تفسير سورة المطفّفين

تفسير ابن كثير ط العلمية
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير ط العلمية .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ

ذكروه بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ وَقَالُوا هَلَكَ اللَّيْلَةَ فُلَانٌ»، ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: سَلَامٌ هَذَا أَحْسَبُهُ سَلَامٌ الْمَدَائِنِيُّ وهو لين الحديث.
[سورة الانفطار (٨٢) : الآيات ١٣ الى ١٩]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧)
ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَصِيرُ الْأَبْرَارُ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِالْمَعَاصِي، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَارِبٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ الْأَبْرَارَ لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ» ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْفُجَّارُ مِنَ الْجَحِيمِ وَالْعَذَابِ الْمُقِيمِ وَلِهَذَا قَالَ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أَيْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْقِيَامَةِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أَيْ لَا يَغِيبُونَ عَنِ الْعَذَابِ سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَلَا يُجَابُونَ إِلَى مَا يَسْأَلُونَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الرَّاحَةِ ولو يوما واحدا.
وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ يوم القيامة ثم أكده بقوله تعالى:
ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أَيْ لَا يَقْدِرُ وَاحِدٌ عَلَى نَفْعِ أَحَدٍ وَلَا خَلَاصِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا حَدِيثَ «يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَلِهَذَا قَالَ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ كَقَوْلِهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: ١٦] وَكَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفُرْقَانِ: ١٦] وَكَقَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: ٤] قَالَ قَتَادَةُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والأمر والله اليوم لله، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أَحَدٌ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
تَفْسِيرُ
سورة المطففين
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
قَالَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقَيْلٍ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ قَالَا:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بن واقد، حدثني أبي عن يزيد وهو ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ النَّحْوِيِّ مَوْلَى قُرَيْشٍ
342
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَحَسَّنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ «١».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ هِلَالِ بْنِ طَلْقٍ قال: بينما أَنَا أَسِيرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَنْ أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلا أهل مكة أو أهل الْمَدِينَةِ قَالَ: حَقٌّ لَهُمْ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تعالى يَقُولُ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ ضِرَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمُكْتِبِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيُوَفُّونَ الْكَيْلَ، قَالَ:
وَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُوَفُّوا الْكَيْلَ وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ- حَتَّى بَلَغَ- يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ والمراد بِالتَّطْفِيفِ هَاهُنَا الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِمَّا بِالِازْدِيَادِ إِنِ اقْتَضَى مِنَ النَّاسِ وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ إِنْ قَضَاهُمُ، وَلِهَذَا فَسَّرَ تَعَالَى الْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أَيْ مِنَ النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ أَيْ يَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ بِالْوَافِي وَالزَّائِدِ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَيْ يَنْقِصُونَ، والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا مُتَعَدِّيًا وَيَكُونُ هُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا ضَمِيرًا مُؤَكِّدًا لِلْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ كالوا ووزنوا وَيُحْذَفُ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ فِي الْكَيْلِ والميزان فقال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: ٣٥] وقال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[الأنعام: ١٥٢] وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَنِ: ٩] وَأَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَ شُعَيْبٍ وَدَمَّرَهُمْ عَلَى مَا كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُتَوَعِّدًا لَهُمْ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أي ما يَخَافُ أُولَئِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الْهَوْلِ كَثِيرِ الْفَزَعِ جَلِيلِ الْخَطْبِ، مَنْ خَسِرَ فيه أدخل نارا حامية؟ وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ يَقُومُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا فِي مَوْقِفٍ صَعْبٍ حَرِجٍ ضَيِّقٍ ضَنْكٍ عَلَى الْمُجْرِمِ وَيَغْشَاهُمْ مِنْ أَمْرِ الله تعالى مَا تَعْجِزُ الْقُوَى وَالْحَوَاسُّ عَنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» «٣» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ من حديث مالك وعبد الله بن
(١) أخرجه ابن ماجة في التجارات باب ٣٥.
(٢) تفسير الطبري ١٢/ ٤٨٣.
(٣) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٧، وتفسير سورة ٨٣، ومسلم في الجنة حديث ٦٠، وأحمد في المسند ٢/ ١٣، ١٩. [.....]
343
عَوْنٍ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ بِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ من الطريقين أيضا، وكذلك رواه أيوب بن يحيى وصالح بن كيسان وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «١» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرِّجَالَ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ».
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ يَعْنِي ابْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشمس من العباد حتى تكون قدر مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ- قَالَ- فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا» «٣» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سُوَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جَابِرٍ بِهِ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ ويزاد في حرها كذا كذا، تَغْلِي مِنْهَا الْهَوَامُّ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يلجمه العرق». الفرد بِهِ أَحْمَدُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٥» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عشانة حيي بْنُ يُؤْمِنَ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده هَكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ» وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِشَارَةً، انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ سَبْعِينَ سَنَةً لَا يَتَكَلَّمُونَ، وَقِيلَ يَقُومُونَ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ يَقُومُونَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَيُقْضَى بَيْنَهُمْ فِي مِقْدَارِ عَشْرَةِ آلَافِ سَنَةٍ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
(١) المسند ٢/ ٣١.
(٢) المسند ٦/ ٣، ٤.
(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٢، والترمذي في القيامة باب ٢.
(٤) المسند ٥/ ٢٥٤.
(٥) المسند ٤/ ١٥٧.
344
سَنَةٍ» «١».
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَوْنِ الزِّيَادَيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَجْلَانَ، سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ الْمَدَنِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَشِيرِ الْغِفَارِيِّ: «كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةَ سَنَةٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا يؤمر فيهم بِأَمْرٍ؟» قَالَ بَشِيرٌ: الْمُسْتَعَانُ اللَّهُ، قَالَ «فَإِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسُوءِ الْحِسَابِ» وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بِهِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «٢». وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقُومُونَ أربعين سنة رافعي رؤوسهم إِلَى السَّمَاءِ لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ قَدْ أَلْجَمَ الْعَرَقُ بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يَقُومُونَ مِائَةَ سَنَةٍ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَوَارِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ قِيَامَ اللَّيْلِ: يَكَبِّرُ عَشْرًا وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي» وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ القيامة «٣».
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٧ الى ١٧]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
يقول تعالى حَقًّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أَيْ إِنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ لَفِي سِجِّينٍ فِعِيلٍ مِنَ السِّجْنِ وَهُوَ الضِّيِقُ، كَمَا يُقَالُ: فِسِّيقٌ وَشِرِّيبٌ وَخِمِّيرٌ وَسِكِّيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَظُمَ أَمْرُهُ فقال تعالى: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ أَيْ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَسِجْنٌ مُقِيمٌ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ، ثُمَّ قَدْ قَالَ قَائِلُونَ: هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ:
يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رُوحِ الْكَافِرِ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ «٤». وَسَجِّينٌ هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقِيلَ: صَخْرَةٌ تَحْتَ الأرض السابعة خضراء، وقيل بئر في جهنم.
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢/ ٢٦٢، ومسلم في الزكاة حديث ٢٤، ٢٦.
(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١١٩.
(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١١٩، والنسائي في قيام الليل باب ٩، والاستعاذة باب ٦٣، وابن ماجة في الإقامة باب ١٨٠.
(٤) أخرجه أحمد في المسند ٤/ ٢٨٧، ٢٨٨.
345
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «١» فِي ذَلِكَ حَدِيثًا غَرِيبًا مُنْكَرًا لَا يَصِحُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ مُوسَى بن مشكان الواسطي، حدثنا نصر بن خزيمة الْوَاسِطِيُّ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفَلَقُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطَّى وَأَمَّا سِجِّينٌ فَمَفْتُوحٌ» وَالصَّحِيحُ أَنْ سِجِّينًا مَأْخُوذٌ مِنَ السَّجْنِ وَهُوَ الضِّيقُ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلُّ مَا تَسَافَلَ مِنْهَا ضَاقَ وَكُلُّ مَا تَعَالَى مِنْهَا اتَّسَعَ، فَإِنَّ الْأَفْلَاكَ السَّبْعَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْسَعُ وَأَعْلَى مِنَ الَّذِي دُونَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَوْسَعُ مِنَ الَّتِي دُونَهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ السُّفُولُ الْمُطْلَقُ وَالْمَحَلُّ الْأَضْيَقُ إِلَى الْمَرْكَزِ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَلَمَّا كَانَ مَصِيرُ الْفُجَّارِ إِلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ أَسْفَلُ السَّافِلِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّينِ: ٥] وَقَالَ هَاهُنَا: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ وَهُوَ يَجْمَعُ الضِّيقَ وَالسُّفُولَ كَمَا قَالَ تعالى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان: ١٣].
وقوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى سِجِّينٍ أَيْ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ لَا يُزَادُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ أَحَدٌ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كعب القرظي ثم قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ إِذَا صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ السِّجْنِ وَالْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ وَيْلٌ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لِفُلَانٍ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ النَّاسَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» «٢».
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْمُكَذِّبِينَ الْفُجَّارِ الْكَفَرَةِ: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ وَلَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَ أَمْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أَيْ مُعْتَدٍ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ وَالْمُجَاوَزَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ وَالْأَثِيمِ فِي أَقْوَالِهِ إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِنْ خَاصَمَ فَجَرَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إذا سمع كلام الله تعالى مِنَ الرَّسُولِ يُكَذِّبُ بِهِ وَيَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُفْتَعَلٌ مَجْمُوعٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّحْلِ: ٢٤] وقال تَعَالَى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: ٥] قال الله تعالى:
(١) تفسير الطبري ١٢/ ٤٨٨.
(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٨٠، والترمذي في الزهد باب ١٠، والدارمي في الاستئذان باب ٦٦، وأحمد في المسند ٥/ ٣، ٥، ٦.
346
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا كَمَا قَالُوا إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا حَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الرَّيْنِ الَّذِي قَدْ لَبِسَ قُلُوبَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ.
وَالرَّيْنُ يَعْتَرِي قُلُوبَ الْكَافِرِينَ، وَالْغَيْمُ لِلْأَبْرَارِ وَالْغَيْنُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فذلك قول اللَّهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ «١» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نكت في قلبه نكتة سوداء، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فهو الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «٢»
: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ». وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ فيموت، وكذا قال مجاهد بن جبير وقتادة وابن زيد وغيرهم.
وقوله تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أَيْ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْزِلٌ وَنُزُلٌ سِجِّينٌ ثُمَّ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ ذَلِكَ مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عبد الله الشافعي: وفي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ.
كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ منطوق قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢- ٢٣] وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ رُؤْيَةٌ بِالْأَبْصَارِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وفي روضات الجنات الْفَاخِرَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْمِنْقَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبيد عن الحسن في قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قَالَ: يُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ ثُمَّ يُحْجَبُ عَنْهُ الْكَافِرُونَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ يَوْمٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً أَوْ كَلَامًا هذا
(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٣١، والترمذي في تفسير سورة ٨٣، باب ١، وابن ماجة في الزهد باب ٢٩، ومالك في الكلام حديث ١٨، وأحمد في المسند ٢/ ٢٩٧، وتفسير الطبري ١٢/ ٤٩٠.
(٢) المسند ٢/ ٢٩٧.
(٣) تفسير الطبري ١٢/ ٤٩٢. [.....]
347
معناه، وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أَيْ ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا الْحِرْمَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ والتصغير والتحقير.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
يَقُولُ تَعَالَى: حَقًّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ وَهُمْ بِخِلَافِ الْفُجَّارِ لَفِي عِلِّيِّينَ أَيْ مَصِيرُهُمْ إِلَى عِلِّيِّينَ وَهُوَ بِخِلَافِ سِجِّينٍ. قَالَ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ سِجِّينٍ قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ، وَسَأَلَهُ عَنْ عِلِّيِّينَ فَقَالَ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا السَّمَاءُ السَّابِعَةُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَفِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ فِي السَّمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عِلِّيُّونَ سَاقُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: عِلِّيُّونَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلِّيِّينَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَكُلَّمَا عَلَا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهُ وَمُفَخِّمًا شَأْنَهُ وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ ثم قال تعالى مُؤَكِّدًا لِمَا كَتَبَ لَهُمْ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَشْهَدُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ وَجَنَّاتٍ فِيهَا فَضْلٌ عَمِيمٌ عَلَى الْأَرائِكِ وَهِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَالِ يَنْظُرُونَ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ فِي مُلْكِهِمْ وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَلَا يَبِيدُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وهذا مقابل لِمَا وُصِفَ بِهِ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَذَكَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُبَاحُونَ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى سُرُرِهِمْ وَفُرُشِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ» «١» وَقَوْلُهُ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أَيْ تَعْرِفُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أَيْ صِفَةَ التَّرَافَةِ وَالْحِشْمَةِ وَالسُّرُورِ وَالدِّعَةِ وَالرِّيَاسَةِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ العظيم.
وقوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ أَيْ يُسْقَوْنَ مِنْ خمر من الجنة، والرحيق من
(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٧٥، باب ٢، وأحمد في المسند ٢/ ١٣.
أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ سَعْدٍ أَبِي الْمُجَاهِدِ الطَّائِيِّ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَرَاهُ قَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: خِتامُهُ مِسْكٌ أَيْ خَلْطُهُ مِسْكٌ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
طَيَّبَ اللَّهُ لَهُمُ الْخَمْرَ فَكَانَ آخِرُ شَيْءٍ جُعِلَ فِيهَا مِسْكٌ خُتِمَ بِمِسْكٍ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ خِتامُهُ مِسْكٌ أَيْ عَاقِبَتُهُ مِسْكٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ «٢»، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ خِتامُهُ مِسْكٌ قَالَ: شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَجَدَ طِيبَهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ خِتامُهُ مِسْكٌ قَالَ: طِيبُهُ مسك.
وقوله تعالى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أَيْ وَفِي مِثْلِ هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون، كقوله تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، وقوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أَيْ: وَمِزَاجُ هَذَا الرَّحِيقِ الْمَوْصُوفِ مِنْ تَسْنِيمٍ أَيْ مِنْ شَرَابٍ يُقَالُ لَهُ تَسْنِيمٌ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهُ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ، وَلِهَذَا قَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أَيْ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا، قَالَهُ ابْنُ مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَحْتَقِرُونَهُمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْمُؤْمِنِينَ يَتَغَامَزُونَ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُحْتَقِرِينَ لَهُمْ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أَيْ إِذَا انْقَلَبَ أَيْ رَجَعَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمُ انْقَلَبُوا إِلَيْهَا فَاكِهِينَ أَيْ مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَمَعَ هَذَا مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَلِ اشْتَغَلُوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم وَيَحْسُدُونَهُمْ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أَيْ لِكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أَيْ وَمَا بعث هؤلاء المجرمون حافظين على
(١) المسند ٣/ ١٣، ١٤.
(٢) تفسير الطبري ١٢/ ٤٩٨.
349
هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَلَا كُلِّفُوا بِهِمْ؟ فَلِمَ اشْتَغَلُوا بِهِمْ وَجَعَلُوهُمْ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٨- ١١١] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا فَالْيَوْمَ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا ضَحِكَ بِهِمْ أُولَئِكَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أَيْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ زَعَمَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ لَيْسُوا بِضَالِّينَ بَلْ هُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ يَنْظُرُونَ إلى ربهم في دار كرامته. وقوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ عَلَى مَا كَانُوا يُقَابِلُونَ به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أَمْ لَا، يَعْنِي قَدْ جُوزُوا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وأتمه وأكمله. آخر تفسير سورة المطففين، ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الِانْشِقَاقِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سَجَدَ فِيهَا «١»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ له. فقال: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ طِرْخَانَ التَّيْمِيِّ به، وقد رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، زَادَ النَّسَائِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [الأعلى: ١].
(١) أخرج حديث السجود. البخاري في الأذان باب ١٠٠، ١٠١، وسجود القرآن باب ٧، ١١، وتفسير سورة ٨٤ في الترجمة، ومسلم في المساجد حديث ١٠٧- ١١١، وأبو داود في السجود باب ٤، والترمذي في الجمعة باب ٥٠، والنسائي في الافتتاح باب ٥١، ٥٢، ٥٣، وابن ماجة في الإقامة باب ٧١، ومالك في القرآن حديث ١٢.
350
Icon