تفسير سورة التكوير

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ الخ، الأرجح عند جمهور النحاة، أن الاسم المرفوع الواقع بعد ﴿ إِذَا ﴾ الشرطية، مرفوع بفعل محذوف يفسره المذكور، ويمنع أن يكون مرفوعاً بالابتداء، لأن أدوات الشرط لا يليها إلا الأفعال لفظاً أو تقديراً، وأجاز الأخفش والكوفيون ايلاءها الاسم، فيرفع الاسم مبتدأ، وما بعده خبره، و ﴿ وَإِذَا ﴾ في المواضع الاثنى عشر شرطية، جوابها قوله: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ﴾ ولا يجوز الوقف اختياراً قبل الجواب. قوله: (لففت) المناسب أن يقول لفت، والمعنى: لف بعضها ببعض، ورمي بها في البحر، ثم يرسل الله عليها ريحاً دبوراً فتضربها فتصير ناراً. قوله: (بنورها) أي ضوئها. قوله: ﴿ سُيِّرَتْ ﴾ أي في الهواء بعد تفتيتها. قوله: (فاصرت هباء) أي بعد صيرورتها كالصوف المندوف، فأولاً تتفتت ثم تصير كالصوف المندوف. قوله: ﴿ وَإِذَا ٱلْعِشَارُ ﴾ جمع عشراء، كالنفاس جمع نفساء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر إلى أن تضع، وخصها بالذكر لأنها أغلى ما يكون عند أهلها، وأنفس أموالهم، لما ورد" أنه صلى الله عليه وسلم مر في أصاحبه بعشار من النوق، فغض بصره فقيل له: هيه أنفس أموالنا، فلم لا تنتظر إليها، فقال: قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا ﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ الآية "وإذا كان هذا حالهم مع أنفس أموالهم، فحالهم مع غيره أولى، وإلى هذا يشير المفسر بقوله: (ولم يكن أعجب إليهم منها). قوله: (تركت بلا راع) أي مهملة، وقوله: (أو بلا حلب) بفتح اللام مصدر حلب يحلب بالضم، ويقال بالسكون من باب قتل. قوله: ﴿ وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ ﴾ أي دواب البر، وقوله: (جمعت) أي من ناحية. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أوقدت فصارت ناراً) هذا أحد أقوال ي تفسير التسجير، وقيل: سجرت ملئت من الماء، وقيل: اختلط عذبها بمالها حتى صارت بحراً واحداً، وقيل: يبست، ويمكن الجمع بين تلك الأقوال، فأولاً يفيض بعضها لبعض ثم تيبس ثم تقلب ناراً، ثم ما تقدم من الآيات الست، يجوز أن يكون مقدمة للنفخة الأولى، فالأحياء يشاهدون ذلك، لما روي عن أبي بن كعب قال: ست آيات من قبل يوم القيامة، بينما الناس في أسواقهم، ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم، فتحيروا ودهشوا، فبينما هم كذلك، إذا وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت واحترقت فصارت هباء منثوراً، ففزع الإنس إلى الجن، والجن إلى الإنس، واختلطت الدواب والوحوش والهوام والطير، وماج بعضها في بعض، فذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ ثم قالت الجن للإنس: نحن نأتيك بالخبر، فانطلقوا إلى البحار، فإذا نار تتأجج، فبينما هم كذلك، انصدقت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك، إذ جاءتهم ريح فأماتتهم، ويجوز أن يكون في النفخة الثانية، ويقال في تعطيل العشار، يحتمل أنه كناية عن شدة الهول، حتى لا يلتفت الشخص إلى أنفس أمواله، أو تبعث معطلة بلا راع، ولا يلتفت لها صاحبها، لأن البهائم تحشر للقصاص من بعضها البعض، وأما الست الباقية فتحصل بالنفخة الثانية اتفاقاً. قوله: (قرنت بأجسادها) أي ردت الأرواح إلى أجسادها، فالتزويج على هذا جعل الشيء زوجاً، النفوس بمنى الأرواح، وقيل: قرن كل امرئ بشيعته فاليهود يضم لليهود، والنصراني للنصارى، وهكذا، وقيل: قرن الرجل الصالح بالرجل الصالح في الجنة، والرجل السوء بالرجل السوء في النار، وقيل: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت الكفار بالشياطين، وكذلك المنافقون، وفي الحقيقة يحصل كل. قوله: (الجارية) المراد بها مطلق الأنثى، وقوله: (والحاجة) أي الفقر، فكان الرجل في الجاهلية، إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها، ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد قتلها تركها، حتى إذا كانت بنت ست سنين يقول لأمها، طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى احمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فيذهب بها إلى البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض. وقال ابن عباس: كانت الحامل إذا قربت ولادتها، حفرت حفرة فمتخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً أبقته. قوله: (تبكيتاً لقائلها) جواب عما يقال: ما معنى سؤال المؤودة، مع أن مقتضى الظاهر سؤال القاتل عن قتله إياها، فأجاب: بأن سؤالها هي لافتضاح القاتل وتبيكته، ولا يلزم من السؤال تعذيب القاتل، لأنه يقال: إن كان القاتل من أهل الفترة فلا يعذب، وإنما يرضي الله المقتولة بإحسانه، وأن كان ممن بلغته الدعوة، فهو آثم يعذب على القتل إن لم يغفر له الله تعالى. قوله: (وقرئ بكسر التاء) أي الثانية على أنها تاء المؤنثة المخاطبة، والفعل مبني للمفعول، وهذه القراءة شاذة، وقرئ شذوذاً أيضاً ببناء سئل للفاعل، مع قتلت بضم التاء للمتكلم، وبسكونها على التأنيث، فالقراءات الشاذة ثلاث. قوله: (صحف الأعمال) أي فإنها تطوى عند الموت، وتنشر عند الحساب. قوله: (بالتخفيف والتشديد) سبعيتان. قوله: (فتحت وبسطت) أي بعد أن كانت مطوية. قوله: (نزعت عن أماكنها) أي أزيلت عنه، فالكشط القلع عن شدة التزلق والقشط لغة فيه، وبها قرئ شذوذاً، فالسماء تنزع من أماكنها، كما ينزع الغطاء عن الشيء، وقيل: تطوى كما يطوى السجل. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما سبعيتان. قوله: (أججت) أي أوقدت للكفار. قوله: (قربت لأهلها ليدخولها) أي هيئت وأحضرت لهم وسهل طريقها، لا أنها تزول عن موضعها. قوله: (أول السورة) أي الواقعة في أولها، وقوله: (وما عطف عليها) أي وهو أحد عشر. قوله: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ﴾ إن قلت: إن النفس نكرة في سياق الإثبات وهي لا تعم. أجيب بجوابين، الأول: أن العموم استفيد من قرينة المقام والسياق، الثاني: أن وقوعها في سياق الشرط، كوقوعها في سياق النفي فتعم أيضاً، ومعنى العلم بما أحضرته، أنها تشاهد أعمالها مكتوبة في الصحف.
قوله: (وهو) أي وقت حصول هذه الأمور. قوله: (هي النجوم) الخ، أي السيارة غير الشمس والقمر. قوله: (أي ترجع في مجراها) أي من آخر الفلك القهقرى إلى أوله. وخصها بالذكر لأنها تستقبل الشمس، فيحبس بالهار، وتظهر بالليل، وتخفى وقت غروبها عن البصر. قوله: (إذ كرّ راجعاً) هو العامل في (بينما) وقوله: (إلى أوله) أي البرج. قوله: (في كناسها) أي محل اختفائها من كنس الوحش إذا دخل كناسه، وهو بيته الذي يتخذ من أغصان الشجر. قوله: ﴿ وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ مناسبته لما قبله ظاهره، لأنه إن كان المراد إقباله فهو أول الليل، وهذا أول النهار، وإن كان المراد إدباره، فهذه مجاورة له. قوله: ﴿ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ التنفس في الأصل خروج النفس من الجوف، وصف به الصبح من حيث إنه إذا أقبل ظهر روح ونسيم، فجعل نفساً له. ﴿ ذِي قُوَّةٍ ﴾ أي فكان من قوته، أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، وحملها على جناحه، فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام، فنفخه بجناحه نفخة إلقاه إلى أقصى جبل خلف الهند، وأنه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض ثم يصعد في أسرع من رد الطرف. قوله: (ذي مكانة) أي إكرام وتشريف. قوله: (متعلق به عند) أي فهو حال من ﴿ مَكِينٍ ﴾ وأصله وصف، فلما قدم نصب حالاً، وقوله: ﴿ ثَمَّ ﴾ ظرف مكان للبعيد، والعامل فيه مطاع. قوله: (أي تطيعه الملائكة) تفسير لقوله: ﴿ مُّطَاعٍ ﴾ وقوله: (في السماوات) تفسير لقوله: ﴿ ثَمَّ ﴾.
قوله: (عطف على أنه) الخ، أي فهو من جملة المقسم عليه بالأقسام السابقة، وفي الحقيقة ذكر جبريل الأوصاف المذكورة، توطئة لذكر محمد صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود منه قولهم﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾[النحل: ٣]﴿ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾[سبأ: ٨]﴿ أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾[سبأ: ٨] لا تعداد فضائل جبريل ومحمد، خلافاً للزمخشري الزاعم أن تلك الآية تشهد بتفضيل جبريل على محمد، بل إذا أمعنت النظر، وجدت إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام، دال على بلوغ الغاية في تعظيم محمد، حيث جعل السفير بينه وبين الله، هذا الملك الموصوف بتلك الصفات، وفضل المصطفى مصرح به في هذا الكتاب، وفي سائر الكتب السماوية، كالشمس في رابعة النهار، هذا زبدة ما أفادته الأئمة في هذا المقام. قوله: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ أيضاً فهو من جملة المقسم عليه، وهذه الرؤية كانت في غار حراء، حين رآه على كرسيه بين السماء والأرض في صورته الأصلية، وكان قد سأله أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فوعده بحراء، ثم انجز له الوعد، وتقدم بسطه في قوله تعالى:﴿ فَٱسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ ﴾[النجم: ٦-٧].
الخ. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْغَيْبِ ﴾ متعلق بظنين. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي ببخيل) أي فلا يبخل به عليكم، بل يخبركم به على طبق ما أمر، ولا يكتمه ما يكتم الكاهن ما عنده، حتى يأخذ عليه حلواناً. قوله: ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ الخ، نفي لقولهم: إنه كهانة وسحر. قوله: ﴿ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾ أين ظرف مكان مبهم منصوب بتذهبون كما قال المفسر، فأي طريق تسلكون، حيث نسبتموه للجنون أو الكهانة أو السحر أو الشعر؟ وهو بريء من ذلك كله، كما تقول لمن ترك الطريق الجادة بعد ظهورها: هذا الطريق الواضح فأين تذهب؟ قوله: ﴿ أَن يَسْتَقِيمَ ﴾ أي فالطريق واضح، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. قوله: ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ ﴾ رجوع للحقيقة وإعلام بأن العبد مختار في الظاهر، مجبور في الباطن على ما يريده الله منه.
Icon