تفسير سورة الممتحنة١
وهي مدنية بإجماع من المفسرين.
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الممتحنةوهي مدنية بإجماع المفسرين.
قوله عز وجل:
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١)العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن رسول الله ﷺ أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فورى عن ذلك بخيبر، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله ﷺ إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عليا والزبير وثالثا هو المقداد، وقيل أبو مرثد، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب.
قالت: ما معي كتاب، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئا، فقال بعضهم: ما معها كتاب، فقال علي: ما كذب رسول الله ﷺ ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. قالت: أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها، وقيل: أخرجته من حجزتها، فجاؤوا به رسول الله ﷺ فقال لحاطب: من كتب هذا؟ فقال: أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فو الله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله ﷺ صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر.
فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ولا تقولوا لحاطب إلا خير»، فنزلت الآية بهذا السبب، وروي أن حاطبا كتب أن رسول الله ﷺ يريد غزوكم في مثل الليل، والسيل، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير، وتُلْقُونَ في موضع الصفة ل أَوْلِياءَ، وألقيت يتعدى
وقوله تعالى: يُخْرِجُونَ في موضع الحال من الضمير في كَفَرُوا والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم، وهي حال موصوفة، فلذلك ساق الفعل مستقبلا والإخراج قد مر، وتضييق الكفار على النبي ﷺ والمؤمنين إخراج إذ كان مؤديا إلى الخروج، وقوله تعالى: أَنْ تُؤْمِنُوا مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: «إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» وجِهاداً نصب على المصدر وكذلك ابْتِغاءَ، ويجوز أن يكون ذلك مفعولا من أجله، و «المرضاة» مصدر كالرضى، وتُسِرُّونَ بدل من تُلْقُونَ
، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء، كأنه قال أنتم تُسِرُّونَ، ويصح أن تكون فعلا مرسلا ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء، فيترجح بهذا أن تُسِرُّونَ فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم، وقوله تعالى: أَعْلَمُ يحتمل أن يكون أفعل، ويحتمل أن يكون فعلا لأنك تقول علمت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى: وَأَنَا أَعْلَمُ الآية، جملة في موضع الحال، وقرأ أهل المدينة «وأنا» بإشباع الألف في الإدراج، وقرأ غيرهم «وأنا» بطرح الألف في الإدراج، والضمير في يَفْعَلْهُ عائد على الاتخاذ المذكور، ويجوز أن تكون سَواءَ مفعولا ب ضَلَّ وذلك على بعد، وذلك على تعدي ضَلَّ، ويجوز أن يكون ظرفا على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه.
قوله عز وجل:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٢ الى ٤]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
أخبر الله تعالى أن مداراة هؤلاء الكفار غير نافعة في الدنيا وأنها ضارة في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم فقال تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم، ظهرت العداوة وانبسطت أيديهم بضرركم وقتلكم وألسنتهم بسبكم، وهذا هو السوء، وأشد من هذا كله أنهم إنما يقنعهم منكم أن تكفروا وهذا هو ودهم، ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة فالعامل في يَوْمَ قوله تَنْفَعَكُمْ، وقال بعض النحاة في كتاب الزهراوي، العامل فيه يَفْصِلُ وهو
قوله عز وجل:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٥ الى ٧]
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
قوله تعالى: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا الآية، حكاية عن إبراهيم ومن معه والمعنى: لا تغلبهم علينا، فتكون
لا تجعلنا مفتونين فعبر عن ذلك بالمصدر وهذا أرجح الأقوال لأنهم إنما دعوا لأنفسهم، وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار. أما أن مقصدهم إنما هو أن يندفع عنهم ظهور الكفار الذي يسببه فتن الكفار فجاء في المعنى تحليق بليغ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس الميت سعد- ليهود- لأنهم يقولون لو كان محمد نبيا لم يمت صاحبه»، وقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ الآية خطاب لأمة محمد ﷺ وقوله: لِمَنْ بدل من قوله لَكُمْ وكرر حرف الجر ليتحقق البدل وذلك عرف هذه المبدلات، ومنه قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ [الحشر: ٨] وهو في القرآن كثير وأكثر ما يلزم من الحروف في اللام، ثم أعلم تعالى باستغنائه عن العباد وأنه الْحَمِيدُ في ذاته وأفعاله لا ينقص ذلك كفر كافر ولا نفاق منافق.
وروي أن هذه الآيات لما نزلت وأزمع المؤمنون امتثال أمرها وصرم حبال الكفرة وإظهار عداوتهم لحقهم تأسف على قراباتهم وهم من أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا حتى يكون بينهم الود والتواصل فنزلت: عَسَى اللَّهُ الآية مؤنسة في ذلك ومرجية أن يقع موقع ذلك بإسلامهم في الفتح وصار الجميع إخوانا، ومن ذكر أن هذه المودة تزويج النبي ﷺ أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأنها كانت بعد الفتح، فقد أخطأ لأن النبي ﷺ تزوجها وقت هجرة الحبشة، وهذه الآيات نزلت سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالا وإن كان متقدما لهذه الآية، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات، وعَسَى من الله واجبة الوقوع إن شاء الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ١١]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا من هم. فقال مجاهد: هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة وقال آخرون: أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها. وقال الحسن وأبو صالح: أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب، وقبائل من العرب كفار إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي ﷺ محبين فيه وفي ظهوره، ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناة ومزينة، وقال قوم: أراد من كفار قريش من لم يقاتل: ولا أخرج ولا أظهر سوءا، وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال، وقال عبد الله بن الزبير: أراد النساء والصبيان من الكفرة، وقال إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي ﷺ في برها وصلتها فأذن
العدل، وظاهَرُوا معناه: عاونوا، و «الذين قاتلوا في الدين وأخرجوا» هم مردة قريش وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الآية نزلت إثر صلح الحديبية، وذلك أن الصلح تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلما من رجل وامرأة فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم أن المهاجرة لا ترد إلى الكفار بل تبقى تستبرئ وتتزوج ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وأمر أيضا المؤمنين بطلب صداق من فرت امرأته من المؤمنين، وحكم تعالى بهذا في النازلة وسماهم مؤمنات قبل أن يتيقن ذلك إذ هو ظاهر أمرهن، ومُهاجِراتٍ نصب على الحال، فَامْتَحِنُوهُنَّ معناه: جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن. واختلف الناس في هذا الامتحان كيف هو، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة: كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جرت ولا لسبب من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة. قال ابن عباس: الامتحان أن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلت ذلك لم ترد، فقال فريق منهم عائشة أم المؤمنين: الامتحان هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذا من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحان، وقيل: إن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة وفي كتاب الثعلبي أنها نزلت في سبيعة بنت الحارث، وقوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ إشارة إلى الاسترابة ببعضهن وحض على امتحانهن، وذكر تعالى العلة في أن لا يرد النساء إلى الكفار وهي امتناع الوطء وحرمته، وقرأ طلحة: «لا هن يحللن لهم».
قوله عز وجل:
وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا......
أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن، فقيل: الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها، ابتداء، وقيل: هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب، والعصم:
جمع عصمة: وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وكذلك العصمة في كل شيء، السبب الذي يعتصم به، ويعتمد عليه، وقرأ جمهور السبعة والناس: «تمسكوا» بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من
ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال: سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى:
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، إنه في الرجال والنساء، فقلت له: النحويون لا يرون هذا إلا في النساء، لأن كوافر: جمع كافرة، فقال وأيش يمنع من هذا أليس الناس يقولون: طائفة كافرة، وفرقة كافرة، فبهت، وقلت هذا تأييد، وأمر تعالى أن يسأل أيضا الكافرون أن يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار، وقرر الحكم بذلك على الجميع، فروي عن ابن شهاب أن قريشا قالت: نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: وَإِنْ فاتَكُمْ الآية، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق، قال ابن عباس في كتاب الثعلبي: خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين:
أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة، كانت تحت عمر بن الخطاب، وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم النبي ﷺ مهور نسائهم من الغنيمة. واختلف الناس في أي مال يدفع إليه الصداق، فقال محمد بن شهاب الزهري: يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم، وأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه، وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى: فَعاقَبْتُمْ وسنبين ذلك في تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى. وقال مجاهد وقتادة: يدفع إليه من غنائم المغازي، وقال هؤلاء التعقيب بالغزو والمغنم وتأولوا اللفظة بهذا المعنى، وقال الزهري أيضا: يدفع إليه من أي وجوه الفيء أمكن، والعاقبة في هذه الآية، ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم، وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة ويركب هذا عقبة. وقرأ ابن مسعود: «وإن فاتكم أحد من أزواجكم» ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر، ومنه قول الشاعر [الكميت] :
وحاردت النكد الجلاد ولم يكن | لعقبة قدر المستعيرين معقب |
«عاقبتم» وقرأ الأعرج ومجاهد والزهري وعكرمة وحميد: «عقّبتم» بالتشديد في القاف، وقرأ الأعرج أيضا وأبو حيوة والزهري أيضا: «عقبتم» بفتح القاف خفيفة، وقرأ النخعي والزهري أيضا: «عقبتم» بكسر القاف وكلها بمعنى: غنمتم، وروي عن مجاهد: «أعقبتم» بألف مقطوعة قبل العين، وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها، ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها، وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٢ الى ١٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال، وسماهم «المؤمنات» بحسب الظاهر من أمرهن، ورفض الاشتراك هو محض الإيمان، وقتل الأولاد وهو من خوف الفقر، وكانت العرب تفعل ذلك. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن: «يقتّلن» بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء المشددة، و «الإتيان بالبهتان»، قال أكثر المفسرين معناه أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس هو له واللفظ أعم من هذا التخصيص، فإن الفرية بالقول على أحد من الناس بعضيهة لمن هذا، وإن الكذب فيما ائتمن فيه من الحمل والحيض لفرية بهتان، وبعض أقوى من بعض وذلك أن بعض الناس قال بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ يراد به اللسان والفم في الكلام والقبلة ونحوه، «وبين الأرجل» يراد به الفروج وولد الإلحاق ونحوه، والمعروف الذي نهي عن العصيان فيه، قال أنس وابن عباس، وزيد بن أسلم: هو النوح، وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة، فرضها وندبها. ويروى أن جماعة نساء فيهن هند بنت عتبة بايعن رسول الله ﷺ فقرأ عليهن الآي، فلما قررهن على أن لا يشركن قالت هند: وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال؟ بمعنى أن هذا بين لزومه، فلما وقف على السرقة، قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا أدري أيحل لي ذلك، فقال أبو سفيان: ذلك لك حلال فيما مضى وبقي، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلي وولدك بالمعروف».
وقدر تكرر هذا المعنى في الحديث الآخر قولها إن أبا سفيان رجل مسيك فلما وقف على الزنا قالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ما تزني الحرة»، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء في أغلب الأمر، وفيما تعرف مثل هند وإلا فالبغايا قد كن أحرارا، فلما وقف على قتل الأولاد، قالت: نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وقف على العصيان بالمعروف، قالت: ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك، ويروى أن جماعة نساء بايعن النبي ﷺ فقلن: يا رسول الله نبايعك على كذا وكذا الآية، فلما فرغن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيما استطعتن وأطلقتن»، فقلن الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا.
وقوله تعالى: فَبايِعْهُنَّ امض معهن صفقة الإيمان بأن يعطين ذلك من أنفسهن ويعطين عليه الجنة، واختلفت هيئات مبايعة رسول الله ﷺ النساء بعد الإجماع على أنه لم تمس يده يد
قال القاضي أبو محمد: ولا سيما في المردة ككفار قريش إذ أعمالهم مغضبة ليست بمجرد ضلال بل فيها شرارات مقصودة، وفي الكلام في التشبيه الذي في قوله: كَما يَئِسَ يتبين الاحتياج إلى هذا الخلاف وذلك أن اليأس من الآخرة إما أن يكون بالتكذيب بها، وهذا هو يأس كفار مكة، قال معنى قوله:
كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ كما يئس الكافر من صاحب قبر لأنه إذا مات له حميم قال: هذا آخر العهد به لن يبعث أبدا، فمعنى الآية: أن اعتقاد أهل مكة في الآخرة كاعتقاد الكافر في البعث ولقاء موتاه، وهذا هو تأويل ابن عباس والحسن وقتادة في معنى قوله تعالى: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ، ومن قال إن القوم المشار إليهم هم اليهود، قال معنى قوله: يَئِسَ الْكُفَّارُ أي كما يئس الكافر من الرحمة إذا مات وكان صاحب قبر، وذلك أنه يروى أن الكافر إذا كان في قبره عرض عليه مقعده في الجنة أن لو كان مؤمنا ثم يعرض عليه مقعده من النار الذي يصير إليه فهو يائس من رحمة الله مع علمه بها ويقينه، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد في قوله: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فمعنى الآية: أن يأس اليهود من رحمة الله في الآخرة مع علمهم بها كيأس ذلك الكافر في قبره وذلك لأنهم قد رين على قلوبهم وحملهم الحسد على ترك الإيمان وغلب على ظنونهم أنهم معذبون، وهذه كانت صفة كثير من معاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ومِنَ في قوله مِنْ أَصْحابِ على القول الأول هي لابتداء الغاية، وفي القول الثاني هي لبيان الجنس والتبعيض يتوجهان فيها وبيان الجنس أظهر.
نجز تفسير سورة الممتحنة والحمد لله على ذلك.