تفسير سورة نوح

نظم الدرر
تفسير سورة سورة نوح من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة نوح عليه السلام١
مقصودها الدلالة على ٢تمام القدرة٣ على ما أنذر به آخر " سأل " من إهلاك المنذرين وتبديل خير منهم، ٤و من٥ القدرة على إيجاد يوم القيامة الذي طال إنذارهم به وهم عنه معرضون وبه مكذبون ٦وبه لاهون٧، وتسميتها بنوح عليه السلام أدل ما فيها على ذلك، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب ٨ تكذيبهم له٩ في ذلك مشهور ومقصوص في غير ما موضع ومذكور، وتقرير أمر البعث في قصته في هذه [ السورة-١٠ ] مقرر ومسطور ( بسم الله ) الذي له الكمال كله من الجلال والإكرام ( الرحمن ) الذي عم بما أفاضه من ظاهر الإنعام ( الرحيم ) الذي خص أولياءه بلزوم الطاعة [ في الابتداء-١١ ] وإتمام النعمة في الختام.
١ - الحادية والسبعون من سور القرآن الكريم، مكية، وهي (٢٨) آية..
٢ - سقط من ظ وم..
٣ - من ظ وم، وفي الأصل: القدم..
٤ - تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط..
٥ - تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط..
٦ - سقط ما بين الرقمين من ظ وم..
٧ -سقط ما بين الرقمين من ظ وم..
٨ - في ظ وم: تكذيبه..
٩ - في ظ وم: تكذيبه..
١٠ - زيد من ظ وم..
١١ - زيد من ظ وم..

ولما ختمت «سأل» بالإنذار للكفار، وكانوا عباد أوثان، بعذاب الدنيا والآخرة، أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا في تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام، وكان قومه عباد أوثان، وكانوا يستهزئون به وكانوا أشد تمرداً من قريش وأجلف وأقوى وأكثر، فلم ينفعهم شيء من ذلك عند نزول البلاء وبروك النقمة عليهم وإتيان العذاب إليهم، وابتدأها بالإنذار تخويفاً من عواقب التكذيب به، فقال مؤكداً لأجل إنكاهرم أن يكون الرسول بشراً أو لتنزيلهم منزلة المنكرين من حيث أقروا برسالته وطعنوا في رسالة غيره مع المساواة في البشرية:
423
﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة الباهرة البالغة ﴿أرسلنا نوحاً﴾ وهو أول رسول أتى بعد اختلاف أولاد آدم عليه السلام في دين أبيهم الأقوم ﴿إلى قومه﴾ أي الذين كانوا في غاية القوة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين.
ولما بان مضى المرسِل والرسول والمرسَل إليهم، وكان الإرسال متضمناً معنى القول، أخذ في تفسيره بياناً للمرسل به فقال: ﴿أن أنذر﴾ أي حذر تحذيراً بليغاً عظيماً ﴿قومك﴾ من الاستمرار على الكفر.
ولما كان المقصود «إعلامهم بذلك» في بعض الأوقات لأن الإنسان لا بد له من أوقات شغل بنفسه من نوم وأكل وغيره، أتى بالجار تخفيفاً عليه ورفقاً به عليه السلام فقال: ﴿من قبل أن يأتيهم﴾ أي على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة ﴿عذاب أليم *﴾.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر على قومه في قوله: ﴿فاصبر صبراً جميلاً﴾ [
424
المعارج: ٥] وجليل الإغضاء في قوله: ﴿فذرهم يخوضوا ويلعبوا﴾ [المعارج: ٤٢] أتبع ذلك بقصة نوح عليه السلام وتكرر دعائه قومه إلى الإيمان، وخص من خبره حاله في طول مدة التذكار والدعاء لأنه المقصود في الموضع تسلية لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليتأسى به في الصبر والرفق والدعاء كما قيل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير هذا الموضع ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم﴾ [الأحقاف: ٣٥] ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ [فاطر: ٨] فقد دام دعاء نوح عليه السلام مع قومه أدوم من مدتك، ومع ذلك فلم يزدهم إلا فراراً ﴿قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً﴾ [نوح: ٥- ٧] ثم مضت آي السورة على هذا المنهج من تجديد الإخبار بطول مكابدته عليه السلام وتكرير دعائه، فلم يزدهم ذلك إلا بعداً وتصميماً على كفرهم حتى أخذهم الله، وأجاب فيهم دعاء نبيه نوح عليه السلام
﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً﴾ [نوح: ٢٦] وذلك ليأسه من فلاحهم، وانجر في هذا حض نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصبر
425
على قومه والتحمل منهم كما صرح به في قوله تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩] وكما قيل له قبل ﴿فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت﴾ [القلم: ٤٨] ﴿وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك﴾ [هود: ١٢٠] انتهى.
ولما أخبر عن رسالته ومضمونها بما أعلم من أن الفساد كان غالباً عليهم، استأنف قوله بياناً لامتثاله: ﴿قال﴾ أي نوح عليه السلام: ﴿يا قوم﴾ فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم.
ولما كان من طبع البشر إنكار ما لم يعلم إلا من عصم الله فجعله منقاداً للإيمان بالغيب، أكد قوله: ﴿إني لكم نذير﴾ أي مبالغ في النذارة ﴿مبين *﴾ أي أمري بين في نفسه بحيث أنه صار من شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه، مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي.
ولما كان ترك ما أنذرهم بسببه من الكفر لا يغنيهم إلا أن آمنوا، وكان الإيمان مخلصاً عن عواقب الإنذار لأنه لا يصح إلا مع ترك جميع أنواع الكفر، فسر الإنذار بقوله: ﴿أن اعبدوا الله﴾ أي الملك
426
الأعظم الذي له جميع الكمال، وذلك بأن تخلصوا التوجه إليه فإن غناه يمنع من أن يقبل عبادة فيه شرك وهذا هو الإيمان ﴿واتقوه﴾ أي اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه، فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء.
ولما كان لا سبيل إلى معرفة ما يرضي الملك ليلزم وما يسخطه ليترك إلا منه، ولا وصول إلى ذلك إلا من خاصته، ولا خاصة مثل رسوله الذي ائتمنه على سره قال: ﴿وأطيعون *﴾ أي لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم، واجتناب شبهة ترديكم، ففي طاعتي، فلا حكم يرضي الملك عنكم، وهذا هو الإسلام، فقد جمع هذا الدعاء الإيمان والإسلام والعمل، وهي الأثافي التي تدور عليها أسباب الفلاح.
ولما كان الإنسان محل النقصان، فلا ينفك عن ذنب فلا ينفعه إلا فناء الكرم، أشار إلى ذلك مرغباً مستعطفاً لهم لئلا ييأسوا فيهلكوا بقوله جواباً للأمر: ﴿يغفر لكم﴾ أي كرماً منه وإحساناً ولطفاً.
ولما كان من الذنوب ما لا يتحتم غفرانه وهو ما بعد الإسلام
427
قال: ﴿من ذنوبكم﴾ أي ما تقدم الإيمان من الشرك والعصيان وما تأخر عن الإيمان من الصغائر التي تفضل الله بالوعد بتكفيرها باجتناب الكبائر - هذا مما أوجبه سبحانه على نفسه المقدس بالوعد الذي لا يبدل، وأما غيره مما عدا الشرك فإلى مشيئته سبحانه.
ولما كان الإنسان، لما يغلب عليه من النسيان، والاشتغال بالآمال، يعرض عن الموت إعراض الشاك فيه بل المكذب به ذكرهم ترهيباً لهم لطفاً بهم ليستحضروا أنهم في القبضة فينزعوا مما يغضبه سبحانه، فقال مشيراً إلى أن طول العمر في المعصية - وإن كان مع رغد العيش - عدم، مهدداً بأنه قادر على الإهلاك في كل حين: ﴿ويؤخركم﴾ أي تأخيراً ينفعكم، واعلم أن الأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص، ليعلم أن الإرسال إنما هو مظهر لما في الكيان ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة أو العصيان فقال: ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي قد سماه الله وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، فيكون موتكم على العادة متفرقاً وإلا أخذكم جميعاً بعذاب الاستئصال، فهذا من علم ما لا يكون لو كان كيف يكون،
428
وذلك أنه علم أنهم إن أطاعوا نوحاً عليه السلام كان موتهم على العادة وإلا هلكوا هلاك نفسه واحدة، وعلم أنهم لا يطيعونه، وأن موتهم إنما يكون بعذاب الاستئصال.
ولما كان الإنسان مجبولاً على الأطماع الفارغة، فكان ربما قال للتعنت أو غيره: لم لا يخلدنا؟ قال فطماً عن ذلك مؤكداً لاقتضاء المقام له: ﴿إن أجل الله﴾ أي الذي له الكمال كله فلا راد لأمره ﴿إذا جاء لا يؤخر﴾ وأما قبل مجيئه فربما يقع الدعاء والطاعات والبر في البركة فيه يمنع الشواغل وإطابة الحياة، فبادروا مجيء الأجل بالإيمان لأنه إذا جاء لم يمكنكم التدارك، ولا ينفعكم بعد العيان الإيمان.
ولما كان من يعلم هذا يقيناً، ويعلم أنه إذا كشف له عند الغرغرة أحب أن يؤخر ليتوب حين لا تأخير، أحسن العمل خوفاً من فوات وقته وتحتم مقته، نبه على ذلك بقوله: ﴿لو كنتم تعلمون *﴾ أي لو كان العلم أو تجدده وقتاً ما في غرائزكم لعلمتم تنبيه رسولكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله يفعل ما يشاء، وأن الأجل آت لا محالة فعملتم للنجاة، ولكنكم تعملون في الانهماك في الشهوات عمل الشاك في الموت.
429
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطول الأنبياء عمراً، وكان
429
قد طال نصحه لهم وبلاؤه بهم، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: ﴿قال﴾ منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره، وأسقط أداة النداء كما هي عادة أهل القرب فقال: ﴿رب﴾ ولما كانت العادة جارية بأن التكرار لا بد أن يؤثر ولو قليلاً، فكانت مخالفتهم لذلك مما هو أهل لأن يشك فيه، قال مؤكداً إظهاراً لتحسره وحرقته عليه الصلاة والسلام منهم في تماديهم في إصرارهم على على التكذيب شكاية لحاله إلى الله تعالى واستنصاراً به واستمطاراً للتنبيه على ما يفعل به بذله الجهد وتنبيهاً لمن يقص به عليهم هذا وإن كان المخاطب سبحانه عالماً بالسر وأخفى: ﴿إني دعوت﴾ أي أوقعت الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ﴿قومي﴾ أي الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم من وفيهم قوة المحاولة لما يريدون.
ولما كان قد عم جميع الأوقات بالدعاء قال: ﴿ليلاً ونهاراً *﴾ فعبر بهذا عن المداومة.
ولما تسبب عن ذلك ضد المراد قال: ﴿فلم يزدهم دعاءي﴾ أي شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها ﴿إلا فراراً *﴾ أي بعداً عنك ونفوراً وبغضاً وإعراضاً حتى كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأسند
430
الزيادة إلى الدعاء لأنه سببها.
ولما كان الفرار مجازاً عن رد كلامه، عطف عليه ما يبينه، فقال مؤكداً لأن إعراضهم مع هذا الدعاء الطويل مما لا يكاد يصدق: ﴿وإني كلما﴾ على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات ﴿دعوتهم﴾ أي إلى الإقبال عليك بالإيمان بك والإخلاص لك.
ولما كان إعراضهم عما ينفعهم أقبح، ذكر ما يتسبب عن الإجابة بالإيمان فقال: ﴿لتغفر لهم﴾ أي ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحدود محواً بالغاً فلا يبقى لشيء من ذلك عيناً ولا أثراً حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم ﴿جعلوا﴾ أي في كل دعاء، ودل على مبالغتهم في التصامم بالتعبير بالكل عن البعض فقال: ﴿أصابعهم﴾ كراهة له واحتقاراً للداعي ﴿في آذانهم﴾ حقيقة لئلا يسمعون الدعاء إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا، ودلوا على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: ﴿واستغشوا ثيابهم﴾ أي أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم إيجاد من هو طالب لذلك شديد الرغبة فيه حتى يجمعوا بين ما يمنع السماع
431
لكلامه والنظر إليه إظهاراً لكراهته وكراهة كلامه، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً ﴿وأصروا﴾ أي داموا على سوء أعمالهم دواماً هم في غاية الإقبال عليه، من أصر الحمار على العانة - إذا صر أذنيه وأقبل عليها يطردها ويكدمها، استعير للإقبال على المعاصي وملازمتها لأنه يكون بغاية الرغبة كأن فاعله حمار وحش قد ثارت شهوته ﴿واستكبروا﴾ أي أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه، وأكد ذلك بقوله: ﴿استكباراً *﴾ تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، فكان مما ينبغي أن لا يفعلوه فهو مما لا يكاد يصدق لذلك، وقد نادت هذه الآيات بالتصريح في غير موضع بأنهم عصوا نوحاً عليه الصلاة والسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار، وباطناً بالإصرار والاستكبار ولم يوافقوه بقول ولا فعل، فلعنة الله عليهم وعلى من يقول: إنهم وافقوه بالفعل، لأنه دعاهم للمغفرة وقد غطوا وجوههم، والتغطية هي الغفر
432
ونحو ذلك من الخرافات التي لو سمعها أسخف عباد الحجارة الذين لا أسخف منهم لهزؤوا بقائلها، وما قال هذا القائل ذلك إلا تحريفاً لكتاب الله بنحو تحريف الباطنية الذين أجمعت الأمة على تكفيرهم لذلك التحريف، ولعنة الله على من يشك في كفر من يحرف هذا التحريف أو يتوقف في لعنه، وهم الاتحادية الذين مرقوا من الدين في آخر الزمان، ومن أكابرهم الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وتبعهم على مثل الهذيان أسخف الناس عقولاً
﴿إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً﴾ [الفرقان: ٤٤] ولقد أخبرني الإمام العلامة برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف القدسي الشافعي الثبت النحرير عن بعض من يتعصب لهم في هذا الزمان، وهو من أعيان المدرسين بالقاهرة، أنه قال له: ما حملني على انتقادي لابن الفارض إلا أني رأيت كلام التائية له متناقضاً، فتارة يفهم منها الحلول وتارة الاتحاد، وهو عندي يحاشى عن ذلك، فعلمت أن لهؤلاء القوم اصطلاحاً نسبتنا منه نسبة التباين إذا سمعوا النحوي يقول: الفاعل مرفوع، فإنهم يضحكون منه، ولو فهمنا اصطلاحهم لم نعترض - هذا معنى ما نقل عنه وهو ما لا يرضاه ذو مسكة، وهو شبيه بما نقل المسعودي في أوائل مروج الذهب عن بعض من اتهم بعقل وعلم من النصارى في زمن أحمد بن
433
طولون، فاختبره فوجده في العلم كما وصف، فسأله عن سبب ثباته على النصرانية مع علمه فقال: السبب تناقضها مع أنه دان بها ملوك متكبرون وعلماء متبحرون ورهبان عن الدنيا معرضون ومدبرون، فعلمت أنه ما جمع هؤلاء الأصناف على الدينونة بها مع تناقضها إلا أمر عظيم اضطرهم لذلك، فدنت بها، فقال له: اذهب في لعنة الله فلقد ضيعت كل عقل وصفت، ولقد والله صدق في الأمر العظيم الذي حملهم على ذلك، وهو القضاء والقدرة الذي حمل كل أحد منهم على إلقاء نفسه في نار جهنم باختياره بل برغبته في ذلك ومقاتلة من يصده عن ذلك، وذلك أدل دليل على تمام علم الله وقدرته وأنه واحد لا شريك له ولا معقب لحكمه، وفي هذا تصديق قوله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع» وهم أهل الكتاب، وقد أشبعت القول في هذا في كتابي «القارض في تكفير ابن الفارض» الذي بينت فيه عوارهم، وأظهرت عارهم، وكذا كتابي «صواب الجواب للسائل المرتاب» و «تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض» ولم أبق على شيء من ذلك
434
شيئاً من لبس - ولله الحمد.
435
ولما ذكر دعاءه في جميع الأوقات مع إعراضهم، وكان هذا مؤيساً وموجباً للإقلاع عن الدعاء، وإن وجد الدعاء بعده في غاية البعد منه على إيجاده مع الاستغراق به لجميع الحالات كما استغرق جميع الأوقات، فعبر بأداة التراخي للدلالة على تباعد الأحوال فقال: ﴿ثم﴾ وأكد لنحو ما مضى من أن تجرد إقبالهم على دعائهم بعد ذلك لا يكاد يصدق فضلاً عن الإكثار منه فقال: ﴿إني دعوتهم﴾ أي إلى الإيمان ومنابذة الشيطان.
ولما كان الجهر أحد نوعي الدعاء، نصبه به نصب المصدر فقال: ﴿جهاراً *﴾ أي مكاشفة في فخامة الصوت والتعميم لجماعتهم جليلهم وحقيرهم والإخلاص في ذلك والمداومة له حتى كاد بصري يكل من شدة التحديث إليهم والإقبال عليهم من غير احتجاب عنهم ولا ارتقاب منهم بل مباغتة، وكررت ذلك عليهم حتى أخرجت ما عندهم من الجواب، ولم أكف عند سد آذانهم واستغشائهم ثيابهم.
ولما كان الجهر قد لا يشيع ولا ينشر في جماعاتهم، قال مشيراً إلى أنه أذاع ذلك، وأكد للإشارة إلى ما فيه من الشدة فقال: ﴿ثم إني أعلنت﴾ أي أظهرت وأشعت وشهرت ليعلموا أنه الحق
435
من ربهم لكوني لست مستحيياً منه ولا مستهجناً له ﴿لهم﴾ أي خصصتهم بذلك، لم يكن فيه حظ نفس بوجه فإني كررت ذلك عليهم بعد أن سقط الوجوب عني، ولما قدم الجهر لأنه أقرب إلى عدم الاتهام، وكان السر أجدر بمعرفة الضمائر وأقرب إلى الاستمالة، أتبعه به فقال: ﴿وأسررت لهم﴾ أي دعوت كل واحد منهم على انفراده ليكون أدعى له وأجدر بقبوله النصيحة، وأدل على الإخلاص، وكل ذلك ما فعلته إلا لأجل نصيحتهم، لا حظ لي أنا في ذلك، ولما كان تحين الإنسان ليكون وحده ليس عنده أحد ولا هو مشتغل بصارف مما يعسر جداً فلا يكاد يصدق أكده فقال: ﴿إسراراً *﴾ وليدل بتأكيده على تأكيد ما قبله من الأفعال، والظاهر من حاله ومن هذا الترتيب مما صرح به من الاجتهاد أنه سار فيه على مقتضى الحكمة، فدعا أولاً أقرب الناس إليه وأشدهم به إلفاً، ثم انتقل إلى من بعدهم حتى عمهم الدعاء، وكانت هذه الدعوة سراً كل واحد منهم على حدته ليعلموا نصحه ولا يحمل أحد منهم ذلك على تبكيت ولا تقريع، جهر ليعلموا أنه ملجأ من الله
436
إلى ذلك، وأنها عزمة إن قصروا فيها عن الأجابة عوقبوا، فلما أصروا جمع بين السر والعلن، فلما تمادوا وطال الأذى شكى، وعلى هذا فثم لبعد الرتب لا للترتيب في الزمان، ويمكن كونها للترتيب لأن الجهر أبعد عن الاتهام ثم الإعلان بعده أزيد بعداً.
ولما أخبر بأنه بالغ في الدعوة إلى حد لا مزيد عليه، فلم يدع من الأوقات ولا من الأحوال شيئاً، سبب عنه بيان ما قال في دعوته وهو التسبب في السعادة كلها بدفع المضار وجلب المسار، فقال مقدماً لطلب الغفران بالتوبة عن الكفر ليظهروا فيكونوا قابلين للتحلية بالمحاسن الدينية بعد التخلية عن الأخلاق الدنية: ﴿فقلت﴾ أي في دعائي لهم: ﴿استغفروا ربكم﴾ أي اطلبوا من المحسن إليكم، المبدع لكم، المدبر لأموركم، أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها، بالرجوع عن عبادة غيره إلى الإخلاص في عبادته.
ولما ذكر أنه استعطفهم أولاً ببيان أن رجوعهم ممكن، لئلا يقولوا: إنا قد بالغنا في المعاصي فلا نقبل، وأعلمهم أن الاستغفار باب الدخول إلى طاعة الجبار، أكد ذلك الاستعطاف بقوله معللاً للأمر ولجوابه بنحو: يغفر لكم، مؤكداً لأجل توقفهم: ﴿إنه كان﴾ أي أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً ﴿غفاراً *﴾ أي متصفاً بصفة
437
الستر على من رجع إليه على أبلغ الوجوه وأعلاها، وإذا وقع الغفران دفع المضار كلها.
ولما قرر أمر التوبة وبين قبولها وقدمه اهتماماً به لأنه أصل ما يبتنى عليه، ولأن التخلي قبل التحلي، ودرء المفاسد قبل جلب المصالح والفوائد، رغب فيها بما يكون عنها من الزيادة في الإحسان على أصل القبول، وينشأ عن الاستغفار من الآثار الكبار من الأفضال بجلب المسار بما هو مثال للجنة التي كان سبب الإخراج منها النسيان لأنهم أحب شيء في الأرباح الحاضرة والفوائد العاجلة لا سيما بما يبهج النفوس ويشرح الصدور لإذهابه البؤس، فقال مجيباً لفعل الأمر: ﴿يرسل السماء﴾ أي المظلة الخضراء أو السحاب أو المطر ﴿عليكم﴾ أي بالمطر وأنواع البركات ﴿مدراراً *﴾ أي حال كونها كثيرة الدورة متكررته، وهذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث ﴿ويمددكم﴾ أظهر لأن الموضع لإرادة المبالغة والبسط والسعة ﴿بأموال وبنين﴾ وذلك يفهم أن من اكثر الاستغفار حباه الله ما يسره، وحماه ما يضره ﴿ويجعل لكم﴾ أي في الدارين ﴿جنات﴾ أي بساتين عظيمة، وأعاد العامل للتأكيد والبسط لأن المقام له فقال: ﴿ويجعل لكم أنهاراً *﴾ يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك، فإن من
438
لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، روى أن عمر رضي الله عنه استسقى فلم يزد على الاستغفار فلما نزل قيل: يا أمير المؤمنين! ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية، وقال القشيري: من وقعت له إلى الله حاجة فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار، وقال: إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك، كلما ازداد نوح في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان.
ولما كان من رجا ملكاً عمل بما يرضيه. ومن خافة تجنب ما يسخطه، نبههم على ذلك بالإشارة إلى الجلال الموجب للتوقير والجمال بالإحسان إلى الخلق، مصرحاً لهم بالترغيب ملوحاً إلى الترهيب، فقال مستأنفاً في جواب من يقول منهم: هل بقي شيء من قولك؟ :﴿ما﴾ أي أيّ شيء يحصل ﴿لكم﴾ حال كونكم ﴿لا ترجون﴾ أي تكونون في وقت من الأوقات على حال تؤملون بها، وبين فاعل الوقار ومبدعه بتقديمه، فإنه لو أخره لكان ل «وقاراً» فقال: ﴿لله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله ﴿وقاراً *﴾ أي ثواباً يوقركم فيه ولو قل، فإن قليله أكثر من كثير غيره، ولا تخافون له إهانة بالعقاب بأن تعلموا أنه لا بد من أن يحاسبكم بعد البعث فيثيب الطائع ويعاقب العاصي،
439
كما هي عادة كل أحد مع من تحت يده، فتوقروا رسله بتصديقهم فتؤمنوا وتعملوا، فإن من أراد من أحد أنه يوقره وقره وعظمه ليجازيه على ذلك، فإن الجزاء من جنس العمل، وذلك إنما يكون بمعرفة الله بما له من الجلال والجمال، والخلق إنما تفاضلوا بالمعرفة بالله، لا بالأعمال، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه الناس بشيء وقر في صدره، فإن بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً، ولا تنازع له اختياراً، وتعظم أمره ونهيه، بعدم المعارضة بترخيص جاف أو تشديد غال أو حمل على توهم الانقياد، وتعظم حكمه بأن لا تبغي له عوجاً ولا تدافعه بعلم، ولا ينبغي له غرض وعلة، ولأجل أن المطلوب تحصيل الأعمال التي هي أسباب ظاهرية، عبر بالرجاء ليسرهم بأن أعمالهم مؤثرة، وعبر بالطمع في غير هذه الآية تنبيهاً على أنه لا سبب في الحقيقة إلا رحمة الله لحال دعاء إلى ذلك.
440
ولما كان هذا إشارة إلى الاستدلال على البعث بما يعلمونه من أنفسهم صرح بعد ما لوح، فقال آتياً بحرف التوقع لأنه مقامه: ﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد أحسن إليكم مرة بعد مرة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته، ثم لم يقطع إحسانه عنكم فاستحق أن تؤمنوا
440
به لأنه ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ [الرحمن: ٦٠] ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه ﴿خلقكم﴾ أي أوجدكم من العدم مقدرين ﴿أطواراً *﴾ أي تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوان ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً طوالاً وقصاراً بيضاً وسوداً وبين ذلك - إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا الابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة، وقد ثبتت حكمته وأنه لم يخلق الخلق الخلق سدى بما بان من هذا التطوير على هذه الهيئات العجيبة التي لا قدرة لغيره عليها بوجه، وهم يتهارجون في هذه الدار تهارج الحمر، ويموت المظلوم على حاله، والظالم يبلغ آماله، فلا بد أن يعيدهم ليفصل بينهم فيظهر حكمته وعدله وإكرامه وفضله، ولو ترك ذلك لكان نقصاً في ملكه، ومن قدر على ذلك كان قادراً على الجزاء بالثواب والعقاب، فهو أهل لأن يخشى ويرجى.
ولما كان هذا واضحاً ولكنهم قوم لد، لا يردهم إلا الشمس المنيرة في وقت الظهيرة، ذكرهم - بعد التذكير بما في أنفسهم - بما هو أكبر من ذلك من آيات الآفاق وقسمها إلى علوي وسفلي، وبدأ
441
بالأنفس لأنها مع شرفها أقرب منظور إليه لهم، وثنى بالعلوي لأنه يليها في الشرف ووضوح الآيات، فقال: دالاًّ على القدرة على البعث والجزاء بالثواب والعقاب: ﴿ألم تروا﴾ أي أيها القوم.
ولما كان تأمل الكيفيات يحتاج إلى دقة وتوقف على عجائب ولطائف تؤذن قطعاً بأن فاعلها لا يعجزه شيء، وقال منكراً عليهم عدم التأمل: ﴿كيف خلق الله﴾ أي الذي له العلم التام والقدرة البالغة والعظمة الكاملة ﴿سبع سماوات﴾ هي في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة، يعرف كونها سبعاً بما فيها من الزينة.
ولما كانت المطابقة بين المتقابلات في غاية الصعوبة لا يكاد يقدر عليها من جميع الوجوه أحد، قال: ﴿طباقاً *﴾ أي متطابقة بعضها فوق بعض وكل واحدة في التي تليها محيطة بها «ما لها من فروج» لا يكون تمام المطابقة إلا كذلك بالإحاطة من كل جانب.
ولما كان المحيط لا يتوصل إلى داخله إلى محيط العلم والقدرة، قال دالاًّ على كمال قدرته وتصرفه معبراً بالجعل الذي يكون عن تصيير وتسبيب: ﴿وجعل القمر﴾ أي الذي ترونه وهو في السماء الدنيا، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر مرة وغيبته في ليالي السرار ثم ظهوره، وذلك أعجب في القدرة.
442
ولما كانت السماء شفافات قال: ﴿فيهن﴾ أي السماوات جميعهن ﴿نوراً﴾ أي لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض والثاني لأهل السماوات، ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال: ﴿وجعل﴾ معظماً لها بإعادة العامل ﴿الشمس﴾ أي في السماء الرابعة ﴿سراجاً *﴾ أي نوراً عظيماً كاشفاً لظلمه الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة، وروى ابن مردويه وعبد الرزاق والطبري عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم: «إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء، وأقفيتهما إلى الأرض» ؛ وروى الحاكم منه ذكر القمر وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المحسنين له في الجنة فإنه يرى كل أحد كلاًّ من مكانه مخلياً به، وكذلك يرونه سبحانه عياناً جهاراً كما رأوه في الدنيا بالإيمان نظراً واعتباراً، ولما دل على كمال علمه وتمام قدرته بخلق الإنسان ثم بخلق ما هو أكبر منه أعاد الدلالة بخلق الإنسان لأنه أعظم المحدثات وأدلها على الله سبحانه وتعالى على وجه آخر مبين لبعض ما أشار إليه الأول من التفصيل
443
مصرحاً بالبعث فقال مستعيراً الإنبات للإنشاء: ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله ﴿أنبتكم﴾ أي بخلق أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام ﴿من الأرض﴾ أي كما ينبت الزرع، وعبر بذلك تذكيراً لنا لما كان من خلق أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض، وأشار إلى أنه جعل غذءانا من الأرض التي خلقنا منها، وبذلك الغذاء نمونا.
ولما كان إنكارهم للبعث كأنه إنكار للابتداء أكده بالمصدر وأجراه على غير فعله بتجريده من الزيادة، إشارة إلى هوانه عليه سبحانه وتعالى وسهولته مع أنه إبداع وابتداء واختراع فقال: ﴿نباتاً *﴾ ومع ذلك فالآية صالحة للاحتباك: ذكر «أنبت» أولاً دال على حذف مصدره ثانياً، وذكر «النبات» ثانياً دال على حذف فعله أولاً، ليكون التقدير: أنبتكم إنباتاً فنبتم نباتاً.
ولما كان في الموت أيضاً دليل على تمام العلم والقدرة غير أنه ليس كدلالة الابتداء بالابتداع، وكان مسلماً ليس فيه نزاع، ذكره من غير تأكيد بالمصدر فقال دالاًّ على البعث والنشور: ﴿ثم يعيدكم﴾ على التدريج ﴿فيها﴾ أي الأرض بالموت والإقبار وإن طالت
444
الآجال ﴿ويخرجكم﴾ أي فيها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدة العناية به وتحتيم وقوعه لإنكارهم له فقل: ﴿إخراجاً *﴾ أي غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية، تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لأحدهما عن الآخر.
ولما كان النابت من الشيء لا يتصرف في ذلك الشيء، دل على كمال قدرته بخرق تلك العادة لهم على وجه الإنعام عليهم، فقال مظهراً للاسم الشريف مرة بعد أخرى تعظيماً للأدلة لئلا تقيد القدرة بما يقترن به الاسم دالاًّ بالعالم السفلي بعد الإرشاد بالعلوي وآخر السفلي لأن آياته على ظهورها خفيت بكثرة الإلف لها: ﴿والله﴾ أي المستجمع لجميع الجلال والإكرام ﴿جعل لكم﴾ أي نعمة عليكم اهتماماً بأمركم ﴿الأرض بساطاً *﴾ أي سهل عليكم التصرف فيها والتقلب عليها سهولة التصرف في البساط، ثم علل ذلك فقال: ﴿لتسلكوا﴾ أي منجدين ﴿منها﴾ أي الأرض مجددين لذلك ﴿سبلاً﴾ أي طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة ﴿فجاجاً *﴾ أي ذوات اتساع
445
لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع، فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.
ولما كانوا جادلوه عليه الصلاة والسلام بعد هذا البيان الذي لا يشك في دلالته على المراد من تحقق لصفاء الإيقان، فأكثروا الجدال ونسبوه إلى الضلال وعصوه أقبح العصيان وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال، طوى ذلك مشيراً إليه بقوله مستأنفاً: ﴿قال نوح﴾ أي بعد رفقه بهم ولينه لهم شاكياً منهم: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أموري.
ولما كان الضعفاء أكثر الناس بحيث إذا اجتمعوا دل الرؤوس الأقوياء بالأموال والأولاد وكانوا كأنهم الكل، فقال مؤكداً لأن عصيانهم له بعد ذلك مما يبعد وقوعه: ﴿إنهم﴾ أي قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ﴿عصوني﴾ أي فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشد شراد وخالفوني أقبح مخالفة ﴿واتبعوا﴾ أي بغاية جهدهم نظراً
446
إلى المظنون العاجل بعد ترك المحقق عاجلاً وآجلاً ﴿من﴾ أي من رؤسائهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله: ﴿لم يزده﴾ أي شيئاً من الأشياء.
ولما كان المال يكون للإنسان الولد، وكان ينبغي أن يشكر الله الذي آتاه إياه ليكون له خيراً في الدارين وكذا الولد قال: ﴿ماله﴾ أي بكثرته ﴿وولده﴾ كذلك، وهو الجنس في قراءة التحريك - وكذا في قراءة ابن كثير والبصريين وحمزة والكسائي بالضم والسكون على أنه لغة في المفرد كالحزن والحزن والرشد والرشد، أو يكون على هذه جمعاً كالأسد والأسد، ويكون اختيار أبي عمرو لهذه القراءة في هذا الحرف وحده للإشارة بجمع الكثرة المبني على الضمة التي هي أشد الحركات إلى أنهم - وإن زادت كثرتهم وعظمت قوتهم - لا يزيدونهم شيئاً ﴿إلا خساراً *﴾ بالبعد عن الله والعمى عن محجة الطريق، فإن البسط لهم في الدنيا بذلك كان سبباً لطغيانهم وبطرهم واتباعهم لأهوائهم حتى كفروا واستغووا غيرهم
447
فغلبوا عليهم فكانوا سبباً في شقائهم وخسارتهم بخسارتهم، وكان عندهم أنها زادتهم رفعة، وفي السياق دليل على أنهم ما حصلت لهم الوجاهة إلا بها.
448
ولما كانت كثرة الرؤساء قوة أخرى إلى قوتهم بمتاع الدنيا، وكان التقدير: فأمرتهم بالإيمان فأبوا وأمروهم بالكفر فانقادوا لهم، عطف عليه مبيناً لكثرتهم بضمير الجمع العائد على «من» عاطفاً على «لم يزده» المفردة الضمير للفظ جامعاً له للمعنى لتجمع العبارة الحكم على المفرد والجمع، فيكون أدل شيء على المراد منها فقال: ﴿ومكروا﴾ أي هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني - وأكد الفعل بالمصدر دلالة على قوته فقال: ﴿مكراً﴾ وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة فقال: ﴿كباراً *﴾ فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعني ﴿وقالوا﴾ أي لهم في أداني المكر الذي حصل منهم.
ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديراً بالقبول
448
لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح، أكدوا قولهم: ﴿لا تذرن آلهتكم﴾ أي لا تتركنها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحسباً فيها، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيداً: ﴿ولا تذرن﴾ ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير، فناسب المقام بذاتهم بقوله: ﴿وداً﴾ وأعادوا النافي تأكيداً فقالوا: ﴿ولا سواعاً *﴾ وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا: ﴿ولا يغوث﴾ ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع بقيد الجمع أعروا فقالوا: ﴿ويعوق ونسراً *﴾ معرى عن التأكيد للعلم بإرادته، وكان هؤلاء ناساً صالحين، فلما ماتوا حزن عليهم الناس ثم زين لهم إبليس تصويرهم تشويقاً إلى العمل بطرائقهم الحسنة فصوروهم، فلما تمادى الزمان زين لهم عبادتهم لتحصيل المنافع الدنيوية ببركاتهم ثم نسي القوم الصالحون، وجعلوا أصناماً آلهة من دون الله، وكانت عبادة هؤلاء أول عبادة الأوثان فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه الصلاة والسلام
449
للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه ما هو معلوم، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب، فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير لآل ذي الكلاع، وقيل غير ذلك - والله أعلم قال البغوي: سواع لهذيل ويغوث لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عن سبأ ويعوق لهمذان. قال أبو حيان: قال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد، يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل، فينزلون حوله ويضربون عليه بناء، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب وصول شر تلك الأوثان إلى العرب أنها دفنها الطوفان ثم أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات لثقيف، والعزى
450
لسليم وغطفان وجشيم، ومنات بديد لهذيل، وإساف ونايلة وهبل لأهل مكة، وكان إساف حيال الحجر الأسود، ونايلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة - انتهى، وقال الواقدي: ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر - انتهى.
ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم، فكأن وداً كان أكملهم في الرجولية، وكانت سواع امرأة كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعاً، ويعوق كان سباقاً قوياً، وكان نسر عظيماً طويل العمر - والله تعالى أعلم.
ولما ذكر مكرهم وما أظهروا من قولهم، عطف عليه ما توقع السامع من أمره فقال: ﴿وقد أضلوا﴾ أي الأصنام وعابدوها بهذه العبادة ﴿كثيراً﴾ من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ولما كان التقدير: فلا تزد الظالمين إلا خساراً، عطف عليه قوله مظهراً في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف:
451
﴿ولا تزد الظالمين﴾ أي الراسخين في الوصف الموجب لأن تكون آثار المتصف به كآثار الماشي في في الظلام في وقوعها مختلة، شيئاً من الأشياء التي هي فيهم ﴿إلا ضلالاً *﴾ أي طبعاً على عقولهم وقلوبهم حتى يعموا عن الحق وعن جميع مقاصدهم الفاسدة الضالة الراسخة في الضلال فلا يكون منها شيء على وجه يكون فيه شيء من سداد، وكان هذا بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، والكلام عليه على كل حال كالكلام على دعاء موسى هارون عليهما وعلى محمد أفضل الصلاة والسلام في الشد على قلوب فرعون وملئة لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه كما مضى في سورة يونس عليه السلام، وقد بالغ ابن عربي في المروق من الدين فقال في فصوصة: إن هذا الدعاء حسن في حقهم، وقال: إن الضلال أهدى من الهدى، وإن الضال أحسن حالاً من المهتدي، لأن الضال لا يزال قريباً من القطب المقصود دائراً حوله، والمهتدي صاحب طريقة مستطيلة، فهو يبعد عن المقصود، فأبان أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أسفه منه إلا من اتبعه عليه وعلى من ينحو نحوه من الضلال الذي لا يرضاه عاقل من عباد الأصنام الذين لا أسفه منهم ولا غيره، فعليهم أشد الخزي واللعنة.
452
ولما فرغ من أمرهم في ضلالهم، ودعا رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يبق إلا إهلاكهم. وكان من مفهومات الضلال المحق وإذهاب العين كما يضل الماء في اللبن، قال مبيناً، إجابته لدعائه ذاكراً الجهة التي أهلكوا بسببها: وأكد ب «ما» النافية في الصورة لضد مضمون الكلام لاعتقاد الكفار أن الإنجاء والإهلاك عادة الدهر: ﴿مما﴾.
ولما كان الكافر قد أخطأ ثلاث مرات: يكفره في الإيمان بالطاغوت، وتكذيب ربه، وتكذيب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ذلك كافياً في استحقاقه للأخذ قال: ﴿خطيئاتهم﴾ جامعاً له جمع السلامة - في قراءة الجماعة، وأفهمت قراءة أبي عمرو بجمع التكسير أن لهم مع هذه الأمهات الكافية في الأخذ من الذنوب ما يفوت الحصر يوجب تغليظ ذلك الأخذ، فهي مشيرة إلى أنه ينبغي الاحتراز من كل الذنب.
ولما كان الموجع إغراقهم لا كونه من معين، قال مخبراً عما فعل بهم في الدنيا: ﴿أغرقوا﴾ أي بالطوفان بانياً له للمفعول لذلك وللإعلام بأنه في غاية السهولة على الفاعل المختار الواحد القهار، فطاف الماء عليهم جميع الأرض السهل والجبل، فلم يبق منهم أحداً، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه من قوله: ﴿فأدخلوا﴾ أي بقهر القهار
453
في الآخرة التي أولها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً ﴿ناراً *﴾ أي عظيمة جداً أخفها ما يكون من مبادئها في البرزخ، قال الشيخ ولي الدين الملوي: فعذبوا في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالحرق، والإياس من الرحمة، وأيّ عذاب أشد من ذلك، وقال الضحاك: في حالة واحدة كانوا يغرقون في الماء من جانب ويحترقون في الماء من جانب آخر بقدرة الله سبحانه وتعالى، وفيها دلالة على قول غيره على عذاب القبر.
ولما كانوا قد استندوا إلى آلهتهم لتنصرهم من أخذ الله تعالى، قال مسبباً عن هذا الإغراق والإدخال من الرحمة ليكون ذلك أشد في العذاب، فإن الإنسان - كما قال الملوي: - إذا كان في العذاب ويرجو الخلاص يهون عليه الأمر بخلاف ما إذا يئس من الخلاص، معلماً بأن آلهتهم عاجزة فإنهم لم تغن عنهم شيئاً، توبيخاً لمن يعبد مثلها: ﴿فلم يجدوا﴾ وحقق الأمر فيهم بقوله: ﴿لهم﴾ أي عندما أناخ الله بهم سطوته وأحل بهم نقمته.
ولما كانت الرتب كلها دون رتبته تعالى، وكان ليس لأحد أن يستغرق جميع ما تحت رتبته سبحانه من المراتب، قال مثبتاً الجار:
454
﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعظم الذي تتضاءل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته ﴿أنصاراً *﴾ ينصرونهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما فعل بهم أو يقتصوا منه لهم بما شهد به شاهد الوجود الذي هو أعدل الشهود من أنه تم ما أراده سبحانه وتعالى من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ومن معه رضوان الله وسلامه عليهم أجمعين على ضعفهم وقلتهم لم يقعد منهم أحد لكونهم أولياءه، فكما لم يهلك ممن أراد إنجاءه أحد فكذلك لم يسلم منهم، فمن قال عن عوج ما يقوله القصاص فهو أيضاً ضال أشد ضلال، فلعنة الله على من يقول: إن الله تعالى كان غير ناصرهم، مع هذه الدلالات التي هي نص في أنه عدوهم، وأن نصرهم إنما يكون على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام، واعتقاد ذلك أو شيء منه كفر ظاهر لا محيد عنه بوجه، وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب
455
الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة المطهرة، ونظمه أياً ابن الفارض في تائيته التي سماها بنظم السلوك، فلعنة الله عليه وعلى من تبعه أو شك في كفره أو توقف في لعنه بعد ما نصب من الضلال الذي سعر به البلاد، وأردى كثيراً من العباد.
ولما أتم الخبر عن إغراقهم، وقدمه للاهتمام بتعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إجابة دعوته تحذيراً للعرب أن يخرجوا رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيخرجوه إلى مثل ذلك، عطف على قول نوح عليه السلام من أوله قوله عندما أخبره تعالى أنهم مغرقون وأنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن بعدما طال بلاؤه بهم حتى أن كان الرجل ليأتي بابنه إليه فيقول له: احذر هذا أن يضلك، وإن أبي حذر به، وكانت صيغة العموم ليست بنص في أفرادها أبداً، استنجازاً لوعده وتصريحاً بمراده: ﴿وقال نوح﴾ وأسقط الأداة كما هي عادة أهل الحضرة فقال: ﴿رب لا تذر﴾ أي تترك بوجه من الوجوه أصلاً ولو على أدنى الوجوه ﴿على الأرض﴾ أي كلها من مشرقها إلى مغربها وسهلها وجبلها ووهدها ﴿من الكافرين﴾
456
أي الراسخين في الكفر الذي هو كان لهم جبلة وطبعاً ﴿دياراً *﴾ أي أحداً يدور فيها، وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي العام فيقال من الدور أو الدار لا فعّال، وإلا لكان دواراً، ويجوز - وهو أقرب - أن يكون هذا الدعاء عند ركوبه السفينة وابتداء الإغراق فيهم، يريد به العموم كراهية أن يبقى أحد منهم على ذروة جبل أو نحوه، لا أصل الإغراق، وأن يكون معنى ما قبله الحكم بإغراقهم وتحتم القضاء به أو الشروع فيه.
ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما فيه مصلحة الدين، علل دعاءه بقوله وأكده إظهاراً لجزمه باعتقاد ما أنزل عليه من مضمون قوله تعالى: ﴿إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن﴾ [هود: ٣٦] وإن كان ذلك خارجاً عن العادة: ﴿إنك﴾ أي يا رب ﴿إن تذرهم﴾ أي تتركهم على أي حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض على ما هم عليه من الكفر والضلال والإضلال ولو كانت حالة دنية ﴿يضلوا عبادك﴾ أي الذين آمنوا بي والذين يولدون على الفطرة السليمة.
457
ولما كان ربما كان الإنسان ضاراً ووجد له ولد نافع؛ نفى ذلك بقوله: ﴿ولا يلدوا﴾ أي إن قدرت بقاءهم في الدنيا ﴿إلا فاجراً﴾ أي مارقاً من كل ما ينبغي الاعتصام به، واكتفى فيه بأصل الفاعل إشارة إلى أن من جاوز الحد أو شرع في شيء بعده من التمادي في الغي صار ذلك له ديدناً فبالغ، فلذلك قال: ﴿كفاراً *﴾ أي بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله لأن قولك يا رب لا يتخلف أصلاً، والظاهر أن هذا الكلام لا يقوله إلا عن وحي كما في سورة هود عليه السلام من قوله تعالى: ﴿إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن﴾ [هود: ٣٦] فيكون على هذا حتى صغارهم معذبين بما يعلم الله منهم لو بلغوا لا بما عملوه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أولاد الكفار «الله أعلم بما كانوا عاملين».
ولما دل هذا كله على أنه دعا على أعداء الله، دعا أيضاً لأوليائه وبدأ بنفسه لأنه رأس تلك الأمة، فقال مسقطاً على عادة أهل الخصوص: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني، فإن من كانت طبيعته طبعت على شيء لا تحول عنه.
ولما كان المقام الأعلى أجل من أن يقدره أحد حق قدره قال: ﴿اغفر لي﴾ أي فإنه لا يسعني وإن كنت معصوماً إلا حلمك وعفوك
458
ورحمتك. ولما أظهر بتواضعه عظمة الله سبحانه وتعالى رتب المدعو لهم على الأحق فالأحق فقال: ﴿ولوالديّ﴾ وكانا مؤمنين وهما لمك بن متوشلخ وشمخاء بنت أنوش، قال أبو حيان: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليهم الصلاة والسلام. وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال: ﴿ولمن دخل بيتي﴾ لأن المتحرم بالإنسان له حق أكيد لا سيما إن كان مخلصاً في حبه، ولذا قال: ﴿مؤمناً﴾ ولما خص عم وأعاد الجار أيضاً اهتماماً فقال: ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ أي العريقين في هذا الوصف في كل أمة إلى آخر الدهر ولا تزدهم في حال من الأحوال شيئاً من الأشياء إلا مفازاً.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه الاحتباك: ولا تكرم المارقين، عطف عليه قوله: ﴿ولا تزد الظالمين﴾ أي العريقين في الظلم في حال من الأحوال ﴿إلا تباراً *﴾ أي إلا هلاكاً مدمراً مفتتاً لصورهم قاطعاً لأعقابهم مخبراً لديارهم وكما استجاب الله سبحانه وتعالى له في أهل الإيمان والكفران من أهل ذلك الزمان فكذلك يستجيب له في أهل الإيمان وأهل الخسران بالسعادة والتبار في جميع الأعصار
459
إلى أن يقفوا بين يدي العزيز الجبار، والأية من الاحتباك: إثبات الدعاء المقتضي لأصل إكرام المؤمنين أولاً مرشد إلى حذف الدعاء المفهم لأصل إهانة الكافرين ثانياً، وإثبات الدعاء بزيادة التبار ثانياً مفهم لحذف الدعاء الموجب لزيادة المفاز أولاً، وهذا الآخر المفصح بالتبار هو ما أرشد إليه الابتداء بالإنذار، فقد انطبق الآخر على الأول على أصرح وجه وأكمل، وأحسن حال وأجمل منال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله تعالى على كل حال.
سورة الجن
وتسمى " قل أوحى "
مقصودها إظهار الشرف لهذا النبي الكريم الفاتح (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وعلى أنه وأصحابه وذريته، أهل بيته حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره، وذلك لعظمة هذا القرآ، ولطف ما له من غريب الشأن، هذا والزمان في آخره وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن نوح عليه السلام أول نبي بعثه الله تعالى إلى المخالفين وما آمن معه من قومه
460
إلا قليل، وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن ويقل أوحي، وبتأمل الآية المشتملة على ذلك وما فيها من لطيف المسالك، أعاذنا الله بمنه وكرمه من الوقوع في المهالك،) بسم الله) أي المحيط بالكمال أرسل رسوله الخاتم بالهدى ليظهره على الدين كله بما له من الجلال والجمال) الرحمن (الذي بعموم رحمته عم بهذا الإرسال ليعم بالبيان ما يلزم الخلق من المقال والفعال) الرحيم (الذي خص من بيتن أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال لما سبق لهم من الفوز في أزل الآزال.
461
Icon