تفسير سورة الطارق

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الطارق
إثبات البعث وصدق القرآن
في سورة الطارق المكية بالإجماع كسورتي الانشقاق والانفطار: قسم من الله تعالى على إمكان حدوث البعث، وإثباته ثبوتا قطعيا، وردّ على المشركين المكذبين به، وإخبار بأن الله تعالى هو خالق الإنسان من العدم، والقادر على البدء والإنشاء، قادر على الإعادة بعد الموت، ويوم القيامة يوم مكشوف تنكشف فيه جميع الأشياء من غير أستار ولا غيبيات، ويكون الإنسان محل الحساب والجزاء، دون أن يكون له نصير أو شفيع، أو قدرة على الهرب، والقرآن الذي أخبر بقيام البعث في وقت معين عند الله تعالى هو كلام الله المحكم، الذي فصل بين الحق والباطل، كما تقرر الآيات في مطلع سورة الطارق:
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ١٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [الطارق: ٨٦/ ١- ١٧].
(١) النجم الطالع ليلا.
(٢) المضيء ظلام الليل.
(٣) ماء مدفوق، أي مصبوب.
(٤) الصلب: عظام الظهر أي فقاره، والترائب: عظام الصدر التي يوضع عليها القلادة، جمع تريبة.
(٥) تختبر وتكشف مكنونات الصدور.
(٦) المطر الذي يعود للأرض من السماء.
(٧) الشق. [.....]
(٨) فارق بين الحق والباطل.
(٩) المكر والتدبير لإبطال الإسلام.
(١٠) أنظرهم أو أمهلهم.
2858
المعنى: أقسم بالسماء البديعة، والكوكب المنير البادي ليلا، وما أعلمك ما حقيقته أيها النبي؟ إنه النجم المضيء ليلا لتبديد شدة الظلمة، كأنه يخرق أو يثقب حجب الظلام، والقسم بالكواكب للدلالة على أن لها خالقا مدبرا منظما لها.
والطارق: اسم جنس لكل ما يظهر أو يأتي ليلا، فسره ما بعده بأنه النجم الثاقب.
وجواب القسم: ما كل نفس إلا عليها من الله حافظ، يحرسها من الآفات، وهم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، وما تكسبه من خير أو شر. وكلمة (لما) بمعنى إلا، و (إن) على ذلك: نافية، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ.
ثم نبّه الله تعالى الإنسان إلى مبدأ خلقه ليتعظ، ويستدل به على إمكان المعاد، في قوله: فَلْيَنْظُرِ أي فعلى الإنسان أن يتفكر في كيفية بدء خلقه، ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث، إنه خلق من ماء مدفوق مصبوب في الرحم، وهو ماء الرجل وماء المرأة، وقد جعلا ماء واحدا لامتزاجهما. يخرج من ظهر الرجل في النخاع الشوكي الآتي من الدماغ، ومن بين ترائب المرأة، أي عظام صدرها، أو موضع القلادة من الصدر. والولد يتكون من اجتماع الماءين، ثم يستقر الماء المختلط في الرحم، فيتكون الجنين بإرادة الله تعالى.
إن الله تعالى قادر على إرجاع الإنسان إليه، أي إعادته بالبعث بعد الموت، لأن من قدر على البداءة والإنشاء، قادر على الإعادة والإحياء مرة أخرى. وإرجاعه يوم القيامة يوم تختبر وتعرف السرائر، أي مكنونات النفوس والقلوب من العقائد والنيات والأسرار وغيرها.
وليس للإنسان حين بعثه من قوة في نفسه أو من غيره، يمتنع بها من عذاب الله،
2859
ولا يجد ناصرا ينصره، فينقذه مما نزل به، أي فليس له قوة ذاتية ولا قوة خارجية من غيره، لإنجاء نفسه من عذاب الله تعالى.
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) قال: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، كان يقوم على الأديم (الجلد) فيقول: «يا معشر قريش، من أزالني عنه، فله كذا» ويقول: إن محمدا يزعم أن خزنة جهنم تسعة عشر، فأنا أكفيكم وحدي عشرة، واكفوني أنتم تسعة» فنزلت هذه الآية: فَلْيَنْظُرِ...
ثم قال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) أي إنني أقسم قسما آخر بالسماء ذات المطر الذي يعود إلى الأرض من السماء، أي السحاب، فيحيي الأرض بعد موتها، وينبت النبات، والأرض ذات الصدع: وهو الشق الذي يحدث من تصدع الأرض وتشققها، فيخرج من الأرض النبات والثمار والشجر والمعدن والكنز والثروة النفطية والمائية، وجواب القسم: ان آي القرآن لقول فصل، يفصل بين الحق والباطل، ولم ينزل باللعب واللهو، فهو جد لا هزل فيه، وكلام من الله تعالى ليس هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، تنزيل من حكيم حميد. ثم أوعد الله تعالى المكذبين بالقرآن بقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ.
أي إن صناديد قريش في مكة وأمثالهم يدبرون المكائد للنبي صلّى الله عليه وسلّم لإبطال ما جاء به من الدين الحق، وللصد عن سبيل الله وعن القرآن، بالقول بأن القرآن أساطير الأولين، وبأن محمدا ساحر أو مجنون أو شاعر، ويتآمرون على قتله. ولكن الله تعالى يدبر لهم تدبيرا آخر، يستدرجهم في عصيانهم، ثم يجازيهم جزاء كيدهم.
ثم وعد الله رسوله بالنصر، بقوله فيما معناه: أخر أيها النبي الكافرين وأنظرهم، ولا تدع عليهم بهلاكهم، ولا تستعجل به، وارض بما يدبره الله لك في أمورهم، وأمهلهم إمهالا يسيرا قليلا أو قريبا، فسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال، والعقوبة والهلاك، وهذا تكرار للمعنى بطريق المبالغة.
2860
Icon