هذه السورة مدنية وعدد آياتها ثماني عشرة، وهي - على قلة آياتها- جاءت زاخرة بمختلف المعاني في السلوك والآداب والأحكام والمواعظ، وقد جاءت السورة مبدوءة بوجوب التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخاطبته في غاية التوقير والتعظيم.
وقد تضمنت السورة تنديدا بأولي الطبائع الغليظة من قساة الأعراب وأجلافهم الذين لم يوقروا النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا ينادونه من وراء بيوته بأصوات مستهجنة لا أدب فيها ولا تواضع.
وفي السورة يأمر الله عباده المؤمنين أن يتثبتوا لدى سماعهم أخبارا يحملها فاسقون، فلا يبادروا التصديق واليقين لما سمعوه لاحتمال الكذب أو الخطأ، ومن شأن ذلك أن يورث الزلل والندامة.
ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا بين إخوانهم المقتتلين بالعدل، والمؤمنون في ميزان الإسلام أخوة على الدوام.
وفي السورة نهي عن جملة رذائل قد ندد بها الإسلام تنديدا، وهي السخرية من الناس، والتنابز بالألقاب، وكذلك الكثير من الظن ثم التجسس والغيبة، وهذه رذائل وصفات ذميمة تذهب بالحسنات وتورث السيئات والمباغضات وفساد ذات البين.
وفي السورة إعلان من الله ظاهر يرسخ فيه المساواة بين الناس وأنه ليس من تفاضل بينهم لسبب من الأسباب التي يعتبرها البشر، وإنما التفاضل في ميزان الله، بالتقوى دون غيره. إلى غير ذلك من الأحكام والمعاني.
ﰡ
﴿ ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ١ يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ٢ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾.
هذه جملة آداب، خليق بالمؤمنين أن يتأدبوا بها لدى تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل أو خطاب، فيكون ذلك في غاية التكريم له والتوقير والتعظيم وهو قوله سبحانه :﴿ ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ أي لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء أو أمر من الأمور حتى يحكم الله على لسانه صلى الله عليه وسلم أو لا تبادروا القول أو الفعل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كونوا تبعا له في كل ذلك.
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله سميع عليم ﴾ أي اخشوا ربكم وافعلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه، فإنه يسمع ما تقولون وتعلنون ويعلم ما تخفون وتكتمون.
فلا يصخبون أمامه ولا يعلو صياحهم بل يتكلمون في أدب جم واستحياء بالغ واحترام له عظيم. وقد روي أن الآية نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر ( رضي الله عنهما ) فقد روى البخاري بإسناده عن ابن أبي مليكة قال : كاد الخيّران أن يهلكا : أبو بكر وعمر ( رضي الله عنهما ) رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر برجل آخر. فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : ما أردت إلا خلافي. قال : ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك فنزلت الآية فيهما، فما كان عمر ( رضي الله عنه ) يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه.
والمعنى : لا تتجهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغليظ الخطاب ولاتتصايحوا أمامه في صخب وتتنادوا بالأصوات العالية من غير حاجة ﴿ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ﴾ الكاف في ﴿ كجهر ﴾ في موضع نصب صفة لمصدر محذوف. والتقدير : لا تجهروا له جهرا كجهر بعضكم لبعض١ أي لا تنادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينادي بعضكم بعضا، وذلك بقولكم : يا محمد، يا محمد. ولكن قولوا في أدب وتوقير وتبجيل وتواضع : يا رسول الله، يا نبي الله، وأن لا تعلو أصواتكم في النداء فوق ما يحتاجه السامع للسماع ﴿ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ﴾ أي لأن تبطل أعمالكم وقيل : لئلا تبطل أعمالكم فلا يكون لكم عليها أجر ولا جزاء، وذلك برفعكم أصواتكم فوق صوت النبي، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض وأنتم لا تعلمون ولا تدرون.
قوله :﴿ أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ﴾ أي أخلص قلوبهم للتقوى وجعل فيها الخوف من الله ﴿ لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾ يعفو الله لهم عن ذنوبهم ويجزيهم خير الجزاء وهو الجنة٢.
٢ تفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٣٠٠- ٣٠٨ وتفسر ابن كثير جـ ٤ ص ٢٠٥- ٢٠٧ وأحكام القرأن لابن العربي جـ ٤ ص ١٧٠٠ – ١٧٠٣..
ذلك تنديد من الله بأولئك الأجلاف الذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه، وذلك في غلظة مستهجنة ما ينبغي أن تصدر عن مؤمنين كرام ولا يليق أن ينادي بها سيد الثقلين والأنام صلى الله عليه وسلم. وقد روى في سبب نزول الآية عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في الحجرة : يامحمد يا محمد. فأنزل الله الآية.
وذكر أنها نزلت في جفاة بني تميم، إذ قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين. فآذى ذلك من صياحهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم، فقالوا : جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم قوله :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ﴾ وكان فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم١.
و ﴿ الحجرات ﴾ جمع حجرة وهي البيت أو الغرفة٢ وفي هذه الآية يخاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم مبينا له أن هؤلاء الغلاظ الأجلاف الذين ينادونك من وراء البيوت من غير أدب ولا توقير ولا تواضع ﴿ أكثرهم لا يعقلون ﴾ يعني أكثرهم جاهلون بدين الله لغلبة السفاهة والجفاء على عقولهم وقلوبهم.
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ١٣٢..
يأمر الله عباده المؤمنين أن يتثبتوا فيما يردهم من أخبار يقولها فاسقون أو مريبون أولو ثرثرة ولغط وتهويش فما ينبغي للمؤمنين في كل زمان أن يصدقوا أمثال هؤلاء فيبنوا أحكامهم على ما يسمعونه منهم فيضلّوا ويزلّوا ويصبحوا من النادمين. والفاسق هو الكاذب، أو الذي لا يستحيي من الله.
وقد نزلت الآية في الوليد بن أبي معيط إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليجمع منهم الزكاة، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية. فلما سمع القوم تلقّوه تعظيما لله تعالى ولرسوله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا، سمعنا برسوله فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى. فبدا له في الرجوع فخشينا أن يكون إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى ﴿ ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ وقيل : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك، وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ( رضي الله عنه ) إليهم وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا ( رضي الله عنه ) أنهم مستمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد ( رضي الله عنه ) فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله الآية. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " ١.
قوله :﴿ فتبيوا أن تصيبوا قوما بجاهلة ﴾ أي تثبتوا واحتاطوا، أو أمهلوا حتى تعرفوا صحة النبأ ولا تعجلوا ﴿ أن تصيبوا قوما بجهالة ﴾ أي كراهية، أو لئلا تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بخطأ منكم ﴿ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ﴾ أي فتندموا على ما أصبتم به غيركم من الجناية.
قوله :﴿ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ﴾ يخاطب الله عباده المؤمنين الصادقين المخلصين ليبين لهم ما امتن به عليهم من النعم، وهو الإيمان. فقد رسخ الله في قلوبهم الإيمان وجعل ذلك في قلوبهم محببا ﴿ وزينه في قلوبكم ﴾ أي حسنه في قلوبكم تحسينا لتذوقوا به حلاوة العقيدة والقوى ﴿ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ﴾ أي بغض الله الجحود والشرك لعباده المؤمنين الصادقين المخلصين فجعله بغيضا إلى قلوبهم. وكذا الفسوق وهو الخروج عن طاعة الله والتلبّس بالخطيئة والعصيان، كل ذلك بغيض – بفضل الله – إلى قلوب المؤمنين المتقين المخبتين لله بالطاعة والإنابة.
قوله :﴿ أولئك هم الراشدون ﴾ المتصفون بالرشد وهو الاستقامة على طريق الحق، فهم ساربون على طريق الله المستقيم، ومتبعون منهجه الرباني القويم غير زائغين ولا متعثرين.
ذلك أمر من الله لعباده المؤمنين بالإصلاح بين الفئتين المقتتلتين منهم، فدين الإسلام رحمة من الله للعالمين، يرسخ فيهم المودة والتعاون والإخاء ويحذرهم العداوة والبغضاء وسوء الخصام ويوجب أن يغيض كل أسباب الشقاق والنزاع والمباغضة وإذا وقع شيء من ذلك بين فئتين من المؤمنين أن يبادروا سراعا للتوفيق والإصلاح بين الفئتين المتخاصمتين المقتتلتين. لا جرم أن الإصلاح بين المسلمين عمل جليل ومبارك يكتب الله فيه حسن الجزاء للأبرار الذين يصلحون بين إخوانهم المسلمين، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي بكر ( رضي الله عنه ) قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي ( رضي الله عنه ) فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول : " إن ابني هذ سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، إذ أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الذي وقع بينهم من حرب تثير في النفس الألم والحزن.
أما في سبب نزول الآية : فقد روي عن أنس قال : يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار : لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه. وغضب لكل واحد منهما أصحابه، وكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنه أنزلت فيهم :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ﴾ ١ وقيل غير ذلك من الأسباب.
والمستفاد : وجوب الإصلاح بين المسلمين إذا ما وقع بينهم نزاع أو شقاق أو اقتتال. والطائفة : تعني الواحد فما فوقه، والطائفة من الشيء : القطعة منه٢.
قوله :﴿ فأصلحوا بينهما ﴾ أمر بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين بدعوتهما إلى الاحتكام إلى كتاب الله فهو يقضي لهما أو عليهما.
قوله :﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى ﴾ بغت من البغي وهو العدول عن القصد. بغى على الناس بغيا، أي ظلمهم واعتدى عليهم فهو باغ، وجمعه بغاة. وبغى : سعى بالفساد٣. والمراد : إذا اعتدت إحدى الطائفتين ولم تستجب لنداء الحق أو حكم الله فأبت إلا التطاول والفساد ﴿ فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ أي قاتلوا هؤلاء البغاة حتى يثوبوا إلى الحق والصواب ويقبلوا بحكم الله في كتابه الكريم.
قوله :﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ ﴿ فاءت ﴾ من الفيء وهو الرجوع، أي إن رجعت الفئة المتعدية المتجاوزة عن بغيها ورضيت بالاحتكام إلى كتاب الله، فأصلحوا بين الطائفتين بتحري الحق والصواب والأخذ للطائفة المظلومة من الظالمة حتى يزول ما أصابها من حيف وبغي.
٢ مختار الصحاح ص ٤٠٠..
٣ المصباح المنير جـ ١ ص ٦٤..
وعلى هذا فإن المسلمين جميعا إخوان متحابون متعاونون وذلك على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم، ومهما تناءت بينهم البلدان والأقاليم، وهم لا تفرق بينهم الحواجز المصطنعة التي أوجدها الظالمون المخالفون لأمر الله، الرافضون لعقيدة الإسلام ومنهج الله للعالمين، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " وعنه صلى الله عليه وسلم من رواية أحمد عن سهيل بن سعد الساعدي ( رضي الله عنه ) " إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس " ﴿ فأصلحوا بين أخويكم ﴾ أي أصلحوا بين المسلمين سواء كانوا اثنين أو فئتين أو طائفتين إذا وقع بينهم نزاع أو خصومة أو اقتتال، ليفيئوا جميعا إلى حكم الله العادل وليزول من بين المسلمسن كل وجه من أوجه الشقاق والخلاف.
قوله :﴿ واتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾ أي خافوا ربكم بأداء فرائضه واجتناب عصيانه ونواهيه والإصلاح بين إخوانكم المسلمين بالعدل يبسط الله عليكم رحمته وتحظوا بالمغفرة والأجر والإحسان١.
ذلك نهي من الله شديد عن السخرية من الناس. فأيما استهزاء أو استسخار من أحد أو جماعة أو طائفة، حرام مهما كان السبب لدى الساخر المستهزئ كما لو سخر من غيره لكونه قصيرا أو فقيرا أو دميما أو صعلوكا ذليلا أو أسود اللون أو عييا
لا يحسن الخطاب أو غير ذلك من الأسباب والصفات، فلا يسخر أحد من أحد لشيء مما ذكر إلا طوّقه الإثم وأحاطت به الخطيئة وباء بالذنب الكبير ووقع فيما نهى الله عنه، وهو قوله :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ﴾ ربما كان المستهزأ به خيرا من الساخر المستهزئ عند الله فيكون أفضل منه بطيب نيته وحسن سريرته وتقواه. وفي ذلك روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
وفي التنديد الشديد بالسخرية من عباد الله، وتغليظ النكير عليها، روى الترمذي عن عائشة قالت : حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا١، فقال : " ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا كذا " فقلت : يا رسول الله إن صفية امرأة – وقالت بيدها- هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال : " لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج ".
قوله :﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ تلمزوا من اللمز، وهو الإشارة بالعين ونحوها كالرأس والشفة مع كلام خفي. واللّمزة : العيّاب للناس٢.
والمراد : لا يطعن بعضكم بعض. أو لا يعب بعضكم بعضا بيد أو لسان أو عين أو إشارة، فكل ذلك إهانة للمسلم واستخفاف به وتحقير له، وذلك كله حرام. وقوله :﴿ أنفسكم ﴾ كقوله :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ أي لا يقتل بعضكم بعضا، لأن المسلمين جميعا كنفس واحدة، فكأن قاتل أخيه المسلم قاتل لنفسه. وكذلك الذي يلمز أخاه المسلم بعيب أو طعن أو إهانة وتحقير فكأنما لمز نفسه.
قوله :﴿ ولاتنابزوا بالألقاب ﴾ أي لا تعايروا ولا تداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها٣. وقد روى الإمام أحمد عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة ﴿ ولا تنابزوا بالألقاب ﴾ قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت الآية ﴿ ولا تنابزوا بالألقاب ﴾ وقيل : كان الرجل يعيّر بعد إسلامه بكفره : يا يهودي، يا نصراني. فنزلت. وقيل : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق، يا منافق. والصواب عموم النهي عن التنابز بالألقاب على اختلاف صوره ومعاينه. وحقيقته دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة. فلا يجوز لمسلم أن يعيّر أخاه أو يناديه باسم يكرهه أو بصفة يغتاظ بها.
قوله :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ﴾ يعني بئس أن يسمي الرجل الرجل باسم يكرهه. كما لو نعته بالكفر بعد أن أسلم، أو نعته بالزنا بعد أن تاب أو نحو ذلك من وجوه التنابز بعد الدخول في الإسلام فمن فعل ما نهى الله عنه من النبز بسوء الأسماء فقد تلبس بالفسق، أي من سخر من أخيه فلقبه بما يغيظه من الأسماء والأوصاف فهو فاسق. وفي الحديث الصحيح : " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه " وروي أن أبا ذر ( رضي الله عنه ) كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ترى ههنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه " يعني بالتقوى. وفي الحديث :" من عيّر مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة ".
قوله :﴿ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ﴾ يعني من لم يتب من تعيير أخيه بما يكرهه من الأسماء والألقاب، ونبزه إياه بما يسيئه من الأوصاف مما نهى الله عنه فأولئك قد ظلموا أنفسهم بما اكتسبوه من الإثم ليبوءوا بالعقاب٤.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٣٨ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٢٢١..
٣ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٩٧..
٤ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢١٢ وتفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٣٢٤- ٣٣٠..
هذه جملة من المنكرات البغيضة، قد نهى الله عنها بشدة وحذر من فعلها أو التلبس بها أبلغ تحذير. وذلك في كلمات بينات قوارع. كلمات باهرات عجاب تقرع بجرسها الحس، وتثير بروعة ألفاظها الذهن والوجدان.
وأول المنكرات هذه كثرة الظن بغير حق، وهي التهمة من دون سبب ظاهر يوجبها كالذي يتهم بشرب الخمر أو الزنا أو غير ذلك من وجوه الفواحش وليس ثمة أدلة ظاهرة تقتضي ذلك. ومثل هذا الظن حرام ومنهي عنه في دين الله. فما ينبغي لمسلم يقظ نبيه أن يسارع في اتهام المسلمين، وقذفهم بالسوء من المنكرات والفواحش. وإنما المسلم بطبعه وحقيقته لهو خاشع حريص، آخذ بالاحتياط والحذر، مجتنب لسوء الظن بإخوانه المسلمين، بل إنه يبادر بتلمس المعاذير لإخوانه عما يقال في حقهم أو ينسب إليهم من سوء الأقاويل والشبهات. وفي ذلك روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا. وروى ابن ماجه عن عبد الله ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : " ما أطيبك وأطيب ريحك. ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمه المؤمن أعظم عند الله تعالى منك ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا ".
وفي التنديد بالظن والتحذير من التلبس به روى أبو هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ".
وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة، والحسد، وسوء الظن " فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض " وروى الإمام أحمد عن عقبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موءودة من قبرها ".
قوله :﴿ إن بعض الظن إثم ﴾ فهو لم ينه عن الظن كله، فقد أذن الله للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض خيرا. بل نهى الله عن بعض الظن وهو ما كان في الشر. فيكون المعنى : إنّ ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير، إثم منهي عنه.
قوله :﴿ ولا تجسسوا ﴾ من التجسس. وهو تتبع الأخبار لمعرفتها. أو الفحص عن بواطن الأمور. والجاسوس الذي يتجسس الأخبار ليأتي بها١ والمعنى المقصود : خذوا ما تبدى لكم من ظواهر الأمور ولا تتبعوا عورات المسلمين لمعرفتها أو كشفها. أو لا يبحث المسلم عن أخيه المسلم ليطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ".
هذه هي محجة٢ الإسلام الناصعة البيضاء، وطبيعته المميزة الفضلى، القائمة على العقيدة الثابتة والخلق الكريم مهما تكن الأحوال والأعراف والظروف. تلك هي طبيعة الإسلام التي لا تتغير ولا بتبدل الأحوال والأزمان والمصالح، بل إن الأحوال والأعراف والملابسات والتصورات جميعا هي التي تدور مع الإسلام حيث دار.
ومثلبة التجسس واحدة من مثالب شتى خسيسة، قد ندد بها أبلغ تنديد، وهي أن يتتبع المرء عورات الناس من المسلمين وغير المسلمين من أجل الوقوف على أخبارهم وأستارهم، وللاطلاع على أسرارهم التي ما ينبغي أن يطلع عليها الآخرون.
إن هذه لهي حقيقة الإسلام العظيم الذي ينفذ إلى دخائل النفس البشرية فيطهرها بالعقيدة تطهيرا ويهذبها بأحكامه وآدابه أكمل تهذيب، لتكون نقية سليمة من الغش والكذب والخداع والنفاق وأدران القلوب. ويخالف ذلك تماما هذه الحضارات المادية المعاصرة الكنود التي تستند في بقائها وثباتها ومكثها وقوتها –إلى حد عظيم- على التجسس والخيانة والاحتيال وتتبع عورات البشر وكشف عيوبهم وأخبارهم، والغوص إلى صميم أستارهم وأسرارهم التي فرض الله أن تستر. ومن أفظع ما اصطلحت عليه أعراف الدول المادية في العصر الراهن هذا المصطلح الرهيب المقبوح المسمى ( المخابرات ) لا جرم أنه مصطلح مشؤوم ومنكود تنزف منه أخلاط شتى من معاني الشر والشؤم والإرهاب والخيانة والعار والفضائح وكشف العورات والأستار للبشر. إن ذلكم لهو عنوان الحضارات المادية الظالمة في هذا الزمان. حضارات جاحدة جائرة لا تستند إلى حق أو منطق أو ضمير أو عقيدة صحيحة سليمة إنما تستند إلى القوة والإرهاب والبطش والتنكيل والإباحية والشهوات. وذلك كله بخلاف الإسلام الذي يرسخ الواقع البشري على قواعد من الحق والعدل والصدق والبر والرحمة والوضوح في غير ما خداع ولا جور ولا نفاق ولا كذب ولا تجسس.
قوله :﴿ ولا يغتب بعضكم بعضا ﴾ وهذه ذميمة أخرى نكراء بالغة الفحش والسوء، قد نهى الله عنها أشد النهي وتوعد المتلبسين بها بالنكال وسوء المصير. وهي أن يذكر المرء بما فيه مما يحزنه أو يغضبه، فإن ذكر بما ليس فيه فذلك البهتان وهو أشد وأنكى. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : " ذكرك أخاك بما يكره " قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه " فتكلم هي الغيبة، وأشد منها الإفك والبهتان. فأما الغيبة، فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فهو أن تقول فيه ما ليس فيه.
والغيبة : وهي من أشد الكبائر وأفحشها قد شدد الإسلام عليها النكير وندد بالمغتابين الآثمين أعظم تنديد، فقد روي عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة. فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " قوله :﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ﴾ لقد شبه الله الغيبة بأكل الميتة. قال ابن عباس : إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة، لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. والمعنى : كما تكرهون الأكل من لحم إخوانكم ميتين فاكرهوا غيبتهم أحياء. والمراد بهذا المثل، التنفير من الغيبة والتحذير من الخوض في أعراض الناس فإن ذلك فظيع الإثم، شديد النكر، فقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه : " كل المسلم على المسلم حرام، ماله وعرضه ودمه ". وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ". وروى أبو هريرة أن ماعزا الأسلمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مرّ بجيفة حمار شائل برجله فقال : " أين فلان وفلان ؟ " فقالا : نحن ذا يا رسول الله. قال : " انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا ؟ !. قال : " فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " على أن غيبة الفاسق المجاهر بفسقه غير منهي عنها. وإنما الغيبة في المرء الذي يصون نفسه عن الفواحش ويستر نفسه عن الموبقات والشبهات. وروي عن الحسن البصري أنه قال : ثلاثة ليست لهم حرمة : صاحب الهوى، والفاسق المعلن، والإمام الجائر. وعنه أنه قال : ليس لأهل البدع غيبة. وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " مطل الغني ظلم ". وقال : " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ".
وكذلك الاستفتاء فإنه ليس بغيبة، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي فآخذ من غير علمه ؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم فخذي ".
قوله :﴿ واتقوا الله إن الله تواب رحيم ﴾ أي خافوا الله وامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا مانهاكم عنه. وهو سبحانه يتوب على من تاب فيغفر الذنوب والخطايا لمن أناب إلى ربه مستغفرا. وهو رحيم بالمؤمنين التائبين فلا يعاقبهم بعد أن تابوا وأنابوا٣.
٢ المحجة: جادة الطريق. انظر مختار الصحاح ص ١٢٣..
٣ تفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٣٣٠- ٣٤٠ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣١٣- ٣١٧..
قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس، وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من الذاكر فلانة ؟ " فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله. فقال : " انظر في وجوه القوم " فنظر، فقال : " ما رأيت يا ثابت ؟ " فقال : رأيت أبيض وأحمر وأسود. قال : " فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى " فأنزل الله تعالى الآية.
وقيل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أذّن على ظهر الكعبة. فقال عتّاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ؟ وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء. فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا فدعاهم وسألهم عما قالوا، فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء١.
والمعنى المراد. أن الناس جميعا أصلهم واحد، فأبوهم آدم وأمهم حواء فلا يفضل أحد الناس غيره إلا بالتقوى. وإنما المدار في كل الأحوال والأزمان والأعراف على التقوى دون غيرها من قياسات البشر وأهوائهم واعتبارتهم. وفي هذا روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال : " يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان : رجل برّ تقيّ كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب ". قال الله :﴿ ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ والشعوب جمع شعب وهو ما تشعب من قبائل العرب والعجم. وهو أيضا القبيلة العظيمة. وقيل : أكبرها الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ٢.
لقد جعل الله الناس هكذا ليتعارفوا أو ليعرف بعضهم بعضا في النسب والقرابة فيتسمى كل واحد باسمه ونسبه ويرد إلى قبيلته أو شعبه أو فصيلته فيقال : فلان ابن فلان من كذا أو كذا، أي من قبيلة كذا و كذا. فما ينبغي أن يكون ثمة فوضى في الذراري والقربات والأنساب بل يرجع كل واحد إلى من ينتسب إليهم من الآباء والقبائل والعائلات دون لبس أو خلط أو تدليس أو فوضى. وذلكم هو الوضع الحقيقي السليم للبشر ومن بعد ذلك إنما تكون المقادير والاعتبارات والقياسات تبعا للتقوى. وهو قوله سبحانه :﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ فخير الناس وأفضلهم وأقربهم إلى الله أكثرهم تقوى. والمراد بالتقوى : الخوف من الله ثم التزام أوامره واجتناب نواهيه. وهذه حقيقة تتجلى كثيرا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث. منها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال : " أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى. ألا هل بلّغت ؟ " قالوا : نعم. قال : " ليبلغ الشاهد الغائب " وروى مسلم عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر ( رضي الله عنه ) قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله ".
وروى البزار في مستنده عن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهينّ قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ".
قوله :﴿ إن الله عليم خبير ﴾ الله عليم بأحوال العباد وأخبارهم وما تكنه صدورهم من الخوافي وما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال وهو سبحانه لا تخفى عليه البواطن والظواهر٣.
٢ مختار الصحاح ص ٣٣٨..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣١٧ وتفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٣٤٠- ٣٤٨..
نزلت في أعراب من نبي أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر وأفسدوا طرق المدينة بالغدرات وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ١ ﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ يعني دخلنا في الملة لحفظ الأنفس والأموال بالشهادة. أو دخلنا في السلم وتركنا المحاربة والقتال وذلك بقبولهم : لا إله إلا الله. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " فهؤلاء الأعراب قد دخلوا في الإسلام وزعموا أنهم آمنوا ولم يتمكن الإيمان واليقين في قلوبهم ولم تترسخ العقيدة في أعماقهم.
ويستفاد من ذلك أن الإيمان أخص من الإسلام وهو الذي عليه أهل السنة. وفي الحديث الذي رواه أنس ما يؤيد ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام علانية والإيمان في القلب ".
قوله :﴿ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ﴾ إن أطعتم الله فيما أمر وانتهيتم عما نهى عنه وزجر واتبعتم رسوله وأطعتموه في أوامره ونواهيه فإنه سبحانه يجزيكم ثوابكم كاملا ولا ينقصكم منه شيئا.
قوله :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ الله جل جلاله، يعفو عن المذنبين التائبين من عباده. وهو رحيم بهم فلا يعاقبهم بعد متابهم من الذنوب.