل يتسق معه كما هو المتبادر.