تفسير سورة التوبة

اللباب
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التوبة
مدنية. وهي مائة وثلاثون آية، وأربعة آلاف وثمان وسبعون١ كلمة، وعشرة آلاف، وأربع مائة وثمان وثمانون حرفا.
ولها عدة أسماء : براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافزة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب.
قال الزمخشري :" لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق : أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين : تبحث عنها وتشهرها وتحفز عنها، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم ".
وعن حذيفة : إنكم تسمونها سورة التوبة، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه٢.
وعن ابن عباس في هذه السورة قال : إنها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم، وتريهم حتى خشينا أنها لا تدع أحدا٣، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.

فصل في إسقاط التسمية من هذه السورة


في إسقاط التسمية من أولها وجوه :
الأول : روى ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما وما فصلتم ب : بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزلت عليه سورة يقول :" ضعوها في موضع كذا " فكانت براءة من آخر القرآن نزولا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقرنت بينهما٤.
قال ابن العربي " هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ؛ ألا ترى إلى عثمان بن عفان وأعيان الصحابة، كيف نحوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأو أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها ؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائرالأحكام " ؟.
قال القاضي :" لا يبعد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام بين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال ؛ لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى، ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل، ولو جوّزنا في بعض السور ألا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي، لجوزنا مثله في سائر السور، وفي آيات السورة الواحدة، وتجويزه يعضد ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة ".
والصحيح : أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة، بعد سورة الأنفال وحيا، فإنه عليه الصلاة والسلام حذف " بسم الله الرحمن الرحيم " من أول هذه السورة وحيا.
الوجه الثاني : روي عن أبي بن كعب أنه قال : إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى، والسؤال المذكور عائد هنا، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا : إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة.
الوجه الثالث : أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال، وسورة التوبة هل هما سورة واحدة أم سورتان ؟ قال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ لأن كليهما نزلتا في القتال، ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال، وهي سبع، وما بعدهما المئون، وهذا قول ظاهر ؛ لأنهما معا مائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة.
ومنهم من قال سورتان، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا الباب، تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان، وما كتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة، وعلى هذا القول لا يلزم منه تجويز مذهب الإمامية ؛ لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين، وهذا يدل على لأن هذا الاشتباه كان حاصلا، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير، وذلك يبطل قول الإمامية.
الوجه الرابع : أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية. ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله :﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ فلما كان هذا عين ذلك الكلام، وتأكيدا له وتقريرا له، لزم الفاصل بينهما وكان إيقاع الفاصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتابة البسملة تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.
الوجه الخامس : قال القرطبي :" قيل : إنه كان من شأن العرب في الجاهلية، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه البسملة، فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته بغير بسملة، وبعث بها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة ".
قال ابن عباس : سألت عليا- رضي الله عنه- : لِم لم تُكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ههنا ؟ قال : لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد، وليس فيها أمان٥.
ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا ﴾ [ النساء : ٩٤ ] فقيل له : أليس النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم " ؟ فأجاب عنه : بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله تعالى، ولم ينبذ إليهم عهدهم، ألا ترى أنه قال في آخر الكتاب ﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾ [ طه : ٤٧ ].
وأما هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهد، فظهر الفرق.
الوجه السادس : قالت الشافعية : لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون " بسم الله الرحمن الرحيم " من القرآن، أمر بأن لا تكتب ههنا، ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة لا جرم لم تكتب وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة، وقد يعكس عليهم ذلك فيقال : لو كانت آية من كل سورة لما أسقطها من هذه السورة ؟.
قال القرطبي٦ :" وروي عن عثمان أيضا. وقاله مالك فيما رواه وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : أنه لما سقط أولها سقط " بسم الله الرحمن الرحيم " معا، وروي ذلك عن عجلان ؛ أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها، فذهب منها ؛ فلذلك لم يكتب بينهما " بسم الله الرحمن الرحيم " وقال سعيد بن جبير : كانت قبل سورة الطلاق البقرة ".
قال القرطبي :" والصحيح أن البسملة لم تكتب ؛ لأن جبريل-عليه الصلاة والسلام- ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري ".
وفي قول عثمان " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها " دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن " براءة " ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم، لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك، وكانتا تدعيان القرينتين ؛ فوجب أن تُجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.
١ في ب وتسعون..
٢ أخرجه الحاكم (٢/٣٣١) والطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (٧/٣١) من حديث حذيفة.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وقال الهيثمي في "المجمع" (٧/٣١) رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٧٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأبي الشيخ وابن مردويه..

٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٧٦) وعزاه إلى أبي سعيد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (٢/٢٦٥)..
٤ أخرجه أحمد (١/٥٧، ٦٩) وأبو داود (٧٨٦، ٧٨٨) والترمذي (٣٠٨٦) والحاكم (١/٢٢١، ٣٣٠) والبيهقي (٢/٤٠٢) وفي "دلائل النبوة" (٧/١٥٢-١٥٣) وابن حبان (٤٥٢-موارد) وابن أبي داود في "المصاحف" ص (٣٢) وأبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ص (١٦٠) والبغوي في "تفسيره" (٢/٢٦٥) من طريق عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس قال: قلت لعثمان...... فذكره.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٧٥) وزاد نسبته إلى ابن شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه..

٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٧٧) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قلت: وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٢/٣٣٠)..
٦ ينظر: تفسير القرطبي ٨/٤١..
قوله تعالى: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ الآية.
الجمهور على رفع بَراءَةٌ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّها رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قوله ﴿إِلَى الذين﴾ وجاز الابتداءُ بالنَّكرة؛ لأنَّها تخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بعدها، وهو قوله مِنَ اللهِ كما تقولُ رجُلٌ من بني تميم في الدَّارِ.
والثاني: أنَّها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هذه الآياتُ براءةٌ، ويجوز في مِنَ اللهِ أن يكون متعلقاً بنفس براءةٌ؛ لأنها مصدرٌ، كالثَّناءة والدَّناءة. وهذه المادة تتعدَّى ب «مِنْ»، تقولُ: بَرِئتُ من فلانٍ، أبرأ براءةً، أي: انقطعتِ العُصبةُ بَيْنَنَا، وعلى هذا، فيجوزُ أن يكون المُسوِّغُ للابتداء بالنَّكرة على الوجه الأوَّل هذا. وإلى الَّذينَ متعلقٌ بمحذوف على الأوَّلِ، لوقوعهِ خبراً، وبنفس «بَرَاءَةٌ» على الثَّاني، ويقال: بَرِئْتُ، وبَرَأتُ من الدين، بالكسْرِ والفتح، وقال الواحديُّ: «ليس فيه إلاَّ لغةٌ واحدة، كسرُ العينِ في الماضي وفتحُها في المستقبل». وليس كذلك، بل نقلهما أهلُ اللغةِ، وقرأ عيسى بن عمر «بَرَاءَةٌ» بالنصب على إضمار فعل أي اسمعُوا براءةً.
6
وقال ابنُ عطيَّة «أي: الزموا براءة، وفيه معنى الإغراء» وقرىء «مِن اللهِ» بكسر نون «مِنْ» على أصل التقاءِ السَّاكنينِ، أو على الإتباع لميم «مِنْ» وهل لُغَيَّةٌ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ، وكسرها مع غيرها، نحو «مِن ابنك»، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك، بكسر النونِ مع لام التَّعريف.
فإن قيل: ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين؟ فالجوابُ: قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعاهدهم، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم: اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين. روي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون، وأرجفوا بالأراجيف، وجعل المشركون ينقضون العهد، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم، التي كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الزجاج: «بَراءَةٌ» أي: قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا.
فإن قيل: كيف يجوزُ أن ينقض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العهد؟.
فالجوابُ: لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه:
فالأول: أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم، فينبذ العهد إليهم، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد، لقوله ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] وقال أيضاً: ﴿الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾
[الأنفال: ٥٦].
الثاني: أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به، فلمَّا أمر الله تعالى بقطع العهدِ بينهم قطع لأجل الشرط.
الثالث: أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدَّةُ وينقضي العهدُ، ويكونُ الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأمَّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوزُ نقض العهد ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى قال تعالى: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤]، وقيل: إنَّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلاَّ بنُو ضمرة وبنُو كنانة.
قوله: ﴿إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين﴾ الخطاب مع أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي عاهدهم وعاقدهم؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون، فكأنَّهم «عَاقَدُوا» وعاهدوا.
7
قوله: «فَسِيحُواْ». قال ابنُ الأنباري: «هذا على إضمار القولِ، أي: قل لهم فسيحوا» ويكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطابِ، كقوله: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ [الإنسان: ٢١ - ٢٢]، ويقال: سَاحَ يَسيحُ سِياحةً وسُيُوحاً وسَيحَاناً أي: انساب، لِسَيْح الماء في الأماكن المنبسطة، قال طرفة: [السريع]
٢٧٤٢ - لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَني حتَّى ترى خَيْلاً أمَامِي تَسِيحْ
و «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» ظرف ل «سِيحُوا»، وقرىء «غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ» بنصب الجلالةِ على أنَّ النون حُذفتْ تخفيفاً، وقد تقدَّم تحريره.

فصل


المعنى: قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين: ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ أي: غير فائتين ولا سابقين: ﴿وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين﴾ أي: مذلهم بالقتال في الدُّنيا والعذاب في الآخرة.
واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، فقال الزهريُّ: «إن براءةَ نزلت في شوال، وهي أربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم»، والصَّواب الذي عليه الأكثرون: أنَّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر، ومن لم يكن له عهد، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوماً، وقيل: ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنَّ الحجَّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النَّسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السَّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام:
«ألا إنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَق اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْض».

فصل


اختلف العلماء في هذا التأجيل، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال جماعة: هذا تأجيلٌ للمشركين، فمن كانت مدةُ عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر، ثمَّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله، فيقتل حيثُ يدرك ويؤسر إلاَّ أن يتوب.
8
وقال الكلبيُّ: إنما كانت الأربعةُ أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر، فأمَّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله: ﴿فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾.
قال الحسنُ «أمر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال مَنْ قاتله من المشركين، فقال: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠] وكان لا يقاتلُ إلاَّ من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم، وأجلهم أربعة أشهر، فلم يكن لأحدٍ منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل».
والمقصود من هذا الإعلام أمور:
أولها: أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنَّه ليس لهم بعد هذه المدة إلاَّ أحد أمور ثلاثة:
إمَّا الإسلامُ أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام.
وثانيها: لئلاَّ ينسب المسلمون إلى نكث العهد.
وثالثها: أراد اللهُ أن يعمَّ جميع المشركين بالجهاد، فعمَّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصحُّ ذلك إلا بنقض العهود.
ورابعها: أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحج في السَّنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلاَّ يشاهدة العراة، وقيل: نزل هذا قبل تبوك.
وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكَّة. وذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاهد قريشاً عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعةُ في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم عدتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسِّلاح فلمَّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، ونقضوا العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعيُّ، حتى وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: [الرجز]
9
٢٧٤٣ - لا هُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداَ حِلْفَ أبينَا وأبيهِ الأَتْلَدَا
كنتَ لَنَا أباً وكُنَّا وَلَدَا ثُمَّتَ أسلَمْنَا ولمْ نَنْزِعْ يَدَا
فانصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا وادْعُ عِبَادَ اللهِ يأتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا فِي فَيْلقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبدَا
أبْيَضَ مثلَ الشَّمسِ يَسْمُو صَعدَا إن سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَربَّدَا
إنَّ قُريشاً أخلفُوكَ المَوْعِدَا ونَقَضُوا ميثاقَك المُؤكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بالهَجيرِ هُجَّدَا وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
وزعَمُوا أنْ لسْتَ تَدْعُو أحَدَا وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا
فقال رسُول الله «لا نُصِرتُ إنْ لَمْ أنصرْكم»، ثمَّ تجهَّز إلى مكة، ففتح مكَّة سنة ثمان من الهجرة، فلمَّا كانت سنة تسع أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحُجَّ، ثم قال: إنَّه يحضر المشركون، فيطوفون عراةً.
فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم، ليقيم للنَّاس الحجَّ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة «براءة» ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث عليّاً على ناقته العضباء ليقرأ على النَّاس «براءة» وأمره أن يؤذن بمكَّة، ومنى، وعرفة أن قد برئت ذمة الله، وذمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من كلِّ مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنزل في شأني شيء؟ قال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلاَّ رجل من أهلي، أما ترضى يا أبا بكر أنَّك كنت معي في الغار، وأنَّك صاحبي على الحوضِ؟ قال: بَلَى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميراً على الحجِّ، وعليّ ليُؤذن ب «براءة» فلمَّا كان قبل التَّرْوية بيوم خطب أبو بكر النَّاس، وحدَُّهم عن مناسكهم، وأقام للنَّاس الحجَّ، والعرب في تلك السنةِ على منازلهم التي كانُوا عليها في الجاهلية من الحجِّ، حتَّى إذا كان يوم النَّحر، قام عليُّ بنُ أبي طالب فأذَّن في النَّاسِ بالذي أمر به، وقرأ عليهم سورة «براءة».
قال زيدُ بن يثيع: سألنا عليّاً بأي شيء بعثت في الحجِّ؟ قال «بعثتُ بأربع: ألاَّ يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخلُ الجنَّة إلاَّ نفسَّ مؤمنةٌ، ولا يجتمعُ المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا». ثمَّ حجَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سنة عشر حجة الوداع.
وكان السَّبب في بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليّاً، أنَّ العرب تعارفُوا فيما بينهم في العهود ونقضها ألاَّ يتولَّى ذلك إلا سيدهم، أو رجل من رهطه، فبعث عليّاً إزاحة للعلَّة، لئلاَّ يقولوا هذا خلاف ما نعرفه في نقض العهود.
10
والدليل على أنَّ أبا بكر كان هو الأمير، أنَّ عليّاً لمَّا لحقهُ قال: أمير أو مأمور؟ فقال: مأمور، ثم ساروا وقال أبو هريرة «بعثني أبو بكر في تلك الحجَّة في مؤذنين يوم النَّحْر، يؤذِّن بمنى ألاَّ يحجَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان».
قوله وأذانٌ. رفع بالابتداء، أي: أذان صادر، أو إعلام واصل، ومِنَ اللهِ إمَّا صفةً، أو متعلقٌ به، وإلى النَّاسِ الخبر، ويجوزُ أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به، كما تقدَّم في براءة.
قال أبو حيَّان: «ولا وجه لقولِ من قال: إنه معطوف على» بَرَاءَةٌ «، كما لا يقال» عمرو «معطوف على» زيد «في: زيد قائم وعمرو قاعد».
وقرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل «وإذْن» بكسر الهمزة وسكون الذَّال، وقرأ العامَّةُ «أنَّ الله» بفتح الهمزة على أحد وجهين، إمَّا كونه خبراً ل «أذانٌ»، أي: الإعلامُ من اللهِ براءة من المشركين. وضعَّف أبو حيان هذا الوجه، ولم يذكر تضعيفه. وإمَّا على حذف حرفِ الجرِّ، أي: بأنَّ الله، ويتعلَّقُ هذا الجارَّ إمَّا بنفس المصدر، وإمَّا بمحذُوفٍ على أنه صفة ويَوْمَ منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله إلى النَّاسِ. وزعم بعضهم أنَّه منصوبٌ ب «أذَانٌ» وهو فاسدٌ من وجهين:
أحدهما: وصفُ المصدر قبل عمله.
الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معموله بأجنبي، وهو الخبرُ، وقرأ الحسنُ والأعرج بكسر الهمزة وفيه المذهبان المشهوران، مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ الأذانِ مُجْرَى القول.

فصل


والأذانُ: الإعلامُ، قال الأزهري: «آذنْتُه إيذاناً. فالأذانُ يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي» ومنه: أذان الصَّلاة، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام للاّتي غسَّلن ابنته زينب: «فإذا فَرغتن فآذنَّني» أي: أعلمنني، فلمَّا فرغنا آذنَّاهُ، أي: أعلمناه، والأذانُ معروفٌ.
11
ونقل النووي في «التهذيب» عن الهرويِّ قال: ويقال فيه الأذان، والأذين، والإيذان قال: وقال شيخي: الأذينُ هوالمؤذن المعلم بأوقات الصلوات «فعيل» بمعنى «مفعل» [وقوله عليه السلام: «ما أذِن الله كأذنه» بكسر الذال منه، وقوله: «كأذَنِهِ» بفتح الذال، والأذن بضم الذال وسكونها: أذن الحيوان، مؤنثة، وتصغيرها: أذينة. و «إذن» في قوله عليه السلام: «فلا إذن» حرف مكافأة وجواب، يكتب بالنون، وإذا وقفت على «إذن» قلت كما تقول: رأيت زيداً. قال الجوهري].
قوله: «مِنَ المُشركِينَ» متعلقٌ بنفس «بَرِيءٌ»، ما يقال: بَرئْتُ منه، وهذا بخلاف قوله: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله﴾ [التوبة: ١] فإنَّها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكون صفة ل «بَراءَةٌ».
قوله ورسُولُهُ الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: ورسوله بريءٌ منهم، وإنَّما حذف، للدلالةِ عليه.
والثاني: أنه معطوفٌ على الضمير المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصل المسوِّغ للعطف، فرفعه على هذا بالفاعلية والتقدير: برئ الله ورسوله [من المشركين].
الثالث: أنه معطوف على محلِّ اسم «أنَّ» وهذا عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياساً على المكسورةِ، قال ابنُ عطيَّة «ومذهبُ الأستاذ - يعني ابن البَاذشِ - على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه [» أنَّ «إذ هو معربٌ، قد ظهر فيه عمل العامل، وأنه لا فرق بين» أنَّ «وبين» لَيْتَ «والإجماعُ على أن لا موضع لما دخلتْ عليه] هذه».
قال أبو حيَّان: «وفيه تعقُّبٌ؛ لأنَّ كون» أنَّ «لا موضع لما دخلتْ عليه ليس ظهور عمل العامل بدليل» لَيْسَ زيد بقائم «وما في الدَّار من رجل، فإنه ظهرعمل العامل ولهما موضع وقوله:» بالإجماع «يريد أنَّ» ليت «لا موضع لما دخلت عليه بالإجماع، وليس كذلك؛ لأن الفراء خالف، وجعل حكم» لَيْتَ «وأخواتها جميعاً حكم» إنَّ «بالكسر».
قال شهابُ الدين قوله: «بدليل ليس زيد بقائم..» إلى آخره قد يظهر الفرقُ بينهما، فإنَّ هذا العامل، وإن ظهر عمله في حكم المعدُومِ، إذ هو زائد، فلذلك اعتبرنا الموضع معه، بخلاف «أنَّ» بالفتح، فإنَّه عاملٌ غيرُ زائد، وكانَ ينبغي أن يردَّ عليه قوله: وأنْ لا فرق بين «أنَّ» وبين «لَيْتَ» فإنَّ الفرق قائمٌ، وذلك أنَّ حكم الابتداء قد انتسخ مع «لَيْتَ»،
12
و «لَعلَّ»، و «كأنَّ» لفظاً ومعنًى، بخلافه مع «إنَّ»، و «أنَّ»، فإنَّ معناه معهما باقٍ. وقرأ عيسى بن عمر، وزيد بن علي وابن أبي إسحاق «ورسوله» بالنَّصبِ، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة، والثاني: أنه مفعولٌ معه.
قال الزمخشريُّ. وقرأ الحسنُ «ورسُولِهِ» بالجرِّ، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه مقسمٌ به، أي: ورسوله إن الأمر كذلك، وحذف جوابه لفهم المعنى.
والثاني: أنه على الجواز، كما أنهم نَعَتُوا وأكَّدوا على الجواز، وقد تقدَّم تحقيقه. وهذه القراءةُ يبعدُ صحتُها عن الحسن، للإبهام، حتَّى يحكى أنَّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ «ورَسُولِهِ» بالجر، فقال الأعرابيُّ: إن كان الله قد بَرِىء من روسله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فحكى الأعرابيُّ الواقعة، فحينئذ أمر عمرُ بتعليم العربيَّة. ويحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ، وأبي الأسود الدُّؤلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال أبُو البقاءِ: «ولا يكون عطفاً على» المشركين «لأنَّه يؤدي إلى الكفر». وهذا واضح.

فصل


قال بعض المفسرين قوله: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ جملة تامة مخصوصة بالمشركين، وقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر﴾ جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى، وهي عامة في حق جميع النَّاسِ؛ لأنَّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك، من حيثُ إنَّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً، فيجبُ على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباحُ فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم، ليصل ذلك الخبر إلى الكل، فيشتهر.
وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله﴾.

فصل


اختلفوا في يوم الحجِّ الأكبر، فقال ابن عباس في رواية عكرمة «إنَّه يومُ عرفةَ» وهو قول عُمر، وسعيد بن المسيب، وابن الزبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وإحدى الروايتين عن علي، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: خطب رسول
13
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشيَّة عرفة، فقال: «أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر» لأنَّ معظم أفعال الحج فيه، وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف يوم النَّحر عند الجمرات، وقال: «هذا يومُ الحج الأكبر» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الحج عرفةُ» ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة؛ لأ، َّ من أدركه، فقد أدرك الحجَّ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر: يوم النحر، وهو قول النخعيّ، والشعبيّ، والسديّ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير.
وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال: يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ، وكان يقول: يوم الحجِّ الأكبر: أيامه كلها، كما يقال: يوم صفين، ويوم الجمل، ويراد به الحين والزمان.
وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر، فإن قلنا: إنَّه يوم عرفة؛ فلأنه أعظم واجباته، ومن فاته الحجُّ، وكذلك إن قلنا: إنَّه يوم النحر، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه، وقال الحسنُ: سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال: عيدُ الكفَّارِ فيه سخط. وهذا الطَّعن ضعيفٌ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف، فلذلك وصف بالأكبر.
وقيل سُمِّي بذلك؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة، وقيل: الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر، قاله مجاهدٌ، ونقل عن مجاهدٍ: الأكبر القرانُ، والأصغر الإفراد، فإن قيل: قوله: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وقوله ﴿أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ لا فرق بينهما، فما فائدة هذا التكرار؟
فالجواب من وجوه:
الأولُ: أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد، ومن الثاني: البراءة التي هي
14
نقيض الموالاة، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم، وفي الثانية برئ منهم.
الثاني: أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.
قوله «فإن تُبْتُمْ» عن الشكر، وأخلصتم التَّوحيدَ: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الإيمان ﴿فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ وذلك وعيد عظيم.
ثم قال ﴿وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخرة، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال: تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشَّتم.
قوله ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين﴾ في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه استثناءٌ منقطعٌ، والتقديرُ: لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم، وإلى هذا نحا الزَّمخشري، فإنه قال: «فإن قلت: ممَّا استثنى قوله:» إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم «؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من قوله:» فسيحُوا في الأرضِ «؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم: سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين، ولكن الذين لم ينكثوا، فأتمُّوا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
الثاني: أنَّه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة، تقديره: اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم، وفيه ضعفٌ؛ قاله الزَّجَّاجُ، فإنَّه قال:»
إنَّه عائد إلى قوله: «براءةٌ» والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد «.
الثالث: أنَّه مبتدأ، والخبر قوله:»
فأتمُّوا إليهِمْ «قاله أبو البقاءِ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً، والأولى أنَّهُ منقطعٌ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
قوله ﴿ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ الجمهور»
يَنقصُوكُم «بالصَّاد المهملة، وهو يتعدَّى لواحدٍ، ولاثنين، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف» كُمْ «مفعولٌ أول، و» شَيْئاً «إمَّا معفول ثان، وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من النقصان، أو: لا قليلاً، ولا كثيراً من النقصان.
15
وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة، وابن السَّمَيْفع، وأبو زيد» يَنقُضُوكم «بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف، أي: ينقضُوا عهدكم، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه.
قال الكرمانيُّ:»
وهي مناسبة لذكر العهد «. أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهد، وهي قريبة من قراءة العامَّة، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام.

فصل


ومعنى قوله: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين﴾ وهم بنو ضمرة حي من كنانة، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا، أي: لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه،»
ولمْ يُظاهِرُوا «لم يعامونا» عَليكُمْ أحَداً «من عدوكم،» فأتمُّوا إليهم عهدَهُم «الذي عاهدتموهم عليه، أي: أوفوقا بعهدهم:» إلى مُدتِهِم «إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه» إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ «أي: إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض، ونكث العهد، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث.
16
قوله :" فَسِيحُواْ ". قال ابنُ الأنباري :" هذا على إضمار القولِ، أي : قل لهم فسيحوا " ويكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطابِ، كقوله :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ﴾ [ الإنسان : ٢١-٢٢ ]، ويقال : سَاحَ يَسيحُ سِياحةً وسُيُوحاً وسَيحَاناً أي : انساب، لِسَيْح الماء في الأماكن المنبسطة، قال طرفة :[ السريع ]
لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَني حتَّى ترى خَيْلاً أمَامِي تَسِيحْ١
و " أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " ظرف ل " سِيحُوا "، وقرىء٢ " غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ " بنصب الجلالةِ على أنَّ النون حُذفتْ تخفيفاً، وقد تقدَّم تحريره.

فصل


المعنى : قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين :﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله ﴾ أي : غير فائتين ولا سابقين :﴿ وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين ﴾ أي : مذلهم بالقتال في الدُّنيا والعذاب في الآخرة.
واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، فقال الزهريُّ :" إن براءةَ نزلت في شوال، وهي أربعة أشهر : شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم "، والصَّواب الذي عليه الأكثرون : أنَّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر، ومن لم يكن له عهد، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوماً، وقيل : ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول ؛ لأنَّ الحجَّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النَّسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السَّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :
" ألا إنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَق اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْض " ٣.

فصل


اختلف العلماء في هذا التأجيل، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جماعة : هذا تأجيلٌ للمشركين، فمن كانت مدةُ عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر، ثمَّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله، فيقتل حيثُ يدرك ويؤسر إلاَّ أن يتوب.
وقال الكلبيُّ : إنما كانت الأربعةُ أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر، فأمَّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله :﴿ فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ ﴾.
قال الحسنُ " أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال مَنْ قاتله من المشركين، فقال :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٠ ] وكان لا يقاتلُ إلاَّ من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم، وأجلهم أربعة أشهر، فلم يكن لأحدٍ منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل " ٤.
والمقصود من هذا الإعلام أمور :
أولها : أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنَّه ليس لهم بعد هذه المدة إلاَّ أحد أمور ثلاثة :
إمَّا الإسلامُ أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام.
وثانيها : لئلاَّ ينسب المسلمون إلى نكث العهد.
وثالثها : أراد اللهُ أن يعمَّ جميع المشركين بالجهاد، فعمَّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصحُّ ذلك إلا بنقض العهود.
ورابعها : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في السَّنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلاَّ يشاهد العراة، وقيل : نزل هذا قبل تبوك.
وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكَّة. وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعةُ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عدتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسِّلاح فلمَّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، ونقضوا العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعيُّ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :[ الرجز ]
لا هُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداَ حِلْفَ أبينَا وأبيهِ الأَتْلَدَا
كنتَ لَنَا أباً وكُنَّا وَلَدَا ثُمَّتَ أسلَمْنَا ولمْ نَنْزِعْ يَدَا
فانصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا وادْعُ عِبَادَ اللهِ يأتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا فِي فَيْلقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبدَا
أبْيَضَ مثلَ الشَّمسِ يَسْمُو صَعدَا إن سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَربَّدَا
إنَّ قُريشاً أخلفُوكَ المَوْعِدَا ونَقَضُوا ميثاقَك المُؤكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بالهَجيرِ هُجَّدَا وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
وزعَمُوا أنْ لسْتَ تَدْعُو أحَدَا وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا٥
فقال رسُول الله " لا نُصِرتُ إنْ لَمْ أنصرْكم "، ثمَّ تجهَّز إلى مكة، ففتح مكَّة سنة ثمان من الهجرة، فلمَّا كانت سنة تسع أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحُجَّ، ثم قال : إنَّه يحضر المشركون، فيطوفون عراةً.
فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم، ليقيم للنَّاس الحجَّ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة " براءة " ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث عليّاً على ناقته العضباء ليقرأ على النَّاس " براءة " وأمره أن يؤذن بمكَّة، ومنى، وعرفة أن قد برئت ذمة الله، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلِّ مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنزل في شأني شيء ؟ قال : لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلاَّ رجل من أهلي، أما ترضى يا أبا بكر أنَّك كنت معي في الغار، وأنَّك صاحبي على الحوضِ ؟ قال : بَلَى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميراً على الحجِّ، وعليّ ليُؤذن ب " براءة " فلمَّا كان قبل التَّرْوية بيوم خطب أبو بكر النَّاس، وحدَُّهم عن مناسكهم، وأقام للنَّاس الحجَّ، والعرب في تلك السنةِ على منازلهم التي كانُوا عليها في الجاهلية من الحجِّ، حتَّى إذا كان يوم النَّحر، قام عليُّ بنُ أبي طالب فأذَّن في النَّاسِ بالذي أمر به، وقرأ عليهم سورة " براءة " ٦.
قال زيدُ بن يثيع : سألنا عليّاً بأي شيء بعثت في الحجِّ ؟ قال " بعثتُ بأربع : ألاَّ يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخلُ الجنَّة إلاَّ نفسَّ مؤمنةٌ، ولا يجتمعُ المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا ". ثمَّ حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع٧.
وكان السَّبب في بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليّاً، أنَّ العرب تعارفُوا فيما بينهم في العهود ونقضها ألاَّ يتولَّى ذلك إلا سيدهم، أو رجل من رهطه، فبعث عليّاً إزاحة للعلَّة، لئلاَّ يقولوا هذا خلاف ما نعرفه في نقض العهود.
والدليل على أنَّ أبا بكر كان هو الأمير، أنَّ عليّاً لمَّا لحقهُ قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : مأمور، ثم ساروا وقال أبو هريرة " بعثني أبو بكر في تلك الحجَّة في مؤذنين يوم النَّحْر، يؤذِّن بمنى ألاَّ يحجَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ".
قوله وأذانٌ. رفع بالابتداء، أي : أذان صادر، أو إعلام واصل، ومِنَ اللهِ إمَّا صفةً، أو متعلقٌ به، وإلى النَّاسِ الخبر، ويجوزُ أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ أي : وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به، كما تقدَّم في براءة.
قال أبو حيَّان٨ :" ولا وجه لقولِ من قال : إنه معطوف على " بَرَاءَةٌ "، كما لا يقال " عمرو " معطوف على " زيد " في : زيد قائم وعمرو قاعد ".
وقرأ الضحاك٩ وعكرمة وأبو المتوكل " وإذْن " بكسر الهمزة وسكون الذَّال، وقرأ العامَّةُ " أنَّ الله " بفتح الهمزة على أحد وجهين، إمَّا كونه خبراً ل " أذانٌ "، أي : الإعلامُ من اللهِ براءة من المشركين. وضعَّف أبو حيان هذا الوجه، ولم يذكر تضعيفه. وإمَّا على حذف حرفِ الجرِّ، أي : بأنَّ الله، ويتعلَّقُ هذا الجارَّ إمَّا بنفس المصدر، وإمَّا بمحذُوفٍ على أنه صفة ويَوْمَ منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله إلى النَّاسِ. وزعم بعضهم أنَّه منصوبٌ ب " أذَانٌ " وهو فاسدٌ من وجهين :
أحدهما : وصفُ المصدر قبل عمله.
الثاني : الفَصْلُ بينه وبين معموله بأجنبي، وهو الخبرُ، وقرأ١٠ الحسنُ والأعرج بكسر الهمزة وفيه المذهبان المشهوران، مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ الأذانِ مُجْرَى القول.

فصل


والأذانُ : الإعلامُ، قال الأزهري١١ :" آذنْتُه إيذاناً. فالأذانُ يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي " ومنه : أذان الصَّلاة، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام للاّتي غسَّلن ابنته زينب :" فإذا فَرغتن فآذنَّني١٢ " أي : أعلمنني، فلمَّا فرغنا آذنَّاهُ، أي : أعلمناه، والأذانُ معروفٌ.
ونقل النووي في " التهذيب " عن الهرويِّ قال : ويقال فيه الأذان، والأذين، والإيذان قال : وقال شيخي : الأذينُ هوالمؤذن المعلم بأوقات الصلوات " فعيل " بمعنى " مفعل " [ وقوله عليه السلام :" ما أذِن الله كأذنه١٣ " بكسر الذال منه، وقوله :" كأذَنِهِ " بفتح الذال، والأذن بضم الذال وسكونها : أذن الحيوان، مؤنثة، وتصغيرها : أذينة. و " إذن " في قوله عليه السلام :" فلا إذن " حرف مكافأة وجواب، يكتب بالنون، وإذا وقفت على " إذن " قلت كما تقول : رأيت زيداً. قال الجوهري ]١٤.
قوله :" مِنَ المُشركِينَ " متعلقٌ بنفس " بَرِيءٌ "، ما يقال : بَرئْتُ منه، وهذا بخلاف قوله :﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله ﴾ [ التوبة : ١ ] فإنَّها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكون صفة ل " بَراءَةٌ ".
قوله ورسُولُهُ الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي : ورسوله بريءٌ منهم، وإنَّما حذف، للدلالةِ عليه.
والثاني : أنه معطوفٌ على الضمير المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصل المسوِّغ للعطف، فرفعه على هذا بالفاعلية والتقدير : برئ الله ورسوله [ من المشركين ]١٥.
الثالث : أنه معطوف على محلِّ اسم " أنَّ " وهذا عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياساً على المكسورةِ، قال ابنُ عطيَّة١٦ " ومذهبُ الأستاذ - يعني ابن البَاذشِ - على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه [ " أنَّ " إذ هو معربٌ، قد ظهر فيه عمل العامل، وأنه لا فرق بين " أنَّ " وبين " لَيْتَ " والإجماعُ على أن لا موضع لما دخلتْ عليه ]١٧ هذه ".
قال أبو حيَّان :" وفيه تعقُّبٌ ؛ لأنَّ كون " أنَّ " لا موضع لما دخلتْ عليه ليس ظهور عمل العامل بدليل " لَيْسَ زيد بقائم " وما في الدَّار من رجل، فإنه ظهر عمل العامل ولهما موضع وقوله :" بالإجماع " يريد أنَّ " ليت " لا موضع لما دخلت عليه بالإجماع، وليس كذلك ؛ لأن الفراء خالف
١ البيت ليس في ديوان طرفة وهو له ينظر: القرطبي ٨/٦٤ البحر المحيط ٥/٨ روح المعاني ١٠/٤٣، حاشية الشهاب ٤/٢٩٧ الدر المصون ٣/٤٤٠..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٤٤١..
٣ أخرجه أحمد (٥/٣٧) والبخاري (٨/١٧٥) كتاب التفسير: باب إن عدة الشهور عند الله.....
حديث (٤٦٦٢) ومسلم (٣/٣١٠٥) كتاب القسامة: باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال حديث (٢٩/١٦٧٩) من حديث أبي بكرة..

٤ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٥/١٧٥)..
٥ تنظر هذه الأبيات وهي لعمرو بن سالم الخزاعي في الاستيعاب لابن عبد البر ٤/٢٣١ أيام العرب في الجاهلية (٩٧) السيرة لابن هشام ٤/٣٠٠ والدر المنثور للسيوطي ٣/٢١٥ والآلوسي في روح المعاني ١٠/٤٤..
٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٦٦-٢٦٧) عن ابن إسحاق ومجاهد..
٧ أخرجه الترمذي (٥/٢٥٧) كتاب التفسير: باب سورة الأنفال رقم (٣٠٩٢) والحاكم (٣/٥٢).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٧٩) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والنحاس وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل"..

٨ ينظر: البحر المحيط ٥/٩..
٩ ينظر: البحر المحيط ٥/٨، الدر المصون ٣/٤٤١..
١٠ ينظر: المصدر السابق..
١١ ينظر: تهذيب اللغة ١٥/١٦..
١٢ أخرجه البخاري (٣/١٥٧) كتاب الجنائز: باب هل تكفن المرأة في إزار الرجل حديث (١٢٥٧، ١٢٥٨، ١٢٥٩) ومسلم (٢/٦٤٦-٦٤٧) باب في غسل الميت (٣٦/٩٣٩) وأبو داود (٢/٦٠-٦١) والنسائي (١/٢٦٦-٢٦٧) والترمذي (٢/١٣٠-١٣١) وابن ماجه (١/٤٤٥) وأحمد (٥/٨٤-٨٥) من حديث أم عطية.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح..

١٣ أخرجه البخاري ١٣/٥١٨ كتاب التوحيد: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن.......(٢٥٤٤)، ومسلم ١/٥٤٥ كتاب صلاة المسافرين باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (٢٣٣-٧٩٢)..
١٤ سقط في ب..
١٥ سقط في أ..
١٦ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٧..
١٧ سقط في ب..
وقوله :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر ﴾ جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى، وهي عامة في حق جميع النَّاسِ ؛ لأنَّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك، من حيثُ إنَّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً، فيجبُ على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباحُ فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم، ليصل ذلك الخبر إلى الكل، فيشتهر. وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ الله ﴾.

فصل


اختلفوا في يوم الحجِّ الأكبر، فقال ابن عباس في رواية عكرمة " إنَّه يومُ عرفةَ " وهو قول عُمر، وسعيد بن المسيب، وابن الزبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وإحدى الروايتين عن علي١، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيَّة عرفة، فقال :" أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر " لأنَّ معظم أفعال الحج فيه٢، وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف يوم النَّحر عند الجمرات، وقال :" هذا يومُ الحج الأكبر " وقال عليه الصلاة والسلام " الحج عرفةُ٣ " ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة ؛ لأنَّ من أدركه، فقد أدرك الحجَّ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر : يوم النحر٤، وهو قول النخعيّ، والشعبيّ، والسديّ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير.
وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها٥، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ، وكان يقول : يوم الحجِّ الأكبر : أيامه كلها، كما يقال : يوم صفين، ويوم الجمل، ويراد به الحين والزمان.
وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر، فإن قلنا : إنَّه يوم عرفة ؛ فلأنه أعظم واجباته، ومن فاته الحجُّ، وكذلك إن قلنا : إنَّه يوم النحر، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه، وقال الحسنُ : سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيدُ الكفَّارِ فيه سخط. وهذا الطَّعن ضعيفٌ ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف، فلذلك وصف بالأكبر.
وقيل سُمِّي بذلك ؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة، وقيل : الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر، قاله مجاهدٌ، ونقل عن مجاهدٍ : الأكبر القرانُ، والأصغر الإفراد٦، فإن قيل : قوله :﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين ﴾ وقوله ﴿ أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ ﴾ لا فرق بينهما، فما فائدة هذا التكرار ؟
فالجواب من وجوه :
الأولُ : أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد، ومن الثاني : البراءة التي هي نقيض الموالاة، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم، وفي الثانية برئ منهم.
الثاني : أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.
قوله " فإن تُبْتُمْ " عن الشكر، وأخلصتم التَّوحيدَ :﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أعرضتم عن الإيمان ﴿ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله ﴾ وذلك وعيد عظيم.
ثم قال ﴿ وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ في الآخرة، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشَّتم.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣١٠-٣١١) عن عمر وعلي وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي جحيفة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٢) عن عمر بن الخطاب وزاد نسبته إلى ابن سعد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في تفسيره (٢/٢٦٨) عن ابن عباس وعمر وابن الزبير وقال: وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب..

٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٢) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن المسور بن مخرمة..
٣ تقدم..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣١١-٣١٢) عن علي وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير وأبي جحيفة والشعبي والنخعي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨١) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.
وذكره عن أبي جحيفة وعزاه لابن أبي شيبة.
وعن عبد الله بن أبي أوفى وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبي الشيخ.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٦٨) عن علي وعبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وقال: وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي..

٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣١٦) وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٦٨) عن مجاهد..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣١٧) وذكره البغوي في "تفسيره" (٢٦٨)..
قوله ﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ﴾ في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه استثناءٌ منقطعٌ، والتقديرُ : لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم، وإلى هذا نحا الزَّمخشري١، فإنه قال :" فإن قلت : ممَّا استثنى قوله :" إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم " ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله :" فسيحُوا في الأرضِ " ؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم : سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين، ولكن الذين لم ينكثوا، فأتمُّوا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
الثاني : أنَّه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة، تقديره : اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم، وفيه ضعفٌ ؛ قاله الزَّجَّاجُ، فإنَّه قال :" إنَّه عائد إلى قوله :" براءةٌ " والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد ".
الثالث : أنَّه مبتدأ، والخبر قوله :" فأتمُّوا إليهِمْ " قاله أبو البقاءِ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط ؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً، والأولى أنَّهُ منقطعٌ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.
قوله ﴿ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ﴾ الجمهور " يَنقصُوكُم " بالصَّاد المهملة، وهو يتعدَّى لواحدٍ، ولاثنين، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف " كُمْ " مفعولٌ أول، و " شَيْئاً " إمَّا مفعول ثان، وإمَّا مصدرٌ، أي : شيئاً من النقصان، أو : لا قليلاً، ولا كثيراً من النقصان.
وقرأ عطاءُ بن السائب٢ الكوفي وعكرمة، وابن السَّمَيْفع، وأبو زيد " يَنقُضُوكم " بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف، أي : ينقضُوا عهدكم، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه.
قال الكرمانيُّ :" وهي مناسبة لذكر العهد ". أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهد، وهي قريبة من قراءة العامَّة، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام.

فصل


ومعنى قوله :﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ﴾ وهم بنو ضمرة حي من كنانة، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا، أي : لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه، " ولمْ يُظاهِرُوا " لم يعاونوا " عَليكُمْ أحَداً " من عدوكم، " فأتمُّوا إليهم عهدَهُم " الذي عاهدتموهم عليه، أي : أوفوقا بعهدهم :" إلى مُدتِهِم " إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه " إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ " أي : إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض، ونكث العهد، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث.
١ ينظر: الكشاف ٢/٢٤٥..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٧، البحر المحيط ٥/١١، الدرالمصون ٣/٤٤٣..
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾ الآية.
قال الليثُ «يقال سلختُ الشهر: إذا خرجت منه». و «الانسلاخُ» هنا من أحسن الاستعارات، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم، فقال: «يقال: أهْللنا شهر كذا، أي: دخلنا فيه، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ» ؛ وأنشد: [الطويل]
16
والألف واللام في «الأشهر» يجوز أن تكون للعهد، والمراد بها: الأشهرُ المتقدمة في قوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢]، والعربُ إذا ذكرت نكرة، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب «أل»، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل: «رأيت رجلاً، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل» لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز، كقولك: فأكرمت الرجل المذكور، ومنه هذه الآية، فإنَّ «الأشهر» قد وصفت ب «الحُرُم»، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة، فلا تكون «أل» للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين.
قالوا: المرادُ بالأشهر الحرم: الأربعة، رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وقال مجاهدٌ وابن إسحاق: «هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً».
وقيل لها حرم: لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم.
فإن قيل: هذا القدر بعض الأشهر الحرم، واللهُ تعالى يقول: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾. قيل: لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه: مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم.
قوله ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾.
اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء:
أولها: قوله: ﴿فاقتلوا المشركين﴾ أي: على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ.
وثانيها: «وَخُذُوهُمْ» أي: أسروهم.
وثالثها: «واحصروهم» والحصر: المنع، أي: امنعوهم من الخروج إن تحصنوا، قاله ابن عباس.
وقال الفرَّاءُ «امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام».
ورابعها: قوله ﴿واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾. في انتصاب «كل» وجهان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف المكاني.
قال الزجاج «نحو: ذهبت مذهباً». وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة؛ في نحو: صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس،
17
وبعضها يسمع، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة: [الكامل]
٢٧٤٤ - إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي
٢٧٤٥ - لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً، لا على الظرف، لأنه ظرف مكان مختص.
قال أبو حيَّان «إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى» واقعُدُوا «لا يراد به حقيقةُ القعود، وإنما يراد: ارصدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة، ومتى أتفقا في المادة لفظاً، أو معنًى، وصل إليه بنفسه، تقول: جلست مجلس القاضي، وقعدت مجلس القاضي، والآيةُ من هذا القبيل».
والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو «على»، أي: على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ، وجعله مثل قول الآخر: [الطويل]
٢٧٤٦ - تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي
وهذا لا ينقاس، بل يقتصر فيه على السَّماع، كقوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ﴾ [الأعراف: ١٦]، أي: على صراطك، اتفق الكل على تقدير «على»، وقال بعضهم: هو على تقدير الباء، أي: بكل مرصد، نقله أبو البقاء، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى «في» فينبغي أن تقدَّر «في» لأنَّ المعنى عليها؛ وجعله نظير قول الشاعر: [الوافر]
٢٧٤٧ - نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَاسِياً أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ
والمِرْصَادُ: المكانُ المختص بالترصُّد، والمرصد: يقع على الرَّاصد، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على «المرصُودِ». وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ [الجن: ٢٧] يحتمل كلَّ ذلك؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ.
18
ومعنى الآية: اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ: الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد: كونُوا لهم رصداً، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا.
قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ أي: دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم، ويدخلوا مكَّة «إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ» لمن تاب «رَحيمٌ» به.
واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد الثلاثة، فإباحة الدَّم بحالها.
قال الحسينُ بن الفضلِ: «هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء».
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ﴾ الآية.
روى ابن عباس: أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى، فهل نقتل؟ فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «لا» لأنَّ الله قال: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ﴾ أي: فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ.
فتقرير النظم: أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إمَّا بالإسلام، وإمَّا بالقتل، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة، أو طالباً لاستماع القرآن، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله.
قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ﴾ كقوله ﴿إِن امرؤ هَلَكَ﴾ [النساء: ١٧٦] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور.
قال ابنُ الخطيب: «أَحَدٌ» مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ، وتقديره: «وإن استجارك أحد، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء، لأنَّ» إنْ «من عوامل الفعل لا تدخل على غيره». قوله «حتَّى يسمَعَ» يجوز أن تكون هنا للغاية، وأن تكون للتَّعليلِ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله «فَأجِرهُ»، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق «حتَّى» بقوله «استجاركَ»، أو بقوله «فأجرهُ» إذ يجوز تقديره: وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ، حتَّى
19
يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع، وأعملنا الأوَّل مثلاً، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ «حتَّى» تجرُّ المضمر، و «حتَّى» لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله: [الوافر]
٢٧٤٩ - فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه، ويكون كقولك: فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ، أي: فرحْتُ به، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني، وقوله: «كَلاَمَ الله» من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ، و «مَأْمنَهُ» يجوزُ أن يكون مكاناً، أي: مكان أمنه، وأن يكون مصدراً، أي: ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ.

فصل في المراد من الآية


معنى الآية: وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي: استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم، ليسمع كلام الله «فأجرهُ»، وأمنه «حتَّى يسمع كلام الله» فيما له وعليه من الثواب والعقاب. «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» أي: إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه، وهو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك، وقدرت عليه فاقتله.
«ذلك
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ»
، لا يعلمون دين الله وتوحيده، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله.
قال الحسنُ «هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة».

فصل


قالت المعتزلةُ: هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ، والمؤمنُ، والزنديقُ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، ثمَّ من المعلوم بالضرورة، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف، إمَّا أن يكون معاً، أو على الترتيب، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب، فلو حصلت معاً، لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام، وإن حصلت متعاقبةً؛ لزم أن ينقضي المتقدم، ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم: إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ؛
20
لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله ﴿كَلاَمَ الله﴾ [التوبة: ٦] إلا إلى هذه الحروف والأصوات.
وقال آخرون: ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام الله قديمٌ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات.
وقال ابنُ فورك: «إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى». وأنكروا عليه هذا القول؛ لأنَّ الكلام القديم، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها.
والأول قول الزجاج، وهو باطلٌ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء.
والثاني باطلٌ، لأنَّا على هذا التقدير، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها، فسقط هذا الكلام.
والجواب عن كلام المعتزلة: أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم؛ لأنَّ كلام الله، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً، بل تلك الحروف والأصوات انقضت، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.

فصل


قال الفقهاءُ: إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ، كان مَغْنُوماً مع ماله، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون، فأمانهما شبهة أمان؛ فيجب تبليغه مأمنه، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً، فالرسالة أمانٌ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام، ولماله أمان، فأمان ماله أمان له.
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ الآية.
في خبر «يكون» ثلاثةُ أوجهٍ:
أظهرها: أنَّهُ «كيف»، و «عَهْدٌ» اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام، وهو الاستفهامُ، بمعنى الاستنكار، كقولك: كيف يُسْتفتَى مثلك؟ أي: لا ينبغي أن يستفتى.
و «للمشركين» على هذا يتعلق إمَّا ب «يكُونُ»، عند من يجيزُ في «كانَ» أن تعمل في الظَّرف وشبهه، وإمَّا بمحذوفٍ، على أنَّها صفةٌ ل «عَهْدٌ»، في الأصلِ، فلمَّا قُدِّمتْ
21
نصبت حالاً، و «عِند» يجوز أن تكون متعلقةً ب «يكون» أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «عَهْدٌ» أو متعلقة بنفس «عَهْدٌ» لأنه مصدرٌ.
والثاني: أن يكون الخبرُ «للمشركين»، و «عند» على هذا فيها الأوجه المتقدمة، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به «للمُشركين».
والثالث: أن يكون الخبرُ «عِندَ اللهِ»، و «للمُشركينَ» على هذا إمَّا تبيين، وإمَّا متعلقٌ ب «يكون» عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من «عَهْدٌ». وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ، «كَيْفَ» على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ، أو بالحال، كما تقدَّم تحقيقه في: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨].
ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً، بمعنى: كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب «إلاَّ» ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله:
٢٧٥٠ - فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ كثيرٌ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ
أي: ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ، وفي الآية محذوفٌ تقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام﴾ في الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنَّهُ منقطعٌ، أي: لكن الذين عاهدتم، فإنَّ حكمهم كيت وكيت.
والثاني: أنَّهُ متَّصلٌ، وفيه حينئذٍ احتمالان:
أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ.
والثاني: أنه مجرورٌ على البدل منهم؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ، أي: ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ من قوله «فَمَا استقاموا» خبره.

فصل


معنى الآية: أي: لا يكون لهم عهد عند الله، ولا عند رسوله وهم يغدرون، وينقضون العهد، ثم استثنى فقال: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام﴾.
قال ابنُ عباسٍ: «هُمْ قُريْش».
22
وقال قتادة «هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الحُديبيةِ».
قال تعالى: ﴿فَمَا استقاموا لَكُمْ﴾ أي: على العهد ﴿فاستقيموا لَهُمْ﴾ [يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا] ونقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
وقال السدي والكلبي وابن إسحاق: إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ، وبنو مدلج من ضمرة، وبنو الديل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش، وبنو الديل من بكرٍ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة، وهذا القول أقرب إلى الصواب؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى: ﴿فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ﴾.
وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ [التوبة: ٤] كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة، وهم حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله «فَمَا استقاموا» يجوزُ في «ما» أن تكون مصدرية ظرفيةً، وهي محلِّ نصب على ذلك أي: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، ويجوزُ أن تكون شرطيةً، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني، والتقدير: أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ [فاطر: ٢].
والثاني: أنها في محلِّ رفع بالابتداء، وفي الخبر الأقوال المشهورة، و «فاستقيمُوا لهُم» جواب الشرط، وقد نحا إليه الحوفيُّ، ويحتاجُ إلى حذف عائد، أي: أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في «ما» المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة، وأنشد على ذلك: [الطويل]
٢٧٥١ - فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا
ولا دليل فيه، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ.
قال أبُو البقاءِ: «ولا يجوز أن تكون نافيةً، لفساد المعنى، إذ يصير المعنى
23
استقيموا لهم؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم». ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ أي: من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده.
24
قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ ﴾ الآية.
روى ابن عباس : أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى، فهل نقتل ؟ فقال عليٌّ - رضي الله عنه - :" لا " لأنَّ الله قال :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ ﴾ أي : فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ١.
فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إمَّا بالإسلام، وإمَّا بالقتل، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة، أو طالباً لاستماع القرآن، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله.
قوله :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ ﴾ كقوله ﴿ إِن امرؤ هَلَكَ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور.
قال ابنُ الخطيب٢ :" أَحَدٌ " مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ، وتقديره :" وإن استجارك أحد، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء، لأنَّ " إنْ " من عوامل الفعل لا تدخل على غيره ". قوله " حتَّى يسمَعَ " يجوز أن تكون هنا للغاية، وأن تكون للتَّعليلِ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله " فَأجِرهُ "، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا ؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق " حتَّى " بقوله " استجاركَ "، أو بقوله " فأجرهُ " إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ، حتَّى يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع، وأعملنا الأوَّل مثلاً، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ " حتَّى " تجرُّ المضمر، و " حتَّى " لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله :[ الوافر ]
فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ٣
وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر ؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه، ويكون كقولك : فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ، أي : فرحْتُ به، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني، وقوله :" كَلاَمَ الله " من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ، و " مَأْمنَهُ " يجوزُ أن يكون مكاناً، أي : مكان أمنه، وأن يكون مصدراً، أي : ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ.

فصل في المراد من الآية


معنى الآية : وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم، ليسمع كلام الله " فأجرهُ "، وأمنه " حتَّى يسمع كلام الله " فيما له وعليه من الثواب والعقاب. " ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ " أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه، وهو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك، وقدرت عليه فاقتله. " ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ "، لا يعلمون دين الله وتوحيده، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله.
قال الحسنُ " هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة " ٤.

فصل


قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ، والمؤمنُ، والزنديقُ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، ثمَّ من المعلوم بالضرورة، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف، إمَّا أن يكون معاً، أو على الترتيب، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم ؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب، فلو حصلت معاً، لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام، وإن حصلت متعاقبةً ؛ لزم أن ينقضي المتقدم، ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم : إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ ؛ لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله ﴿ كَلاَمَ الله ﴾ [ التوبة : ٦ ] إلا إلى هذه الحروف والأصوات.
وقال آخرون : ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام الله قديمٌ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات.
وقال ابنُ فورك :" إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى ". وأنكروا عليه هذا القول ؛ لأنَّ الكلام القديم، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها.
والأول قول الزجاج، وهو باطلٌ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء.
والثاني باطلٌ، لأنَّا على هذا التقدير، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها، فسقط هذا الكلام.
والجواب عن كلام المعتزلة : أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم ؛ لأنَّ كلام الله، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً، بل تلك الحروف والأصوات انقضت، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.

فصل


قال الفقهاءُ : إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ، كان مَغْنُوماً مع ماله، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون، فأمانهما شبهة أمان ؛ فيجب تبليغه مأمنه، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً، فالرسالة أمانٌ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام، ولماله أمان، فأمان ماله أمان له.
١ انظر تفسير الرازي (١٥/١٨١)..
٢ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٥/١٨١..
٣ ينظر البيت في الخزانة (٩/٤٧٤) المقرب ١/١٩٤ الجنى الداني (٥٤٤) العيني ٣/٢٦٥ الأشموني ٢/٢١٠ رصف المباني (١٨٥) شرح الرضي ٢/٢٦، الدرر ٢/١١٦ الهمع ٢/٢٣، الدر المصون ٣/٤٤٤..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٠)..
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ ﴾ الآية.
في خبر " يكون " ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أنَّهُ " كيف "، و " عَهْدٌ " اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام، وهو الاستفهامُ، بمعنى الاستنكار، كقولك : كيف يُسْتفتَى مثلك ؟ أي : لا ينبغي أن يستفتى.
و " للمشركين " على هذا يتعلق إمَّا ب " يكُونُ "، عند من يجيزُ في " كانَ " أن تعمل في الظَّرف وشبهه، وإمَّا بمحذوفٍ، على أنَّها صفةٌ ل " عَهْدٌ "، في الأصلِ، فلمَّا قُدِّمتْ نصبت حالاً، و " عِند " يجوز أن تكون متعلقةً ب " يكون " أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل " عَهْدٌ " أو متعلقة بنفس " عَهْدٌ " لأنه مصدرٌ.
والثاني : أن يكون الخبرُ " للمشركين "، و " عند " على هذا فيها الأوجه المتقدمة، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به " للمُشركين ".
والثالث : أن يكون الخبرُ " عِندَ اللهِ "، و " للمُشركينَ " على هذا إمَّا تبيين، وإمَّا متعلقٌ ب " يكون " عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من " عَهْدٌ ". وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ، " كَيْفَ " على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ، أو بالحال، كما تقدَّم تحقيقه في :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ].
ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً، بمعنى : كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب " إلاَّ " ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله :
فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ كثيرٌ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ١
أي : ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ، وفي الآية محذوفٌ تقديره : كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد.
قوله :﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام ﴾ في الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنَّهُ منقطعٌ، أي : لكن الذين عاهدتم، فإنَّ حكمهم كيت وكيت.
والثاني : أنَّهُ متَّصلٌ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ.
والثاني : أنه مجرورٌ على البدل منهم ؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ، أي : ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ من قوله " فَمَا استقاموا " خبره.

فصل


معنى الآية : أي : لا يكون لهم عهد عند الله، ولا عند رسوله وهم يغدرون، وينقضون العهد، ثم استثنى فقال :﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام ﴾.
قال ابنُ عباسٍ :" هُمْ قُريْش " ٢.
وقال قتادة " هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبيةِ " ٣.
قال تعالى :﴿ فَمَا استقاموا لَكُمْ ﴾ أي : على العهد ﴿ فاستقيموا لَهُمْ ﴾ [ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ] ونقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
وقال السدي والكلبي وابن إسحاق : إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ، وبنو مدلج من ضمرة، وبنو الديل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش، وبنو الديل من بكرٍ ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة، وهذا القول أقرب إلى الصواب ؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة ؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى :﴿ فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ ﴾.
وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم :﴿ إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ﴾ [ التوبة : ٤ ] كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة، وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم٤.
قوله " فَمَا استقاموا " يجوزُ في " ما " أن تكون مصدرية ظرفيةً، وهي محلِّ نصب على ذلك أي : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، ويجوزُ أن تكون شرطيةً، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني، والتقدير : أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله :﴿ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ﴾ [ فاطر : ٢ ].
والثاني : أنها في محلِّ رفع بالابتداء، وفي الخبر الأقوال المشهورة، و " فاستقيمُوا لهُم " جواب الشرط، وقد نحا إليه الحوفيُّ، ويحتاجُ إلى حذف عائد، أي : أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في " ما " المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة، وأنشد على ذلك :[ الطويل ]
فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا٥
ولا دليل فيه، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ.
قال أبُو البقاءِ٦ :" ولا يجوز أن تكون نافيةً، لفساد المعنى، إذ يصير المعنى استقيموا لهم ؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم ". ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين ﴾ أي : من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده.
١ تقدم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٢٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٦) وعزاه إلى ابن المنذر وأبي الشيخ وذكره السيوطي (٣/٣٨٦) عن ابن زيد وعزاه لابن حاتم..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٢٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٠)..
٥ البيت لعبد الله بن الزبير الأسدي ينظر: الأشموني ٤/١٢ الدر المصون ٣/٤٤٦..
٦ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/١٢..
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ الآية.
المستفهمُ عند محذوفٌ، لدلالة المعنى عليه، فقدَّره أبو البقاءِ «كيف تَطْمئنون، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ» ؟ وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم؟. والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقْوى.
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً، وتقدَّم منه قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٥]، ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ [النساء: ٤١] ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٢٧٥٢ - وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ
أي: كيف مات؟ وقال الحطيئةُ: [الطويل]
٢٧٥٣ - فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا
أي: كيف تلومونني في مدحهم؟
قال أبُو حيَّان: «وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد» كيف «بقوله:» كيف تطمئنون «، وقدَّره غيره ب» كيف لا تقاتلونهم «؟.
قال شهابُ الدِّين:»
ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده، بل به، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه «.
قوله»
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا «» كيف «تكرار، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد، وحذف الفعل، لكونه معلوماً، أي: كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم
24
بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم. والجملة الشرطية من قوله:» إِن يَظْهَرُوا «في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله: ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ [الأعراف: ١٦٩]، و» لا يرْقُبوا «جوابُ الشرط، وقرأ زيد بن علي:» وإن يُظهَرُوا «ببنائه للمفعول، من أظهره عليه، أي: جعله غالباً له، يقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه.
قال اللَّيْثُ:»
الظُّهور: الظَّفر بالشَّيء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين، أي: أعلاهُم عليهم «. قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤] وقوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] أي: ليعليه.
قوله:»
لاَ يَرْقُبُواْ «قال الليثُ» رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً، هو أن ينتظره «.
والمعنى: لا ينتظروا، قاله الضحاكُ، ورقيب القوم: حارسهم، وقوله: ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: ٩٤] أي: لم تحفظه.
وقال قطربٌ:»
لا يراعوا فيكم إلاَّ «. قوله:» إلاًّ «مفعولُ به ب» يَرْقُبُوا «. وفي» الإِلِّ «أقوالٌ».
أحدها: أنَّ المراد به العهد، قاله أبو عبيدة، وابن زيد، والسديُّ وكذلك الذمة، إلاَّ أنه كرر، لاختلاف اللفظين؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
٢٧٥٤ - لَوْلاَ بنُو مالكٍ، والإِلُّ مَرْقبةٌ ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي: الحِلْف؛ وقال آخر: [المتقارب]
٢٧٥٥ - وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر: [الرمل]
٢٧٥٦ - أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع: «وفيُّ الإلِّ، كريمُ الخِلِّ، بَرُودُ الظِّلِّ» أي؛ وفَيُّ العهد.
25
الثاني: أنه القرابةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ والضحاك، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان: [الوافر]
٢٧٥٧ - لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله: [الرمل]
٢٧٥٨ -............................ قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
والظَّاهر أنَّ المراد به العهد - كما تقدَّم - لئلاَّ يلزم التكرار.
الثالث: أنَّ المراد به الله - تعالى - أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة - لعنه الله - «إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ»، أي: الله - عَزَّ وَجَلَّ - قاله أبو مجْلزٍ، ومجاهد وقال عبيد بن عمير: يُقرأ جِبْرَئل بالتشديد، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج، قال: «لأنَّ أسماءه - تعالى - معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ - ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ، افعلْ لي كذا».
الرابع: أنَّ: «الإلَّ» الجُؤار، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا، وتحالفوا، جأرُوا بذلك جُؤاراً. ومنه قول أبي جهل: [الطويل]
٢٧٥٩ - لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ
الخامس: أنه من: ألَّ البرقُ، أي: لَمَعَ.
قال الأزهريُّ: «الأليل: البريق، يقال: ألَّ يؤلُّ، أي: صَفَا ولَمَعَ»، ومنه الألَّة، للمعانها.
وقيل: الإلّ من التحديد، ومنه «الألَّةٌ» الحَرْبة، وذلك لحدَّتها، وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدراً مشتركاً، يرجعُ إليه جميعُ ما تقدَّم، فقال الزَّجَّاجُ: «حقيقةُ الإلِّ عندي على ما تُوحيه اللغة: التحديد للشيء، فمن ذلك الألَّةُ: الحَرْبَةُ، وأذنٌ مُؤلَّلَة، فالإلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد، والقرابةِ، والجُؤارعلى هذا، فإذا قلت في
26
العهد: بينهما إلٌّ، فتأويلُه أنَّهُمَا قد حَدَّدَا في أخْذ العهود، وكذلك في الجُؤار والقرابة».
وقال الرَّاغبُ: «الإِلُّ» كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ، وحِلْفٍ، وقرابة تَئِلُّ، أي: تَلْمَعُ، وألَّ الفرسُ: أسرع. والألَّةُ: الحرْبَةُ اللاَّمعة «وأنشد غيرُهُ على ذلك قول حماس بن قيسٍ يوم فتح» مكَّة «: [الرجز]
٢٧٦٠ - إنْ تَقْتلُوا اليوْمَ فَمَا لِي عِلَّه... سِوَى سِلاحٍ كاملٍ وألَّه... وذِي غِرَارَيْنِ سَريعِ السَّلَّه... قال: وقيل: الإلُّ والإيلُ: اسماه لله - تعالى -، وليس ذلك بصحيحٍ.
قال الأزهريُّ»
«إيل» من أسماء الله بالعبرانية؛ فجاز أن يكون عُرِّب، فقيل: «إلّ» والأللان: صفحتا السكّين «. انتهى، ويجمع الإلُّ في القلَّة على آلِّ، والأصل:» أألُل «بزنة» أفْلُس «، فأبدلت الهمزةُ الثانية ألفاً، لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأدغمت اللاَّمُ في اللام، وفي الكثرة على» إلالٍ «ك» ذِئْب وذِئَاب «.
و «الألُّ»
بالفتح: قيل: شدَّة القنوط. قال الهرويُّ في الحديث: «عجب ربكم من ألِّكُم وقُنوطكم». قال أبو عبيدة: المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتَحُها، وهو أشبَهُ بالمصادرِ، كأنَّه أرادَ: من شدَّة قنوطكم، ويجوزُ أن يكون من رفع الصَّوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ، وأللاً، وألِيلاً، إذا رفع صوته بالبكاء، ومنه يقال له: الويل والألِيل؛ ومنه قول الكميت: [البسيط]
٢٧٦١ - وأنتَ مَا أنتَ فِي غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الكَاعِبُ الفُضُلُ
انتهى.
وقرأ فرقة «ألاَّ» بالفتح، وهو على ما ذكر من كونه مصدراً، من «ألَّ يَؤلُّ إذا عاهد. وقرأ عكرمة:» إيلاً «بكسر الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه اسمُ الله تعالى، ويُؤيِّده ما تقدم في: ﴿لِّجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧]، و ﴿إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٤٠] أنَّ المعنى: عبدُ اللهِ.
الثاني: يجوزُ أن يكون مشتقاً مِن: آل يَؤُولُ: إذا صَارَ إلى آخر الأمر، أو من: آل
27
يؤولُ: إذا سَاسَ، قاله ابنُ جني، أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة، وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقُلبتء ياءً، ك:» ريح «.
الثالث: أنه هو»
الإِلُّ «المضعف، وإنَّما اسْتُثقل التَّضعيفُ، فأبدل إحداهما حرف علةٍ، كقولهم: أمْلَيْتُ الكتاب، وأمْلَلْتُه.
وقال الشاعر: [البسيط]
٢٧٦٢ - يَا لَيْتَمَا أمَّنَا شالتْ نَعامتُهَا أيْمَا إلى جنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ
قوله:»
وَلاَ ذِمَّةً «الذِّمَّة قيل: العَهْد، فيكون ممَّا كُرِّرَ لاختلافِ لفظه، إذا قلنا: إنَّ الإلَّ العهدُ أيضاً، فهو كقوله تعالى: ﴿صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: ١٥٧]، وقوله: [الوافر]
٢٧٦٣ -............................. وألْقَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
وقوله: [الطويل]
٢٧٦٤ -............................ وهندٌ أتَى من دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي، أي: في ضماني، وبه سُمِّي أهل الذِّمَّة، لدخولهم في ضمانِ المسلمين. ويقال: له عليَّ ذمَّةٌ، وذِمام ومذمَّة، وهي الذمُّ قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحارث: [الطويل]
٢٧٦٥ - يُصَيِّحُ بالأسْحَارِ في كلِّ صارةٍ كمَا نَاشَدَ الذَّمَّ الكَفيلَ المُعَاهِدُ
وقال الرَّاغِبُ»
الذِّمامُ: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته من عهدٍ، وكذلك الذِّمَّة، والمَذمَّة والمِذمة، يعني بالفتح والكسر. وقيل: لي مَذَمَّةٌ فلا تهتكها «وقال غيره:» سُمِّيَتْ ذِمَّة، لأنَّ كُلَّ حُرْمة يلزمك من تضييعها الذَّمُّ، يقال لها: ذِمَّة، وتجمع على «ذِمِّ»، كقوله: [الطويل]
٢٧٦٦ -............................. كَمَا نَاشَدَ الذَّمِّ....................
وعلى ذممٍ، وذِمَامٍ «. وقال أبو زيد:» مَذِمَّة، بالكسْرِ من الذِّمام، وبالفتح من الذَّمِّ «.
28
وقال الأزهري:» الذِّمَّة: الأمان «. وفي الحديث:» ويسعى بذمَّتِهم أدْناهُمْ «.
قال أبو عبيد:»
الذِّمَّة: الأمانُ ههنا، يقول إذا أعطى أدنى الناسُ أماناً لكافر نفذَ عليهم، ولذلك أجاز عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أمان عبدٍ على جميع العسكر «.
وقال الأصمعي «الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحفظَ ويُحْمَى»
.
قوله: «يُرْضُونَكُم» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أنَّ حالهم كذلك.
والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «لاَ يَرْقُبُواْ».
قال أبُو البقاءِ: «وليس بشيءٍ؛ لأنَّهم بعد ظهورهم لا يُرْضُون المؤمنين».
ومعنى الآية: يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم.
قوله: «وتأبى قُلُوبُهُمْ» يقالُ: أبَى يَأبَى، أي: اشتد امتناعه، فكلَّ إباءٍ امتناعٌ من غير عكس، قال: [الطويل]
٢٧٦٧ - أبَى اللهُ إلاَّ عَدْلَهُ ووفاءهُ فَلاَ النُّكْر مَعْروفٌ ولا العُرْفُ ضَائِع
وقال آخر: [الطويل]
٢٧٦٨ - أَبَى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نَابَهُ عَليْهِ فأفْضَى والسُّيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ منه على «يفعل» بفتح العين شاذٌّ، ومثله «قَلَى يَقْلَى في لغة».

فصل


المعنى: «وتأبى قُلُوبُهُمْ» الإيمان «وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» وفيه سؤالان:
السؤال الأول: أنَّ الموصوفين بهذه الصفة كفار، والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة؟
السؤال الثاني: أنَّ الكفار كلُّهم فاسقون، فلا يبقى لقوله: «وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» فائدة،
29
والجواب عن الأوَّلِ: أنَّ الكافِر قد يكونُ عَدْلاً في دينه، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه، فالمرادُ أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود، «أكثرُهُمُ فَاسقُون» في دينهم، وذلك يوجب المبالغة في الذَّم.
والجوابُ عن الثَّاني عين الأوَّل؛ لأنَّ الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب، ونقض العهد، والمكر، والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك، ومثل هذا الشَّخص يكون مذموماً عند جميع النَّاسِ، وفي جميع الأديان.
ومعنى الآية: أنَّ أكثرهم موصوف بهذه الصفات الذميمة. وقال ابنُ عبَّاسٍ «لا يبعدُ أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم، وتاب، فلهذا السبب قال:» وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ «. ليخرج عن هذا الحكم، أولئك الذين أسْلَمُوا».
قوله ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
قال مجاهدٌ «أطعم أبو سفيان حلفاءه، وترك حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة». وقال ابنُ عبَّاسٍ: «إنَّ أهل الطائف أمدرهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ».
وقيل: لا يبعدُ أن تكون طائفة من اليهود، أعانوا المشركين على نقض العهود، فكان المراد من هذه الآية، ذم أولئك اليهود، وهذا اللفظُ في القرآن، كالأمر المختص باليهود، ويتأكد هذا بأنَّ الله تعالى أعاد قوله: ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ ولو كان المراد منه المشركين، لكان هذا تكراراً محضاً، وإذا حمل على اليهود لم يكن تكراراً، فكان أوْلَى.
ثم قال: «إِنَّهُمْ سَآءَ» أي: بئس «مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ».
قال أبُو حيَّان: يجوزُ أن تكون على بابها من التَّصرُّف والتعدِّي، ومفعولها محذوفٌ، أي: ساءهم الذي كانُوا يعملُونه، أو عملُهم، وأن تكون الجارية مَجْرى «بِئْسَ» فتُحَوَّل إلى «فَعُل» بالضمِّ، ويمتنع تصرُّفها، وتصيرُ للذَّم، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً، كما تقرَّر مراراً.
قوله: ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ أي: لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقُون عليكم لو ظهروا. ﴿وأولئك هُمُ المعتدون﴾ لنقض العهد، وتعديهم ما حدّ اللهُ في دينه، وما يوجبه العقد والعهد.
30
قوله ﴿ اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
قال مجاهدٌ " أطعم أبو سفيان حلفاءه، وترك حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة " ١. وقال ابنُ عبَّاسٍ :" إنَّ أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم " ٢.
وقيل : لا يبعدُ أن تكون طائفة من اليهود، أعانوا المشركين على نقض العهود، فكان المراد من هذه الآية، ذم أولئك اليهود، وهذا اللفظُ في القرآن، كالأمر المختص باليهود، ويتأكد هذا بأنَّ الله تعالى أعاد قوله :﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ ولو كان المراد منه المشركين، لكان هذا تكراراً محضاً، وإذا حمل على اليهود لم يكن تكراراً، فكان أوْلَى.
ثم قال :" إِنَّهُمْ سَآءَ " أي : بئس " مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ".
قال أبُو حيَّان٣ : يجوزُ أن تكون على بابها من التَّصرُّف والتعدِّي، ومفعولها محذوفٌ، أي : ساءهم الذي كانُوا يعملُونه، أو عملُهم، وأن تكون الجارية مَجْرى " بِئْسَ " فتُحَوَّل إلى " فَعُل " بالضمِّ، ويمتنع تصرُّفها، وتصيرُ للذَّم، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً، كما تقرَّر مراراً.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٢٧) وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧١)..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧١)..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/١٦..
قوله :﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ أي : لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقُون عليكم لو ظهروا. ﴿ وأولئك هُمُ المعتدون ﴾ لنقض العهد، وتعديهم ما حدّ اللهُ في دينه، وما يوجبه العقد والعهد.
قوله تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين﴾.
لمَّا بيَّن تعالى حال من لا يرقبُ في الله إلاًّ ولا ذمَّةً، وينقض العَهْدَ، ويتعدَّى ما حُدّ له. بيَّن بعده أنهم إن تابوا، وأقاموا الصَّلاة، وآتوا الزماة، فهم: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين﴾.
فإن قيل: المعلق على الشيء بكلمة «إنْ» عدم عند عدم ذلك الشيء، فهذا يقتضي أنَّهُ متى لم توجد هذه الثلاثة، ولا تحصل الأخوة في الدِّين، وهو مُشْكلٌ؛ لأنَّه ربَّما كان فقيراً، أو كان غنيّاً، لكن قبل انقضاءِ الحول، لا تلزمه الزكاة.
فالجوابُ: أنَّه قد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: ٣١] أن المعلق على الشَّيء بكلمة «إن» لا يلزم منه عدم ذلك الشَّيء، كذلك ههنا، ومن النَّاس من قال: إنَّ المعلق على الشَّيء بكلمة «إنْ» عدم عند عدم ذلك الشيء، فها هنا قال: المؤاخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً، فإنَّ الله شرطها في إثبات المؤاخاة، ومنْ لمْ يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه؛ وجب عليه أن يقرَّ بحكمها فإذا أقرَّ بهذا الحكم دخل في الشَّرط الذي به تجبُ الأخوة.
قوله: فإِخوَانُكُم خبرُ مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم، والجملةُ الاسمية في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط، وفِي الدِّينِ متعلِّقٌ ب «إخْوانُكُمْ» لِمَا فيه من معنى الفعل.

فصل


قال أبو حاتم «قال أهل البصرة أجمعون: الإخوة في النَّسب، والإخوان في الصَّداقة». وهذا غلطٌ، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء إخوة، وإخوان، قال الله تعالى ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] ولم يَعْنِ النَّسبَ، وقال تعالى: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وهذا في النسب.
قال ابن عبَّاسٍ: «حرمت هذه الآية دماء أهل القبلةِ» ومعنى قوله: «فَإِخْوَانُكُمْ»
31
أي: فهم إخوانكم «فِي الدين» لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، قال ابنُ مسعودٍ «أمرتم بالصَّلاةِ والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له».
وروى أبو هريرة قال: لمَّا توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب فقال عمرُ: كيف تقاتل النَّاس، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتَّى يقُولُوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فمَنْ قَالهَا فقد عَصَمَ منِّي مالهُ ونَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّها وحِسابُهُ على اللهِ» فقال: والله لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقاتلهم على منعه، قال عمر: «فوالله ما هو إلاَّ أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحقّ».
قوله ﴿وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ قال الزمخشريُّ: وهذا اعتراض واقع بين الكلامين، والمقصود: الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها.
قوله ﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم﴾ نقضوا عهودهم، «الأيمان» جمع «يمين» بمعنى: الحلف. «مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ» عقدهم. يعني: مشركي قريش. قال الأكثرون: المرادُ: نكثهم لعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: المرادُ: حمل العهد على الإسلام، ويؤيدهُ قراءة من قرأ «وإن نكثُوا إيمانَهُم» بكسر الهمزة والأول أولى، للقراءة المشهورة؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد، وقوله: ﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ أي: عابوه، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد.
قوله: ﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾ أي: متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أئِمَّة» بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ، ولا ألف بينهما.
والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما، من غير إدخال ألف بينهما، وهشام كذلك، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً، هذا هو المشهور بين القراء السبعة، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما، أي: بين الهمزة والياء. فأمَّا قراءةُ التحقيق، وبينَ بينَ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين، كأبي علي الفارسي، وتابعيه، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف، وقرءوا بياء خفيفة الكسر، نَصُّوا على ذلك في
32
كتبهم، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ، وهؤلاء الجماعة؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة.
والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين، قال: «فإن قلت: كيف لفظ» أئمة «؟ قلت: بهمزة بعدها همزةُ بين بين، أي: بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ».
قال أبُو حيَّان: «وذلك دَأبه في تلحين المقرئين، وكيف يكون لحناً، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ» ؟
قال شهابُ الدِّين: «لايُنقَمُ على الزمخشريُّ شيءٌ، فإنه إنَّما قال: إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين، لا الإبدال المحض، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين، لا للقراء، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة».
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ، فقال: «ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين، كما جعلت همزةث» أئذا «؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة، وهناك أصليةٌ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً، لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل».
قال شهابُ الدِّين «قوله» منقولةٌ «لا يُفيد؛ لأنَّ النقل هنا لازم، فهو كالأصل، وقوله» ولوْ خُفِّفَتْ على القياس «إلى آخره، لا يُفيد أيضاً؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة».
ووزن «أئِمَّة» «أفْعِلة»، لأنَّها جمع «إمام» ك «حمار وأحْمِرة» والأصل: «أأمِمَة» فالتقى ميمان، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها، وهو الهمزة الثانية، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء، وغيرهم يحقق، أو يسهِّل بين بين، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق، كما قرأ هشام، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة.
قوله: «لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ» قرأ ابنُ عامر «لا أيمان» بكسر الهمزة، وهو مصدرُ آمَن
33
يُؤمن إيمانً. هل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنهم لا يؤمنون في أنفسهم، أي: لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم، ولا سبيل إلى ذلك.
والثاني: الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له، أو من التصديق أي: إنَّهم لا إسلام لهم، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف.
وقرأ الباقون بالفتح، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث، وقد أُجمع على فتح الثَّانية، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ؛ وهذا كقول الآخر: [الطويل]
٢٧٦٩ - وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ
وبذلك قال الشَّافعي، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ.

فصل في المراد من الآية


معنى الآية: قاتلوا الكفار بأسرهم، وإنَّما خصَّ الأئمة، والسَّادة بالذِّكر، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة.
قال ابنُ عبَّاسٍ: «نزلت في أبي سفيان بن حربٍ، والحارث بن هشام، وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ، والذين نقضُوا العهد، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول»، وقال مجاهدٌ «هم أهل فارس والروم» وقال حذيفة بن اليمان «ما قُوتل أهل هذه الآية، ولم يأت أهلها بعد».
﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ أي: لا عهود لهم. ثم قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ وهو متعلق بقوله: ﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾ أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر.
قوله تعالى: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ﴾
34
لما قال ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم، فقال ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ﴾ نقضُوا عهودهم، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة، ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول﴾ من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة. وقيل: المراد من المدينة، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل، وقيل: بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج، وهو نقيضُ العهدِ، وإعانة أعدائه، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه.
وقوله: ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول﴾ إمَّا بالفعل، وإمَّا بالعزم عليه، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشايء، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد، فكيف إذا اجتمعت؟
أحدها: نكثهم العهد.
والثاني: أنهم همُّوا بإخراج الرسول، وهذا من أوكد موجبات القتال.
والثالث: قوله ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني: بالقتال يوم بدر؛ لأنَّهم حين سلم العير، قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه.
وقال ناسٌ من المفسِّرين: أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال الحسنُ: لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة.
وقوله: «أَوَّلَ مرَّةٍ» نصبٌ على ظرف الزَّمانِ، وأصلها المصدر من «مَرَّ يَمُرُّ، كما تقدم [الأنعام: ٩٤].
قوله: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾ الجلالةُ مبتدأ، وفي الخبر أوجهٌ:
أحدها: أنَّهُ»
أحَقُّ «، و» أن تخْشَوْهُ «على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، والتقدير: فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم.
الثاني: أَنَّ»
أَحَقُّ «خبر مقدم، و» أَن تَخْشَوهُ «مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرُ الجلالة.
الثالث: أنَّ»
أَحَقُّ «مبتدأ، و» أن تَخْشَوهُ «خبره، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة، قاله ابن عطية، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنها أفعل تفضيل، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو: اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه.
الرابع: أنَّ»
أن تخشوه «في محلِّ نصب، أو جرٍّ، بعد إسقاطِ الخافضِ، إذ التقدير: أحقُّ بأن تخشوه، وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾ شرطٌ حذف جوابه، أو قُدِّم على حسب الخلاف [الأنفال: ١].
35

فصل


هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه:
الأول: أنَّ تقرير الموجبات القويَّة، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية.
الثاني: أنَّك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك؛ فكأنك تحرضه على القتال، أي: لا تخف منه.
والثالث: قوله ﴿فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾ أي: إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه، لكونه في غاية القدرة، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة، والذم اللازم في الدُّنيا.
والرابع: قوله: ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾ أي: إن كنتم موقنين بالإيمان، وجب عليكم القتال، أي: إنكم إن لم تقدموا على القتال، وجب أن لا تكونوا مؤمنين.

فصل


حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا: «إذا قلت: ألا تفعل كذا، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت: ألست تفعل، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده، والفرقُ بينهما أنَّ» لا «ينفى بها المستقبل، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل، و» ليس «إنما تستعمل لنفي الحال، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال».

فصل


نقل عن ابن عباس أنه قال قوله: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً﴾ ترغيب في فتح مكَّة وقوله: ﴿قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ﴾ أي: عهدهم، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة، كما تقدم.
وقال الحسنُ «لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة».

فصل


قال الأصم «دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال، لقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات». قال القاضي «إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له، ولا مُقصراً فيه، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال، لا يصح أيضاً، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع».
36

فصل


قال القرطبيُّ «استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين، إذ هو كافر، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله، واستقامة فروعه» قال ابنُ المنذر: «أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقتل». قال القرطبيُّ: «وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله تعالى: ﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ [التوبة: ١٣] الآية، فأمر بقتلهم وقتالهم، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة: يستتابُ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث».

فصل


[إذا حارب الذميُّ انتقض عهده، وكان ماله وولده فيئاً معه].

فصل


قال القرطبيُّ: «أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل الذِّمة، أو عرَّض، أو استخفَّ بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا، لقوله تعالى: ﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم﴾ الآية، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة: لا يقتلُ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدَّب».

فصل


قال القرطبي: «اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم اسلم تقية من القتل، فقيل: يسقطُ القتل بإسلامه، وهو المشهور من المذاهب؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب، قال تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]. وقيل: لا يسقط الإسلام قتله، قاله في العتيبة».
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ الآية.
اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى: «ألاَ تُقاتِلُونَ» وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت؟.
أولها: قوله: ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ وسمى ذلك عذاباً؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين، إن شاءَ في الدُّنيا، وإن شاء في الآخرة، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً، والأسر أخرى، واغتنام الأموال ثالثاً.
37
فإن قيل: أليس قد قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] فكيف قال ههنا: ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ ؟.
فالجواب: المراد من قوله ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] عذاب الاستئصال والمراد من قوله: ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين: أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب، أمَّا عذابُ القتل، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب.

فصل


احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله: ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ فإنَّ المراد من هذا العذاب، القتل والأسر، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى، يدخله في الوجود على أيدي العباد.
وأجاب الجبائيُّ عنه فقال: لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار، ولجاز أن يقال: إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنَّه تعالى خالق لذلك، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير.
وأجيب: بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام، ثم إنا لا نقول: يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس، والديدان، فكذا ههنا، وأيضاً: أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره، ثمَّ لا يجوز أن يقال: يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها.
وأما قوله: المراد إذن الإقدارُ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر، والدَّليل القاهر من جانبنا، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى.
وثانيها: قوله: «ويُخْزِهِمْ» أي: يذلهم بالأسر والقهر، قال الواحديُّ «إنهم بعد قتلكم إيَّاهم» وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا.
وثالثها: قوله: «وينصُرْكُم عليْهِمْ» أي: لمَّا حصل لهم الخزي، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [بسبب] كونهم قاهرين.
فإن قيل: لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً.
فالجوابُ: ليس الأمر كذلك؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة
38
المؤمنين، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر، فلمَّا قال: «وينصُرْكم عليْهِمْ» دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر.
ورابعها: قوله ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾. قرأ الجمهور بياء الغيبة، رَدّاً على اسم الله تعالى، وقرأ زيد بن علي «نشف» بالنُّون، وهو التفات حسن، وقال: «قَوْمٍ مُؤمنينَ» شهادة للمخاطبين بالإيمان، فهو من باب الالتفات، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر، حيث لم يقل «صدوركم».
والمعنى: ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم.
ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه، فإنَّهُ يعظم سروره به، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس، وثبات العزيمة.
وقال مجاهدٌ والسديُّ «أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ».
وخامسها: قوله: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم.
فإن قيل: قوله ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ وبين قوله: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة، وهي التَّبشفي، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ، ولم يذكر فيها وجدان المال، والفوز بالمطاعم والمشارب؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم.
وقرأ الجمهور: «ويُذْهب» بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ: «أذْهَبَ»، و «غَيْظَ» مفعول به وقرىء «ويَذْهَب» بفتح الياء والهاء، جعله مضارعاً ل «ذَهَبَ»، و «غيظُ» فاعل به
39
وقرأ زيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً، ولم ينسقْه على المجزم قبله، كما قَرَءُوا «ويتوبُ» بالرفع عند الجمهور.
قوله: ﴿وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ﴾ قرأ الجمهور بالرَّفع، وقرأ زيدُ بنُ علي، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية ويعقوب «ويتُوبَ» بالنَّصب، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون، كأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم.
قال الزجاج: وأبُو الفتح: وهذا أمرٌ موجودٌ، سواءٌ قوتلوا، أمْ لمْ يقاتلوا، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في: «قَاتِلُوهم». يعنيان بالشَّرط: ما فُهِمَ من الجملة الأمرية. قالوا: ونظيره: ﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤] وتمَّ الكلامُ ههنا، ثم استأنف فقال: ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤] وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى، وفي توجيه ذلك غموضٌ، فقال بعضهم: إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة، قاله الأصمُّ. فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله، ويتُبء عليكم من تلك الكراهة لقتالهم، وقال آخرون - في توجيه ذلك -: إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة.
وقال ابنُ عطية - في توجيه ذلك -: «يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجاهد في سبيل الله، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون، وكمالٌ لإيمانكم، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال».
قال أبُو حيان «وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار، والمعنى: على من يشاء من الكفار، لأنَّ قتال الكفارِ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير، ألا ترى إلى فتح مكَّة، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً، ك: ابن أبي سرح، ومن تقدم ذكره، وغيرهم» فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار، أي: يُسْلمُ من يشاء منهم، والمرادُ بالتَّوبة هنا: الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين، ثمَّ قال ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ عليم بكل ما يفعل في
40
ملكه «حَكِيمٌ» مصيب في أحكامه وأفعاله.
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ﴾ الآية.
قال الفراء: «أمْ» من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان ب «الألفط أو ب» هل «.

فصل


هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل: هذا خطابٌ للمنافقين، وقيل: للمؤمنين الذي شق عليهم القتال، فقال: أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، «ولمَّا يعلم اللهُ»
أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه: المعلوم، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده.
قوله ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ﴾ يجوزُ في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة، لعطفها عليها، أي: الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل: «جَاهدُوا» أي: جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً.
و: «وَليجَةً» مفعول، و «مِن دُونِ اللهِ» إمَّا مفعول ثان، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ، إن كان على بابه، والوليجة: فَعِيلة، مِن الوُلُوج، وهُو الدُّخُولُ، و «الوَليجَةُ» من يداخلك في باطن أمورك، وقال أبو عبيدة: «كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ، والرجل في القوم وليس منهم، يقال له وليجة» ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ، للمفردِ، والمثنى، والمجموع، وقد يجمعُ على «ولاَئِج» ووُلُج، ك: صحيفة، وصحائف، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي: [الطويل]
٢٧٧٠ - ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ

فصل


معنى الآية: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾ بطانة، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم.
وقال قتادةُ: «وَليجةً» خيانة. وقال الضَّحَّاك. «خديعة». والمقصودُ من ذكر
41
هذا الشَّرط: أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ، والنفاقِ، والتَّودُّدِ إلى الكفار.
والمقصودُ: بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ، ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع.
قوله: ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ الحسنُ «بِمَا يَعْملُون» بالغيبةِ على الالتفات؛ وبها قرأ يقعوبُ في رواية سلاَّم، أي: عالم بنياتهم، وأغراضهم، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة، كما قال ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ [فصلت: ٣٠]، قال: ولمَّا فرض القتالُ، تميَّز المنافقُ من غيره، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ.
42
قوله ﴿ وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم ﴾ نقضوا عهودهم، " الأيمان " جمع " يمين " بمعنى : الحلف. " مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ " عقدهم. يعني : مشركي قريش. قال الأكثرون : المرادُ : نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : المرادُ : حمل العهد على الإسلام، ويؤيدهُ قراءة من قرأ " وإن نكثُوا إيمانَهُم " بكسر الهمزة والأول أولى، للقراءة المشهورة ؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد، وقوله :﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ أي : عابوه، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد.
قوله :﴿ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر ﴾ أي : متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا. قرأ نافع١ وابن كثير وأبو عمرو " أئِمَّة " بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ، ولا ألف بينهما.
والكوفيون٢ وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما، من غير إدخال ألف بينهما، وهشام كذلك، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً، هذا هو المشهور بين القراء السبعة، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما، أي : بين الهمزة والياء. فأمَّا قراءةُ التحقيق، وبينَ بينَ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين، كأبي علي الفارسي، وتابعيه، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف، وقرءوا بياء خفيفة الكسر، نَصُّوا على ذلك في كتبهم، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ، وهؤلاء الجماعة ؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة.
والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين، قال :" فإن قلت : كيف لفظ " أئمة " ؟ قلت : بهمزة بعدها همزةُ بين بين، أي : بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ ".
قال أبُو حيَّان٣ :" وذلك دَأبه في تلحين المقرئين، وكيف يكون لحناً، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ " ؟
قال شهابُ الدِّين٤ :" لا يُنقَمُ على الزمخشريُّ شيءٌ، فإنه إنَّما قال : إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين، لا الإبدال المحض، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين، لا للقراء، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة ".
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ، فقال :" ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين، كما جعلت همزة " أئذا " ؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة، وهناك أصليةٌ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً، لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل ".
قال شهابُ الدِّين " قوله " منقولةٌ " لا يُفيد ؛ لأنَّ النقل هنا لازم، فهو كالأصل، وقوله " ولوْ خُفِّفَتْ على القياس " إلى آخره، لا يُفيد أيضاً ؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة ".
ووزن " أئِمَّة " " أفْعِلة "، لأنَّها جمع " إمام " ك " حمار وأحْمِرة " والأصل :" أأمِمَة " فالتقى ميمان، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها، وهو الهمزة الثانية، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء، وغيرهم يحقق، أو يسهِّل بين بين، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق، كما قرأ هشام، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة.
قوله :" لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ " قرأ ابنُ٥ عامر " لا إيمان " بكسر الهمزة، وهو مصدرُ آمَن يُؤمن إيمانً. هل هو من الأمان ؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنهم لا يؤمنون في أنفسهم، أي : لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم، ولا سبيل إلى ذلك.
والثاني : الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له، أو من التصديق أي : إنَّهم لا إسلام لهم، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف.
وقرأ الباقون بالفتح، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث، وقد أُجمع على فتح الثَّانية، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ ؛ وهذا كقول الآخر :[ الطويل ]
وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ٦
وبذلك قال الشَّافعي، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ.

فصل في المراد من الآية


معنى الآية : قاتلوا الكفار بأسرهم، وإنَّما خصَّ الأئمة، والسَّادة بالذِّكر، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة.
قال ابنُ عبَّاسٍ :" نزلت في أبي سفيان بن حربٍ، والحارث بن هشام، وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ، والذين نقضُوا العهد، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول " ٧، وقال مجاهدٌ " هم أهل فارس والروم " وقال حذيفة بن اليمان " ما قُوتل أهل هذه الآية، ولم يأت أهلها بعد " ٨.
﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾ أي : لا عهود لهم. ثم قال :﴿ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ وهو متعلق بقوله :﴿ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر ﴾ أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر.
١ ينظر: السبعة ص (٣١٢)، الحجة ٤/١٦٧-١٧٦، حجة القراءات ص (٣١٥)، إعراب القراءات ١/٢٣٥، النشر ١/٣٧٨، إتحاف ٢/٨٧..
٢ انظر السابق..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/١٧..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/٤٥٠..
٥ ينظر: السبعة (٣١٢)، الحجة للقراء السبعة ٤/١٧٧-١٧٨ حجة القراءات ص (٣١٥)، إعراب القراءات ١/٢٣٥..
٦ البيت لكثير في ديوانه (١٧٦) شرح الحماسة ٣/١٣٠٩، وفي تفسير القرطبي ٨/٨١ والدر المصون ٣/٤٥١ والقرافي في الاستغناء (٢٣٧)..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٢٩) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٨) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٢) عن ابن عباس..

٨ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٨) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه..
قوله تعالى :﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ لما قال ﴿ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر ﴾ أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم، فقال ﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ نقضُوا عهودهم، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة، ﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول ﴾ من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة. وقيل : المراد من المدينة، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل، وقيل : بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج، وهو نقيضُ العهدِ، وإعانة أعدائه، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه.
وقوله :﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول ﴾ إمَّا بالفعل، وإمَّا بالعزم عليه، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشايء، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد، فكيف إذا اجتمعت ؟.
أحدها : نكثهم العهد.
والثاني : أنهم همُّوا بإخراج الرسول، وهذا من أوكد موجبات القتال.
والثالث : قوله ﴿ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ يعني : بالقتال يوم بدر ؛ لأنَّهم حين سلم العير، قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه.
وقال ناسٌ١ من المفسِّرين : أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحسنُ : لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك ؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة.
وقوله :" أَوَّلَ مرَّةٍ " نصبٌ على ظرف الزَّمانِ، وأصلها المصدر من " مَرَّ يَمُرُّ، كما تقدم [ الأنعام : ٩٤ ].
قوله :﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ الجلالةُ مبتدأ، وفي الخبر أوجهٌ :
أحدها : أنَّهُ " أحَقُّ "، و " أن تخْشَوْهُ " على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، والتقدير : فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم.
الثاني : أَنَّ " أَحَقُّ " خبر مقدم، و " أَن تَخْشَوهُ " مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرُ الجلالة.
الثالث : أنَّ " أَحَقُّ " مبتدأ، و " أن تَخْشَوهُ " خبره، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة، قاله ابن عطية٢، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنها أفعل تفضيل، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه.
الرابع : أنَّ " أن تخشوه " في محلِّ نصب، أو جرٍّ، بعد إسقاطِ الخافضِ، إذ التقدير : أحقُّ بأن تخشوه، وقوله :﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾ شرطٌ حذف جوابه، أو قُدِّم على حسب الخلاف [ الأنفال : ١ ].

فصل


هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه :
الأول : أنَّ تقرير الموجبات القويَّة، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية.
الثاني : أنَّك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك ؛ فكأنك تحرضه على القتال، أي : لا تخف منه.
والثالث : قوله ﴿ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ أي : إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه، لكونه في غاية القدرة، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة، والذم اللازم في الدُّنيا.
والرابع : قوله :﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾ أي : إن كنتم موقنين بالإيمان، وجب عليكم القتال، أي : إنكم إن لم تقدموا على القتال، وجب أن لا تكونوا مؤمنين.

فصل


حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا :" إذا قلت : ألا تفعل كذا، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت : ألست تفعل، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده، والفرقُ بينهما أنَّ " لا " ينفى بها المستقبل، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل، و " ليس " إنما تستعمل لنفي الحال، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال ".

فصل


نقل عن ابن عباس أنه قال قوله :﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً ﴾ ترغيب في فتح مكَّة٣ وقوله :﴿ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ أي : عهدهم، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة، كما تقدم.
وقال الحسنُ " لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك ؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة " ٤.

فصل


قال الأصم " دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال، لقوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات ". قال القاضي " إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له، ولا مُقصراً فيه، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال، لا يصح أيضاً، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع ".

فصل


قال القرطبيُّ " استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين، إذ هو كافر، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله، واستقامة فروعه " قال ابنُ المنذر :" أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ". قال القرطبيُّ٥ :" وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله تعالى :﴿ وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٣ ] الآية، فأمر بقتلهم وقتالهم، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة : يستتابُ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث ".

فصل


[ إذا حارب الذميُّ انتقض عهده، وكان ماله وولده فيئاً معه ]٦.

فصل


قال القرطبيُّ٧ :" أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذِّمة، أو عرَّض، أو استخفَّ بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل ؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا، لقوله تعالى :﴿ وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم ﴾ الآية، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة : لا يقتلُ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدَّب ".

فصل


قال القرطبي٨ :" اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم أسلم تقية من القتل، فقيل : يسقطُ القتل بإسلامه، وهو المشهور من المذاهب ؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب، قال تعالى :﴿ قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ]. وقيل : لا يسقط الإسلام قتله، قاله في العتيبة ".
١ في ب: ابن جماعة..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٣..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٥/١٨٨)..
٤ انظر المصدر السابق..
٥ ينظر: تفسير القرطبي ٨/٥٣..
٦ سقط في ب..
٧ ينظر: تفسير القرطبي ٨/٥٤..
٨ ينظر: تفسير القرطبي ٨/٥٤..
قوله تعالى :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ ﴾ الآية.
اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى :" ألاَ تُقاتِلُونَ " وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت ؟.
أولها : قوله :﴿ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ ﴾ وسمى ذلك عذاباً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين، إن شاءَ في الدُّنيا، وإن شاء في الآخرة، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً، والأسر أخرى، واغتنام الأموال ثالثاً.
فإن قيل : أليس قد قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] فكيف قال ههنا :﴿ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ ﴾ ؟.
فالجواب : المراد من قوله ﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] عذاب الاستئصال والمراد من قوله :﴿ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ ﴾ عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين : أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب، أمَّا عذابُ القتل، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب.

فصل


احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله :﴿ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ ﴾ فإنَّ المراد من هذا العذاب، القتل والأسر، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى، يدخله في الوجود على أيدي العباد.
وأجاب الجبائيُّ عنه فقال : لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار، ولجاز أن يقال : إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنَّه تعالى خالق لذلك، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير.
وأجيب : بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام، ثم إنا لا نقول : يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس، والديدان، فكذا ههنا، وأيضاً : أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره، ثمَّ لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها.
وأما قوله : المراد إذن الإقدارُ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر، والدَّليل القاهر من جانبنا، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى.
وثانيها : قوله :" ويُخْزِهِمْ " أي : يذلهم بالأسر والقهر، قال الواحديُّ " إنهم بعد قتلكم إيَّاهم " وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا.
وثالثها : قوله :" وينصُرْكُم عليْهِمْ " أي : لمَّا حصل لهم الخزي، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [ بسبب ] كونهم قاهرين.
فإن قيل : لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً.
فالجوابُ : ليس الأمر كذلك ؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر، فلمَّا قال :" وينصُرْكم عليْهِمْ " دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر.
ورابعها : قوله ﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾. قرأ الجمهور بياء الغيبة، رَدّاً على اسم الله تعالى، وقرأ زيد بن١ علي " نشف " بالنُّون، وهو التفات حسن، وقال :" قَوْمٍ مُؤمنينَ " شهادة للمخاطبين بالإيمان، فهو من باب الالتفات، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر، حيث لم يقل " صدوركم ".
والمعنى : ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم.
ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه، فإنَّهُ يعظم سروره به، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس، وثبات العزيمة.
وقال مجاهدٌ والسديُّ " أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم " ٢.
١ ينظر: الدر المصون ٣/٤٥١..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٣٢) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٩) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.
وذكره أيضا (٣/٣٨٩) عن قتادة وعزاه إلى أبي الشيخ.
وأخرجه الطبري (٦/٣٣٢) عن مجاهد مثله وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٨٩) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٣) عن مجاهد والسدي..

وخامسها : قوله :﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾ كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم.
فإن قيل : قوله ﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ معناه : أنه يشفي من ألم الغيظ، وهذا هو عين إذهاب الغيظ، فكان قوله :﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ تكرارا.
فالجواب : أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح، فكانوا في زحمة الانتظار، كما قيل : الانتظار الموت الأحمر، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار، فظهر الفرق بين قوله :﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ وبين قوله :﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾ فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة، وهي التَّشفي، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ، ولم يذكر فيها وجدان المال، والفوز بالمطاعم والمشارب ؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم.
وقرأ الجمهور :" ويُذْهب " بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ :" أذْهَبَ "، و " غَيْظَ " مفعول به وقرئ١ " ويَذْهَب " بفتح الياء والهاء، جعله مضارعاً ل " ذَهَبَ "، و " غيظُ " فاعل به وقرأ زيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً، ولم ينسقْه على المجزوم قبله، كما قَرَءُوا " ويتوبُ " بالرفع عند الجمهور.
قوله :﴿ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ ﴾ قرأ الجمهور بالرَّفع، وقرأ زيدُ٢ بنُ علي، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد٣، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية ويعقوب " ويتُوبَ " بالنَّصب، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون، كأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم.
قال الزجاج : وأبُو الفتح : وهذا أمرٌ موجودٌ، سواءٌ قوتلوا، أمْ لمْ يقاتلوا، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في :" قَاتِلُوهم ". يعنيان بالشَّرط : ما فُهِمَ من الجملة الأمرية. قالوا : ونظيره :﴿ فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ ﴾ [ الشورى : ٢٤ ] وتمَّ الكلامُ ههنا، ثم استأنف فقال :﴿ وَيَمْحُ الله الباطل ﴾. [ الشورى : ٢٤ ]. وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى، وفي توجيه ذلك غموضٌ، فقال بعضهم : إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة، قاله الأصمُّ. فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله، ويتُب عليكم من تلك الكراهة لقتالهم، وقال آخرون - في توجيه ذلك - : إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة.
وقال ابنُ عطية٤ - في توجيه ذلك - :" يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجاهد في سبيل الله، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون، وكمالٌ لإيمانكم، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال ".
قال أبُو حيان٥ " وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار، والمعنى : على من يشاء من الكفار، لأنَّ قتال الكفارِ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير، ألا ترى إلى فتح مكَّة، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً، ك : ابن أبي سرح، ومن تقدم ذكره، وغيرهم " فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار، أي : يُسْلمُ من يشاء منهم، والمرادُ بالتَّوبة هنا : الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين، ثمَّ قال ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ عليم بكل ما يفعل في ملكه " حَكِيمٌ " مصيب في أحكامه وأفعاله.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٤، البحر المحيط ٥/١٩، الدر المصون ٣/٤٥٢..
٢ انظر السابق.
٣ ينظر: الكشاف ٢/٢٥٢-٢٥٣، المحرر الوجيز ٣/١٤، البحر المحيط ٥/١٩، الدر المصون ٣/٤٥٢.
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٤..
٥ ينظر: البحر المحيط ٥/١٩..
قوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ﴾ الآية.
قال الفراء :" أمْ " من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان ب " الألف أو ب " هل ".

فصل


هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل : هذا خطابٌ للمنافقين، وقيل : للمؤمنين الذي شق عليهم القتال، فقال : أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، " ولمَّا يعلم اللهُ " أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه : المعلوم، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده.
قوله ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ ﴾ يجوزُ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة، لعطفها عليها، أي : الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا.
الثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل :" جَاهدُوا " أي : جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً.
و :" وَليجَةً " مفعول، و " مِن دُونِ اللهِ " إمَّا مفعول ثان، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ، إن كان على بابه، والوليجة : فَعِيلة، مِن الوُلُوج، وهُو الدُّخُولُ، و " الوَليجَةُ " من يداخلك في باطن أمورك، وقال أبو عبيدة :" كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ، والرجل في القوم وليس منهم، يقال له وليجة " ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ، للمفردِ، والمثنى، والمجموع، وقد يجمعُ على " ولاَئِج " ووُلُج، ك : صحيفة، وصحائف، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي :[ الطويل ]
ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ١

فصل


معنى الآية :﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً ﴾ بطانة، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم.
وقال قتادةُ :" وَليجةً " خيانة٢. وقال الضَّحَّاك. " خديعة " ٣. والمقصودُ من ذكر هذا الشَّرط : أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ، والنفاقِ، والتَّودُّدِ إلى الكفار.
والمقصودُ : بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ، ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع.
قوله :﴿ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ قرأ الحسنُ٤ " بِمَا يَعْملُون " بالغيبةِ على الالتفات ؛ وبها قرأ يعقوبُ في رواية سلاَّم، أي : عالم بنياتهم، وأغراضهم، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة، كما قال ﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا ﴾ [ فصلت : ٣٠ ]، قال : ولمَّا فرض القتالُ، تميَّز المنافقُ من غيره، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ٥.
١ البيت من شواهد البحر ٥/٢٠، والدر المصون ٣/٤٥٣..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٩٠) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٣)..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٣)..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٢٠، الدر المصون ٣/٤٥٣..
٥ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٦) عن ابن عباس..
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ الآية.
اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار، وبالغ في ذلك، وذكر من أنواع قَبَائِحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم، فأولها هذه الآية، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم، ومناصرتهم، ومن جملةِ تلك الصِّفات، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ، وقطيعة الرَّحمِ، وأغلظ له عليٌّ القول، فقال العبَّاسُ: ما لكم تذكرون مساوئنا، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليٌّ: ألكُم محاسن؟ فقال: نعم، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ، ونحجب الكَعْبَة، ونسْقِي الحاجَّ، ونفكُّ العاني؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ: {مَا كَانَ
42
لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة الله وحده.
واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان:
إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها، يقال: فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه، وإمَّا بالعمارة المعروفة بالبناء، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد، لأنَّ المسجد موضع العبادة، فيجب أن يعظم، والكافرُ يهينه، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨]، وتطهير المسجد واجبٌ، لقوله تعالى: ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٥]، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة، فدخوله المسجد تلويث للمسجد، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين.
وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه: العمارة المعروفة من بناء المسجدِ، ومرمته عند الخراب، فيمنع منه الكافر، حتى ولو أوصى بها لم تقبل، ويمنع من دخول المساجدش، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيمُ المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد، وهو كافر، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول.
«أَن يَعْمُرُواْ» اسم «كان». قرأ ابنُ السميفع «يُعْمِرُوا» بضم الياء وكسر الميم، من: «أعمر» رباعياً، والمعنى: أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «مسجد اللهِ» بالإفراد، وهي تحتملُ وجهين، أن يُراد به مسجدق بعينه، وهو المسجد الحرام، لقوله ﴿وَعِمَارَةَ المسجد الحرام﴾ [التوبة: ١٩]، وأن يكون اسم جنسٍ، فيندرج فيه سائر المساجد، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ الباقون: «مَساجِد» بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها: مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك.
[قال الفرَّاءُ: ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون؛ فيقول: أخذت في ركوب البراذين، وفلان يجالس الملوك، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار يريد: الدراهم والدنانير].
43
قوله: «شَاهِدِينَ» الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال من فاعل: «يَعْمُرُوا» أراد: وهم شاهدون. وقرأ زيد بن علي: «شَاهِدُون» بالواو رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر، والجملةُ حالٌ أيضاً.
قوله «على أَنْفُسِهِمْ» الجمهور على «أنفُسهم» جمع «نَفْس» وقرىء «أنفسهم» بضم الفاء، ووَجْهُهَا أن يُرادَ ب «الأنْفَس» - وهو الأشرف الأجل من النَّفَاسة -: رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قيل: لأنه ليس بطنٌ من بطون العرب إلاَّ وله فيهم ولادة، وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً، وهو مع هذه القراءة أوضح.

فصل


قال الحسنُ: «لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر».
وقال الضحاك عن ابن عبَّاسٍ: «شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، فكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد، وكلَّما طافُوا شَوْطاً سَجَدُوا لأصْنَامِهِمْ، ولم يَزْدَادُوا بذلك من الله إلاَّ بُعْداً».
وقال السدي: «شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي يقول أنها يهودي، ويقال للمشرك ما دينك؟ فيقول: مشرك».
وقيل: إنَّهم كانُوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك، ونقل عن ابن عباس أنه قال: «المرادُ أنهم يشهدون على الرسول بالكفر، قال: وإنَّما جازَ هذا التفسيرُ، لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨].
قال القاضي»
هذا عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذَّر إجراءُ اللفظ على حقيقته، أمَّا لما بيَّنا أنَّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز «.
قوله ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ لأنها لغير الله، ثم قال: ﴿وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾ هذه جملةٌ مستأنفة و»
في النَّارِ «متعلقٌ بالخبرِ، وقُدِّم للاهتمام به، ولأجل الفاصلة.
وقال أبُو البقاءِ:»
وهم خالدون في النَّارِ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف
44
والمعطوف «وفيه نظرٌ، من حيثُ إنَّه يوهم أنَّ الجملة معطوفةٌ على ما قبلها، عطف المفرد على مثله تقديراً، وليس كذلك، بل هي مستأنفةٌ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها: فصل الظَّرف بين حرف العطف والمعطوف، وإنَّما ذلك في المتعاطفين المفردين، أو ما في تأويلهما، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى:
﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] وفي قوله: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ [النساء: ٥٨].
وقرأ زيد بن علي خالدين بالياء، نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً، كقولك: في الدار زيد قاعداً، فقد رفع زيد بن علي «شاهدين»
، ونصب «خالدون» عكس قراءة الجمهور فيها.

فصل


احتج أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة، لا يخلد في النار من وجهين:
الأول: أن قوله ﴿وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾ يفيد الحصر، أي: هم فيها خالدون لا غيرهم؛ لأنَّ هذا الكلام إنَّما ورد في حق الكفار.
الثاني: أنَّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الكفار، لما صحَّ تهديد الكافر به.
قوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله﴾ جمهورُ القراء على الجمع، وقرأ الجحدريُّ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ؛ لأن المراد: جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض.

فصل


اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع، فقال: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله﴾ فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، والكافرُ يمتنع منه ذلك، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة، لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؟.
فالجوابُ: من وجوه:
45
الأول: أنَّ المشركين كانوا يقولون: إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر، وترك ذكر النُّبوةِ، كأنه يقولُ: مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصليّ، وحذف ذكر النبوة، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر.
الثاني: أنه لمَّا ذكر الصَّلاة، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة، فكان كافياً.
الثالث: أنَّه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة، وأمَّا قوله «وأَقَامَ الصَّلاةَ» فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة، وأمَّا قوله «وآتَى الزَّكاةَ» فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة، فإنَّه يحضرُ في المسجد، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزَّكاةِ، فتحصُل عمارة المسجد، وإن حملنا العمارة على البناء، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً.
وأما قوله ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله﴾ أي: لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله.
روي أنَّ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً، ذكرُهُم الدُّنْيَا، وحُبُّ الدُّنْيَا، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قال الله تعالى: «إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ»، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ
46
الله»، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان»، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ»، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ.
قوله: ﴿فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين﴾ قال المفسرون: «عسى» من الله واجب، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد.
وقال أبو مسلم: «عسى» ههنا راجع إلى العباد، وهو يفيدُ الرجاء، فكان المعنى: إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء، لقوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ [السجدة: ١٦] والتحقيق فيه: أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول، وقال الزمخشريُّ «المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها». فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين «لَعَلَّ» و «عَسَى»، فما بالُ هؤلاء المشركين، يقطعون بأنَّهم مهتدون، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى.
47
قوله :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله ﴾ جمهورُ القراء على الجمع، وقرأ الجحدريُّ١، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ ؛ لأن المراد : جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض.

فصل


اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع، فقال :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله ﴾ فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله ؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، والكافرُ يمتنع منه ذلك، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة، لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ؟.
فالجوابُ : من وجوه :
الأول : أنَّ المشركين كانوا يقولون : إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر، وترك ذكر النُّبوةِ، كأنه يقولُ : مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصليّ، وحذف ذكر النبوة، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر.
الثاني : أنه لمَّا ذكر الصَّلاة، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة، فكان كافياً.
الثالث : أنَّه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة، وأمَّا قوله " وأَقَامَ الصَّلاةَ " فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة، وأمَّا قوله " وآتَى الزَّكاةَ " فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة، فإنَّه يحضرُ في المسجد، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزَّكاةِ، فتحصُل عمارة المسجد، وإن حملنا العمارة على البناء، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً.
وأما قوله ﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله ﴾ أي : لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله.
روي أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا. قال عليه الصلاة والسلام :" يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً، ذكرُهُم الدُّنْيَا، وحُبُّ الدُّنْيَا، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة " ٢ وقال عليه الصلاة والسلام " الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " ٣، وقال عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى :" إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ " ٤، وقال عليه الصلاة والسلام " مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ الله " ٥، وقال عليه الصلاة والسلام " إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان " ٦، وقال عليه الصلاة والسلام " مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ " ٧، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ.
قوله :﴿ فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾ قال المفسرون :" عسى " من الله واجب، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد.
وقال أبو مسلم :" عسى " ههنا راجع إلى العباد، وهو يفيدُ الرجاء، فكان المعنى : إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء، لقوله تعالى :﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ [ السجدة : ١٦ ] والتحقيق فيه : أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب ؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول، وقال الزمخشريُّ " المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها ". فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين " لَعَلَّ " و " عَسَى "، فما بالُ هؤلاء المشركين، يقطعون بأنَّهم مهتدون، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى.
١ ينظر: الكشاف ٢/٢٥٤، المحرر الوجيز ٣/١٥، البحر المحيط ٥/٢١، الدر المصون ٣/٤٥٤..
٢ أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٤/٣٢٣) من حديث أنس بن مالك، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..
٣ ذكره الغزالي في "الإحياء" (١/١٥٢) بهذا اللفظ وقال الحافظ العراقي لم أقف له على أصل.
وذكره الشيخ علي القاري في "الأسرار المرفوعة" رقم (٤٢٢) وأقر قول العراقي..

٤ أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد" (٢/٢٥) وقال الهيثمي: وفيه عبد الله بن يعقوب الكرماني وهو ضعيف..
٥ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٢/٢٦) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة وفيه كلام..
٦ أخرجه الترمذي (٢٦٢٠) وابن ماجه (٨٠٢) وأحمد (٣/٧٦) وابن خزيمة (٢/٣٧٩) رقم (١٥٠٢) والحاكم (٢/٣٢٢) والدارمي (١/٢٧٨) وابن حبان (٣١٠-موارد) وأبو نعيم (٨/٣٢٧) والخطيب في "تاريخ بغداد" (٥/٤٥٩) من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي..

٧ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٩٤) وعزاه لسليم الرازي في الترغيب عن أنس مرفوعا..
قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾ الآية.
الجمهور على قراءة «سِقايةَ»، و «عِمارةَ» مصدرين على «فِعالةٍ»، ك: الضِّيافة، والوِقاية والتِّجارة، ولم تقلب الياء همزة، لتَحصُّنها بتاء التأنيث، بخلاف «رِدَاءة،
47
وعِباءة»، لطروء تاء التأنيث فيهما، قاله الزمخشريُّ. واعلم أنَّ: السِّقاية فعلٌ، وقوله ﴿مَنْ آمَنَ بالله﴾ [التوبة: ١٨] إشارة إلى الفاعل، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل، والصفة بالموصوف، وإنّه محالن وحينئذ فلا بُدَّ من حذف مضاف، إمَّا من الأول، وإمَّا من الثَّاني، ليتصادق المجعولان، والتقدير: أجعلتم أهل سقايةِ الحاجِّ، وعِمارة المسجد الحرام كمَنْ آمَنَ، أو أجعلتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمَنَ، أو كعملِ من آمَنَ، ونظيره: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله﴾ [البقرة: ١٧٧]، وقيل: السٌِّاية والعمارة يعني: السَّاقي والعامر، وهذا كقوله: ﴿والعاقبة للتقوى﴾ [طه: ١٣٢]، أي: للمتقين، والمعنى: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام ك ﴿كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾. ويدلُّ عليه قراءة أبي وابن الزبير والباقين كما يأتي قريباً.
وقرأ ابنُ الزُّبير، والباقر، وأبو وجزة «سُقَاة... وعمرة» بضمِّ السين، وبعد الألف تاء التأنيث، و «عَمَرة» بفتح العين والميم دون ألف، وهما جمع «ساقٍ»، و «عامر»، كما يقال: قاضٍ وقُضاة، ورَام ورُمَاة، وبارٌّ وبَرَرة، وفاجِر وفَجَرة.
والأصل: سُقَيَة، فقُلبت الياء ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولا حاجة هنا إلى تقدير حذف مضافٍ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور.
وقرأ سعيد بن جبير كذلك، إلاَّ أنه نصب «المسجِد الحرَام» ب «عَمَرَة»، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب]
٢٧٧١ -.............................. ولا ذَاكِرَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وقوله: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢]. وقرأ الضحاك «سُقَاية»، «عمرة»، وهما جمعان أيضاً، وفي جمع «ساقٍ» على «فُعَالة» نظرٌ لا يَخْفى، والذي ينبغي أن يقال: أن يُجْعل هذا جمعاً ل «سِقْي» و «السِّقْي» هو الشيء المَسْقِي ك «الرِّعْي، والطِّحن». و «فِعْل» يُجمع على «فُعال»، قالُوا: ظِئْر وظُؤار، وكان من حقه ألا تدخل عليه تاء التأنيث، كما لم تدخل في: «ظُؤار»، ولكنه أنَّث الجمع، كما أنَّث في قولهم: «حِجَارة، وفُحولة»، ولا بُدّ حينئذٍ من تقدير مضافٍ، أي: أجعلتم أصحاب الأشياءِ المَسقيَّة كمَنْ آمَنَ؟.

فصل


روى النُّعْمانُ بنُ بشيرٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ منبَرِ رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رجلٌ: لا أُبَالِي ألاَّ
48
أعملَ عملاً بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل ممَّا قلتم، فزَجرهُمْ عمرُ وقال: لا تَرفعُوا أصوَاتكُم عندَ مِنبرِ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهُو يَوْمُ الجُمعةِ - ولكنْ إذا صَلَّيتُ دخلتُ واستَفْتيْتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيمَا اختَلَفْتُم فيه، فدخل، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ هذه الآية إلى قوله: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾.
وقال ابنُ عبَّاسٍ «إنَّ عليّاً أغلظ الكلام للعبَّاس حين أسر يوم بدر، فقال العبَّاسُ: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام، والهجرة، والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله هذه الآية. وأخبر أنَّ عمارتهم المسجد الحرام، وقيامهم على السقاية، لا ينفعهم مع الشرك بالله، وأنَّ الإيمان بالله، والجهاد مع نبيه خيرٌ مِمَّا هُمْ عليه».
وقال الحسنُ والشعبيُّ ومحمدُ بن كعبٍ القرظيُّ «نزلت في عليٍّ بن أبي طالب، والعباس، وطلحة بن أبي شيبة، افتخروا، فقال طلحةُ: أنا صاحبُ البيتِ، بيدي مفتاحه، ولو أردتُ بتُّ فيه، وقال العبَّاس: أنا صاحبُ السِّقاية، والقائم عليها، وقال علي: لا أدري ما تقولون، لقد صلَّيْتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل النَّاس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله هذه الآية».
وقيل: إنَّ عليّاً قال للعباس بعد إسلامه: يا عم ألا تهاجرون، ألا تحلقُون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: ألستُ في أفضل من الهجرةِ؟ أسقي الحاج، وأعمر البيت الحرام؟ فنزلت هذه الآية، فقال العباس: ما أراني إلاَّ تارك سقايتنا، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أقيمُوا على سقَايتكُم فإنَّ لَكُم فيهَا خَيْراً».
49
وقيل: إنَّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام، فنحن أفضل أم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه؟ فقالت اليهودُ لهم: أنتُمْ أفْضَلُ.
قال ابن الخطيب: «هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار، أمَّا كونها جرت بين المسلمين، فلقوله تعالى بعد ذلك ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله﴾، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله، وذلك لا يليق إلاَّ بالمؤمنين، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار، فلقوله تعالى ﴿كَمَنْ آمَنَ بالله﴾ وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله».
وهذا هو الأقرب؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله﴾ [التوبة: ١٨] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام، وسقي الحاج، فأجاب الله عنه بوجهين:
الأول: ما تقدَّم في الآية الأولى: أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن، أمَّا إذا صدرت عن الكافر، فلا فائدة فيها ألبتة.
والثاني: هذه الآية، وهو أن يقال: سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام، وسقي الحاج، يوجب نوعاً من الفضيلة، إلاَّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً، وإنَّه باطل، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.

فصل


روى عكرمةُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء إلى السِّقاية فاستسقى، فقال العبَّاسُ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشراب من عندها، فقال: اسقني. فقال يا رسُول الله: إنَّهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنَّكم على عملٍ صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا، يعني: عاتقه وأشار إلى عاتقه.
وعن بكر بن عبد الله المزنيّ: قال: كنتُ جالساً مع ابنِ عبَّاسٍ عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمِنْ حاجةٍ بكم؟ أمِنْ بُخْلٍ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: الحمدُ للهِ ما بِنَا من حاجة ولا بخل، إنَّما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على راحلته، وخلفه أسامة، فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب، وسقى فضله
50
أسامة، فقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصْنَعُوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الحسنُ: «كانت السِّقاية بنبيذ الزبيب».
وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً، فكسر منه بالماء ثلاثاً، وقال: إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء. وأمَّا عمارة المسجد الحرامِ فهي تجهيزه وتحسين صورة جدرانه.
قوله ﴿لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله﴾ في الجملة وجهان:
أظهرهما: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين.
والثاني: أن يكون حالاً من المفعولين للجعل، والتقدير: سَوَّيْتُم بينهم في حال تفاوتهم، ولمَّا نفى المساواة بينهما، وذلك لا يفيد من هُوَ الرَّاجح؛ فنبَّه على الرَّاجح بقوله ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي: إنَّ الكافرين ظلمُوا أنفسهم، لأنهم تركُوا الإيمان، ورضُوا بالكفر فكانوا ظالمين، لأنَّ الظُّلمَ عبارةٌ عن وضع الشيء في غير موضعه، وأيضاً ظلموا المسجد الحرام، فإنَّه تعالى جعله موضعاً لعبادة الله تعالى، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان.
قوله تعالى: ﴿
١٦٤٩ - ; لَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾
الآية.
لمَّا ذكر ترجيح الإيمان، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح، أي: مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة، والسَّبب فيه؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح، والبدن، والمال، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر، وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء، وطلب الرياسة والسُّمعة؟
قوله: ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله﴾ لم يقُلْ: أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة؛ لأنَّه لو ذكرهم، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم، فلمَّا ترك ذكر المرجوح، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق.
51
فإن قيل: لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم: «أعْظَمُ دَرَجَةً» ؟.
فالجوابُ من وجوه:
الأول: أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله تعالى: ﴿ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٥٩]، وقوله ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ [الصافات: ٦٣].
الثاني: أنَّ المراد: أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاص على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث: أن المراد، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة، والمراد منه: ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر، ثُم بيَّن تعالى أنهم: «هُمُ الفائِزُون» وهذا للحصر، والمعنى: أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله: «عِنْدَ اللهِ» وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان.
وقد تقدَّم اختلاف القراء في: «يُبَشِّرهُم» وتوجيه ذلك في «آل عمران» وكذلك في الخلاف في ﴿وَرِضْوَانٌ﴾ [آل عمران: ١٥].
وقرأ الأعمش «رضُوان» بضمِّ الراء والضَّاد، وردَّها أبُو حاتم، وقال: «لا يجوز». وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب، قالوا: «السُّلُطان» بضم السين واللام.
قوله ﴿لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً ل «جَنَّاتٍ» وأنْ تكون صفةً ل «رَحْمَة» ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة، وأنْ تعود للجنات، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله: «يُبَشِّرهُمْ»، كأنَّه قيل: لهم في تلك البشرى. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً. ويجوزُ أن يكون «نعيمٌ» فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أولى، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوزُ أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [الأنفال: ٧٢]. قوله: «خَالِدِينَ» حالٌ من الضمير في «لهم».
واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، قالوا: لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً، وإنه لا يجوز
52
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ الآية.
لمَّا ذكر ترجيح الإيمان، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز ؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح، أي : مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة، والسَّبب فيه ؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح، والبدن، والمال، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر، وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال ؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء، وطلب الرياسة والسُّمعة ؟
قوله :﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله ﴾ لم يقُلْ : أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة ؛ لأنَّه لو ذكرهم، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم، فلمَّا ترك ذكر المرجوح، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق.
فإن قيل : لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم :" أعْظَمُ دَرَجَةً " ؟.
فالجوابُ من وجوه :
الأول : أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله تعالى :﴿ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ النمل : ٥٩ ]، وقوله ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم ﴾ [ الصافات : ٦٣ ].
الثاني : أنَّ المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيها على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث : أن المراد، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة، والمراد منه : ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار ؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر، ثُم بيَّن تعالى أنهم :" هُمُ الفائِزُون " وهذا للحصر، والمعنى : أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله :" عِنْدَ اللهِ " وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان.
وقد تقدَّم اختلاف القراء في :" يُبَشِّرهُم " وتوجيه ذلك في " آل عمران " وكذلك في الخلاف في ﴿ وَرِضْوَانٌ ﴾ [ آل عمران : ١٥ ].
وقرأ الأعمش١ " رضُوان " بضمِّ الراء والضَّاد، وردَّها أبُو حاتم، وقال :" لا يجوز ". وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب، قالوا :" السُّلُطان " بضم السين واللام.
قوله ﴿ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً ل " جَنَّاتٍ " وأنْ تكون صفةً ل " رَحْمَة " ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة، وأنْ تعود للجنات، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله :" يُبَشِّرهُمْ "، كأنَّه قيل : لهم في تلك البشرى. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً. ويجوزُ أن يكون " نعيمٌ " فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أولى، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوزُ أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [ الأنفال : ٧٢ ].
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/١٧، البحر المحيط ٥/٢٣، الدر المصون ٣/٤٥٥..
قوله :" خَالِدِينَ " حالٌ من الضمير في " لهم ".
واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، قالوا : لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً، وإنه لا يجوز.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ الآية.
والمقصود من هذه الآية: أن تكون جواباً عن شبهة أخرى، ذكروها في أن البراءة من الكافر غيرُ ممكنة، فإنَّ المسلم قد يكون أبوه كافراً أو ابنُه والكافر قد يكون أبوهُ أو أخوه مسلماً والمقاطعة بين الرَّجُلِ وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر، فأزال اللهُ تعالى هذه الشبهة بهذه الآية. ونقل المفسِّرون عن ابنِ عبَّاسٍ «أنَّه تعالى لمَّا أمر المسلمين بالهجرةِ قبل فتح مكَّة، فمنْ لم يهاجر لم يقبل اللهُ إيمانه، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانُوا كفاراً».
قال ابنُ الخطيب «وهذا مشكل؛ لأنَّ الصحيح أنَّ هذه السورة إنَّما نزلت بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ وإنَّما الأقربُ أنَّهُ تعالى أمر المؤمنين بالتبرِّي عن المشركين بسبب الكفر، لقوله: ﴿إَنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان﴾ أي: اختاروا الكفر على الإيمان، والاستحباب: طلب المحبة، يقال استحب له، بمعنى: أحبه، كأنه طلب محبته».
ولمَّا نهى الله عن مخالطتهم، وكان النَّهي يحتملُ أن يكُون نَهْيَ تنزيهٍ وأن يكون نهي تحريم، ذكر ما يزيل الشبهة فقال: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾. قال ابن عباسٍ «يريدُ: مشركاً مثلهم، لأنه رضي بكفرهم، والرَّضى بالكُفرِ كفر، كما أنّض الرضا بالفسقِ فسق».
قال القاضي: «هذا النَّهي لا يمنعُ أن يتبرأ المرءُ من أبيه في الدُّنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافرن ومن استعمله في الأعمال».
قوله: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ﴾ «آباؤكم» وما عطف عليه اسم «كان»، و «أحب» خبرها، فهو منصوبٌ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه.
قال أبو حيَّان «إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في» كان «اسماً، وهو ضميرُ الشأن، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن» كان «.
53
قال شهاب الدِّين. فيكون كقول الشاعر: [الطويل]
٢٧٧٢ - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ
وهذا في أحد تأويلي البيت.
والآخر: أنَّ» صنفان: خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحارث، ومن وافقهم.
والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي: أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه: هل تجدني ألحن؟ فقال: الأميرُ أجَلُّ من ذلك، فقال: عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء، فقال: نعم، فقال: في أي شيءٍ؟ فقال: في القرآن، فقال: ويْلَك!! ذلك أقبحُ بي، في أيِّ آية؟ قال: سَمعتُك تقر: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ﴾ إلى أن انتهيت إلى «أحَبّ» فرفعتها، فقال: إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها، فنفاهُ إلى «خراسان» فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً، وفيه: «وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصعدنا عُرعُرة الجبل»، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام، فقيل له: إنَّ يحيى هناك، فقال: إذن ذاك.
وقرأ الجمهور «عَشيرَتُكُمْ» بالإفراد، وأبو بكر عن عاصم «عَشِيراتكم» جمع سلام. [ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة، فحسن الجمع، وزعم الأخفشُ أنَّ «عشيرة» لا تجمع بالألف والتاء، وإنَّما تكسيراً على «عشائر»، وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء.
وقرأ الحسن «عَشائرُكُم» قيل: وهي أكثر مِنْ «عشيراتكم» ].
و «العَشِيرةُ» : هي: الأهلُ الأدنون. وقيل: هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، أي: يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها.
وقيل: هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ، أو وداد، لعقد العشرة.

فصل


هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى، وذلك لأنَّ جماعة
54
المؤمنين، قالوا: يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا، وإن نحن فعلنا ذلك، ذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ﴾ أي: تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ﴾ فانتظروا ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾. قال عطاءٌ: «بقضائه».
وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ: «بفتح مكَّة».
وهذا أمر تهديد، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا، ليبقى الدِّين سليماً. ثم قال ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ أي: الخارجين عن الطاعةِ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين، وبين مهمات الدُّنيا؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا.
55
قوله :﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ ﴾ " آباؤكم " وما عطف عليه اسم " كان "، و " أحب " خبرها، فهو منصوبٌ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه.
قال أبو حيَّان " إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في " كان " اسماً، وهو ضميرُ الشأن، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن " كان ".
قال شهاب الدِّين١. فيكون كقول الشاعر :[ الطويل ]
إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ٢
وهذا في أحد تأويلي البيت.
والآخر : أنَّ " صنفان " : خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحارث، ومن وافقهم.
والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي : أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هل تجدني ألحن ؟ فقال : الأميرُ أجَلُّ من ذلك، فقال : عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء، فقال : نعم، فقال : في أي شيءٍ ؟ فقال : في القرآن، فقال : ويْلَك ! ! ذلك أقبحُ بي، في أيِّ آية ؟ قال : سَمعتُك تقر :﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ ﴾ إلى أن انتهيت إلى " أحَبّ " فرفعتها، فقال : إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها، فنفاهُ إلى " خراسان " فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً، وفيه :" وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصعدنا عُرعُرة الجبل "، فقال الحجاج : ما لابن المهلب ولهذا الكلام، فقيل له : إنَّ يحيى هناك، فقال : إذن ذاك.
وقرأ الجمهور " عَشيرَتُكُمْ " بالإفراد، وأبو بكر٣ عن عاصم " عَشِيراتكم " جمع سلام. [ ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة، فحسن الجمع، وزعم الأخفشُ أنَّ " عشيرة " لا تجمع بالألف والتاء، وإنَّما تكسيراً على " عشائر "، وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءة أبي عبد الرحمن٤ السلمي وأبي رجاء.
وقرأ الحسن٥ " عَشائرُكُم " قيل : وهي أكثر مِنْ " عشيراتكم " ]٦.
و " العَشِيرةُ " : هي : الأهلُ الأدنون. وقيل : هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها.
وقيل : هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ، أو وداد، لعقد العشرة.

فصل


هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى، وذلك لأنَّ جماعة المؤمنين، قالوا : يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة ؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا، وإن نحن فعلنا ذلك، ذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، فأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ ﴾ أي : تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ فانتظروا ﴿ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ ﴾. قال عطاءٌ :" بقضائه " ٧.
وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ :" بفتح مكَّة " ٨.
وهذا أمر تهديد، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا، ليبقى الدِّين سليماً. ثم قال ﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾ أي : الخارجين عن الطاعةِ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين، وبين مهمات الدُّنيا ؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا.
١ ينظر: الدر المصون ٣/٤٥٥..
٢ تقدم..
٣ ينظر: السبعة ص (٣١٣)، الحجة ٤/١٨٠، حجة القراءات ص (٣١٦)، النشر ٢/٢٧٨، إتحاف فضلاء البشر ٢/٨٩..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٢/٢٥٧، المحرر الوجيز ٣/١٨، البحر المحيط ٥/٢٤، الدر المصون ٣/٤٥٦..
٥ ينظر: السابق..
٦ سقط في أ..
٧ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٧)..
٨ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٠٣) وعزاه إلى ابن شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٣٩).
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٧٧) عن مجاهد ومقاتل..

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء، والإخوان، والعشيرة، وعن الأموال، والتجارات، والمساكن، رعاية لمصالح الدِّين، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه.
وضرب لهذا مثلاً، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وقعة حنين، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صارُوا منهزمين، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا، فاته الدِّين والدنيا، ومتى أطاع الله، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا، آتاه اللهُ الدِّين
55
والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ، لأجل مصلحة الدِّين، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه.
قال الواحديُّ: «النّصر: المعونةُ على العدوِّ خاصة» «المواطن» : جمع «مَوْطِن» بكسر العين، وكذا اسم مصدره، وزمانه، لاعتلال فائه ك «المَوْعد»، قال: [الطويل]
٢٧٧٣ - وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
و «حُنَيْن» : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف، فلذلك صرفه، وبعضهم جعله اسماً للبقعة، فمنعه في قوله: [الكامل]
٢٧٧٤ - نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ
وهذا كما قال الآخرُ في «حراء» : اسم الجبل المعروف، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله: [الوافر]
٢٧٧٥ - ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا

فصل


المرادُ بالمواطن الكثيرة: غزوات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقال: إنها ثمانون موطناً، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له، ثم قال «
56
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» أي: واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم، و «حنين» واد بين مكة والطائف.
وقيل: إلى جنب ذي المجاز. قال الرواةُ: لمَّا فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكّة، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان، خرج متوجهاً إلى حنين، لقتال هوازن وثقيف، في اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف من المهاجرين، وألفان من الطلقاءِ.
وقال عطاءٌ: عن ابن عباس «كانوا ستة عشر ألفاً».
وقال الكلبيُّ «كانوا عشرة آلاف». وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، وعلى هوازن: مالكُ بن عوف النضري، وعلى ثقيف: كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان، قال رجلٌ من الأنصار يقال له: سملة بنُ سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم عن لقَّةٍ، وهو المراد من قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾، فساء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، وفي رواية: لم يرض الله قوله، ووكلُوا إلى أنفسهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا، وانكشف المسلمون.
قال قتادةُ: وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ.
قوله: «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» فيه أوجه:
أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله: «فِي مَوَاطِنَ» عطف ظرف الزمان من غير واسطة «في» على ظرف المكان المجرور بها، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان، أو العكس، تقول: سرت أمامك ويوم الجمعة، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله.
الثاني: زعم ابنُ عطية: أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ «مَواطِنَ» بقتدير: «وفِي يَوْمِ»، فحذف حرف الخفض، وهذا لا حاجة إليه.
الثالث: قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: كيف عطف الزمان على المكان، وهو» يَوْمَ حُنينٍ «على» مَواطِنَ «؟.
قلت: معناه: وموطن يوم حنين، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين»
.
الرابع: أن يُراد ب «المواطِن» : الأوقاتُ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان.
قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه -: «ويجوزُ أن يُراد ب» المواطن «: الوقت، ك:
57
مقتل الحسين، على أنَّ الواجب أن يكون:» يَوْمَ حُنينٍ «منصوباً بفعل مضمر، لا بهذا الظَّاهر، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله:» إِذْ أَعجَبَتْكُمْ «بدلٌ من» يَوْمَ حُنَينٍ «، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر، لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به».
قال شهابُ الدِّين: «لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين، وعلى تأويل» المواطن «بالوقت، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟ وأمَّا قوله:» على أنَّ الواجب أن يكون «إلى آخره؛ كلامٌ حسنٌ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان، فإذا جعلنا» إذْ «بدلاً من» يَوْم «كان معمولاً له؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة، إلاَّ أنَّه قد ينقدح، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع الموطن، حتَّى يلزم ما قاله».
ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ: الجميع، كما يُراد بالقلة العدمُ.
قوله: «بِمَا رَحُبَتْ» «ما» مصدريةٌ، أي: رَحْبُها وسعتها.
وقرأ زيد بن علي في الموضعين «رَحْبَت» بسكون العين، وهي لغة تميم، يسكنون عين «فَعُل» فيقولون: في «شَرُف» «شَرْف». و «الرُّحْب» بالضمِّ: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع، يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةٌ، وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: رَحُبَتكم الدار «فعلى التضمين، لأنه بمعنى» وسعتكم «.

فصل


قوله: ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾ الإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، أي: فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم. والمعنى: أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صاروا منهزمين، ثم قال: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي: مع رحبها، و»
ما «ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى: إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم.
قال البراء بن عازب: كانت»
هوازن «رماة، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث. قال [البراء] : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
58
قط، قال: رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول:» أنَا النبيُّ لا كذِبْ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب «وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار، ثم قال للعبَّاس: نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِيك يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرةِ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيده كفاً من الحَصَى، فرماهم بها، وقال:» شَاهتِ الوُجوهُ «فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾.
والمراد بالسّكينة: ما يسكن إليه القلبُ، ويوجب الأمنة، ووجه الاستعارة فيه: أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك، وإذا أمن؛ سكن وثبت؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن. ثم قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ والمراد: أَنْزَلَ الملائِكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة، كما هو في قصة بدر، فقال سعيد بن جبير:»
أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة «ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر.
وقال سعيدُ بن المسيبِ: حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال: لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا، وقال آخرون: إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر، وفائدة نزولهم في هذا اليوم: هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
ثم قال تعالى: ﴿وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ﴾ والمرادُ من هذا التَّعذيب: قتلهم وأسرهم، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه.
قوله: ﴿وذلك جَزَآءُ الكافرين﴾ تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله ﴿الزانية والزاني﴾ [النور: ٢] قالوا: الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي؛ لأنه
59
﴿ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين ﴾ والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلبُ، ويوجب الأمنة، ووجه الاستعارة فيه : أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك، وإذا أمن ؛ سكن وثبت ؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن. ثم قال تعالى :﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ والمراد : أَنْزَلَ الملائِكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة، كما هو في قصة بدر، فقال سعيد بن جبير :" أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة " ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر١.
وقال سعيدُ بن المسيبِ : حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال : لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم٢ ؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
ثم قال تعالى :﴿ وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ ﴾ والمرادُ من هذا التَّعذيب : قتلهم وأسرهم، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى ؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه.
قوله :﴿ وذلك جَزَآءُ الكافرين ﴾ تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله ﴿ الزانية والزاني فاجلدوا ﴾ [ النور : ٢ ] قالوا : الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي ؛ لأنه تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٤٣)..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٤٣-٣٤٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٠٧) وعزاه إلى مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر..
قوله ﴿ ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ ﴾ أي : أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم، بأن يزيل عن قلبهم الكفر، ويخلق فيه الإسلام، وقال القاضي :" معناهُ : أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله :" ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ " ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التوبة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٣٧ ] ثم قال :﴿ والله غَفُورٌ ﴾ أي : لمن تاب :﴿ رَّحِيمٌ ﴾ لِمَنْ آمن وعمل صالحاً.
تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
قوله ﴿ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ﴾ أي: أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم، بأن يزيل عن قلبهم الكفر، ويخلق فيه الإسلام، وقال القاضي: معناهُ: أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله:» ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ «ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التبوة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧] ثم قال: ﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: لمن تاب ﴿رَّحِيمٌ﴾ لِمَنْ آمن وعمل صالحاً.
قوله
تعالى
: ﴿ياأيها
الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾
الآية.
اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة، وينبذ إليهم عهدهم، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسلوه، قال أناس: يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات؛ فنزلت هذه الآية، لرفع الشُّبهةِ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ أي: فَقْراً وحاجةً، ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ قال الأكثرون: لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ، وقال قومٌ: يتناولُ جميع الكُفَّارِ، وقد تقدم ذلك.
قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ: «نَجَسٌ»
قذر.
وقيل: خَبِيثٌ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى، والتثنية والجمع. جعلوا نفس النَّجَس، على المبالغة، أو على حذفِ مضاف.
وقرأ أبو حيوة «نِجْسٌ» بكسر النُّون وسكون الجيم، وجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على «فَعِل» مثل: «كَتِف وكَبِد» ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه، أي: فريق نجس، أو جنس نجس، فإذا أفرد قيل «نَجس» بفتح النون.
قال البغوي «ولا يقال على الانفراد، بكسر النُّون وسكون الجيم، إنَّما يقال»
60
رِجْسٌ نِجْسٌ «، فإذا أفرد قيل» نَجِسٌ «بفتح النون وكسر الجيم» وقرأ ابن السَّميفع «أنْجَاس» بالجمع، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور، أو جمع قراءةِ أبي حيوة، وأراد به نجاسة الحكم، لا نجاسة العين، سُمُّوا نجساً على الذَم.
وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ «سماهم نجساً» ؛ لأنَّهم يجنبون، فلا يغتسلون، ويحدثون فلا يتوضؤون «ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ» أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير «وعن الحسنِ» مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ «وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية.
وأمَّا الفقهاءُ: فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم، وهذا هلاف ظاهر القرآن، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف.
واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرب من أوانيهم، وأيضاً لو كان نجساً، لما تبدل ذلك بالإسلام، وأجاب القائلون بالنجاسة: بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين:
الأول: أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى، وكانت المعاهدة حاصلة معهم، فأزالها الله؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً: الشرب من أوانيهم، كان جائزاً فحرمه اللهُ.
الثاني: أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية، ثم حل بحكم الخبرِ، فقد حصل نسخان، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة؛ فوجب أن يكون هذا أولى.
وأما قولهم: لو كان الكافرُ نجس العين، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام. فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم؛ وجب عليه الاغتسالُ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر، وهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل، إنما يطهر بالغسل ما ينجس.

فصل


قالت الحنفيَّةُ: أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل
61
في رفع الحدث نجس، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أنَّهُ نجاسة خفيفة، وروى الحسنُ بن زيادٍ: أنَّه نجس نجاسة غليظة، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول؛ لأن كلمة «إِنَّمَا للحصر، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة، يخالف هذا النَّص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية، وقالوا: المشرك طاهرٌ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، مع مخالفة قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً، ولا ميتاً «وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب، والقرآن، والخبر، والإجماع، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث، فكيف يمكن مخالفته؟

فصل


قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام: نفس المسجدِ، وقيل: جميع الحرم، وهو الأقربُ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم، ويؤكد هذا قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام﴾ [الإسراء: ١] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ»
لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ «وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام:
أحدها: الحرم، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام، والإمام في الحرمِ، لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وإن دخلَ مشكر الحرم متوارياً فمرض فيه، أخرجناه مريضاً، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه، وأخرجنا عظامه إذا أمكن، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
والقسم الثاني من بلاد الإسلام: الحجازُ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ، مقام السفرِ، لما روي عن عمر بن الخطابِ، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
62
يقول: «لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً» فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوصى فقال: «أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب» فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عمر في خلافته، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً.
والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.

فصل


والمراد بقوله «بَعْدَ عامهم هذا» يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس، ونادى علي بالبراءة، وهو سنة تسع من الهجرةِ.
قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾. العيلةُ: الفقرُ، يقالك عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً: إذا افتقر. والمعنى: إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار: «فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ» قال مقاتل «أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكَّة، فكفاهم الله ما كانوا يخافون».
وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ: «عوَّضهم الله عنها بالجزية» وقيل: أغناهم بالفيء. وقال عكرمة: «أنزل اللهُ عليهم المطر، وكثر خيرهم».
فإن قيل: الغرضُ بهذا الخبر، إزالة الخوف بالعيلة، وقوله «إن شَاء اللهُ» يمنع من فائدة هذا المقصود.
فالجوابُ من وجوه:
الأول: ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات.
الثاني: أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب، كقوله: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله﴾ [الفتح: ٢٧].
الثالث: المقصودُ: التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات،
63
وفي جميع الأمكنة؛ لأنَّ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال في دعائه: ﴿وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات﴾ [البقرة: ١٢٦] وكلمة «مِنْ» للتبعيض، فقوله ههنا «إن شَاءَ اللهُ» المراد منه ذلك التبعيض.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾ بأحوالكم، «حَكِيمٌ» أي: لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب.
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر﴾ الآية.
لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية.
قال مجاهدٌ «نزلت حين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال الرُّوم، فغزا بعدها غزوة تبوك» وقال الكلبيُّ «نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين».
فإن قيل: أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكيف أمر بقتالهم؟.
فالجوابُ: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين؛ فإنَّهم إذا قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ.
قوله: ﴿وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ﴾ أي: لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن، وبينه الرسول، وقال أبو زيدٍ: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم.
قوله ﴿وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق﴾ أي: لا يدينون الدِّين الحق، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة: «الحَقّ» هو الله - عزَّ وجلَّ -؛ أي: لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام. قال أبو عبيدة: معناه: لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ.
قوله: ﴿مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ بيانٌ للموصول قبله، والمرادُ: اليهودُ والنصارى ﴿حتى يُعْطُواْ الجزية﴾ وهي الخراجُ المضروب على رقابهم، و «الجِزْيةُ» :«فِعْلَة»، لبيان الهيئة، ك «الرِّكْبَة». قال الواحديُّ: «الجزيةُ: ما يعطى المعاهد على عهده، وهي» فِعْلة «من جزى يجزي إذا قضى ما عليه».
قوله: «عَن يَدٍ» حالٌ، أي: يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء، وكذلك: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
64
قال الزمخشريُّ «قوله:» عن يدٍ «إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي، أو يد الآخذ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان:
أحدهما: عن يد غير ممتنعة؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده، بخلافِ المطيع المنقاد.
وثانيهما: حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ.
وإن كان المرادُ به: يد الآخذ، ففيه وجهان:
الأول: حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم، كما تقولُ: اليد في هذا لفلان.
وثانيها: أنَّ المراد: عن إنعام عليهم؛ لأنَّ قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم»
.
قوله ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي: تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية.
وقال الكلبيُّ: «إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ». وقيل: يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء.
وقيل: إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار؛ وقال الشافعيُّ «الصِّغارُ: جريان أحكام الإسلام عليهم».

فصل


الكفار فريقان، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، ويصيروا مؤمنين.
والثاني: أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى؛ فهؤلاء يقرون بالجزية، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ»، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ.

فصل


اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب، وهم اليهودُ والنصارى إذا
65
لم يكونوا عرباً، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم؛
66
فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال: غسان -، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ.
وقال أبُو حنيفة: تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم، وتؤخذُ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العربِ. وقال أبو يوسف: لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ».

فصل


قال القاضي: قسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على كل محتلم ديناراً، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين، ولمَّا بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً، أي: بالغ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان، وكذلك لا تجب على النساء، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ.

فصل


تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة، وعند الشافعي وغيره في آخرها. وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ» وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا تسقطُ.

فصل


قال بعضُ العلماءِ: هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم
67
الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل، وأيضاً فكتابهم في أيديهم، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى.

فصل


طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال: إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى، قوله: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً﴾ [مريم: ٩٠ - ٩١] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه، وما منعهم منه.
والجواب: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان.
68
قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية.
قال مجاهدٌ " نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الرُّوم، فغزا بعدها غزوة تبوك " ١ وقال الكلبيُّ " نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين " ٢.
فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكيف أمر بقتالهم ؟.
فالجوابُ : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ؛ فإنَّهم إذا قالوا : عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ.
قوله :﴿ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ ﴾ أي : لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن، وبينه الرسول، وقال أبو زيدٍ : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم.
قوله ﴿ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق ﴾ أي : لا يدينون الدِّين الحق، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة :" الحَقّ " هو الله - عزَّ وجلَّ - ؛ أي : لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام٣. قال أبو عبيدة : معناه : لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ.
قوله :﴿ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ بيانٌ للموصول قبله، والمرادُ : اليهودُ والنصارى ﴿ حتى يُعْطُواْ الجزية ﴾ وهي الخراجُ المضروب على رقابهم، و " الجِزْيةُ " :" فِعْلَة "، لبيان الهيئة، ك " الرِّكْبَة ". قال الواحديُّ :" الجزيةُ : ما يعطى المعاهد على عهده، وهي " فِعْلة " من جزى يجزي إذا قضى ما عليه ".
قوله :" عَن يَدٍ " حالٌ، أي : يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء، وكذلك :﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾.
قال الزمخشريُّ " قوله :" عن يدٍ " إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي، أو يد الآخذ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان :
أحدهما : عن يد غير ممتنعة ؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده، بخلافِ المطيع المنقاد.
وثانيهما : حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ.
وإن كان المرادُ به : يد الآخذ، ففيه وجهان :
الأول : حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم، كما تقولُ : اليد في هذا لفلان.
وثانيها : أنَّ المراد : عن إنعام عليهم ؛ لأنَّ قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم ".
قوله ﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ أي : تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية.
وقال الكلبيُّ :" إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ " ٤. وقيل : يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء.
وقيل : إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار ؛ وقال الشافعيُّ " الصِّغارُ : جريان أحكام الإسلام عليهم ".

فصل


الكفار فريقان، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية ؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا : لا إله إلاَّ الله، ويصيروا مؤمنين.
والثاني : أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى ؛ فهؤلاء يقرون بالجزية، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب، لقوله عليه الصلاة والسلام :" سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ " ٥، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ.

فصل


اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى٦ إذا لم يكونوا عرباً، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم ؛ فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال ؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال : غسان -، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب ؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ.
وقال أبُو حنيفة : تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم، وتؤخذُ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العربِ. وقال أبو يوسف : لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ " ٧.

فصل


قال القاضي٨ : قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين، ولمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً، أي : بالغ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان، وكذلك لا تجب على النساء، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ.

فصل


تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة، وعند الشافعي وغيره في آخرها. وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام " لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ " ٩ وعند الشافعي - رضي الله عنه - لا تسقطُ.

فصل


قال بعضُ العلماءِ : هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل، وأيضاً فكتابهم في أيديهم، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى.

فصل


طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى، قوله :﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً ﴾ [ مريم : ٩٠-٩١ ] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه، وما منعهم منه.
والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله ؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٤٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤١٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٨٢)..

٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٨٢)..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٨٢)..
٤ انظر المصدر السابق..
٥ أخرجه مالك (١/٢٧٨) والشافعي (٢/١٣٠) وعبد الرزاق (٦/٦٨-٦٩) رقم(١٠٠٢٥) وابن أبي شيبة (١٢/٢٤٣) وأبو عبيد في "الأموال" رقم (٧٨) والبيهقي (٩/١٨٩-١٩٠) كلهم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر به قال الحافظ في "الفتح" (٦/٢٦١) هذا منقطع مع ثقة رجاله..
٦ ثبتت مشروعية عقد الذمة بالكتاب والسنة والإجتماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى:﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ ففي هذه الآية جعل الله نهاية قتالهم إعطاءهم الجزية والتزامها.
وأما السنة: فما رواه الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى من حديث طويل " أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" وهذا الحديث يبين أن القتال غايته الإسلام، أو إعطاء الجزية وما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، وقال له: وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأتيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم قال: فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث-وهذا الحديث أيضا يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمراء الجيوش بدعوة الكفار إلى إعطاء الجزية وجعل قبولهم لها سببا في ترك القتال.
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز عقد الذمة مع الكفار في الجملة.
وشرع عقد الذمة في السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة وشرعت الذمة في الإسلام لما اشتملت عليه من فوائد كثيرة لعقد الصلات السلمية بين المسلمين وغيرهم، وقد وضع الإسلام لها قواعد وافية إذا روعيت نشأ عنها صلح دائم فيه الطمأنينة والسلامة والأمن، فإذا عقد الحربي ذمة مع المسلمين أصبح آمنا على نفسه وولده وماله بعد أن كان دمه مهدرا وولده مسبيا وماله مغنوما وحماه مستباحا.
ومن فوائدها أنها تعطي الحربي فرصة للاتصال بالمسلمين يعرضون أمامه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتعاليم دينهم، ومحاسنه وآدابه، ورفقه، وقلة تكاليفه وسهولتها فربما مال قلبه لدين الحق فآمن به وكان من الفائزين، وقد دخل كثير من الناس في الإسلام عن هذا الطريق فهو في الواقع سبيل سلمي من سبل الدعوة إلى الدين.
واتفق الفقهاء على أن الذمة تعقد لأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، ومن دان بدينهم لقوله تعالى:﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾.
وتعقد للمجوس لما رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، وأحمد عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وفي رواية أن عمر رضي الله عنه ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي.
واختلفوا في عبدة الأوثان فعند الشافعي، وأحمد في ظاهر المذهب، وابن حزم أن غير اليهود، والنصارى، والمجوس لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.
وذهب الحنفية إلى أن عقد الذمة جائز مع جميع الكفار ما عدا مشركي العرب والمرتدين.
وذهب الإمام مالك، والأوزاعي وفقهاء الشام إلى أنه جائز مع جميع الكفار ما عدا المرتدين.
واستدل الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ فإنه عام في قتل كل مشرك خص منه أهل الكتاب بقوله تعالى: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر﴾ الآية، والمجوس بقوله عليه الصلاة والسلام "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فبقي من عداهم داخلا في العموم.
وأما ما ورد في حديث بريدة من قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا لقيت عدوك من المشركين إلى قوله فسلهم الجزية" فمنسوخ أو محمول على أهل الكتاب.
واستدل الحنفية على جواز عقدها مع غير مشركي العرب والمرتدين بقياس أخذ الجزية على استرقاقهم بجامع أن كلا فيه استسلام المأخوذ منهم، ودخولهم في حوزة الإسلام وكف المسلمين عن قتلهم.
واستدلوا على عدم جواز عقدها مع مشركي العرب والمرتدين بأن كفرهم قد تغلظ، أما مشركو العرب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بينهم، والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة فيحقهم أظهر، وأما المرتدون فلأنهم كفروا بربهم بعدما هدوا إلى الإسلام ووقفوا على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف.
واستدل الإمام مالك، ومن معه بما رواه مسلم عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام، إلى أن قال فإن هم أبوا فسلهم الجزية"، فقد أمره بأخذ الجزية من المشركين من غير فرق بين عربي وعجمي.
واستدل على عدم جواز أخذها من المرتدين بمثل ما تقدم للحنفية..

٧ تقدم..
٨ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٦/٢٦..
٩ أخرجه أبو داود (٢/١٨٧) كتاب الخراج والفيء والإمارة: باب في الذمي يسلم على بعض السنة هل عليه جزية الحديث (٣٠٥٣) من طريق قابوس عن أبيه عن ابن عباس..
﴿وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله﴾ الآية.
قرأ عاصم والكسائيُّ بتنوين «عُزَيْرٌ»، والباقون من غير تنوين، فأمَّا القراءةُ الأولى فيحتمل أن يكون اسماً عربياً مبتدأ، و «ابنُ» خبره، فتنوينه على الأصل، ويحتمل أن يكون أعجمياً، ولكنهُ خفيفُ اللَّفظِ، ك «نُوحِ»، و «لُوطٍ»، فصُرفَ لخفَّة لفظه، وهذا قول أبي عبيد، يعني: أنَّهُ تصغيرُ «عَزَر»، فحكَمه حكم مُكَبَّره، وقال: هذا ليس منسوباً إلى أبيه، إنَّما هو كقولك: زيد ابن الأمير، وزيد ابن أخينا، و «عُزَيْرٌ» مبتدأ وما بعده خبره، ورُدَّ هذا بأنَّه ليس بتصغير، إنَّما هو أعْجَمي، جاء على هيئة التَّصغيرِ في لسان العرب، ك «سُلَيْمَان»، جاء على مثال «عُثَيْمَان، وعُمْيَران».
وأمَّا القراءةُ الثانية؛ فيحتمل حذفُ التنوين ثلاثة أوجه:
68
أحدها: أنَّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدِّ قراءة ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢]. قال الفرَّاء: نون التنوين في «عُزَيْرٌ» ساكنة، والباء في قوله «ابْنُ اللهِ» ساكنة، فالتقى ساكنان، فحذف نون التنوين للتخفيف؛ وأنشد: [المتقارب]
٢٧٧٦ - وألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ولا ذَاكِرٍ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء، و «ابن» خبره.
الثاني: أنَّ تنوينه حذف، لوقوع الابن صفة له، فإنَّه مرفوعٌ بالابتداء، و «ابن» صفته، والخبرُ محذوفٌ، أي: عُزَيرٌ ابْنُ الله نَبيُّنا، أو إمامُنَا، أو رسولُنَا، وقد تقدَّم أنَّه متى وقع «الابن» صفة بين علمين، غير مفصولٍ بينه وبين موصوفه، حذفت ألفه خطّاً، وتنوينه لفظاً، ولا تثبت إلاَّ ضرورة، وتقدم الاشتشهادُ عليه آخر المائدة. ويجوز أن يكون «عُزَيْرٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: نَبيُّنا عُزير، و «ابن» صفةٌ له، أو بدل، أو عطف بيان.
الثالث: أنه إنَّما حذف، لكونه ممنوعاً من الصَّرف، للتعريف والعجمة. ولم يرسم في المصحف إلاَّ بإثبات الألف، وهي تنصرُ من يجعله خبراً.
وقال الزمخشري: «عزير ابن» مبتدأ وخبره، كقوله: ﴿المسيح ابن الله﴾ و «عُزَيْرٌ» اسم أعجمي،: «عَزرَائيل، وعيزار» ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه، ومن صرفه جعله عربياً. وقول من قال بسقوط التنوين؛ لالتقاء الساكنين، كقراءة ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١، ٢] ولأنَّ «الابن» وقع وصفاً، والخبر محذوف، وهو «معبودنا» فتمحُّلٌ عن مندوحة «.

فصل


لمَّا حكم تعالى في الآيةِ المتقدِّمة على اليهودِ والنَّصارى بأنهم لا يُؤمنونَ بالله، شرح ذلك في هذه الآية، بأن نقل عنهم أنهم أثبتُوا للهِ ابناً ومنْ جوَّز ذلك في حق الإله، فقد أنكر الإله في الحقيقة، وأيضاً بيَّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة، إذ لا فرق بين من يعبد الصَّنم وبين من يعبد المسيح وغيره، لأنه لا معنى للشرك إلاَّ أن يتَّخذ الإنسانُ مع الله معبوداً، وهذا معنى الشِّرك، بل لو تأمَّلنَا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخَفّ من كفر النصارى؛ لأنَّ عابد الوثن لا يقولُ: إنَّ هذا الوثن خالق للعالم، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسَّلُ به إلى طاعة الله، والنَّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح؛ فثبت أنَّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين.
فإن قيل: اليهودُ قسمان: منهم مشبهة، ومنهم موحدة، كما أنَّ المسلمين كذلك، فهَبْ أنَّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله، فما قولكم في موحدة اليهود؟.
69
فالجوابُ: أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية، وإنما وجبت الجزيةُ عيهم؛ لأنَّه لمَّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم؛ وجب القول به في حل الكلِّ؛ لأنه لا قائل بالفرق.
وأما النَّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القُدسِ، والحلول والاتحاد، وذلك ينافي الإلهيَّة.
وإنَّما خصَّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم؛ لأنَّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام -، وادَّعُوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين، وكتابيهما المعظمين، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى، لأنهم كانوا على الدِّين الحق، حكم الله بقبول الجزية منهم، وإلاَّ ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين.

فصل


في قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله﴾ أقوال:
أحدها: قال عبيد بن عمير: إنَّما قال هذا رجلٌ واحد من اليهود اسمه: فنحاص بن عازوراء، وهو الذي قال: ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ [آل عمران: ١٨١].
وثانيها: روى سعيدُ بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: «أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة من اليهود سلام بن مشكم، والنعمان بن أبي أوْفَى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، ولا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله؟ فنزلت هذه الآية. وعلى هذين القولين، فالقائل بهذا بعض اليهود، وإنما نُسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحدِ، يقال: فلانٌ ركبَ الخيولَ وجالسَ السَّلاطينَن ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحداً.
وثالثها: لعلَّ هذا المذهب كان فَاشياً فيهم ثمَّ انقطع، فحكى الله ذلك عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهُودِ ذلك، فإنَّ حكاية الله عنهم أصدق، والسَّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فأنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فتضرَّع عزير إلى الله وابتهل إليه، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه به فلمَّا حرَّبُوه وجدوه صادقاص فيه، ثم إنَّ التابوت نزل بعد دعائه منهم، فلمَّا رأوا التَّابُوتَ عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير؛ فوجدوه مثله، فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلاَّ أنه ابن الله.
70
وقال الكلبيُّ: «لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً؛ فاستصغره فلم يقتله، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً، ليجدِّد لهم التوراة، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام، يقال: أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء؛ فسقاه، فمثلت التوراة في صدره، فلمَّا أتاهُم وقال: أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا: إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم، ثمَّ إنَّ رجلاً قال: إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير، فلم يغادر حرفاً، فقالوا: إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه، فقالوا: عُزيرٌ ابنُ الله».

فصل


وأمَّا قولُ النَّصارى المسيح ابن اللهِ، فظاهرٌ، وفيه إشكال، وهو أنَّا نقطع أن المسيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان مبرأً من دعوة النَّاس إلى الأبوة والبنوة؛ فإنَّ هذا أفحش أنواع الكُفْرِ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء؟ وإذا كان كذلك، فكيف يعقلُ إطباق محبي عيسى من النصارى عليه، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسدَ؟
وأجاب المفسِّرُون عن هذا: بأنَّ أتباع عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كانُوا على الحقِّ بعدما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولص قتل جماعةً من أصحاب عيسى، ثم قال لليهود: إن كان الحقُّ مع عيسى؛ فقد كفرنا، والنَّار مصيرنا، ونحن مغبونون إنْ دخلوا الجنَّة ودخلنا النارَ، وإني أحتال؛ فأضلهم حتى يدخلوا النَّار، وكان له فرس يقال له: العقاب، يقاتلُ عليه، فعرقب فرسه، وأظهر الندامة، ووضع التراب على رأسه، فقالت له النَّصارى: مَنْ أنتَ؟ قال: بولص عدوكم، تبتُ، فنوديت من السَّماء ليس لك توبة إلاَّ أنْ تَتَنَصَّر؛ وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة، ومكث سنةً لا خرج ليلاً ولا نهاراً، حتَّى تعلَّم الإنجيل وقال: نوديت أنَّ الله قبل توبتك؛ فصدقوه وأحبوه.
ثم مضى إلى بيتِ المقدسِ، واستخلف عليهم رجلاً اسمه: نسطور، وعلمه أنَّ عيسى، ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الرُّوم وعلَّمهم اللاهوت والنَّاسوت، وقال: ما كان عيسى إنساناً، ولا جسماً ولكنه ابن الله، وعلَّم رجلاً يقال له: يقوبُ ذلك، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له: إنَّ الإله لم يزل، ولا يزال عيسى، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلِّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النَّاس إلى إنجيلك، ولقد رأيتُ عيسى في المنام ورضي عنِّي، وإنِّي غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح، فذبح نفسه، فلمَّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النَّاس إلى مذهبه؛ فتبع كلُّ واحد منهم طائفة، فاختلفوا واقتتلوا، هذا ما حكاه الواحديُّ وغيره.
71
قال ابنُ الخطيبِ: «والأقربُ عندي أن يقال: لعلَّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التِّشريفِ، ثم إنَّ القومَ لأجل عداوة اليهود؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطَّرف الثاني، فبالغوا وفسَّرُوا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية، والجهال قبلوا ذلك، وفشا هذا المذهبُ الفاسدُ في أتباع عيسى، والله أعلم بحقيقة الحال».
قوله: ﴿ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ واعلم أنَّ كلَّ قول إنَّما يقال بالفمِ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة؟ والجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ معناه قول لا يعضده برهانٌ، وإنّما هو لفظ يفوهُون به فارغ من معنى معتبر لحقه؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه مُنزَّهٌ عن الحاجة والشهوة، والمضاجعة، والمباضعة قولٌ باطلٌ، ليس له تأثير في العقل، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٧].
وثانيها: أنَّ الإنسان قد يختار مذهباً إمَّا على سبيل الكناية، وإمَّا على سبيل الرَّمز، وأمَّا إذا صرَّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب، والمعنى على هذا: أنَّهم يُصرِّحون بهذا المذهبِ ولا يخفونه ألبتة.
وثالثها: أنَّ المعنى: أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمرادُ: مبالغتهم في دعوة الخلقِ إلى هذا المذهب.
قال أهل المعاني: لم يذكر اللهُ قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلاَّ كان ذلك زوراً.
قال ابنُ العربي: «في هذه الآية دليلٌ من قول ربنا تبارك وتعالى على أنَّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه؛ لأنَّه إنَّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرَّد عليه، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه، على معنى إنكاره بالقلب واللسان، والردّ عليه بالحجَّة».
قوله «يُضَاهِئُونَ» قرأ العامة «يُضَاهُون» بضمِّ الهاءِ، بعدها واو، وعاصم بهاءٍ مكسورة، بعدها همزةٌ مضمومة، بعدها واو، فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو المشابهة، وفيه لغتانِ: «ضَاهَأتُ وضَاهَيْتُ» بالهمز والياءِ، والهمزُ لغة ثقيف.
وقيل: الياء فرع عن الهمزةِ، كما قالوا: قرأ وقَرَيْت، وتوضَّأت وتوضَّيت، وأخْطَأت وأخْطَيْت. وقيل: بل «يُضَاهِئُونَ» بالهمزِ مأخوذ من «يُضَاهِيونَ»، فلمَّا ضُمَّت
72
الياء قُلبتْ همزةً، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضع حتى تقلبَ همزةً، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء، نحو: يُرامُونَ، من «الرمي»، ويُماشُونَ، من «المشي» وزعم بعضهم: أنَّهُ مأخوذٌ من قولهم: «امرأة ضَهْيَا» بالقصر، وهي التي لا ثَدْيَ لها، أو الَّتي لا تحيضُ، سُمِّيت بذلك، لمشابهتها الرجال، يقال امرأة ضَهْيَا، بالقصر وضَهْيَاء، بالمد، ك: حمراء، وضَهْيَاءة، بالمدِّ وتاءِ التأنيث، ثلاث لغات، وشذِّ الجمعُ بين علامتي تأنيث في هذه اللَّفظة، حكى اللغة الثالثة الجرميُّ، عن أبي عمرو الشيباني.
قيل: وقولُ من زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ من: امرأة ضَهْيَاء، في لغاتها الثلاث، فقوله خطأ، لاختلاف المادتين، فإنَّ الهمزة في «امرأة ضَهْيَاء» زائدة في اللُّغاتِ الثلاث، وهي في «المضاهأة» أصلية.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يُدَّعَ أنَّ همزة «ضهياء» وباؤها زائدة؟.
فالجوابُ: أنَّ «فَعْيَلاً» بفتح الياء يَثْبُتْ.
فإن قيل: فَلِمَ لم يُدَّعَ أنَّ وزنها «فَعْلل»، ك: «جَعْفَرٍ» ؟.
فالجوابُ: أنه قد ثبت زيادة الهمة في «ضَهْيَاء» بالمدِّ، فثبت في اللُّغة الأخرى، وهذه قاعدة تصريفية، والكلامُ على حذف مضاف تقديره: يُضَاهي قولهم قول الذين، فحذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مقامه، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرٍّ.
والجمهور على الوقف على «بأفواههم»، ويبتدئون ب «يُضَاهِئُونَ».
وقيل: الباء تتعلَّق بالفعل بعدها، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف. واستضعف أبو البقاءِ قراءة عاصم، وليس بجيِّدٍ لتواترها، وقال أحمدُ بنُ يحيى: لم يتابع أحد عاصماً على الهمز.
والمضاهاة: المشابهة، في قول أكثر أهل اللُّغة. وقال شمرُ: «المضاهاة: المتابعة، يقال: فلان يضاهي فلاناً، أي: يتابعه».

فصل


قال مجاهدٌ: «» يضاهئون «قول المشركين من قبلن كانوا يقولون: اللاَّت والعُزَّى بنات الله».
وقال قتادة والسديُّ: «ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالوا: المسيحُ ابنُ الله، كقول اليهود من قبل عزير ابنُ الله؛ لأنهم أقدم منهم» وقال الحسنُ: «شبَّه كفرهم
73
بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة» كما قال في مشركي العرب: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: ١١٨].
وقال القتيبي: «يريد من كان في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى، يقولون ما قال أسلافهم».
قوله: «قَاتَلَهُمُ الله» قال ابنُ عبَّاسٍ: لعنهم الله. وقال ابن جريج: قتلهم اللهُ.
وقيل: هذا بمعنى التَّعجب من شناعةِ قولهم، كما يقال: ركبوا شنيعاً، قاتلهم اللهُ ما أعجب فعلهم، وهذا التعجب إنَّما هو راجع إلى الخلقِ، والله لا يتعجَّبُ من شيء، ولكن هذا الخطابُ على عادة العرب في مخاطبتهم، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
«أنى يُؤْفَكُونَ» أي: كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه.
قوله ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾.
الأحْبَارُ: العلماءُ. قال أبو عبيد: «الأحبارُ: الفقهاءُ قد اختلفوا في واحده، فقال بعضهم:» حَبْرٌ «، وقال بعضهم» حِبْرٌ «.
وقال الأصمعيُّ: لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ «. وكان أبو الهيثم يقول:»
واحد «الأحبار» «حَبْرٌ» بالفتح لا غير، وينكر الكسر «وكان الليثُ، وابن السِّكيت يقولان» حِبْر «و» حَبْر «للعالم ذِمِّيّاً كان أو مسلماً، بعد أن يكون من أهل الكتاب». وقال أهل المعاني: «الحبر» : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحس البيان عنها، وإتقانها، ومنه: ثوب محبر، أي: جمع الزينة، والرَّاهبُ: الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون.
والرُّهبان: علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع. ومعنى اتخاذهم أرباباً: أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، واستحلُّوا ما أحلوا، وحرموا ما حرموا.
قال أكثرُ المفسرين: «ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم، بل المراد: أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم».
قال عدي بن حاتم: «أتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة، فقال:» يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك «فطرحته، ثم انتهى إلى قوله: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ فقلت: إنّا لنسا نعبدهم، فقال:» أَلَيْسَ
74
يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ؟ «قال قلت: بلى، قال:» فَتِلْكَ عبادتُهُمْ «.
وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى. فإن قيل: إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ.
فالجوابُ: أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه، لكنه يلعنه، فظهر الفرق.

فصل


قوله ﴿والمسيح ابن مَرْيَمَ﴾ عطف على»
رُهبانهم «، والمفعول الثَّاني محذوف، والتقدير: اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في» اتَّخَذُوا «، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله:» أي: واتخذوا المسيح ربًّا، فحذف الفعل وأحد المفعولين «. وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: وعبدُوا المسيح ابن مريم.
ثم قال: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي: سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وفي كونه معبوداً، وفي وجوب نهاية التعظيم.
قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ الآية.
ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والمراد من «النور»
قال الكلبيُّ: هو القرآن، أي: يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً. وقيل: النور: الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه. وسمى الدلائل نوراً؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب.
قوله: ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ «أن يتمّ» مفعول به، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب؛ لأنَّهُ في معنى النفي، فقال الأخفشُ الصغيرُ «معنى يأبَى: يمنع» وقال الفرَّاء: «دخلتْ» إلاَّ «لأن في الكلام طرفاً من الجحد» وقال الزمخشريُّ: «أجْرَى» أبَى «مُجْرى» لَمْ يُرِدْ «، ألا ترى كيف قُوبل: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ﴾ بقوله: ﴿ويأبى الله﴾، وأوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره؟».
75
والتقدير: لا يريد إلا أن يتمَّ نوره، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة، وهي المنع والامتناع.
والدليل عليه قوله عليه السلام: «وإذا أرادوا ظلمنا أبينا» فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف.
وقال الزَّجاج «إنَّ المستثنى منه محذوفٌ، تقديره: ويَأبَى أي: ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره» وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال: «يَأبَى بمعنى: يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لما فيه من معنى النَّفْي، والتقدير: يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره». أي: يعلي دينه ويظهر كلمته، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق﴾. يعني: الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه، هو الذي أرسل رسوله محمداً: «بالهُدَى»، أي: القرآن، وقيل: ببيان الفرائض «ودين الحقِّ» وهو الإسلام، «لِيُظهِرَهُ» ليعليه وينصره، ﴿عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ على سائر الأديان كلها ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ فإن قيل: ظاهر قوله ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة.
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال ابن عباسٍ «الهاءُ في» لِيُظهِرَهُ «عائدة إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: ليعلمه شرائع الدِّين كلها، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء».
وثانيها: قال أبو هريرة والضحاك: هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نزول عيسى قال: «ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام».
وروى المقدادُ قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ: «لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام، بِعِزِّ عزيز، أو بذُلِّ ذليلٍ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ».
76
وقال السديُّ: ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام، أو أدَّى الخراج.
وثالثها: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ في جزيرة العربِ، وقد حصل ذلك، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ.
ورابعها: أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون، وظهروا عليهم في بعض المواضع، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهُود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند.
وخامسها: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ بالحُجَّةِ والبيانِ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ. ويمكن أن يجاب عنه، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات، بسبب ضعف المؤمنين، واستيلاء الكُفَّارِ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل، وأمَّا بعد قوة الإسلام، وعجز الكُفَّار، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام.
77
ثم انتهى إلى قوله :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ فقلت : إنّا لنسا نعبدهم، فقال :" أَلَيْسَ يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ ؟ " قال قلت : بلى، قال :" فَتِلْكَ عبادتُهُمْ " ١٥.
وقال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ قال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان ؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى. فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ.
فالجوابُ : أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه، لكنه يلعنه، فظهر الفرق.

فصل


قوله ﴿ والمسيح ابن مَرْيَمَ ﴾ عطف على " رُهبانهم "، والمفعول الثَّاني محذوف، والتقدير : اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في " اتَّخَذُوا "، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله :" أي : واتخذوا المسيح ربًّا، فحذف الفعل وأحد المفعولين ". وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : وعبدُوا المسيح ابن مريم.
ثم قال :﴿ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي : سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وفي كونه معبوداً، وفي وجوب نهاية التعظيم.
قوله :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ الآية.
ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عليه الصلاة والسلام. والمراد من " النور " قال الكلبيُّ : هو القرآن١، أي : يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً. وقيل : النور : الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه. وسمى الدلائل نوراً ؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب.
قوله :﴿ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾ " أن يتمّ " مفعول به، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب ؛ لأنَّهُ في معنى النفي، فقال الأخفشُ الصغيرُ " معنى يأبَى : يمنع " وقال الفرَّاء٢ :" دخلتْ " إلاَّ " لأن في الكلام طرفاً من الجحد " وقال الزمخشريُّ :" أجْرَى " أبَى " مُجْرى " لَمْ يُرِدْ "، ألا ترى كيف قُوبل :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ﴾ بقوله :﴿ ويأبى الله ﴾، وأوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره ؟ ".
والتقدير : لا يريد إلا أن يتمَّ نوره، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة، وهي المنع والامتناع.
والدليل عليه قوله عليه السلام :" وإذا أرادوا ظلمنا أبينا " ٣ فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم ؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف.
وقال الزَّجاج٤ " إنَّ المستثنى منه محذوفٌ، تقديره : ويَأبَى أي : ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره " وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال٥ :" يَأبَى بمعنى : يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لما فيه من معنى النَّفْي، والتقدير : يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره ". أي : يعلي دينه ويظهر كلمته، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم :﴿ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ﴾.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٨٦)..
٢ ينظر: معاني القرآن للفراء ١/٤٣٣..
٣ أخرجه البخاري (٧/٤٦١) كتاب المغازي: باب غزوة الخندق وهي الأحزاب حديث (٤١٠٦) من حديث البراء..
٤ ينظر: معاني القرآن للزجاج ٢/٤٩٢..
٥ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/١٤..
قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق ﴾. يعني : الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه، هو الذي أرسل رسوله محمداً :" بالهُدَى "، أي : القرآن، وقيل : ببيان الفرائض " ودين الحقِّ " وهو الإسلام، " لِيُظهِرَهُ " ليعليه وينصره، ﴿ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ على سائر الأديان كلها ﴿ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾ فإن قيل : ظاهر قوله ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن عباسٍ " الهاءُ في " لِيُظهِرَهُ " عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي : ليعلمه شرائع الدِّين كلها، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء " ١.
وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى قال :" ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام " ٢.
وروى المقدادُ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ :" لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام، بِعِزِّ عزيز، أو بذُلِّ ذليلٍ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ " ٣.
وقال السديُّ : ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام، أو أدَّى الخراج٤.
وثالثها :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ في جزيرة العربِ، وقد حصل ذلك، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ.
ورابعها : أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون، وظهروا عليهم في بعض المواضع، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهُود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند.
وخامسها :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ بالحُجَّةِ والبيانِ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ. ويمكن أن يجاب عنه، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات، بسبب ضعف المؤمنين، واستيلاء الكُفَّارِ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل، وأمَّا بعد قوة الإسلام، وعجز الكُفَّار، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام.
١ انظر المصدر السابق..
٢ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (٢/٤٣٧)..
٣ أخرجه أحمد (٦/٤) والحاكم (٤/٤٣٠) والبيهقي (٩/١٨١) والبخاري في "التاريخ الكبير" (٢/١٥١) وابن حبان (١٦٣١- موارد) والطبراني في "الكبير" (٢٠/٢٥٤-٢٥٥) رقم (٦٠١) عن المقداد بن الأسود.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في "المجمع" (٦/١٧) وقال:.... ورجال الطبراني رجال الصحيح. وله شاهد من حديث تميم الداري:
أخرجه أحمد (٤/١٠٣) والطبراني (٢/٥٨) رقم (١٢٨٠) والبيهقي (٩/١٨١).
وذكره الهيثمي في "المجمع" (٦/١٧) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح..

٤ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٣٣)..
قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل﴾ الآية.
لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل. فقوله: «كثيراً» يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم، لا طريقة الكل، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق، وإطباق الكُل على الباطل،
77
كالممتنع، وهذا يدلُّ على أنَّ إجماع هذه الأمة على الباطل، لا يحصلُ؛ فكذلك في سائر الأمم، وعبَّر عن أخذ الأموال ب «الأكلِ» ؛ إمَّا لأنَّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، وإمَّا لأنَّ من أكل شيئاً، فقد ضمَّه إلى نفسه، ومنع غيره من الوصول إليه؛ وإمَّا لأنَّ من أخذ أموال الناس، إذا طولب بردّها، قال: أكلتها، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل.
واختلفوا في تفسير هذا «الباطل». فقيل: كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام، والمسامحة في الشرائع، وقيل: كانوا يدَّعُون عند العوام منهم، أنَّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلاَّ بخدمتهم وطاعتهم، وبذل الأموال في مرضاتهم، والعوامُ كانوا يغْتَرُّونَ بتلك الأكاذيب، وقيل: كانوا يُغَيِّرُونَ الآيات الدَّالة على مبعث محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وعلى صدقه، ويذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدةً، ويُطَيِّبُون قلوب عوامهم بهذا السَّبب، ويأخذون الرشوة عليهم، وقيل: كانوا يُحرِّفُون كتاب الله، ويكتبون كتباً ويقولون هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم.
قوله «وَيَصُدُّونَ» يحتمل أن يكون متعدياً، أي: يصدُّون النَّاسَ، وأن يكون قاصراً، كذا قال أبو حيان، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه متعدٍّ فقط، وإنَّما يحذف مفعوله، ويراد، أو لا يُراد، كقوله ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ [البقرة: ٦٠].
قوله ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب﴾ الجمهورُ على قراءته بالواو، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنَّها استئنافيةٌ، و «الذينَ» مبتدأ ضُمِّنَ معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاءُ في خبره.
الثاني: أنَّه من أوصافِ الكثير من الأحبارِ والرُّهبان، وهو قول عثمان ومعاوية.
قال زيدُ بنُ وهبٍ: مررتُ بأبي ذر بالربذة، فقلت: يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال: كنت بالشام، فقرأت: ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ فقال معاويةُ: هذه الآية في أهل الكتابِ، فقلتُ: إنها فيهم وفينا، فصار ذلك سبباً للوحشة بين وبينه، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليَّ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النَّاس عنِّي؛ كأنهم لم يَرَوْنِي من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنح قريباً، فقلت: والله إنّي لم أدع ما كنت أقول.
ويجوزُ أن يكون «الَّذينَ» منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، يُفسِّره، «فَبشِّرهُم» وهو أرجحُ، لمكان الأمر.
وقرأ طلحة بن مصرف «الَّذينَ» بغير واو، وهي تحتملُ الوجهين المتقدمين، ولكنَّ
78
كونها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرُّهبان أظهر من الاستئناف، عكس التي بالواو.
و «الكَنْزُ» الجمعُ والضَّم، ومنه: ناقة كناز، أي: منضمَّة الخَلْق. ولا يختص بالذهب والفضة، بل يقال في غيرهما، وإن غلب عليهما؛ قال: [البسيط]
٢٧٧٧ - لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أطعَمْتُ جَائِعَهُمْ قِرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ
وقال آخر: [الرجز]
٢٧٧٨ - على شَديدٍ لحمُهُ كِنَاز بَاتَ يُنَزِّينِي على أوفَازِ
قوله: «وَلاَ يُنفِقُونَهَا» تقدَّم شيئان وعاد الضمير مفرداًن فقيل: إنه من باب ما حذف، لدلالة الكلام عليه، والتقدير: والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه. وقيل: يعود على المكنوزات، ودلَّ على هذا جُزْؤه المذكورُ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدين وغيرهما، فلمَّا ذكر الجزءَ دلَّ على الكُل، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار؛ ونظيره قول الآخر: [الطويل]
٢٧٧٩ - ولَوْ حَلفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أمُّ عَامِرٍ ومَرْوَتِهَا باللهِ بَرَّتْ يَمينَهَا
أي: ومروة مكة، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤها، وهو الصَّفا، كذا استدل به ابن مالك، وفيه احتمالٌ، وهو أن يكون الضميرُ عائداً على «الصَّفا»، وأنَّثَ حملاً على المعنى، إذْ هو في معنى البقعة والحدبة.
وقيل: الضميرُ يعودُ على الذهب؛ لأنَّ تأنيثه أشهر، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضاً.
وقيل: إنَّ كلَّ واحد منهما جملة وافية، دنانير ودراهم، فهو كقوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩].
وقيل: التقدير: ولا ينفقون الكنوز.
وقال الزجاجُ: «ولا ينفقون تلك الأموال» وقيل: يعودُ على الزَّكاة.
وقال القرطبيُّ «قال ابنُ الأنباريّ» قصد الأغلب والأعم وهي الفضة، ومثله قوله: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥].
ردَّ الكناية إلى الصلاة؛ لأنَّها أعم، ومثله: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] فأعاد الهاء إلى التجارة؛ لأنها الأهم «. وردَّ هذا بعضهم، قال: ليس هذا نظيره؛ لأنَّ» أو «فصلت التجارة عن اللَّهْو، فحسن عود الضمير على أحدهما».
79
وإنَّما خصَّ الذهبَ والفضة بالذِّكر من بين سائر الأموالِ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال، وهما اللذان يقصدان بالكنز، ثم قال: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: فأخبرهم على سبيل التَّهكم لأنَّ الذين يكنزون الذَّهب والفضة، إنَّما يكنزوهما، ليتوسَّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل: هذا يوم الفرج، كما يقال: تحيتهم ليس إلاَّ الضرب، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً: فالبشارةُ: عبارة عن الخيرِ الذي يؤثر في القلبِ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجهِ وهذا يتناول ما إذا تغيَّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم.
قوله: «يَوْمَ يحمى» منصوبٌ بقوله: «بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».
وقيل: بمحذوفٍ يدلُّ عليه «عذاب» أي: يُعذَّبُون يوم يُحْمَى، وقيل: هو منصوبٌ ب «أليم». وقيل: الأصلُ: عذاب يوم، و «عذاب» بدل من «عذاب» الأوَّلُ، فلمَّا حذف المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامه.
وقيل: منصوبٌ بقولٍ مضمر، وسيأتي بيانه.
و «يحمى» يجوزُ أن يكون من «حَمَتْيُ أوْ أحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً، يقالُ: حَمَيْتُ الحديدة، وأحميتُهَا، أي: أوْقَدْتُ عليها، لِتَحْمَى، والفاعلُ المحذوفُ هو» النَّارُ «تقديره: يوم تُحْمَى النارُ عليها، فلما حذف الفاعل، ذهب علامةُ التأنيث، لذهابه كقولك: رُفِعَت القضية إلى الأمير، ثم تقول: رُفع إلى الأمير.
وقيل: لأنَّ تأنيثَ»
النَّار «مجازي، والفعل غيرُ مسند في الظَّاهر إليه، بل إلى قوله» عَلَيْهَا «فلهذا حسن التَّذكير والتأنيث.
وقيل: المعنى: يُحْمَى الوقود. وقرأ الحسنُ»
تُحْمَى «بالتَّاءِ من فوق، أي: النَّار، وهي تؤيد التأويل الأوَّل.
وقرأ أبو حيوة»
يُكْوى «بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيث الفاعل مجازيٌّ.
وقرأ الجمهور:»
جِباهُهُم «بالإظهارِ وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإدغام، كما أدغم ﴿سَلَكَكُمْ﴾ [المدثر: ٤٢]، و ﴿مَّنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٠]، ومثل» جِباهُهم «، ﴿وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، والمشهور الإظهار.
قوله: ﴿هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: جزاء ما كنتم؛ لأنَّ المكنوز لا يُذاق و»
ما «يجوزُ أن تكون بمعنى» الذي «، فالعائدُ محذوفٌ، وأن تكون مصدرية. وقرىء» تَكْنُزُون «بضم عين المضارع، وهما لغتان، يقال: كَنَزَ يَكْنِزُ، ويَكْنُزُ، ك: يقتل.
80

فصل


أصل الكنز في كلام العرب: الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز. واختلف علماءُ الصحابة في المرادِ بهذا الكَنْزِ المذموم، فقال الأكثرون: هو المالُ الذي لم تؤد زكاته، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ:» ما أدِّي زكاته فليس بكنز وإن كن تحت سبع أرضين، وكلُّ ما لم تؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان فوق الأرضين «. وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله﴾ يريد: الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. وروى أبُو هرية قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا مِنْ صاحبِ ذهَبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤدِّي منْهَا حقَّها إلاَّ إذا كانَ يَوْمَ القيامةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ من نارٍ فأحْمِيَ عليْها في نَارِ جهنَّم فيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظهرُه كُلَّما بَردتْ أعيدتْ لهُ في يوْم كان مقدارُهُ خَمسينَ ألفَ سنةٍ حتَّى يُقْضَى بيْنَ العبادِ فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ «.
قال القاضي»
تخصيص هذا المعنى بمنع الزَّكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال: الكنزُ: هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة، وبين ما يجبُ إخراجه في الديون والحقوق، والإنفاق على الأهل والعيال، وضمان المتلفات، وأروش الجنايات؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد «.
وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم؛ فهو كنز، أدِّيتُ منه الزكاة أو لم تُؤدِّ، وما دونها نفقة. وروي عن أبي ذرٍّ أنَّهُ كان يقولُ: «مَنْ ترك بيضاء أو حمراء كُوي بها يوم القيامةِ»
وقيل: ما فضل عن الحاجةِ كنز، لما روى أبو أمامة قال: «مات رجلٌ من أهل الصفة فوجدَ في مئزَرِهِ دينارٌ، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كَيُّةٌ، ثم توفي آخر فوجدَ في مِئْزره ديناران، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كَيتانِ» والقولُ الأول أصح، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ» وقوله عَلَيْهِ
81
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما أدي زكاتُهُ فليْسَ بِكَنْزٍ» وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا نزلت هذه الآيةُ كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيعُ أحد منَّا أن يدع لولده شيئاً، فذكر ذلك عمر للرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «إنَّ الله لمْ يفْرضِ الزَّكاةَ إلاَّ ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكُم» وسئل ابنُ عمر عن هذه الآية فقال: كان هذا قبل أن تنزل الزَّكاة، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طُهْراً للأموال. وقال ابنُ عمر: «مَا أبَالي لوْ أنَّ لي مثلَ أحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكيه، وأعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ».
وكان في زمان الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جماعة مياسير كعثمان، وعبد الرحمن بن عوف وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يعدُّهم من أكابر المؤمنين، وندب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض، ولو كان جمع المال محرماً لكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يأمر المريض بالتَّصدق بكله، بل كان يأمر الصحيحَ في حال صحته بذلك، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لسعد بن أبي وقاص: «إنَّك إن تَدعْ ورثَتَكَ أغْنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تدعهُم عالة يتكَفَّفُون النَّاسَ».

فصل


اختلفوا في وُجُوب الزَّكاةِ في الحليّ، فقال مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وأبو عبيد: لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراقِ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر، وقال الثوريُّ وأبو حنيفة والأوزاعي: فيه الزكاة.
فإن قيل: مَنْ لمْ يكنُزْ ولم يُنفِقْ في سبيل الله وأنفقَ في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم يُنْفق في سبيل الله. قيل: إنَّ ذلك أشدّ، فإن من بذل ماله في المعاصي، عصى من جهتين: بالإنفاق والتناول، ك: شراء الخَمْرِ وشربها. بل من
82
جهات إذا كانت المعصية ممَّا تتعدَّى كمنْ أعانَ على ظُلْمِ مسلم من قتله أو أخذ ماله.
فإن قيل: لِمَ خُصت هذه الأعضاءُ؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ المقصودَ من كسب الأموال، حصول فرح القلب، فيظهر أثره في الوجه، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان، وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم، فلمَّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور.
وثانيها: أنَّ هذه الاعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألُّمها بسبب وصول أدنى أثر غليها، بخلاف سائر الأعضاء.
وثالثها: قال أبُو بكر الوراق: خصت هذه المواضع بالذكر؛ لأنَّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقيرُ بجنبه تباعد عنه وولَّى ظهره.
ورابعها: أنهم يُكوون على الجهات الأربع، أمَّا من مقدمه فعلى الجبهة، وأمَّا من خلفه فعلى الظهر، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين.
83
قوله :" يَوْمَ يحمى " منصوبٌ بقوله :" بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ".
وقيل : بمحذوفٍ يدلُّ عليه " عذاب " أي : يُعذَّبُون يوم يُحْمَى، وقيل : هو منصوبٌ ب " أليم ". وقيل : الأصلُ : عذاب يوم، و " عذاب " بدل من " عذاب " الأوَّلُ، فلمَّا حذف المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامه.
وقيل : منصوبٌ بقولٍ مضمر، وسيأتي بيانه.
و " يحمى " يجوزُ أن يكون من " حَمَيْت أوْ أحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً، يقالُ : حَمَيْتُ الحديدة، وأحميتُهَا، أي : أوْقَدْتُ عليها، لِتَحْمَى، والفاعلُ المحذوفُ هو " النَّارُ " تقديره : يوم تُحْمَى النارُ عليها، فلما حذف الفاعل، ذهبت علامةُ التأنيث، لذهابه كقولك : رُفِعَت القضية إلى الأمير، ثم تقول : رُفع إلى الأمير.
وقيل : لأنَّ تأنيثَ " النَّار " مجازي، والفعل غيرُ مسند في الظَّاهر إليه، بل إلى قوله " عَلَيْهَا " فلهذا حسن التَّذكير والتأنيث.
وقيل : المعنى : يُحْمَى الوقود. وقرأ١ الحسنُ " تُحْمَى " بالتَّاءِ من فوق، أي : النَّار، وهي تؤيد التأويل الأوَّل.
وقرأ أبو حيوة٢ " يُكْوى " بالياء من تحت ؛ لأنَّ تأنيث الفاعل مجازيٌّ.
وقرأ الجمهور :" جِباهُهُم " بالإظهارِ وقرأ أبو عمرو٣ في بعض طرقه بالإدغام، كما أدغم ﴿ سَلَكَكُمْ ﴾ [ المدثر : ٤٢ ]، و﴿ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]، ومثل " جِباهُهم "، ﴿ وُجُوهُهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ]، والمشهور الإظهار.
قوله :﴿ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ معمول لقولٍ محذوف أي : يقال لهم ذلك يوم يحمى. وقوله :﴿ ما كنتم تكنزون ﴾ أي : جزاء ما كنتم ؛ لأنَّ المكنوز لا يُذاق و " ما " يجوزُ أن تكون بمعنى " الذي "، فالعائدُ محذوفٌ، وأن تكون مصدرية. وقرئ٤ " تَكْنُزُون " بضم عين المضارع، وهما لغتان، يقال : كَنَزَ يَكْنِزُ، ويَكْنُزُ، ك : يقتل.

فصل


أصل الكنز في كلام العرب : الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز. واختلف علماءُ الصحابة في المرادِ بهذا الكَنْزِ المذموم، فقال الأكثرون : هو المالُ الذي لم تؤد زكاته، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ :" ما أدِّي زكاته فليس بكنز وإن كن تحت سبع أرضين، وكلُّ ما لم تؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان فوق الأرضين " ٥. وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله ﴾ يريد : الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم٦. وروى أبُو هريرة قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ صاحبِ ذهَبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤدِّي منْهَا حقَّها إلاَّ إذا كانَ يَوْمَ القيامةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ من نارٍ فأحْمِيَ عليْها في نَارِ جهنَّم فيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظهرُه كُلَّما بَردتْ أعيدتْ لهُ في يوْم كان مقدارُهُ خَمسينَ ألفَ سنةٍ حتَّى يُقْضَى بيْنَ العبادِ فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ " ٧.
قال القاضي " تخصيص هذا المعنى بمنع الزَّكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال : الكنزُ : هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة، وبين ما يجبُ إخراجه في الديون والحقوق، والإنفاق على الأهل والعيال، وضمان المتلفات، وأروش الجنايات ؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد ".
وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم ؛ فهو كنز، أدِّيتُ منه الزكاة أو لم تُؤدِّ، وما دونها نفقة٨. وروي عن أبي ذرٍّ أنَّهُ كان يقولُ :" مَنْ ترك بيضاء أو حمراء كُوي بها يوم القيامةِ " ٩ وقيل : ما فضل عن الحاجةِ كنز، لما روى أبو أمامة قال :" مات رجلٌ من أهل الصفة فوجدَ في مئزَرِهِ دينارٌ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : كَيُّةٌ، ثم توفي آخر فوجدَ في مِئْزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كَيتانِ " ١٠ والقولُ الأول أصح، لقوله عليه الصلاة والسلام :" نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ " ١١ وقوله عليه الصلاة والسلام :" ما أدي زكاتُهُ فليْسَ بِكَنْزٍ " ١٢ وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال : لمَّا نزلت هذه الآيةُ كبر ذلك على المسلمين، وقالوا : ما يستطيعُ أحد منَّا أن يدع لولده شيئاً، فذكر ذلك عمر للرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" إنَّ الله لمْ يفْرضِ الزَّكاةَ إلاَّ ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكُم " ١٣ وسئل ابنُ عمر عن هذه الآية فقال : كان هذا قبل أن تنزل الزَّكاة، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طُهْراً للأموال١٤. وقال ابنُ عمر :" مَا أبَالي لوْ أنَّ لي مثلَ أحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكيه، وأعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ١٥ ".
وكان في زمان الرسول - عليه الصلاة والسلام - جماعة مياسير كعثمان، وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدُّهم من أكابر المؤمنين، وندب عليه الصلاة والسلام إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض، ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه الصلاة والسلام يأمر المريض بالتَّصدق بكله، بل كان يأمر الصحيحَ في حال صحته بذلك، وقال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص :" إنَّك إن تَدعْ ورثَتَكَ أغْنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تدعهُم عالة يتكَفَّفُون النَّاسَ " ١٦.

فصل


اختلفوا في وُجُوب الزَّكاةِ في الحليّ، فقال مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وأبو عبيد : لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراقِ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر، وقال الثوريُّ وأبو حنيفة والأوزاعي : فيه الزكاة.
فإن قيل : مَنْ لمْ يكنُزْ ولم يُنفِقْ في سبيل الله وأنفقَ في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم يُنْفق في سبيل الله. قيل : إنَّ ذلك أشدّ، فإن من بذل ماله في المعاصي، عصى من جهتين : بالإنفاق والتناول، ك : شراء الخَمْرِ وشربها. بل من جهات إذا كانت المعصية ممَّا تتعدَّى كمنْ أعانَ على ظُلْمِ مسلم من قتله أو أخذ ماله.
فإن قيل : لِمَ خُصت هذه الأعضاءُ ؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ المقصودَ من كسب الأموال، حصول فرح القلب، فيظهر أثره في الوجه، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان، وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم، فلمَّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور.
وثانيها : أنَّ هذه الاعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألُّمها بسبب وصول أدنى أثر إليها، بخلاف سائر الأعضاء.
وثالثها : قال أبُو بكر الوراق : خصت هذه المواضع بالذكر ؛ لأنَّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقيرُ بجنبه تباعد عنه وولَّى ظهره.
ورابعها : أنهم يُكوون على الجهات الأربع، أمَّا من مقدمه فعلى الجبهة، وأمَّا من خلفه فعلى الظهر، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين.
١ ينظر: الكشاف ٢/٢٦٨، المحرر الوجيز ٣/٢٩، البحر المحيط ٥/٣٩، الدر المصون ٣/٤٦١..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٢٦٨، البحر المحيط ٥/٣٩، الدر المصون ٣/٤٦١..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٢٩، البحر المحيط ٥/٣٩، الدر المصون ٣/٤٦١..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٠، الدر المصون ٣/٤٦١..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٥٧-٣٥٨) وذكره البغوي (٢/٢٨٧)..
٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٨٧)..
٧ أخرجه مسلم (٢/٦٨٠) كتاب الزكاة: باب إثم مانع الزكاة (٢٤/٩٨٧) والبيهقي (٤/٨٢) والبغوي في "شرح السنة" (٣/٣١١)..
٨ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٨٨) وأخرجه الطبري (٦/٣٥٨)..
٩ انظر المصدر السابق وقد روي مرفوعا عن أبي ذر بلفظ: ما من رجل ترك صفراء ولا بيضاء إلا كوي بها.
ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٢٠) وعزاه إلى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وابن مردويه وأخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٥٩)..

١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٥٩) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٠/٢٤٣) وقال: رواه أحمد بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح غير شهر بن حوشب وقد وثق..
١١ أخرجه أحمد (٤/١٩٧) والبخاريفي "الأدب المفرد" (٢٩٩) من حديث عمرو بن العاص.
وذكره العجلوني في "كشف الخفاء" (٢/٢٤٢) وعزاه لأحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص..

١٢ ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (١/٢٢٣) رقم (٦٤٧) من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا.
وقال: قال أبو زرعة: والصحيح موقوف.
وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه البيهقي (٤/٨٢)..

١٣ أخرجه أبو داود (١/٥٢٢) كتاب الزكاة: باب في حق المال حديث (١٦٦٤) والحاكم (١/٤٠٨) والبيهقي (٤/٨٣) من طريق مجاهد عن ابن عباس.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..

١٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٨٨)..
١٥ انظر المصدر السابق..
١٦ أخرجه مالك (٢/٧٦٣) كتاب الوصية: باب الوصية في الثلث (٤) والبخاري (٣/١٦٤) كتاب الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعدا (١٢٩٥) ومسلم (٣/١٢٥٠) كتاب الوصية: باب الوصية بالثلث حديث (٥/١٦٢٨) وأحمد (١/١٧٩) والدارمي (٢/٤٠٧) والطيالسي (١/٢٨٢-منحة) (١٤٣٣) وأبو داود (٢٨٦٤) والترمذي (٢١١٦) والنسائي (٦/٢٤١-٢٤٢) وابن ماجه (٢/٩٠٣) حديث (٢٧٠٨) من حديث سعد بن أبي وقاص..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾ الآية.
«العِدَّة» مصدر بمعنى «العَدَد». و «عِندَ اللهِ» منصوبٌ به، أي: في حُكْمه. و «اثْنَا عشرَ» خبرُ «إنَّ»، وقرأ ميسرة عن حفص، وهي قراءةُ أبي جعفر «اثْنَا عَشْرَ» بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما، كقولهم: «التقَتْ حَلْقتَا البطانِ» بإثباتِ الألف من «حَلْقتَا». وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حمل «عشر» في المذكر على «عشرة» في المؤنث، و «شَهْراً» نصب على التمييز، وهو مؤكِّد؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول، فهو كقولك: عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً. والجمعُ متغاير في قوله «عِدَّة الشُّهورِ» وفي قوله تعالى: ﴿الحج أَشْهُرٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة، وذاك جمعُ قلة.
83
قوله: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ يجوزُ أن يكون صفةً ل «اثْنَا عَشَرَ»، والتقديرُ: اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله. ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب، لأنَّه متعلقٌ بقوله: ﴿يَوْمَ خَلَقَ السماوات﴾ وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ، فلا تقول: غلامك يوم الجمعة، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير: إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، أي: في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض.
ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله، وهذا لا يجوزُ، أو ضعيفٌ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة، فكيف يصحُّ من جهة المعنى؟ ولا يجوزُ أن يكون «فِي كتابِ اللهِ» متعلقاً ب «عِدَّة» لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ.
قوله: «يَوْمَ خَلَقَ» يجوز فيه أن يتعلَّق ب «كِتَاب» على أنَّه يُرادُ به المصدر، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور، وهو «في كِتابِ الله» ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً ب «عِدَّة» وهو مردودٌ بما تقدَّم، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر، أي: كتب ذلك يوم خلق.

فصل


هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى؛ لأنَّه تعالى، حكم في كل وقت بحكم خاص، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم.
فإنَّ السَّنة عند العربِ: عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ [يونس: ٥] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر، وقال تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ [البقرة: ١٨٩] وعند سائر الطوائف: السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة، وفي الصيف أخرى، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب.
وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية. والمرادُ بالكتابِ: حكمه
84
وإيجابه. قال ابن عباس «إنه اللَّوحُ الحفوظ» وقيل: القرآن.

فصل


قال القرطبيُّ: قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور﴾ وهي جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه: لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً، قالهُ بعض العلماء وقيل: لا يكلمه أبداً. قال ابنُ العربي: وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة «فُعول» في جمع «فَعْل».
قوله ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفةً ل «اثْنَا عَشَرَ».
الثاني: أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار.
الثالث: أن تكون مستأنفة. والضمير في «منها» عائدٌ على اثنا عشر شهراً، لأنه أقربُ مذكورٍ، على «الشُّهور» والضمير في «فيهنَّ» عائدٌ على «الاثني عشر» أيضاً. وقال الفرَّاءُ، وقتادةُ: يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ، لوجهين:
أحدهما: أنه أقرب مذكور. والثاني: أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويجوزُ العكس.

فصل


أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي: ذُو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد فرد، وهو: رجبٌ، ومعنى الحرم: أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له.
فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السَّببُ في هذا التَّمييز؟
فالجوابُ: هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة.
وفيه فائدة أخرى وهي: أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم
85
والاحترام، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد.
أحدها: أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب؛ لأنه يقل القبائح.
وثانيها: أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً.
وثالثها: أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة، وبعض الأمكنة، بمزيد التعظيم.
قوله ﴿ذلك الدين القيم﴾ أي: الحساب المستقيم، يقال: «الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ» أي: حاسبها، وقال الحسنُ: «ذلكَ الدِّينُ القَيّم» الذي لا يبدلُ ولا يُغير، «القَيِّم» - ههنا - بمعنى: القائم الدائم الذي لا يزول، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه.
قوله ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ بفعل المعصية، وترك الطَّاعاتِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: «المراد، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، والمراد: منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر». وقال الأكثرون الضَّمير في قوله «فِيهِنَّ» عائدٌ على الأربعة الحرم، وقد تقدَّم. وقيل: المرادُ ب «الظلم» النَّسيء الذي كانُوا يعملونه، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر، وقيل: المرادُ ب «الظُّلمِ» ترك المقاتلة في هذه الأشهر.
قوله: ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ نصب «كَافَّةً» على الحالِ، إمَّا من الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن «كَافَّةً» لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنَّها لا تدخلها «أل» ؛ لأنها بمعنى قولك: قامُوا جميعاً، وقامُوا معاًن وأنَّها لا تُثَنَّى، ولا تُجْمع، وكذلك «كافة» الثانية، ومعنى «كافة» أي: جميعاً.

فصل


معنى الآية: قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة، أي: تعاونوا وتناصروا على ذلك؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.
86
وقال ابنُ عبَّاسٍ: «قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم» ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي: مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات.
واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم، فقيل: كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ أي: فيهن، وفي غيرهن، وهو قول قتادة، وعطاء الخراساني، والزهريُّ وسفيان الثوري، وقالوا: لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزا هوازن بحنين، وثقيفاً بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: غير منسوخ. قال ابن جريج «حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها، وما نسخت».
قوله ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر﴾ في «النَّسِيء» قولان:
أحدهما: أنَّه مصدرٌ على «فَعِيل» مِن: «أنْسأ»، أي: أخَّرَ، ك «النذير» من أنذر، و «النكير» من أنْكَر، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال: «النَّسيء: تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر»، وحينئذٍ. فالإخبارُ عنه بقوله «زيادة» واضحٌ، لا يحتاج إلى إضمار.
وقال الطبريُّ: «النَّسيء - بالهمز - معناه: الزيادة» ؛ لأنَّه تأخير في المدة، فيلزمُ منه الزيادة، ومنه النَّسيئة في البيع، يقال: أنْسَأ الله أجلهُ، ونسأ في اجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء.
الثاني: أنَّه «فَعِيلٌ» بمعنى «مَفْعُول» مِنْ نسأهُ أي: أخَّره فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل «مفعول» إلى «فَعِيلٍ»، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى: إنَّما المؤخَّر زيادة، والمؤخَّر الشهر، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول، أي: إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني، أي: إنما النسيء ذُو زيادة. وقرأ الجمهورُ «النَّسيء» بهمزة بعد الياءِ، وقرأ ورش عن نافع «النسيّ» بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها، ورُويت هذه عن أبي جعفر، والزهري وحميد، وذلك كما خفّفوا «برية» و «خطية».
وقرأ السلمي، وطلحة، والأشهب، وشبل، «النَّسْء» بإسكان السين. وقرأ
87
مجاهدٌ والسلمي وطلحةُ أيضاً «النَّسُوء» بزنة «فعُول» بفتح الفاءِ، وهو التأخير، و «فعول» في المصادر قليل، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض؛ قال: [الوافر]
٢٧٨٠ - ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا
وقال آخر: [الكامل]
٢٧٨١ - نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ
قوله «يُضَلُّ بِهِ» قرأ الأخوان، وحفص «يُضَلُّ» مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم «يُضِلّ» مبنياً للفاعل، وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: يضل اللهُ به الذين كفروا.
والثاني: يضل الشيطان به الذين كفروا.
والثالث: يضل به الذين كفروا تابعيهم. والباقون مبنياً للفاعل، والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن، ومجاهد، وقتادة ويعقوب، وعمرو بن ميمون «يُضِلّ» مبنياً للفاعل، من «أضَلَّ» وفي الفاعل وجهان:
أحدهما: ضمير الباري تعالى، أي: يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا.
والثاني: أنَّ الفاعل «الذينَ كفرُوا» وعلى هذا فالمفعولُ محذوف، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم.
وقرأ أبُو رجاء «يَضَلُّ» بفتح الياء والضَّاد، وهي مِنْ «ضَلِلْتُ» بكسر اللام، «أضَلُّ» بفتحها، والأَصْلُ «فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد، لأجل الإدغام، وقرأ النَّخغي، والحسن في رواية محبوب» نُضِلُّ «بضم نون العظمة، و» الَّذشينَ «مفعول، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود.
قوله:» يُحِلُّونه «فيه وجهان:

أحدهما: أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال.
88
والثاني: أنها حاليةٌ. وقوله:» ليواطِئُوا «في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها متعلقةٌ ب»
يُحَرِّمُونَه «وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين.
والثاني: أنَّها تتعلَّق ب»
يُحِلُّونَهُ «وهذا مقتضى مذهب الكوفيين، فإنهم يعملون الأول، لسبقه. وقول من قال: إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنَّما يعني من حيث المعنى، لا اللفظ. وقرأ أبُو جعفرٍ» ليُواطِئُوا «بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة.
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الطاء، لتجانس الواو والمواطأة: الموافقةُ والاجتماع، يقال: تواطئوا على كذا، أي: اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً﴾ [المزمل: ٦]. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقرأ الزهريُّ»
لِيُواطِيُّوا «بتشديد الياء، هكذا ترجموا قراءته، وهي مشكلةٌ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء، وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها وهو كما قال.
قوله:»
زُيِّنَ «الجمهور على» زُيِّنَ «ببنائه للمفعول، والفاعل المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي» زَيَّن «ببنائه للفاعل، وهو الشيطان أيضاً، و» سوء «مفعوله.

فصل


معنى النَّسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم، فيكرهون تأخير حربهم، فنسئوا، يعني: أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:
«ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السَّنة
89
اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان... » الحديث. فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام.
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء. فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد «أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة».
وقال الكلبيُّ «أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان يقومُ على الناس بالموسم، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ، قام فخطب، فقال: لا مردّ لما قضيتُ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه، فيقول: إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال، عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له: القَلَمَّسُ. قال شاعرهم: [الوافر]
٢٧٨٢ - ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ... وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس:»
إنَّ أول من سنَّ النَّسيء: عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف «.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ﴾ تقدَّم الكلام عليه. ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً﴾ يعني: النَّسيء ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ﴾ أي: يوافقوا. ﴿عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله﴾ أي: إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، فتكون الموافقة في العدد.
﴿زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ﴾ قال ابنُ عبَّاس: زين لهم الشيطان: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾.
90
قوله ﴿ إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر ﴾ في " النَّسِيء " قولان :
أحدهما : أنَّه مصدرٌ على " فَعِيل " مِن :" أنْسأ "، أي : أخَّرَ، ك " النذير " من أنذر، و " النكير " من أنْكَر، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال :" النَّسيء : تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر "، وحينئذٍ. فالإخبارُ عنه بقوله " زيادة " واضحٌ، لا يحتاج إلى إضمار.
وقال الطبريُّ :" النَّسيء - بالهمز - معناه : الزيادة " ؛ لأنَّه تأخير في المدة، فيلزمُ منه الزيادة، ومنه النَّسيئة في البيع، يقال : أنْسَأ الله أجلهُ، ونسأ في أجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء.
الثاني : أنَّه " فَعِيلٌ " بمعنى " مَفْعُول " مِنْ نسأهُ أي : أخَّره فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل " مفعول " إلى " فَعِيلٍ "، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى : إنَّما المؤخَّر زيادة، والمؤخَّر الشهر، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول، أي : إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني، أي : إنما النسيء ذُو زيادة. وقرأ الجمهورُ " النَّسيء " بهمزة بعد الياءِ، وقرأ ورش١ عن نافع " النسيّ " بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها، ورُويت هذه عن أبي جعفر، والزهري وحميد، وذلك كما خفّفوا " برية " و " خطية ".
وقرأ السلمي٢، وطلحة، والأشهب، وشبل، " النَّسْء " بإسكان السين. وقرأ مجاهدٌ٣ والسلمي وطلحةُ أيضاً " النَّسُوء " بزنة " فعُول " بفتح الفاءِ، وهو التأخير، و " فعول " في المصادر قليل، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض ؛ قال :[ الوافر ]
ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ *** شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا٤
وقال آخر :[ الكامل ]
نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا *** مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ٥
قوله " يُضَلُّ بِهِ " قرأ الأخوان٦، وحفص " يُضَلُّ " مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم " يُضِلّ " مبنياً للفاعل، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : يضل اللهُ به الذين كفروا.
والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا.
والثالث : يضل به الذين كفروا تابعيهم. والباقون مبنياً للفاعل، والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن٧، ومجاهد، وقتادة ويعقوب، وعمرو بن ميمون " يُضِلّ " مبنياً للفاعل، من " أضَلَّ " وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : ضمير الباري تعالى، أي : يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا.
والثاني : أنَّ الفاعل " الذينَ كفرُوا " وعلى هذا فالمفعولُ محذوف، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم.
وقرأ أبُو٨ رجاء " يَضَلُّ " بفتح الياء والضَّاد، وهي مِنْ " ضَلِلْتُ " بكسر اللام، " أضَلُّ " بفتحها، والأَصْلُ " فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد، لأجل الإدغام، وقرأ٩ النَّخغي، والحسن في رواية محبوب " نُضِلُّ " بضم نون العظمة، و " الَّذينَ " مفعول، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود.
قوله :" يُحِلُّونه " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال.
والثاني : أنها حاليةٌ. وقوله :" ليواطِئُوا " في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها متعلقةٌ ب " يُحَرِّمُونَه " وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين.
والثاني : أنَّها تتعلَّق ب " يُحِلُّونَهُ " وهذا مقتضى مذهب الكوفيين، فإنهم يعملون الأول، لسبقه. وقول من قال : إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنَّما يعني من حيث المعنى، لا اللفظ. وقرأ أبُو جعفرٍ١٠ " ليُواطِئُوا " بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة.
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء ؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الطاء، لتجانس الواو والمواطأة : الموافقةُ والاجتماع، يقال : تواطئوا على كذا، أي : اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً ﴾ [ المزمل : ٦ ]. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقرأ الزهريُّ١١ " لِيُواطِيُّوا " بتشديد الياء، هكذا ترجموا قراءته، وهي مشكلةٌ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء، وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها وهو كما قال.
قوله :" زُيِّنَ " الجمهور على " زُيِّنَ " ببنائه للمفعول، والفاعل المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد١٢ بن علي " زَيَّن " ببنائه للفاعل، وهو الشيطان أيضاً، و " سوء " مفعوله.

فصل


معنى النَّسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم، فيكرهون تأخير حربهم، فنسئوا، يعني : أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل ؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال :" ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السَّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان. . . " الحديث. فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام.
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء. فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد١٣ " أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة ".
وقال الكلبيُّ " أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان يقومُ على الناس بالموسم، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ، قام فخطب، فقال : لا مردّ لما قضيتُ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون : لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه، فيقول : إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال، عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له : جنادة بن عوف، وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم١٤.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له : القَلَمَّسُ١٥. قال شاعرهم :[ الوافر ]
ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ ١٦ ***. . .
وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس :" إنَّ أول من سنَّ النَّسيء : عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف " ١٧.
ثم قال :﴿ إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ ﴾ تقدَّم الكلام عليه. ﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً ﴾ يعني : النَّسيء ﴿ وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ ﴾ أي : يوافقوا. ﴿ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله ﴾ أي : إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، فتكون الموافقة في العدد.
﴿ زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ ﴾ قال ابنُ عبَّاس : زين لهم الشيطان١٨ :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾.
١ ينظر: السبعة ص (٣١٤)، الحجة للقراء السبعة ١/١٩١- ١٩٤، حجة القراءات ص (٣١٨)، إعراب القراءات ١/٢٤٧، النشر ٢/٢٧٩، إتحاف ٢/٩١..
٢ ينظر: السبعة ص (٣١٤)، الحجة ١/١٩١-١٩٤، إعراب القراءات ١/٢٤٧، النشر ٢/٢٧٩، إتحاف ٢/٩١..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢، الدر المصون ٣/٤٦٢..
٤ البيت لعمير بن قيس في أمالي القالي ١/١٤ التهذيب ١٣/٨٣، واللسان [نسا] الدر المصون ٣/٤٦٣ البحر المحيط ٥/٤٢ معجم الشعراء للمرزباني (٧٢)..
٥ البيت في أمالي القالي ١/٤١ المحرر الوجيز ٣/٤٧٨ البحر المحيط ٥/٤٢ الدر المصون ٣/٤٦٣..
٦ ينظر: السبعة ص (٣١٤)، الحجة ٤/١٩٤-١٩٥، إعراب القراءات ١/٢٤٨-٢٤٩، حجة القراءات ص (٣١٨-٣١٩) النشر ٢/٢٧٩، إتحاف فضلاء البشر ٢/٩١..
٧ ينظر: السابق..
٨ ينظر: السابق..
٩ ينظر: إعراب القراءات ١/٢٤٨، إتحاف فضلاء البشر ٢/٩١، الكشاف ٢/٢٧٠، البحر المحيط ٥/٤٢، الدر المصون ٣/٤٦٣..
١٠ وقرأ بها أيضا الأعمش..
١١ نظر: البحر المحيط ٥/٤٣، الدر المصون ٣/٤٦٣.
ينظر: البحر المحيط ٥/٤٣، الدر المصون ٣/٤٦٣، إتحاف ٢/٩١..

١٢ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٠، البحر المحيط ٥/٤٣، الدر المصون ٣/٤٦٤..
١٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٩١) عن ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد.
وأخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٧٠) عن أبي وائل وقتادة..

١٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٩١) عن الكلبي..
١٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٧١) وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٩١) عن ابن زيد..
١٦ ينظر: القرطبي ٨/٨٩، والبغوي ٢/٢٩١، ولباب التأويل ٢/٣٠٤..
١٧ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٩١) من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس..
١٨ انظر المصدر السابق وذكره أيضا الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٤٧)..
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ﴾ الآية. لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم.
قال ابنُ عبَّاس: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك لأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر، حين طابت ثمار المدينة، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه، وكان ذلك في حر شديد، وسفر بعيد، ومفاوز، وعدُو كثير، وذلك حين طابت ثمار المدينة، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فشقَّ عليهم الخروج، وتثاقلُوا، فنزلت هذه الآية.
ومعنى: «إِذَا قِيلَ لَكُمُ» أي: قال لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «انفِرُوا» اخرجوا، واسم القوم الذين يخرجون النفير.
قوله: «اثاقلتم» أصله «تثَاقلْتُم» فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في ﴿فادارأتم﴾ [البقرة: ٧٢]، والأصل: «تَدَارَأتُم». وقرأ الأعمشُ «تثاقَلْتُم» بهذا الأصل و «ما» في قوله: «مَا لَكُمْ» استفهامية، وفيها معنى الإنكار.
وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول. «اثَّاقَلْتُمْ» ماضي اللَّفظ، مضارع المعنى، أي: تتثاقلون، وهو في موضع الحالِ، وهو عاملٌ في الظَّرف، أي: ما لكم متثاقلين وقت القول.
وقال أبُو البقاءِ: «اثَّاقلتم: ماض بمعنى المضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وهو في
91
موضع نصب، أي: أيُّ شيء لكم في التَّثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليلِ. وقيل: هو في موضع حال».
قال أبو حيان: وهذا ليس بجيد؛ لأنه يلزم منه حذفُ «أنْ» لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ «أنْ» في هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة. وإذا كان التقديرُ في التثاقل، فلا يمكن عمله في «إذا» لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه، فيكون النَّاصب ل «إذا» والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به «لَكُم» الواقعُ خبراً ل «ما» وقرىء «أثَّاقلْتُم» بالاستفهام الذي معناه الإنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في «إذا» ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في «لكم»، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ، والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم، وإليه نحا الزمخرشي.
والظَّاهر أن يقدَّر: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى.
وقوله: «إِلَى الأرض» ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْلأ والإخلاء، فعدي ب «إلى» والمعنى: تباطأتم إلى الأرض، أي: لزمتم أرضكم ومساكنكم، وملتم إلى الدنيا وشهواتها، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه، ونظيره قوله ﴿أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ﴾ [الأعراف: ١٧٦] قال المفسِّرون: معناه: اثاقلتم إلى نعيم الأرض، وإلى الإقامة وبالأرض.
قوله
﴿أَرَضِيتُمْ
بالحياة
الدنيا﴾
أي: بخفض الدنيا ودعتها. وقوله: ﴿إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ﴾ جناس لفظي]، وكذا قوله: ﴿اصبروا وَصَابِرُواْ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]، وقوله: ﴿أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ [هود: ٤٨] وقوله: ﴿ياأسفا عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤]، وقوله: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ [النمل: ٤٤]، وقوله: ﴿أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: ٥١]، وقوله: ﴿على عِلْمٍ عَلَى العالمين﴾ [الدخان: ٣٢] وقوله ﴿مَالِكَ الملك﴾ [آل عمران: ٢٦].
قوله «مِنَ الآخرة» تظاهرت أقوالُ المعربين، والمفسرين على أنَّ «مِنْ» بمعنى «بدل» كقوله ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: ٦٠]، أي: بدلكم؛ ومثلة قول الآخر: [الرجز]
٢٧٨٣ - جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا
وقول الآخر: [الطويل]
92
إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك، والتقدير هنا: اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا، وكذلك باقيها.
وقال أبُو البقاءِ: «مِنَ الآخرة» في موضع الحال، أي: بدلاً من الآخرة. فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى. ثم قال: «فما متاع الحياة الدنيا» أي: لذاتها. وقوله «فِي الآخرةِ» متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى، تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة ف «محسوباً» حالٌ مِنْ «متاعُ».
وقال الحوفي: إنَّه متعلق ب «قَلِيلٌ»، وهو خبر المبتدأ قال: «وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن ب» إلاَّ «؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال، ولو قلت: ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب، لم يَجُزْ».

فصل


الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ، ودائمة أبدية سرمدية، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير.
قوله: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
في الآخرة، وقيل: هو احتباس المطر عنهم في الدنيا.
قال القرطبيُّ: «هذا شرطٌ، فلذلك حذفت منه النُّون. والجوابُ» يُعذِّبْكُم «و ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير». ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ خيراً منكم وأطوع.
قال ابنُ عبَّاسٍ: «هم التابعون».
وقال سعيدُ بن جبير: «هم أبناء فارس» وقيل: هم أهلُ اليمن. «وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً» بترككم النفير.
قال الحسنُ «الكناية راجعة إلى الله تعالى، أي: لا تضروا الله»، وقال غيره تعود إلى الرسول؛ لأنَّ الله عصمه من الناس، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه.
﴿والله
على
كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
.
93
قال الحسنُ وعكرمةُ: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] وقال المحقِّقون: الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم ينفروا، وعلى هذا فلا نسخ.
قوله: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾. هذا الشرط جوابه محذوف، لدلالة قوله: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ عليه، والتقدير: إلاَّ تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين:
أحدهما: ما تقدَّم. والثاني: قال «إنه أوجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده». قال أبُو حيَّان: «وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول». وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله، وإعزاز دينه، أعانوه، أو لَمْ يُعينُوه، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ.
وقوله: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾ أي: أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة، حين مكروا به وأرادوا تثبيته، وهمُّوا بقتله.
قوله «ثَانِيَ اثنين» منصوبٌ على الحالِ من مفعول «أخْرَجهُ» وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله: ﴿ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣].
وقرأت جماعة «ثَانِي اثنَيْنِ» بسكون الياء. قال أبُو الفَتْحِ: «حكاها أبو عمرو».
ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة، والمعنى: هو أحد الاثنين، والاثنان أحدهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والآخر أبو بكر الصديق.
قوله: ﴿إِذْ هُمَا فِي الغار﴾. و «الغارُ» بيت يكون في الجبل، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة، ويجمع على «غِيران»، ومثله: «تاج وتِيجَان»، و «قاعٌ وقيعان»، والغارُ أيضاً: نَبْتٌ طيبُ الريح، والغارُ أيضاً: الجماعة والغاران: البطنُ والفرجُ. وألف «الغَارِ» عن واو.
قوله: «إِذْ يَقُولُ» بدل ثان من «إذْ» الأولى. وقال أبُو البقاءِ: أي: إذ هما في الغار، و «إذْ يَقُول» ظرفان ل «ثَانِي اثنَيْنِ».

فصل


عن ابن عمر أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأبي بكر: «أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي
94
على الحَوْضِ». قال الحسينُ بن الفضل «من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر؛ لإنكاره نص القرآن، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً».
فإن قيل: إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ﴾ [الكهف: ٣٧].
فالجوابُ: أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله: «أكفرتَ» ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ فأيّ مناسبة بين البابين؟.
روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه، ليمنعهم السواد من طلبه، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما لك يا أبا بكر؟ فقال: أذكر الطلب؛ فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً، يلتمس ما في الغار، فقال له رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ما لك؟ فقال بأبي أنت وأمِّي، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر، فوضع عقبه عليه، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا «فقال أبو بكر: إن الله لمعنا، فقال الرسول» نعم «فجعل يمسح الدموع عن خدِّه، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ، وإن قتلت هلكت الأمة.»
وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً.

فصل


دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من وجوه:
أحدها: أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه، فلولا أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّيقين، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف
95
ظاهره، لخافه أن يدل أعداءه عليه، أو لخافه أن يقدم هو على قتله، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره.
وثانيها: أن الهجرة كانت بإذن الله، وكن في خدمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أقرب من أبي بكر، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين.
وثالثها: أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره، ولا تخلَّف عنه كغيره، بل صبر على مؤانسته، وملازمته، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد، وذلك يوجب الفضل العظيم.
ورابعها: أنَّه تعالى سمَّاه: «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» فجعله ثاني محمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في أكثر المناصب الدينية، فإنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة، والزبير، وعثمان، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أيام قلائل، فكان هو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «ثَانِي اثْنَيْن» في الدَّعوة إلى الله تعالى، وكلَّما وقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة، كان أبو بكر يقف في خدمته، فكان «ثَانِيَ اثنين» في المواقف كلِّها، وكلما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف خلفه، وكلَّما جلسَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان «ثَانِيَ اثنين» في مجلسه، ولمَّا مرض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قام مقامه في الإمامة، فكان «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» ولمَّا مات دفن بجنبه، فكان «ثاني اثنين» هناك.
وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال: كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] الآية. ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافرن فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على فضيلة الإنسان أولى؟.
والجوابُ: أنَّ هذا تعسف بارد؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثنين﴾ تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم.
قوله: ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ فالضمير في «عَلَيْه» يعودُ على أبي بكر؛ لأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان عليه السكينة دائماً، وقد تقدَّم القولُ في السكينة. والضميرُ في «أيَّدهُ» للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو إشارة إلى قصَّة بدر، وهو معطوف على قوله ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾. وقرأ
96
مجاهد «وأيَدَه» بالتَّخفيف. و «لَمْ تَرَوْهَا» صفة ل «جُنُود».
قوله: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى﴾ كلمتهم: الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة، ﴿وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا﴾ إلى يوم القيامة. قال ابنُ عبَّاسٍ «هي قول: لا إله إلاَّ الله».
وقيل: كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية، وكلمة الله: وعده أنه ناصره.
والجمهور على رفع «كَلِمة» على الابتداء، و «هي» يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً، و «العُليا» خبرها، والجملة خبر الأوَّل. ويجز أن تكن «هي» فصلاً «، و» العُليا «الخبر. وقرأ يعقوب» وكلمةَ اللهِ «بالنَّصب، نسقاً على مفعولي» جعل «أي: وجعل كلمة الله هي العليا.
قال أبُو البقاء: وهو ضعيفٌ، لثلاثة أوجه:
أحدها: وضعُ الظَّاهر موضع المضمر، إذ الوجه أن يقول: وكلمته.
الثاني: أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى، فصارت عليا، وليس كذلك.
الثالث: أنَّ توكيد مثل ذلك ب»
هي «بعيد، إذ القياسُ أن يكون» إياها «.
قال شهابُ الدِّين: أما الأولُ فلا ضعف فيه؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ، وهو من أحسن ما يكون؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً.
وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة.
وأمَّا الثالثُ ف»
هِيَ «ليست تأكيداً ألبتة، إنما هي ضمير فصل على حالها، وكيف يكونُ تأكيداً، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر؟.
ثم قال: ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي: قاهر غالب»
حَكِيمٌ «لا يفعل إلاَّ الصَّواب.
97
قوله :﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
في الآخرة، وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا.
قال القرطبيُّ١ :" هذا شرطٌ، فلذلك حذفت منه النُّون. والجوابُ " يُعذِّبْكُم " و﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير ". ﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ خيراً منكم وأطوع.
قال ابنُ عبَّاسٍ :" هم التابعون " ٢.
وقال سعيدُ بن جبير :" هم أبناء فارس " ٣ وقيل : هم أهلُ اليمن. " وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً " بترككم النفير.
قال الحسنُ " الكناية راجعة إلى الله تعالى، أي : لا تضروا الله " ٤، وقال غيره تعود إلى الرسول ؛ لأنَّ الله عصمه من الناس، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه. ﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قال الحسنُ وعكرمةُ : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾٥ [ التوبة : ١٢٢ ] وقال المحقِّقون : الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا، وعلى هذا فلا نسخ.
١ ينظر: تفسير القرطبي ٨/٩١..
٢ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٥٠)..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٩٢) وانظر أيضا المصدر السابق..
٤ انظر المصدر السابق..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٧٣- ٣٧٤) عن عكرمة والحسن وذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/٥٠)..
قوله :﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله ﴾. هذا الشرط جوابه محذوف، لدلالة قوله :﴿ فَقَدْ نَصَرَهُ الله ﴾ عليه، والتقدير : إلاَّ تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين :
أحدهما : ما تقدَّم. والثاني : قال " إنه أوجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده ". قال أبُو حيَّان :" وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط ؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول ". وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله، وإعزاز دينه، أعانوه، أو لَمْ يُعينُوه، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ.
وقوله :﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة، حين مكروا به وأرادوا تثبيته، وهمُّوا بقتله.
قوله " ثَانِيَ اثنين " منصوبٌ على الحالِ من مفعول " أخْرَجهُ " وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله :﴿ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ [ المائدة : ٧٣ ].
وقرأت١ جماعة " ثَانِي اثنَيْنِ " بسكون الياء. قال أبُو الفَتْحِ :" حكاها أبو عمرو ".
ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة، والمعنى : هو أحد الاثنين، والاثنان أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أبو بكر الصديق.
قوله :﴿ إِذْ هُمَا فِي الغار ﴾ " إذ " بدل من " إذ " الأولى، والعامل فيها ( فقد نصره ). وقال أبو البقاء٢ :" من منع أن يكون العامل في البدل هو العامل في المبدل منه، قدّر عاملا آخر، أي : نصره إذ هما في الغار ". و " الغارُ " بيت يكون في الجبل، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة، ويجمع على " غِيران "، ومثله :" تاج وتِيجَان "، و " قاعٌ وقيعان "، والغارُ أيضاً : نَبْتٌ طيبُ الريح، والغارُ أيضاً : الجماعة والغاران : البطنُ والفرجُ. وألف " الغَارِ " عن واو.
قوله :" إِذْ يَقُولُ " بدل ثان من " إذْ " الأولى. وقال أبُو البقاءِ : أي : إذ هما في الغار، و " إذْ يَقُول " ظرفان ل " ثَانِي اثنَيْنِ ".

فصل


عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر :" أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي على الحَوْضِ " ٣. قال الحسينُ بن الفضل " من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر ؛ لإنكاره نص القرآن، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً " ٤.
فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله :﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ ﴾ [ الكهف : ٣٧ ].
فالجوابُ : أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله :" أكفرتَ " ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله ﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا ﴾ فأيّ مناسبة بين البابين ؟.
روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه، ليمنعهم السواد من طلبه، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :" ما لك يا أبا بكر ؟ فقال : أذكر الطلب ؛ فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً، يلتمس ما في الغار، فقال له رسُول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك ؟ فقال بأبي أنت وأمِّي، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر، فوضع عقبه عليه، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام " لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا " فقال أبو بكر : إن الله لمعنا، فقال الرسول " نعم " فجعل يمسح الدموع عن خدِّه، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ، وإن قتلت هلكت الأمة ".
وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم " فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً.

فصل


دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه :
أحدها : أنَّه عليه الصلاة والسلام لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه، فلولا أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّديقين، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك ؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف ظاهره، لخافه أن يدل أعداءه عليه، أو لخافه أن يقدم هو على قتله، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره.
وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله، وكن في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقرب من أبي بكر، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين.
وثالثها : أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره، ولا تخلَّف عنه كغيره، بل صبر على مؤانسته، وملازمته، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد، وذلك يوجب الفضل العظيم.
ورابعها : أنَّه تعالى سمَّاه :" ثَانِيَ اثْنَيْنِ " فجعله ثاني محمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام – حال كونهما في الغار، والعلماء أثبتوا أنه كان ثاني محمد –عليه الصلاة والسلام- في أكثر المناصب الدينية، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن ؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة، والزبير، وعثمان، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل، فكان هو - رضي الله عنه - " ثَانِي اثْنَيْن " في الدَّعوة إلى الله تعالى، وكلَّما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، كان أبو بكر يقف في خدمته، فكان " ثَانِيَ اثنين " في المواقف كلِّها، وكلما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقف خلفه، وكلَّما جلسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان " ثَانِيَ اثنين " في مجلسه، ولمَّا مرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قام مقامه في الإمامة، فكان " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " ولمَّا مات دفن بجنبه، فكان " ثاني اثنين " هناك.
وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى :﴿ مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٧ ] الآية. ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافر، فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسلام على فضيلة الإنسان أولى ؟.
والجوابُ : أنَّ هذا تعسف بارد ؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى :﴿ ثَانِيَ اثنين ﴾ تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم.
قوله :﴿ فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ فالضمير في " عَلَيْه " يعودُ على أبي بكر ؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً، وقد تقدَّم القولُ في السكينة. والضميرُ في " أيَّدهُ " للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إشارة إلى قصَّة بدر، وهو معطوف على قوله ﴿ فَقَدْ نَصَرَهُ الله ﴾. وقرأ٥ مجاهد " وأيَدَه " بالتَّخفيف. و " لَمْ تَرَوْهَا " صفة ل " جُنُود ".
قوله :﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى ﴾ كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة، ﴿ وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا ﴾ إلى يوم القيامة. قال ابنُ عبَّاسٍ " هي قول : لا إله إلاَّ الله " ٦.
وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية، وكلمة الله : وعده أنه ناصره.
والجمهور على رفع " كَلِمة " على الابتداء، و " هي " يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً، و " العُليا " خبرها، والجملة خبر الأوَّل. ويجز أن تكن " هي " فصلاً "، و " العُليا " الخبر. وقرأ يعقوب٧ " وكلمةَ اللهِ " بالنَّصب، نسقاً على مفعولي " جعل " أي : وجعل كلمة الله هي العليا.
قال أبُو البقاء٨ : وهو ضعيفٌ، لثلاثة أوجه :
أحدها : وضعُ الظَّاهر موضع المضمر، إذ الوجه أن يقول : وكلمته.
الثاني : أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى، فصارت عليا، وليس كذلك.
الثالث : أنَّ توكيد مثل ذلك ب " هي " بعيد، إذ القياسُ أن يكون " إياها ".
قال شهابُ الدِّين٩ : أما الأولُ فلا ضعف فيه ؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ، وهو من أحسن ما يكون ؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً.
وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة.
وأمَّا الثالثُ ف " هِيَ " ليست تأكيداً ألبتة، إنما هي ضمير فصل على حالها، وكيف يكونُ تأكيداً، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر ؟.
ثم قال :﴿ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي : قاهر غالب " حَكِيمٌ " لا يفعل إلاَّ الصَّواب.
١ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٢، المحرر الوجيز ٣/٣٥، البحر المحيط ٥/٤٥، الدر المصون ٣/٤٦٥..
٢ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/١٥..
٣ أخرجه الترمذي (٥/٥٧٢) كتاب المناقب: باب في مناقب أبي بكر وعمر حديث (٣٦٧٠) والطبراني (١١/٤٠٠) والبغوي في شرح السنة (٧/١٨١) من طريق كثير النواء عن جميع بن عمير عن ابن عمر وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٣٣) وعزاه إلى ابن شاهين والدارقطني وابن مردويه وابن عساكر..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٩٣)..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٦، البحر المحيط ٥/٧٤٦ الدر المصون ٣/٤٦٦..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٧٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٣٩) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الأسماء والصفات"..
٧ وقرأ بها أيضا الحسن بن أبي الحسن. قال الأعمش: ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبي بن كعب: "وجعل كلمته هي العليا".
ينظر: الكشاف ٢/٢٧٢، المحرر الوجيز ٣/٣٦، البحر المحيط ٥/٤٦، الدر المصون ٣/٤٦٦..

٨ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/١٥..
٩ ينظر: الدر المصون ٣/٤٤٦..
قوله تعالى: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ الآية.
97
لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول، أتبعه الأمر الجزم، فقال: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ نصبهما على الحال من فاعل «انفرُوا». قال الحسنُ، والضحاكُ، ومجاهد، وقتادة وعكرمة: «شُباناً وشُيوخاً». وعن ابن عباسٍ: نشاطاً وغير نشاط. وقال عطيةُ العوفي: ركباناً ومشاةً. وقال أبو صالحٍ: «خفافاً من المال، أي: فقراء» ثقالاً «أي: أغنياء». وقال ابن زيد «الثقيل: الذي له الضيعة، والخفيف: الذي لا ضيعة له».
وقيل: «خفافاً» من السلاح أي: مقلين منه، و «ثِقالاً» مستكثرين منه. وقال مرة الهمداني: صحاحاً ومراضاً.
وقال يمان بن رباب «عزاباً ومتأهلين»، وقيل غير ذلك. والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أعَلَيَّ أنَّ أنفر؟ قال: «ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه، ووقف بين يديه؛ فنزل قوله: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١ والفتح: ١٧].
وقال مجاهدٌ: «إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين، ويقول قال الله تعالى: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً». وعن صفوان بن عمرو قال: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، فقلت: يا عم أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه. وعن الزهري: خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنَّك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع. وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور، فقال: أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ [التوبة: ٤١] والقائلون بهذا القول يقولون: إنَّ هذه الآية نسخت بقوله: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] وبقوله: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ﴾ [التوبة: ٩١]
98
الخراساني نسخت بقوله ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢].
ولقائل أن يقول: اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان، بل من فروض الكفايات، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج، لزمه خفافاً وثقالاً، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير. وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ.
وأيضاً فقوله: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٢] دليل على أنَّ قوله: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف، فدلَّ على عدم النسخ فيها.
قوله: ﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
فيه قولان:
الأول: أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس، ومن لم يكن له ذلك، لم يجب عليه الجهاد.
والثاني: أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء.
ثم قال: ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
فإن قيل: كيف يصح أن يقال: الجهادُ خير من القعُودِ ع نه، ولا خير في القعود؟
فالجوابُ: من وجهين:
الأول: أنَّ لفظ «خير» يستعمل في شيئين:
أحدهما: بمعنى: هذا خير من الآخر. والثاني: أنه خير في نفسه، كقوله تعالى ﴿إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤].
وقوله: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨]، وعلى هذا سقط السُّؤال.
والثاني: سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره، إلا أن التقدير: أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها، ولذلك قال تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
قوله: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً﴾ الآية.
لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ، وأمرهم بالنَّفير، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، بقوله: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً﴾ اسم «كان» ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق، أي: لو كان ما دعوتَهم إليه.
والعرض: ما عرض لك من منافع الدُّنيا، والمراد هنا: غنيمة قريبة المتناول،
99
﴿وَسَفَراً قَاصِداً﴾ أي: سَهْلاً قريباً ههنا. ﴿لاَّتَّبَعُوكَ﴾ لخرجوا معك. ومثل بالقاصد، لأنَّ المتوسط، بين الإفراد والتفريط، يقال له: مُقتصدٌ. قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ [فاطر: ٣٢] ومعنى القاصد: ذو قصد، كقولهم: لابنٌ، وتامرٌ، ورابحٌ ﴿ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾. قرأ عيسى بن عمر، والأعرج «بَعِدَت» بكسر العين. وقرأ عيسى «الشِّقَّة» بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ: هما لغة تميم.
والشُّقَّة: الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها، اشتقاقاً من المشقَّة.
وقال الليثُ، وابن فارسٍ: هي الأرضُ البعيدة المسير، اشتقاقاً من الشِّق، أو من المشقَّة، والمعنى: بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك.
قوله: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بالله﴾ الجارُّ متعلقٌ ب «سَيَحْلِفُونَ».
وقال الزمخشريُّ «بِاللهِ» متعلقٌ ب «سَيحْلفُونَ»، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي: سَيحْلِفُون، يعني: المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون: باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون: لو اسْتَطعْنَا.
وقوله: «لَخَرجْنَا» سدَّ مسدَّ جواب القسم، و «لَوْ» جميعاً.
قال أبو حيان: قوله: «لخَرجْنَا» سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، و «لو» جميعاً «؛ ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان:
أحدهما: أنَّ»
لَخَرجْنَا «جوابُ القسم وجوابُ» لَوْ «محذوفٌ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ. والآخر: أنَّ» لخَرجْنَا «جوابُ» لَوْ «و» لَوْ «وجوابها جواب القسم، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ. أمَّا أنَّ» لخَرَجْنَا «سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب» لو «ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، وجواب» لو «.
وقرأ الأعمشُ، وزيدُ بنُ عليٍّ»
لوُ استطَعْنَا «بضم الواو، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل، وشبَّها واو» لَوْ «بواو الضَّمير، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو» لَوْ «حيث كسرُوها، نحو: ﴿اشتروا الضلالة﴾ [البقرة: ١٦]، لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسنُ: ﴿اشتروا الضلالة﴾، و ﴿لَوِ استطعنا﴾ بفتح الواو تخفيفاً.
100
ولو قلت:» وأنا قائمٌ «حالاً من ضمير» ليفعلنَّ «لم يجز، وكذا عكسه، نحو: حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم، تريد: قائماً، لم يجز.
وأمَّا قوله:»
وجاء به على لفظ الغائب؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم «فمغالطةٌ، ليس مخبراً عنهم بقوله:» لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا «، بل هو حاكٍ لفظ قولهم. ثمَّ قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً... إلى آخره. كلامٌ صحيحٌ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةٌ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله، لاشتراكهما في العامل، لو قلت: قال زيدٌ: خرجت يضربُ خالداً، تريد: اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هندٌ: خرج زيد أضرب خالداً، تريد: خرج زيد ضارابً خالداً، لم يَجُزْ، انتهى.
الرابعُ: أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ، أخبر اللهُ عنهم بذلك.

فصل


معنى الآية: أنَّه لو كانت المنافع قريبة، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع، ولكن طال السفرُ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم، فلهذا تخلَّفُوا، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم: ﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام»
اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ «ثم قال: ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج، فكانوا كاذبين في أيمانهم.

فصل


قالوا: الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.
قوله تعالى: ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن تعالى بقوله: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ﴾ أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمَّا قال بعده: ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ دلَّ هذا، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه.
قوله: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ «لِمَ»
، و «لَهُمْ» كلاهما متعلقٌ ب «أذِنْتَ»، وجاز ذلك؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف؛ فالأولى للتعليل، والثانية للتبليغ. وحذفت ألفُ «ما» الاستفهامية
101
لانجرارها، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ، يجوزُ أن يكون القُعود، أي: لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوزُ أن يكون الخروج، أي: لِمَ أذنت لهم في الخروج، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل، وغيره، يدلُّ عليه: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ [التوبة: ٤٧].
قوله: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ﴾ يجوزُ في «حتى» أن تكون للغاية، ويجوز أن تكون للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ، إمَّا بمعنى «إلى»، وإمَّا بمعنى اللام، و «أنْ» مضمرةٌ بعدها، ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ.
قال أبُو البقاءِ: «تقديرهُ: هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ، أو ليتبيَّن، وقوله: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ يدُلُّ على المحذوف، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق» حتَّى «ب» أذِنْتَ «لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التَّبيين، وذلك لا يُعاتبُ عليه» وقال الحوفيُّ: «حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي: ما كان له أن يأذن لهم، حتى يتبيَّن له العُذْر».
وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ.

فصل


احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع، ولدخوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ تحت قوله تعالى: ﴿فاعتبروا ياأولي الأبصار﴾ [الحشر: ٢] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا: إمَّا أن يقال: إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن، أو منعه عنه، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ، وإلاَّ امتنع أن يقول له: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يقال: إنَّه حكم بغير ما أنزل الله، فيدخل تحت قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ [المائدة: ٤٤ - ٤٧] الآيات. وذلك باطل بصريح القول.
فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد، أو لا، والثاني باطل؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات﴾ [مريم: ٥٩] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد.
فإن قيل: الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه تعالى منعه بقوله: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ ؟ فالجوابُ: أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً، لقوله تعالى: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين﴾ [التوبة: ٤٣] والحكم الممدود إلى غاية ب «حتّى» يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا.
فإن قالوا: لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي؟.
102
فالجواب: ما ذكرتموه محتمل؛ إلاَّ أنه على تقديركم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، حتى ينزل الوحين فلمَّا ترك ذلك، كان كبيرة، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه، لقوله: «ومن اجتهد فأخطأ فله أجر» فكان حمل الكلامِ عليه أولى.

فصل


دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت، وعدم العجلة، والتَّأنِّي، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه.

فصل


قال قتادةُ: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال: ﴿فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢].

فصل


قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ؛ فأذن له، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ؛ فأذن له، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين، وكانوا يثيرون الفتنَ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة، قال القاضي «هذا بعيدٌ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم».
103
قوله :﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً ﴾ الآية.
لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ، وأمرهم بالنَّفير، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، بقوله :﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً ﴾ اسم " كان " ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق، أي : لو كان ما دعوتَهم إليه.
والعرض : ما عرض لك من منافع الدُّنيا، والمراد هنا : غنيمة قريبة المتناول، ﴿ وَسَفَراً قَاصِداً ﴾ أي : سَهْلاً قريباً ههنا. ﴿ لاَّتَّبَعُوكَ ﴾ لخرجوا معك. ومثل بالقاصد، لأنَّ المتوسط، بين الإفراد والتفريط، يقال له : مُقتصدٌ. قال تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] ومعنى القاصد : ذو قصد، كقولهم : لابنٌ، وتامرٌ، ورابحٌ ﴿ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة ﴾. قرأ عيسى١ بن عمر، والأعرج " بَعِدَت " بكسر العين. وقرأ عيسى٢ " الشِّقَّة " بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ : هما لغة تميم.
والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها، اشتقاقاً من المشقَّة.
وقال الليثُ، وابن فارسٍ : هي الأرضُ البعيدة المسير، اشتقاقاً من الشِّق، أو من المشقَّة، والمعنى : بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك.
قوله :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بالله ﴾ الجارُّ متعلقٌ ب " سَيَحْلِفُونَ ".
وقال الزمخشريُّ " بِاللهِ " متعلقٌ ب " سَيحْلفُونَ "، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي : سَيحْلِفُون، يعني : المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون : باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون : لو اسْتَطعْنَا.
وقوله :" لَخَرجْنَا " سدَّ مسدَّ جواب القسم، و " لَوْ " جميعاً.
قال أبو حيان٣ : قوله :" لخَرجْنَا " سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، و " لو " جميعاً " ؛ ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان :
أحدهما : أنَّ " لَخَرجْنَا " جوابُ القسم وجوابُ " لَوْ " محذوفٌ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ. والآخر : أنَّ " لخَرجْنَا " جوابُ " لَوْ " و " لَوْ " وجوابها جواب القسم، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ. أمَّا أنَّ " لخَرَجْنَا " سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب " لو " ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، وجواب " لو ".
وقرأ الأعمشُ٤، وزيدُ بنُ عليٍّ " لوُ استطَعْنَا " بضم الواو، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل، وشبَّها واو " لَوْ " بواو الضَّمير، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو " لَوْ " حيث كسرُوها، نحو :﴿ اشتروا الضلالة ﴾ [ البقرة : ١٦ ]، لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسنُ٥ :﴿ اشتروا الضلالة ﴾، و﴿ لَوِ استطعنا ﴾ بفتح الواو تخفيفاً.
ولو قلت :" وأنا قائمٌ " حالاً من ضمير " ليفعلنَّ " لم يجز، وكذا عكسه، نحو : حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم، تريد : قائماً، لم يجز.
وأمَّا قوله :" وجاء به على لفظ الغائب ؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم " فمغالطةٌ، ليس مخبراً عنهم بقوله :" لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا "، بل هو حاكٍ لفظ قولهم. ثمَّ قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً. . . إلى آخره. كلامٌ صحيحٌ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةٌ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله، لاشتراكهما في العامل، لو قلت : قال زيدٌ : خرجت يضربُ خالداً، تريد : اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت : قالت هندٌ : خرج زيد أضرب خالداً، تريد : خرج زيد ضاربا خالداً، لم يَجُزْ، انتهى.
الرابعُ : أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ، أخبر اللهُ عنهم بذلك.

فصل


معنى الآية : أنَّه لو كانت المنافع قريبة، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع، ولكن طال السفرُ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم، فلهذا تخلَّفُوا، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم :﴿ سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام " اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ " ٦ ثم قال :﴿ والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج، فكانوا كاذبين في أيمانهم.

فصل


قالوا : الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧، الدر المصون ٣/٤٦٦..
٢ ينظر: السابق..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٣، المحرر الوجيز ٣/٣٨، البحر المحيط ٥/٤٧، الدر المصون ٣/٤٦٧..
٥ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٧، الدر المصون ٣/٤٦٧..
٦ أخرجه البيهقي (١٠/٣٥)..
قوله تعالى :﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن تعالى بقوله :﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ﴾ أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا ؟ فلمَّا قال بعده :﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ دلَّ هذا، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه.
قوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ " لِمَ "، و " لَهُمْ " كلاهما متعلقٌ ب " أذِنْتَ "، وجاز ذلك ؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف ؛ فالأولى للتعليل، والثانية للتبليغ. وحذفت ألفُ " ما " الاستفهامية لانجرارها، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ، يجوزُ أن يكون القُعود، أي : لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوزُ أن يكون الخروج، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل، وغيره، يدلُّ عليه :﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ [ التوبة : ٤٧ ].
قوله :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ ﴾ يجوزُ في " حتى " أن تكون للغاية، ويجوز أن تكون للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ، إمَّا بمعنى " إلى "، وإمَّا بمعنى اللام، و " أنْ " مضمرةٌ بعدها، ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ.
قال أبُو البقاءِ :" تقديرهُ : هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ، أو ليتبيَّن، وقوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ يدُلُّ على المحذوف، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق " حتَّى " ب " أذِنْتَ " لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التَّبيين، وذلك لا يُعاتبُ عليه " وقال الحوفيُّ :" حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي : ما كان له أن يأذن لهم، حتى يتبيَّن له العُذْر ".
وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ.

فصل


احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع، ولدخوله عليه الصلاة والسلام تحت قوله تعالى :﴿ فاعتبروا ياأولي الأبصار ﴾ [ الحشر : ٢ ] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمَّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن، أو منعه عنه، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ، وإلاَّ امتنع أن يقول له :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾، والثاني باطل ؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنَّه حكم بغير ما أنزل الله، فيدخل تحت قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ [ المائدة : ٤٤-٤٧ ] الآيات. وذلك باطل بصريح القول.
فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد، أو لا، والثاني باطل ؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات ﴾ [ مريم : ٥٩ ] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد.
فإن قيل : الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد ؛ لأنه تعالى منعه بقوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ ؟ فالجوابُ : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً، لقوله تعالى :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] والحكم الممدود إلى غاية ب " حتّى " يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا.
فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي ؟.
فالجواب : ما ذكرتموه محتمل ؛ إلاَّ أنه على تقديركم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، حتى ينزل الوحي، فلمَّا ترك ذلك، كان كبيرة، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه، لقوله :" ومن اجتهد فأخطأ فله أجر " فكان حمل الكلامِ عليه أولى.

فصل


دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت، وعدم العجلة، والتَّأنِّي، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه.

فصل


قال قتادةُ : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال :﴿ فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾١ [ النور : ٦٢ ].

فصل


قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا ؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ ؛ فأذن له، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ ؛ فأذن له، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين، وكانوا يثيرون الفتنَ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة، قال القاضي " هذا بعيدٌ ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم ".
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٨١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٤٢) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ..
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ الآية.
أي: لا يستأذنوك في التخلف ﴿والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾.
قوله: «أَن يُجَاهِدُواْ» فيه وجهان:
103
أظهرهما: أنَّهُ متعلقُ «الاستئذان»، أي: لا يستأذنوك في الجهادِ، بل يمضُون فيه غير مترددين.
والثاني: أن متعلق «الاستئذان» محذوف و «أن يُجاهدُوا» مفعولٌ من أجله، تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا، بل إذا أمرتُهم بشيءٍ بادروا إليه. وقال بعضهم: لا بدّ في الكلام من إضمار آخر؛ لأنَّ ترك استئذان الإمام في الجهادِ غير جائز، فلا بدَّ من إضمار، والتقديرُ: لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا، إلاَّ أنَّه حذف حرف النفي كقوله: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] ويدلُّ على هذا المحذوف أنَّ ما قبل الآية، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنَّما كان على الاستئذان في القعود.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ الآية.
بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء، إنَّما كان بسبب الشك والريب، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله: ﴿أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ [الأنفال: ٤] ثم قال: ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ أي: متحيرين.
قوله: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾.
قرأ العامة «عُدَّة» بضمِّ العين وتاء التأنيث، وهي الزَّادُ والراحلةُ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ.
وقرأ محمد بنُ عبد الملك بن مروان، وابنه معاوية «عُدَّهُ» كذلك، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب، يعود على «الخُرُوجِ». واختلف في تخريجها، فقيل: أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ، كالتَّنوين، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِقَامَ الصلاة﴾ [الأنبياء: ٧٣].
ومنه قول زهير: [البسيط]
٢٧٨٤ - فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ
٢٧٨٥ - إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا
يريد: عدة الأمْرِ.
وقال صاحبُ اللَّوامح «لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء، فأسقطها، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء، ولا تقديرها، هو» البئرُ الذي يخرج في الوجه «. وقال أبو حاتم:» هو جمع «عُدَّة»، ك: «بُرّ» جمع «بُرّة»، و «دُرّ» جمع «دُرَّة» والوجهُ فيه «عُدَد» ولكن لا
104
يوافق خطَّ المصحف «. وقرأ زر بن حبيش، وعاصم في رواية أبان» عِدَّهُ «بكسر العين، مضافة إلى هاء الكناية.
قال ابن عطيَّة: هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ، ك «الذَّبْح»
، و «القِتْل».
وقُرىء أيضاً «عِدَّة» بكسر العين، وتاء التأنيث، والمرادُ: عدة من الزَّاد والسلاح، مشتقاً من «العَدَدِ».
قوله: ﴿ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم﴾. الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ، فلذلك قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلتُ: لمَّا كان قوله: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج﴾ معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: ﴿ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم﴾ كأنه قيل: ما خرجوا، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم،: «ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ». انتهى. يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد «لكن» موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين، أو نقيضين، أو خلافين، على خلاف في هذا الأخير، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور.
قال أبُو حيان «وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني: ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ، ولكن أساء -، لأنَّ المثال واقعٌ فيه» لكن «بين ضِدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها» لكن «بين متفقين من جهة المعنى».
قال شهابُ الدِّين «مُرادُهم بالنقيضين: النفيُ والإثبات لفظاً، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً».
والانبعاثُ: الانطلاقُ، يقال: بعثتُ البعير فانبعث، وبعثته لكذا فانبعث، أي: نفذ فيه والتَّثْبِيطُ: التَّعْويق، يقالُ: ثَبَّطْتُ زيداً، أي: عُقْتُه عمَّا يريده، من قولهم: ناقة ثَبِطَة أي: بطيئة السير، والمراد بقوله: «اقْعُدُوا» : التَّخْلية، وهو كنايةٌ عن تباطئهم، وأنَّهم تشبهوا بالنساء، والصبيان، والزَّمْنَى، وذوي الأعذار، وليس المرادُ قعوداً؛ كقوله: [البسيط]
105
والمعنى: أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فصرفهم عنه.
فإن قيل: خروجهم مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة، فإن كان مفسدة، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى: إنه كره انبعاثهم وخروجهم؟
والجوابُ: أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾، بقي أن يقال: فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن؟ فنقولُ: قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال: ليس في قوله: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قد أذن لهم بالقُعُود، بل يحتمل أن يقال: إنهم استأذنوه في الخروج معه، فأذن لهم، وعلى هذا يسقط السؤال.
قال أبو مسلم «ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن لهم في الخروج معه» ويؤكد ذلك قوله تعالى:
﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ [التوبة: ٨٣] وقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ [الفتح: ١٥] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم.
والجوابُ على طريقة غيره، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] يوجب أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن لهم في القعود، فنقولُ: ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة، وبيانه من وجوه:
الأول: أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل، ولهذا قال تعالى ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين﴾ [التوبة: ٤٣].
والثاني: أن التقدير أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان يأذن لهم في القعود، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم، ولم يغتَرُّوا بقولهم، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً، وفاتت تلك المصالح.
والثالث: أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غضب عليهم وقال: ﴿اقعدوا مَعَ القاعدين﴾ ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا: قد أذن لنا، فقال تعالى: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] أي: لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم.
الرابع: أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، قالوا: إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ، وكان
106
الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك.
ثم قال تعالى: ﴿وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين﴾. واختلفوا في تأويل هذا القول، فقيل: هو الشيطان على طريق الوسوسة، وقيل: قاله بعضهم لبعضٍ. وقيل: قاله الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، لمَّا أذن لهم في التخلف، فعاتبه الله. وقيل: القائل هو الله تعالى؛ لأنه كره خروجهم؛ لأجل الإفساد، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص. ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ أي: في جيشكم، وفي جمعكم. وقيل: «فِي» بمعنى «مع» أي: معكم.
قوله: «إِلاَّ خَبَالاً» جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً، وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين.
قال الزمخشري المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً، فإنَّ «الخبال» بعض أعمِّ العام، كأنه قيل: «ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً» وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً، والمعنى: ما زادوكم قوةً ولا شدةً، ولكنْ خبالاً.
وهذا يجيءُ على قول من قال: إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبال، كذا قال أبو حيان. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده؟. وتقدم تفسير «الخبال» في آل عمران. قال الكلبيُّ: إلاَّ شراً وقال يمان: إلاَّ مكراً، وقيل: إلاَّ غيّاً، وقال الضحاك: إلاَّ غَدْراً.
وقرأ ابن أبي عبلة: «ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً»، أي: ما زادكم خروجهم.
قوله: ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾. الإيضاعُ: الإسراعُ، يقال: أوضع البعيرُ، أي: أسرعَ في سيرهِ؛ قال امرؤ القيس: [الوافر]
٢٧٨٧ - أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
وقال آخر: [منهوك الرجز]
٢٧٨٨ - يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ... أخُبُّ فيها وأضَعْ
ومفعول: «أوْضَعُوا» محذوف، أي: أوضعوا ركائبهم؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي.
107
قال الواحديُّ «قال أكثر أهل اللُّغةِ: إن الإيضاع حمل البعير على العدو، ولا يجوزُ أن يقال: أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً. يقال: وضع البعيرُ: إذا عدا، وأوضعه الراكب: إذا حمله عليه».
وقال الفرَّاءُ: «العرب تقول: وضعتْ النَّاقةُ، وأوضع الراكبُ، وربَّما قالوا للرَّاكب: وضَعَ».
وقال الأخفشُ وأبو عبيد: يجوزُ أن يقال: أوضع الرَّجُلُ: إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته. روى أبو عبيد أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر». قال الواحديُّ «والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد» والمراد من الآية: السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة.
و «الخِلال» جمع «خَلَل»، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين. ومنه قوله: ﴿فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ [النور: ٤٣]، وقرىء «مِنْ خلله» وهي مخارج صب القطر. ويستعار في المعاني فيقال: في هذا الأمْر خلل.
وقرأ مجاهدٌ، ومحمد بن زيدٍ «ولأوْفَضُوا»، وهو الإسراع أيضاً؛ من قوله تعالى: ﴿إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: ٤٣].
وقرأ ابنُ الزبير «ولأرْفَضُوا» بالفراء والفاء والضاد المعجمة، من: رفض، أي: أسرع أيضاً؛ قال حسَّان: [الكامل]
٢٧٨٦ - دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي
٢٧٨٩ - بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ
وقال: [الكامل]
٢٧٩٠ -................................. والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ
يقال: رَفَضَ في مشيه رفْضاً، ورَفَضاناً.
108
فإن قيل: كتب في المصحفِ «ولاَ أوْضَعُوا» بزيادة ألف. أجاب الزمخشريُّ «أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحوه ﴿أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١]. يعني: في زيادة الألف بعد» لا «وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً بكفّر».
قوله: «يَبْغُونَكُمُ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من فاعل «أوْضَعُوا» أي: لأَسْرعُوا فيما بينكم، حال كونهم باغين، أي: طالبين الفتنة لكم، ومعنى الفتنة: افتراقُ الكلمة.
قوله: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول «يَبْغُونكُمْ» أو من فاعله، وجاز ذلك؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما. ويجوزُ أن تكون مستأنفةً، والمعنى: أنَّ فيكم من يسمع لهم، ويُصْغِي لقولهم.
فإن قيل: كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟
فالجوابُ: لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل؛ فيؤثر قولهم فيهم، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد: وفيكم جواسيس منهم، يسمعون لهم الأخبار منكم، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي: لأجلهم. ثم قال تعالى: ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات.

فصل


﴿لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ﴾. أي: طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. وقال ابنُ جريج: هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة، ليفتكوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾. قرأ مسلمة بن محارب «وقلبُوا» مخففاً. والمرادُ بتقليب الأمر: تصريفه وترديده، لأجل التدبر والتأمل فيه، أي: اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل: فلان حُوَّلٌ قلبٌ، أي: يتقلب في وجوه الحيل.
ثم قال تعالى: ﴿حتى جَآءَ الحق﴾ أي: النصرُ والظفرُ.
109
وقيل: القرآن. ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ الله﴾ دين الله. ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ حالٌ، والرَّابط الواو؛ أي: كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله.
110
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله ﴾ الآية.
بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء، إنَّما كان بسبب الشك والريب، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله :﴿ أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾ [ الأنفال : ٤ ] ثم قال :﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ أي : متحيرين.
قوله :﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ﴾.
قرأ العامة " عُدَّة " بضمِّ العين وتاء التأنيث، وهي الزَّادُ والراحلةُ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ.
وقرأ محمد بنُ عبد الملك١ بن مروان، وابنه معاوية " عُدَّهُ " كذلك، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب، يعود على " الخُرُوجِ ". واختلف في تخريجها، فقيل : أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ، كالتَّنوين، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى :﴿ وَإِقَامَ الصلاة ﴾ [ الأنبياء : ٧٣ ].
ومنه قول زهير :[ البسيط ]
إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا٢
يريد : عدة الأمْرِ.
وقال صاحبُ اللَّوامح " لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء، فأسقطها، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء، ولا تقديرها، هو " البئرُ الذي يخرج في الوجه ". وقال أبو حاتم :" هو جمع " عُدَّة "، ك :" بُرّ " جمع " بُرّة "، و " دُرّ " جمع " دُرَّة " والوجهُ فيه " عُدَد " ولكن لا يوافق خطَّ المصحف ". وقرأ زر٣ بن حبيش، وعاصم في رواية أبان " عِدَّهُ " بكسر العين، مضافة إلى هاء الكناية.
قال ابن عطيَّة : هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ، ك " الذَّبْح "، و " القِتْل ".
وقرئ أيضاً٤ " عِدَّة " بكسر العين، وتاء التأنيث، والمرادُ : عدة من الزَّاد والسلاح، مشتقاً من " العَدَدِ ".
قوله :﴿ ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم ﴾. الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ، فلذلك قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك ؟ قلتُ : لمَّا كان قوله :﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج ﴾ معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل :﴿ ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم ﴾ كأنه قيل : ما خرجوا، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم، ك :" ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ ". انتهى. يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد " لكن " موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين، أو نقيضين، أو خلافين، على خلاف في هذا الأخير، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور.
قال أبُو حيان٥ " وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني : ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ، ولكن أساء -، لأنَّ المثال واقعٌ فيه " لكن " بين ضِدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها " لكن " بين متفقين من جهة المعنى ".
قال شهابُ الدِّين٦ " مُرادُهم بالنقيضين : النفيُ والإثبات لفظاً، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً ".
والانبعاثُ : الانطلاقُ، يقال : بعثتُ البعير فانبعث، وبعثته لكذا فانبعث، أي : نفذ فيه والتَّثْبِيطُ : التَّعْويق، يقالُ : ثَبَّطْتُ زيداً، أي : عُقْتُه عمَّا يريده، من قولهم : ناقة ثَبِطَة أي : بطيئة السير، والمراد بقوله :" اقْعُدُوا " : التَّخْلية، وهو كنايةٌ عن تباطئهم، وأنَّهم تشبهوا بالنساء، والصبيان، والزَّمْنَى، وذوي الأعذار، وليس المرادُ قعوداً ؛ كقوله :[ البسيط ]
دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي٧
والمعنى : أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام -، فصرفهم عنه.
فإن قيل : خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة، فإن كان مفسدة، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود ؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى : إنه كره انبعاثهم وخروجهم ؟
والجوابُ : أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة ؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله :﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٧٥، المحرر الوجيز ٣/٤٠، البحر المحيط ٥/٤٩، الدر المصون ٣/٤٦٩..
٢ تقدم..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٥، المحرر الوجيز ٣/٤٠، البحر المحيط ٥/٤٩، الدر المصون ٣/٤٦٩..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٩، الدر المصون ٣/٤٦٩..
٥ ينظر: البحر المحيط ٥/٥٠..
٦ ينظر: الدر المصون٣/٤٦٩..
٧ البيت للحطيئة في ديوانه ص ٥٤؛ والأزهية ص١٧٥؛ والأغاني ٢/١٥٥؛ وخزانة الأدب ٦/٢٩٩؛ وشرح شواهد الشافية ص ١٢٠؛ وشرح شواهد المغني ٢/٩١٦؛ وشرح المفصل ٦/١٥؛ والشعر والشعراء ص٣٣٤؛ ولسان العرب ١٠/١٠٨ (ذرق)، ١٢/١٢/٣٦٤ (طعم)، ١٥/٢٢٤ (كسا)؛ وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص٤١٨؛ وخزانة الأدب ٥/١١٥؛ وشرح الأشموني ٣/٧٤٤؛ وشرح شافية ابن الحاجب ٢/٨٨، والبحر المحيط ٥/٥٠؛ والدر المصون ٣/٤٦٩..
﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾، بقي أن يقال : فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن ؟ فنقولُ : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] أنه عليه الصلاة والسلام، قد أذن لهم بالقُعُود، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه، فأذن لهم، وعلى هذا يسقط السؤال.
قال أبو مسلم " ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً ؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه " ويؤكد ذلك قوله تعالى :﴿ فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً ﴾ [ التوبة : ٨٣ ] وقوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾ [ الفتح : ١٥ ] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم.
والجوابُ على طريقة غيره، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] يوجب أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود، فنقولُ : ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة، وبيانه من وجوه :
الأول : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل، ولهذا قال تعالى ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين ﴾ [ التوبة : ٤٣ ].
والثاني : أن التقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم، ولم يغتَرُّوا بقولهم، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً، وفاتت تلك المصالح.
والثالث : أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال :﴿ اقعدوا مَعَ القاعدين ﴾ ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا، فقال تعالى :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم.
الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، قالوا : إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز ؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ، وكان الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك.
ثم قال تعالى :﴿ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين ﴾. واختلفوا في تأويل هذا القول، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة، وقيل : قاله بعضهم لبعضٍ. وقيل : قاله الرسُول - عليه الصلاة والسلام -، لمَّا أذن لهم في التخلف، فعاتبه الله. وقيل : القائل هو الله تعالى ؛ لأنه كره خروجهم ؛ لأجل الإفساد، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص. ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله ﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ أي : في جيشكم، وفي جمعكم. وقيل :" فِي " بمعنى " مع " أي : معكم.
قوله :" إِلاَّ خَبَالاً " جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً، وهو مفرَّغٌ ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين.
قال الزمخشري١ المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً، فإنَّ " الخبال " بعض أعمِّ العام، كأنه قيل :" ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً " وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً، والمعنى : ما زادوكم قوةً ولا شدةً، ولكنْ خبالاً. وهذا يجيءُ على قول من قال : إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال. كذا قال أبو حيان٢. وفيه نظرٌ ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده ؟. وتقدم تفسير " الخبال " في آل عمران. قال الكلبيُّ : إلاَّ شراً وقال يمان : إلاَّ مكراً، وقيل : إلاَّ غيّاً، وقال الضحاك : إلاَّ غَدْراً.
وقرأ ابن أبي٣ عبلة :" ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً "، أي : ما زادكم خروجهم.
قوله :﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ﴾. الإيضاعُ : الإسراعُ، يقال : أوضع البعيرُ، أي : أسرعَ في سيرهِ ؛ قال امرؤ القيس :[ الوافر ]
أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ *** ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ٤
وقال آخر :[ منهوك الرجز ]
يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ *** أخُبُّ فيها وأضَعْ٥
ومفعول :" أوْضَعُوا " محذوف، أي : أوضعوا ركائبهم ؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي.
قال الواحديُّ " قال أكثر أهل اللُّغةِ : إن الإيضاع حمل البعير على العدو، ولا يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً. يقال : وضع البعيرُ : إذا عدا، وأوضعه الراكب : إذا حمله عليه ".
وقال الفرَّاءُ :" العرب تقول : وضعتْ النَّاقةُ، وأوضع الراكبُ، وربَّما قالوا للرَّاكب : وضَعَ ".
وقال الأخفشُ وأبو عبيد : يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجُلُ : إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته. روى أبو عبيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم " أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر " ٦. قال الواحديُّ " والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد " والمراد من الآية : السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة.
و " الخِلال " جمع " خَلَل "، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين. ومنه قوله :﴿ فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ [ النور : ٤٣ ]، وقرىء٧ " مِنْ خلله " وهي مخارج صب القطر. ويستعار في المعاني فيقال : في هذا الأمْر خلل.
وقرأ مجاهدٌ٨، ومحمد بن زيدٍ " ولأوْفَضُوا "، وهو الإسراع أيضاً ؛ من قوله تعالى :﴿ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [ المعارج : ٤٣ ].
وقرأ ابنُ الزبير٩ " ولأرْفَضُوا " بالفراء والفاء والضاد المعجمة، من : رفض، أي : أسرع أيضاً ؛ قال حسَّان :[ الكامل ]
بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا *** رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ١٠
وقال :[ الكامل ]
. . . *** والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ١١
يقال : رَفَضَ في مشيه رفْضاً، ورَفَضاناً.
فإن قيل : كتب في المصحفِ " ولاَ أوْضَعُوا " بزيادة ألف. أجاب الزمخشريُّ " أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحوه ﴿ أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ ﴾ [ النمل : ٢١ ]. يعني : في زيادة الألف بعد " لا " وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً يكفّر ".
قوله :" يَبْغُونَكُمُ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من فاعل " أوْضَعُوا " أي : لأَسْرعُوا فيما بينكم، حال كونهم باغين، أي : طالبين الفتنة لكم، ومعنى الفتنة : افتراقُ الكلمة.
قوله :﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول " يَبْغُونكُمْ " أو من فاعله، وجاز ذلك ؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما. ويجوزُ أن تكون مستأنفةً، والمعنى : أنَّ فيكم من يسمع لهم، ويُصْغِي لقولهم.
فإن قيل : كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ؟
فالجوابُ : لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل ؛ فيؤثر قولهم فيهم، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم ؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد : وفيكم جواسيس منهم، يسمعون لهم الأخبار منكم، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي : لأجلهم. ثم قال تعالى :﴿ والله عَلِيمٌ بالظالمين ﴾ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات.

فصل


١ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٦..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٥٠..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤١، البحر المحيط ٥/٥٠، الدر المصون ٣/٤٧٠..
٤ تقدم..
٥ البيت لدريد بن الصمة في ديوانه (٩٣) وينظر: المحتسب ١/٢٩٣ اللسان ٦/٤٨٥٩ [وضع] الطبري ١٤/٢٧٨ القرطبي ٨/١٥٧ البحر المحيط ٥/٥١ الدر المصون ٣/٤٧٠ الصحاح [جذع]..
٦ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٦٥)..
٧ ستأتي في سورة النور الآية (٤٣)..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٧، المحرر الوجيز ٣/٤١، البحر المحيط ٥/٥١، الدر المصون ٣/٤٧٠..
٩ ينظر: السابق..
١٠ البيت في ديوانه (١٢٤) وروايته فيه "رقصت بما في مقرها" وينظر: المحتسب ١/٢٩٣ التهذيب واللسان [رقص] المحرر الوجيز ٣/٤٩٩ البحر المحيط ٥/٥١..
١١ عجز بيت لنهيك الفزاري وصدره:
يا عام لو قدرت عليك رماحنا ***...
ينظر: الكشاف ٢/٢١٧ اللسان ٥/٣٢٠٤ غبب معجم مقاييس اللغة ٢/٦٠ حسب البحر المحيط ٥/٥١، الدر المصون ٣/٤٧٠..

﴿ لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ ﴾. أي : طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. وقال ابنُ جريج : هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة، ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم١.
قوله :﴿ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور ﴾. قرأ مسلمة٢ بن محارب " وقلبُوا " مخففاً. والمرادُ بتقليب الأمر : تصريفه وترديده، لأجل التدبر والتأمل فيه، أي : اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل : فلان حُوَّلٌ قلبٌ، أي : يتقلب في وجوه الحيل.
ثم قال تعالى :﴿ حتى جَآءَ الحق ﴾ أي : النصرُ والظفرُ.
وقيل : القرآن. ﴿ وَظَهَرَ أَمْرُ الله ﴾ دين الله. ﴿ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ حالٌ، والرَّابط الواو ؛ أي : كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/٦٧)..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٧، المحرر الوجيز ٣٨/٤١، البحر المحيط ٥/٥٢، الدر المصون ٣/٤٧٠..
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ الآية.
﴿مَّن يَقُولُ ائذن لِّي﴾ كقوله: «يَا صالحُ ائتنا» من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة، وإبدالها واواً، لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى. وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً.
قال أبو جعفرٍ «إذا دخلت» الواو «و» الفاء «على» ائذن «فهجاؤها: ألف وذال ونون، بغير ياء. أو» ثم «فالهجاءُ: ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ. والفرق: أنَّ» ثُمَّ «يوقف عليها وينفصل، بخلافهما».
قال شهابُ الدِّين «يعني إذا دخلت واوُ العطف، أو فاؤه، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ، فتكتب» فأذَنْ «، و» أذَنْ «فهذه الألف هي صورة الهمزة، التي هي فاء الكلمة».
وإذا دخلت عليها «ثم» كُتِبَتْ كذا: ثم ائتُوا، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة.
قال شهابُ الدين: وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع «ثم» يختصُّ بهذه اللَّفظة، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع «ثم» هكذا: «ثُمَّ أتُوا»، وكان القياس على «ثُم ائْذَانْ» «ثم ائْتُوا»، وفيه نظرٌ، وقرأ عيسى بن عمر، وابن السَّميفع، وإسماعيل المكي، فيما روى عنه ابن مجاهد «ولا تُفْتِنِّي» بضم حرف المضارعة، من «أفتنه» رباعياً. قال أبُو حاتم «هي لغة تميمٍ» وقيل: أفتنه: أدخله فيها، وقد جمع الشاعر بين اللغتين، فقال: [الطويل]
110
٢٧٩١ - لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ
ومتعلق «الإذن» : القعودُ، أي: ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك. أي: لا تهلكني بخروجي معك، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ، ولا طاقة لي به. وقيل: لا تفتنيِّي؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي، وقيل: نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا تجهَّز لغزو تبوك، قال له: «يا أبا وهب، هل كل في جلاد بني الأصفر؟ يعني: الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء» فقال جدُّ: يا رسول الله، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ، ائذن لي في القعود، ولا تفتنِّي بهنّ، وأعينكم بمالي.
قال ابن عباسٍ: «اعتلَّ جدُّ بن قيس، ولم تكن علته إلا النفاق، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:
«قد أذنت لك»
، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي﴾ الآية.
قوله: ﴿أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ﴾ أي: في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم، وخلافهم أمر الله ورسوله.
وفي مصحف أبي «سَقَطَ» لأنَّ لفظة «مِنْ» موحد اللفظ، مجموع المعنى، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾ مطبقة عليهم.
قوله: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ﴾ نصر وغنيمة «تَسُؤهُمْ» تُحزنهم، يعني المنافقين ﴿وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ نكبة وشدة ومكروه، يفرحوا، و ﴿يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ﴾ أي: حذرنا، «ويتَولَّوا» يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم ﴿وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾ مسرورون.
ونقل عن ابن عبَّاسٍ «أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ، والمصيبة في يوم أحدٍ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة، وعلى كل مصيبة».
111
قوله: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ﴾ قال عمر بن شقيق: سمعت «أعين» قاضي الرَّيِّ يقرأ «لن يُصيبنَّا» بتشديد النون.
قال أبُو حاتم: ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع «لَنْ»، ولو كانت لطلحة بن مصرف، لجاز، لأنها مع «هل»، قال الله تعالى ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥].
يعني أبو حاتم: أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام، وابن مصرف يقرأ «هَلْ» بدل «لَنْ»، وهي قراءة ابن مسعود. وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت «لن» على «لم» و «لا» النافيتين، و «لم» و «لا» يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما.
أمَّا «لا» فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال. وأما «لم» فقد سمع ذلك فيها؛ وأنشدوا: [الرجز]
٢٧٩٢ - يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا
أراد: «يَعْلمَنْ» فأبدل الخفيفة ألفاً بعد فتحة، كالتنوين. وقرأ القاضي أيضاً، وطلحة «هَلْ يُصَيِّبنا» بتشديد الياء. قال الزمخشريُّ: ووجهه أن يكون «يُفَيْعِل» لا «يُفَعِّل» لأنَّهُ من ذوات الواو، كقولهم: الصَّواب، وصَابَ يَصوبُ، ومَصَاوب، في جمع «مصيبة» فحقُّ «يُفَعِّل» منه «يُصَوِّب»، ألا ترى إلى قولهم: صوَّب رأيه، إلاَّ أن يكون لغة من يقول: صَابَ السَّهْمُ يصيبُ؛ كقوله: [المنسرح]
٢٧٩٣ -................................ أسْهُمِيَ الصَّائِبَاتُ والصُّيُبُ
يعني: أن أصله «يُصَوْيب» فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغم فيها.
وهذا كما تقدم في «تَحَيَّزَ» أنَّ أصله «تَحَيْوزَ»، وأمَّا إذا أخذناه من لغة من يقول: صَاب السَّهم يصيب، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة «فَعَّلط.

فصل


المعنى: قل لهم يا محمد ﴿لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ أي: علينا، وقدره في اللوح المحفوظ، أو يكون المعنى»
لنْ يُصيبنَا إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا «أي: في عاقبة أمرنا من
112
الظفر بالعدو، والاستيلاء عليهم. وقال الزجاج: المعنى: إذا صرنا مغلوبين، صرنا مستحقين للأجر العظيم، والثَّواب الكثير، وإن صرنا غالبين، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول.
ثم قال:» هُوَ مَوْلاَنَا «ناصرنا، وحافظنا. قال الكلبي» هو أوْلَى بنا من أنفسنا، في الحياة والموت «. ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية.

فصل


﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ الآية.
هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، أي:»
هَلْ تَربَّصُونَ «، أي: تنتظرون،» بنا «أيها المنافقون، ﴿إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ إمَّا النصر والغنيمة، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة، وإمَّا الشهادة، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة.
قوله: ﴿إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ مفعول»
تربَّص «، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن محيصنٍ:» إلاَّ احدى «بوصل ألف» إحدى «؛ إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل؛ فهو كقول الشاعر: [الرجز]
٢٧٩٤ - إنْ لَمْ أقَاتِلْ فالبسُونِي بُرقَعَا... وقول الآخر: [الكامل]
٢٧٩٥ - يَا بَا المُغيرةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ فرَّجْتهُ بالمكْرِ مِنِّي والدَّهَا
قوله: ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ﴾ إحدى السوأتين إمَّا ﴿أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية، ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ أي: بأيدي المؤمنين، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق، فيقع بكم القتلِ والنَّهب مع الخزي والذلّ، ومفعول: التربص»
أَن يُصِيبَكُمُ «ثم قال:» فتربصوا «أي: إحدى الحالتين الشريفتين ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾ أي: مواعيد الله من إظهار دينه، واستئصال من خالفه، فقوله:» فتربصوا «وإن كان صيغة أمر، إلاَّ أنَّ المراد منه: التهديد، كقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها﴾ الآية.
»
طوعاً، أو كرهاً «مصدران في موضع الحال، أي: طائعين، أو كارهين. وقرأ
113
الأخوان» كُرهاً «بالضَّمِّ، وقد تقدم تحقيقُ ذلك في النساء. وقال أبُو حيان هنا:» قرأ الأعمش وابن وثاب «كُرهاً» بضم الكاف «. وهذا يُوهم أنَّها لم تُقْرأ في السبعة. قال الزمخشري: هو أمرٌ في معنى الخبر، كقوله:
﴿فَلْيَمْدُدْ
لَهُ
الرحمن
مَدّاً﴾
[مريم: ٥٧]، ومعناه لن يُتقبَّل منكم؛ أنفقتم طوعاً أو كرهاً، ونحوه قوله تعالى: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] ؛ وقول كثير عزة: [الطويل]
٢٧٩٦ - أسيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَة..................................
أي: لن يغفر اللهُ، استغفرت لهم، أو لم تستغفر. ولا نلومُكِ أحسنتِ إلينا، أم أسَأتِ؛ وفي معناه قول القائل: [الطويل]
٢٧٩٧ - أخُوكَ الذي إنْ قُمْتَ بالسَّيفِ عَامِداً لِتضْربَهُ لَمْ يَسْتغشَّكَ في الوُدِّ
وقال ابن عطيَّة «هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ، والتقدير: إنْ تنفقوا لن يُتقبَّل منكم. وأمَّا إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشَّرط»
قال أبُو حيَّان «ويقَدْح في هذا التَّخريجِ، أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط، كان الجواب كجواب الشرط. فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب:» فلن يتقبل «بالفاء، لأنَّ» لَنْ «لا تقعُ جواباً للشَّرط إلاَّ بالفاء فكذلك ما ضُمِّنَ معناه؛ ألا ترى جزمه الجواب، في قوله: اقصد زيداً يُحْسِنْ إليكَ».
قال شهابُ الدِّينِ «إنَّما أراد أبو محمد تفسير المعنى، وإلا فلا يجهلُ مثل هذه الواضحات، وأيضاً فلا يلزمُ أن يعطى الأمر التقديري حكم الشَّيء الظاهر من كل وجه».
وقوله: «إنَّكمُ» وما بعده جارٍ مجرى التعليل. وقوله: ﴿لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ يحتملُ أن يكون المراد أن الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتملُ أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى.
قيل: نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود، وقال: أعينكم بمالي، والمرادُ بالفسق هنا: الكفر، لقوله بعده ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ﴾ [التوبة: ٥٤].
114
قوله :﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ﴾ نصر وغنيمة " تَسُؤهُمْ " تُحزنهم، يعني المنافقين ﴿ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ﴾ نكبة وشدة ومكروه، يفرحوا، و﴿ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ ﴾ أي : حذرنا، " ويتَولَّوا " يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم ﴿ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾ مسرورون.
ونقل عن ابن عبَّاسٍ " أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ، والمصيبة في يوم أحدٍ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة، وعلى كل مصيبة " ١.
١ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٦٨)..
قوله :﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ ﴾ قال عمر بن شقيق : سمعت " أعين " قاضي الرَّيِّ١ يقرأ " لن يُصيبنَّا " بتشديد النون.
قال أبُو حاتم : ولا يجوزُ ذلك ؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع " لَنْ "، ولو كانت لطلحة بن مصرف، لجاز، لأنها مع " هل "، قال الله تعالى ﴿ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ [ الحج : ١٥ ].
يعني أبو حاتم : أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام، وابن مصرف يقرأ " هَلْ٢ " بدل " لَنْ "، وهي قراءة ابن مسعود. وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت " لن " على " لم " و " لا " النافيتين، و " لم " و " لا " يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما.
أمَّا " لا " فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال. وأما " لم " فقد سمع ذلك فيها ؛ وأنشدوا :[ الرجز ]
يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا *** شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا٣
أراد :" يَعْلمَنْ " فأبدل الخفيفة ألفاً بعد فتحة، كالتنوين. وقرأ القاضي٤ أيضاً، وطلحة " هَلْ يُصَيِّبنا " بتشديد الياء. قال الزمخشريُّ : ووجهه أن يكون " يُفَيْعِل " لا " يُفَعِّل " لأنَّهُ من ذوات الواو، كقولهم : الصَّواب، وصَابَ يَصوبُ، ومَصَاوب، في جمع " مصيبة " فحقُّ " يُفَعِّل " منه " يُصَوِّب "، ألا ترى إلى قولهم : صوَّب رأيه، إلاَّ أن يكون لغة من يقول : صَابَ السَّهْمُ يصيبُ ؛ كقوله :[ المنسرح ]
. . . *** أسْهُمِيَ الصَّائِبَاتُ والصُّيُبُ٥
يعني : أن أصله " يُصَوْيب " فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغم فيها. وهذا كما تقدم في " تَحَيَّزَ " أنَّ أصله " تَحَيْوزَ "، وأمَّا إذا أخذناه من لغة من يقول : صَاب السَّهم يصيب، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة " فَعَّل ".

فصل


المعنى : قل لهم يا محمد ﴿ لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا ﴾ أي : علينا، وقدره في اللوح المحفوظ، أو يكون المعنى " لنْ يُصيبنَا إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا " أي : في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو، والاستيلاء عليهم. وقال الزجاج : المعنى : إذا صرنا مغلوبين، صرنا مستحقين للأجر العظيم، والثَّواب الكثير، وإن صرنا غالبين، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول.
ثم قال :" هُوَ مَوْلاَنَا " ناصرنا، وحافظنا. قال الكلبي " هو أوْلَى بنا من أنفسنا، في الحياة والموت ". ﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية.

فصل


١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٢، البحر المحيط ٥/٥٣، البحر المحيط ٥/٥٣، الدر المصون ٣/٤٧١..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٢، البحر المحيط ٥/٥٣، الدر المصون ٣/٤٧١..
٣ تقدم..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٢٧٨، المحرر الوجيز ٣/٤٢، البحر المحيط ٥/٥٣، الدر المصون ٣/٤٧١..
٥ عجز بيت للكميت وصدره:
واستبى الكاعب المقلية إذ ***...
ينظر: المحتسب ١/٢٩٤ روح المعاني ١٠/١١٥ الدر المصون ٣/٤٧٢ واللسان ٤/٢٥٣٢..

﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين ﴾ الآية.
هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، أي :" هَلْ تَربَّصُونَ "، أي : تنتظرون، " بنا " أيها المنافقون، ﴿ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين ﴾ إمَّا النصر والغنيمة، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة، وإمَّا الشهادة، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة.
قوله :﴿ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين ﴾ مفعول " تربَّص "، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن١ محيصنٍ :" إلاَّ احدى " بوصل ألف " إحدى " ؛ إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل ؛ فهو كقول الشاعر :[ الرجز ]
إنْ لَمْ أقَاتِلْ فالبسُونِي بُرقَعَا٢ ***. . .
وقول الآخر :[ الكامل ]
يَا بَا المُغيرةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ *** فرَّجْتهُ بالمكْرِ مِنِّي والدَّهَا٣
قوله :﴿ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ﴾ إحدى السوأتين إمَّا ﴿ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾ فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية، ﴿ أَوْ بِأَيْدِينَا ﴾ أي : بأيدي المؤمنين، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق، فيقع بكم القتلِ والنَّهب مع الخزي والذلّ، ومفعول : التربص " أَن يُصِيبَكُمُ " ثم قال :" فتربصوا " أي : إحدى الحالتين الشريفتين ﴿ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ ﴾ أي : مواعيد الله من إظهار دينه، واستئصال من خالفه، فقوله :" فتربصوا " وإن كان صيغة أمر، إلاَّ أنَّ المراد منه : التهديد، كقوله :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ].
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٤، البحر المحيط ٥/٥٣، الدر المصون ٣/٤٧٣..
٢ تقدم..
٣ تقدم..
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها ﴾ الآية.
" طوعاً، أو كرهاً " مصدران في موضع الحال، أي : طائعين، أو كارهين. وقرأ١ الأخوان " كُرهاً " بالضَّمِّ، وقد تقدم تحقيقُ ذلك في النساء. وقال أبُو حيان٢ هنا :" قرأ الأعمش٣ وابن وثاب " كُرهاً " بضم الكاف ". وهذا يُوهم أنَّها لم تُقْرأ في السبعة. قال الزمخشري : هو أمرٌ في معنى الخبر، كقوله :﴿ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً ﴾ [ مريم : ٥٧ ]، ومعناه لن يُتقبَّل منكم ؛ أنفقتم طوعاً أو كرهاً، ونحوه قوله تعالى :﴿ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] ؛ وقول كثير عزة :[ الطويل ]
أسيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَة ***. . . ٤
أي : لن يغفر اللهُ، استغفرت لهم، أو لم تستغفر. ولا نلومُكِ أحسنتِ إلينا، أم أسَأتِ ؛ وفي معناه قول القائل :[ الطويل ]
أخُوكَ الذي إنْ قُمْتَ بالسَّيفِ عَامِداً *** لِتضْربَهُ لَمْ يَسْتغشَّكَ في الوُدِّ٥
وقال ابن عطيَّة٦ " هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن يُتقبَّل منكم. وأمَّا إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشَّرط " قال أبُو حيَّان " ويقَدْح في هذا التَّخريجِ، أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط، كان الجواب كجواب الشرط. فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب :" فلن يتقبل " بالفاء، لأنَّ " لَنْ " لا تقعُ جواباً للشَّرط إلاَّ بالفاء فكذلك ما ضُمِّنَ معناه ؛ ألا ترى جزمه الجواب، في قوله : اقصد زيداً يُحْسِنْ إليكَ ".
قال شهابُ الدِّينِ " إنَّما أراد أبو محمد تفسير المعنى، وإلا فلا يجهلُ مثل هذه الواضحات، وأيضاً فلا يلزمُ أن يعطى الأمر التقديري حكم الشَّيء الظاهر من كل وجه ".
وقوله :" إنَّكمُ " وما بعده جارٍ مجرى التعليل. وقوله :﴿ لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ﴾ يحتملُ أن يكون المراد أن الرسُول - عليه الصلاة والسلام - لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتملُ أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى.
قيل : نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود، وقال : أعينكم بمالي، والمرادُ بالفسق هنا : الكفر، لقوله بعده ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥٤ ].
١ ينظر: حجة القراءات ص (٣١٩)، إتحاف فضلاء البشر ٢/٩٣، البحر المحيط ٥/٥٤، الدر المصون ٣/٤٧٢..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٥٤..
٣ ينظر: القراءة السابقة..
٤ صدر بيت عجزه:
لدينا ولا مقلية إن تقلت ***...
ينظر: ديوانه (١٠١) أمالي ابن الشجري ١/٤٩ التهذيب واللسان [حسن] معاني الفراء ١/٤٤١ القرطبي ٨/١٦١ الدر المصون ٣/٤٧٢ تفسير الطبري ١٤/٢٩٣، تفسير الفخر ١٦/٨٨..

٥ البيت من شواهد الكشاف ٢/٣٧٥، الدر المصون ٣/٤٧٢..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٤..
قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ﴾ الآية.
«أنْ تُقْبَلَ» فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول ثانٍ، ل «مَنَعَ» إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر، أي: من أن يقبل، وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه؛ لأنَّك تقول: منعتُ زيداً حقَّه ومن حقه. والثاني: أنَّهُ بدلٌ من «هم» في: «مَنَعَهُمْ»، قاله أبو البقاءِ، كأنَّهُ يريد: بدل الاشتمال، ولا حاجة إليه. وفي فاعل «مَنَعَ» وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ ﴿إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ﴾ أي: ما منعهم قبول نفقتهم إلاَّ كفرهم.
والثاني: أنَّهُ ضمير الله تعالى: أي وما منعهم الله، ويكون «إِلاَّ أَنَّهُمْ» منصوباً على إسقاط حرف الجر، أي: لأنَّهم كفروا. وقرأ الأخوان «أن يُقْبَلَ» بالياءِ من تحت. والباقون بالتَّاء من فوق. وهما واضحتان، لأنَّ التأنيث مجازي. وقرأ زيد بن علي كالأخوين إلاَّ أنَّه أفرد النفقة. وقرأ الأعرج «تُقبل» بالتاء من فوق، «نَفَقَتهُم» بالإفراد. وقرأ السُّلمي «يَقْبل» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى. وقرىء «نَقْبل» بنون العظمة، «نفقتهم» بالإفراد.

فصل


ظاهر اللفظ يدل على أنَّ منع القبول معلل بمجموع الأمور الثلاثة، وهي الكفر بالله ورسوله، وإتيان الصَّلاة وهم كسالى، والإنفاق على سبيل الكراهية.
ولقائل أن يقول: الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبولِ، فلا يبقى لغيره أثر، فكيف يمكن إسناد الحكم إلى السببين الباقيين؟.
115
وجوابه: أنَّ هذا الإشكالِ إنما يتوجَّهُ على قول المعتزلةِ، حيث قالوا: إنَّ الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم، أما عند أهْلِ السُّنَّةِ: فإنَّ شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً وإنَّما هي معرفات، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز.

فصل


دلَّت الآية على أنَّ شيئاً من أعمال البر لا يقبل مع الكفر بالله تعالى.
فإن قيل: كيف الجمع بينه وبين قوله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] ؟ فالجوابُ: أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقابِ، ودلت الآية على أنَّ الصلاة تجب على الكافر، لأنه تعالى ذمَّ الكافر على فعل الصَّلاة على وجه الكسل.
قال الزمخشريُّ «كُسَالَى» بالضمِّ والفتح جمع: «كَسْلان» نحو «سَكَارى». قال المفسِّرون: معنى هذا الكسل، أنَّهُ إن كان في جماعة صلَّى، وإن كان وحده لم يصلِّ.
وقوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ أي: لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ الآية.
لمَّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بيَّن ههنا أنَّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا؛ فإنه تعالى جعلها أسباباً لتعذيبهم في الدُّنيا.
والإعجاب: هو السرور بالشَّيء من نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه. قوله ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب «تُعْجِبْكَ»، ويكون قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ جملة اعتراض، والتقدير: فلا تعجبك في الحياةِ، ويجوز أن يكون الجارُّ حالاً من «أمْوالُهُمْ» وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي وابن قتيبة، قالوا في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم، ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنَّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
قال أبو حيان: «إلاَّ أنَّ تقييد الإعجاب المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنَّه لا يكون إلاَّ في الحياة الدُّنيا، فيبقى ذلك كأنَّهُ زيادة تأكيد بخلاف التَّعذيب، فإنَّه قد يكون في الدنيا، كما يكون في الآخرة، ومع أنَّ التقديم والتأخير يخصُّه أصحابنا بالضرورة».
116
قال شهابُ الدين: «كيف يقال - مع نصِّ من قدَّمتُ ذكرهم - أصحابنا يخصُّون ذلك بالضَّرورة؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيءٍ، إنَّما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير، بالاصطلاح الذي يخصُّ بالضرورة. وتسميتهم - أعني: ابن عباس، ومن معه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إنَّما يريدون به الاعتراض المشار إليه، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة».
والثاني: أنَّ «فِي الحياةِ» متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ: مصائبُ الدُّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشَّاقة، فإنَّهم لا يرجون عليها ثواباً، قاله ابنُ زيد: أو ما فُرِض عليهم من الزكوات، قاله الحسنُ. وعلى هذا فالضميرُ في «بها» يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على «الأولاد، والأموال».
فإن قيل: أيُّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم؟.
فالجوابُ: على القول الأول بالتقديم والتأخير، فالسؤالُ زائل. وعلى الثاني المصائب الواقعة في المال والولد. وقيل: بل لا بدَّ من تقدير حذف، بأن يقال: أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب، أمَّا في الدُّنيا، فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً، وأيضاً يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد، ومشاقّ عظيمة، ثم في حفظها كذلك، وأمَّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب، وحرامها عذابٌ.
فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكلِّ، فما فائدة تخصيص المنافقين؟.
فالجوابُ: أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنَّهُ يراه ضياعاً لا يرجو ثوابه، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهدث في سبيل الله خوفاً من أن يقتل، والمؤمن يُجَاهدُ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال: ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي: تخرجُ أنفسهم وهم كارهون.
أي: يموتون على الكفر.
قوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ على دينكم ﴿وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾ أي: ليسوا على دينكم ﴿ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.
قوله: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ﴾. «المَلْجَأ» : الحِصْن. وقال عطاءٌ: المَهْرب وقيل: الحِرْز وهو «مَفْعَل»، مِنْ: لَجَأ إليه، يلجأ، أي: انحاز. يقال: ألجَأتُهُ إلى كذا أي: اضطررته إليه فالتَجَأ. و «الملجأ» يصلحُ للمصدر، والزمان، والمكان. والظَّاهرُ منها - المكان. و «المغارات» جمع «مغارة»، وهي الموضع الذي يغور
117
الإنسان فيه، أي: يستقر. وقال أبُو عبيدٍ: كل شيءٍ جزتَ فيه فغبتَ فهو مغارة لك، ومنه: غار الماء في الأرض، وغارت العين. وهي مفعلة، مِنْ: غَارَ يغُورُ، فهي كالغَار في المعنى. وقيل: المغارة: السِّرْب، كنفق اليربوع.
والغار: النَّقْبُ في الجبل. والجمهورُ على فتح ميم «مغارات». وقرأ عبدُ الرحمن بن عوف «مُغارات» بالضم، وهو من: أغار، و «أغار» يكون لازماً، تقول العربُ: «أغار» بمعنى «غار» أي: دخل. ويكون متعدّياً، تقول العرب: أغرت زيداً، أي: أدخلته في الغار، فعلى هذا يكون من «أغار» المتعدِّي، والمفعول محذوف، أي: أماكنُ يغيرون فيها أنفسهم، أي: يُغَيِّبُونها. و «المُدَّخل» :«مُفْتَعَل» مِنَ: الدخول، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى، والأصل: «مُدْتَخل» فأدغمت «الدال» في «تاء» الافتعال ك: «ادَّانَ» من «الدَّين». وقرأ قتادة، وعيسى بن عمر، والأعمش «مُدَّخَّلاً» بتشديد الدال والخاء معاً. وتوجيهها أن الأصل «مُتدَخَّلاً»، من: تدخَّل «بالتَّضعيف، فلمَّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ» مُدخَّلاً «نحو» مُدَّيَّن «من» تَديَّن «.
وقرأ الحسنُ أيضاً، ومسلمةُ بن محاربٍ، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وابن كثير، في رواية»
مَدْخَلاً «بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة، مِنْ» دخل «. وقرأ الحسنُ في رواية محبوب كذلك، إلاَّ أنه ضمَّ الميم، جعله من» أدخل «. وهذا من أبدع النَّظم، ذكر أولاً الأمر الأعم، وهو» الملجأ «من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يُخْتفى فيها في أعلى الأماكن، وهي الجبالُ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السُّروب، وهي التي عبَّر عنها ب» المُدَّخل «. وقال الزجاج: يصحُّ أن تكون» المغارات «من قولهم:» حَبل مُغار «أي: محكم الفتل، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا: لو يجدون نصرة، أو أموراً مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل» المُدَّخَل «أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم.
وقرأ أبي «مُنْدَخَلاً»
بالنون بد الميم، من «انْدخَلَ» ؛ قال: [البسيط]
٢٧٩٨ -......................... ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدخِلُ
118
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه، وقال: إنَّما هي بالتاء، وهو معذورٌ، لأنَّ «انفعل» قاصر لا يتعدى، فكيف يبنى منه اسم مفعول؟ وقرأ الأشهب العقيلي «لوالَوْا»، أي: لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة. وهذا مما جاء فيه «فعَّل»، و «فاعل» بمعنى، نحو: ضَعَّفْتُه، وضَاعَفْتُه.
قال سعيد بن مسلم: أظنها «لَوألُوا» بهمزة مفتوحة بعد الواو، من «وأل»، أي: التجأ وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري عن أبيّ، وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء. و «الجُموح» النُّفُور بإسراع؛ ومنه: فرس جمُوحٌ، إذا لم يرُدَّهُ لِجَامٌ؛ قال: [المتقارب]
٢٧٩٩ - سَبُوحاً جَمُوحاً وإحْضَارُهَا كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ
وقال آخر: [البسيط]
٢٨٠٠ - وقد جَمَحْتُ جِمَاحاً في دِمَائِهِمُ حتَّى رأيتُ ذوي أحْسابِهِمْ جَهَزُوا
وقرأ أنس بن مالك، والأعمش: يَجْمِزُون. قال ابن عطية يُهرولُونَ في مَشيهمْ وقيل: يَجْمِزُونَ، ويَجْمَحُونَ، ويشتدُّون بمعنى «.
وفي الحديث:»
فلمَّا أذْلقَتهُ الحجارةُ جَمَزَ «وقال رؤبة: [الرجز]
٢٨٠١ - إمَّا تَرَيْنِي اليومَ أمَّ حَمْزٍ قَاربْتُ بين عَنقي وجمْزِي
ومنه»
يَعْدُو الجَمَزَى «وهو أن يجمع رجليه معاً، ويهمز بنفسه، هذا أصله في اللغة وقوله:» إليهِ «عاد الضميرُ على» الملجأ «أو على» المُدَّخل «، لأنَّ العطف ب» أوْ «، ويجوز أن يعود على» المغارات «لتأويلها بمذكر. ومعنى الآية: أنهم لو يجدون مخلصاً منكم أو مهرباً لفارقوكم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات﴾ الآية.
قرأ العامة»
يَلْمِزُكَ «بكسر الميم، من: لَمَزه يَلْمِزه، أي. عابه، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها.
119
قال الأزهري أصله: الدفع، لَمَزتُهُ دفعته وقال الليث هو الغمز في الوجه ومنه: هُمزةٌ لُمَزَة. أي: كثيرُ هذين الفعلين. وقال أبو بكر الأصم» اللَّمز: أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه. والهمز: أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه «. وقرأ يعقوب، وحماد بن سلمة عن ابن كثير، والحسن، وأبو رجاء، ورويت عن أبي عمرو بضمها، وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش» يُلْمِزُكَ «مِنْ» الْمَز «رباعياً. وروى حماد بن سلمة» يُلامِزُكَ «على المفاعلة من واحدٍ، ك: سافرَ، وعاقب.
هذا شرح نوع آخر من طباعهم وأفعالهم، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات، ونزلت في ذي الخويصرة التميمي، واسمه: حرقوص بن زهير، أصل الخوارج.
قال أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم مالاً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي، وقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟»
فنزلت هذه الآية.
وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين ويقال له: أبو الجواظ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتزعم بأن الله أمرك بأن تضع صدقات في الفقراء والسماكين، فلم تعضها في رعاة الشاء؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا أبا لك، فإنما كان موسى راعياً وإنما كان داود راعياً»، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما ذهب قال عليه السلام: «احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون».
وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه عليه السلام قال لرجل من أصحابه: «ما علمك بفلان؟» قال ما لي به علم إلا أنك تدينه في المجلس وتجزل له العطاء، فقال عليه السلام: «إنه منافق أداريه عن نفاقه، وأخاف إفساده.»
قال ابن عباس «يلمزك» : يغتابك، وقال قتادة: يطعن عليك، وقال الكلبي: يعيبك في أمرٍ ما، قال أبو علي الفارسي: هنا محذوف والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات فإن أعطوا كثيراً فرحوا، وإن أعطوا قليلاً فإذا هم يسخطون. وقد تقدم الكلام
120
على «إذا» الفجائية، والعامل فيها. قال أبو البقاء: «يسخطون» لأنه قال: إنها ظرف مكان، وفيه نظر تقدم نظيره.
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ﴾. الظاهر أنَّ جواب «لَوْ» محذوفٌ، تقديره: لكان خيراً لهم.
وقيل: جوابها «وقالوا»، والو مزيدةٌ، وهذا مذهبُ الكوفيين. والمعنى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ﴾ ما نحتاج إليه ﴿إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾ هاتانِ الجملتان كالشَّرح لقولهم: «حَسبُنَا اللهُ»، فلذلك لم يتعاطفا، لأنَّهُمَا كالشَّيء الواحد، فشدَّه الاتصال منعت العطف.
121
قوله تعالى :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ ﴾ الآية.
لمَّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بيَّن ههنا أنَّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا ؛ فإنه تعالى جعلها أسباباً لتعذيبهم في الدُّنيا.
والإعجاب : هو السرور بالشَّيء من نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه. قوله ﴿ فِي الحياة الدنيا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب " تُعْجِبْكَ "، ويكون قوله :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ ﴾ جملة اعتراض، والتقدير : فلا تعجبك في الحياةِ، ويجوز أن يكون الجارُّ حالاً من " أمْوالُهُمْ " وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي وابن قتيبة، قالوا في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم، ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنَّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة١.
قال أبو حيان :" إلاَّ أنَّ تقييد الإعجاب المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنَّه لا يكون إلاَّ في الحياة الدُّنيا، فيبقى ذلك كأنَّهُ زيادة تأكيد بخلاف التَّعذيب، فإنَّه قد يكون في الدنيا، كما يكون في الآخرة، ومع أنَّ التقديم والتأخير يخصُّه أصحابنا بالضرورة ".
قال شهابُ الدين :" كيف يقال - مع نصِّ من قدَّمتُ ذكرهم - أصحابنا يخصُّون ذلك بالضَّرورة ؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيءٍ، إنَّما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير، بالاصطلاح الذي يخصُّ بالضرورة. وتسميتهم - أعني : ابن عباس، ومن معه رضي الله عنهم - إنَّما يريدون به الاعتراض المشار إليه، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة ".
والثاني : أنَّ " فِي الحياةِ " متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ : مصائبُ الدُّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشَّاقة، فإنَّهم لا يرجون عليها ثواباً، قاله ابنُ زيد٢ : أو ما فُرِض عليهم من الزكوات٣، قاله الحسنُ. وعلى هذا فالضميرُ في " بها " يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على " الأولاد، والأموال ".
فإن قيل : أيُّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم ؟.
فالجوابُ : على القول الأول بالتقديم والتأخير، فالسؤالُ زائل. وعلى الثاني المصائب الواقعة في المال والولد. وقيل : بل لا بدَّ من تقدير حذف، بأن يقال : أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب، أمَّا في الدُّنيا، فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً، وأيضاً يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد، ومشاقّ عظيمة، ثم في حفظها كذلك، وأمَّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب، وحرامها عذابٌ.
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكلِّ، فما فائدة تخصيص المنافقين ؟.
فالجوابُ : أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنَّهُ يراه ضياعاً لا يرجو ثوابه، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهد في سبيل الله خوفاً من أن يقتل، والمؤمن يُجَاهدُ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال :﴿ وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي : تخرجُ أنفسهم وهم كارهون.
أي : يموتون على الكفر.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٩٠-٣٩١) عن ابن عباس وقتادة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٤٧) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر.
وذكره أيضا (٣/٤٤٧) عن قتادة وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٩١) عن ابن زيد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٤٧) وعزاه إلى ابن حاتم..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٣٩١) عن الحسن وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٠-٣١٠١)..
قوله :﴿ وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ﴾ على دينكم ﴿ وَمَا هُم مِّنكُمْ ﴾ أي : ليسوا على دينكم ﴿ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾ يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.
قوله :﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ ﴾. " المَلْجَأ " : الحِصْن. وقال عطاءٌ : المَهْرب١ وقيل : الحِرْز وهو " مَفْعَل "، مِنْ : لَجَأ إليه، يلجأ، أي : انحاز. يقال : ألجَأتُهُ إلى كذا أي : اضطررته إليه فالتَجَأ. و " الملجأ " يصلحُ للمصدر، والزمان، والمكان. والظَّاهرُ منها - المكان. و " المغارات " جمع " مغارة "، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه، أي : يستقر. وقال أبُو عبيدٍ : كل شيءٍ جزتَ فيه فغبتَ فهو مغارة لك، ومنه : غار الماء في الأرض، وغارت العين. وهي مفعلة، مِنْ : غَارَ يغُورُ، فهي كالغَار في المعنى. وقيل : المغارة : السِّرْب، كنفق اليربوع.
والغار : النَّقْبُ في الجبل. والجمهورُ على فتح ميم " مغارات ". وقرأ عبدُ٢ الرحمن بن عوف " مُغارات " بالضم، وهو من : أغار، و " أغار " يكون لازماً، تقول العربُ :" أغار " بمعنى " غار " أي : دخل. ويكون متعدّياً، تقول العرب : أغرت زيداً، أي : أدخلته في الغار، فعلى هذا يكون من " أغار " المتعدِّي، والمفعول محذوف، أي : أماكنُ يغيرون فيها أنفسهم، أي : يُغَيِّبُونها. و " المُدَّخل " :" مُفْتَعَل " مِنَ : الدخول، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى، والأصل :" مُدْتَخل " فأدغمت " الدال " في " تاء " الافتعال ك :" ادَّانَ " من " الدَّين ". وقرأ قتادة، وعيسى٣ بن عمر، والأعمش " مُدَّخَّلاً " بتشديد الدال والخاء معاً. وتوجيهها أن الأصل " مُتدَخَّلاً "، من : تدخَّل " بالتَّضعيف، فلمَّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ " مُدخَّلاً " نحو " مُدَّيَّن " من " تَديَّن ".
وقرأ الحسنُ أيضاً٤، ومسلمةُ بن محاربٍ، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وابن كثير، في رواية " مَدْخَلاً " بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة، مِنْ " دخل ". وقرأ٥ الحسنُ في رواية محبوب كذلك، إلاَّ أنه ضمَّ الميم، جعله من " أدخل ". وهذا من أبدع النَّظم، ذكر أولاً الأمر الأعم، وهو " الملجأ " من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يُخْتفى فيها في أعلى الأماكن، وهي الجبالُ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السُّروب، وهي التي عبَّر عنها ب " المُدَّخل ". وقال الزجاج : يصحُّ أن تكون " المغارات " من قولهم :" حَبل مُغار " أي : محكم الفتل، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة، أو أموراً مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل " المُدَّخَل " أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم. وقرأ أبي٦ " مُنْدَخَلاً " بالنون بد الميم، من " انْدخَلَ " ؛ قال :[ البسيط ]
. . . *** ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدخِلُ٧
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه، وقال : إنَّما هي بالتاء، وهو معذورٌ، لأنَّ " انفعل " قاصر لا يتعدى، فكيف يبنى منه اسم مفعول ؟ وقرأ الأشهب٨ العقيلي " لوالَوْا "، أي : لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة. وهذا مما جاء فيه " فعَّل "، و " فاعل " بمعنى، نحو : ضَعَّفْتُه، وضَاعَفْتُه.
قال سعيد بن مسلم : أظنها " لَوألُوا " بهمزة مفتوحة بعد الواو، من " وأل "، أي : التجأ وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري عن أبيّ، وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء. و " الجُموح " النُّفُور بإسراع ؛ ومنه : فرس جمُوحٌ، إذا لم يرُدَّهُ لِجَامٌ ؛ قال :[ المتقارب ]
سَبُوحاً جَمُوحاً وإحْضَارُهَا *** كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ٩
وقال آخر :[ البسيط ]
وقد جَمَحْتُ جِمَاحاً في دِمَائِهِمُ *** حتَّى رأيتُ ذوي أحْسابِهِمْ جَهَزُوا١٠
وقرأ أنس١١ بن مالك، والأعمش : يَجْمِزُون. قال ابن عطية١٢ يُهرولُونَ في مَشيهمْ وقيل : يَجْمِزُونَ، ويَجْمَحُونَ، ويشتدُّون بمعنى ".
وفي الحديث :" فلمَّا أذْلقَتهُ الحجارةُ جَمَزَ١٣ " وقال رؤبة :[ الرجز ]
إمَّا تَرَيْنِي اليومَ أمَّ حَمْزٍ *** قَاربْتُ بين عَنقي وجمْزِي١٤
ومنه " يَعْدُو الجَمَزَى " وهو أن يجمع رجليه معاً، ويهمز بنفسه، هذا أصله في اللغة وقوله :" إليهِ " عاد الضميرُ على " الملجأ " أو على " المُدَّخل "، لأنَّ العطف ب " أوْ "، ويجوز أن يعود على " المغارات " لتأويلها بمذكر. ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصاً منكم أو مهرباً لفارقوكم.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠١)..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٦، البحر المحيط ٥/٥٦، الدر المصون ٣/٤٧٤ الكشاف ٢/٢٨١..
٣ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/٩٣، المحرر الوجيز ٣/٤٦، البحر المحيط ٥/٥٦، الدر المصون ٣/٤٧٤..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٢٨١، إتحاف ٢/٩٣، المحرر ٣/٤٦، البحر ٥/٥٦، الدر ٣/٤٧٤..
٥ ينظر: السابق..
٦ ينظر: السابق..
٧ عجز بيت للكميت وصدره:
لا خطوتي تتعاطى غير موضعها ***...
ينظر: ديوانه (٢/١٣) المحتسب ١/٢٩٦، المنصف ١/٧٢ البحر ٥/٥٦ الدر المصون ٣/٤٧٥ روح المعاني ١/١٩٩ حاشية الشهاب ٤/٣٣٥ اللسان ٢/١٣٤٠ [دخل]..

٨ وقرأ بها جد أبي عبيدة بن قرمل.
ينظر: الكشاف ٢/٢٨١، المحرر الوجيز ٣/٤٦، البحر المحيط ٥/٥٧، الدر المصون ٣/٤٧٥..

٩ البيت لامرئ القيس ينظر: ديوانه ١٨٧، واللسان (جمح) والبحر المحيط ٥/٣٧، الدر المصون ٣/٤٧٥..
١٠ ينظر: الطبري ١٤/٢٩٩، والبحر المحيط ٥/٣٧، الدر المصون ٣/٤٧٥..
١١ ينظر: الكشاف ٢/٢٨١، المحرر الوجيز ٣/٤٦، البحر المحيط ٥/٥٧، الدر المصون ٣/٤٧٥..
١٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٤٦..
١٣ هو حديث رجم ماعز وقد تقدم تخريجه..
١٤ تقدم..
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات ﴾ الآية.
قرأ العامة " يَلْمِزُكَ " بكسر الميم، من : لَمَزه يَلْمِزه، أي. عابه، وأصله : الإشارة بالعين ونحوها.
قال الأزهري١ أصله : الدفع، لَمَزتُهُ دفعته وقال الليث هو الغمز في الوجه ومنه : هُمزةٌ لُمَزَة. أي : كثيرُ هذين الفعلين. وقال أبو بكر الأصم " اللَّمز : أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه. والهمز : أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه ". وقرأ يعقوب٢، وحماد بن سلمة عن ابن كثير، والحسن، وأبو رجاء، ورويت عن أبي عمرو بضمها، وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش٣ " يُلْمِزُكَ " مِنْ " الْمَز " رباعياً. وروى حماد بن سلمة " يُلامِزُكَ " على المفاعلة من واحدٍ، ك : سافرَ، وعاقب.
هذا شرح نوع آخر من طباعهم وأفعالهم، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات، ونزلت في ذي الخويصرة التميمي، واسمه : حرقوص بن زهير، أصل الخوارج.
قال أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي، وقال : يا رسول الله اعدل، فقال :" ويلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ " فنزلت هذه الآية٤.
وقال الكلبي : قال رجل من المنافقين ويقال له : أبو الجواظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم بأن الله أمرك بأن تضع صدقات في الفقراء والسماكين، فلم تضعها في رعاة الشاء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا أبا لك، فإنما كان موسى راعياً وإنما كان داود راعياً "، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما ذهب قال عليه السلام :" احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون " ٥.
وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه عليه السلام قال لرجل من أصحابه :" ما علمك بفلان ؟ " قال ما لي به علم إلا أنك تدينه في المجلس وتجزل له العطاء، فقال عليه السلام :" إنه منافق أداريه عن نفاقه، وأخاف أن يفسد عليّ غيره، فقال : لو أعطيت فلانا بعض ما تعطيه ؟ فقال عليه السلام : إنه مؤمن أكله إلى إيمانه، وإنام هذا منافق أداريه إفساده ".
قال ابن عباس " يلمزك " : يغتابك، وقال قتادة : يطعن عليك٦، وقال الكلبي : يعيبك في أمرٍ ما، قال أبو علي الفارسي : هنا محذوف والتقدير : يعيبك في تفريق الصدقات فإن أعطوا كثيراً فرحوا، وإن أعطوا قليلاً فإذا هم يسخطون. وقد تقدم الكلام على " إذا " الفجائية، والعامل فيها. قال أبو البقاء :" يسخطون " لأنه قال : إنها ظرف مكان، وفيه نظر تقدم نظيره.
١ ينظر: تهذيب اللغة ١٣/٢٢٠..
٢ ينظر: السبعة ص (٣١٥)، الحجة للفراء للسبعة ٤/١٩٦-١٩٧، إعراب القراءات ١/٢٤٩-٢٥٠، إتحاف ٢/٩٤..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٢٨٢، المحرر الوجيز ٣/٤٧، البحر المحيط ٥/٥٧، الدر المصون ٣/٤٧٦..
٤ أخرجه البخاري (١٢/٣٠٣) كتاب استتابة المرتدين: باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا يفر الناس عنه حديث (٦٩٣٣) والنسائي (٦/٣٥٥) في الكبرى والطبري في "تفسيره" (٦/٣٩٤) والبغوي في "تفسيره" (٢/٣٠١-٣٠٢) من حديث أبي سعيد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٤٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه..
٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٢)..
٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/٧٩)..
قوله :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ ﴾. الظاهر أنَّ جواب " لَوْ " محذوفٌ، تقديره : لكان خيراً لهم.
وقيل : جوابها " وقالوا "، والو مزيدةٌ، وهذا مذهبُ الكوفيين. والمعنى ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ ﴾ ما نحتاج إليه ﴿ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ ﴾ في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس، وقوله :" سيؤتينا " و﴿ إنا إلى الله راغبون ﴾ هاتانِ الجملتان كالشَّرح لقولهم :" حَسبُنَا اللهُ "، فلذلك لم يتعاطفا، لأنَّهُمَا كالشَّيء الواحد، فشدَّة الاتصال منعت العطف.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين﴾ الآية.
اعلم أنَّ المنافقين لمَّا لمزوا الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الصدقات، بيَّن لهم أنَّ مصرف الزكاة هؤلاء، ولا تعلق لي بها، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها.
وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أموراً:
منها: قالوا: شكر النِّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم، والزكاة شكر النعمة. فوجب القولُ بوجوبها؛ لأنَّ شكر المنعم واجب.
ومنها: أنَّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودَّة، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوهٌ معتبرةٌ في الحكمة الناشئة لوجوب الزَّكاة.
ومنها: أنَّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطَّله عن المقصود
121
الذي لأجله خلق المالُ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى، وهو غير جائز، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتَّى لا تتعطل تلك الحكمة.
ومنها: أنَّ الفقراء عيالُ الله، لقوله تعالى ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ [هود: ٦] والأغنياء خزان الله؛ لأنَّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى، ولولا أن الله ألقاها في أيديهم، لما ملكوا منها حبة واحدة.
ومنها: أنَّ المال بالكليَّة في يد الغني مع أنَّه غير محتاج إليه، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليَّة، لا يليقُ بحكمة الرحيم؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.
ومنها: أنَّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، أو على الإقدامِ على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك.

فصل


كلمة «إنَّما» للحصر، فدلَّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلاَّ لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه، ويدلُّ على أنَّ كلمة «إنَّما» للحصر؛ لأنها مركبة من «إن» و «ما»، و «إن» للإثبات و «ما» للنفي «، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم، وكذلك تمسَّك ابنُ عبَّاسٍ في نفي ربا الفضل بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إنَّما الرِّبَا في النَّسيئَةِ «، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إنما الماءُ من الماءِ «، ولولا إفادتها الحصر، لما كان كذلك، وقال تعالى ﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١] فدلَّت على نفي إلهية الغير؛ وقال الأعشى: [السريع]
٢٨٠٢ - ولسْتَ بالأكْثَرِ منهُم حَصًى وإنَّما العِزَّةُ لِلكَاثِرِ
وقال الفرزدق: [الطويل]
122
٢٨٠٣ - أنَا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمارَ وإنَّما يدافعُ عنْ أحسابهِمْ أنَا أوْ مِثْلِي
فدلَّت هذه الوجوه على أنَّ كلمة» إنَّما «للحصر.
وروى زياد بن الحارث الصُّدانئي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصَّدقة فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«إنَّ اللهَ لَمْ يرضَ بحُكْم نبي، ولا غيره في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاء، فإنْ كنتَ من تلكَ الأجزاءِ أعطيتُك حقَّك»
.

فصل


مذهب أبي حنيفة: أنه يجوز صرف الصَّدقة إلى بعض الأصناف، وهو قول عمر وحذيفة، وابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي. قال سعيدُ بن جبير: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقرأ متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليَّ وقال الشافعي لا بُدَّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قوك عكرمة، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية. قال ولا بدَّ في كلِّ صنف من ثلاثة، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث، وهو ثلث سهم الفقراءِ قال: ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية، مثاله لو وجد خمسة أصناف، ولزمه أن يتصدَّق بعشرة دراهم؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم.
واختلفوا في صفة الفقير والمسكين، فقال ابن عباسٍ، والحسنُ، ومجاهدٌ، وعكرمةُ والزهريُّ: الفقير: الذي لا يسأل، والمسكين: السَّائل. قال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف﴾ [البقرة: ٢٧٣].
123
وقال قتادة: الفقير: المحتاج الزَّمِنُ، والمسكين: الصحيح المحتاج. وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب. وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفةَ تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلاً كان أو غير سائل.
واستدل بقوله: ﴿أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ [الكهف: ٧٩] فأثبت لهم ملكاً، وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يتعوذ من الفقر، وقال: كاد الفقرُ أن يكون كُفْراً. وكان يقول: اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكيناً وأمِتْنِي مسْكِيناً، فكيف كان يتعوذ من الفقر، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض؟
وقال أصحاب الرأي: الفقيرُ أحسن حالاً من المسكين. وقيل: الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه، وإن كان غنياً عن غيره قال تعالى: ﴿يا أيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله﴾ [فاطر: ١٥]، والمسكين المحتاج إلى كلِّ شيءٍ ألا ترى كيف حضَّ على طعامه، وجعل طعام الكفارة له، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة.
وقال إبراهيمُ النخعيُّ: الفقراء هم المهاجرون، والمسكين من لم يهاجر، وقيل: لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين، والمقصود شيءٌ واحد، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة: وهي أنَّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فالذين قالوا: الفقراء غير المساكين، قالوا: لفلان الثلث، والذين قالوا: الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف.
واختلفوا في حدِّ الغني الذي يمنع أخذ الصَّدقة، فقال الأكثرون: حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أصحاب الرأي: حدُّه أن يملك مائتي درهم. وقيل: من ملك خمسين درهماً، لا يحلُّ له أخذ الصدقة. روي أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ سَألَ النَّاسَ ولهُ ما يُغْنِيه جاء يوم القيامةِ ومسْألتُهُ في وجهه خُموش أو خُدُوش. قيل: وما يُغنيهِ؟ قال:» خَمْسُونَ دِرْهماً أو قيمتها
124
من الذَّهب «، وهو قول الثوري، وابن المباركِ، وأحمد وإسحاق وقالوا: لا يجوزُ أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين، وقيل: أربعون درهماً لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَنْ سَأل ولهُ أوقيةٌ أو عَدْلُهَا فقدْ سَألَ إلْحَافاً «.
قوله: ﴿والعاملين عَلَيْهَا﴾ وهم السُّعاةُ لجباية الصدقة، يعطون بقدر أجور أمثالهم.
وقال مجاهدٌ والضحاكُ: يعطون الثمن، ولا يجوزُ أن يكُون العاملُ على الصدقة هاشمياً ولا مطلبياً؛ لأنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أبَى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصَّدقاتِ وقال: أما علمت أن مولى القومِ منهم.
قوله: ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾ قال ابنُ عباسٍ: هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين، وكانوا خمسة عشر رجلاً: أبُو سفيانَ، والأقرعُ بنُ حابسٍ، وعيينةُ بن حصنٍ، وحويطبُ بنُ عبد العزى، وسهلُ بنُ عمرو من بني عامر، والحارثُ بنُ هشام، وسهيلُ بن عمرو الجهنيُّ، وأبُو السنابل، وحكيم بن حزامٍ، ومالكُ بن عوف وصفوانُ ابنُ أمية، وعبد الرحمن بنُ يربوع، والجدُّ بنُ قيس، وعمرو بنُ مرداس، والعلاءُ بنُ الحرث،»
أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلَّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام، إلاَّ عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل، فقال: يا رسول الله ما كنت أرى أنَّ أحداً من النَّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة، وهكذا حتى بلغ مائة، ثم قال حكيمٌ: يا رسول الله، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: بل التي رغبت عنها، فقال: والله لا آخذ غيرها «فقيل: مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً، وشقَّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك العطايا، لكن ألفهم بذلك. قال ابنُ الخطيبِ: وهذه العطايا إنَّما كانت يوم حنين، ولا تعلق لها بالصدقات، ولا أدري لأي سبب ذكر ابنُ عبَّاسٍ هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنَّما ذكر ابنُ عباسٍ ذلك بياناً للمؤلَّفة من هم، فذكر ذلك مثالاً.
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان، مسلمون وكفار، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام، أو خشية من شرهم، كما أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام.
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة.
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان، مسلمون وكفار، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام، أو خشية من شرهم، كما أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام.
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة.
125
وقال جماعةٌ من أهل العلم: إنَّ المؤلفة منقطعة، وسهمهم ساقط، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي، وبه قال مالكٌ، والثوريُّ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قومٌ: سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسنِ، وهو قول الزهري، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي ثور، وقال أحمدُ: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك.
قوله: وفِي الرقابِ قال الزجاجُ فيه محذوف، والتقديرُ: «وفي فك الرقاب» وقد تقدم الكلامُ في تفسير «الرقاب» في قوله: ﴿والسآئلين وَفِي الرقاب﴾ [البقرة: ١٧٧]. ثمَّ في تفسير «الرقاب» أقوال:
أحدها: أنَّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة، وقال مالكٌ وغيره: إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب؛ لأن قوله: ﴿وَفِي الرقاب﴾ يقتضي أن يكون له فيه مدخل، وذلك يُنَافِي كونه تاماً فيه، وقال الزهريُّ: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين المسلمين، ونصفٌ يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا.
قال بعض العلماء: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السَّيد بإذن المكاتب؛ لأنَّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين﴾ ولمَّا ذكر «الرقاب» أبدل حرف اللام بحرف «في» فقال: «وفِي الرِّقابِ» فلا بدَّ لهذا الفرق من فائدة، وهي أنَّ الأصنافَ الأربعة يدفع إليهم نَصِيبُهُمْ. وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقةِ بهم لا إليهم.
قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ عدل عن اللاَّمِ إلى» فِي «في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنَّهم أرسخُ في استحقاقِ التصدُّق عليهم ممَّن سبق ذكرهُ؛ لأنَّ» في «للوعاء، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظِنَّة لها ومصَبّاً».
ثم قال: «وتكرير» في «في قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل﴾ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين».
قوله: والغَارمينَ قال الزجاجث: أصل الغرم في اللغةِ: لزوم ما يشق، والغرام العذاب اللاَّزم، وسمي العشق غراماً، لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له، ومنه: فلان مغرم بالنِّساءِ إذا كان مولعاً بهنَّ، وسمي الدَّين غراماً، لكونه شاقاً، والمرادُ بالغارمين المديونون، فالدِّيْنُ إن حصل بسبب معصيةٍ لا يدخلُ في الآية؛ لأنَّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان: دينٌ حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين، والكل داخل في الآية.
روى الأصمُّ في تفسيره «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة: لا
126
نملك الغرَّة يا رسول الله، فقال لحمل بن مالك بن النَّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم» وكان حمل على الصدقة يومئذ.
قوله: ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ قال المفسِّرون: يعني الغزاة، قال أكثرُ العلماء: يجوز له أن يأخذ من الزَّكاة وإن كان غنياً. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلاَّ مع الحاجة.
ونقل القفالُ في تفسيره عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ الله﴾ عام في الكل وقال أكثر أهل العلم: لا يعطى منه شيء في الحج. وقال قومٌ: يجوزُ أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن، وأحمد، وإسحاق.
قوله: ﴿وابن السبيل﴾ وهو كل من يريدُ سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطعُ به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة، وإن كان ذا يسار في بلده. وقال قتادةُ: ابن السبيل: هو الضعيف وقال فقهاءُ العراقِ: ابن السبيل: الحاج المنقطع.
واعلم أنَّ مال الزَّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية. واختلفوا هل يجوزُ وضعه في بعض الأصناف؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف، فإنَّما يجوز في غير العامل، فأمَّا وضعه بالكليَّةِ في العامل فلا يجوز بالاتفاق.
فإن قيل: ما الحكمةُ في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون والمؤلفة، والرقاب، والغارمون، بصيغة الجمع، وذكر الصنفين الآخرين، وهما: في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد؟
فالجوابُ: أنَّ المراد بهما الجنس هو جمع حقيقة، ولا يقال: هلاَّ ذكر الأصناف الستَّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين؛ لأنا نقول: لو أفرد في الجميع، فلا يخلو إمَّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام للعهد؛ فينصرف بين السَّامع إلى صرف الزَّكاة إلى معهودٍ سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع، وإن أفردهم منكرين، فهم منه أنَّ الزَّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد، أو مسكين واحد، وكذلك سائرها، ولا يجوزُ دفعها لاثنين فما زاد، وهو خلاف الإجماع

فصل


والسَّبيل: الطريقُ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيَّاها، ومروره عليها قال بعضُ
127
العلماءِ: إذا كان المسافر غنيّاً في بلده، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح.
ولا يلزمه أن يدخل تحت مِنَّة أحد إذا وجد منة تعالى.

فصل


إذا جاء وادَّعى وصفاً من الأوصاف الثمانية، هل يقبل قوله أو يقال: أثبت ما تقولُ؟ أمَّا الدَّينُ فلا بدّ أن يثبته، وأمَّا البقية فظاهرُ الحال يَكْفِي.
قوله: «فَرِيضَةً» في نصبها وجهان:
أحدهما: أنَّها مصدرٌ على المعنى لأنَّ معنى ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ﴾ في قوة: فرض الله ذلك.
والثانيك أنَّها حالٌ من الفقراء، قاله الكرماني، وأبُو البقاءِ.
يعنيان من الضمير المستكن في الجار، لوقوعه خبراً، أي: إنَّما الصدقاتُ كائنة لهم حال كونها فريضة، أي: مفروضة. ويجوزُ أن يكون فريضةً حينئذٍ بمعنى مفعولة، وإنَّما دخلت التاءن لجريانها مجرى الأسماء، ك «النَّطيحة». ويجوزث أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال، ونُقل عن الفرَّاء أنَّها منصوبة على القطع. ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ﴾ بمقادير المصالح ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يشرع إلاَّ ما هو الأصوب والأصلح.

فصل


وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة، فأمَّا صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم، من بني هاشم ومواليهم، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة، يجوزُ له الأخذ إذا كان غارماً أو مؤلفاً، أو عاملاً.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي﴾ الآية.
وهذا نوع آخر من طعن المنافقين، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه أذن. نزلت في جماعة من المنافقين، كانوا يؤذون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد: نقول ما شئنا، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول، إنَّما محمدٌ أذنٌ، أي سامعة، يقال: فلان «أذنٌ وأذنٌ» على وزن «فُعُل»، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله.
وأصله من «أذن» له «أذَناً» إذا استمع، وقال محمد بن إسحاق بن يسار: «نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، وكان رجُلاً أزلم، ثائر الشعر، أحمر
128
العينين، أسفع الخدين، مشوَّه الخلقة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.»
وكان ينمّ حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل فقال: إنَّما محمد أذن، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه؛ فنقول ما شئنا، ثُمَّ نأتيه فنحلف له، فيصدقنا، فنزلت الآية.
قال الأصمُّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها، لتكون حجة للرسول، ولينزجروا، فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات﴾ [التوبة: ٥٨] ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي﴾ [التوبة: ٦١] ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ [التوبة: ٧٥] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب، وكل ذلك دليل على كونه نبياً حقاً من عند الله.
ومعنى «أذنٌ» أي: أنَّه ليس له ذكاء ولا بعد غور، بل هو سليمُ القلبِ، سريع الاغترار بكل ما يسمع.
قوله: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ﴾ «أذُنُ» خبر مبتدأ محذوف، أي: قل هو أذُنُ خيرٍ والجمهور على جَر خَيْرٍ بالإضافة، وقرأ الحسنُ، ومجاهدٌ، زيد بن علي وأبو بكر عن عاصم «أذُنٌ» بالتنوين، «خَيْرٌ» بالرفع، وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها وصف «أذُن».
والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر، و «خير» يجوزُ أن يكون وصفاً، من غير تفضيل، أي: أذُنٌ ذُو خير لكم، ويجوزُ أن يكون للتفضيل - على بابها - أي: أكثر خيراً لكم. وجوَّز صاحب اللوامح أن يكون «أذُن» مبتدأ، و «خَيْر» خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة؛ لأنَّها موصوفةٌ تقديراً، أي: أذُنٌ لا يؤاخذكم من أذُنٍ يؤاخذكم، ويقال: رجَلٌ أذنٌ، أي: يسمع كل ما يقال، وفيه تأويلان:
أحدهما: أنَّهُ سُمِّي بالجارحة؛ لأنَّها آلة السماع، وهي معظم ما يقصد منه؛ كقولهم للربيئة: عَيْنٌ.
وقيل: المرادُ ب «الأذُن» هنا الجارجة، وحينئذٍ يكونُ على حذفِ مضاف أي: ذُو أذن.
والثاني: أنَّ الأذن وصفٌ على «فُعُل»، ك «أنُف» و «شُلُل» يقال: أذِنَ يَأذَن، فهو أذُن؛ قال: [الطويل]
129
ومعنى قراءة عاصم: إن كان تقولون إنَّهُ أذُنٌ، فأذن خير لكم، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم. ومعنى قراءة الجرِّ: أي: هو أذُنُ خير، لا أذُنُ شر وقرأ نافع «أذْن» ساكنة الذَّال في كلِّ القرآن، والباقون بالضَّم وهما لغتان مثل: عنق وظفر.
ثم بيَّن كونه «أذُنُ خَيْرٍ» بقوله: ﴿يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾ فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أذُنُ خَيْرٍ»، أمَّا قوله ﴿يُؤْمِنُ بالله﴾ فلأنَّ كلَّ من آمن بالله كان خائفاً من الله، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل. ويُؤمِنُ للمؤمنينَ أي: يسلمُ للمؤمنين قولهم، إذا توافقُوا على قولٍ واحدٍ وهذا بيان كونه سليم القلب.
فإن قيل: لِمَ عدي الإيمان باللهِ بالباءِ، وإلى المؤمنين باللاَّم؟.
فالجواب: أنَّ المراد بالإيمان بالله، المراد منه: التَّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدَّى إلى المؤمنين، معناه: الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللاَّم، كقوله:
﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ [يوسف: ١٧] وقوله ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣] وقوله: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: ١١١] وقوله ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ﴾ [طه: ٧١].
وقال ابن قتيبة «هما زائدتان، والمعنى: يصدِّق الله، ويصدِّق المؤمنين» وهذا مردود؛ ويدلُّ على عدم الزيادةِ تغايرُ الحرف الزَّائد، فلو لم يُقصدْ معنًى مستقلٌ، لما غاير بين الحرفين.
وقال المبرد: هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدّر من الفعل، كأنَّه قال: وإيمانه للمؤمنين وقيل: يقال: آمنتُ لك، بمعنى: صدَّقتكَ، ومنه ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ [يوسف: ١٧]. قال شهابُ الدِّينِ وعندي أنَّ هذه اللاَّم في ضمنها «ما»، والمعنى: ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به وقال أبُو البقاءِ: واللاَّم في للمؤمنين زائدةٌ، دخلت لتفرِّق بين «يُؤمن بمعنى: يُصدِّق، وبين» يؤمن «بمعنى: يثبت الإيمان وقوله: ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾ فهذا أيضاً يوجبُ الخير به؛ لأنَّه يجري منكم على الظَّاهرِ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم، ولا يهتكُ أستاركم، فدلَّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه» أذُن خَيْرٍ «وقرأ الجمهورُ» ورَحْمَةٌ «رفعاً نسقاً على» أذُنُ «أي: وهو رحمة للذين آمنوا. وقال بعضهم: هو عطفٌ على» يُؤمن «، لأنَّ» يُؤمن «في محل رفع صفة ل:» أذُن «، تقديره:
130
أذُن يؤمن ورحمة. وقرأ حمزة والأعمش» ورحمةٍ «بالجر نسقاً على» خيرٍ «المخفوض بإضافة» أذُنُ «إليه، والجملةُ على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين، تقديره: أذُنُ خيرٍ ورحمةٍ. وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ:» ورَحْمَةٌ «نصباً على أنَّه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي: يأذن لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ﴾.
فإن قيل: كل رحمة خير، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذِكْر الخير؟
[فالجواب: إنَّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير] كقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨]. ولمَّا بيَّن كونه سبباً للخير والرحمة، بيَّن أنَّ كلَّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنَّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة، وخيره بالشَّر؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم.
قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ الآية.
وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة، قال قتادةُ والسديُّ: اجتمع ناس من المنافقين، فيهم الجلاس بنُ سويدٍ، ووديعة بنُ ثابت فوقعوا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شرٌّ من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار، يقال له: عامر بن قيس، فحقَّروه، وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلامُ وقال: والله إنَّ ما يقول محمد حق، وأنتم شرٌّ من الحمير ثم أتَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره فدعاهم، فسألهم؛ فحلفوا أنَّ عامراً كذَّاب وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعل عامرٍ يدعو ويقول اللَّهُمَّ صدق الصَّادق وكذب الكاذب، فأنزل اللهُ هذه الآية.
وقال مقاتلٌ والكلبيُّ: نزلت في رهطٍ من المنافقين، تخلَّفُوا عن غزوة تبوك فلمَّا رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتوهُ يعتذرون ويحلفون، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾.
إنَّما أفرد الضمير، وإن كان الأصلُ في العطف ب «الواو»
المطابقة، لوجوهٍ:
أحدها: أنَّ رضا الله ورسوله شيءٌ واحد، ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]،
131
﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميراً واحداً، تنبيهاً على ذلك.
الثاني: أنَّ الضمير عائدٌ على المثنى بلفظِ الواحد بتأويل المذكور؛ كقول رؤبة: [الرجز]
٢٨٠٤ - وَقَدْ صِرْت أذْناً لِلوُشَاةِ سَمِيعَةً يَنالُونَ مِنْ عِرْضي ولوْ شِئْت ما نَالُوا
٢٨٠٥ - فِيهَا خُطُوطٌ من سوادِ وبلق كأنَّهُ في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ
أي: كأن ذلك المذكور، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرةِ. الثالث: قال المبرد: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديره: واللهُ أحقُّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدَّعي الحذف من الثاني.
الرابع - وهو مذهب سيبويه -: أنَّه حذف خبر الأوَّل، وأبقى خبر الثَّاني، وهو أحسنُ من عكسه، وهو قول المبرِّدِ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه؛ وأيضاً فهو متعين في قول الشَّاعر: [المنسرح]
٢٨٠٦ - نَحْنُ بِمَا عندنَا وأنتَ بِما عِندكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُختَلِفُ
أي: نحن راضون، حذف «راضُون»، لدلالةِ خبر الثاني عليه.
قال ابنُ عطية: «مذهبُ سيبويه أنَّهُما جملتان، حذفت الأولى، لدلالة الثانية عليها».
قال أبُو حيان: «إن كان الضمير في» أنَّهُمَا «عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين، فكيف يقول» حُذفت الأولى «والأولى لم تحذف، إنما حذفَ خبرها؟ وإن كان عائداً على الخبر وهو ﴿أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ فلا يكونُ جملة إلاَّ باعتقاد أن يكون» أن يُرضُوهُ «مبتدأ وخبره» أحَقُّ «مقدماً عليه، ولا يتعيَّنُ هذا القول؛ إذْ يجوزُ أن يكون الخبرُ مفرداً بأن يكون التقدير: أحقُّ بأنْ تُرضُوه».
قال شهابُ الدِّين: إنما أراد ابنُ عطية التقدير الأول، وهو المشهورُ عند المعربين يجعلون «أحقُّ» خبراً مقدَّماً، و «أن يُرْضوهُ» مبتدأ مؤخراً، والله ورسوله إرضاؤه أحقُّ. وقتد تقدم تحرير هذا في قوله: ﴿فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾ [التوبة: ١٣]. قوله ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ شرطٌ جوابه محذوف أو متقدم.

فصل


قال القرطبيُّ «تضمَّنتْ هذه الآية قبول يمين الحالف، وإن لم يلزم المحلوف له
132
الرضا، واليمين حق للمدَّعي، وأن يكون اليمينُ بالله عزَّ وجلَّ حسبُ. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ حَلفَ فليَحْلفْ باللهِ أو ليَصْمتْ، ومَنْ حُلفَ لَهُ فليُصدِّق «.
قوله: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ﴾ الآية.
والمقصود من هذه الآية: شرح أحوال المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك.
قرأ الجمهور «يَعْلمُوا»
بياء الغيبة، رَدّاً على المنافقين، وقرأ الحسنُ، والأعرجُ «تَعْلَمُوا» بتاء الخطاب، فقيل: هو التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ إن كان المرادُ المنافقين.
وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً؛ كقوله: [الطويل]
٢٨٠٧ - فإنْ شِئْتُ حرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ................................
وقيل: الخطابُ للمؤمنين. وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم، يقال له ألمْ تتعلَّم؟ وإنما حسن ذلك؛ لأنَّهُ طال مكث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معهم، وكثر تحذيره من معصية الله، والترغيب في طاعة الله.
وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم، وعلى الثالث يكون للتقرير. والعلم هنا: يحتمل أن يكون على بابه، فتسدَّ «أن» مسدَّ مفعولين عند سيبويه، ومسدَّ أحدهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش.
وأن يكون بمعنى العرفان، فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعوله. و «مَنْ» شرطيَّة، و «فأنَّ لهُ نار» جوابها. وفتحت «أنَّ» بعد الفاءِ، لما تقدَّم في الأنعام. والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعِ خبر «أنَّ» الأولى وهذا تخريجٌ واضحٌ. وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوهٍ أخر، فقال الزمخشريُّ «ويجوزُ أن يكون» فأنَّ لَهُ «معطوفاً» أنَّه «على أنَّ جواب» مَنْ «محذوفٌ، تقديره: ألم يعلموا أنَّه من يُحادد الله ورسوله يهلكْ، فأنَّ لهُ نَار جَهَنَّمَ» وقال الجرمي والمبرد: «أنَّ» الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، كأن التقدير: فلهُ نارُ جهنم، وكُرِّرت «أنَّ» توكيداً، وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء﴾ [النحل: ١١٩] ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ [النحل: ١١٩]، قال: والفاءُ على هذا جوابُ الشرط. وردَّ أبو حيان على الزمخشري قوله: بأنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا حذف جوابُ الشَّرطِ، لزمَ أن يكون فعلُ الشرط ماضياً، أو مضارعاً مقروناً ب «لَمْ»، والجوابُ على قوله محذوفٌ وفعل الشَّرطِ مضارعٌ غير مقترنٍ ب «لَمْ» وأيضاً فإنَّا نجدث الكلامَ تامّاً بدون هذا الذي قدَّره.
133
ونُقل عن سيبويه أنَّه قال: الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وهذا لا يصحُّ عن سيبويه، فإنَّه ضعيفٌ، أو ممتنع، وقد ضعفه أبو البقاءِ بوجهين:
أحدهما: أنَّ الفاء تمانعُ من ذلك والحكمُ بزيادتها ضعيفٌ.
والثاني: أنَّ جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب «مَنْ» من الكلام. وقال ابنُ عطية «وهذا يُعترضُ بأنَّ الشَّيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرها بعد، إذ لم يأتِ جوابُ الشَّرط، وتلك الجملةُ هي الخبرُ، وأيضاً فإنَّ الفاء تُمانعُ البدل، فهي معنى آخر غير ابلدل فيقلقُ البدل».
وقال بعضهم: فتحت على تقدير اللام، أي: فلأنَّ لهُ نار جهنم. وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ، لا يحتاج إليها.
فالأولى ما تقدم ذكره، وهو أن يكون «أنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ» في محل رفع بالابتداء والخبر محذوفٌ، وينبغي أن يقدِّرَهُ متقدماً عليها، كما فعل الزمخشريُّ، وغيرُه، أي: فحقٌّ أنَّ لهُ نار جهنَّم. وقدَّرهُ غيره متأخراً، أي: فأنَّ له نار جهنَّمَ واجبٌ، كذا قدَّره الأخفش وردُّوه عليه بأنَّها لا يبتدأ بها.
وهذا لا يلزمه، فإنَّه يجيز الابتداء ب «أنَّ» المفتوحةِ من غير تقديم خبره. وغيره لا يجيز الابتداء بها إلاَّ بشرطِ تقدُّم «أمَّا»، نحو: أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي، أو بشرط تقدُّم الخبر، نحو: عندي أنَّك منطلق. وقيل: «فأنَّ لهُ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ لهُ، وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاءِ في محلِّ جزم، جواباً للشَّرط. وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة، والحسن، وابن أبي عبلة: «فإنَّ» بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنَّهُ قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهها.
والمحادّة: المخالفةُ، والمعاندةُ، ومجاوزةُ الحدِّ، والمعاداة. قيل: مشتقةٌ من الحد وهو حدُّ السِّلاح الذي يحاربُ به من الحديد. وقيل: من الحد الذي هو الجهةُ كأنه في حدِّ غير حدِّ صاحبه كقولهم: شاقَّه، أي: كان في شقٍّ غير شقِّ صاحبه وعاداه، أي: كان في عدوة غير عدوته. قال ابن عباس: معناه: يخالف الله وقيل: يحارب الله، وقيل: يعاند الله، وقيل: يعادي الله.
واختار بعضهم قراءة الكسر، بأنَّها لا تحوج إلى إضمار، ولم يُرْوَ قوله: [الوافر]
134
إلاَّ بالكسرِ.
وهذا غيرُ لازمٍ، فإنَّه جاء على أحد الجائزين، و «خَالِداً» نصبٌ على الحال.
قال الزجاج: «ويجوز كسر» أنّ «على الاستئناف بعد الفاءِ». وجهنم: من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العربِ: أنَّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام، فيجوزُ أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ، ومعنى بعد قعرها أنَّه لا آخر لعذابها، وتقدم معنى الخلود، والخزي: قد يكون بمعنى النَّدم، وبمعنى الاستحياء، والمراد به ههنا: النَّدم، لقوله: ﴿وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ [يونس: ٥٤].
قوله تعالى: ﴿يَحْذَرُ المنافقون﴾ الآية.
قال قتادة «هذه السُّورة كانت تُسمَّى الفاضحة، والحافرة، والمبعثرة، والمثيرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم» قال ابن عباسٍ: «أنزل اللهُ تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم، وأسماء آبائهم، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين، لئلاَّ يُعيّر بعضهم بعضاً؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين».
وقال الجبائيُّ:
«اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على النِّفاقِ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إنَّ أناساً اجتمعُوا على كَيْت وكَيْت، فليقُومُوا وليعتَرِفُوا وليسْتغفِرُوا ربَّهم حتَّى أشفع لهُمْ «فلم يقوموا، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد ذلك» قُمْ يا فلانُ ويا فلانُ «حتى أتى عليهم ثم قالوا: نعترف ونستغفر فقال:» الآن أنَا كُنْتُ في أوَّل الأمْرِ أطيب نَفْساً بالشَّفَاعةِ، والله كانَ أسْرعَ في الإجابةِ، اخرُجُوا عنِّي «فلم يزلْ يقول حتى خرجوا بالكليَّةِ.»
وقال الأصمُّ: إنَّ «عند رجوع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به؛ فأخبره جبريل، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال:» مَنْ عرفت من القوْمِ «؟ فقال: لم أعرف منهم أحداً، فذكر النبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أسماءهم وعدهم له، وقال:» إنَّ جبريل أخبرني بذلك «فقال حذيفة: ألا تَبْعَثُ إليه فتقتلهم، فقال:» أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتَّى إذا ظفر صار يقتلهم، بل يَكْفِينَاهُمُ اللهُ بالدبيلة «.
135
فإن قيل: الكافرُ منافق، فكيف يحذرُ نزول الوحي على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؟ فالجوابُ، من وجوه:
أحدها: قال أبُو مسلم:» هذا حذر أظهرهُ المنافقون استهزاء حين رأوا الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يذكر كلَّ شيء ويدعي أنَّهُ عن الوحي، وكان المنافقُون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنَّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهره، ويدلُّ على ذلك قوله: استَهْزئُوا «.
وثانيها: أنَّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنَّهم شاهدوا أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يخبرهم بما يفسرونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
وثالثها: قال الأصمُّ: إنَّهم كانوا يعرفونه كونه رسولاً حقاً من عند الله، إلاَّ أنَّ كفرهم كان حسداً وعناداً.
ورابعها: معنى الحذر الأمر بالحذر، أي: ليحذر المنافقون ذلك.
وخامسها: أنَّهم كانُوا شاكين في صحَّة نبوته، والشَّاك خائف، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم.
قوله:»
أَن تُنَزَّلَ «مفعولٌ به، ناصبه» يَحْذَرُ «، فإنَّ» يَحْذَرُ «متعدٍّ بنفسه كقوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: ٢٨]، لولا أنه متعدِّ في الأصل لواحدٍ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولاً ثانياً؛ ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه: [الكامل]
٢٨٠٨ - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فإنِّي وجِرْوةَ لا تُعارُ ولا تُبَاعْ
٢٨٠٩ - حَذِرٌ أمُوراً لا تَضِيرُ وآمِنٌ مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ
وفي البيت كلامٌ، قيل: إنه مصنوع. وقال المبردُ: إنَّ» حَذِر «لا يتعدَّى، قال: لأنَّهُ من هيئات النفس، ك» فَزع «. وهذا غير لازم. فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍّ ك:» خاف «، وخشي، فإنَّ» تُنَزَّل «عند المبرد على إسقاط الخافض أي: مِنْ أن تُنَزَّل.
وقوله: «تُنَبِّئُهُمْ»
في موضع الرفع صفةً ل «سورة».
قال الزمخشريُّ «الضميرُ في قوله» عليهم «و» تنبّئهم «للمؤمنين، و» في قُلُوبهمْ «للمنافقين، ويجوزُ أيضاً أن تكون الضمائرُ كلها للمنافقين؛ لأنَّ السُّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى» تُنبِّئُهم بما في قلوبهم «أنَّ السورة كأنَّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت، يعني أنَّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنَّها تخبرهم بها».
ثم قال: ﴿قُلِ استهزءوا﴾ هذا أمر تهديد، ﴿إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ الآية.
136
قال الكلبي، ومقاتل، وقتادةُ: «إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والآخر يضحك.
قيل: كانوا يقولون: إنَّ محمداً يزعم أنه يغلب الروم، ويفتح مدائنهم، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك.
وقيل: كانوا يقولون: إنَّ محمداً يزعمُ أنَّهُ نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطع اللهُ نبيهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك فقال:»
احبسُوا الرَّكبَ عليَّ «فدعاهُم وقال لهُم:» قُلْتُم كذا وكذا «فقالوا: إنَّما كُنَّا نتحدثُ ونخوض في الكلامِ، كما يفعلُ الرَّكبُ لقطع الطريق بالحديث واللعب.»
قال ابن عمر: «رأيتُ عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحجارة تنكيه، وهو يقولُ:» إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ «. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول» أباللهِ وآياتهِ ورسولهِ كُنتُم تَسْتهزِئُونَ «. ولا يلتفتُ إليه.»
وقال أبُو مسلم: قوله: ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم﴾ التوبة: ٦٤ إنَّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء، فبيَّن تعالى في هذه الآية أنَّهُ إذا قيل لهم: لِمَ فعلتُم ذلك؟ قالوا: لم نقل ذلك إلاَّ لأجل أنا كنا نخوض ونلعب.

فصل في بيان أصل الخوض


قال الواحديُّ: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى، والمعنى: إنَّما كُنَّا نخوضُ في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهم الرسولُ بقوله: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون».
قوله: «... أباللهِ... » متعلقٌ بقوله: «تَستهْزئُونَ». و «تَسْتهْزِئُونَ» خبرُ «كان» وفيه دليلٌ على تقديم خبر «كان» عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، وقد تقدَّم معمول الخبر على «كان» فليَجُزْ تقديمه بطريق الأولى.
وفيه بحث، وذلك أنَّ ابن مالك قدح في هذا الدَّليل، بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ٩، ١٠] قال: ف «اليتيم»، والسائل قد تقدما على «لا» الناهية، والعاملُ فيهما ما بعدهما ولا
137
يجوز تقديم ما بعد «لا» الناهية عليها، لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر «ليس» بقوله ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨].

فصل


فرق بين قولك: أتستهزىء بالله، وبين قولك: أبالله تستهزىء، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله، كأنه يقول: هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] والمقصود: ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول. ومعنى الاستهزاء بالله: هو الاستهزاء بتكاليفِ الله، والاستهزاء بذكر الله، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ، كما أنَّ المؤمن يعظمها. والمرادُ بالاستهزء ب «آيَاتِهِ» هو القرآن، وسائر ما يدلُّ على الدين، والرسول معلوم.
قوله: ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ﴾.
نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين، الأول: أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب، وأصله من: تعذرت المنازل، أي: دَرَسَتْ، وامَّحت آثارها؛ قال ابن أحمر: [البسيط]
٢٨١٠ - قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ
فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ.
والثاني: قال ابنُ الأعرابي: أصله من العذر، وهو القطع، ومنه العُذْرة؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ.
ويقولون: اعتذرت المياه، أي: انقطعت، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه. قوله: ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً؛ لأنه استخفاف بالدين، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة.
فإن قيل: كيف قال ﴿كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وهم لم يكونوا مؤمنين؟
فالجواب: قال الحسنُ: أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان.

فصل


قال ابنُ العربي: «لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً، أو هزلاً، وهو كيفما كان
138
كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة، قال تعالى: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ [البقرة: ٦٧].

فصل


اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق، قيل: يلزم وقيل: لا يلزم، وقيل: يفرق بين البيع وغيره. فيلزمُ في النكاح والطلاق، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء. وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ «
قال الترمذيُّ «حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغيرهم»
.
قال القرطبي: «وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق».
قوله: «... إن نَعْفُ» قرأ عاصم «نَعْفُ» بنون العظمة، «نعذِّب» كذلك، «طَائفَة» نصباً على المفعول به، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي، وزيد بن علي. وقرأ الباقون «يُعْفَ» في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول، ورفع «طَائفةٌ»، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده. وقرأ الجحدريُّ «إن يَعْفُ» بالياء من تحت فيهما، مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب «طائفة» على المفعول به. وقرأ مجاهدٌ «تُعْف» بالتاء من فوق فيهما، مبنياً للمفعول، ورفع «طائفة»، لقيامها مقام الفاعل. وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان:
أحدهما: أنَّهُ ضمير الذنوب، أي: إن تُعْفَ هذه الذنوب.
والثاني: أنَّه الجارُّ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى.
قال الزمخشريُّ «الوجه التذكير؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ، كما تقول: سِيرَ بالدَّابة، ولا تقول: سِيرت بالدَّابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك، وهو غريبٌ».
139

فصل


قال مجاهدٌ: وابن إسحاق: الذي عُفِيَ عنه رجل واحد، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض، وكان يمشي مجانباً لهم، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال: اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ، وتجب منها القلوبُ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقولُ أحدٌ: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه.

فصل


ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً. قال الزجاجُ: والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة، قال تعالى ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: ٢]. وأقله الواحد، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه، وقال تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ [الحجر: ٩].
قال ابن الأنباري: العرب توقع لفظ الجمع على الواحد، فتقولُ: خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال، وقال تعالى: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] يعني: نعيم بن مسعود، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم: ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾
140
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي ﴾ الآية.
وهذا نوع آخر من طعن المنافقين، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أذن. نزلت في جماعة من المنافقين، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد : نقول ما شئنا، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول، إنَّما محمدٌ أذنٌ، أي سامعة، يقال : فلان " أذنٌ وأذنٌ " على وزن " فُعُل "، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله.
وأصله من " أذن " له " أذَناً " إذا استمع، وقال محمد بن إسحاق بن يسار :" نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث١، وكان رجُلاً أزلم، ثائر الشعر، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوَّه الخلقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ".
وكان ينمّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له : لا تفعل فقال : إنَّما محمد أذن، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه ؛ فنقول ما شئنا، ثُمَّ نأتيه فنحلف له، فيصدقنا، فنزلت الآية٢.
قال الأصمُّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها، لتكون حجة للرسول، ولينزجروا، فقال :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات ﴾ [ التوبة : ٥٨ ] ﴿ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي ﴾ [ التوبة : ٦١ ] ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ﴾ [ التوبة : ٧٥ ] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب، وكل ذلك دليل على كونه نبياً حقاً من عند الله.
ومعنى " أذنٌ " أي : أنَّه ليس له ذكاء ولا بعد غور، بل هو سليمُ القلبِ، سريع الاغترار بكل ما يسمع.
قوله :﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ ﴾ " أذُنُ " خبر مبتدأ محذوف، أي : قل هو أذُنُ خيرٍ والجمهور على جَر خَيْرٍ بالإضافة، وقرأ الحسنُ٣، ومجاهدٌ، زيد بن علي وأبو بكر عن عاصم " أذُنٌ " بالتنوين، " خَيْرٌ " بالرفع، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّها وصف " أذُن ".
والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر، و " خير " يجوزُ أن يكون وصفاً، من غير تفضيل، أي : أذُنٌ ذُو خير لكم، ويجوزُ أن يكون للتفضيل - على بابها - أي : أكثر خيراً لكم. وجوَّز صاحب اللوامح أن يكون " أذُن " مبتدأ، و " خَيْر " خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة ؛ لأنَّها موصوفةٌ تقديراً، أي : أذُنٌ لا يؤاخذكم من أذُنٍ يؤاخذكم، ويقال : رجَلٌ أذنٌ، أي : يسمع كل ما يقال، وفيه تأويلان :
أحدهما : أنَّهُ سُمِّي بالجارحة ؛ لأنَّها آلة السماع، وهي معظم ما يقصد منه ؛ كقولهم للربيئة : عَيْنٌ.
وقيل : المرادُ ب " الأذُن " هنا الجارجة، وحينئذٍ يكونُ على حذفِ مضاف أي : ذُو أذن.
والثاني : أنَّ الأذن وصفٌ على " فُعُل "، ك " أنُف " و " شُلُل " يقال : أذِنَ يَأذَن، فهو أذُن ؛ قال :[ الطويل ]
وَقَدْ صِرْت أذْناً لِلوُشَاةِ سَمِيعَةً يَنالُونَ مِنْ عِرْضي ولوْ شِئْت ما نَالُوا٤
ومعنى قراءة عاصم : إن كان تقولون إنَّهُ أذُنٌ، فأذن خير لكم، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم. ومعنى قراءة الجرِّ : أي : هو أذُنُ خير، لا أذُنُ شر وقرأ٥ نافع " أذْن " ساكنة الذَّال في كلِّ القرآن، والباقون بالضَّم وهما لغتان مثل : عنق وظفر.
ثم بيَّن كونه " أذُنُ خَيْرٍ " بقوله :﴿ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام " أذُنُ خَيْرٍ "، أمَّا قوله ﴿ يُؤْمِنُ بالله ﴾ فلأنَّ كلَّ من آمن بالله كان خائفاً من الله، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل. ويُؤمِنُ للمؤمنينَ أي : يسلمُ للمؤمنين قولهم، إذا توافقُوا على قولٍ واحدٍ وهذا بيان كونه سليم القلب.
فإن قيل : لِمَ عدي الإيمان باللهِ بالباءِ، وإلى المؤمنين باللاَّم ؟.
فالجواب : أنَّ المراد بالإيمان بالله، المراد منه : التَّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدَّى إلى المؤمنين، معناه : الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللاَّم، كقوله :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾ [ يوسف : ١٧ ] وقوله ﴿ فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ﴾ [ يونس : ٨٣ ] وقوله :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ] وقوله ﴿ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ﴾ [ طه : ٧١ ].
وقال ابن قتيبة " هما زائدتان، والمعنى : يصدِّق الله، ويصدِّق المؤمنين " وهذا مردود ؛ ويدلُّ على عدم الزيادةِ تغايرُ الحرف الزَّائد، فلو لم يُقصدْ معنًى مستقلٌ، لما غاير بين الحرفين.
وقال المبرد : هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدّر من الفعل، كأنَّه قال : وإيمانه للمؤمنين وقيل : يقال : آمنتُ لك، بمعنى : صدَّقتكَ، ومنه ﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾ [ يوسف : ١٧ ]. قال شهابُ الدِّينِ٦ وعندي أنَّ هذه اللاَّم في ضمنها " ما "، والمعنى : ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به وقال أبُو البقاءِ٧ : واللاَّم في للمؤمنين زائدةٌ، دخلت لتفرِّق بين " يُؤمن بمعنى : يُصدِّق، وبين " يؤمن " بمعنى : يثبت الإيمان وقوله :﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ فهذا أيضاً يوجبُ الخير به ؛ لأنَّه يجري منكم على الظَّاهرِ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم، ولا يهتكُ أستاركم، فدلَّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه " أذُن خَيْرٍ " وقرأ الجمهورُ " ورَحْمَةٌ " رفعاً نسقاً على " أذُنُ " أي : وهو رحمة للذين آمنوا. وقال بعضهم : هو عطفٌ على " يُؤمن "، لأنَّ " يُؤمن " في محل رفع صفة ل :" أذُن "، تقديره : أذُن يؤمن ورحمة. وقرأ٨ حمزة والأعمش " ورحمةٍ " بالجر نسقاً على " خيرٍ " المخفوض بإضافة " أذُنُ " إليه، والجملةُ على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين، تقديره : أذُنُ خيرٍ ورحمةٍ. وقرأ ابنُ أبي٩ عبلةٍ :" ورَحْمَةٌ " نصباً على أنَّه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي : يأذن لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله :﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ ﴾.
فإن قيل : كل رحمة خير، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذِكْر الخير ؟
[ فالجواب : إنَّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ]١٠ كقوله :﴿ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ]. ولمَّا بيَّن كونه سبباً للخير والرحمة، بيَّن أنَّ كلَّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنَّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة، وخيره بالشَّر ؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٠٥) وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٦)..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٦) والقرطبي (٨/١٩٢)..
٣ ينظر: السبعة ص (٣١٣)، الحجة للقراء السبعة ٤/١٩٨-٢٠٣، حجة القراءات ص (٣١٩)، إعراب القراءات ١/٢٥٠، إتحاف ٢/٩٤..
٤ البيت لعمرو بن أبي بكر العدوي القرشي. ينظر: معجم الشعراء ٣٤، والبحر ٥/٦٤، والدر المصون ٣/٤٧٧..
٥ ينظر: السبعة ص (٣١٣)، الحجة ٤/١٩٨-٢٠٣، حجة القراءات ص (٣١٩)، إعراب القراءات ١/٢٥٠، إتحاف فضلاء البشر ٢/٩٤..
٦ ينظر: الدر المصون ٣/٤٧٧-٤٧٨..
٧ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/١٧..
٨ ينظر: السبعة ص (٣١٦)، الحجة للقراء السبعة ٤/٢٩٣، حجة القراءات ص (٣٢٠)، إعراب القراءات ١/٢٥٠، إتحاف ٢/٩٤..
٩ ينظر: الكشاف ٢/٢٨٥، البحر المحيط ٥/٦٥، الدر المصون ٣/٣/٤٧٧..
١٠ سقط في أ..
قوله تعالى :﴿ يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ﴾ الآية.
وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة، قال قتادةُ والسديُّ : اجتمع ناس من المنافقين، فيهم الجلاس بنُ سويدٍ، ووديعة بنُ ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شرٌّ من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار، يقال له : عامر بن قيس، فحقَّروه، وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلامُ وقال : والله إنَّ ما يقول محمد حق، وأنتم شرٌّ من الحمير ثم أتَى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم، فسألهم ؛ فحلفوا أنَّ عامراً كذَّاب وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فجعل عامرٍ يدعو ويقول اللَّهُمَّ صدق الصَّادق وكذب الكاذب، فأنزل اللهُ هذه الآية١. وقال مقاتلٌ والكلبيُّ : نزلت في رهطٍ من المنافقين، تخلَّفُوا عن غزوة تبوك فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوهُ يعتذرون ويحلفون، فأنزل الله تعالى هذه الآية٢.
قوله :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾.
إنَّما أفرد الضمير، وإن كان الأصلُ في العطف ب " الواو " المطابقة، لوجوهٍ :
أحدها : أنَّ رضا الله ورسوله شيءٌ واحد، ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله ﴾ [ النساء : ٨٠ ]، ﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميراً واحداً، تنبيهاً على ذلك.
الثاني : أنَّ الضمير عائدٌ على المثنى بلفظِ الواحد بتأويل المذكور ؛ كقول رؤبة :[ الرجز ]
فِيهَا خُطُوطٌ من سوادِ وبلق كأنَّهُ في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ٣
أي : كأن ذلك المذكور، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرةِ.
الثالث : قال المبرد : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديره : واللهُ أحقُّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدَّعي الحذف من الثاني.
الرابع - وهو مذهب سيبويه - : أنَّه حذف خبر الأوَّل، وأبقى خبر الثَّاني، وهو أحسنُ من عكسه، وهو قول المبرِّدِ ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه ؛ وأيضاً فهو متعين في قول الشَّاعر :[ المنسرح ]
نَحْنُ بِمَا عندنَا وأنتَ بِما عِندكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُختَلِفُ٤
أي : نحن راضون، حذف " راضُون "، لدلالةِ خبر الثاني عليه.
قال ابنُ عطية٥ :" مذهبُ سيبويه أنَّهُما جملتان، حذفت الأولى، لدلالة الثانية عليها ".
قال أبُو حيان٦ :" إن كان الضمير في " أنَّهُمَا " عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين، فكيف يقول " حُذفت الأولى " والأولى لم تحذف، إنما حذفَ خبرها ؟ وإن كان عائداً على الخبر وهو ﴿ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ فلا يكونُ جملة إلاَّ باعتقاد أن يكون " أن يُرضُوهُ " مبتدأ وخبره " أحَقُّ " مقدماً عليه، ولا يتعيَّنُ هذا القول ؛ إذْ يجوزُ أن يكون الخبرُ مفرداً بأن يكون التقدير : أحقُّ بأنْ تُرضُوه ".
قال شهابُ الدِّين٧ : إنما أراد ابنُ عطية التقدير الأول٨، وهو المشهورُ عند المعربين يجعلون " أحقُّ " خبراً مقدَّماً، و " أن يُرْضوهُ " مبتدأ مؤخراً، والله ورسوله إرضاؤه أحقُّ. وتقدم تحرير هذا في قوله :﴿ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ [ التوبة : ١٣ ]. قوله ﴿ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ شرطٌ جوابه محذوف أو متقدم.

فصل


قال القرطبيُّ " تضمَّنتْ هذه الآية قبول يمين الحالف، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا، واليمين حق للمدَّعي، وأن يكون اليمينُ بالله عزَّ وجلَّ حسبُ. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ حَلفَ فليَحْلفْ باللهِ أو ليَصْمتْ، ومَنْ حُلفَ لَهُ فليُصدِّق ".
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٠٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٥٤) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
وذكره (٣/٤٥٤) عن السدي وعزاه إلى ابن أبي حاتم..

٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٦-٣٠٧) والرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٩٥)..
٣ تقدم..
٤ تقدم..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٥٣..
٦ ينظر: البحر المحيط ٥/٦٥..
٧ ينظر: الدر المصون ٣/٤٧٨..
٨ في ب الثاني..
قوله :﴿ أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ ﴾ الآية.
والمقصود من هذه الآية : شرح أحوال المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك.
قرأ الجمهور " يَعْلمُوا " بياء الغيبة، رَدّاً على المنافقين، وقرأ الحسنُ، والأعرجُ١ " تَعْلَمُوا " بتاء الخطاب، فقيل : هو التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ إن كان المرادُ المنافقين.
وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً ؛ كقوله :[ الطويل ]
فإنْ شِئْتُ حرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ ***. . . ٢
وقيل : الخطابُ للمؤمنين. وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم، يقال له ألمْ تتعلَّم ؟ وإنما حسن ذلك ؛ لأنَّهُ طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وكثر تحذيره من معصية الله، والترغيب في طاعة الله.
وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم، وعلى الثالث يكون للتقرير. والعلم هنا : يحتمل أن يكون على بابه، فتسدَّ " أن " مسدَّ مفعولين عند سيبويه٣، ومسدَّ أحدهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش.
وأن يكون بمعنى العرفان، فتسدَّ " أنَّ " مسدَّ مفعوله. و " مَنْ " شرطيَّة، و " فأنَّ لهُ نار " جوابها. وفتحت " أنَّ " بعد الفاءِ، لما تقدَّم في الأنعام. والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعِ خبر " أنَّ " الأولى وهذا تخريجٌ واضحٌ. وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوهٍ أخر، فقال الزمخشريُّ " ويجوزُ أن يكون " فأنَّ لَهُ " معطوفاً " أنَّه " على أنَّ جواب " مَنْ " محذوفٌ، تقديره : ألم يعلموا أنَّه من يُحادد الله ورسوله يهلكْ، فأنَّ لهُ نَار جَهَنَّمَ " وقال الجرمي والمبرد :" أنَّ " الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، كأن التقدير : فلهُ نارُ جهنم، وكُرِّرت " أنَّ " توكيداً، وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء ﴾ [ النحل : ١١٩ ] ثم قال :﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ﴾ [ النحل : ١١٩ ]، قال : والفاءُ على هذا جوابُ الشرط. وردَّ أبو حيان على الزمخشري قوله : بأنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا حذف جوابُ الشَّرطِ، لزمَ أن يكون فعلُ الشرط ماضياً، أو مضارعاً مقروناً ب " لَمْ "، والجوابُ على قوله محذوفٌ وفعل الشَّرطِ مضارعٌ غير مقترنٍ ب " لَمْ " وأيضاً فإنَّا نجد الكلامَ تامّاً بدون هذا الذي قدَّره.
ونُقل عن سيبويه٤ أنَّه قال : الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وهذا لا يصحُّ عن سيبويه، فإنَّه ضعيفٌ، أو ممتنع، وقد ضعفه أبو البقاءِ بوجهين :
أحدهما : أنَّ الفاء تمانعُ من ذلك والحكمُ بزيادتها ضعيفٌ.
والثاني : أنَّ جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب " مَنْ " من الكلام. وقال ابنُ عطية " وهذا يُعترضُ بأنَّ الشَّيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرها بعد، إذ لم يأتِ جوابُ الشَّرط، وتلك الجملةُ هي الخبرُ، وأيضاً فإنَّ الفاء تُمانعُ البدل، فهي معنى آخر غير البدل فيقلقُ البدل ". وقال بعضهم : فتحت على تقدير اللام، أي : فلأنَّ لهُ نار جهنم. وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ، لا يحتاج إليها.
فالأولى ما تقدم ذكره، وهو أن يكون " أنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ " في محل رفع بالابتداء والخبر محذوفٌ، وينبغي أن يقدِّرَهُ متقدماً عليها، كما فعل الزمخشريُّ، وغيرُه، أي : فحقٌّ أنَّ لهُ نار جهنَّم. وقدَّرهُ غيره متأخراً، أي : فحق أنَّ له نار جهنَّمَ واجبٌ، كذا قدَّره الأخفش وردُّوه عليه بأنَّها لا يبتدأ بها.
وهذا لا يلزمه، فإنَّه يجيز الابتداء ب " أنَّ " المفتوحةِ من غير تقديم خبره. وغيره لا يجيز الابتداء بها إلاَّ بشرطِ تقدُّم " أمَّا "، نحو : أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي، أو بشرط تقدُّم الخبر، نحو : عندي أنَّك منطلق. وقيل :" فأنَّ لهُ " خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ أنَّ لهُ، وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاءِ في محلِّ جزم، جواباً للشَّرط. وقرأ٥ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة، والحسن، وابن أبي عبلة :" فإنَّ " بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنَّهُ قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهها.
والمحادّة : المخالفةُ، والمعاندةُ، ومجاوزةُ الحدِّ، والمعاداة. قيل : مشتقةٌ من الحد وهو حدُّ السِّلاح الذي يحاربُ به من الحديد. وقيل : من الحد الذي هو الجهةُ كأنه في حدِّ غير حدِّ صاحبه كقولهم : شاقَّه، أي : كان في شقٍّ غير شقِّ صاحبه وعاداه، أي : كان في عدوة غير عدوته. قال ابن عباس : معناه : يخالف الله٦ وقيل : يحارب الله، وقيل : يعاند الله، وقيل : يعادي الله.
واختار بعضهم قراءة الكسر، بأنَّها لا تحوج إلى إضمار، ولم يُرْوَ قوله :[ الوافر ]
فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فإنِّي *** وجِرْوةَ لا تُعارُ ولا تُبَاعْ٧
إلاَّ بالكسرِ.
وهذا غيرُ لازمٍ، فإنَّه جاء على أحد الجائزين، و " خَالِداً " نصبٌ على الحال.
قال الزجاج :" ويجوز كسر " أنّ " على الاستئناف بعد الفاءِ ". وجهنم : من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العربِ : أنَّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام، فيجوزُ أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ، ومعنى بعد قعرها أنَّه لا آخر لعذابها، وتقدم معنى الخلود، والخزي : قد يكون بمعنى النَّدم، وبمعنى الاستحياء، والمراد به ههنا : النَّدم، لقوله :﴿ وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ [ يونس : ٥٤ ].
١ وفي مصحف أبي بن كعب "ألم تعلم" على خطاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو وعيد لهم..
٢ نظر: الكشاف ٢/٢٨٥، المحرر الوجيز ٣/٥٤، البحر المحيط ٥/٦٦، الدر المصون ٣/٤٧٩.
تقدم..

٣ ينظر: الكتاب ١/٦٤..
٤ ينظر: الكتاب ١/٤٦٧..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٥٤، البحر المحيط ٥/٦٦، الدر المصون ٣/٤٧٩..
٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/٩٦)..
٧ نسب البيت لشداد العبسي والد لعنترة وقيل: لعمه ورواية العجز:
وجروة لا ترود ولا تعار ***...
ينظر: ديوان عنترة ص٣٠٩ والكتاب ١/٣٠٢، والصاحبي في فقه اللغة ص٢١٦، والأغاني ١٣٩١٧، ولسان العرب (جرا)، وقد نسب أيضا لزيد الخيل ١٠٤ وينظر: الدر المصون ٣/٤٨٠، وشرح أبيات سيبويه ١/٣٥٧.
أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٠٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٥٥) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٧)..

قوله تعالى :﴿ يَحْذَرُ المنافقون ﴾ الآية.
قال قتادة " هذه السُّورة كانت تُسمَّى الفاضحة، والحافرة، والمبعثرة، والمثيرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم١ " قال ابن عباسٍ :" أنزل اللهُ تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم، وأسماء آبائهم، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين، لئلاَّ يُعيّر بعضهم بعضاً ؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين " ٢.
وقال الجبائيُّ :" اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على النِّفاقِ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم، فقال عليه الصلاة والسلام :" إنَّ أناساً اجتمعُوا على كَيْت وكَيْت، فليقُومُوا وليعتَرِفُوا وليسْتغفِرُوا ربَّهم حتَّى أشفع لهُمْ " فلم يقوموا، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك " قُمْ يا فلانُ ويا فلانُ " حتى أتى عليهم ثم قالوا : نعترف ونستغفر فقال :" الآن أنَا كُنْتُ في أوَّل الأمْرِ أطيب نَفْساً بالشَّفَاعةِ، والله كانَ أسْرعَ في الإجابةِ، اخرُجُوا عنِّي " فلم يزلْ يقول حتى خرجوا بالكليَّة " ٣.
وقال الأصمُّ : إنَّ " عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به ؛ فأخبره جبريل، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال :" مَنْ عرفت من القوْمِ " ؟ فقال : لم أعرف منهم أحداً، فذكر النبيُّ عليه الصلاة والسلام أسماءهم وعدهم له، وقال :" إنَّ جبريل أخبرني بذلك " فقال حذيفة : ألا تَبْعَثُ إليه فتقتلهم، فقال :" أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتَّى إذا ظفر صار يقتلهم، بل يَكْفِينَاهُمُ اللهُ بالدبيلة " ٤.
فإن قيل : الكافرُ منافق، فكيف يحذرُ نزول الوحي على الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؟ فالجوابُ، من وجوه :
أحدها : قال أبُو مسلم :" هذا حذر أظهرهُ المنافقون استهزاء حين رأوا الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - يذكر كلَّ شيء ويدعي أنَّهُ عن الوحي، وكان المنافقُون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنَّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، ويدلُّ على ذلك قوله : استَهْزئُوا ".
وثانيها : أنَّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنَّهم شاهدوا أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يخبرهم بما يفسرونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
وثالثها : قال الأصمُّ : إنَّهم كانوا يعرفونه كونه رسولاً حقاً من عند الله، إلاَّ أنَّ كفرهم كان حسداً وعناداً.
ورابعها : معنى الحذر الأمر بالحذر، أي : ليحذر المنافقون ذلك.
وخامسها : أنَّهم كانُوا شاكين في صحَّة نبوته، والشَّاك خائف، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم.
قوله :" أَن تُنَزَّلَ " مفعولٌ به، ناصبه " يَحْذَرُ "، فإنَّ " يَحْذَرُ " متعدٍّ بنفسه كقوله تعالى :﴿ وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ]، لولا أنه متعدِّ في الأصل لواحدٍ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولاً ثانياً ؛ ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه :[ الكامل ]
حَذِرٌ أمُوراً لا تَضِيرُ وآمِنٌ مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ٥
وفي البيت كلامٌ، قيل : إنه مصنوع. وقال المبردُ : إنَّ " حَذِر " لا يتعدَّى، قال : لأنَّهُ من هيئات النفس، ك " فَزع ". وهذا غير لازم. فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍّ ك :" خاف "، وخشي، فإنَّ " تُنَزَّل " عند المبرد على إسقاط الخافض أي : مِنْ أن تُنَزَّل.
وقوله :" تُنَبِّئُهُمْ " في موضع الرفع صفةً ل " سورة ".
قال الزمخشريُّ " الضميرُ في قوله " عليهم " و " تنبّئهم " للمؤمنين، و " في قُلُوبهمْ " للمنافقين، ويجوزُ أيضاً أن تكون الضمائرُ كلها للمنافقين ؛ لأنَّ السُّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى " تُنبِّئُهم بما في قلوبهم " أنَّ السورة كأنَّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت، يعني أنَّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنَّها تخبرهم بها ".
ثم قال :﴿ قُلِ استهزءوا ﴾ هذا أمر تهديد، ﴿ إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾.
١ ؟؟؟؟؟.
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٧)..
٣ ذكره الرازي في تفسيره (١٦/٩٦)..
٤ أخرجه مسلم (٤/٢١٤٣-٢١٤٤) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (١٠، ١١/٢٧٧٨) بمعناه..
٥ تقدم..
قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ الآية.
قال الكلبي، ومقاتل، وقتادةُ :" إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والآخر يضحك١.
قيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعم أنه يغلب الروم، ويفتح مدائنهم، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك.
وقيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعمُ أنَّهُ نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع اللهُ نبيهُ صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال :" احبسُوا الرَّكبَ عليَّ " فدعاهُم وقال لهُم :" قُلْتُم كذا وكذا " فقالوا : إنَّما كُنَّا نتحدثُ ونخوض في الكلامِ، كما يفعلُ الرَّكبُ لقطع الطريق بالحديث واللعب ".
قال ابن عمر :" رأيتُ عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه، وهو يقولُ :" إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ ". ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أباللهِ وآياتهِ ورسولهِ كُنتُم تَسْتهزِئُونَ ". ولا يلتفتُ إليه٢ ".
وقال أبُو مسلم : قوله :﴿ يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ﴾ [ التوبة : ٦٤ ] إنَّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء، فبيَّن تعالى في هذه الآية أنَّهُ إذا قيل لهم : لِمَ فعلتُم ذلك ؟ قالوا : لم نقل ذلك إلاَّ لأجل أنا كنا نخوض ونلعب.

فصل في بيان أصل الخوض


قال الواحديُّ : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى، والمعنى : إنَّما كُنَّا نخوضُ في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهم الرسولُ بقوله :" أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ".
قوله :". . . أباللهِ. . . " متعلقٌ بقوله :" تَستهْزئُونَ ". و " تَسْتهْزِئُونَ " خبرُ " كان " وفيه دليلٌ على تقديم خبر " كان " عليها ؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، وقد تقدَّم معمول الخبر على " كان " فليَجُزْ تقديمه بطريق الأولى.
وفيه بحث، وذلك أنَّ ابن مالك قدح في هذا الدَّليل، بقوله تعالى :﴿ فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ ﴾ [ الضحى : ٩، ١٠ ] قال : ف " اليتيم "، والسائل قد تقدما على " لا " الناهية، والعاملُ فيهما ما بعدهما ولا يجوز تقديم ما بعد " لا " الناهية عليها، لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر " ليس " بقوله ﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ﴾ [ هود : ٨ ].

فصل


فرق بين قولك : أتستهزىء بالله، وبين قولك : أبالله تستهزىء، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله، كأنه يقول : هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى :﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾ [ الصافات : ٤٧ ] والمقصود : ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول. ومعنى الاستهزاء بالله : هو الاستهزاء بتكاليفِ الله، والاستهزاء بذكر الله، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ، كما أنَّ المؤمن يعظمها. والمرادُ بالاستهزء ب " آيَاتِهِ " هو القرآن، وسائر ما يدلُّ على الدين، والرسول معلوم.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٥٦) عن الكلبي وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وأبي الشيخ.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٨)..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٠٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٥٥-٤٥٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٨) عن عمر..

قوله :﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ ﴾.
نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين، الأول : أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب، وأصله من : تعذرت المنازل، أي : دَرَسَتْ، وامَّحت آثارها ؛ قال ابن أحمر :[ البسيط ]
قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ١
فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ.
والثاني : قال ابنُ الأعرابي : أصله من العذر، وهو القطع، ومنه العُذْرة ؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ.
ويقولون : اعتذرت المياه، أي : انقطعت، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه. قوله :﴿ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً ؛ لأنه استخفاف بالدين، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة.
فإن قيل : كيف قال ﴿ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ وهم لم يكونوا مؤمنين ؟
فالجواب : قال الحسنُ : أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان٢.

فصل


قال ابنُ العربي :" لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً، أو هزلاً، وهو كيفما كان كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة، قال تعالى :﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين ﴾ [ البقرة : ٦٧ ].

فصل


اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق، قيل : يلزم وقيل : لا يلزم، وقيل : يفرق بين البيع وغيره. فيلزمُ في النكاح والطلاق، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء. وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ " ٣
قال الترمذيُّ " حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ".
قال القرطبي :" وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق " ٤.
قوله :". . . إن نَعْفُ " قرأ عاصم٥ " نَعْفُ " بنون العظمة، " نعذِّب " كذلك، " طَائفَة " نصباً على المفعول به، وهي قراءة أبي عبد٦ الرحمن السُّلمي، وزيد بن علي. وقرأ الباقون " يُعْفَ " في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول، ورفع " طَائفةٌ "، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده. وقرأ الجحدريُّ٧ " إن يَعْفُ " بالياء من تحت فيهما، مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب " طائفة " على المفعول به. وقرأ٨ مجاهدٌ " تُعْف " بالتاء من فوق فيهما، مبنياً للمفعول، ورفع " طائفة "، لقيامها مقام الفاعل. وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان :
أحدهما : أنَّهُ ضمير الذنوب، أي : إن تُعْفَ هذه الذنوب.
والثاني : أنَّه الجارُّ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى.
قال الزمخشريُّ " الوجه التذكير ؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ، كما تقول : سِيرَ بالدَّابة، ولا تقول : سِيرت بالدَّابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل : إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك، وهو غريبٌ ".

فصل


قال مجاهدٌ : وابن إسحاق : الذي عُفِيَ عنه رجل واحد، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض، وكان يمشي مجانباً لهم، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال : اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ، وتجب منها القلوبُ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقولُ أحدٌ : أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه٩.

فصل


ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة ؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً. قال الزجاجُ : والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة ؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة، قال تعالى ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين ﴾ [ النور : ٢ ]. وأقله الواحد، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه، وقال تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾١٠ [ الحجر : ٩ ].
قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد، فتقولُ : خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال، وقال تعالى :﴿ الذين قَالَ لَهُمُ الناس ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] يعني : نعيم بن مسعود، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم :﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾.
١ ينظر: شرح المفضليات ١/٤٠٨، واللسان (عذر)، والتهذيب ٢/٣١١ (عذر) والقرطبي ٨/١٩٨، والبحر المحيط ٥/٦٣، والعمدة لابن رشيق ٢/١٨٠، والدر المصون ٣/٤٨٠..
٢ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/٩٩) عن الحسن..
٣ تقدم..
٤ تقدم..
٥ ينظر: السبعة ص (٣١٦)، الحجة ٤/٢٠٥، حجة القراءات ص (٣٢٠)، إعراب القراءات ١/٢٥١، إتحاف فضلاء البشر ٢/٩٥..
٦ ينظر: السابق..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٢٨٧، المحرر الوجيز ٣/٥٥، البحر المحيط ٥/٦٨، الدر المصون ٣/٤٨١..
٨ ينظر: السابق..
٩ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٠٨)..
١٠ ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (١٦/١٠٠)..
قوله تعالى: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ الآية.
140
لمَّا شرح أنواع قبائح أفعالهم، بيَّن أنَّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة.
قوله: ﴿بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ مبتدأ وخبر، أي: من جنس بعضن ف «من» هنا لبيان الجنس وقيل: للتبعيض، أي: إنَّهم إنما يتوالدون بعضهم من بعض على دينٍ واحدٍ، وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاقِ، ثمَّ فصَّل هذا الكلام فقال: «يَأْمُرُونَ بالمنكر». هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنَّها مفسرةٌ لقوله: «بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ»، وكذلك ما عطف على «يَأْمُرُون» ولفظ المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر الشرك والمعصية، والمراد الأعظم ههنا من المعروف الإيمان بالرسول ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي: يمسكونها عن الصَّدقة، والإنفاق في سبيل الله. ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ تركوا طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدُّنيا ومن رحمته في العقبى.
وإنَّما حملنا النِّسيان على التَّركِ، لأنَّ من نسي شيئاً لم يذكره، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللاَّزم، ولأنَّ النسيان ليس في وسع البشر، وهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل، وهو ما ذكرنا من التَّرك؛ لأنَّهم تركوا أمر الله حتى صارُوا كالنسي المنسي، فجازاهم بأنَّ صيَّرهم كالشَّيء المنسيّ، كقوله: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ثم قال: ﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي: الكاملُونَ في الفِسْقِ.
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات﴾ الآية.
قال القرطبيُّ وغيره: يقالُ: وعد الله بالخير وعْداً، ووعدَ بالشَّر وعيداً. وقيل: لا يقال من الشر إلاَّ «أوْعدته» و «توعدته» وهذه الآية رد عليه. لمَّا بيَّن في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم، أي: جازاهم على تركهم التَّمسك بطاعةِ الله، أكَّد هذا الوعيد وضمَّ المنافقين إلى الكفار فيه، فقال: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ﴾ الآية.
وقوله: «خالدين» حالٌ من المفعول الأول للوعد، وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحال لم تقارن الوعد. وقوله: «هِيَ حَسْبُهُم» لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية. والمعنى: أنَّ تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكنُ الزيادة عليها.
ثم قال: ﴿وَلَعَنَهُمُ الله﴾ أبعدهم الله من رحمته، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ دائم.
فإن قيل: معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكراراً.
فالجوابُ: من وجهين:
الأول: أنَّ لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنَّار والخلود المذكور أولاً، ولا يدل على أنَّ العذاب بالنَّارِ دائم. وقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ يدلُّ على أنَّ لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذابِ.
فإن قيل هذا مشكل؛ لأنه قال في النَّار المخلدة: «هِيَ حَسْبُهُم» وكونها حسباً يمنع
141
من ضمّ شيء آخر إليه. فالجوابُ: أنَّها حسبهم في الإيلام، ومع ذلك يضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم.
والثاني: أنَّ المراد بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ العذاب العاجل الذي لا ينفك عنهم وهو ما يُقاسُونَه من الخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم، وما يحذرونه من أنواع الفضائح.
قوله: ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ﴾.
فيه أوجه:
أحدها: أنَّ هذه الكاف في محلِّ رفعٍ، تقديره: أنتم كالذين، فهي خبر مبتدأ محذوف.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصب. قال الزجاجُ: المعنى: وعد كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلقٌ ب «وَعَدَ». قال ابن عطيَّة «وهذا قلقٌ». وقال أبو البقاءِ: ويجُوز أن يكون متعلقاً ب ﴿تَسْتَهْزِءُونَ﴾ [التوبة: ٦٥]. وفي هذا بعدٌ كبيرٌ.
وقوله: «كانُوا أشدَّ» تفسيرٌ لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم، وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمار فعلٍ، قال: «التَّشبيهُ من جهة الفعل، أي: فعلتم كما فعل الذين من قبلكم» فتكون الكافُ في موضع نصب. وقال أبو البقاءِ: «الكافُ في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف وفي الكلام حذف مضافٍ، تقديره: وعداً كوعد الذين». وذكر الزمخشريُّ وجه الرفع المتقدم، والوجه الذي تقدم عن الفراء، وشبَّهه بقول النمر بن تولب: [الكامل]
٢٨١١ -.............................. كاليَوْم مَطْلُوباً ولا طَلَبَا
بإضمار: «لَمْ أرَ».
قوله: «كَمَا اسْتَمْتَعَ» الكافُ في محلِّ نصب، نعتاً لمصدر محذوف، أي: استمتاعاً كاستمتاع الذين.
قوله: ﴿كالذي خاضوا﴾ الكافُ كالَّتي قبلها. وفي «الَّذِي» وجوهٌ:
أحدها: أنَّ المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النُّونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقع الجمع وقد تقدَّم تحقيقه في أوائل البقرةِ، فحذف المصدرُ الموصوفُ، والمضافُ إلى الموصول وعائدُ الموصول تقديره: خاضوه، والأصل: خاضوا فيه؛ لأنَّهُ يتعدَّى ب «في» فاتَّسع فيه فحذف الجارُّ، فاتصل الضميرُ بالفعل، فساغ حذفه، ولولا هذا التَّريجَ لما ساغَ الحذف، لما تقدم أنَّهُ متى جُرَّ العائد بحرف اشترط في جواز حذفه جرُّ الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد التعلَّق مع شروط أخر تقدمت.
142
الثاني: أنَّ «الذي» صفةٌ لمفردٍ مُفهم للجمع، أي: وخضتم خَوَْضاً كخوض الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا والكلامُ في العائد كما سبق قبل.
قال بعضُ المفسِّرين: «الَّذي» اسم ناقص مثل «ما، ومن»، يعبَّر عن الواحد والجمع، كقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ ثم قال ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧].
الثالث: أن «الَّذي» من صفة المصدر، والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه وعلى هذا فالعائدُ منصوبٌ من غير واسطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكون هو الراجح، إذ لا محذور فيه.
والرابع: أنَّ «الذي» تقعُ مصدرية، والتقدير: وخضتم خوضاً. ومثله: [البسيط]
٢٨١٢ - فَثَبَّتَ الهُ ما آتَاكَ مِنْ حسبٍ في المُرسلينَ ونَصْراً كالَّذِي نُصِرُوا
أي: كنَصْرهم. وقول الآخر: [البسيط]
٢٨١٣ - يَا أمَّ عَمْرو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً رُدِّي عليَّ فُؤادِي كالذي كَانَا
أي: ككون. وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهب الفراء، ويونس، وقد تقدَّم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشريُّ «فإن قلت: أيُّ فائدة في قوله: ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ﴾، وقوله ﴿فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ﴾ مغنٍ عنه، كما أغْنَى» كالَّذِي خَاضُوا «؟ قلت: فائدته أن يذُمَّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا، ورضاهم بها عن النَّظرِ في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يُخَسِّس أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمر الراضي به، ثم شبَّه حال المخاطبين بحالهم، وأمَّا ﴿وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا﴾ فمعطوفٌ على ما قبله ومسندٌ إليه، مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة يعني: أنه استغنى عن أن يكون التَّركيبُ: وخاضُوا، فخضتم كالذي خاضوا». وفي قوله ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ﴾ إيقاعٌ للظَّاهر موقع المضمر، لنُكتَةٍ، وهو أنَّه كان الأصلْ: فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم؛ فأبرزهم بصورةِ الظَّاهر تحقيراً لهم، كقوله: ﴿لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً﴾ [مريم: ٤٤]، وكقوله قبل ذلك: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾، ثم قال: ﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧] وهذا كما يدلُّ بإيقاع الظَّاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم، يدُلُّ به على عكسه، وهو التَّحقير.

فصل


معنى الآية: إنَّكُم فعلتم كفعل الذين من قبلكم، بالعدولِ عن أمر الله والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، و ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً﴾
143
بَطْشاً ومنعَةً، ﴿وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً﴾ إنما استمتعوا مدة بالدُّنيا، باتباع الشَّهوات، ورضوا به عوضاً عن الآخرة، ﴿فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ﴾، والخلاق: النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير. ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ﴾ وسلكتم سبيلهم «وخُضْتُم» في الباطلِ والكذب على الله وتكذيب رسله، والاستهزاء بالمؤمنين، «كالذي خاضوا» أي: كما خاضوا.
﴿أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي: بطلت حسناتهم في الدُّنيَا بسبب الموت والفقر والانتقال من العزِّ إلى الذُّل ومن القوة إلى الضَّعْفِ، وفي الآخرة؛ لأنَّهُم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب. ﴿َأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون﴾ حيثُ أتعبوا أنفسهم في الردِّ على الأنبياء، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدُّنيا والآخرة، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم.
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لتتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قبلكمُ شِبْراً بِشبرٍ، وذِرَاعاً بذرَاع، حتَّى إذا دخلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبعْتُموهُمْ» قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: «فَمَنَّ؟» وفي رواية أبي هريرة: فهل النَّاسُ إلاَّ هُمْ؟ فلهذا قال في المنافقين «بَعْضُهم من بَعْضٍ»، وقال في المؤمنين: «بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْض» أي: في الدِّين واتفاق الكلمة، والعون، والنصرة، «يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ» بالإيمان والطَّاعة والخير، وقد تقدَّم الكلام على «يَأمُرونَ بالمَعْرُوفِ».
«ويَنْهونَ عن المُنكَرِ» عن الشِّرك والمعصية، وما لا يعرف في الشَّرع «ويُقِيمُونَ الصَّلاة» المفروضة ﴿وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله﴾ فالسين للاستقبال، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ، وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة. وادَّعَى الزمخشريُّ: أنَّها تُفيدُ وجوب الرحمةِ وتوكيد الوعدِ والوعيد، نحو: سأنتقم منك، يعني لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونظيره ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾ [مريم: ٩٦] ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ﴾ [الضحى: ٥] ﴿سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٢].
ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وذلك يوجبُ المبالغة في التَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ العزيز هو الذي لا يمنعُ من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة، والحكيمُ هو المدبر أمر عبادة على ما تقتضيه الحكمة.
144
قوله تعالى :﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات ﴾ الآية.
قال القرطبيُّ وغيره : يقالُ : وعد الله بالخير وعْداً، ووعدَ بالشَّر وعيداً. وقيل : لا يقال من الشر إلاَّ " أوْعدته " و " توعدته " وهذه الآية رد عليه. لمَّا بيَّن في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم، أي : جازاهم على تركهم التَّمسك بطاعةِ الله، أكَّد هذا الوعيد وضمَّ المنافقين إلى الكفار فيه، فقال :﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ ﴾ الآية.
وقوله :" خالدين " حالٌ من المفعول الأول للوعد، وهي حالٌ مقدرةٌ ؛ لأنَّ هذه الحال لم تقارن الوعد. وقوله :" هِيَ حَسْبُهُم " لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية. والمعنى : أنَّ تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكنُ الزيادة عليها.
ثم قال :﴿ وَلَعَنَهُمُ الله ﴾ أبعدهم الله من رحمته، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ دائم.
فإن قيل : معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكراراً.
فالجوابُ : من وجهين :
الأول : أنَّ لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنَّار والخلود المذكور أولاً، ولا يدل على أنَّ العذاب بالنَّارِ دائم. وقوله :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ يدلُّ على أنَّ لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذابِ.
فإن قيل هذا مشكل ؛ لأنه قال في النَّار المخلدة :" هِيَ حَسْبُهُم " وكونها حسباً يمنع من ضمّ شيء آخر إليه. فالجوابُ : أنَّها حسبهم في الإيلام، ومع ذلك يضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم.
والثاني : أنَّ المراد بقوله :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ العذاب العاجل الذي لا ينفك عنهم وهو ما يُقاسُونَه من الخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم، وما يحذرونه من أنواع الفضائح.
قوله :﴿ كالذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾.
فيه أوجه :
أحدها : أنَّ هذه الكاف في محلِّ رفعٍ، تقديره : أنتم كالذين، فهي خبر مبتدأ محذوف.
الثاني : أنَّها في محلِّ نصب. قال الزجاجُ١ : المعنى : وعد كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلقٌ ب " وَعَدَ ". قال ابن عطيَّة٢ " وهذا قلقٌ ". وقال أبو البقاءِ٣ : ويجُوز أن يكون متعلقاً ب ﴿ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [ التوبة : ٦٥ ]. وفي هذا بعدٌ كبيرٌ.
وقوله :" كانُوا أشدَّ " تفسيرٌ لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم، وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمار فعلٍ، قال :" التَّشبيهُ من جهة الفعل، أي : فعلتم كما فعل الذين من قبلكم " فتكون الكافُ في موضع نصب. وقال أبو البقاءِ :" الكافُ في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف وفي الكلام حذف مضافٍ، تقديره : وعداً كوعد الذين ". وذكر الزمخشريُّ وجه الرفع المتقدم، والوجه الذي تقدم عن الفراء، وشبَّهه بقول النمر بن تولب :[ الكامل ]
. . . *** كاليَوْم مَطْلُوباً ولا طَلَبَا٤
بإضمار :" لَمْ أرَ ".
قوله :" كَمَا اسْتَمْتَعَ " الكافُ في محلِّ نصب، نعتاً لمصدر محذوف، أي : استمتاعاً كاستمتاع الذين.
قوله :﴿ كالذي خاضوا ﴾ الكافُ كالَّتي قبلها. وفي " الَّذِي " وجوهٌ :
أحدها : أنَّ المعنى : وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النُّونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقع الجمع وقد تقدَّم تحقيقه في أوائل البقرةِ، فحذف المصدرُ الموصوفُ، والمضافُ إلى الموصول وعائدُ الموصول تقديره : خاضوه، والأصل : خاضوا فيه ؛ لأنَّهُ يتعدَّى ب " في " فاتَّسع فيه فحذف الجارُّ، فاتصل الضميرُ بالفعل، فساغ حذفه، ولولا هذا التَّدريجَ لما ساغَ الحذف، لما تقدم أنَّهُ متى جُرَّ العائد بحرف اشترط في جواز حذفه جرُّ الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد التعلَّق مع شروط أخر تقدمت.
الثاني : أنَّ " الذي " صفةٌ لمفردٍ مُفهم للجمع، أي : وخضتم خَوَْضاً كخوض الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا والكلامُ في العائد كما سبق قبل.
قال بعضُ المفسِّرين :" الَّذي " اسم ناقص مثل " ما، ومن "، يعبَّر عن الواحد والجمع، كقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً ﴾ ثم قال ﴿ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٧ ].
الثالث : أن " الَّذي " من صفة المصدر، والتقدير : وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه وعلى هذا فالعائدُ منصوبٌ من غير واسطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكون هو الراجح، إذ لا محذور فيه.
والرابع : أنَّ " الذي " تقعُ مصدرية، والتقدير : وخضتم خوضاً. ومثله :[ البسيط ]
فَثَبَّتَ الهُ ما آتَاكَ مِنْ حسبٍ *** في المُرسلينَ ونَصْراً كالَّذِي نُصِرُوا٥
أي : كنَصْرهم. وقول الآخر :[ البسيط ]
يَا أمَّ عَمْرو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً *** رُدِّي عليَّ فُؤادِي كالذي كَانَا٦
أي : ككونه. وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهب الفراء، ويونس، وقد تقدَّم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشريُّ٧ " فإن قلت : أيُّ فائدة في قوله :﴿ فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ ﴾، وقوله ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ ﴾ مغنٍ عنه، كما أغْنَى " كالَّذِي خَاضُوا " ؟ قلت : فائدته أن يذُمَّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا، ورضاهم بها عن النَّظرِ في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يُخَسِّس أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمر الراضي به، ثم شبَّه حال المخاطبين بحالهم، وأمَّا ﴿ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا ﴾ فمعطوفٌ على ما قبله ومسندٌ إليه، مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة يعني : أنه استغنى عن أن يكون التَّركيبُ : وخاضُوا، فخضتم كالذي خاضوا ". وفي قوله ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ ﴾ إيقاعٌ للظَّاهر موقع المضمر، لنُكتَةٍ، وهو أنَّه كان الأصلْ : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم ؛ فأبرزهم بصورةِ الظَّاهر تحقيراً لهم، كقوله :﴿ لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٤ ]، وكقوله قبل ذلك :﴿ المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾، ثم قال :﴿ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] وهذا كما يدلُّ بإيقاع الظَّاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم، يدُلُّ به على عكسه، وهو التَّحقير.

فصل


معنى الآية : إنَّكُم فعلتم كفعل الذين من قبلكم، بالعدولِ عن أمر الله والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، و﴿ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً ﴾ بَطْشاً ومنعَةً، ﴿ وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً ﴾ إنما استمتعوا مدة بالدُّنيا، باتباع الشَّهوات، ورضوا به عوضاً عن الآخرة، ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ ﴾، والخلاق : النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير. ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ ﴾ وسلكتم سبيلهم " وخُضْتُم " في الباطلِ والكذب على الله وتكذيب رسله، والاستهزاء بالمؤمنين، " كالذي خاضوا " أي : كما خاضوا.
﴿ أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة ﴾ أي : بطلت حسناتهم في الدُّنيَا بسبب الموت والفقر والانتقال من العزِّ إلى الذُّل ومن القوة إلى الضَّعْفِ، وفي الآخرة ؛ لأنَّهُم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب. ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون ﴾ حيثُ أتعبوا أنفسهم في الردِّ على الأنبياء، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدُّنيا والآخرة، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم.
١ ينظر: معاني القرآن للزجاج ٢/٥١٠..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٥٦..
٣ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/١٨..
٤ تقدم..
٥ تقدم..
٦ البيت لجرير: ينظر: الديوان ٥٩٤، والمحتسب ٢/١٨٩، والدر المصون ٣/٤٨٣..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٢٨٨..
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم :" لتتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قبلكمُ شِبْراً بِشبرٍ، وذِرَاعاً بذرَاع، حتَّى إذا دخلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبعْتُموهُمْ " قيل : يا رسول الله اليهود والنصارى قال :" فَمَنَّ ؟ " وفي رواية أبي هريرة : فهل النَّاسُ إلاَّ هُمْ١ ؟ فلهذا قال في المنافقين " بَعْضُهم من بَعْضٍ "، وقال في المؤمنين :" بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْض " أي : في الدِّين واتفاق الكلمة، والعون، والنصرة، " يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ " بالإيمان والطَّاعة والخير، وقد تقدَّم الكلام على " يَأمُرونَ بالمَعْرُوفِ ". " ويَنْهونَ عن المُنكَرِ " عن الشِّرك والمعصية، وما لا يعرف في الشَّرع " ويُقِيمُونَ الصَّلاة " المفروضة ﴿ وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله ﴾ فالسين للاستقبال، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ، وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة. وادَّعَى الزمخشريُّ : أنَّها تُفيدُ وجوب الرحمةِ وتوكيد الوعدِ والوعيد، نحو : سأنتقم منك، يعني لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونظيره :﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً ﴾ [ مريم : ٩٦ ] ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ الضحى : ٥ ] ﴿ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٥٢ ].
ثم قال :﴿ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ وذلك يوجبُ المبالغة في التَّرغيب والتَّرهيب ؛ لأنَّ العزيز هو الذي لا يمنعُ من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة، والحكيمُ هو المدبر أمر عبادة على ما تقتضيه الحكمة.
١ أخرجه البخاري (١٣/٣١٢-٣١٣) كتاب الاعتصام: باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (٧٣٢٠) ومسلم ٤/٢٠٥٤ كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى (٦-٢٦٦٩)..
قوله: ﴿وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [التوبة: ٧٢].
والأقرب أنه تعالى أراد بها البساتين التي تبنى فيها المناظر؛ لأنَّهُ تعالى قال بعده ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ والمعطوفُ يجبُ أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنَّات عدنٍ ومناظرهم التي هي البساتين، وتكون فائدة وصفها بأنَّها عدنٌ، أنَّها تجري مجرى دار السَّكن والإقامة.
وقوله: «خَالِدِينَ» حالٌ مقدَّرة، كما تقدَّم. وقوله: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ أي: منازل طيبة ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي: خلد وإقامة، وفي «عدن» قولان:
أحدهما: أنَّهُ اسم على لموضع معين في الجنَّةِ.
قال عبدُ الله بنُ عمرو «إنَّ في الجنَّة قصراً يقال له عدنٌ، حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كلِّ باب خمسة ألاف حرة، لا يدخله إلاَّ نبيٌّ، أو صديقٌ أو شهيدٌ».
قال الزمخشريُّ: و «عدن» علم بدليل قوله ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ﴾ [مريم: ٦١].
والقول الثاني: أنه صفة للجنة. قال الأزهريُّ: «العَدْنُ» مأخوذ من قولك: عَدَنَ بالمكان إذا أقام به، يَعْدِنث عُدوناً. وتقول: تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه، ومنه المعدن، لمُسْتقرِّ الجواهر. يقال: عدن عُدُوناً، فله مصدران. هذا أصلُ هذه اللفظة لغة. وذكر المفسِّرون لها معان كثيرة وقال الأعشى في معنى الإقامة [المتقارب]
145
أي: ثَبَتَ واستقرَّ. ومنه «عدن» لمدينة باليمن، لكثرة المقيمين بها.
قوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ التَّنكيرُ يفيدُ التقليل، أي: أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم من الجنَّات ومساكنها.
ثم قال: ﴿ذلك هُوَ الفوز العظيم﴾ أي: هذا هو الفوزُ العظيمُ، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا. روى أبو سعيدٍ الخدريُّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأهل الجنَّة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ربنا أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول:» أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً «.
قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾ الآية.
لمَّا وصف المنافقين بالصِّفات الخبيثةِ، وتوعدهم بأنواع العقاب، ثمَّ ذكر المؤمنين بالصفات الحسنة، ووعدهم بالثَّوابِ، عاد إلى شرح أحوال الكُفَّارِ والمنافقين في هذه الآية.
فإن قيل: مجاهدة المنافقينَ غيرُ جائزة، فإنَّ المنافق يستر كفره وينكره بلسانه.
فالجوابُ من وجوه:
أحدها: قال الضحاكُ: مجاهدة المنافق: تغليظُ القول، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ ظاهر قوله ﴿جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾ يقتضي الأمر بجهادهما معاً، وكذا ظاهر قوله: ﴿واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ راجع إلى الفريقين.
وثانيها: أنَّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدلُّ على أنَّ الجهاد بالسَّيف أو باللِّسانِ أو بطريق آخر. فقال ابن مسعودٍ: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لَمْ يَسْتَطعْ فبقَلبِهِ. وقال: لا يلقى المنافق إلاَّ بوجه مكفهر. وقال ابنُ عبَّاسٍ: باللِّسانِ وترك الرفق.
وثالثها: قال الحسنُ وقتادةُ: بإقامةِ الحدودِ عليهم
146
قال القاضي: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ إقامة الحدود واجبةٌ على من ليس بمُنافقٍ.
قوله: ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ قال أبُو البقاءِ: إن قيل كيف حسنتِ الواوُ هنا والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ الواو واو الحالِ والتقدير: افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنَّم، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم.
والثاني: أنَّ الواو جيء بها تنبيهاً على إرادة فعل محذوف، تقديره: واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم.
الثالث: أنَّ الكلام حمل على المعنى والمعنى أنَّه قد اجتمع لهم عذابُ الدُّنيا بالجهاد والغلظة، وعذابُ الآخرة بجعل جهنَّم مأواهم. ولا حاجة إلى هذا كُلِّه، بل هي جملةُ استثنافية.
قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ﴾ الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً في ظلِّ شجرةٍ، فقال: «إنهُ سيَأتِيكُمْ إنْسانٌ ينْظرُ إليْكُمْ بعيْنِ الشَّيطانِ، فإذا جَاءَ فلا تُكَلِّمُوهُ» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «عَلامَ تَشْتمُنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ» فانطلق الرَّجُل؛ فجاء بأصحابه، فحلفُوا بالله ما قالوا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ الآية.
وقال الكلبيُّ: نزلت في جلاس بن سويدٍ، وذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين، فسمَّاهم رجْساً وعابهم، فقال جلاسٌ: لئن كان محمد صادقاً، لنحنُ شرٌّ من الحمير فلمَّا انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة أتاه عامر بن قيس، وأخبره بما قال جلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله؛ فأمرهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحلفا عند المنبر؛ فقام الجلاسُ عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قاله، ولقد كذب عليَّ عامر، فقام عامرٌ فحلف بالله الذي لا إله إلا هو: لقد قاله، وما كذبتُ عليه، ثم رفع عامرٌ يديه إلى السَّماء فقال: اللَّهُمَّ انزلْ على نبيِّكَ تصديق الصادقِ منَّا.
فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون: «آمين»، فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتَفرَّقُوا بهذه الآية، حتى بلغ ﴿فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ﴾، فقام الجلاسُ، فقال: يا رسول الله، وأتوب إليه، فقبلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك منه، ثم تاب وحَسُنَتْ توبتُه.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبيّ لما قال {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا
147
الأَذَلَّ}
[المنافقون: ٨]. وأراد به الرسول - عليه الصَّلاة والسلام -، فسمع زيدُ بنُ أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فهمَّ عمرُ بقتل عبد الله بن أبيّ، فجاء عبد الله وحلف أنَّهُ لم يقل فنزلت الآية. وقال القاضي: الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أنَّ المنافقين همُّوا بقتله عند رجوعه من تبوك، وهم خسمة عشر رجلاً تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي باللَّيل، وكان عمَّار بن ياسر آخذاً بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، وقعقة السلاح، فالتفت، فإذا قوم متلثمُون. فقال: إليكم يا أعداء الله، فهربوا والظَّاهر أنهم لمَّا اجتمعوا لذلك الغرض، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادِّعاءِ الرسالة، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج.
فإن قيل: قوله: ﴿وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾ يدلُّ على أنَّهم أسلمُوا من قبل، وهم لم يكونوا مسلمين.
فالجوابُ: أنَّ المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب؛ لأنَّهم لمَّا نافقوا، فقد أظهروا الإسلام، وقوله: ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم، ولم يصلُوا إلى مقصودهم وقال السُّديُّ: «هو قولهم إذا قدمنا المدينة؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجاً فلم يصلوا إليه».
قوله: ﴿وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾.
في الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنَّهُ معفول به، أي: وما كرهُوا وعابُوا إلاَّ إغناءَ الله إيَّاهم وهو من باب قولهم: ما لي عندك ذنبٌ إلاَّ أن أحسنت إليك، أي: إن كان ثم ذنبٌ فهو هذا، فهو تهكمٌ بهم؛ كقوله: [الطويل]
٢٨١٤ - وإنْ يَسْتَضِيفُوا إلى حِلْمِهِ يُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ
٢٨١٥ - ولا عَيْبَ فينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْلِ
وقول الآخر: [المنسرح]
148
والثاني: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، وعلى هذا فالمفعولُ به محذوف، تقديره: وما نقموا منهم الإيمان إلاَّ لأجل إغناء الله إيَّاهم. وقد تقدَّم الكلامُ على «نَقِمَ» [الأعراف: ١٢٦].
قيل: إن مولى الجلاس قتل، فأمر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى.
وقال الكلبيُّ: كانوا قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة في ضنكٍ من العيشِ فلمَّا قدمَ عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استغنوا بالغنائم.
قوله: ﴿فَإِن يَتُوبُواْ﴾ أي: من نفاقهم: ﴿يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا﴾ أي: يعرضوا عن التوبة ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا﴾ بالخزي، وفي ﴿الآخرة﴾ بالنَّارِ ﴿وَمَا لَهُمْ﴾ في الأَرض ﴿مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي: أنَّ عذاب الله إذا حق لم ينفعه وليّ ولا نصير.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ الآية.
«عاهد الله» فيه معنى القسم، فلذلك أجيب بقوله: «لنصَّدقنَّ»، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، و «اللاَّم» للتوطئةِ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له.
وقال أبُو البقاءِ: فيه وجهان:
أحدهما: تقديره: «عاهد، فقال: لئِنْ آتَانَا».
والثاني: أن يكون «عاهد» بمعنى: قال، فإنَّ العهد قول. ولا حاجة إلى هذا.
قوله: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ﴾ قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة. والأعمش بالخفيفة.
قال الزجاج الأصل: «لنتَصدَّقنَّ»، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد، لقربها منها.
قال الليثُ: المُتصدق: المعطي، والمُتصدق: السائل. قال الأصمعيُّ، والفرَّاءُ: هذا خطأ، فالمتصدق هو المعطي، قال تعالى: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين﴾ [يوسف: ٨٨] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال: ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي﴾ [التوبة: ٦٢] ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات﴾ [التوبة: ٥٨] ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٧٥].
والمشهور في سبب نزول هذه الآية: ما روى أبو أمامة قال: جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ» ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال: «أمّا
149
لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ»
ثمَّ راجعه بعد ذلك، فقال: يا رسول الله: ادعُ الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً» قال: فاتَّخذ غنماً؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويصلي في غنمة سائر الصلوات، ثم كثُرتْ ونمتْ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار، فذكرهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم فقال: «ما فعل ثعلبةُ؟»
قالوا: يا رسول الله؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يا ويْحَ ثَعلبةَ» فأنزل الله تعالى آية الصدقات؛ فبعث رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً من بني سليم، ورجلاً من جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها، وقال لهما: «مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ، فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة؛ فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: هذه إلاَّ الجزية، ما هذه إلاَّ أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة، ثم استقبلهما بها، فلمَّا رأياها قالا: ما هذه عليك؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة، فمرَّا على الناس، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما؛ فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية، اذهبا حتَّى أرى رأيي، قال فأقبلا، فلما رآهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال قبل أن يكلماه: يا ويْحَ ثعلبةَ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ الآية على قوله: ﴿وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: ٧٧] وعند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلٌ من أقارب ثعلبةَ؛ فسمع ذلك، فخرج حتَّى أتاهُ فقال: ويْحَكَ يا ثعلبة، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله أن يقبل صدقته، فقال:
«إنَّ الله مَنَعنِي أن أقبلَ مِنْكَ صدقَتكَ» فجعل يَحثُو التُّرابَ على رأسِهِ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قد أمرتُك فلمْ تُطِعْنِي» ؛ فرجع إلى منزله، وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أتى أبا بكر بصدقته؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقبض أبو بكر، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثمَّ لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبةُ في خلافه عثمان.
150
وقال ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بن جبير، وقتادةُ: أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، وتصدقت منه، ووصلت منه القرابة، فمات ابن عمٍّ له، فورث منه مالاً، فلم يف بما قال؛ فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن ومجاهدٌ: نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ، ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ، فلما رزقهما بخلا به. والمشهورُ الأول.
فإن قيل: إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه؟.
فالجواب: لا يبعد أن يقال: إنَّ الله تعالى منع الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره؛ فلا يمتنع عن أداء الصدقات، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص، وأعلم الله الرسول بذلك؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاو والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ.
فإن قيل: المنافق كافرٌ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله.
فالجواب: أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، كان كافراً.
وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً، ثم لمَّا بخل بالمال، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً﴾ [التوبة: ٧٨].
فإن قيل: هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان، أو يكفي النِّيَّة؟.
فالجواب: قال بعضهم: تكفي النيةُ، وأن قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله﴾ [التوبة: ٧٥] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ [التوبة: ٧٨]. وقال المحققون: هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل» وأيضاً فقوله ﴿لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ يشعر ظاهره بالقول باللسانِ.
فإن قيل: المراد من الصدقة إخراج المال، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان:
151
قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة، والنفقات الواجبةِ.
وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور.
فقوله: «لنصَّدَّقنَّ» هل يتناولُ الأقسام الثلاثة، أو لا؟
فالجوابُ: أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة، غير داخلة في الآية، لقوله: «بخلوا به» والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك، وتارك المندوب لا يذم.
بقي القسمان الواجبان؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله ﴿لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه.
فإن قيل: لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ.
فالجوابُ: قوله: «لنصَّدقنَّ» لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل، وهذا النذر لا يوجبُ الفور؛ فكأنهم قالوا: لنصدقن في وقته كما قالوا: ﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين﴾ أي: في أوقات لزوم الصَّلاة؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع، ويؤكد هذا ما روي في سببن النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ.

فصل


المرادُ من «الفضل» ههنا: إيتاء المالِ بأي طريق كان، إمَّا بتجارة، أو غنيمةٍ أو غير ذلك. والمرادُ ب «الصَّالحينَ» : الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف، فالصَّالح: من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير، ونحو ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾.
قال الليثُ: يقال: أعقب فلاناً ندامةٌ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، قال الهذليُّ: [الكامل]
٢٨١٦ - مَا نَقمُوا مِنْ بَنِي أمَيَّة إلْ لا أنَّهُم يَحْلُمُون إن غضبُوا
وأنَّهُمْ سَادَةُ الملُوك ولا يَصْلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ
152
ويقال: أكل فلانٌ أكلةً فأعقبتهُ سُقْماً، وأعقبه الله خيراً، والمعنى: أخلفهم في قلوبهم أي: صير عاقبة أمورهم النفاق، عاقبهم بنفاق في قلوبهم، يقال: عاقبته وأعقبته بمعنى.

فصل


«فأعقبهم» فعل، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ، والجهل وجود، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً؛ ولأنه تعالى قال: ﴿بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: ٧٧] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل، والتولي، والإعراض لصار تقدير الآية: فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وذلك لا يجوز؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي، ومعلومٌ أنه كلام باطل؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى؛ فوجب إسناده إليه؛ فصار المعنى: أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ، إنَّ معناه: أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ فالضميرُ في قوله: «يَلقَوْنَهُ» عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله: «فأعْقَبَهُمْ» مسنداً إلى اللهِ تعالى.
قال القاضي «المرادُ من قوله: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي: فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي: حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة».
وهذا بعيدٌ؛ لأنه عدولٌ عن الظَّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلاً عقلياً، قوبلوا بدليل عقلي. والله أعلم.

فصل


ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّ نقض العهد، وخلف الوعد، يورثُ النِّفاقَ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك، ويجتهد في الوفاءِ. ومذهب الحسنِ البصري: أنَّه يوجب
153
النفاق لا محالة لهذه الآية، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنَّهُ مؤمنٌ، إذا حدَّث كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ».
ونقل أن واصل بن عطاء قال: أتى الحسن رجلٌ فقال له: إن أولاد يعقوب حدَّثُوه في قولهم ﴿فَأَكَلَهُ الذئب﴾ [يوسف: ١٧] فكذبوهُ، ووعدوه في قولهم: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [يوسف: ١٢] فأخلفوه، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه، فهل نحكمُ بكونهم منافقين؟ قيل: فتوقف الحسن في مذهبه.
وفسَّر عمر بن عبيد الحديث فقال «إذا حدَّث عن الله كذب عليه، وعلى دينه، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرِّ فكان قلبه على خلاف لسانه».
قوله: ﴿إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ قال الجبائيُّ «تمسَّكُوا في إثبات رُؤية الله بقوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ﴾ [الأحزاب: ٤٤] قال: واللقاء ليس عبارة عن الرؤية، بدليل قوله في صفة المنافقين ﴿إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ وأجمعوا على أنَّ الكفَّار لا يرونه؛ فدلَّ على أنَّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية.
ويؤيدُه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ»
من حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بهَا حق امرئ مُسلمٍ لقيَ الله وهُو عليه غَضبَانُ «وأجمعوا على أنَّ المراد من اللقاء ههنا: لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا».
قال ابن الخطيب «وهذا دليلٌ ضعيفٌ؛ لأنَّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرُّؤيةِ في هذه الآية، وفي الخبر لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصُّور، كما إذا أدخلنا التَّخصيصَ في بعض العمومات لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا أن نُخَصّصَ جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك».
قوله: ﴿بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ أي: أنَّ الله أعقبهم ذلك النِّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد، وعلى كذبهم. وقرأ الجمهور «يَكْذبُونَ» مخففاً، وأبو رجاء مثقلاً.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ الآية.
قرأ الجمهور «يَعْلمُوا» بالياء من تحت. وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ، والحسنُ،
154
والسلمي بالخطاب، التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين والسِّر: ما ينطوي عليه صدورهم والنَّجْوَى: ما يفاوضُ فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم، مأخوذ من «النَّجْوِ» وهو الكلام الخفي كأنَّ المتناجين منعا إدخال غيرهما معهما، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: ٥٢] وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً﴾ [يوسف: ٨٠] وقوله: ﴿فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى﴾
[المجادلة: ٩]، والمعنى: أنَّ الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرَّءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتَّناجي فيما بينهم، مع علمهم بأنَّهُ تعالى يعلم ذلك من حالهم، كما يعلم الظَّاهر، وأنَّهُ يعاقب عليه كما يعاقب على الظَّاهر.
قال: ﴿وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب﴾ والعَلاَّمُ: مبالغة في العالم، والغيب: ما كان غَائِباً عن الخلق.
قوله تعالى: ﴿الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ الآية.
في «الذين يَلْمِزُونَ» أوجه:
أحدها: أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ، أي: هم الذين.
الثاني: أّنَّه في محل رفع بالابتداء، و «مِنَ الُمؤمنينَ» حالٌ من «المطَّوِّعين».
و «في الصَّدقاتِ» متعلق ب «يَلْمِزُونَ»، و «الَّذشينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ «المُطَّوِّعينَ» أي: يَعيبُونَ المياسير، والفقراء. وقال مكيٌّ: «والَّذينَ» خفضٌ، عطفاً على «المُؤمنينَ» ولا يَحْسُن عطفهُ على «المُطَّوِّعين» ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد؛ لأنَّ «فَيَسْخَرُونَ» عطف على «يَلْمِزُونَ» هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له، وهو عندي وهمٌ منه.
قال شهابُ الدِّين: «والأمر فيه كما ذكر، فإنَّ» المُطَّوِّعينَ «قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره».
وقوله: «فَيَسْخرُونَ» نسقٌ على الصِّلةِ، وخبر المبتدأ: الجملةُ من قوله «سَخِرَ اللهُ منهُمْ» هذا أظهرُ إعراب قيل هنا.
وقيل: «والَّذينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ على «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ»، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله: ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾، وهذا لا يكون، إلاَّ بأنْ كان «الَّذِينَ لا يَجِدُون» مُنافقينَ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين، كيف يسخرُ الله منهم؟. وقيل: «والَّذِينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ على «المُؤمنينَ»، قاله أبُو البقاءِ.
قال أبُو حيَّان: «وهُو بعيدٌ جدّاً». ووجهُ بعده: أنَّه يفهمُ أنَّ «الَّذِينَ لا يجدُونَ» ليسوا مؤمنين؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ، فكأنَّنهُ قيل: يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من
155
هذين الصنفين: المؤمنين، والذين لا يجدُونَح فيكون «الَّذِينَ لا يجدون» مطَّوِّعين غير مؤمنين.
وقال أبُو البقاءِ: «فِي الصَّدقاتِ» متعلقٌ ب «يَلمِزُونَ»، ولا يتعلَّق ب «المُطَّوِّعينَ» لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي. وهذا فيه نظر؛ إذ قوله «مِنَ المؤمنينَ» حال، والحالُ ليست بأجنبيّ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن «يطَّوَّع» إنَّما يتعدى بالياءِ، لا ب «في» وكون «في» بمعنى «الباء» خلاف الأصل. وقيل: «فَيَسْخَرُونَ» خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم: «سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا».
الثالث: أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال، بإضمار فعل يُفسِّره «سَخِرَ اللهُ منهُم» من طريق المعنى، نحو: عاب الذين يلمزُون، سخر الله منهم.
الرابع: أنْ ينصب على الشتم.
الخامس: أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في «سِرَّهُم ونجْواهُمْ».
وقرئ «يلْمُزون» بضم الميم، وقد تقدَّم أنَّها لغة، وقرأ الجمهور «جُهْدَهم» بضمِّ الجيمِ.
وقرأ ابنُ هرمز وجماعة «جَهْدهم» بالفتح. فقيل: لغتان بمعنى واحد. وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ: الطَّاقةُ، قالهُ القتيبيُّ، وقيل: المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ: العملُ.
وقوله: ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ يحتملُ أن يكون خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً.

فصل


اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ.
قال المفسِّرون: حثَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصَّدقةِ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم، فقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف درهم، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي.
فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ، وفيمَا أمْسَكْتَ» فبارك اللهُ في مال عبد الرحمن، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر.
156
وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب، بصاعٍ من تمرٍ، وقال: يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي، وجئتُ بالآخر؛ فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينثره على الصَّدقاتِ؛ فلمزهم المنافقُون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات؛ فأنزل الله تعالى: «الَّذِينَ يلْمِزُون» أي: يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات، يعني: عبد الرحمن بن عوف وعاصماً، ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ أي: طاقتهم.
والجُهْدُ: شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ، والجهد بالفتح، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني: أبا عقيل: «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» يستهزئون منهم، ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ أي: جازاهم على السخرية، وقال الأصمُّ: المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها؛ فكان ذلك كالسخرية، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ عند نزول الآية في المنافقين، قالوا: يا رسول الله، استغفر لنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سأسْتغفرُ لَكُمْ» ؛ فنزل قوله تعالى: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ قد تقدَّم الكلام على هذا عند قوله: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ [التوبة: ٥٣] ؛ وأنَّهُ نظيرُ قوله: [الطويل]
٢٨١٧ - أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ
157
قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين ﴾ الآية.
لمَّا وصف المنافقين بالصِّفات الخبيثةِ، وتوعدهم بأنواع العقاب، ثمَّ ذكر المؤمنين بالصفات الحسنة، ووعدهم بالثَّوابِ، عاد إلى شرح أحوال الكُفَّارِ والمنافقين في هذه الآية.
فإن قيل : مجاهدة المنافقينَ غيرُ جائزة، فإنَّ المنافق يستر كفره وينكره بلسانه.
فالجوابُ من وجوه :
أحدها : قال الضحاكُ : مجاهدة المنافق : تغليظُ القول، وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ ظاهر قوله ﴿ جَاهِدِ الكفار والمنافقين ﴾ يقتضي الأمر بجهادهما معاً، وكذا ظاهر قوله :﴿ واغلظ عَلَيْهِمْ ﴾ راجع إلى الفريقين.
وثانيها : أنَّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدلُّ على أنَّ الجهاد بالسَّيف أو باللِّسانِ أو بطريق آخر. فقال ابن مسعودٍ : بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لَمْ يَسْتَطعْ فبقَلبِهِ. وقال : لا يلقى المنافق إلاَّ بوجه مكفهر. وقال ابنُ عبَّاسٍ : باللِّسانِ وترك الرفق١.
وثالثها : قال الحسنُ وقتادةُ : بإقامةِ الحدودِ عليهم٢
قال القاضي : وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّ إقامة الحدود واجبةٌ على من ليس بمُنافقٍ.
قوله :﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ قال أبُو البقاءِ : إن قيل كيف حسنتِ الواوُ هنا والفاء أشبه بهذا الموضع ؟ ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ الواو واو الحالِ والتقدير : افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنَّم، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم.
والثاني : أنَّ الواو جيء بها تنبيهاً على إرادة فعل محذوف، تقديره : واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم.
الثالث : أنَّ الكلام حمل على المعنى والمعنى أنَّه قد اجتمع لهم عذابُ الدُّنيا بالجهاد والغلظة، وعذابُ الآخرة بجعل جهنَّم مأواهم. ولا حاجة إلى هذا كُلِّه، بل هي جملةُ استثنافية.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٢٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٦٢) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٢٠) عن قتادة والحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٦٢) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١١)..

قوله تعالى :﴿ يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ ﴾ الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلِّ شجرةٍ، فقال :" إنهُ سيَأتِيكُمْ إنْسانٌ ينْظرُ إليْكُمْ بعيْنِ الشَّيطانِ، فإذا جَاءَ فلا تُكَلِّمُوهُ " فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" عَلامَ تَشْتمُنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ " فانطلق الرَّجُل ؛ فجاء بأصحابه، فحلفُوا بالله ما قالوا، فأنزل الله عز وجل الآية١.
وقال الكلبيُّ : نزلت في جلاس بن سويدٍ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين، فسمَّاهم رجْساً وعابهم، فقال جلاسٌ : لئن كان محمد صادقاً، لنحنُ شرٌّ من الحمير فلمَّا انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس، وأخبره بما قال جلاس، فقال الجلاس : كذب يا رسول الله ؛ فأمرهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر ؛ فقام الجلاسُ عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قاله، ولقد كذب عليَّ عامر، فقام عامرٌ فحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد قاله، وما كذبتُ عليه، ثم رفع عامرٌ يديه إلى السَّماء فقال : اللَّهُمَّ انزلْ على نبيِّكَ تصديق الصادقِ منَّا.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون :" آمين "، فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتَفرَّقُوا بهذه الآية، حتى بلغ ﴿ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ ﴾، فقام الجلاسُ، فقال : يا رسول الله، أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق هعامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته وانا أستغفر الله، وأتوب إليه، فقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه، ثم تاب وحَسُنَتْ توبتُه٢.
وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ لما قال ﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل ﴾ [ المنافقون : ٨ ]. وأراد به الرسول - عليه الصَّلاة والسلام -، فسمع زيدُ بنُ أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام -، فهمَّ عمرُ بقتل عبد الله بن أبيّ، فجاء عبد الله وحلف أنَّهُ لم يقل فنزلت الآية. وقال القاضي : الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أنَّ المنافقين همُّوا بقتله عند رجوعه من تبوك، وهم خسمة عشر رجلاً تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي باللَّيل، وكان عمَّار بن ياسر آخذاً بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، وقعقة السلاح، فالتفت، فإذا قوم متلثمُون. فقال : إليكم يا أعداء الله، فهربوا والظَّاهر أنهم لمَّا اجتمعوا لذلك الغرض، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادِّعاءِ الرسالة، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج.
فإن قيل : قوله :﴿ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ﴾ يدلُّ على أنَّهم أسلمُوا من قبل، وهم لم يكونوا مسلمين.
فالجوابُ : أنَّ المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب ؛ لأنَّهم لمَّا نافقوا، فقد أظهروا الإسلام، وقوله :﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عليه الصلاة والسلام والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم، ولم يصلُوا إلى مقصودهم وقال السُّديُّ :" هو قولهم إذا قدمنا المدينة ؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجاً فلم يصلوا إليه " ٣.
قوله :﴿ وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾.
في الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مفعول به، أي : وما كرهُوا وعابُوا إلاَّ إغناءَ الله إيَّاهم وهو من باب قولهم : ما لي عندك ذنبٌ إلاَّ أن أحسنت إليك، أي : إن كان ثم ذنبٌ فهو هذا، فهو تهكمٌ بهم ؛ كقوله :[ الطويل ]
٢٨١٨ - أسِيئِي بِنَا أوْ أحْسِني لا مُسِيئةٌ لدَينَا ولا مقليَّةٌ إنْ تقَلَّتِ
ولا عَيْبَ فينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْلِ٤
وقول الآخر :[ المنسرح ]
مَا نَقمُوا مِنْ بَنِي أمَيَّة إلْ لا أنَّهُم يَحْلُمُون إن غضبُوا
وأنَّهُمْ سَادَةُ الملُوك ولا يَصْلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ٥
والثاني : أنَّهُ مفعولٌ من أجله، وعلى هذا فالمفعولُ به محذوف، تقديره : وما نقموا منهم الإيمان إلاَّ لأجل إغناء الله إيَّاهم. وقد تقدَّم الكلامُ على " نَقِمَ " [ الأعراف : ١٢٦ ].
قيل : إن مولى الجلاس قتل، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى.
وقال الكلبيُّ : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنكٍ من العيشِ فلمَّا قدمَ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم٦.
قوله :﴿ فَإِن يَتُوبُواْ ﴾ أي : من نفاقهم :﴿ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا ﴾ أي : يعرضوا عن التوبة ﴿ يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا ﴾ بالخزي، وفي ﴿ الآخرة ﴾ بالنَّارِ ﴿ وَمَا لَهُمْ ﴾ في الأَرض ﴿ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أي : أنَّ عذاب الله إذا حق لم ينفعه وليّ ولا نصير.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٢٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٦٣) وزاد نسبته إلى الطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١١-٣١٢) عن الكلبي والرازي في "التفسير الكبير" (١٦/١٠٨)..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٢)..
٤ ينظر: العمدة لابن رشيق ٢/٤٩، والبحر ٥/٧٤، واللسان (نحل) والتهذيب ٥/٣٦٦ نما، والدر المصون ٣/٤٨٥..
٥ البيتان لعبيد الله بن قيس الرقيات. ينظر: ديوانه ٤، وطبقات فحول الشعراء ٥٣٣، ومجاز القرآن ١/١٧٠، والأغاني ٤/١٦٠، وغريب القرآن ١٩٠، واللسان نقم، والتهذيب ٩/٢٠٢ (نقم)، والبحر المحيط ٥/٧٤، وزاد المسير ٣/٤٧١، والخزانة ٧/٢٨٨، والدر المصون ٣/٤٨٥..
٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٢) والرازي في "التفسير الكبير" (١٦/١٠٩)..
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ﴾ الآية.
" عاهد الله " فيه معنى القسم، فلذلك أجيب بقوله :" لنصَّدقنَّ "، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، و " اللاَّم " للتوطئةِ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له.
وقال أبُو البقاءِ١ : فيه وجهان :
أحدهما : تقديره :" عاهد، فقال : لئِنْ آتَانَا ".
والثاني : أن يكون " عاهد " بمعنى : قال، فإنَّ العهد قول. ولا حاجة إلى هذا.
قوله :﴿ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ ﴾ قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة. والأعمش٢ بالخفيفة.
قال الزجاج الأصل :" لنتَصدَّقنَّ "، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد، لقربها منها.
قال الليثُ : المُتصدق : المعطي، والمُتصدق : السائل. قال الأصمعيُّ، والفرَّاءُ : هذا خطأ، فالمتصدق هو المعطي، قال تعالى :﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين ﴾ [ يوسف : ٨٨ ] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين ؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال :﴿ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي ﴾ [ التوبة : ٦٢ ] ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات ﴾ [ التوبة : ٥٨ ] ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ﴾ [ التوبة : ٤٩ ] ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ ﴾ [ التوبة : ٧٥ ].
والمشهور في سبب نزول هذه الآية : ما روى أبو أمامة قال : جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ " ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال :" أمّا لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ ".
ثمَّ راجعه بعد ذلك، فقال : يا رسول الله : ادعُ الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً " قال : فاتَّخذ غنماً ؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويصلي في غنمة سائر الصلوات، ثم كثُرتْ ونمتْ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة ؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار، فذكرهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال :" ما فعل ثعلبةُ ؟ ".
قالوا : يا رسول الله ؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ويْحَ ثَعلبةَ " فأنزل الله تعالى آية الصدقات ؛ فبعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني سليم، ورجلاً من جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها، وقال لهما :" مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ، فخذا صدقاتهما " فخرجا حتى أتيا ثعلبة ؛ فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : هذه إلاَّ الجزية، ما هذه إلاَّ أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة، ثم استقبلهما بها، فلمَّا رأياها قالا : ما هذه عليك ؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة، فمرَّا على الناس، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال : أروني كتابكما ؛ فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية، اذهبا حتَّى أرى رأيي، قال فأقبلا، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلماه : يا ويْحَ ثعلبةَ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ﴾ الآية على قوله :﴿ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ [ التوبة : ٧٧ ] وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أقارب ثعلبةَ ؛ فسمع ذلك، فخرج حتَّى أتاهُ فقال : ويْحَكَ يا ثعلبة، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل صدقته، فقال :" إنَّ الله مَنَعنِي أن أقبلَ مِنْكَ صدقَتكَ " فجعل يَحثُو التُّرابَ على رأسِهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد أمرتُك فلمْ تُطِعْنِي " ؛ فرجع إلى منزله، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى أبا بكر بصدقته ؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - فقبض أبو بكر، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثمَّ لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبةُ في خلافه عثمان٣.
وقال ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بن جبير، وقتادةُ : أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار ؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، وتصدقت منه، ووصلت منه القرابة، فمات ابن عمٍّ له، فورث منه مالاً، فلم يف بما قال ؛ فأنزل الله هذه الآية٤.
وقال الحسن ومجاهدٌ : نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ، ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ، فلما رزقهما بخلا به. والمشهورُ الأول٥.
فإن قيل : إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة ؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه ؟.
فالجواب : لا يبعد أن يقال : إنَّ الله تعالى منع الرسول - عليه الصلاة والسلام - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره، فلا يمتنع عن أداء الصدقات، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص، وأعلم الله الرسول بذلك ؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه ؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاو والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ.
فإن قيل : المنافق كافرٌ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله.
فالجواب : أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام ؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام -، كان كافراً.
وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع ؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً، ثم لمَّا بخل بالمال، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله :﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً ﴾ [ التوبة : ٧٨ ].
فإن قيل : هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان، أو يكفي النِّيَّة ؟.
فالجواب : قال بعضهم : تكفي النيةُ، وأن قوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ﴾ [ التوبة : ٧٥ ] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله :﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ﴾ [ التوبة : ٧٨ ]. وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان، لقوله عليه الصلاة والسلام :" إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل " وأيضاً فقوله ﴿ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ﴾ يشعر ظاهره بالقول باللسانِ.
فإن قيل : المراد من الصدقة إخراج المال، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان :
قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة، والنفقات الواجبةِ.
وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور.
فقوله :" لنصَّدَّقنَّ " هل يتناولُ الأقسام الثلاثة، أو لا ؟
فالجوابُ : أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة، غير داخلة في الآية، لقوله :" بخلوا به " والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب ؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك، وتارك المندوب لا يذم.
بقي القسمان الواجبان ؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه ؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله ﴿ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ﴾ وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه.
فإن قيل : لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ.
فالجوابُ : قوله :" لنصَّدقنَّ " لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور ؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل، وهذا النذر لا يوجبُ الفور ؛ فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقته كما قالوا :﴿ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين ﴾ أي : في أوقات لزوم الصَّلاة ؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع، ويؤكد هذا ما روي في سبب النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ.

فصل


المرادُ من " الفضل " ههنا : إيتاء المالِ بأي طريق كان، إمَّا بتجارة، أو غنيمةٍ أو غير ذلك. والمرادُ ب " الصَّالحينَ " : الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف، فالصَّالح : من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير، ونحو ذلك.
١ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/١٨..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٢٩٣، المحرر الوجيز ٣/٦٢، البحر المحيط ٥/٧٥، الدر المصون ٣/٤٨٥..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٢٥-٤٢٦) والواحدي في "أسباب النزول" ص (١٩١-١٩٢) والبغوي في "تفسيره" (٢/٣١٢-٣١٣) والبيهقي في "دلائل النبوة" (٥/٢٨٩-٢٩١) من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة.
وذكره الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (٣/١٣٥): سنده ضعيف.
وقال ابن حجر "تخريج الكشاف" ص ٧٧: إسناده ضعيف جدا..

٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٢٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٦٨) وزاد نسبته إلى ابن حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٢٧) عن الحسن ومجاهد..
ثم قال تعالى :﴿ فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾.
قال الليثُ : يقال : أعقب فلاناً ندامةٌ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، قال الهذليُّ :[ الكامل ]
أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ١
ويقال : أكل فلانٌ أكلةً فأعقبتهُ سُقْماً، وأعقبه الله خيراً، والمعنى : أخلفهم في قلوبهم أي : صير عاقبة أمورهم النفاق، عاقبهم بنفاق في قلوبهم، يقال : عاقبته وأعقبته بمعنى.
١ ينظر: خزانة الأدب ١/٤٢٠، وشرح التصريح ٢/٦١، وشرح شواهد المغني ١/٢٦٢، والمقاصد النحوية ٣/٤٩٨، واللسان (عقب)، وأوضح المسالك ٣/١٩٧، وشرح الأشموني٢/٣٣١..

فصل


" فأعقبهم " فعل، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير ؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب ؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب ؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ، والجهل وجود، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود ؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق ؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً ؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً ؛ ولأنه تعالى قال :﴿ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ [ التوبة : ٧٧ ] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل، والتولي، والإعراض لصار تقدير الآية : فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وذلك لا يجوز ؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي، ومعلومٌ أنه كلام باطل ؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى ؛ فوجب إسناده إليه ؛ فصار المعنى : أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ، إنَّ معناه : أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى :﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ فالضميرُ في قوله :" يَلقَوْنَهُ " عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله :" فأعْقَبَهُمْ " مسنداً إلى اللهِ تعالى.
قال القاضي " المرادُ من قوله :﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ أي : فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي : حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة ". وهذا بعيدٌ ؛ لأنه عدولٌ عن الظَّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلاً عقلياً، قوبلوا بدليل عقلي. والله أعلم.

فصل


ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّ نقض العهد، وخلف الوعد، يورثُ النِّفاقَ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك، ويجتهد في الوفاءِ. ومذهب الحسنِ البصري : أنَّه يوجب النفاق لا محالة لهذه الآية، ولقوله عليه الصلاة والسلام :" ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنَّهُ مؤمنٌ، إذا حدَّث كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ " ١.
ونقل أن واصل بن عطاء قال : أتى الحسن رجلٌ فقال له : إن أولاد يعقوب حدَّثُوه في قولهم ﴿ فَأَكَلَهُ الذئب ﴾ [ يوسف : ١٧ ] فكذبوهُ، ووعدوه في قولهم :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ يوسف : ١٢ ] فأخلفوه، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه، فهل نحكمُ بكونهم منافقين ؟ قيل : فتوقف الحسن في مذهبه.
وفسَّر عمر بن عبيد الحديث فقال " إذا حدَّث عن الله كذب عليه، وعلى دينه، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرِّ فكان قلبه على خلاف لسانه ".
قوله :﴿ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ قال الجبائيُّ " تمسَّكُوا في إثبات رُؤية الله بقوله تعالى :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ ﴾ [ الأحزاب : ٤٤ ] قال : واللقاء ليس عبارة عن الرؤية، بدليل قوله في صفة المنافقين ﴿ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ وأجمعوا على أنَّ الكفَّار لا يرونه ؛ فدلَّ على أنَّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية.
ويؤيدُه قوله عليه الصلاة والسلام " من حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بهَا حق امرئ مُسلمٍ لقيَ الله وهُو عليه غَضبَانُ " ٢ وأجمعوا على أنَّ المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا ".
قال ابن الخطيب " وهذا دليلٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرُّؤيةِ في هذه الآية، وفي الخبر لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصُّور، كما إذا أدخلنا التَّخصيصَ في بعض العمومات لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا أن نُخَصّصَ جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك ".
قوله :﴿ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ أي : أنَّ الله أعقبهم ذلك النِّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد، وعلى كذبهم. وقرأ الجمهور " يَكْذبُونَ " مخففاً، وأبو٣ رجاء مثقلاً.
١ تقدم..
٢ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٤/١٨١) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٢٩٣، المحرر الوجيز ٣/٦٢، البحر المحيط ٥/٧٥، الدر المصون ٣/٤٨٥..
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ﴾ الآية.
قرأ الجمهور " يَعْلمُوا " بالياء من تحت. وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ، والحسنُ١، والسلمي بالخطاب، التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين والسِّر : ما ينطوي عليه صدورهم والنَّجْوَى : ما يفاوضُ فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم، مأخوذ من " النَّجْوِ " وهو الكلام الخفي كأنَّ المتناجين منعا إدخال غيرهما معهما، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [ مريم : ٥٢ ] وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً ﴾ [ يوسف : ٨٠ ] وقوله :﴿ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى ﴾ [ المجادلة : ٩ ]، والمعنى : أنَّ الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرَّءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتَّناجي فيما بينهم، مع علمهم بأنَّهُ تعالى يعلم ذلك من حالهم، كما يعلم الظَّاهر، وأنَّهُ يعاقب عليه كما يعاقب على الظَّاهر.
قال :﴿ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب ﴾ والعَلاَّمُ : مبالغة في العالم، والغيب : ما كان غَائِباً عن الخلق.
١ ينظر: الكشاف ٢/٢٩٣، المحرر الوجيز ٣/٦٢، البحر المحيط ٥/٧٥، الدر المصون ٣/٣٨٥..
قوله تعالى :﴿ الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ الآية.
في " الذين يَلْمِزُونَ " أوجه :
أحدها : أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ، أي : هم الذين.
الثاني : أّنَّه في محل رفع بالابتداء، و " مِنَ الُمؤمنينَ " حالٌ من " المطَّوِّعين ".
و " في الصَّدقاتِ " متعلق ب " يَلْمِزُونَ "، و " الَّذينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ " المُطَّوِّعينَ " أي : يَعيبُونَ المياسير، والفقراء. وقال مكيٌّ :" والَّذينَ " خفضٌ، عطفاً على " المُؤمنينَ " ولا يَحْسُن عطفهُ على " المُطَّوِّعين " ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد ؛ لأنَّ " فَيَسْخَرُونَ " عطف على " يَلْمِزُونَ " هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له، وهو عندي وهمٌ منه.
قال شهابُ الدِّين١ :" والأمر فيه كما ذكر، فإنَّ " المُطَّوِّعينَ " قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره ".
وقوله :" فَيَسْخرُونَ " نسقٌ على الصِّلةِ، وخبر المبتدأ : الجملةُ من قوله " سَخِرَ اللهُ منهُمْ " هذا أظهرُ إعراب قيل هنا.
وقيل :" والَّذينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ "، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله :﴿ سَخِرَ الله مِنْهُمْ ﴾، وهذا لا يكون، إلاَّ بأنْ كان " الَّذِينَ لا يَجِدُون " مُنافقينَ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين، كيف يسخرُ الله منهم ؟. وقيل :" والَّذِينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " المُؤمنينَ "، قاله أبُو البقاءِ.
قال أبُو حيَّان٢ :" وهُو بعيدٌ جدّاً ". ووجهُ بعده : أنَّه يفهمُ أنَّ " الَّذِينَ لا يجدُونَ " ليسوا مؤمنين ؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ، فكأنَّنهُ قيل : يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من هذين الصنفين : المؤمنين، والذين لا يجدُونَ فيكون " الَّذِينَ لا يجدون " مطَّوِّعين غير مؤمنين.
وقال أبُو البقاءِ٣ :" فِي الصَّدقاتِ " متعلقٌ ب " يَلمِزُونَ "، ولا يتعلَّق ب " المُطَّوِّعينَ " لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي. وهذا فيه نظر ؛ إذ قوله " مِنَ المؤمنينَ " حال، والحالُ ليست بأجنبيّ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن " يطَّوَّع " إنَّما يتعدى بالياءِ، لا ب " في " وكون " في " بمعنى " الباء " خلاف الأصل. وقيل :" فَيَسْخَرُونَ " خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم :" سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا ".
الثالث : أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال، بإضمار فعل يُفسِّره " سَخِرَ اللهُ منهُم " من طريق المعنى، نحو : عاب الذين يلمزُون، سخر الله منهم.
الرابع : أنْ ينصب على الشتم.
الخامس : أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في " سِرَّهُم ونجْواهُمْ ".
وقرئ٤ " يلْمُزون " بضم الميم، وقد تقدَّم أنَّها لغة، وقرأ الجمهور " جُهْدَهم " بضمِّ الجيمِ.
وقرأ ابنُ٥ هرمز وجماعة " جَهْدهم " بالفتح. فقيل : لغتان بمعنى واحد. وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ : الطَّاقةُ، قالهُ القتيبيُّ، وقيل : المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ : العملُ.
وقوله :﴿ سَخِرَ الله مِنْهُمْ ﴾ يحتملُ أن يكون خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً.

فصل


اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ.
قال المفسِّرون : حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الصَّدقةِ ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم، فقال : يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف درهم، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي.
فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم :" بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ، وفيمَا أمْسَكْتَ " ٦ فبارك اللهُ في مال عبد الرحمن، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات ؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر.
وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب، بصاعٍ من تمرٍ، وقال : يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي، وجئتُ بالآخر ؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصَّدقاتِ ؛ فلمزهم المنافقُون، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات ؛ فأنزل الله تعالى :" الَّذِينَ يلْمِزُون " أي : يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات، يعني : عبد الرحمن بن عوف وعاصماً، ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ أي : طاقتهم.
والجُهْدُ : شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ، والجهد بالفتح، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني : أبا عقيل :" فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ " يستهزئون منهم، ﴿ سَخِرَ الله مِنْهُمْ ﴾ أي : جازاهم على السخرية، وقال الأصمُّ : المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها ؛ فكان ذلك كالسخرية، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
١ ينظر: الدر المصون ٣/٤٨٦..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٧٧..
٣ ينظر: الإملاء ٢/١٩..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٢٩٣، المحرر الوجيز ٣/٦٣، البحر المحيط ٥/٧٦، الدر المصون ٣/٤٨٦..
٥ ينظر: السابق..
٦ تقدم تخريجه وهو حديث تصدق عبد الرحمن بن عوف بأمواله لنصرة جيش المسلمين..
قوله تعالى :﴿ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ عند نزول الآية في المنافقين، قالوا : يا رسول الله، استغفر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سأسْتغفرُ لَكُمْ " ؛ فنزل قوله تعالى :﴿ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] لفظه أمر، ومعناه خبر، تقديره : استغفرت لهم، أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم١.
قال الضحاك : لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله قد رخص لي فلأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم " فأنزل الله عز وجل ﴿ سواء عليهم أستغفرت أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ﴾ [ المنافقون : ٦ ] ﴿ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾٢.
قوله :﴿ سبعين مرة ﴾ منصوب على المصدر، كقولك : ضربته عشرين ضربة ؛ فهو لعدد مراته وقوله :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾ قد تقدَّم الكلام على هذا عند قوله :﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ﴾ [ التوبة : ٥٣ ] ؛ وأنَّهُ نظيرُ قوله :[ الطويل ]
أسِيئِي بِنَا أوْ أحْسِني لا مُسِيئةٌ لدَينَا ولا مقليَّةٌ إنْ تقَلَّتِ٣
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١١٦)..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٥)..
٣ تقدم..
قوله تعالى: ﴿فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ﴾ الآية.
«بِمَقْعدِهِم» متعلقٌ ب «فرح»، وهو يصلحُ لمصدر «قَعَدَ»، وزمانه ومكانه.
قال الجوهريُّ «قَعَدَ قُعُوداً ومَقْعَداً»، جَلس، وأقعَده غيره «والمخلف: المتروكُ، أي: خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمؤمنون، لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهادِ والمرادُ ب» المقعد «ههنا المصدر، أي؛ بقُعُودِهِمْ وإقامتهم بالمدينة. وقال ابنُ عبَّاسٍ: يريدُ: المدينة؛ فعلى هذا هو اسمُ مكانٍ.
فإن قيل: إنَّهم احتالُوا حتى تخلَّفُوا عن رسول الله؛ فكان الأولى أن يقال: فرح المتخلفون فالجوابُ من وجوه:
أحدها: أنَّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منع أقواماً من الخروج معه لعلمه أنَّهم يفسدون ويشوشون، وكان هذا في غزوة تبوك؛ فهؤلاء كانوا مخلَّفين لا متخلِّفين.
وثانيها: أنَّ أولئك المتخلفين صارُوا مخلفين في قوله بعد هذه الآية: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ [التوبة: ٨٣]، فلمَّا منعهم الله من الخروج صارُوا مخلفين.
وثالثها: أنَّ من يتخلَّف عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد خروجه إلى الجهاد، يوصف بأنَّه مخلف من حيث إنَّهُ لم ينهض، وبقي وأقام.
قوله: ﴿خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله»
مَقْعدِهِمْ «؛ لأنَّه في معنى تخلَّفوا، أي: تخلَّفوا خلاف رسول الله.
الثاني: أنَّ»
خلاف «مفعولٌ من أجله، والعامل فيه إمَّا» فَرِحَ «، وإمَّا» مَقْعَد «أي: فَرِحُوا؛ لأجل مخالفتهم رسول الله، حيثُ مضى هو للجهاد، وتخلَّفوا هم عنه، أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبريُّ، والزجاج، ومؤرِّج، وقطرُب، ويُؤيدُ ذلك قراءةُ من قرأ» خُلْف «بضم الخاء وسكون اللاَّم.
والثالث: أن ينتصب على الظرف، أي: بعد رسول الله، يقال: أقام زيد خلاف القوم، أي: تخلَّف بعد ذهابهم.
158
قال الأخفش وأبو عبيدة: إنَّ» خلافَ «بمعنى:» خَلْف «، وأنَّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه: بعد رسول الله. ويؤيده قراءة ابن عبَّاسٍ، وأبو حيوة، وعمرو بن ميمون» خَلْفَ «بفتح الخاءِ وسكون اللاَّمِ.
وعلى هذا القول، الخلاف: اسم للجهةِ المعينة كالخلف، وذلك أنَّ المتوجِّه إلى قُدَّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قُدَّامه في كونها جهة مُتوجِّهاً إليها، و»
خِلافَ «بمعنى» خَلْف «مستعمل، وأنشد أبو عبيدة للأحوص: [الكامل]
٢٨١٩ - عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا
وقول الآخر: [الطويل]
٢٨٢٠ - فَقُلْ للَّذِي يَبْقَى خلافَ الذي مَضَى تَأهَّبْ لأخْرَى مِثلهَا فكأنْ قَدِ
قوله تعالى: ﴿وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي: إنَّهم فرحوا بسبب التخلف، وكرهُوا الذهاب إلى الغزو.
واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة؛ لأجل إلفه البلدة، واستثنائه بأهله وولده، وكره الخروج إلى الغزو؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو المرادُ من قوله: ﴿لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر﴾، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ أي: يعلمون، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود، أي: بعد هذه الدَّار، دار أخرى، وبعد هذه الحياة حياة أخرى، وأيضاً هذه مشقة منقضية، وتلك مشقة باقية.
وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم: [الطويل]
٢٨٢١ - مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ
فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ
قوله تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرا﴾ الآية.
«قَلِيلاً»
، و «كَثِيراً» فيهما وجهان:
159
أظهرهما: أنَّهما منصوبان على المصدر، أي: ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً؛ فحذف الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه.
والثاني: أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي: زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً والأول أولى؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين: بلفظه ومعناه، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه، بل بهيئته الخاصَّةِ.
وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلاَّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، لقوله تعالى بعده ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.
قوله: «جَزَاءً» فيه وجهان:
الأول: قال الزَّجَّاج: إنَّه مفعولٌ لأجله، أي: سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم. و «بِمَا» متعلق ب «جزاء»، لتعديته به ويجوزث أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفته.
والثاني: أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: يُجْزونَ جزاءً. ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ في الدنيا من النِّفاق.
قوله تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله﴾ الآية.
«رَجَعَ» يتعدَّى كهذه الآية الكريمة، ومصدرُهُ: «الرَّجْع»، كقوله ﴿والسمآء ذَاتِ الرجع﴾ [الطارق: ١١]. ولا يتعدَّى، نحو: ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل. والمصدر: الرُّجوعُ، كالدُّخُولِ.
والمعنى: فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة، ومعنى «الرجع» مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعاً، كقولك: رددته رداً.
وقوله: ﴿إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾ إنَّما خصَّصَ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين، ﴿فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ﴾ معك في غزوة أخرى ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً﴾ في سفر، ﴿وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام، ونظيره قوله تعالى
﴿سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم﴾ [الفتح: ١٥] ﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ [الفتح: ١٥]، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ﴾ أي: لأنكم رضيتم ﴿بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ في غزوة تبوك.
قال أبُو البقاءِ: «أوَّل مرَّةٍ» ظرف. قال أبُو حيَّان «يعني ظرف زمان وهو بعيد».
160
قال شهابُ الدِّين «لأنَّ الظَّاهر منصوبةٌ على المصدر. وفي التفسير: أول خرجةٍ خرجها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالمعنى: أول مرَّة من الخروج».
قال الزمخشريُّ «فإن قلت:» مَرَّةٍ «نكرة، وضعت موضع المرات، للتفضيل، فلمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيل المضافُ إليها، وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرَّاتِ؟ قلت: أكثرُ اللُّغتين: أن يقال هند أكبرُ النساء، وهي أكبرهنَّ، ثم إنَّ قولك: هي كبرى امرأة، لا يكادُ يُعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة وآخر مرة».
والمعنى: أنَّ الحاجةَ في المرَّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلَّفْتُم عند مسيس الحاجة إلى حضُورِكُم؛ فبعد ذلك لا نقبلكم، ولا نلتفتُ إليكم.
قوله: «مَعَ الخالفين» هذا الظَّرفُ يجوز أن يكون متعلقاً ب «اقْعُدُوا»، ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال من فاعل «اقْعُدُوا». والخَالِفُ: المتخلِّفُ بعد القوم.
قال الأخفشُ، وأبو عبيده: «الخَالِفُونَ» جمع، واحدهم «خالف»، وهو من يخلف الرجل في قومه. والمعنى: مع الخالفينَ من الرِّجال الذين يخلفون في البيت، فلا يبرحون.
وقال الفرَّاءُ: المراد: ب «الخَالِفينَ»، يقالُ: عبد خالف، إذا كان مخالفاً. وقال الأخفشُ: فلان خالفةُ أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم، وقال الليثُ: يقال هذا رجل خالفةٌ، أي: مخالف كثير الخلاف، فإذا جمع قلت: الخالفُونَ. وقال الأصمعيُّ: الخالفُ: هو الفاسد، يقال: خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفاً، إذا فسد ومنه «خُلُوف فَمِ الصَّائمِ»، والمراد بهم: النِّساءُ والصبيانُ والرِّجالُ العاجزون؛ فلذلك جازَ جمعهُ للتَّغليب. وقال قتادةُ: الخَالِفُونَ: النِّسَاء «وهو مردودٌ، لأجْلِ الجمع. وقرأ عكرمة، ومالكُ بن دينارٍ» مَعَ الخَلِفينَ «مَقصُوراً من» الخَالِفِينَ «؛ كقوله: [الرجز]
٢٨٢٢ - مِثْلُ النَّقَا لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظِّلَلْ... وقوله: [الرجز]
٢٨٢٣ -...................... عَرِدَا............................. بَرِدَا
يريد:»
الظِّلال «و» عَرِدّا «: بَارِداً.
161
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم﴾ الآية.
» مِنْهُم «صفةٌ ل» أحَدٍ «، وكذلك الجملة من قوله:» مَاتَ «، في موضع جر أيضاً كأنه قيل: على أحدٍ منهم ميت، ويجوزُ أن يكون» مِنْهُم «حالاً من الضَّمير في» مَاتَ «أي: مات حال كونه منهم، أي: مُتَّصِفاً بصفة النِّفاقِ، كقولهم: أنت مني، يعني: على طريقتي و» أبَداً «ظرف منصوب بالنهي، وهذا الظَّرفُ متعلق ب» أحَد «، والتقدير: ولا تصل أبداً على أحدٍ منهم.

فصل


اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم، ويذلهم، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم. روى ابنُ عبَّاسٍ: أنَّه مات، ويقوم على قبره، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وطلب منه قميصه، ليكفن فيه؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني، فردَّه، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه، فقال عمرُ: لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام»
وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص، ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألفٌ.
فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لابنه: «صَلِّ عليْهِ واذْفِنْهُ»، فقال: إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ليصلِّي عليه؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين القبلة؛ لئلاَّ يصلي عليه، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها: آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق، ومنها: «آية تحريم الخمر» [المائدة: ٩٠]، ومنها: «آية تحويل القبلة» [البقرة: ١٤٢]، ومنها: آية أمر النِّساء بالحجاب، وهذه الآية؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً، ودرجة رفيعة في الدِّين، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً».
قال القرطبيُّ: إن قال قَائِلٌ، كيف قال له عمر: أتصلي عيه، وقد نهاكَ اللهُ أنْ
162
تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم؟ قيل له: يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث، وجاء: في أربع؛ فيكون هذا من ذاك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] الآية، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣] فإن قيل: كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره، وأنَّ صلاة الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له، وذلك محظورٌ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه؟.
فالجواب: لعلَّ السَّبب فيه، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - القميص الذي يمسّ جلده، ليدفن فيه، غلب على ظنّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه آمن؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر، وإيمان الكافر، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه، غلب على ظنِّه إسلامه؛ فبنى على هذا الظَّن، ورغب في الصلاة عليه، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه، وكان رجلاً طويلاً؛ فكساهُ عبد الله قميصه. وقيل: إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ: إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ، ولكنَّا ننقاد لك، فقال: لا، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً؛ فشكر رسولُ الله له ذلك. قال ابنُ عيينة: كانت له عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ.
وقيل: إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً، لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه، لهذا المعنى. وقيل: إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ كان من الصالحين؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل: لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ، فقيل لهذا الغرض، كما روي فيما تقدَّم، وقيل: إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] فامتنع من الصَّلاة عليه، لأمر الله تعالى، ودفع القميص رأفة ورحمة.
واعلم أنَّ قوله ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ يحتملُ تأبيد النَّفي، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيّاً دائماً.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾ وفيه وجهان:
163
الأول: قال الزَّجَّاجُ «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له» فمنع منه ههنا. الثاني: قال الكلبي: «لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره، ولا تتولّ دفنه»، من قولهم: قام فلانٌ بأمر فلان، إذا كفاه أمره، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه، والقيام على قبره بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
فإن قيل: الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر، فلما علل بكونه كافراً؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق؟.
فالجوابُ: أنَّ الكافر قد يكونُ عدلاً في دينه، وقد يكون فَاسِقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه، بالكذب، والخداع، والمكر، وهذه أمورٌ مستقبحةٌ في جميع الأديان، فالمنافقون لمَّا كانوا موصوفين بهذه الصفات، وصفهم الله تعالى بالفسقِ بعد أن وصفهُم بالكفر، تنبيهاً على أنَّ طريقة النِّفاق طريقة مذمُومة عند جميع العالم.
فإن قيل: قوله ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله﴾ صريح بأنَّ ذلك النَّهي معلّلٌ بهذه العلة، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى، وهو محال، فإنَّ حكم الله قديمٌ، وهذه العلة محدثة، وتعليل المحدث بالقديم محال.
فالجوابُ: أنَّ البحث في هذه المسألة طويل، وظاهرُ هذه الآية يدلُّ عليه.

فصل


قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ نصّ في الامتناع من الصلاة على الكُفَّار، وليس فيه دليل على الصَّلاة على المؤمنين، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين؟ فقيل: يُؤخذ؛ لأنَّه علَّل المنع من الصَّلاة على الكُفَّار لكفرهم لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾، فإذا زال وجبت الصَّلاةُ، لقوله تعالى ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥] يعني: الكفَّار؛ فدلَّ على أنَّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون.
وقيل: إنَّما تؤخذ الصَّلاة من دليلٍ خارج، وهو الأحاديث، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطابِ وتركه.

فصل


جمهورُ العلماءِ على أنَّ التكبير في الصَّلاة على المَيّت أربع تكبيرات. وقال ابنُ سيرين: كان التكبير ثلاثاً فزادُوا واحدةً، وعن ابن مسعود، وزيد بن أرقم، يكبر خَمْساً وعن عليٍّ: ست تكبيرات.
164

فصل


قال القرطبيُّ: ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالكٍ. وكذا أبو حنيفة والثوري، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذا صلَّيْتُم على المَيِّت فأخْلِصُوا له الدُّعاءِ» وذهب الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، ومحمدُ بنُ سلمة، وأشهب، وداوود: إلى أنه يقرأ بالفاتحة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صلاةَ لِمَنْ لا يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكتابِ».
والسُّنَّةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الرجل، وعند عجيزةِ المرْأةِ.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ﴾ الآية.
قيل: هذا تأكيدٌ للآيةِ السَّابقة. وقال الفارسيُّ: «ليست للتأكيد؛ لأنَّ تيكَ في قومٍ وهذه في آخرين، وقد تغاير لفظا الآيتين؛ فهنا» ولاَ «بالواو، لمناسبة عطف نَهْي على نَهْي قبله في قوله:» ولا تُصَلِّ.. ولا تَقُمْ «،» ولاَ تُعْجِبكَ «، فناسبَ ذلك» الواو «، وهناك ب» الفاء «، لمناسبة تعقيب قوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٥٤] أي: للإنفاق، فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ، فنهاهُ عن الإعجاب ب» فاء «التعقيب. وهنا» وأولاَدهُمْ «دون» لا «نهيٌ عن الإعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادة» لا «لأنَّه نهيٌ عن كل واحد واحد، فدلَّ مجموعُ الآيتين على النَّهي بالإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين».
قال ابنُ الخطيبِ «السَّبَبُ فيه: أنَّ مثل هذا التَّرتيب يبتدأُ فيه بالأدْنَى ثمَّ يترقَّى إلى الأشرف، فيقال: لا يُعْجِبُنِي أمر الأمير، ولا أمر الوزير، وهذا يدلُّ على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم».
وهنا قال «أن يُعذِّبَهُم»، وهناك قال «ليُعَذِّبَهُم»، فأتى ب «اللاَّم» المشعرة بالغلية ومفعول الإرادةِ محذوفٌ، أي: إنَّما يريد الله اختبارهم بالأموالِ والأولادِ - وأتى ب «أنْ» ؛ لأنَّ مصبَّ الإرادة التَّعذيبُ، أي: إنَّما يريد الله تَعْذيبَهُم، فقد اختلف مُتعلَّقُ الإرادة في الآيتين. هذا هو الظَّاهر. وقال ابنُ الخطيب «فائدته: التَّنبيه على أنَّ التعليلَ في أحكام الله تعالى محالٌ، وإنَّما ورد حرفُ التعليل زائداً ومعناه» أنْ «لقوله تعالى ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله﴾ [البينة: ٥]، أي:» وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله «. وهناك» فِي الحياةِ الدُّنْيَا «، وهنا
165
سقطت» الحَيَاة «، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدُّنْيَا وأنَّها لا تَسْتحق أن تُسمَّى حياة، لا سيما وقد ذُكرت بعد ذكر موتِ المنافقين؛ فناسبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة».
166
قوله تعالى :﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرا ﴾ الآية.
" قَلِيلاً "، و " كَثِيراً " فيهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهما منصوبان على المصدر، أي : ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً ؛ فحذف الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه.
والثاني : أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي : زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً والأول أولى ؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين : بلفظه ومعناه، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه، بل بهيئته الخاصَّةِ.
وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلاَّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، لقوله تعالى بعده ﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
قوله :" جَزَاءً " فيه وجهان :
الأول : قال الزَّجَّاج : إنَّه مفعولٌ لأجله، أي : سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم. و " بِمَا " متعلق ب " جزاء "، لتعديته به ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّه صفته.
والثاني : أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ، أي : يُجْزونَ جزاءً. ﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ في الدنيا من النِّفاق.
قوله تعالى :﴿ فَإِن رَّجَعَكَ الله ﴾ الآية.
" رَجَعَ " يتعدَّى كهذه الآية الكريمة، ومصدرُهُ :" الرَّجْع "، كقوله ﴿ والسماء ذَاتِ الرجع ﴾ [ الطارق : ١١ ]. ولا يتعدَّى، نحو :﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل. والمصدر : الرُّجوعُ، كالدُّخُولِ.
والمعنى : فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة، ومعنى " الرجع " مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال : رجعته رجعاً، كقولك : رددته رداً.
وقوله :﴿ إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ إنَّما خصَّصَ ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين، ﴿ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ ﴾ معك في غزوة أخرى ﴿ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً ﴾ في سفر، ﴿ وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً ﴾ وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم ؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عليه الصلاة والسلام، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام، ونظيره قوله تعالى ﴿ سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم ﴾ [ الفتح : ١٥ ] ﴿ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ﴾ [ الفتح : ١٥ ]، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله ﴿ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ ﴾ أي : لأنكم رضيتم ﴿ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ في غزوة تبوك.
قال أبُو البقاءِ :" أوَّل مرَّةٍ " ظرف. قال أبُو حيَّان١ " يعني ظرف زمان وهو بعيد ".
قال شهابُ الدِّين٢ " لأنَّ الظَّاهر منصوبةٌ على المصدر. وفي التفسير : أول خرجةٍ خرجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى : أول مرَّة من الخروج ".
قال الزمخشريُّ " فإن قلت :" مَرَّةٍ " نكرة، وضعت موضع المرات، للتفضيل، فلمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيل المضافُ إليها، وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرَّاتِ ؟ قلت : أكثرُ اللُّغتين : أن يقال هند أكبرُ النساء، وهي أكبرهنَّ، ثم إنَّ قولك : هي كبرى امرأة، لا يكادُ يُعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة وآخر مرة ".
والمعنى : أنَّ الحاجةَ في المرَّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلَّفْتُم عند مسيس الحاجة إلى حضُورِكُم ؛ فبعد ذلك لا نقبلكم، ولا نلتفتُ إليكم.
قوله :" مَعَ الخالفين " هذا الظَّرفُ يجوز أن يكون متعلقاً ب " اقْعُدُوا "، ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حال من فاعل " اقْعُدُوا ". والخَالِفُ : المتخلِّفُ بعد القوم.
قال الأخفشُ، وأبو عبيده :" الخَالِفُونَ " جمع، واحدهم " خالف "، وهو من يخلف الرجل في قومه. والمعنى : مع الخالفينَ من الرِّجال الذين يخلفون في البيت، فلا يبرحون.
وقال الفرَّاءُ : المراد : ب " الخَالِفينَ " " المخالفين "، يقالُ : عبد خالف، إذا كان مخالفاً. وقال الأخفشُ : فلان خالفةُ أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم، وقال الليثُ : يقال هذا رجل خالفةٌ، أي : مخالف كثير الخلاف، فإذا جمع قلت : الخالفُونَ. وقال الأصمعيُّ : الخالفُ : هو الفاسد، يقال : خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفاً، إذا فسد ومنه " خُلُوف فَمِ الصَّائمِ "، والمراد بهم : النِّساءُ والصبيانُ والرِّجالُ العاجزون ؛ فلذلك جازَ جمعهُ للتَّغليب. وقال قتادةُ : الخَالِفُونَ : النِّسَاء " ٣ وهو مردودٌ، لأجْلِ الجمع. وقرأ عكرمة، ومالكُ٤ بن دينارٍ " مَعَ الخَلِفينَ " مَقصُوراً من " الخَالِفِينَ " ؛ كقوله :[ الرجز ]
مِثْلُ النَّقَا لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظِّلَلْ٥
وقوله :[ الرجز ]
. . . عَرِدَا . . . بَرِدَا٦
يريد :" الظِّلال " و " عَرِدّا " : بَارِداً.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٨٢..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٤٨٨..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٨)..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٢٩٧، المحرر الوجيز ٣/٦٧، الدر المصون ٣/٤٨٨..
٥ ينظر: المحتسب ١/١٨١، ٢٩٩، والخصائص ٣/١٣٤، واللسان (طلل)، والبحر المحيط ٥/٨٣..
٦ ينظر: الخصائص ٢/٣٦٥، والمحتسب ١/٢٩٩، واللسان (برد)، (عرد)..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم ﴾ الآية.
" مِنْهُم " صفةٌ ل " أحَدٍ "، وكذلك الجملة من قوله :" مَاتَ "، في موضع جر أيضاً كأنه قيل : على أحدٍ منهم ميت، ويجوزُ أن يكون " مِنْهُم " حالاً من الضَّمير في " مَاتَ " أي : مات حال كونه منهم، أي : مُتَّصِفاً بصفة النِّفاقِ، كقولهم : أنت مني، يعني : على طريقتي و " أبَداً " ظرف منصوب بالنهي، وهذا الظَّرفُ متعلق ب " أحَد "، والتقدير : ولا تصل أبداً على أحدٍ منهم.

فصل


اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم، ويذلهم، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم. روى ابنُ عبَّاسٍ : أنَّه لما اشتكى عبد الله بن أبي ابن سلول، عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات، ويقوم على قبره، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه قميصه، ليكفن فيه ؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني، فردَّه، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه، فقال عمرُ : لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام " وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله ؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص، ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألفٌ.
فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه، فقال عليه الصلاة والسلام لابنه :" صَلِّ عليْهِ واذْفِنْهُ "، فقال : إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ، فقام صلى الله عليه وسلم، ليصلِّي عليه ؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ؛ لئلاَّ يصلي عليه، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال :﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾١، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر ؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها : آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق، ومنها :" آية تحريم الخمر " [ المائدة : ٩٠ ]، ومنها :" آية تحويل القبلة " [ البقرة : ١٤٢ ]، ومنها : آية أمر النِّساء بالحجاب، وهذه الآية ؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً، ودرجة رفيعة في الدِّين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :" لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً " ٢.
قال القرطبيُّ : إن قال قَائِلٌ، كيف قال له عمر : أتصلي عليه، وقد نهاكَ اللهُ أنْ تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم ؟ قيل له : يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده، كما قال : وافقت ربي في ثلاث، وجاء : في أربع ؛ فيكون هذا من ذاك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله :﴿ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] الآية، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [ التوبة : ١١٣ ] فإن قيل : كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره، وأنَّ صلاة الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له، وذلك محظورٌ ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه ؟.
فالجواب : لعلَّ السَّبب فيه، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - عليه الصلاة والسلام - القميص الذي يمسّ جلده، ليدفن فيه، غلب على ظنّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنه آمن ؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر، وإيمان الكافر، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه، غلب على ظنِّه إسلامه ؛ فبنى على هذا الظَّن، ورغب في الصلاة عليه، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه ؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه، فقيل : إن العباس عم الرسول –عليه الصلاة والسلام- لمّا أسر ببدر لم يجدوا له قميصا، وكان رجلاً طويلاً ؛ فكساهُ عبد الله قميصه. وقيل : إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ : إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ، ولكنَّا ننقاد لك، فقال : لا، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً ؛ فشكر رسولُ الله له ذلك. قال ابنُ عينية : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ.
وقيل : إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً، لقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ ﴾ [ الضحى : ١٠ ] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه، لهذا المعنى. وقيل : إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ كان من الصالحين ؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل : لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ، فقيل لهذا الغرض، كما روي فيما تقدَّم، وقيل : إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] فامتنع من الصَّلاة عليه، لأمر الله تعالى، ودفع القميص رأفة ورحمة.
واعلم أنَّ قوله ﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ يحتملُ تأبيد النَّفي، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيّاً دائماً.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ ﴾ وفيه وجهان :
الأول : قال الزَّجَّاجُ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له " فمنع منه ههنا. الثاني : قال الكلبي :" لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره، ولا تتولّ دفنه " ٣، من قولهم : قام فلانٌ بأمر فلان، إذا كفاه أمره، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه، والقيام على قبره بقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
فإن قيل : الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر، فلما علل بكونه كافراً ؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق ؟.
فالجوابُ : أنَّ الكافر قد يكونُ عدلاً في دينه، وقد يكون فَاسِقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه، بالكذب، والخداع، والمكر، وهذه أمورٌ مستقبحةٌ في جميع الأديان، فالمنافقون لمَّا كانوا موصوفين بهذه الصفات، وصفهم الله تعالى بالفسقِ بعد أن وصفهُم بالكفر، تنبيهاً على أنَّ طريقة النِّفاق طريقة مذمُومة عند جميع العالم.
فإن قيل : قوله ﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله ﴾ صريح بأنَّ ذلك النَّهي معلّلٌ بهذه العلة، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى، وهو محال، فإنَّ حكم الله قديمٌ، وهذه العلة محدثة، وتعليل المحدث بالقديم محال.
فالجوابُ : أنَّ البحث في هذه المسألة طويل، وظاهرُ هذه الآية يدلُّ عليه.

فصل


قال القرطبي٤ : قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ نصّ في الامتناع من الصلاة على الكُفَّار، وليس فيه دليل على الصَّلاة على المؤمنين، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين ؟ فقيل : يُؤخذ ؛ لأنَّه علَّل المنع من الصَّلاة على الكُفَّار لكفرهم لقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ ﴾، فإذا زال وجبت الصَّلاةُ، لقوله تعالى ﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٥ ] يعني : الكفَّار ؛ فدلَّ على أنَّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون.
وقيل : إنَّما تؤخذ الصَّلاة من دليلٍ خارج، وهو الأحاديث، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطابِ وتركه.

فصل


جمهورُ العلماءِ على أنَّ التكبير في الصَّلاة على المَيّت أربع تكبيرات. وقال ابنُ سيرين : كان التكبير ثلاثاً فزادُوا واحدةً، وعن ابن مسعود، وزيد بن أرقم، يكبر خَمْساً وعن عليٍّ : ست تكبيرات.

فصل


قال القرطبيُّ : ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالكٍ. وكذا أبو حنيفة والثوري، لقوله عليه الصلاة والسلام :" إذا صلَّيْتُم على المَيِّت فأخْلِصُوا له الدُّعاءِ " ٥ وذهب الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، ومحمدُ بنُ سلمة، وأشهب، وداوود : إلى أنه يقرأ بالفاتحة، لقوله عليه الصلاة والسلام :" لا صلاةَ لِمَنْ لا يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكتابِ " ٦.
والسُّنَّةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الرجل، وعند عجيزةِ المرْأةِ.
١ أخرجه البخاري (٨/١٨٤) كتاب التفسير: باب استغفر لهم أو لا تستغفر لهم... حديث (٤٦٧٠) ومسلم (٤/١٨٦٥) كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل عمر رضي الله عنه حديث (٢٥/٢٤٠٠) من حديث ابن عمر.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٧٥-٤٧٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل"..

٢ أخرجه الترمذي (٥/٥٧٨) كتاب المناقب: باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث (٣٦٨٦) بلفظ: لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطاب وقال الترمذي: حسن غريب..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٢٢)..
٤ ينظر: تفسير القرطبي ٨/١٤٠..
٥ أخرجه أبو داود (٣١٩٩) وابن ماجه (١٤٩٧) والبيهقي (٤/٤٠) وابن حبان (٧٥٥-موارد) من حديث أبي هريرة..
٦ تقدم..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ ﴾ الآية.
قيل : هذا تأكيدٌ للآيةِ السَّابقة. وقال الفارسيُّ :" ليست للتأكيد ؛ لأنَّ تيكَ في قومٍ وهذه في آخرين، وقد تغاير لفظا الآيتين ؛ فهنا " ولاَ " بالواو، لمناسبة عطف نَهْي على نَهْي قبله في قوله :" ولا تُصَلِّ. . ولا تَقُمْ "، " ولاَ تُعْجِبكَ "، فناسبَ ذلك " الواو "، وهناك ب " الفاء "، لمناسبة تعقيب قوله :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٤ ] أي : للإنفاق، فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ، فنهاهُ عن الإعجاب ب " فاء " التعقيب. وهنا " وأولاَدهُمْ " دون " لا " نهيٌ عن الإعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادة " لا " لأنَّه نهيٌ عن كل واحد واحد، فدلَّ مجموعُ الآيتين على النَّهي بالإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين ".
قال ابنُ الخطيبِ١ " السَّبَبُ فيه : أنَّ مثل هذا التَّرتيب يبتدأُ فيه بالأدْنَى ثمَّ يترقَّى إلى الأشرف، فيقال : لا يُعْجِبُنِي أمر الأمير، ولا أمر الوزير، وهذا يدلُّ على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم، وفي هذه الآية يدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم ".
وهنا قال " أن يُعذِّبَهُم "، وهناك قال " ليُعَذِّبَهُم "، فأتى ب " اللاَّم " المشعرة بالغلية ومفعول الإرادةِ محذوفٌ، أي : إنَّما يريد الله اختبارهم بالأموالِ والأولادِ - وأتى ب " أنْ " ؛ لأنَّ مصبَّ الإرادة التَّعذيبُ، أي : إنَّما يريد الله تَعْذيبَهُم، فقد اختلف مُتعلَّقُ الإرادة في الآيتين. هذا هو الظَّاهر. وقال ابنُ الخطيب " فائدته : التَّنبيه على أنَّ التعليلَ في أحكام الله تعالى محالٌ، وإنَّما ورد حرفُ التعليل زائداً ومعناه " أنْ " لقوله تعالى ﴿ وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله ﴾ [ البينة : ٥ ]، أي :" وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله ". وهناك " فِي الحياةِ الدُّنْيَا "، وهنا سقطت " الحَيَاة "، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدُّنْيَا وأنَّها لا تَسْتحق أن تُسمَّى حياة، لا سيما وقد ذُكرت بعد ذكر موتِ المنافقين ؛ فناسبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة ".
١ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٦/١٢٣..
قوله تعالى: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ الآية.
«إذَا» لا تقتضي تكراراً بوضعها، وإن كان بعضُ النَّاسِ فهم ذلك منها هنا، وقد تقدَّم ذلك أوَّل البقرة؛ وأنشد عليه: [البسيط]
٢٨٢٤ - إذَا وَجَدْتُ أوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي..............................
وأنَّ هذا إنَّما يُفهَمُ من القرائنِ، لا منْ وضع «إذَا».
قوله: «أَنْ آمِنُواْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها تفسيريةٌ؛ لأنَّه فيه تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه.
والثاني: أنَّها مصدريةٌ، على حذف حر الجرّ، أي: بأنْ آمنُوا.
وفي قوله: «استأذنك» التفاتٌ من غيْبَةٍ إلى خطابٍ، وذلك أنَّهُ قد تقدَّم لفظُ «رسُوله»، فلو جاء على الأصل لقيل: اسْتَأْذَنَهُ «.

فصل


اعلم أنَّهُ تعالى بيَّن في الآيات المتقدمة احتيال المنافقين في التَّخلف عن رسُول الله - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والقعود عن الغَزْوِ، وزاد ههنا، أنَّهُ متى نزلت أية فيها الأمر بالغزو مع الرسولِ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلُّف عن الغزو، وقالوا للرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ذَرْنَا نكُن مع القاعدين، أي: مع الضُّعفاء من النَّاس والسَّاكنين في البلد.
و»
السُّورة «يجوزُ أن يراد تمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كلِّه وبعضه وقيل: المرادُ ب» السُّورة «براءة؛ لأنَّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
قوله ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾.
166
الخَوالِفُ: جمع خالفٍ من صفة النِّساءِ، وهذه صفةُ ذمّ؛ كقول زهير: [الوافر]
٢٨٢٥ - ومَا أدْرِي وسَوْفَ إخَالُ أدْرِي أَقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ؟
فإنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ فحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ
وقال آخر: [الخفيف]
٢٨٢٦ - كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا وعَلَى الغَانياتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وقال النَّحَّاسُ» يجوزُ أن تكون الخوالف من صفة الرِّجالِ، بمعنى أنَّها جمعُ «خالفة» يقال: رجل خالفة، أي: لا خير فيه «. فعلى هذا يكونُ جمعاً للذكور، باعتبار لفظه. وقال بعضهم: إنَّه جمع» خالف «، يقال: رجل خالفٌ، أي: لا خير فيه. وهذا مردودٌ، فإنَّ» فواعِل «لا يكونُ جمعاً ل» فَاعلِ «، وصفاً لعاقل، إلاَّ ما شذَّ، من نحو: فَوَارِس، ونَواكِس وهَوالك.
ثم قال تعالى: ﴿وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: ٨٧] وقد تقدَّم الكلامُ في الطَّبْعِ والختم، أوَّل البقرة.
قوله تعالى: ﴿لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ الآية.
ومعنى هذا الاستدراك: أنَّه إن تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره: ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩] وقوله: ﴿فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار﴾ [فصلت: ٣٨]، ولمَّا وصفهم بالمُسارعةِ إلى الجهادِ، ذكر ما حصل لهم من الفوائدِ، وهي أنواع، أوَّلها: قوله ﴿وأولئك لَهُمُ الخيرات﴾ والخيراتُ: جمع خَيْرة، على»
فَعْلة «بكسون العين، وهو المُسْتَحْسَنُ من كُلِّ شيءٍ، وغلبَ استعماله في النِّساء، ومنه قوله تعالى:
﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ [الرحمن: ٧٠] ؛ وقول الشَّاعر: [الكامل]
٢٨٢٧ - ولقَدْ طَعَنْتُ مَجامِعَ الرَّبَلاتِ ربلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملكاتِ
قال المُفسَّرونَ: هي الجواري الحسان والجنَّة. وقال ابنُ عبَّاس: «الخيْرَاتُ»
لا يعلم معناهُ إلاَّ الله، كما قال جلَّ ذكرهُ ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] ٍ. وقيل: المرادُ: ب «الخَيْرَات» الثَّواب.
167
وثانيها: قوله: ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾، والمرادُ منه: التخلص من العقاب.
وثالثها: قوله: ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يحتملُ أن تكون هذه الجنات كالتَّفسير للخيراتِ والفلاحِ، ويحتملُ أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة، والفلاح على منافع الدُّنيا، كالغزو، والثروة، والقدرةِ، والغلبةِ، و «الفَوزُ العظيمُ» عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه، ودرجة عالية.
قوله تعالى: ﴿وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب﴾ الآية.
لمَّا شرح أحوال المنافقين الذين كانُوا في المدينة، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب.
قرأ الجمهور «المُعذِّرُونَ» بفتح العين وتشديد الذَّال، وهي تحتمل وجهين:
أن يكون وزنه «فعَّل» مضعّفاً، ومعنى التَّضعيف فيه التكليف، والمعنى: أنه توهَّم أنَّ لهُ عُذراً، ولا عذر لهُ.
والثاني: أن يكون وزنه «افْتَعَل»، والأصلُ: «اعتذرَ»، فأدغمت التاءُ في الذال بأن قلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى السَّاكن قبلها، وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جُبير «المُعْتَذِرُونَ» على الأصل، وإليه ذهب الأخفشُ، والفرَّاءُ وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزَّجَّاجُ، وابن الأنباري، والاعتذار قد يكُون بالكذبِ، كما في قوله ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٩٤]، وكان ذلك الاعتذار فاسداً، لقوله: «لا تَعْتَذِرُوا»، وقد يكون بالصِّدقِ، كقول لبيد: [الطويل]
٢٨٢٨ -........................... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقدِ اعتذرْ
يريد: فقد جاء بعُذْرٍ.
وقرأ زيد بن عليّ، والضحاكُ، والأعرجُ، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضاً، ويعقوب، والكسائي «المُعْذرُونَ» بسكون العين وكسر الذَّال مخففة من أعْذَر، يُعْذِر ك «أكْرَم، يُكْرِم»، وهم المبالغون في العُذْرِ.
وقرأ مسلمةُ «المُعَّذِّرُون» بتشديد العين والذال، من «تعذَّرَ» بمعنى اعْتذرَ.
168
قال أبُو حاتمٍ: أراد «المتعذَّرون» والتاء لا تدغم في العين، لبُعد المخارجِ وهي غلطٌ منه، أو عليه.
قوله: «ليُؤذنَ» متعلقٌ ب «جَاءَ» وحذفَ الفاعلُ، وأقيمَ الجارُّ مقامه، للعلم به، أي: ليأذن لهم الرسول.

فصل


أمَّا قراءةُ التخفيف فهم الكاذبون في العذر، وأمَّا قراءة التشديد، فمحتملة لأن يكونُوا صادقين، وأن يكُونُوا كاذبينَ. قال ابنُ عبَّاسٍ «هم الَّذِين تخلَّفُوا بعذرٍ بإذن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وهو قول بعض المفسرين أيضاً، قال: المعذرون، كانوا صادقين؛ لأنَّه تعالى لمَّا ذكرهم قال بعدهم ﴿وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾، فلمَّا ميَّزهم عن الكاذبين دلَّ على أنَّهم لَيْسُوا كاذبينَ.
وقال الضَّحَّاكُ: هُم رهطُ عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دفاعاً عن أنفسهم، فقالُوا: يا نبيَّ الله: إنْ نحنُ غزونَا معك أغارت أعرابُ طيىءٍ على حلائلنا، وأولادنا، ومواشينا، فقال لهم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نَبَّأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم.
وروى الواحديُّ عن أبي عمرو: أنَّهُ لمَّا قيل له هذا الكلام قال: إنَّ أقواماً تكلَّفُوا عُذْراً بباطل فهمُ الذين عناهم بقوله: «وَجَآءَ المعذرون»، وتخلَّف آخرون لا بعُذر ولا بشبهةِ عذرٍ جراءة على الله تعالى؛ فهم المرادون بقوله ﴿وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾، فأوعدهُم بقوله: ﴿سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ في الدُّنيا بالقتلِ، وفي الآخرة بالنَّارِ.
وإنَّما قال «مِنْهُم» ؛ لأنَّه تعالى كان عالماً بأنَّ بعضهم سيؤمن، فذكر بلفظة «مِنْ» الدَّالة على التَّبعيض.
وقرأ الجمهور «كَذبُوا» بالتَّخفيف، أي: كذبُوا في أيمانهم. وقرأ الحسنُ في المشهور عنه وأبيٌّ، وإسماعيل «كذَّبُوا» بالتَّشديد، أي: لَمْ يُصدِّقُوا ما جاء به الرَّسولُ عن ربِّه ولا امتثلوا أمره.
169
قوله ﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف ﴾.
الخَوالِفُ : جمع خالفٍ من صفة النِّساءِ، وهذه صفةُ ذمّ ؛ كقول زهير :[ الوافر ]
ومَا أدْرِي وسَوْفَ إخَالُ أدْرِي أَقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ ؟
فإنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ فحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ١
وقال آخر :[ الخفيف ]
كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا وعَلَى الغَانياتِ جَرُّ الذُّيُولِ٢
وقال النَّحَّاسُ٣ " يجوزُ أن تكون الخوالف من صفة الرِّجالِ، بمعنى أنَّها جمعُ " خالفة " يقال : رجل خالفة، أي : لا خير فيه ". فعلى هذا يكونُ جمعاً للذكور، باعتبار لفظه. وقال بعضهم : إنَّه جمع " خالف "، يقال : رجل خالفٌ، أي : لا خير فيه. وهذا مردودٌ، فإنَّ " فواعِل " لا يكونُ جمعاً ل " فَاعلِ "، وصفاً لعاقل، إلاَّ ما شذَّ، من نحو : فَوَارِس، ونَواكِس وهَوالك.
ثم قال تعالى :﴿ وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [ التوبة : ٨٧ ] وقد تقدَّم الكلامُ في الطَّبْعِ والختم، أوَّل البقرة.
١ تقدم..
٢ البيت لعمر بن أبي ربيعة ينظر: ديوانه (٣٣٨)، البحر ٥/٨٥، إعراب النحاس ٢/٢٢٩، ٢٣٠، الدر المصون ٣/٤٩٠..
٣ ينظر: إعراب القراءات للنحاس ٢/٣٤..
قوله تعالى :﴿ لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ الآية.
ومعنى هذا الاستدراك : أنَّه إن تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو ؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [ الأنعام : ٨٩ ] وقوله :﴿ فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار ﴾ [ فصلت : ٣٨ ]، ولمَّا وصفهم بالمُسارعةِ إلى الجهادِ، ذكر ما حصل لهم من الفوائدِ، وهي أنواع، أوَّلها : قوله ﴿ وأولئك لَهُمُ الخيرات ﴾ والخيراتُ : جمع خَيْرة، على " فَعْلة " بكسون العين، وهو المُسْتَحْسَنُ من كُلِّ شيءٍ، وغلبَ استعماله في النِّساء، ومنه قوله تعالى :
﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ [ الرحمن : ٧٠ ] ؛ وقول الشَّاعر :[ الكامل ]
ولقَدْ طَعَنْتُ مَجامِعَ الرَّبَلاتِ ربلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملكاتِ١
قال المُفسَّرونَ : هي الجواري الحسان والجنَّة. وقال ابنُ عبَّاس :" الخيْرَاتُ " لا يعلم معناهُ إلاَّ الله، كما قال جلَّ ذكرهُ ﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾٢ [ السجدة : ١٧ ]. وقيل : المرادُ : ب " الخَيْرَات " الثَّواب.
وثانيها : قوله :﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾، والمرادُ منه : التخلص من العقاب.
وثالثها : قوله :﴿ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾.
١ البيت لرجل من بني عدي جاهلي. ينظر: مجاز القرآن ١/٢٦٧، ٢/٢٤٦ جامع البيان ١٤/٤١٥، التهذيب ٧/٥٤٦، الدر ٣/٤٩٠..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٨)..
﴿ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ يحتملُ أن تكون هذه الجنات كالتَّفسير للخيراتِ والفلاحِ، ويحتملُ أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة، والفلاح على منافع الدُّنيا، كالغزو، والثروة، والقدرةِ، والغلبةِ، و " الفَوزُ العظيمُ " عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه، ودرجة عالية.
قوله تعالى :﴿ وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب ﴾ الآية.
لمَّا شرح أحوال المنافقين الذين كانُوا في المدينة، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب.
قرأ الجمهور " المُعذِّرُونَ " بفتح العين وتشديد الذَّال، وهي تحتمل وجهين :
أن يكون وزنه " فعَّل " مضعّفاً، ومعنى التَّضعيف فيه التكليف، والمعنى : أنه توهَّم أنَّ لهُ عُذراً، ولا عذر لهُ.
والثاني : أن يكون وزنه " افْتَعَل "، والأصلُ :" اعتذرَ "، فأدغمت التاءُ في الذال بأن قلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى السَّاكن قبلها، وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جُبير " المُعْتَذِرُونَ " على الأصل، وإليه ذهب الأخفشُ، والفرَّاءُ وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزَّجَّاجُ، وابن الأنباري، والاعتذار قد يكُون بالكذبِ، كما في قوله ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٩٤ ]، وكان ذلك الاعتذار فاسداً، لقوله :" لا تَعْتَذِرُوا "، وقد يكون بالصِّدقِ، كقول لبيد :[ الطويل ]
. . . *** ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقدِ اعتذرْ١
يريد : فقد جاء بعُذْرٍ.
وقرأ زيد بن عليّ٢، والضحاكُ، والأعرجُ، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضاً، ويعقوب، والكسائي " المُعْذرُونَ " بسكون العين وكسر الذَّال مخففة من أعْذَر، يُعْذِر ك " أكْرَم، يُكْرِم "، وهم المبالغون في العُذْرِ.
وقرأ مسلمةُ٣ " المُعَّذِّرُون " بتشديد العين والذال، من " تعذَّرَ " بمعنى اعْتذرَ.
قال أبُو حاتمٍ : أراد " المتعذَّرون " والتاء لا تدغم في العين، لبُعد المخارجِ وهي غلطٌ منه، أو عليه.
قوله :" ليُؤذنَ " متعلقٌ ب " جَاءَ " وحذفَ الفاعلُ، وأقيمَ الجارُّ مقامه، للعلم به، أي : ليأذن لهم الرسول.

فصل


أمَّا قراءةُ التخفيف فهم الكاذبون في العذر، وأمَّا قراءة التشديد، فمحتملة لأن يكونُوا صادقين، وأن يكُونُوا كاذبينَ. قال ابنُ عبَّاسٍ " هم الَّذِين تخلَّفُوا بعذرٍ بإذن رسُول الله صلى الله عليه وسلم " ٤ وهو قول بعض المفسرين أيضاً، قال : المعذرون، كانوا صادقين ؛ لأنَّه تعالى لمَّا ذكرهم قال بعدهم ﴿ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾، فلمَّا ميَّزهم عن الكاذبين دلَّ على أنَّهم لَيْسُوا كاذبينَ. وقال الضَّحَّاكُ : هُم رهطُ عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن أنفسهم، فقالُوا : يا نبيَّ الله : إنْ نحنُ غزونَا معك أغارت أعرابُ طيىءٍ على حلائلنا، وأولادنا، ومواشينا، فقال لهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم قد نَبَّأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم٥.
وروى الواحديُّ عن أبي عمرو : أنَّهُ لمَّا قيل له هذا الكلام قال : إنَّ أقواماً تكلَّفُوا عُذْراً بباطل فهمُ الذين عناهم بقوله :" وَجَآءَ المعذرون "، وتخلَّف آخرون لا بعُذر ولا بشبهةِ عذرٍ جراءة على الله تعالى ؛ فهم المرادون بقوله ﴿ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾، فأوعدهُم بقوله :﴿ سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ ﴾ في الدُّنيا بالقتلِ، وفي الآخرة بالنَّارِ.
وإنَّما قال " مِنْهُم " ؛ لأنَّه تعالى كان عالماً بأنَّ بعضهم سيؤمن، فذكر بلفظة " مِنْ " الدَّالة على التَّبعيض.
وقرأ الجمهور " كَذبُوا " بالتَّخفيف، أي : كذبُوا في أيمانهم. وقرأ الحسنُ٦ في المشهور عنه وأبيٌّ، وإسماعيل " كذَّبُوا " بالتَّشديد، أي : لَمْ يُصدِّقُوا ما جاء به الرَّسولُ عن ربِّه ولا امتثلوا أمره.
١ ينظر: ديوانه ص (٢١٤)، الأشباه والنظائر ٧/٩٦، الأغاني ١٣/٤٠، بغية الوعاة ١/٤٢٩ خزانة الأدب ٤/٣٣٧، ٣٤٠، ٤٣٢، الخصائص ٣/٢٩، الدرر ٥/١٥، شرح المفصل ٣/١٤، العقد الفريد ٢/٧٨، ٣/٥٧، المقاصد النحوية ٣/٣٧٥، المنصف ٣/١٣٥ أمالي الزجاجي ص٦٣، شرح الأشموني ٢/٣٠٧، شرح عمدة الحافظ ص (٥٠٧)، المقرب ١/٢١٣، همع الهوامع ٢/٤٩، ١٥٨، اللسان (غدر)..
٢ ينظر: حجة القراءات ص (٣٢١)، إتحاف ٢/٩٦، الكشاف ٢/٣٠٠، المحرر الوجيز ٣/٦٩، البحر المحيط ٥/٨٦، الدر المصون ٣/٤٩٠..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٣٠٠، المحرر الوجيز ٣/٦٩، البحر المحيط ٥/٨٦، الدر المصون ٣/٤٩٠..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٨)..
٥ انظر المصدر السابق. وقرأ بها كذلك نوح..
٦ ينظر: الكشاف ٢/٣٠٠، المحرر الوجيز ٣/٧٠، البحر المحيط ٥/٨٧، الدر المصون ٣/٤٩١..
ثمَّ ذكر أهل العذر فقال: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ: يعني: الزَّمنى، والمشايخ والعجزة.
وقيل: هم الصُّبيان. وقيل: النِّسوان. ﴿وَلاَ على المرضى﴾ وهم أصحاب العمى، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة، ﴿وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾ يعني: الفقراء؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين، «حَرَجٌ» إثم. وقيل: ضيق عن القعود في الغزو. ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً، فقال ﴿إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. قرأ أبو حيوةَ: «نَصَحُوا اللهَ» بغير لام. وقد تقدَّم أن «نَصَحَ» يتعدَّى بنفسه وباللامِ. والنُّصح: إخلاص العملِ من الغِشّ. ومنه: التَّوبة النصُوح. قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي: أخلصه له. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الدِّينُ النَّصيحَةُ» ثلاثاً. قالوا لمنْ؟ قال: «للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ».
قال العلماءُ: النَّصيحة للهِ: إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص، والرَّغبة في محابه، والبُعْد من مساخطه، والنَّصيحة لرسوله: التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنَّته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والنفقة فيها، والذب عنها، ونشرها، والدُّعاء إليها، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة، وكذا النصح لكتاب الله قراءته، والتفقه فيه، والذَّب عنه، وتعليمه وإكرامه، والتخلُّق به.
والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحقِّ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين، ولزوم طاعتهم، والقيام بواجب حقهم. وأمَّا النصحُ للعامَّةِ: فهو ترك معاداتهم وإرشادهم، وحب الصَّالحين منهم، والدعاء لجميعهم، وإرادة الخير لكافتهم. والمعنى: أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف، ولا يثيروا الفتنَ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، ويخلصوا الإيمان والعمل لله، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ.
170
ثم قال تعالى: ﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ﴾ فقوله «مِنْ سبيلٍ» فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي، ويجوز أن يكون مبتدأ، والجار قبله خبره. وعلى كلا القولين ف «مِنْ» مزيدةٌ فيه، أي: ما على المحسنين سبيل. والمعنى: أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد.
﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. قال قتادةُ: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم، وكان ضريراً.

فصل


قال بعضهم: في هذه الآية نوعٌ من البديع، يُسمَّى التلميح، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ، أو مثل سائرٍ، أو شعرٍ نادرٍ، في فحوى كلامك من غير ذكره؛ ومنه قوله: [البسيط]
٢٨٢٩ - اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ
يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه: «اليوم خَمْرٌ، وغداً أمرٌ».
وقول الآخر: [الطويل]
٢٨٣٠ - فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ؟
يشير إلى قصَّة يوشع عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، واستيقانه الشَّمس.
وقول الآخر: [الطويل]
٢٨٣١ - لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ
أشار إلى البيت المشهور: [البسيط]
٢٨٣٢ - المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ
فكأنه قوله: ﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ﴾ اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه. ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله: «من غير ذكره». ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً.
171

فصل


اختلفوا في قوله: ﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ﴾ هل يفيدُ العموم؟ فقال بعضهم: لا؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم. وقال آخرون: بلى؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها، كان من المسلمين، فاقتضت نفي جميع المسلمين؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ، إلاَّ بدليلٍ منفصل، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة، إلى أن يرد نص خاص.
قوله: ﴿وَلاَ عَلَى الذين﴾. فيه أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على «الضُّعفاء»، أي: ليس على الضعفاءِ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ، فيكونون داخلين في خبر «ليس» مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها، وهو «حَرَجٌ».
الثاني: أن يكون معطوفاً على «المُحْسنينَ» فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله: «مِنَ سبيلٍ»، فإنَّ «مِنْ سبيلٍ» يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون اسم «ما» الحجازية، و «مِنْ» مزيدةٌ في الوجهين.
الثالث: أن يكون «ولا علَى الَّذِينَ» خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره: ولا على الذين إذا ما أتوكَ.. إلى آخر الصلة، حرجٌ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبُو البقاءِ. ولا حاجةَ إليه، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ، أعني قوله: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ﴾، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله: ﴿وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾ وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم، وألا يكونوا مندرجين، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً. وقرأ معقل بنُ هارون «لنَحْملَهُمْ» بنون العظمة، وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيب: قلت: لا أجدُ ما يحملكم عليه الله.
قوله: «قُلْتَ» فيه أربعة أوجهٍ، أحدها: أنَّهُ جواب «إذا» الشَّرطيَّة، و «إذَا» وجوابها في موضع الصِّلةِ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية، وعلى هذا؛ فيكونُ قوله: «تولَّوا» جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال: ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله: «تَوَلَّوْا».
الثاني: أنَّه في موضع نصب على الحال، من «أتوكَ»، أي: إذَا أتوكَ، وأنت قائلٌ: لا أجدُ ما أحملكم عليه، و «قَدْ» مقدرة، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً،
172
كقوله: ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: ٩٠] في أحد أوجهه كما تقدَّم، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ.
الثالث: أن يكون معطوفاً على الشَّرط؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير: وقلت، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني، وتبعه ابنُ عطيَّة، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي: فقلت.
الرابع: أن يكون مستأنفاً. قال الزمخشريُّ «فإن قلت: هل يجُوزُ أن يكون قوله:» قلت لا أجدُ «استئنافاً مثله؟ - يعني مثل: ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ [التوبة: ٩٣]- كأنَّه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا، فقيل: ما لهُم تولَّوا باكينَ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء، كالاعتراض؟ قلتُ: نعم، ويحسنُ» انتهى.
قال أبُو حيَّان «ولا يجوزُ، ولا يحسن في كلام العربِ، فكيف في كلام الله؟ وهو فهم أعجمي» قال شهابُ الدين: وما أدري ما سببُ منعه، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهم ذلك سببٌ في بكائهم؛ فحسن أن يجعل قوله: ﴿قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ﴾ جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في «قُلْتَ» يكون جواب الشَّرط قوله: «تولَّوا»، وقوله «لِتحْمِلهُمْ» علة ل «أتَوْكَ». وقوله: «لا أجدُ» هي المتعديةُ لواحدٍ؛ لأنَّها من «الوُجْد»، و «مَا» يجوز أن تكون موصولةً، أو موصوفةً.

فصل


قال أبُو العباس المقرىء: ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه:
الأول: بمعنى الانصراف، قال تعالى: ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ﴾ [التوبة: ٩٢] ومثله قوله تعالى ﴿ثُمَّ تولى إِلَى الظل﴾ [القصص: ٢٤] أي: انصرف.
الثاني: بمعنى: «أبَى»، قال تعالى ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم﴾ [المائدة: ٤٩] أي: أبَوْا أن يؤمنوا؛ ومثله قوله تعالى
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم﴾ [النساء: ٨٩].
الثالث: بمعنى: «أعرض» قال تعالى ﴿وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [النساء: ٨٠].
الرابع: الإعراض عن الإقبال، قال تعالى ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار﴾ [الأنفال: ١٥].
قوله: ﴿وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تولَّوا». قال الزمخشريُّ «تفيضُ من الدَّمع، كقولك: تفيض دمعاً». وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله ﴿ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ [المائدة: ٨٣] وأنَّهُ جعل «من الدَّمع» تمييزاً، و «مِنْ» مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك.
173
قوله: «حَزَناً» في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعاملُ فيه «تَفِيضُ» قاله أبو حيان. لا يقال: إنَّ الفاعل هنا قد اختلف، فإنَّ الفيض مسند للأعين، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف؛ لأنَّا نقول: إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً، يقال: عين حزينةٌ وسخينةٌ، وعين مسرورةٌ وقريرة، في ضد ذلك. ويجوز أن يكون النَّاصب له «تولَّوا»، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً.
الثاني: أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: تولَّوا حزينين، أو تفيض أعينهم حزينةً، على ما تقدَّم من المجاز.
الثالث: أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه، أي: يحزنون حزناً، قاله أبو البقاء. وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال، إمَّا من فاعل «تولَّوا»، وإمَّا من فاعل «تَفِيضُ».
قوله: «أَلاَّ يَجِدُوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعامل فيه «حزناً» إن أعربناه مفعولاً له، أو حالاً. وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله. وعلى القول بأنَّ «حَزَناً» مفعول من أجله، يكون «ألاَّ يَجِدُوا» علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله﴾ [المائدة: ٣٨].
الثاني: أنه متعلق ب «تَفِيضُ». قال أبو حيان: ولا يجوز ذلك على إعرابه «حَزَناً» مفعولاً له والعاملُ فيه «تفيضُ»، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ، أو البدلِ.

فصل


قال المفسِّرون: هم سبعة نفر سموا البكائين، معقل بن يسار، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن معقل المزني، أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: إنَّ الله ندبنا للخروج معك، فاحملنا. واختلفوا في قوله «لِتحْمِلهُم» قال ابنُ عبَّاس: سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ» فتولَّوا وهم يبكُون
174
وقال الحسنُ: «نزلت في أبي موسى الأشعري، وأصحابه، أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستحملونه، ووافق ذلك منه غضباً فقال:» والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ «فتولَّوا يبكون، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعطاهم ذوداً. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال:» أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ فأرَى غيرَها خيراً منها، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني «.
ولمَّا قال تعالى: ﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ﴾ قال في هذه الآية: ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ في التخلف:»
وهُمْ أغنِيَاءُ «.
قوله:»... رضُوا «فيه وجهان:

أحدهما: أنَّهُ مستأنفٌ، كأنَّهُ قال قائلٌ: ما بالهم استأذنوا في القعودِ، وهُم قادرُون على الجهادِ؟ فأجيب بقوله: ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾، وإليه مال الزمخشريُّ.
175
والثاني: أنَّه في محلِّ نصب على الحالِ، و» قَدْ «مقدَّرةٌ في قول. وتقدَّم الكلام في:» الخَوالفِ «.» وطبعَ اللهُ على قُلوبِهِمْ «قوله:» وطبعَ «نسقٌ على» رَضُوا «تنبيهاً على أنَّ السَّبب في تخلُّفهم رضاهم بقُعُودهم، وطبعُ الله على قلوبهم، وقوله:» إنَّما السَّبيلُ على «فأتَى ب» عَلَى «، وإن كان قد يصلُ ب» إلَى «؛ لأنَّ» عَلى «تدلُّ على الاستعلاء، وقلة منعة من تدخل عليه، نحو: لي سبيل عليك، ولا سبيل لي عليك، بخلاف» إلى «فإذا قلت: لا سبيل عليك، فهو مُغايرٌ لقولك: لا سبيل إليك، ومن مجيء» إلَى «معه قوله: [الطويل]
٢٨٣٣ - ألاَ ليْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أمِّ سالمٍ سبيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فلا صَبْرَا
وقول الآخر: [البسيط]
٢٨٣٤ - هَلء مِنْ سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْربهَا أمْ مِنْ سبيلٍ إلى نصْرِ بنِ حجَّاجِ
قوله تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾.
روي أنَّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفراً، فلمَّا رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاءوا يعتذرون بالباطل، فقال الله ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ لم نصدقكم.
قوله: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها المتعدِّيةُ إلى مفعولين.
أولهما:»
ن «، والثاني:» مِنْ أخْبارِكُمْ «، وعلى هذا ففي» مِنْ «وجهان:
أحدهما: أنَّها غيرُ زائدةٍ، والتقدير، قد نبَّأنا اللهُ أخْبَاراً من أخباركم، أو جملة من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف.
والثاني: أنَّ»
مِنْ «مزيدةٌ عند الأخفشِ؛ لأنَّه لا يشترط فيها شيئاً، والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم.
الوجه الثاني - من الوجهين الأولين -: أنَّها متعديةٌ لثلاثة، ك»
أعْلَم «، فالأولُ، والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوفٌ اختصاراً للعلم به، والتقدير: نبَّأنا الله من أخباركم كذباً، ونحوه.
قال أبو البقاء: «قد يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفانِ تقديره: أخباراً من أخباركم مثبتة. و»
مِنْ أخباركُم «تنبيه على المحذُوف وليست» مِنْ «زائدة، إذ لو كانت زائدة، لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ، لأنَّ المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا الباب لزم ذكرُ الثالث».
وقيل: «مِنْ» بمعنى «عن». قال شهابُ الدِّين «قوله: إنَّ حذف الثالث خطأ» إن
176
عنى حذف الاقتصارِ فمُسلَّم، وإن عنى حذف الاختصار فممنوعٌ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاس في هذه المسألة.
وقوله: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ علّة لانتفاءِ تصديقهم. ثم قال: ﴿وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ فلمَ لَمْ يقل، ثُمَّ تردُّونَ إليْهِ؟.
فالجواب: أنَّ في وصفه تعالى بكونه ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ ما يدلُّ على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم.
177
قوله :﴿ وَلاَ عَلَى الذين ﴾. فيه أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على " الضُّعفاء "، أي : ليس على الضعفاءِ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ، فيكونون داخلين في خبر " ليس " مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها، وهو " حَرَجٌ ".
الثاني : أن يكون معطوفاً على " المُحْسنينَ " فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله :" مِنَ سبيلٍ "، فإنَّ " مِنْ سبيلٍ " يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون اسم " ما " الحجازية، و " مِنْ " مزيدةٌ في الوجهين.
الثالث : أن يكون " ولا علَى الَّذِينَ " خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوكَ. . إلى آخر الصلة، حرجٌ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبُو البقاءِ. ولا حاجةَ إليه، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ، أعني قوله :﴿ وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ ﴾، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله :﴿ وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ ﴾ وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم، وألا يكونوا مندرجين، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً. وقرأ معقل١ بنُ هارون " لنَحْملَهُمْ " بنون العظمة، وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيب : قلت : لا أجدُ ما يحملكم عليه الله.
قوله :" قُلْتَ " فيه أربعة أوجهٍ، أحدها : أنَّهُ جواب " إذا " الشَّرطيَّة، و " إذَا " وجوابها في موضع الصِّلةِ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية، وعلى هذا ؛ فيكونُ قوله :" تولَّوا " جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال : ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب ؟ فأجيب بقوله :" تَوَلَّوْا ".
الثاني : أنَّه في موضع نصب على الحال، من " أتوكَ "، أي : إذَا أتوكَ، وأنت قائلٌ : لا أجدُ ما أحملكم عليه، و " قَدْ " مقدرة، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً، كقوله :﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ [ النساء : ٩٠ ] في أحد أوجهه كما تقدَّم، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ.
الثالث : أن يكون معطوفاً على الشَّرط ؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير : وقلت، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني، وتبعه ابنُ عطيَّة، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي : فقلت.
الرابع : أن يكون مستأنفاً. قال الزمخشريُّ " فإن قلت : هل يجُوزُ أن يكون قوله :" قلت لا أجدُ " استئنافاً مثله ؟ - يعني مثل :﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف ﴾ [ التوبة : ٩٣ ] - كأنَّه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا، فقيل : ما لهُم تولَّوا باكينَ ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء، كالاعتراض ؟ قلتُ : نعم، ويحسنُ " انتهى.
قال أبُو حيَّان " ولا يجوزُ، ولا يحسن في كلام العربِ، فكيف في كلام الله ؟ وهو فهم أعجمي " قال شهابُ الدين : وما أدري ما سببُ منعه، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى ؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عليه الصلاة والسلام – ليحملهم، بل على قوله لهم :" لا أجد ما أحملكم " وإذا كان كذلك فقوله –عليه الصلاة والسلام- لهم ذلك سببٌ في بكائهم ؛ فحسن أن يجعل قوله :﴿ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ ﴾ جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في " قُلْتَ " يكون جواب الشَّرط قوله :" تولَّوا "، وقوله " لِتحْمِلهُمْ " علة ل " أتَوْكَ ". وقوله :" لا أجدُ " هي المتعديةُ لواحدٍ ؛ لأنَّها من " الوُجْد "، و " مَا " يجوز أن تكون موصولةً، أو موصوفةً.

فصل


قال أبُو العباس المقرىء : ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه :
الأول : بمعنى الانصراف، قال تعالى :﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ ﴾ [ التوبة : ٩٢ ] ومثله قوله تعالى ﴿ ثُمَّ تولى إِلَى الظل ﴾ [ القصص : ٢٤ ] أي : انصرف.
الثاني : بمعنى :" أبَى "، قال تعالى ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم ﴾ [ المائدة : ٤٩ ] أي : أبَوْا أن يؤمنوا ؛ ومثله قوله تعالى ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم ﴾ [ النساء : ٨٩ ].
الثالث : بمعنى :" أعرض " قال تعالى ﴿ وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ [ النساء : ٨٠ ].
الرابع : الإعراض عن الإقبال، قال تعالى ﴿ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار ﴾ [ الأنفال : ١٥ ].
قوله :﴿ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " تولَّوا ". قال الزمخشريُّ " تفيضُ من الدَّمع، كقولك : تفيض دمعاً ". وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله ﴿ ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع ﴾ [ المائدة : ٨٣ ] وأنَّهُ جعل " من الدَّمع " تمييزاً، و " مِنْ " مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك.
قوله :" حَزَناً " في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعاملُ فيه " تَفِيضُ " قاله أبو حيان. لا يقال : إنَّ الفاعل هنا قد اختلف، فإنَّ الفيض مسند للأعين، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف ؛ لأنَّا نقول : إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً، يقال : عين حزينةٌ وسخينةٌ، وعين مسرورةٌ وقريرة، في ضد ذلك. ويجوز أن يكون النَّاصب له " تولَّوا "، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً.
الثاني : أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي : تولَّوا حزينين، أو تفيض أعينهم حزينةً، على ما تقدَّم من المجاز.
الثالث : أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه، أي : يحزنون حزناً، قاله أبو البقاء. وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال، إمَّا من فاعل " تولَّوا "، وإمَّا من فاعل " تَفِيضُ ".
قوله :" أَلاَّ يَجِدُوا " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعامل فيه " حزناً " إن أعربناه مفعولاً له، أو حالاً. وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا ؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله. وعلى القول بأنَّ " حَزَناً " مفعول من أجله، يكون " ألاَّ يَجِدُوا " علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله :﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله ﴾ [ المائدة : ٣٨ ].
الثاني : أنه متعلق ب " تَفِيضُ ". قال أبو حيان٢ : ولا يجوز ذلك على إعرابه " حَزَناً " مفعولاً له والعاملُ فيه " تفيضُ "، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ، أو البدلِ.

فصل


قال المفسِّرون : هم سبعة نفر سموا البكائين، معقل بن يسار، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن معقل المزني، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : إنَّ الله ندبنا للخروج معك، فاحملنا٣. واختلفوا في قوله " لِتحْمِلهُم " قال ابنُ عبَّاس : سألوه أن يحملهم سألوه أن يحملهم على الدواب٤، وقيل : سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ " فتولَّوا وهم يبكُون وقال الحسنُ :" نزلت في أبي موسى الأشعري، وأصحابه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه، ووافق ذلك منه غضباً فقال :" والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ " فتولَّوا يبكون، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذوداً. فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله ؟ فقال :" أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ فأرَى غيرَها خيراً منها، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني " ٥.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٨٨، الدر المصون ٣/٤٩٢..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٨٩..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٤٧) وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٩)..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣١٩)..
٥ أخرجه بهذا اللفظ البخاري (١١/٥١٧) كتاب الأيمان والنذور باب قوله تعالى: لا يؤاخذكم..... حديث (٦٦٢٣) ومسلم (٣/١٢٦٨) كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يمينا حديث (٧/١٦٤٩) وأحمد (٤/٣٩٨) والطيالسي (١/٢٤٧-منحة) حديث (١٢١٧) وأبو داود (٣٢٧٦) والنسائي (٧/١٠٠٩) وابن ماجه (١/٦٨١) رقم (٢١٠٧) والطبراني في "الصغير" (١/٥٦-٥٧) والبيهقي (١٠/٥١) من حديث أبي موسى.
وللحديث شواهد: عن عدي بن حاتم:
أخرجه مسلم (٣/١٢٧٢-١٢٧٣) كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يمينا... حديث (١٦، ١٨/١٦٠١) وأحمد (٤/٢٥٦، ٢٥٧، ٢٥٨) والطيالسي (١٢١٨-منحة) والدارمي (٢/١٨٦) والنسائي (٧/١٠-١١) وابن ماجه(١/٦٨١) رقم (٢١٠٨) والحاكم (٤/٣٠٠-٣٠١) والبيهقي (١٠/٣٢) وعن عبد الرحمن بن سمرة:
أخرجه البخاري (١١/٥١٦-٥١٧) كتاب الأيمان والنذور حديث (٦٦٢٢) ومسلم (٣/١٢٧٣-١٢٧٤) كتاب الأيمان حديث (٩/١٦٥٢) وأحمد (٥/٦٢) والطيالسي (١٢١٩-منحة) والدارمي (٢/١٨٦) والنسائي (٧/١٢) وأبو داود (٣٢٧٧) وابن الجارود (٩٢٩) والبيهقي (١٠/٣١) والخطيب (٢/٤٠٠).
وعن عبد الله بن عمرو:
أخرجه أحمد (٢/٢١٢) وأبو داود (٣٢٧٤) وابن ماجه (١/٦٨٢).
وعن مالك الجشمي:
أخرجه النسائي (٧/١١) وابن ماجه (١/٦٨١) رقم (٢١٠٩).
وعن عدي بن حاتم:
أخرجه مسلم (٣/١٢٧٣) كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يمينا حديث (١٧/١٦٥١).
ومن حديث عائشة:
أخرجه الحاكم (٤/٣٠١) وصححه.
ومن حديث أبي الدرداء:
أخرجه الحاكم (٤/٣٠١) وصححه والبيهقي (١٠/٥٢)..

ولمَّا قال تعالى :﴿ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ ﴾ قال في هذه الآية :﴿ إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ ﴾ في التخلف :" وهُمْ أغنِيَاءُ ".
قوله :". . . رضُوا " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مستأنفٌ، كأنَّهُ قال قائلٌ : ما بالهم استأذنوا في القعودِ، وهُم قادرُون على الجهادِ ؟ فأجيب بقوله :﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف ﴾، وإليه مال الزمخشريُّ.
والثاني : أنَّه في محلِّ نصب على الحالِ، و " قَدْ " مقدَّرةٌ في قول. وتقدَّم الكلام في :" الخَوالفِ ". " وطبعَ اللهُ على قُلوبِهِمْ " قوله :" وطبعَ " نسقٌ على " رَضُوا " تنبيهاً على أنَّ السَّبب في تخلُّفهم رضاهم بقُعُودهم، وطبعُ الله على قلوبهم، وقوله :" إنَّما السَّبيلُ على " فأتَى ب " عَلَى "، وإن كان قد يصلُ ب " إلَى " ؛ لأنَّ " عَلى " تدلُّ على الاستعلاء، وقلة منعة من تدخل عليه، نحو : لي سبيل عليك، ولا سبيل لي عليك، بخلاف " إلى " فإذا قلت : لا سبيل عليك، فهو مُغايرٌ لقولك : لا سبيل إليك، ومن مجيء " إلَى " معه قوله :[ الطويل ]
ألاَ ليْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أمِّ سالمٍ سبيلٌ ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فلا صَبْرَا١
وقول الآخر :[ البسيط ]
هَل مِنْ سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْربهَا أمْ مِنْ سبيلٍ إلى نصْرِ بنِ حجَّاجِ٢
١ تقدم..
٢ البيت لفريعة بنت همام ينظر شرح المفصل لابن يعيش (٧/٢٧)، البحر ٥/٩٢ الخزانة ٤/٨٠، ٨٨ حاشية الشهاب ٤/٣٥٥، الدر المصون ٣/٤٩٤، ولسان العرب (منى)، سر صناعة الإعراب ص ٢٧١..
قوله تعالى :﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾.
روي أنَّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفراً، فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا يعتذرون بالباطل، فقال الله ﴿ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾ لم نصدقكم.
قوله :﴿ قَدْ نَبَّأَنَا الله ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها المتعدِّيةُ إلى مفعولين.
أولهما :" نا "، والثاني :" مِنْ أخْبارِكُمْ "، وعلى هذا ففي " مِنْ " وجهان :
أحدهما : أنَّها غيرُ زائدةٍ، والتقدير، قد نبَّأنا اللهُ أخْبَاراً من أخباركم، أو جملة من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف.
والثاني : أنَّ " مِنْ " مزيدةٌ عند الأخفشِ ؛ لأنَّه لا يشترط فيها شيئاً، والتقدير : قد نبَّأنا الله أخباركم.
الوجه الثاني - من الوجهين الأولين - : أنَّها متعديةٌ لثلاثة، ك " أعْلَم "، فالأولُ، والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوفٌ اختصاراً للعلم به، والتقدير : نبَّأنا الله من أخباركم كذباً، ونحوه. قال أبو البقاء١ :" قد يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفانِ تقديره : أخباراً من أخباركم مثبتة. و " مِنْ أخباركُم " تنبيه على المحذُوف وليست " مِنْ " زائدة، إذ لو كانت زائدة، لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ، لأنَّ المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا الباب لزم ذكرُ الثالث ".
وقيل :" مِنْ " بمعنى " عن ". قال شهابُ الدِّين " قوله : إنَّ حذف الثالث خطأ " إن عنى حذف الاقتصارِ فمُسلَّم، وإن عنى حذف الاختصار فممنوعٌ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاس في هذه المسألة.
وقوله :﴿ قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ علّة لانتفاءِ تصديقهم. ثم قال :﴿ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾ فيما تستأنفون، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ؟ " ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ".
فإن قيل : لما قال :﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ فلمَ لَمْ يقل، ثُمَّ تردُّونَ إليْهِ ؟.
فالجواب : أنَّ في وصفه تعالى بكونه ﴿ عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾ ما يدلُّ على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم.
١ ينظر: الإملاء ٢/٢٠..
قوله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ﴾ الآية.
لمَّا حكى عنهم أنَّهم يعتذرون إليكم، ذكر هنا أنَّهم يؤكدون تلك الأعذار بالأيمانِ الكاذبة «إذَا انقَلبْتُم» انصرفتم إليهم أنهم ما قدروا على الخروجِ. «لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ» أي: لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام.
177
وقال مقاتل: قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قدم المدينة: «لا تُجالسُوهم ولا تكلموهم». ثمَّ ذكر العلَّة في وجوب الإعراض عنهم، فقال: «إنَّهُم رجْسٌ» والمعنى: أن خبث بواطنهم رجس روحاني، فكما يجبُ الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية؛ فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى. وقيل: إنَّ عملهم قبيحٌ. ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي: منزلهم. قال الجوهريُّ: المأوى: كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً أو نهاراً، وقد أوى فلانٌ إلى منزله يأوي أويًّا، على «فُعُول»، وإوَاءً، وأوَيْتُه إذا أنزَلْتَهُ بك، فعلتُ وأفعلتُ، بمعنى عن أبي زيدٍ. ومَأوِي الإبل - بكسر الواو - لغةٌ في مأوى الإبل خاصَّةً، وهو شاذ.
قوله: «جَزَاءً... » يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظه مقدر، أي: يُجْزونَ جزاء، وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة؛ لأنَّ كونهُم يأوونَ في جهنم في معنى المجازاة، ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله.
قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّهُم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم، بين ههنا أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم، وذكر العلَّة في ذلك النهي وهي أن: ﴿الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾.
قوله تعالى: ﴿الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً﴾ الآية.
لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها، ونائباً عنها من الأعراب فقال: كفرهم أشد. قال قتادةُ: «لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن» وقيل: لأنَّهم أقسَى قلباً، وأكذبُ قولاً، وأغلظُ طبعاً، وأبعد عن استماع التنزيل، ولذا قال تعالى في حقِّهم: «وأجْدَرُ» أي: أخلق. «أَلاَّ يَعْلَمُواْ». ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم، ترتب على ذلك أحكام:
منها: أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث بريدة: «... ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ» ومنها: إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة، لتحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً، وهو الصحيحُ.
قوله: «الأعراب» صيغة جمعٍ، وليس جمعاً ل «عَرَب» قاله سيبويه، وذلك لئلاَّ يلزم
178
أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص، سواء سكن البوادي، أم سكن القرى.
وأمَّا الأعراب، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط، وقد تقدَّم عند قوله تعالى: ﴿رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢]، أوَّل الفاتحة. ولهذا الفرق نسب إلى «الأعْراب» على لفظه فقيل: أعرابي ويجمع على «أعَارِيب». قال أهلُ اللغة: «يقال: رجلٌ عربيّ، إذا كان نسبه في العربِ، وجمعه العربُ، كما يقال: يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع، فيقال: اليهُودُ والمجُوسُ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً، ويطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العربِ، أو من مواليهم. ويجمع الأعرابي على الأعراب، والأعاريب، والأعرابي إذا قيل له: يا عربي، فرح والعربي إذا قيل له: يا أعرابيّ، غضب، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» حُبُّ العربِ من الإيمانِ «وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية. وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنَّما هُمْ عرب، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً «.

فصل


قال بعضُ العلماء: الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق، حمل على الاستغراق للضرورة، قالوا: لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها، والألف واللام للتعريف، فإن حصل جمع هو معهود سابق؛ وجب الانصراف إليه، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق، دفعاً للإجمال. قالوا: إذا ثبت هذا فقوله:»
الأعرابُ «المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب، كانوا يوالون منافقي المدينة، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم.

فصل


سمي العربُ عرباً، لأنَّ أباهُم: يعربُ بنُ قطعان، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ، وقيل: سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا ب»
عربة «وهي تهامة، فنسبوا إلى بلدهم،
179
وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم؛ فهو منهم؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل، وقيل: سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم» جُرهم «فربي بينهم، وكانوا عرباً قبل إسماعيل، ولأن» يعرب «من ولد إسماعيل، وكان حميلاً عربياً.
وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في»
جُرهم «حين نزلوا عند هاجر بمكَّة.
والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم: عادٌ وثمود، وطسْم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وآدم يقال: إنَّه كان ملكاً، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر، وبنوه قبيلة يقال لها»
وبار «هلكوا بالرما.
انثال عليهم؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: [الرجز]
٢٨٣٥ - وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ
وأمَّا الثالثُ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون، أنَّ سام بن نوح أبو العرب، وفارس، والروم، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح.
قال بعضهم: والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة، وغيرها من الألسنةِ، لقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١].
ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ.
قال بعضُ الحكماءِ: حكمة الرُّوم في أدمغتهم؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم، وعذوبة عباراتهم.

فصل


اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين:
الأول: أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً، والسبب فيه وجوه:
أحدها: أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش.
وثانيها: استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يزيدُ في التيه، والتَّكبر، والفخر، والطيش عليهم.
180
وثالثها: أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب؛ فنشأوا كما شاءوا، ومن كان كذلك؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً.
ورابعها: أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبياناته الشافية، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير، ولم يسمع خبره؟
وخامسها: قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ. و «أشَدّ» أصله: أشدد، وقد تقدم. وقوله «كُفْراً» نصب على الحال، و «نِفَاقاً» عطف عليه، و «أجْدَرُ» عطف على «أشَدّ».
الحكم الثاني: قوله: ﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ..﴾ «أجْدَر» أي: أحَقُّ وأولى؛ يقال: هو جديرٌ وأجدرُ، وحقيقٌ وأحقُّ، وخليقٌ وأخلقُ، وقمنٌ بكذا، كلُّه بمعنى واحد، قال الليثُ: جَدَر يَجْدرُ جدارَةً، فهو جَديرٌ، ويُثَنَّى ويُجمع؛ قال الشاعر: [الطويل]
٢٨٣٦ - بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا
وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة، وأنَّها من الجدار، أي: الحائط، فقال: «والجديرُ: المُنتهى، لانتهاء الأمر إليه، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ». والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من: «الجَدْر، وهو أصل الشجرة؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك: جدير بكذا.
وقوله: ﴿أَلاَّ يَعْلَمُواْ﴾ أي: بألاَّ يعلمُوا، فحذف حرف الجر؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي، مع سيبويه والفراء. والمراد بالحدُودِ: ما أنزل الله على رسوله، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ. ﴿والله عَلِيمٌ﴾ بما في قلوب خلقه:»
حَكِيمٌ «فيما ف رض عليهم من فرائضه.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾.
نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم. «مَنْ»
بمتدأ، وهي إما موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ.
و «مَغْرَماً» مفعول ثانٍ؛ لأنَّ «اتَّخَذَ» هنا بمعنى «صيَّر». والمَغْرَمُ: الخسران، مشتق من الغرام، وهو الهلاك؛ لأنَّه سببه، ومنه: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ [الفرقان: ٦٥]. وقيل أصله الملازمةُ، ومنه الغريمُ: للزومه من يطالبه، والمغرم: مصدر كالغرامةِ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ. قال عطاءٌ: لا يرجُون على إعطائه ثواباً؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً. و «يتربَّصُ» عطفٌ على «يتَّخِذ»، فهو إمَّا صلة، وإما صفة. والتَّربُّصُ: الانتظارُ. وقوله: ﴿بِكُمُ الدوائر﴾ فيه وجهان:
181
أظهرهما: أنَّ الياء متعلقةٌ بالفعل قبلها.
والثاني: أنها حالٌ من «الدَّوائر» قاله أبو البقاءِ وليس بظاهرٍ، وعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر. و «الدَّوائرِ» جمعُ «دائرةٍ» وهي ما يُحيط بالإنسان من مُصيبة ونكْبَةٍ، تصوُّراً من الدَّائرة المحيطة بالشَّيء من غير انفلاتٍ منها، وأصلها: «دَاوِرَة» ؛ لأنَّها من دَارَ يدُورُ، أي: أحَاطَ، ومعنى «تَربُّص الدَّوائر» أي: انتظار المصائب؛ قال: [الطويل]
٢٨٣٧ - تَربَّصْ بهَا رَيْبَ المنُونِ لعلَّها تُطلَّقُ يوْماً أو يَمُوتُ حليلُهَا
قال يمانُ بن رئابٍ: «يعني ينقلبُ الزَّمانُ عليكم فيموت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويظهر المشركون». قوله: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ هذه الجملةُ معترضةٌ بين جمل هذه القصَّةِ، وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو هنا: «السُّوءِ»، وكذا الثانية في الفتحِ بالضَّم والباقون بالفتحِ.
وأمَّا الأولى في الفتح، وهي «ظنَّ السوءِ».
فاتفق على فتحها السبعةُ. فأمَّا المفتوح فقيل: هو مصدر.
قال الفرَّاءُ: «فتحُ السِّين هو الوجه؛ لأنَّه مصدرٌ يقالُ: سُؤتُه سَوْءاً، ومَساءةٌ، وسَوائِيَةٌ، ومَسَائِيَةٌ، وبالضَّم الاسم، كقولك: عليهم دائرةُ البلاءِ والعذاب».
قال أبُو البقاء: «وهو الضَّرَرُ، وهو مصدر في الحقيقة». يعني أنَّه في الأصل كالمفتوح، في أنَّهُ مصدرٌ، ثُمَّ أطلقَ على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي: «مَنْ فتح السِّين فمعناه الفساد والرَّداءة، ومنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضَّرر». وظاهرُ هذا أنَّهما اسمان لما ذكر. ويحتملُ أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أطلقا على ما ذكر. وقال غيره: المضمومُ العذاب والضرر، والمفتوح: الذم، ألا ترى أنَّه أجمع على فتح ﴿ظَنَّ السوء﴾ [الفتح: ٦] وقوله: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾ [مريم: ٢٨]، إذ لا يليقُ ذكرُ العذاب بهذين الموضعين. وقال الزمخشري فأحسن: «المضمومُ: العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ ل» دائرة «كقولك: رجُل سوءٍ، في نقيض رجل عدل؛ لأنَّ منْ دَارتْ عليه يذُمُّهَا». يعني أنَّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أضيفَتْ لصفتها، كقوله تعالى:
﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾ [مريم: ٢٨]. قال أبُو حيَّان «وقد حكي بالضَّمِّ» ؛ وأنشد الأخفشُ: [الطويل]
182
٢٨٣٨ - وكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ لمَّا رَأى دَماً بِصَاحبهِ يَوْماً أحَالَ عَلى الدَّمِ
وفي «الدائرة» مذهبان:
أظهرهما: أنها صفةٌ على فاعلة، ك «قائمة». وقال الفارسيُّ: «يجوز أن تكون مصدراً كالعافية، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء، أو السوء لما عرف منها معنى السُّوء؛ لأنَّ دائرة الدَّهر لا تستعملُ إلاَّ في المكروهِ، والمعنى: يدور عليهم البلاءُ والحزنُ، فلا يرون في محمد، ودينه إلاَّ ما يَسُوؤهم». ثم قال: ﴿والله سَمِيعٌ﴾ لقولهم، ﴿عَلِيمٌ﴾ بنيَّاتهم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ الآية.
لمَّا بيَّن أنَّ في الأعرابِ من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مَغْرَماً، بيَّن هنا أنَّ منهم أيضاً من يؤمن بالله واليوم الآخر. قال مجاهدٌ: هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبيُّ هم أسلم، وغفار، وجهينة. وروى أبو هريرة قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لأسْلمُ وغفارٌ، وشيءٌ مِنْ مُزَيْنَة وجُهَيْنةَ، خَيْرٌ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنْ أسَدٍ وغطفان وهوَازنَ وتَميمٍ».
قوله: ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ﴾ ف «قُرُباتٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «يتَّخذَ» كما مرَّ في ﴿مَغْرَماً﴾ [التوبة: ٩٨] ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضمِّ الرَّاء من «قُربَات»، مع اختلافهم في راء «قُرْبة» كما سيأتي، فيحتملُ أن تكون هذه جمعاً ل «قُرْبة» بالضَّم، كما هي قراءة ورشٍ عن نافعٍ، ويحتملُ أن تكون جمعاً للساكنها، وإنَّما ضُمَّت إتباعاً، ك «غُرُفَات»، وقد تقدَّم التَّنبيه على هذه القاعدة، وشروطها عند قوله: ﴿فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٧] أول البقرة.
قال الزجاجُ: يجوزُ في «القُرُبَات» أوجه ثلاثة، ضم الراء، وإسكانها، وفتحها.
والمعنى: أنَّهم يتخذون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند اللهِ.
قوله: «عِندَ الله» في هذا الظرف ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّه متعلقٌ ب «يتَّخذ» والثاني: أنَّهُ ظرف ل «قُرُبات»، قاله أبو البقاءِ. وليس بذلك.
الثالث: أنه متعلقٌ بمحذُوفٍ، لأنَّه صفةٌ ل «قربات». قوله: ﴿وَصَلَوَاتِ الرسول﴾ فيها وجهان:
183
أظهرهما: أنَّها نسق على «قُربات»، وهو ظاهرُ كلام الزمخشري، فإنَّه قال: «والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصول القربات عند اللهِ وصلوات الرسول، لأنَّهُ كان يدعو للمتصدِّقين بالخيرِ، كقوله:» اللَّهُمَّ صلِّ على ألِ أبِي أوْفَى «والثاني - وجوَّزهُ ابنُ عطية ولم يذكر أبُو البقاءِ غيره -: أنها منسوقةٌ على» ما يُنفقُ «، أي: ويتَّخذ بالأعمال الصَّالحة صلوات الرسول قربة.
قوله: ﴿ألاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ﴾ الضمير في»
إنَّها «قيل: عائدٌ على» صَلواتِ «.
وقيل: على النَّفقات أي: المفهومة من «يُنفِقُون»
. وقرأ ورشٌ «قُرُبَة» بضمِّ القاف والرَّاء، والباقون بسكونها، فقيل: لغتان. وقيل: الأصلُ السكون، والضَّم إتباع. وقد تقدَّم الخلاف بين أهل التصريف، هل يجوزُ تثقيل «فُعْل» إلى «فُعُل» ؟ وأنَّ بعضهم جعل «يُسُرا، عُسُرا» بضمِّ السين فرعين على سكونها، وقيل: الأصلُ «قُرُبة» بالضَّمِّ، والسكون تخفيف، نحو: كتب ورسل، وهذا أجْرَى على لغة العرب، إذ مبناها الهرب من الثِّقل إلى الخفة. وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثباتِ الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه. قال معناه الزمخشريُّ، قال: وكذلك سيدخلهم وما في السِّين من تحقيقِ الوعدِ. ثم قال: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ﴾ لسيِّآتهم «رَّحِيمٌ» بهم حيث وفقهم لهذه الطَّاعات.
قوله تعالى: ﴿والسابقون الأولون﴾ الآية.
«وَالسَّابقُون» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّه الجملة الدعائية من قوله: ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ﴾.
والثاني: أنَّ الخبر قوله: «الأوَّلون»، والمعنى: والسَّابقون إلى الهجرة الأوَّلُون من أهل هذه المِلَّةِ، أو السابقون إلى الجنَّة الأولون من أهل الهجرة.
الثالث: أنَّ الخبر قوله: ﴿مِنَ المهاجرين والأنصار﴾ والمعنى فيه الإعلام بأنَّ السابقين من هذه الأمَّةِ من المهاجرين والأنصار، ذكر ذلك أبو البقاءِ. وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ.
الثاني من وجهي «السَّابقين» : أن يكون نسقاً على «مَنْ يُؤمِنُ باللهِ»، أي: ومنهم السابقون، وفيه بعدٌ، والجمهور على جرِّ «الأنْصارِ» نسقاً على «المُهاجِرينَ» يعني أنَّ السابقين من هذين الجنسين.
وقرأ جماعة كثيرة أجلاَّء: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وقتادةُ، والحسنُ، وسلامُ، وسعيدُ
184
ابنُ أبي سعيد، وعيسى الكوفيُّ، وطلحة، ويعقوب «والأنصارُ» برفعها، وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّه مبتدأ، وخبره «رضِيَ الله عنهُم». والثاني: عطفه على «السَّابقُون»، وقد تقدَّم ما فيه، فيُحكم عليه بحكمه.
قوله: «بإِحْسانٍ» متعلقٌ بمحذوف، لأنَّه حالٌ من فاعل «اتَّبَعُوهُم». وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يرى أن الواو ساقطة من قوله: «والذين اتبعوهم» ويقول: إنَّ الموصول صفةٌ لمن قبله، حتى قال له زيدُ بنُ ثابتٍ: إنَّها بالواو، فقال: ائتوني بأبيّ، فأتوه به، فقال له: تصديق ذلك في كتاب اللهِ في أول الجمعة ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ﴾ [الجمعة: ٢]، وأوسط الحشر ﴿والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] وآخر الأنفال ﴿والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ﴾ [الأنفال: ٧٥]. وروي أنَّهُ سمع رجلاً يقرؤها بالواو، فقال: من أقْرأكَ؟ فقال: أبيّ، فدعاه، فقال: أقرأنيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنَّك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صَدقْتَ، وإن شئت قل: شهدنَا وغبْتُم، ونصَرْنَا وخذلْتُم، وآوَيْنَا وطَرَدْتم، ومن ثمَّ عمرُ: لقد كنتُ أرانا رُفِعْنَا رفعة، لا يبلغُها أحدٌ بعدنا.

فصل


لمَّا ذكر فضائل الأعراب الذين يتَّخذُونَ ما ينفقُون قربات عند الله، وما أعد لهم، بين أنَّ فوق منزلتهم منازل أعلَى وأعظم منها، وهي منازلُ السَّابقين الأولين. واختلفوا فيهم، فقال ابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ المسيب، وقتادة، وابن سيرين، وجماعة: هم الذين صلُّوا إلى القبلتين، وقال عطاءُ بن أبي رباح: هم الذين شهدوا معه بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية. وقال أبو مسلم: من تقدم موته بعد الإسلام من الشهداء وغيرهم. وقال ابنُ الخطيبِ: «والصحيحُ عندي أنَّهم السَّابقون في الهجرة، والنصرة، لكونه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً». واختلفوا هل يتناولُ جميع الصحابة الذين سبقوا إلى الهجرة، والنصرة أم يتناول بعضهم؟ فقال قومٌ: إنَّه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا، فلا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأنَّ كلمة «مِنْ» للتَّبعيض.
185
ومنهم من قال: بل يتناولُ جميع الصحابةِ؛ لأنَّ جملة الصَّحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة «مِنْ» في قوله «مِنَ المُهاجرينَ والأنصَارِ» ليست للتَّبعيض، بل للتبيين، كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]، وذهب إلى هذا كثيرٌ من النَّاس.
روى حميدُ بن زيادٍ أنَّهُ قال: قلت يوماً لمحمَّدِ بن كعب القرظيِّ: ألا تُخْبرني عن أصحاب الرسول فيما كان بينه؟ وأردت الفتن، فقال: إنَّ الله قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنَّة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أيّ موضع أوجب لهم الجنّة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله: ﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار﴾ [التوبة: ١٠٠] إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الجنَّة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً، قلت: وما ذاك الشَّرط؟ فقال: شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المرادُ أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو ألاَّ يقولوا فيهم سوءاً، وألاَّ يوجهوا الطَّعْنَ فيما أقدموا عليه. قال حميدُ بن زياد: فكأنِّي ما قرأتُ هذه الآية قط، قال أبو منصور البغداديُّ التميمي: أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريُّون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

فصل


واختلفوا في أول من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنَّها أوَّلُ من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال جابر: أوَّل من أسلم وصلَّى عليُّ بن أبي طالبٍ. قال مجاهدٌ وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين. وقال ابنُ عباسٍ، وإبراهيم النخعي، والشعبي: أوَّلُ من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق. وقال الزهريُّ وعروة بنُ الزُّبير: أوَّلُ من أسلم زيدُ بن حارثة.
وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بجمع بين هذه الأخبار فيقول: «أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساءِ خديجة ومن الصِّبيان عليّ، ومن العبيد زيد بن حارثة». قال ابن إسحاق: لمَّا أسلم أبُو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجُلاً محسناً سَهْلاً، وكان تَاجِراً، ذا خُلِقٍ، وكان رجال قومه يأتُونهُ ويألفونهُ، لعلمه وحُسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يده فيما بلغني عثمان والزبيرُ بنُ العوام وعبدُ الرحمن بن عوفٍ وسعدُ
186
بنُ أبي وقَّاص وطلحةُ بنُ عبيد الله؛ فجاء بهم إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أسلمُوا وصلُّوا معه، فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلامِ، ثم تتابع النَّاسُ في الدُّخُولِ في الإسلامِ، أمَّا السابقُون من الأنصار الذين بايعُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة الأولى وكانوا ستة نفر ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً، ثم العقبة الثالثة وكانوا سبعين فهلاء سباق الأنصار. ثمَّ بعثَ رسُول الله، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلِّمهم القرآن؛ فأسلم على يده خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان.
والمراد بالمهاجرين الذين هاجروا قومه وعشيرتهم، وفارقُوا أوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أعدائه، وآووا أصحابه.
﴿والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: ١٠٠] قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وعلى هذا أتي ب «مِنْ» للتبعيض. وقيل: هم الذين سلكُوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاءٌ: الذين يذكرُون المهاجرين والأنصار بالتَّرحم والدُّعاء. ثم جمع الله في الثَّواب فقال: ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار﴾ وقرأ ابنُ كثير: «تَجْري من تحْتِهَا» ب «مِن» الجارَّة، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكَّة. والباقون «تَحْتها» بدونها ولم تُرسَمْ في مصاحفهم. وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءةِ ابنِ كثير في غير موضع.
قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ... ﴾ خبر مقدَّم، و «مُنَافقُونَ» مبتدأ، و «مِنَ الأعْرابِ» لبيان الجنسِ. «ومِنْ أهْلِ المدينةِ» يجوزُ أن يكون نسقاً على «مَنْ» المجرورة ب «مِنْ»، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ، وهو «مُنافقُونَ» بهما، كأنَّه قيل: المنافقون من قوم حولكم، ومن أهل المدينة، وعلى هذا هو من عطف المفردات، إذ عطفت خبراً على خبر، وعلى هذا، فيكون قوله: «مَرَدُوا» مستأنفاً لا محلَّ له. ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله: «مُنافقُونَ» ويكونُ قوله «ومِنْ أهْلِ المدينةِ» خبراً مقدماص، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع «مِنْ» التَّبعيضية، وقد مرَّ تحريره، نحو: «مِنَّا صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع» مِنْ «التَّبعيضية، وقد مرَّ تحريره، نحو:» مِنَّ ظعن، ومِنَّا أقامَ «والتقدير: ومن أهلِ المدينةِ قومٌ، أو أناسٌ مرَدُوا، وعلى هذا فهو من عطف الجمل.
ويجوز أن يكون «مَرَدُوا» على الوجه الأوَّلِ صفةً ل «مُنَافِقُون» وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله: «ومِنْ أهل المدينةِ»، والتقدير: وممَّن حولكم، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون.
قال ذلك الزجاجُ، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء، واستبعده أبو حيَّان، للفصل بين الصِّفة وموصوفها.
187
قال: «فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ، وفي القصر العاقل». يعني ففصلت بين «زيد»، و «العاقل» بقولك: «وفي القصر». وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني، وإقامة صفته مقامه بقوله: [الوافر]
٢٨٣٩ - أنَا ابْنُ جَلاَ............................................
قال أبُو حيَّان: «إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع» مِنْ «مُطَّردٌ؛ وقوله: [الوافر]
٢٨٤٠ - أنَا ابْنُ جَلاَ...........................................
ضرورة؛ كقوله: [الرجز]
٢٨٤١ - يَرْمِي بِكَفِّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ... والبيت المشار إليه، هو قوله: [الوافر]
٢٨٤٢ - أنَا ابنُ جَلاض وطلاَّعُ الثَّنَايَا مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي
وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات:
أحدها: ما تقدم. والآخر: أنَّ هذه الجملة محكيّة؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ، فإنَّ»
جَلاَ «فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا: شَابَ قَرْنَاهَا، وذَرَّى حَبّاً، وقوله: [الرجز]
188
٢٨٤٣ - نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ
والثالث: وهو مذهب عيسى بن عمر: أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير، وإنَّما لم يُنوَّن؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي ب» ضرب، وقتل «منعهما، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة، نحو: جَمَل، وجَبَل. والمراد بأهل المدينةِ: الأوس والخزرج. و» مَرَدُوا «أي: مَهَرُوا، وتمرَّنُوا، وثبتوا على النفاق.
وقال ابن إسحاق: لجوُّا فيه وأبوا غيره. وقال ابنُ زيدٍ: أقاموا عليه ولم يتوبوا. وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ، عند قوله: ﴿شَيْطَاناً مَّرِيداً﴾ [النساء: ١١٧].
قوله:»
لا تَعْلمُهُم «هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ل» مُنَافِقُون «، ويجوزُ أن
189
تكون مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه؛ فيتعدَّى لاثنين، أي: لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب، لا يطلع عليه. وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبُو البقاءِ. وأمَّا» نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ «فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها، لما تقدَّم في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذُورٌ لما تقدَّم.
قوله: «سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ»
تقدَّم الكلامُ في نصب ﴿مَرَّةٍ﴾ [التوبة: ١٣]، وأنَّه من وجهين، إمَّا المصدرية، وإمَّا الظرفية، فكذلك هذا، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد، وعليه الأكثر، واختلفُوا في تفسيرها، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية، بل يُراد بها التَّكثيرُ، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [الملك: ٤]، أي: كرَّاتٍ، بدليل قوله: ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤]، أي: مزدجراً، وهو كليلٌ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات، ومثله «لبَّيْكَ، وسعْديكَ، وحنَانيْكَ».
وروى عياشٌ عن أبي عمرو «سنُعذِّبْهُم» بسكون الباءِ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠] وبابه، وإن كان باب «ينْصُركُم» أحسن تَسْكِيناً، لكون الرَّاءِ حرف تكرار؛ فكأنه توالى ضمَّتان، بخلاف غيره، وقد تقدَّم تحريره.
وقال أبُو حيَّان: وفي مصحف أنس «سيُعذِّبهُم» بالياءِ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ، فكيف يقال هذا؟!

فصل


وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين: فقال السُّديُّ والكلبيُّ: قام النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطيباً يوم الجمعة فقال:
«اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ » فأخرج من المسجد ناساً، وفضحهم، فهذا هو العذابُ الأولُ.
والثاني: عذاب القبر. وقال مجاهدٌ: الأولُ القتل والسبي، والثاني عذاب القبر، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين. وقال قتادةُ: بالدبيلة في الدُّنيا، وعذاب القبر. وقال ابن زيد: الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا،
190
والأخرى عذاب القبر. وعن ابن عبَّاسٍ: الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر. وقال ابنُ إسحاق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام، ودخولهم فيه من غير حسبة، ثم عذاب القبر. وقيل: أحدهما ضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم عند قبض أرواحهم، ثم عذاب القبر، وقيل: الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي: عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ: الأولى أخذ الزكاة من أموالهم، وعذاب القبر.
قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ الآية.
«وآخرون» نسقٌ على «مُنافِقُون» أي: وممَّن حولكم آخرون، أو من أهلِ المدينة آخرون. ويجوزُ أن يكون مبتدأ، و «اعترفُوا» صفته، والخبر قوله: «خلطُوا». قوله: «وآخَرَ» نسقٌ على «عَمَلاً». قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: قد جُعِلَ كُلُّ واحد منهما مخلُوطاً، فما المخلُوط به؟ قلتُ: كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به؛ لأنَّ المعنى: خلط كل واحدٍ منهما بالآخر، كقولك: خلَطْتُ الماءَ واللَّبن، تريدُ: خلطتُ كُلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك: خلطتْ الماءَ باللَّبَنِ؛ لأنَّك جعلت الماء مَخْلُوطاً، واللَّبنَ مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو جعلتَ الماءَ واللَّبنَ مخلوطين، ومخلوطاً بهما، كأنَّك قلت: خلطتُ الماءَ باللبن، واللبن بالماءِ».
ثمَّ قال «ويجوزُ أن يكون من قولهم: بِعْتُ الشَّاة: شاةً ودرهماً، بمعنى: شاة بدرهم».
قال شهابُ الدِّينِ: «لا يريدُ أنَّ الواو بمعنى الباءِ، وإنَّما هذا تفسيرُ معنى» وقال أبُو البقاءِ: «ولو كان بالباءِ جاز أن تقول: خلطتُ الحنطة والشعير، وخلطت الحنطةَ بالشَّعير».
قوله: «عَسَى الله» يجوزُ أن تكون الجملةُ مستأنفةً، ويجوزُ أن تكون في محلِّ رفع خبراً ل «آخرون» ويكون قوله «خلطُوا» في محلِّ نصب على الحالِ، و «قَدْ» معه مقدَّرةٌ، أي: قد خلطوا. فتلخَّص في: «آخرُونَ» أنَّهُ معطوف على «مُنافِقُون»، أو مبتدأ مخبر عنه ب «خَلطُوا»، أو بالجملة الرجائية.

فصل


قيل: إنَّهم قوم من المنافقين، تابُوا عن النِّفاقِ؛ لأنَّهُ عطف على قوله {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ
191
الأعراب مُنَافِقُونَ} والعطفُ يوهم التَّشريكَ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وفقهم للتوبة. وقيل: إنَّهُم قوم من المسلمين تخلَّفوا عن غزوة تبُوك، كسلاً، لا نفاقاً، ثم نَدِمُوا على ما فعلوا وتابوا.
وروي أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وروى عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة، أحدهم أبو لبابة. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثمانية. وقال قتادةُ والضحاك: كانوا سبعة. وقالو جميعاً أحدهم أبو لبابة. وقال قومٌ: نزلت في أبي لبابة خاصة، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس: أنهم كانوا عشرة، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لمَّا بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فقدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ودخل المسجد وصلى ركعتين، وكانت عادته كُلَّما قدم من سفرٍ، فرآهم موثقين، فسأل عنهم؛ فقالوا: هؤلاء تخلَّفُوا عنك، فعاهدُوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلقهم ويرضى عنهم، فقال: «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم» ؛ فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسُول الله هذه أموالنا التي خلَّفتنا عنك، فتصدق بها عنَّا وطهرنا، فقال: «ما أمرتُ أن آخذَ مِنْ أموالكُم شيئاً» ؛ فنزل قوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] الآية.
والاعترافُ: عبارة عن الإقرار بالشَّيءِ عن معرفةٍ، ومعناه: أنَّهُم أقَرُّوا بذنبهم.
والعمل الصَّالح: هو توبتهم واعترافهم بذنبهم وربطهم أنفسهم. والعمل السيّىء: هو تخلُّفهم.
وقيل: العمل الصَّالح: خروجهم مع الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى سائر الغزوات، والعمل السيّىء: تخلفهم عن غزوة تبوك.

فصل


قالوا: إنَّ الكلام ينزلُ على عرف النَّاسِ، فالسُّلطانُ إذا التمس المحتاج منه شيئاً؛ فإنه لا يجيب إلاَّ بالتَّرجي ب «لعل، أو عسى»، تنبيهاً على أنَّه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً؛ بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضّل، فهذا المعنى هو فائدة ذكر «عَسَى».
والاعتراف بمجرَّدِهِ لا يكون توبة، إلاَّ إذا اقترن به النَّدم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل.

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على عدم القولِ بالإحباط، وأنَّ الطَّاعة تبقى موجبة للمدح
192
والثَّواب، والمعصية تبقى موجبة للذّم والعقاب؛ لأنَّ قوله تعالى: ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ [التوبة: ١٠٢] يدلُّ على أن كلَّ واحدٍ منهما يبقى كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر، لأنه وصفه بالاختلاط، والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهم، لأن الاختلاط صفة للمختلطين، وحصول الوصفِ حال عدم الموصوف محال؛ فدلَّ على بقاء العملين حال الاختلاط.

فصل


قوله: ﴿عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ يقتضي أنَّ هذه التَّوبة إنَّما تحصل في المستقبل. وقوله: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ يدلُّ على أنَّ ذلك الاعتراف حصل في الماضي، وذلك يدلُّ على أن ذلك الاعتراف ما كان مقروناً بنفس التوبة؛ بل كان مقدماً على التوبةِ، والتوبة إنما حصلت بعده.
193
قوله تعالى :﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّهُم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم، بين ههنا أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم، وذكر العلَّة في ذلك النهي وهي أن :﴿ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين ﴾.
قوله تعالى :﴿ الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾ الآية.
لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها، ونائباً عنها من الأعراب فقال : كفرهم أشد. قال قتادةُ :" لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن " ١ وقيل : لأنَّهم أقسَى قلباً، وأكذبُ قولاً، وأغلظُ طبعاً، وأبعد عن استماع التنزيل، ولذا قال تعالى في حقِّهم :" وأجْدَرُ " أي : أخلق. " أَلاَّ يَعْلَمُواْ ". ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم، ترتب على ذلك أحكام :
منها : أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة :". . . ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ " ٢ ومنها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة، لتحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة ؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً، وهو الصحيحُ.
قوله :" الأعراب " صيغة جمعٍ، وليس جمعاً ل " عَرَب " قاله سيبويه، وذلك لئلاَّ يلزم أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص، سواء سكن البوادي، أم سكن القرى.
وأمَّا الأعراب، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط، وقد تقدَّم عند قوله تعالى :﴿ رَبِّ العالمين ﴾ [ الفاتحة : ٢ ]، أوَّل الفاتحة. ولهذا الفرق نسب إلى " الأعْراب " على لفظه فقيل : أعرابي ويجمع على " أعَارِيب ". قال أهلُ اللغة :" يقال : رجلٌ عربيّ، إذا كان نسبه في العربِ، وجمعه العربُ، كما يقال : يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع، فيقال : اليهُودُ والمجُوسُ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً، ويطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العربِ، أو من مواليهم. ويجمع الأعرابي على الأعراب، والأعاريب، والأعرابي إذا قيل له : يا عربي، فرح والعربي إذا قيل له : يا أعرابيّ، غضب، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عليه الصلاة والسلام " حُبُّ العربِ من الإيمانِ " ٣ وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية. وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنَّما هُمْ عرب، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب، قال عليه الصلاة والسلام " لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً " ٤.

فصل


قال بعضُ العلماء : الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق، حمل على الاستغراق للضرورة، قالوا : لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها، والألف واللام للتعريف، فإن حصل جمع هو معهود سابق ؛ وجب الانصراف إليه، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق، دفعاً للإجمال. قالوا : إذا ثبت هذا فقوله :" الأعرابُ " المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب، كانوا يوالون منافقي المدينة، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم.

فصل


سمي العربُ عرباً، لأنَّ أباهُم : يعربُ بنُ قطعان، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا ب " عربة " وهي تهامة، فنسبوا إلى بلدهم، وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم ؛ فهو منهم ؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم " جُرهم " فربي بينهم، وكانوا عرباً قبل إسماعيل، ولأن " يعرب " من ولد إسماعيل، وكان حميلاً عربياً.
وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في " جُرهم " حين نزلوا عند هاجر بمكَّة.
والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم : عادٌ وثمود، وطسْم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وآدم يقال : إنَّه كان ملكاً، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر، وبنوه قبيلة يقال لها " وبار " هلكوا بالرمل. انثال عليهم ؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء :[ الرجز ]
وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ٥
وأمَّا الثالثُ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون، أنَّ سام بن نوح أبو العرب، وفارس، والروم، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح.
قال بعضهم : والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة، وغيرها من الألسنةِ، لقوله تعالى :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا ﴾ [ البقرة : ٣١ ].
ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ.
قال بعضُ الحكماءِ : حكمة الرُّوم في أدمغتهم ؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم، وعذوبة عباراتهم.

فصل


اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين :
الأول : أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً، والسبب فيه وجوه :
أحدها : أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش.
وثانيها : استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يزيدُ في التيه، والتَّكبر، والفخر، والطيش عليهم.
وثالثها : أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب ؛ فنشأوا كما شاءوا، ومن كان كذلك ؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً.
ورابعها : أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبياناته الشافية، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير، ولم يسمع خبره ؟
وخامسها : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ. و " أشَدّ " أصله : أشدد، وقد تقدم. وقوله " كُفْراً " نصب على الحال، و " نِفَاقاً " عطف عليه، و " أجْدَرُ " عطف على " أشَدّ ".
الحكم الثاني : قوله :﴿ وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ. . ﴾ " أجْدَر " أي : أحَقُّ وأولى ؛ يقال : هو جديرٌ وأجدرُ، وحقيقٌ وأحقُّ، وخليقٌ وأخلقُ، وقمنٌ بكذا، كلُّه بمعنى واحد، قال الليثُ : جَدَر يَجْدرُ جدارَةً، فهو جَديرٌ، ويُثَنَّى ويُجمع ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا٦
وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة، وأنَّها من الجدار، أي : الحائط، فقال :" والجديرُ : المُنتهى، لانتهاء الأمر إليه، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ ". والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من :" الجَدْر، وهو أصل الشجرة ؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك : جدير بكذا.
وقوله :﴿ أَلاَّ يَعْلَمُواْ ﴾ أي : بألاَّ يعلمُوا، فحذف حرف الجر ؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي، مع سيبويه والفراء. والمراد بالحدُودِ : ما أنزل الله على رسوله، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ. ﴿ والله عَلِيمٌ ﴾ بما في قلوب خلقه :" حَكِيمٌ " فيما فرض عليهم من فرائضه.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٢ أخرجه مسلم (٣/١٣٥٧) كتاب الجهاد: باب جواز الإغارة على الكفار (٣/١٧٣٠)..
٣ أخرجه الحاكم (٤/٨٧) وأبو نعيم (٢/٣٣٣) والطبراني في الأوسط كما في "المجمع" (١٠/٥٦) من طريق الهيثم عن أنس به وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورده الذهبي بقوله: قلت: الهيثم متروك وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد (١٠/٥٦) وقال: رواه الطبرانب في الأوسط وفيه الهيثم بن جماز وهو متروك..

٤ أخرجه ابن ماجه (١/٣٤٣) كتاب إقامة الصلاة: باب في فرض الجمعة حديث (١٠٨١) والبيهقي (٣/٩٠، ١٧١) قال البوصيري: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي..
٥ البيت للأعشى ينظر: ديوانه (٢٨١) شرح أبيات سيبويه ٢/٢٤٠، شرح الأشموني ٢/٥٣٨، شرح التصريح ٢/٢٢٥، شرح شذور الذهب ص ١٢٥، شرح المفصل ٤/٦٤، ٦٥، الكتاب ٣/٢٧٩، المقاصد النحوية ٤/٣٥٨، همع الهوامع ١/٢٩ أمالي ابن الحاجب ص (٣٦٤) أوضح المسالك ٤/١٣٠، المقتضب ٣/٣٧٥٢٥٠المقرب ١/٢٨٢، اللسان (وبر) وروي "ومر" بدل "وكر"..
٦ تقدم..
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً ﴾.
نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم. " مَنْ " مبتدأ، وهي إما موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ.
و " مَغْرَماً " مفعول ثانٍ ؛ لأنَّ " اتَّخَذَ " هنا بمعنى " صيَّر ". والمَغْرَمُ : الخسران، مشتق من الغرام، وهو الهلاك ؛ لأنَّه سببه، ومنه :﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٥ ]. وقيل أصله الملازمةُ، ومنه الغريمُ : للزومه من يطالبه، والمغرم : مصدر كالغرامةِ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ. قال عطاءٌ : لا يرجُون على إعطائه ثواباً ؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً١. و " يتربَّصُ " عطفٌ على " يتَّخِذ "، فهو إمَّا صلة، وإما صفة. والتَّربُّصُ : الانتظارُ. وقوله :﴿ بِكُمُ الدوائر ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ الياء متعلقةٌ بالفعل قبلها.
والثاني : أنها حالٌ من " الدَّوائر " قاله أبو البقاءِ وليس بظاهرٍ، وعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر. و " الدَّوائرِ " جمعُ " دائرةٍ " وهي ما يُحيط بالإنسان من مُصيبة ونكْبَةٍ، تصوُّراً من الدَّائرة المحيطة بالشَّيء من غير انفلاتٍ منها، وأصلها :" دَاوِرَة " ؛ لأنَّها من دَارَ يدُورُ، أي : أحَاطَ، ومعنى " تَربُّص الدَّوائر " أي : انتظار المصائب ؛ قال :[ الطويل ]
تَربَّصْ بهَا رَيْبَ المنُونِ لعلَّها تُطلَّقُ يوْماً أو يَمُوتُ حليلُهَا٢
قال يمانُ بن رئابٍ :" يعني ينقلبُ الزَّمانُ عليكم فيموت الرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر المشركون ". قوله :﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء ﴾ هذه الجملةُ معترضةٌ بين جمل هذه القصَّةِ، وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابنُ كثير٣ وأبو عمرو هنا :" السُّوءِ "، وكذا الثانية في الفتحِ بالضَّم والباقون بالفتحِ.
وأمَّا الأولى في الفتح، وهي " ظنَّ السوءِ ".
فاتفق على فتحها السبعةُ. فأمَّا المفتوح فقيل : هو مصدر.
قال الفرَّاءُ٤ :" فتحُ السِّين هو الوجه ؛ لأنَّه مصدرٌ يقالُ : سُؤتُه سَوْءاً، ومَساءةٌ، وسَوائِيَةٌ، ومَسَائِيَةٌ، وبالضَّم الاسم، كقولك : عليهم دائرةُ البلاءِ والعذاب ".
قال أبُو البقاء :" وهو الضَّرَرُ، وهو مصدر في الحقيقة ". يعني أنَّه في الأصل كالمفتوح، في أنَّهُ مصدرٌ، ثُمَّ أطلقَ على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي :" مَنْ فتح السِّين فمعناه الفساد والرَّداءة، ومنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضَّرر ". وظاهرُ هذا أنَّهما اسمان لما ذكر. ويحتملُ أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أطلقا على ما ذكر. وقال غيره : المضمومُ العذاب والضرر، والمفتوح : الذم، ألا ترى أنَّه أجمع على فتح ﴿ ظَنَّ السوء ﴾ [ الفتح : ٦ ] وقوله :﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ ﴾ [ مريم : ٢٨ ]، إذ لا يليقُ ذكرُ العذاب بهذين الموضعين. وقال الزمخشري فأحسن :" المضمومُ : العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ ل " دائرة " كقولك : رجُل سوءٍ، في نقيض رجل عدل ؛ لأنَّ منْ دَارتْ عليه يذُمُّهَا ". يعني أنَّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أضيفَتْ لصفتها، كقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ ﴾ [ مريم : ٢٨ ]. قال أبُو حيَّان " وقد حكي بالضَّمِّ " ؛ وأنشد الأخفشُ :[ الطويل ]
وكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ لمَّا رَأى دَماً بِصَاحبهِ يَوْماً أحَالَ عَلى الدَّمِ٥
وفي " الدائرة " مذهبان :
أظهرهما : أنها صفةٌ على فاعلة، ك " قائمة ". وقال الفارسيُّ :" يجوز أن تكون مصدراً كالعافية، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء، أو السوء لما عرف منها معنى السُّوء ؛ لأنَّ دائرة الدَّهر لا تستعملُ إلاَّ في المكروهِ، والمعنى : يدور عليهم البلاءُ والحزنُ، فلا يرون في محمد، ودينه إلاَّ ما يَسُوؤهم ". ثم قال :﴿ والله سَمِيعٌ ﴾ لقولهم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بنيَّاتهم.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٠)..
٢ تقدم..
٣ ينظر: السبعة ص (٣١٦)، الحجة للقراء السبعة ٤/٢٠٦-٢٠٩، حجة القراءات ص (٣٢١)، إعراب القراءات ١/٢٥٢، إتحاف ٢/٩٦..
٤ ينظر: معاني القرآن لفراء ١/٤٥٠..
٥ البيت للفرزدق ينظر: ديوانه ٢/١٨٧، جامع البيان ١٤/٤٣١، التهذيب ٥/٢٤٦ العقد الفريد ٦/٢٤٢، التفسير الكبير ٦/١٦٧، معاني الأخفش ٢/٥٥٩ اللسان (حول)، الدر المصون ٣/٤٩٦..
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن أنَّ في الأعرابِ من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مَغْرَماً، بيَّن هنا أنَّ منهم أيضاً من يؤمن بالله واليوم الآخر. قال مجاهدٌ : هم بنو مقرن من مزينة١. وقال الكلبيُّ هم أسلم، وغفار، وجهينة٢. وروى أبو هريرة قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم :" لأسْلمُ وغفارٌ، وشيءٌ مِنْ مُزَيْنَة وجُهَيْنةَ، خَيْرٌ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنْ أسَدٍ وغطفان وهوَازنَ وتَميمٍ " ٣.
قوله :﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ ﴾ ف " قُرُباتٍ " مفعولٌ ثانٍ ل " يتَّخذَ " كما مرَّ في ﴿ مَغْرَماً ﴾ [ التوبة : ٩٨ ] ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضمِّ الرَّاء من " قُربَات "، مع اختلافهم في راء " قُرْبة " كما سيأتي، فيحتملُ أن تكون هذه جمعاً ل " قُرْبة " بالضَّم، كما هي قراءة ورشٍ عن نافعٍ، ويحتملُ أن تكون جمعاً لساكنها، وإنَّما ضُمَّت إتباعاً، ك " غُرُفَات "، وقد تقدَّم التَّنبيه على هذه القاعدة، وشروطها عند قوله :﴿ فِي ظُلُمَاتٍ ﴾ [ البقرة : ١٧ ] أول البقرة.
قال الزجاجُ : يجوزُ في " القُرُبَات " أوجه ثلاثة، ضم الراء، وإسكانها، وفتحها.
والمعنى : أنَّهم يتخذون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند اللهِ.
قوله :" عِندَ الله " في هذا الظرف ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّه متعلقٌ ب " يتَّخذ " والثاني : أنَّهُ ظرف ل " قُرُبات "، قاله أبو البقاءِ. وليس بذلك.
الثالث : أنه متعلقٌ بمحذُوفٍ، لأنَّه صفةٌ ل " قربات ". قوله :﴿ وَصَلَوَاتِ الرسول ﴾ فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها نسق على " قُربات "، وهو ظاهرُ كلام الزمخشري، فإنَّه قال :" والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصول القربات عند اللهِ وصلوات الرسول، لأنَّهُ كان يدعو للمتصدِّقين بالخيرِ، كقوله :" اللَّهُمَّ صلِّ على ألِ أبِي أوْفَى " والثاني - وجوَّزهُ ابنُ عطية ولم يذكر أبُو البقاءِ غيره - : أنها منسوقةٌ على " ما يُنفقُ "، أي : ويتَّخذ بالأعمال الصَّالحة صلوات الرسول قربة.
قوله :﴿ ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ ﴾ الضمير في " إنَّها " قيل : عائدٌ على " صَلواتِ ".
وقيل : على النَّفقات أي : المفهومة من " يُنفِقُون ". وقرأ٤ ورشٌ " قُرُبَة " بضمِّ القاف والرَّاء، والباقون بسكونها، فقيل : لغتان. وقيل : الأصلُ السكون، والضَّم إتباع. وقد تقدَّم الخلاف بين أهل التصريف، هل يجوزُ تثقيل " فُعْل " إلى " فُعُل " ؟ وأنَّ بعضهم جعل " يُسُرا، عُسُرا " بضمِّ السين فرعين على سكونها، وقيل : الأصلُ " قُرُبة " بالضَّمِّ، والسكون تخفيف، نحو : كتب ورسل، وهذا أجْرَى على لغة العرب، إذ مبناها الهرب من الثِّقل إلى الخفة. وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثباتِ الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه. قال معناه الزمخشريُّ، قال : وكذلك سيدخلهم وما في السِّين من تحقيقِ الوعدِ. ثم قال :﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ ﴾ لسيِّآتهم " رَّحِيمٌ " بهم حيث وفقهم لهذه الطَّاعات.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٢) وزاد نسبته إلى سنيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢١)..
٣ أخرجه مسلم (٤/١٩٥٥) كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل غفار وأسلم وجهينة-حديث (١٩١/٢٥٢١) من حديث أبي هريرة..
٤ ينظر: السبعة ص (٣١٧)، الحجة ٤/٢٠٩-٢١٢، حجة القراءات ص (٣٢٢)، إعراب القراءات ١/٢٥٤-٢٥٥، إتحاف ٢/٩٧..
قوله تعالى :﴿ والسابقون الأولون ﴾ الآية.
" وَالسَّابقُون " فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّه الجملة الدعائية من قوله :﴿ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ ﴾.
والثاني : أنَّ الخبر قوله :" الأوَّلون "، والمعنى : والسَّابقون إلى الهجرة الأوَّلُون من أهل هذه المِلَّةِ، أو السابقون إلى الجنَّة الأولون من أهل الهجرة.
الثالث : أنَّ الخبر قوله :﴿ مِنَ المهاجرين والأنصار ﴾ والمعنى فيه الإعلام بأنَّ السابقين من هذه الأمَّةِ من المهاجرين والأنصار، ذكر ذلك أبو البقاءِ. وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ.
الثاني من وجهي " السَّابقين " : أن يكون نسقاً على " مَنْ يُؤمِنُ باللهِ "، أي : ومنهم السابقون، وفيه بعدٌ، والجمهور على جرِّ " الأنْصارِ " نسقاً على " المُهاجِرينَ " يعني أنَّ السابقين من هذين الجنسين.
وقرأ جماعة١ كثيرة أجلاَّء : عمرُ بنُ الخطَّابِ، وقتادةُ، والحسنُ، وسلامُ، وسعيدُ ابنُ أبي سعيد، وعيسى الكوفيُّ، وطلحة، ويعقوب " والأنصارُ " برفعها، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّه مبتدأ، وخبره " رضِيَ الله عنهُم ". والثاني : عطفه على " السَّابقُون "، وقد تقدَّم ما فيه، فيُحكم عليه بحكمه.
قوله :" بإِحْسانٍ " متعلقٌ بمحذوف، لأنَّه حالٌ من فاعل " اتَّبَعُوهُم ". وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يرى أن الواو ساقطة من قوله :" والذين اتبعوهم " ويقول : إنَّ الموصول صفةٌ لمن قبله، حتى قال له زيدُ بنُ ثابتٍ : إنَّها بالواو، فقال : ائتوني بأبيّ، فأتوه به، فقال له : تصديق ذلك في كتاب اللهِ في أول الجمعة ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ [ الجمعة : ٢ ]، وأوسط الحشر ﴿ والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ [ الحشر : ١٠ ] وآخر الأنفال ﴿ والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ]. وروي أنَّهُ سمع رجلاً يقرؤها بالواو، فقال : من أقْرأكَ ؟ فقال : أبيّ، فدعاه، فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّك لتبيع القرظ بالبقيع، قال : صَدقْتَ، وإن شئت قل : شهدنَا وغبْتُم، ونصَرْنَا وخذلْتُم، وآوَيْنَا وطَرَدْتم، ومن ثمَّ قال عمرُ : لقد كنتُ أرانا رُفِعْنَا رفعة، لا يبلغُها أحدٌ بعدنا٢.

فصل


لمَّا ذكر فضائل الأعراب الذين يتَّخذُونَ ما ينفقُون قربات عند الله، وما أعد لهم، بين أنَّ فوق منزلتهم منازل أعلَى وأعظم منها، وهي منازلُ السَّابقين الأولين. واختلفوا فيهم، فقال ابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ المسيب، وقتادة، وابن سيرين، وجماعة : هم الذين صلُّوا إلى القبلتين٣، وقال عطاءُ بن أبي رباح : هم الذين شهدوا معه بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية٤. وقال أبو مسلم : من تقدم موته بعد الإسلام من الشهداء وغيرهم. وقال ابنُ الخطيبِ :" والصحيحُ عندي أنَّهم السَّابقون في الهجرة، والنصرة، لكونه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً ". واختلفوا هل يتناولُ جميع الصحابة الذين سبقوا إلى الهجرة، والنصرة أم يتناول بعضهم ؟ فقال قومٌ : إنَّه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا، فلا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأنَّ كلمة " مِنْ " للتَّبعيض.
ومنهم من قال : بل يتناولُ جميع الصحابةِ ؛ لأنَّ جملة الصَّحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة " مِنْ " في قوله " مِنَ المُهاجرينَ والأنصَارِ " ليست للتَّبعيض، بل للتبيين، كقوله :﴿ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان ﴾ [ الحج : ٣٠ ]، وذهب إلى هذا كثيرٌ من النَّاس.
روى حميدُ بن زيادٍ أنَّهُ قال : قلت يوماً لمحمَّدِ بن كعب القرظيِّ : ألا تُخْبرني عن أصحاب الرسول فيما كان بينه ؟ وأردت الفتن، فقال : إنَّ الله قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنَّة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له : وفي أيّ موضع أوجب لهم الجنّة ؟ قال : سبحان الله ! ألا تقرأ قوله :﴿ والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار ﴾ [ التوبة : ١٠٠ ] إلى آخر الآية ؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - الجنَّة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً، قلت : وما ذاك الشَّرط ؟ فقال : شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال : المرادُ أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو ألاَّ يقولوا فيهم سوءاً، وألاَّ يوجهوا الطَّعْنَ فيما أقدموا عليه٥. قال حميدُ بن زياد : فكأنِّي ما قرأتُ هذه الآية قط، قال أبو منصور البغداديُّ التميمي : أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريُّون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

فصل


واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنَّها أوَّلُ من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جابر : أوَّل من أسلم وصلَّى عليُّ بن أبي طالبٍ٦. قال مجاهدٌ وابن إسحاق : أسلم وهو ابن عشر سنين٧. وقال ابنُ عباسٍ، وإبراهيم النخعي، والشعبي : أوَّلُ من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق٨. وقال الزهريُّ وعروة بنُ الزُّبير : أوَّلُ من أسلم زيدُ بن حارثة٩.
وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بجمع بين هذه الأخبار فيقول :" أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساءِ خديجة ومن الصِّبيان عليّ، ومن العبيد زيد بن حارثة١٠ ". قال ابن إسحاق : لمَّا أسلم أبُو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجُلاً محسناً سَهْلاً، وكان تَاجِراً، ذا خُلِقٍ، وكان رجال قومه يأتُونهُ ويألفونهُ، لعلمه وحُسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يده فيما بلغني عثمان والزبيرُ بنُ العوام وعبدُ الرحمن بن عوفٍ وسعدُ بنُ أبي وقَّاص وطلحةُ بنُ عبيد الله ؛ فجاء بهم إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمُوا وصلُّوا معه، فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلامِ، ثم تتابع النَّاسُ في الدُّخُولِ في الإسلامِ، أمَّا السابقُون من الأنصار الذين بايعُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى وكانوا ستة نفر ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً، ثم العقبة الثالثة وكانوا سبعين فهؤلاء سباق الأنصار. ثمَّ بعثَ رسُول الله، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلِّمهم القرآن ؛ فأسلم على يده خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان١١.
والمراد بالمهاجرين الذين هاجروا قومه وعشيرتهم، وفارقُوا أوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه، وآووا أصحابه.
﴿ والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ ﴾ [ التوبة : ١٠٠ ] قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وعلى هذا أتي ب " مِنْ " للتبعيض. وقيل : هم الذين سلكُوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاءٌ : الذين يذكرُون المهاجرين والأنصار بالتَّرحم والدُّعاء١٢. ثم جمع الله في الثَّواب فقال :﴿ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار ﴾ وقرأ ابنُ١٣ كثير :" تَجْري من تحْتِهَا " ب " مِن " الجارَّة، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكَّة. والباقون " تَحْتها " بدونها ولم تُرسَمْ في مصاحفهم. وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءةِ ابنِ كثير في غير موضع.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٠٤، المحرر الوجيز ٣/٧٥، البحر المحيط ٥/٩٦، الدر المصون ٣/٤٩٧..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٣) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ عن محمد بن كعب القرظي..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٤) عن أبي موسى وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وقتادة وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢١).
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٣) وعزاه إلى الطبري وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وأبي نعيم في "المعرفة" عن أبي موسى وإلى ابن المنذر وأبي نعيم عن ابن سيرين وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وأبي نعيم في "المعرفة" عن سعيد بن المسيب..

٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٣) عن الشعبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٤) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة وذكره البغوي أيضا في "تفسيره" (٢/٣٢١) عن الشعبي..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٥) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه عن حميد بن زياد.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٢)..

٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢١)..
٧ ينظر: المصدر السابق..
٨ ينظر: المصدر السابق..
٩ ينظر: المصدر السابق..
١٠ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٢) والرازي (١٦/١٣٥)..
١١ انظر: المصدر السابق..
١٢ انظر: المصدر السابق..
١٣ ينظر: الكشاف ٢/٣٠٥، المحرر الوجيز ٣/٧٥، البحر المحيط ٥/٩٦، الدر المصون ٣/٤٩٨..
قوله :﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ. . . ﴾ خبر مقدَّم، و " مُنَافقُونَ " مبتدأ، و " مِنَ الأعْرابِ " لبيان الجنسِ. " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " يجوزُ أن يكون نسقاً على " مَنْ " المجرورة ب " مِنْ "، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ، وهو " مُنافقُونَ " بهما، كأنَّه قيل : المنافقون من قوم حولكم، ومن أهل المدينة، وعلى هذا هو من عطف المفردات، إذ عطفت خبراً على خبر، وعلى هذا، فيكون قوله :" مَرَدُوا " مستأنفاً لا محلَّ له. ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله :" مُنافقُونَ " ويكونُ قوله " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " خبراً مقدما، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع " مِنْ " التَّبعيضية، وقد مرَّ تحريره، نحو :" مِنَّ ظعن، ومِنَّا أقامَ " والتقدير : ومن أهلِ المدينةِ قومٌ، أو أناسٌ مرَدُوا، وعلى هذا فهو من عطف الجمل.
ويجوز أن يكون " مَرَدُوا " على الوجه الأوَّلِ صفةً ل " مُنَافِقُون " وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله :" ومِنْ أهل المدينةِ "، والتقدير : وممَّن حولكم، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون.
قال ذلك الزجاجُ، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء، واستبعده أبو حيَّان، للفصل بين الصِّفة وموصوفها.
قال :" فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ، وفي القصر العاقل ". يعني ففصلت بين " زيد "، و " العاقل " بقولك :" وفي القصر ". وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني، وإقامة صفته مقامه بقوله :[ الوافر ]
أنَا ابْنُ جَلاَ. . . ***. . . ١
قال أبُو حيَّان٢ :" إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع " مِنْ " مُطَّردٌ ؛ وقوله :[ الوافر ]
أنَا ابْنُ جَلاَ. . . ***. . . ٣
ضرورة ؛ كقوله :[ الرجز ]
يَرْمِي بِكَفِّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ٤ ***. . .
والبيت المشار إليه، هو قوله :[ الوافر ]
أنَا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنَايَا *** مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي٥
وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات :
أحدها : ما تقدم. والآخر : أنَّ هذه الجملة محكيّة ؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ، فإنَّ " جَلاَ " فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا : شَابَ قَرْنَاهَا، وذَرَّى حَبّاً٦، وقوله :[ الرجز ]
نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ *** ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ٧
والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر : أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير، وإنَّما لم يُنوَّن ؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي ب " ضرب، وقتل " منعهما، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة، نحو : جَمَل، وجَبَل٨. والمراد بأهل المدينةِ : الأوس والخزرج. و " مَرَدُوا " أي : مَهَرُوا، وتمرَّنُوا، وثبتوا على النفاق.
وقال ابن إسحاق : لجوُّا فيه وأبوا غيره. وقال ابنُ زيدٍ : أقاموا عليه ولم يتوبوا٩. وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ، عند قوله :﴿ شَيْطَاناً مَّرِيداً ﴾ [ النساء : ١١٧ ].
قوله :" لا تَعْلمُهُم " هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ل " مُنَافِقُون "، ويجوزُ أن تكون مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه ؛ فيتعدَّى لاثنين، أي : لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين ؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب، لا يطلع عليه. وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبُو البقاءِ. وأمَّا " نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ " فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها، لما تقدَّم في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذُورٌ لما تقدَّم. قوله :" سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ " تقدَّم الكلامُ في نصب ﴿ مَرَّةٍ ﴾ [ التوبة : ١٣ ]، وأنَّه من وجهين، إمَّا المصدرية، وإمَّا الظرفية، فكذلك هذا، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد، وعليه الأكثر، واختلفُوا في تفسيرها، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية، بل يُراد بها التَّكثيرُ، كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ [ الملك : ٤ ]، أي : كرَّاتٍ، بدليل قوله :﴿ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [ الملك : ٤ ]، أي : مزدجراً، وهو كليلٌ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات، ومثله " لبَّيْكَ، وسعْديكَ، وحنَانيْكَ ".
وروى عياشٌ١٠ عن أبي عمرو " سنُعذِّبْهُم " بسكون الباءِ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك ﴿ يَنصُرْكُمُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ] وبابه، وإن كان باب " ينْصُركُم " أحسن تَسْكِيناً، لكون الرَّاءِ حرف تكرار ؛ فكأنه توالى ضمَّتان، بخلاف غيره، وقد تقدَّم تحريره.
وقال أبُو حيَّان : وفي مصحف أنس١١ " سيُعذِّبهُم " بالياءِ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ، فكيف يقال هذا ؟ !

فصل


وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السُّديُّ والكلبيُّ : قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال :" اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ. . . " فأخرج من المسجد ناساً، وفضحهم، فهذا هو العذابُ الأولُ.
والثاني : عذاب القبر١٢. وقال مجاهدٌ : الأولُ القتل والسبي، والثاني عذاب القبر١٣، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين١٤. وقال قتادةُ : بالدبيلة في الدُّنيا، وعذاب القبر١٥. وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا، والأخرى عذاب القبر١٦. وعن ابن عبَّاسٍ : الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر١٧. وقال ابنُ إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام، ودخولهم فيه من غير حسبة، ثم عذاب القبر١٨. وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم عند قبض أرواحهم، ثم عذاب القبر، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي : عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ : الأولى أخذ الزكاة من أموالهم، وعذاب القبر١٩.
١ قطعة من بيت وهو بتمامه:
انا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني
وهو لسحيم بن وثيل. ينظر: الكتاب ٣/٢٠٧، مجالس ثعلب ١/١٧٦، ابن يعيش ١/٦١، ٣/٥٩، ٦٢، البحر ٥/٩٧، المغني ١/١٦٠، ٣٣٤، العيني ٤/٣٤٦، التصريح ٢/٢٢١، الهمع ١/٣٠، الأشوني ٣/٣٣٤، الخزانة ١/٢٥٥ الاشتقاق ص(٢٢٤)، الأصمعيات ص (١٧)؛ جمهرة اللغة ص ٤٩٥، ١٠٤٤، الدرر ١/٩٩، المفصل ٣/٦٢، الشعر والشعراء ٢/٦٤٧ المقاصد النحوية ٤/٣٥٦ أمالي ابن الحاجب ص (٤٥٦) أوضح المسالك ٤/١٢٧، شرح قطر الندى ص ٨٦ المقرب ١/٢٨٣، اللسان: ثنى، الدر المصون ٣/٤٩٩..

٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٩٧..
٣ تقدم..
٤ تقدم..
٥ تقدم..
٦ البناء الذي يشترك فيه الأسماء والأفعال وذلك بأن يسمى بمثل ضرب وعلم وظرف فإنه منصرف معرفة كان أو نكرة لأنه يكون في الأسماء كثرته في الأفعال من غير غلبة فنظير ضرب في الأفعال من الأسماء جبل، وقلم، ونظير علم كتف ورجل ونظير ظرف عضد ويقظ وليس ذلك في أحدهما أغلب منه في الآخر فلم يكن الفعل أولى به فلم يكن سببا، ومذهب عيسى بن عمر هو أنه متى سمي بالفعل كان كونه على صيغة الفعل سببا فيجتمع مع العلمية فيمتنع من الصرف فلذلك يمتنع صرف قتل وخرج إذا سمي بهما لأن فيه وزن الفعل مع العلمية.
ومذهب سيبويه والخليل وجمهور الناس أن المعتبر في وزن الفعل إما خصوصية وزيد لا يكون إلا من الفعل وإما أن تكون في أول الفعل زيادة كزيادة الفعل سواء في الأصل اسما أو فعلا فلا فرق بين أرنب وأخرج إذا سمي بهما في أنهما غير مصروفين ولا فرق بين جبل وقتل إذا سمي بهما في أنهما مصروفان وهذا هو الصحيح الذي يدل عليه ما نقله الثقات العرب الفصحاء وليس في البيت حجة عند سيبويه لاحتمال أن يكون سمي بالفعل وفيه ضمير فاعل ويكون جملة، والجمل تحكي إذا سمي بها نحو برق نحره وشاب قرناها أو يكون جملة غير مسمى بها في موضع الصفة لمحذوف والتقدير أنا ابن رجل جلا فلا يكون فيه على كلا الوجهين حجة أما الزمخشري فيقول إن جلا ليس علما وإنما هو فعل ماض مع ضميره صفة لموصوف محذوف. لكن يرد عليه أن الجملة إذا كانت صفة لمحذوف فشرط موصوفها أن يكون بعضا من متقدم مجرور بمن أو "في" ويراه ابن الحاجب ابن ذي جلا بالتنوين على حذف مضاف..

٧ البيت لرؤبة ينظر: ملحقات ديوانه (١٧٢)، شرح المفصل لابن يعيش ١/٢٨، التصريح ١/١١٧، الأشموني ١/١٣٢، المغني ٢/٦٢٦، الخزانة (١/٢٧٠)، العيني ١/٣٨٨، ١/٢٧٠، الدر المصون ٣/٤٩٩..
٨ لا يخلو –يزيد- إما أن يكون منقولا من قولك: يزيد المال أو من قولك: المال يزيد، فإن كان من الأول فهو مفرد ووجب أن يعرب إعراب المفردات في باب منع الصرف ولم يفعل به ذلك ههنا فدل على أنه منقول من الثاني فيكون جملة والجملية إذا سمي بها وجب حكايتها والدليل على وجوب حكايتها أن كل اسم علم مركب حكمه بعد التسمية في الإعراب والبناء حكمه قبل التسمية ما لم يمنع مانع وهذا قبل التسمية جملة ليس لها إعراب باعتبار الجملية فوجب بقاؤها وإنما كانت الجمل لا إعراب لها باعتبار الجملية، لأن المقتضي للإعراب مفقود، وذلك ان المقتضي للإعراب اعتوار المعاني المختلفة على المفردات والجمل ليست كذلك، ووجه ثان وهو أن المسمى بالجملة المنقولة غرضه بقاء صورة الجملة فيها ولو أعربت الجملة خرجت عن صورتها. ووجه ثالث وهو أنه يتعذر إعرابها لأنها لو أعربت لم يخل إما أن يعرب الأول والثاني أو هما جميعا، وباطل إعراب الأول، لأنه في المعنى بمثابة الزاي من زيد، والإعراب لا يكون وسطا وباطل إعراب الثاني لأنه يؤدي إلى أن يكون الأول معربا مبنيا وباطل إعرابهما جميعا لأن إعرابا واحدا في وجه واحد لا يستقيم أن يكون لشيئين قال ابن يعيش وفي نسخ المفصل يزيد بالياء وصوابه تزيد بالتاء المعجمة بثنتين من فوقها وهو تزيد بن حلوان أبو قبيلة معروفة إليه تنسب البرود التزيدية..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٣)..
١٠ ينظر: البحر المحيط ٥/٩٨، الدر المصو ٣/٤٩٩..
١١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٧٦، البحر المحيط ٥/٩٨، الدر المصون ٣/٤٩٩..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٧) عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٦) من هذا الطريق وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم والطبراني في "الأوسط" وأبي الشيخ وابن مردويه وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٣) عن الكلبي والسدي..

١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٦) وذكره البغوي (٣٢٣)..
١٤ انظر المدر السابق..
١٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٣)..
١٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٧) وعزاه إلى أبي الشيخ..
١٧ ذكره الطبري في "تفسيره" (٦/٤٥٨) والبغوي (٢/٣٢٣)..
١٨ انظر المصدر السابق..
١٩ أخرجه الطبري (٦/٤٥٨) عن الحسن والبغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٣) والرازي (١٦/١٣٨)..
قوله تعالى :﴿ وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ الآية.
" وآخرون " نسقٌ على " مُنافِقُون " أي : وممَّن حولكم آخرون، أو من أهلِ المدينة آخرون. ويجوزُ أن يكون مبتدأ، و " اعترفُوا " صفته، والخبر قوله :" خلطُوا ". قوله :" وآخَرَ " نسقٌ على " عَمَلاً ". قال الزمخشريُّ :" فإن قلت : قد جُعِلَ كُلُّ واحد منهما مخلُوطاً، فما المخلُوط به ؟ قلتُ : كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به ؛ لأنَّ المعنى : خلط كل واحدٍ منهما بالآخر، كقولك : خلَطْتُ الماءَ واللَّبن، تريدُ : خلطتُ كُلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك : خلطتْ الماءَ باللَّبَنِ ؛ لأنَّك جعلت الماء مَخْلُوطاً، واللَّبنَ مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو جعلتَ الماءَ واللَّبنَ مخلوطين، ومخلوطاً بهما، كأنَّك قلت : خلطتُ الماءَ باللبن، واللبن بالماءِ ". ثمَّ قال " ويجوزُ أن يكون من قولهم : بِعْتُ الشَّاة : شاةً ودرهماً، بمعنى : شاة بدرهم ".
قال شهابُ الدِّينِ :" لا يريدُ أنَّ الواو بمعنى الباءِ، وإنَّما هذا تفسيرُ معنى " وقال أبُو البقاءِ١ :" ولو كان بالباءِ جاز أن تقول : خلطتُ الحنطة والشعير، وخلطت الحنطةَ بالشَّعير ".
قوله :" عَسَى الله " يجوزُ أن تكون الجملةُ مستأنفةً، ويجوزُ أن تكون في محلِّ رفع خبراً ل " آخرون " ويكون قوله " خلطُوا " في محلِّ نصب على الحالِ، و " قَدْ " معه مقدَّرةٌ، أي : قد خلطوا. فتلخَّص في :" آخرُونَ " أنَّهُ معطوف على " مُنافِقُون "، أو مبتدأ مخبر عنه ب " خَلطُوا "، أو بالجملة الرجائية.

فصل


قيل : إنَّهم قوم من المنافقين، تابُوا عن النِّفاقِ ؛ لأنَّهُ عطف على قوله ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ ﴾ والعطفُ يوهم التَّشريكَ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وفقهم للتوبة. وقيل : إنَّهُم قوم من المسلمين تخلَّفوا عن غزوة تبُوك، كسلاً، لا نفاقاً، ثم نَدِمُوا على ما فعلوا وتابوا.
وروي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وروى عطية عن ابن عباس : كانوا خمسة، أحدهم أبو لبابة٢. وقال سعيد بن جبير : كانوا ثمانية٣. وقال قتادةُ والضحاك : كانوا سبعة. وقالو جميعاً أحدهم أبو لبابة٤. وقال قومٌ : نزلت في أبي لبابة خاصة، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس : أنهم كانوا عشرة، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لمَّا بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ودخل المسجد وصلى ركعتين، وكانت عادته كُلَّما قدم من سفرٍ، فرآهم موثقين، فسأل عنهم ؛ فقالوا : هؤلاء تخلَّفُوا عنك، فعاهدُوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطلقهم ويرضى عنهم، فقال :" وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم " ؛ فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم، فقالوا : يا رسُول الله هذه أموالنا التي خلَّفتنا عنك، فتصدق بها عنَّا وطهرنا، فقال :" ما أمرتُ أن آخذَ مِنْ أموالكُم شيئاً " ؛ فنزل قوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾٥ [ التوبة : ١٠٣ ] الآية.
والاعترافُ : عبارة عن الإقرار بالشَّيءِ عن معرفةٍ، ومعناه : أنَّهُم أقَرُّوا بذنبهم.
والعمل الصَّالح : هو توبتهم واعترافهم بذنبهم وربطهم أنفسهم. والعمل السيّىء : هو تخلُّفهم.
وقيل : العمل الصَّالح : خروجهم مع الرسُول - عليه الصلاة والسلام - إلى سائر الغزوات، والعمل السيّىء : تخلفهم عن غزوة تبوك.

فصل


قالوا : إنَّ الكلام ينزلُ على عرف النَّاسِ، فالسُّلطانُ إذا التمس المحتاج منه شيئاً ؛ فإنه لا يجيب إلاَّ بالتَّرجي ب " لعل، أو عسى "، تنبيهاً على أنَّه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً ؛ بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضّل، فهذا المعنى هو فائدة ذكر " عَسَى ".
والاعتراف بمجرَّدِهِ لا يكون توبة، إلاَّ إذا اقترن به النَّدم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل.

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على عدم القولِ بالإحباط، وأنَّ الطَّاعة تبقى موجبة للمدح والثَّواب، والمعصية تبقى موجبة للذّم والعقاب ؛ لأنَّ قوله تعالى :﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾ [ التوبة : ١٠٢ ] يدلُّ على أن كلَّ واحدٍ منهما يبقى كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر، لأنه وصفه بالاختلاط، والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما، لأن الاختلاط صفة للمختلطين، وحصول الوصفِ حال عدم الموصوف محال ؛ فدلَّ على بقاء العملين حال الاختلاط.

فصل


قوله :﴿ عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ يقتضي أنَّ هذه التَّوبة إنَّما تحصل في المستقبل. وقوله :﴿ وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ يدلُّ على أنَّ ذلك الاعتراف حصل في الماضي، وذلك يدلُّ على أن ذلك الاعتراف ما كان مقروناً بنفس التوبة ؛ بل كان مقدماً على التوبةِ، والتوبة إنما حصلت بعده.
١ ينظر: الإملاء ٢/٢١..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٣٩)..
٣ انظر: المصدر السابق..
٤ المصدر السابق وأخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٦١)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٦٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٨٧-٤٨٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل"..
قوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ قال الحسنُ: هذا راجع إلى الذين تابُوا؛ لأنهم بذلُوا أموالهم للصَّدقة؛ فأوجب الله تعالى أخذها، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم، فتكون جارية مجرى الكفارة. وليس المراد منها الصدقة الواجبة، وإنَّما هي كفارة الذنبِ. وهذا بناء على القول بأنَّهُم ليسوا منافقين، ويدلُّ عليه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما أمرتُ أن آخُذَ مِنْ أموالكُمْ شَيْئاً» فلو كانت واجبة لم يقل ذلك. وأيضاً روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أخذ الثلث وترك الثلثين. والواجبةُ ليست كذلك. وقيل: إنَّ الزكاة كانت واجبة عليهم، فلمَّا تابُوا عن تخلفهم عن الغزوِ، وحسن إسلامهم، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم. وهذا بناء على أنَّهم كانوا منافقين.
وقيل: هذا كلام مبتدأ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزَّكاة من الأغنياء، وعليه أكثر الفقهاء، واستدلُّوا بقوله ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾. فدلَّ على أنَّ المأخوذَ بعض تلك الأموال لا كلها؛ لأنَّ «مِنْ» للتبعيض، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به، بل المصرح به قوله: «صدقَة»، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان، وإن كان في غاية
193
القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم، حتى يكون قوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة، لكي يزول الإجمالُ. وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، إلى غير ذلك، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال، وظهر تعلق الآية بما قبلها، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها.
قوله: ﴿.. مِنْ أَمْوَالِهِمْ..﴾ يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب «خُذْ»، و «مِنْ» تبعيضية.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها حالٌ من «صدقةً»، إذ هي في الأصل صفةٌ لها، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً. والصَّدقة: مأخوذة من الصِّدْقِ، وهي دليل على صحَّة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ.
قوله: ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ يجوزُ أن تكون التَّاء في «تُطَهِّرُهمْ» خطاباً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن تكون للتنبيه، والفاعل ضمير الصدقة، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «خُذْ». ويجوز أن تكون صفةً ل «صَدقَةً»، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد، تقديره: تُطهِّرُهُم بها، وحذف «بها»، لدلالة ما بعده عليه.
وعلى الثاني تكون الجملة صفة ل «صدقة» ليس إلاَّ، وأمَّا «تُزَكِّيهم» فالتاء فيه للخطاب لا غير، لقوله «بها»، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من «تُزكِّيهم» إلى الصَّدقة. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل «خُذ» على قولنا: إنَّ «تَطهِّرهُم» حال منه، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب. ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا: إنَّ «تُطهِّرهم» صفةٌ، والعائدُ منها محذوفٌ. وجوَّز مكيٌّ أن يكون «تُطهِّرُهُم» صفةً ل «صَدقةً»، على أنَّ التَّاء للغيبة، و «تُزكِّيهم» حالاً من فاعل «خُذْ»، على أنَّ التاء للخطاب، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ، أي: صدقة مطهِّرة، ومُزكياً بها، ولو كان بغير واوٍ جاز، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى، فلو كانت «وتُزكِّيهم» عطفاً على «تُطهِّرُهم» للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما، ولكن يجوزُ ذلك على أن «تُزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، وتكون الواوُ للحالِ، تقديره: وأنت تزكِّيهم، وفيه ضعفٌ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم. وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل «خُذْ» على أن تكون التاءُ للخطابِ، وأن تكونا صفتين ل «صَدقَة» على أنَّ التاء للغيبة، والعائد محذوفٌ من الأولى، وأن يكُون «تُطهِّرهُم» حالاً، أو صفة، و «تُزكِّيهم» حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ، وأن يكون «تزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، والواوُ للحال. وقرأ الحسنُ «تُطْهرُهم» مُخَفَّفاً من «أطهر» عدَّاهُ بالهمزة.
194

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بالأموال لا بالذِّمة، لقوله ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ فلو مات أخذَت من التَّركة. وقال الشَّافعيُّ: إنَّها تتعلَّق بالذِّمة، فلو فرط حتى هلك النصاب، وجبت الزَّكاةُ؛ لأنَّ الذي هلك ما كان محلاً للحق. ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الزَّكاة إنَّما وجبت طهرة للآثام؛ فلا تجبُ إلا على البالغِ. وهو قول أبي حنيفة. وإذا قلنا: تتعلَّق بالمالِ وجبت في مال الصَّبي، وفي مال المديُونِ.

فصل


معنى التَّطَهُّر ما روي أن الصدقة أوساخ النَّاسِ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخُ؛ فكان دفعها جارياً مجرى التَّطهر. والتَّزكية: مبالغة في التطهر، وقيل: التَّزكية بمعنى الإنماءِ، وقيل: الصَّدقة تطهرهم من نجاسةِ الذَّنب والمعصية، والرسول يزكيهم، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء. ولذلك يقولُ السَّاعي له: آجرك اللهُ فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً.
قوله: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾. قرأ الأخوان، وحفص «إنَّ صلاتكَ»، وفي هود
﴿أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ [هود: ٨٧] بالتَّوحيد - والباقون «إنَّ صلواتك» «،» أصَلواتُك «بالجمع فيهما، وهما واضحتان، إلاَّ أنَّ الصلاة هنا: الدُّعاء، وفي تيكَ: العبادة. قال أبو عبيدٍ: وقراءة الإفراد أوْلَى؛ لأنَّ الصَّلاة أكثر، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ [البقرة: ٤٣] والصلواتُ جمع قلَّة، تقول: ثلاث صلوات، وخمس صلوات.
قال أبو حاتم: وهذا غلطٌ، لأنَّ بناء الصلوات ليس للقلة، قال تعالى: ﴿مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله﴾ [لقمان: ٢٧] ولم يرد التَّقليل، وقال: ﴿وَهُمْ فِي الغرفات﴾ [سبأ: ٣٧]، وقال ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ [الأحزاب: ٣٥]. والسَّكَنُ: الطمأنينة. وقال ابنُ عبَّاسٍ: رحمة لهم. وقال أبو عبيدة: تَثْبِيتاً لقلوبهم؛ ومن الطمأنينة قوله: [البسيط]
٢٨٤٤ - يا جَارَة الحَيِّ ألاَّ كُنْتِ لِي سَكَناً إِذْ لَيْسَ بعضٌ مِنَ الجيرانِ أسْكننِي
ف»
فَعَل «بمعنى» مفعول «، كالقبض بمعنى: المقبوض، والمعنى: يَسْكُنون إليها.
قال أبُو البقاءِ:»
ولذلِكَ لمْ يُؤنِّثْهُ «. لكن الظَّاهر أنَّهُ هنا بمعنى» فاعل «، لقوله:» لهم «. ولو كان كما قال لكان التَّركيب» سكنٌ إليها «أي: مَسْكُون إليها، فقد ظهر أنَّ المعنى: مُسَكِّنة لهم.
195

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ: معنى الصَّلاةِ عليهم: أن يدعو لهم. وقال آخرون: معناه أن يقول لهم اللَّهُمَّ صلِّ على فلان، ونقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنَّ آل أبي أوفى لمَّا أتوه بالصَّدقة قال:» اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبِي أوْفَى «.
واختلفوا في وجوب الدُّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة، قال بعضهم: يجبُ. وقال بعضهم: يستحبُّ. وقال بعضهم: يجب في صدقة الفرضِ، ويستحب في التَّطوع. وقيل: يجب على الإمام، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي. ثم قال: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ الآية.
لمَّا قال في الآية الأولى ﴿عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٢] ولمْ يُصرِّح في قبول توبتهم، صرَّح في هذه الآيةِ بأنه يقبلُ التَّوبةَ عن عباده، وأنَّهُ يأخذُ الصَّدقات، أي: يقبلها. قال أبُو مسلمٍ قوله:»
أَلَمْ يعلموا «وإن كان بصيغة الاستفهام، إلاَّ أنَّ المقصود منه التقدير في النَّفس، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب، وإزالة الشَّك عنه أن يقولوا: أما علمتَ أنَّ من علَّمكَ يجبُ عليك خدمته، أما علمت أنَّ من أحسن إليك يجبُ عليك شكره، فبشَّر اللهُ هؤلاء التَّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم. ثم زاده تأكيداً بقوله: ﴿هُوَ التواب الرحيم﴾.
وقرأ الحسن بخلاف عنه»
ألَمْ تعْلمُوا «قال أبُو حيَّان:» وفي مصحف أبَيّ «ألَمْ تَعْلمُوا» بالخطاب، وفيه احتمالات، أحدها: أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا: ما هذه الخاصّيّة التي اختصّ بها هؤلاء؟ وأن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ، والمرادُ: التَّائبون، وأن يكون على إضمار قولٍ، أي: قل لهم يا محمد: ألمْ تعلمُوا «.
قوله: «هُوَ يَقْبَلُ»
«هو» مبتدأ، و «يَقْبَلُ» خبره، والجملةُ خبر «انَّ»، و «أنَّ» وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، أو مسدَّ الأول. ولا يجوزُ أن يكون «هو» فصلاً، لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، قوله: «عَنْ عبادِهِ» معلقٌ ب «يَقْبَلُ» وإنَّما تعدَّى ب «عَنْ» فقيل: لأنَّ معنى «مِنْ» ومعنى «عَنْ» متقاربان.
قال ابنُ عطيَّة: «وكثيراً ما يتوصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه، نحو:» لا
196
صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى، ومِنْ غنى «، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره، وعن أشره وبطره». وقيل: لفظة «عَنْ» تُشْعر ببعدٍ ما، تقول: جلسَ عن يمين الأمير، أي: مع نَوْعٍ من البُعْدِ. والظَّاهِرُ أنَّ «عَنْ» للمجاوزة على بابها، والمعنى: يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت: أخذت العلم عن زيد؛ فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت «منه» فمعناه ابتداء الغاية. قال القاضي: «لعلَّ» عَنْ «أبلغ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت» قوله: «وَيَأْخُذُ الصدقات» فيه سؤالٌ: وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى، وقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمعاذ «خذها من أغنِيائهم» يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟.
والجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّهُ تعالى لمَّا قال ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله، والمقصود منه: التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ونظيره قوله: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
والثاني: أنَّهُ أضيف إلى الرسول، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس، وأضيف إلى الفقير، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم﴾ [الأنعام: ٦٠]، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت﴾ [السجدة: ١١] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١]، فأضيف إلى الله بالخلق، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت، فكذا ههنا.
قوله: «هُوَ التواب» يجوزُ أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله.

فصل


روى أبو هريرة قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ:
«والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم»، ثم قرأ: ﴿أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ الآية.
197
قال ابنُ الخطيبِ: «هذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبداً، ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢]، وليس المقصودُ من هذه الحُجَّة التي ذكرها إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - القدح في إلهيّة الصَّنم؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم بالضَّرورة أنَّهُ حجر وخشب، وأنَّه عرضة لتصرف المتصرفين، فمن شاء أحرقه، ومن شاء كسره، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقلُ كونه إلهاً؟ بل المقصودُ أنَّ أكثر عبدة الأصنام كانُوا في زمن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتباع الفلاسفةِ القائلين بأنَّ إله العالم موجب بالذَّات، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار، فقال: الموجب بالذَّات إذا لم يكن عالماً بالجزئيات، ولم يكن قادراً على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين، ولا يرى تضرُّع المساكين، فأيُّ فائدة في عبادته؟ فكان المقصودُ من دليل إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الطَّعن في قول من يقول: إنَّ إله العالم موجب بالذَّات.
أمَّا إذا كان فاعلاً مختاراً، وكان عالماً بالجزئيات، فحينئذٍ يحصلُ للعبادِ الفوائدُ العظيمةُ وذلك لأنذَ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدُّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدُّنيا والآخرة، فقوله: ﴿وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ ترغيبٌ عظيم للمُطيعين، وترهيبٌ عظيم للمذنبين فكأنَّه قال: اجتهدُوا في المستقبل، فإنَّ لعملكُم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً.
أمَّا حكمه في الدُّنيا، فهو أنَّهُ يراه اللهُ ويراهُ الرسول ويراه المؤمنون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا، والثواب في الآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذَّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة، فثبت أنَّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاجُ إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده»
.

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على كونه تعالى رائياً للمرئيات؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المعدَّاة إلى مفعول واحد، هي الإبصار، والمعدَّاة إلى مفعولين هي العلمُ، كقولك: رأيتُ زيداً فقيهاً، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد، فتكون بمعنى الإبصار، فدلَّت على كونه مبصراً للأشياء كما أنَّ قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢] يدلُّ على كونه مبصراً للأشياء، ويقوِّي هذا أنَّهُ تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال: ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ فلو كانت هذه الرؤيةُ هي العلم؛ لزم التِّكرارُ الخالي عن الفائدة.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد
198
معناها: الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرؤية إلى عملهم، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر، وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسَّكنات؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له: فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله ﴿وَرَسُولُهُ والمؤمنون﴾ وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك. فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ: رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال، لقوله: ﴿فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ﴾ فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال، أي: فسيوصل لكم جزاء أعمالكم، وقد يجابُ: بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله: ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز.

فصل


ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين:
الأول: أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدح والتَّعظيم، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، فكأنه قيل: إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ، وهو الرسول والمؤمنون.
الثاني: ما ذكره أبو مسلم: أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، لقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [البقرة: ١٤٣]، والرسول شهيد الأمَّة، لقوله: ﴿وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد.
قوله: ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾. قال ابنُ عباسٍ: الغيبُ: ما يسرونه والشهادة: ما يظهرونه. قال حكماءُ الإسلامِ: الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو
199
كالعلل للموجودات المحسوسة، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة.

فصل


إن حملنا قوله تعالى: ﴿فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ﴾ على الرُّؤية، ظهر أنَّ معناه مُغايراً لمعنى قوله: ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾، وإنْ حملنا تلك الرُّؤية على العلم أو على إيصال الثواب، كان قوله ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ جارياً مجرى التفسير لقوله ﴿فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ﴾ ومعناه: بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدُّنيا أو بإظهار أضدادها. وقوله: ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي: ما يظهر في القيامة من حالِ الثَّوابِ والعقابِ.
﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمَّ يجازيكم عليها؛ لأنَّ المجازاة من الله تعالى لا تحصلُ في الآخرة إلاَّ بعد التَّعريفِ، ليعرف كلُّ أحدٍ أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم.
قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ الآية.
قرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وأبُو بكرٍ عن عاصم «مُرْجؤونَ» بهمزة مضمومة بعدها «واو» ساكنة. والباقون «مُرجَوْنَ» دون همز، وهذا كقراءتهم في الأحزاب «ترجىء» [الأحزاب: ٥١] بالهمز، والباقون بدونه.
وهما لغتان، يقال: أرْجَأتُه، وأرْجَيْتُه، ك: أعْطَيْته. ويحتملُ أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياءُ بدلاً من الهمزة؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيراً، ك: قرأت، وقرَيْت، وتوضَّأت وتوضَّيت. والإرجاء: التأخير. وسميت المرجئةُ بهذا الاسم؛ لأنَّهم لا يجزمون القولَ بمغفرة التَّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئةِ الله. وقال الأوزاعي: لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان.
قوله: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾ يجوزُ أن تكون هذه الجملةُ في محل رفع خبراً للمبتدأ، و «مُرْجَونَ» يكونُ على هذا نعتاً للمبتدأ، ويجوزُ أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: هم مؤخَّرُون إمَّا مُعذَّبين، وإمَّا متوباً عليهم، و «إمَّا» هنا للشَّك بالنسبة للمخطاب، فناسٌ يقولون: هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عُذْراً، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم. وإمَّا للإبهامِ بالنِّسبة إلى أنَّه أبهمَ على المُخاطبين.
200

فصل


اعلم أنَّه تعالى قسَّم المتخلفين ثلاثة أقسام:
أحدها: المنافقون الذين مردُوا على النفاق.
والثاني: التَّائبون وهم المُرادُون بقوله: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا﴾ وبيَّن تعالى أنَّه قبل توبتهم.
والثالث: الذين بقوا موقوفين، وهم المذكورون في هذه الآية، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني، أنَّ هؤلاء لم يُسارعُوا إلى التَّوبة وأولئك سارعُوا إليها. قال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت هذه الآية في الذين تخلَّفوا: كعبُ بنُ مالكٍ، ومرارةُ بن الربيع، وهلالُ بنُ أميَّة، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسُول الله خمسين ليلة، ونهى النَّاسَ عن مخالطتهم، حتَّى شفَّهم القلقُ، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وكانُوا من أهل بدر؛ فجعل أناس يقولون: هلكُوا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مرجئين لأمْرِ الله، إمَّا يعذبهم وإمَّا يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة.
﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ «عَليمٌ» بما في قلوبِ هؤلاء المرجئين «حَكِيمٌ» بما يحكم فيها.
فإن قيل: إنَّهم ندموا على تأخرهم عن الغزوِ، وتخلفهم عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ثمَّ إنَّهُ لم يحكم بكونهم تائبينَ، بل قال: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ وذلك يدلُّ على أنَّ النَّدمَ وحده لا يكفي في صحَّة التوبةِ.
فالجوابُ: لعلَّهم حين ندمُوا خافُوا أن يفضحهم الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وعلى هذا، فلا تكونُ توبتهم صحيحة، فاستمرّ عدم قبُولِ التوبة إلى أن نزل مدحهم؛ فعند ذلك ندمُوا على المعصيةِ لنفس كونها معصية، فحينئذٍ صحَّت توبتهم.

فصل


احتجّ الجُبائيُّ بهذه الآيةِ على أنَّه تعالى لا يعفو عن غير التَّائبِ؛ لأنَّهُ قال في حقِّ هؤلاء المذنبين ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ وذلك يدلُّ على أنَّه لا حكم إلاَّ أحد هذين الأمرين، وهو إمَّا التعذيب وإما التوبة، وأمَّا العفو عن الذَّنب من غير توبة؛ فهو قسم ثالث. فلمَّا أهمل الله تعالى ذكره، دلَّ على بطلانه.
وأجيب: بأنَّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين، بل نقطعُ بحصول العفو في الجملة وأمَّا في حقِّ كل واحد؛ فذلك مشكوكٌ فيه، قال تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨] فقطع بغفران ما سوى الشرك، لكن لا في حقِّ كل أحدٍ، بل في حقِّ من يشاء؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء، عدم العفو على الإطلاق، وأيضاً
201
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ﴾ الآية.
لمَّا قال في الآية الأولى ﴿ عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٢ ] ولمْ يُصرِّح في قبول توبتهم، صرَّح في هذه الآيةِ بأنه يقبلُ التَّوبةَ عن عباده، وأنَّهُ يأخذُ الصَّدقات، أي : يقبلها. قال أبُو مسلمٍ قوله :" أَلَمْ يعلموا " وإن كان بصيغة الاستفهام، إلاَّ أنَّ المقصود منه التقدير في النَّفس، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب، وإزالة الشَّك عنه أن يقولوا : أما علمتَ أنَّ من علَّمكَ يجبُ عليك خدمته، أما علمت أنَّ من أحسن إليك يجبُ عليك شكره، فبشَّر اللهُ هؤلاء التَّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم. ثم زاده تأكيداً بقوله :﴿ هُوَ التواب الرحيم ﴾.
وقرأ الحسن١ بخلاف عنه " ألَمْ تعْلمُوا " قال أبُو حيَّان :" وفي مصحف٢ أبَيّ " ألَمْ تَعْلمُوا " بالخطاب، وفيه احتمالات، أحدها : أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا : ما هذه الخاصّيّة التي اختصّ بها هؤلاء ؟ وأن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ، والمرادُ : التَّائبون، وأن يكون على إضمار قولٍ، أي : قل لهم يا محمد : ألمْ تعلمُوا ".
قوله :" هُوَ يَقْبَلُ " " هو " مبتدأ، و " يَقْبَلُ " خبره، والجملةُ خبر " أنَّ "، و " أنَّ " وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، أو مسدَّ الأول. ولا يجوزُ أن يكون " هو " فصلاً، لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، قوله :" عَنْ عبادِهِ " معلقٌ ب " يَقْبَلُ " وإنَّما تعدَّى ب " عَنْ " فقيل : لأنَّ معنى " مِنْ " ومعنى " عَنْ " متقاربان.
قال ابنُ عطيَّة٣ :" وكثيراً ما يتوصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه، نحو :" لا صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى، ومِنْ غنى "، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره، وعن أشره وبطره ". وقيل : لفظة " عَنْ " تُشْعر ببعدٍ ما، تقول : جلسَ عن يمين الأمير، أي : مع نَوْعٍ من البُعْدِ. والظَّاهِرُ أنَّ " عَنْ " للمجاوزة على بابها، والمعنى : يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت : أخذت العلم عن زيد ؛ فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت " منه " فمعناه ابتداء الغاية. قال القاضي :" لعلَّ " عَنْ " أبلغ ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت " قوله :" وَيَأْخُذُ الصدقات " فيه سؤالٌ : وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى، وقوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام -، وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ " خذها من أغنِيائهم " ٤ يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ ؟.
والجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّهُ تعالى لمَّا قال ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله، والمقصود منه : التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ونظيره قوله :﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ].
والثاني : أنَّهُ أضيف إلى الرسول، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس، وأضيف إلى الفقير، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ]، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت ﴾ [ السجدة : ١١ ] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ [ الأنعام : ٦١ ]، فأضيف إلى الله بالخلق، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت، فكذا ههنا.
قوله :" هُوَ التواب " يجوزُ أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله.

فصل


روى أبو هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ :" والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم "، ثم قرأ :﴿ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات ﴾٥.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٠٨، المحرر الوجيز ٣/٧٩، البحر المحيط ٥/١٠٠، الدر المصون ٣/٥٠١..
٢ ينظر: السابق..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٧٩..
٤ تقدم..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤٩٣) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ..
قوله تعالى :﴿ وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾ الآية.
قال ابنُ الخطيبِ :" هذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب ؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبداً، ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه :﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ﴾ [ مريم : ٤٢ ]، وليس المقصودُ من هذه الحُجَّة التي ذكرها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - القدح في إلهيّة الصَّنم ؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم بالضَّرورة أنَّهُ حجر وخشب، وأنَّه عرضة لتصرف المتصرفين، فمن شاء أحرقه، ومن شاء كسره، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقلُ كونه إلهاً ؟ بل المقصودُ أنَّ أكثر عبدة الأصنام كانُوا في زمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أتباع الفلاسفةِ القائلين بأنَّ إله العالم موجب بالذَّات، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار، فقال : الموجب بالذَّات إذا لم يكن عالماً بالجزئيات، ولم يكن قادراً على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين، ولا يرى تضرُّع المساكين، فأيُّ فائدة في عبادته ؟ فكان المقصودُ من دليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الطَّعن في قول من يقول : إنَّ إله العالم موجب بالذَّات.
أمَّا إذا كان فاعلاً مختاراً، وكان عالماً بالجزئيات، فحينئذٍ يحصلُ للعبادِ الفوائدُ العظيمةُ وذلك لأنذَ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدُّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدُّنيا والآخرة، فقوله :﴿ وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾ ترغيبٌ عظيم للمُطيعين، وترهيبٌ عظيم للمذنبين فكأنَّه قال : اجتهدُوا في المستقبل، فإنَّ لعملكُم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً.
أمَّا حكمه في الدُّنيا، فهو أنَّهُ يراه اللهُ ويراهُ الرسول ويراه المؤمنون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا، والثواب في الآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذَّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة، فثبت أنَّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاجُ إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده ".

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على كونه تعالى رائياً للمرئيات ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المعدَّاة إلى مفعول واحد، هي الإبصار، والمعدَّاة إلى مفعولين هي العلمُ، كقولك : رأيتُ زيداً فقيهاً، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد، فتكون بمعنى الإبصار، فدلَّت على كونه مبصراً للأشياء كما أنَّ قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ﴾ [ مريم : ٤٢ ] يدلُّ على كونه مبصراً للأشياء، ويقوِّي هذا أنَّهُ تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال :﴿ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾ فلو كانت هذه الرؤيةُ هي العلم ؛ لزم التِّكرارُ الخالي عن الفائدة.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها : الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرؤية إلى عملهم، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر، وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسَّكنات ؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له : فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله ﴿ وَرَسُولُهُ والمؤمنون ﴾ وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف ؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك. فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ : رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال، لقوله :﴿ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ ﴾ فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال، أي : فسيوصل لكم جزاء أعمالكم، وقد يجابُ : بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله :﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز.

فصل


ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين :
الأول : أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدح والتَّعظيم، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، فكأنه قيل : إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى، وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ، وهو الرسول والمؤمنون.
الثاني : ما ذكره أبو مسلم : أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، لقوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ]، والرسول شهيد الأمَّة، لقوله :﴿ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد.
قوله :﴿ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾. قال ابنُ عباسٍ : الغيبُ : ما يسرونه والشهادة : ما يظهرونه١. قال حكماءُ الإسلامِ : الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو كالعلل للموجودات المحسوسة، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول ؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة ؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة.

فصل


إن حملنا قوله تعالى :﴿ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ ﴾ على الرُّؤية، ظهر أنَّ معناه مُغايراً لمعنى قوله :﴿ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾، وإنْ حملنا تلك الرُّؤية على العلم أو على إيصال الثواب، كان قوله ﴿ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾ جارياً مجرى التفسير لقوله ﴿ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ ﴾ ومعناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدُّنيا أو بإظهار أضدادها. وقوله :﴿ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة ﴾ أي : ما يظهر في القيامة من حالِ الثَّوابِ والعقابِ.
﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي : يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمَّ يجازيكم عليها ؛ لأنَّ المجازاة من الله تعالى لا تحصلُ في الآخرة إلاَّ بعد التَّعريفِ، ليعرف كلُّ أحدٍ أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٥١)..
قوله تعالى :﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ﴾ الآية.
قرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو١، وابنُ عامرٍ، وأبُو بكرٍ عن عاصم " مُرْجؤونَ " بهمزة مضمومة بعدها " واو " ساكنة. والباقون " مُرجَوْنَ " دون همز، وهذا كقراءتهم٢ في الأحزاب " ترجىء " [ الأحزاب : ٥١ ] بالهمز، والباقون بدونه.
وهما لغتان، يقال : أرْجَأتُه، وأرْجَيْتُه، ك : أعْطَيْته. ويحتملُ أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياءُ بدلاً من الهمزة ؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيراً، ك : قرأت، وقرَيْت، وتوضَّأت وتوضَّيت. والإرجاء : التأخير. وسميت المرجئةُ بهذا الاسم ؛ لأنَّهم لا يجزمون القولَ بمغفرة التَّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئةِ الله. وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان.
قوله :﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ ﴾ يجوزُ أن تكون هذه الجملةُ في محل رفع خبراً للمبتدأ، و " مُرْجَونَ " يكونُ على هذا نعتاً للمبتدأ، ويجوزُ أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال، أي : هم مؤخَّرُون إمَّا مُعذَّبين، وإمَّا متوباً عليهم، و " إمَّا " هنا للشَّك بالنسبة للمخطاب، فناسٌ يقولون : هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عُذْراً، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم. وإمَّا للإبهامِ بالنِّسبة إلى أنَّه أبهمَ على المُخاطبين.

فصل


اعلم أنَّه تعالى قسَّم المتخلفين ثلاثة أقسام :
أحدها : المنافقون الذين مردُوا على النفاق.
والثاني : التَّائبون وهم المُرادُون بقوله :﴿ وَآخَرُونَ اعترفوا ﴾ وبيَّن تعالى أنَّه قبل توبتهم.
والثالث : الذين بقوا موقوفين، وهم المذكورون في هذه الآية، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني، أنَّ هؤلاء لم يُسارعُوا إلى التَّوبة وأولئك سارعُوا إليها. قال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت هذه الآية في الذين تخلَّفوا : كعبُ بنُ مالكٍ، ومرارةُ بن الربيع، وهلالُ بنُ أميَّة، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسُول الله خمسين ليلة، ونهى النَّاسَ عن مخالطتهم، حتَّى شفَّهم القلقُ، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وكانُوا من أهل بدر ؛ فجعل أناس يقولون : هلكُوا، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مرجئين لأمْرِ الله، إمَّا يعذبهم وإمَّا يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة٣. ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ " عَليمٌ " بما في قلوبِ هؤلاء المرجئين " حَكِيمٌ " بما يحكم فيها.
فإن قيل : إنَّهم ندموا على تأخرهم عن الغزوِ، وتخلفهم عن الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ثمَّ إنَّهُ لم يحكم بكونهم تائبينَ، بل قال :﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ وذلك يدلُّ على أنَّ النَّدمَ وحده لا يكفي في صحَّة التوبةِ.
فالجوابُ : لعلَّهم حين ندمُوا خافُوا أن يفضحهم الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وعلى هذا، فلا تكونُ توبتهم صحيحة، فاستمرّ عدم قبُولِ التوبة إلى أن نزل مدحهم ؛ فعند ذلك ندمُوا على المعصيةِ لنفس كونها معصية، فحينئذٍ صحَّت توبتهم.

فصل


احتجّ الجُبائيُّ بهذه الآيةِ على أنَّه تعالى لا يعفو عن غير التَّائبِ ؛ لأنَّهُ قال في حقِّ هؤلاء المذنبين ﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ وذلك يدلُّ على أنَّه لا حكم إلاَّ أحد هذين الأمرين، وهو إمَّا التعذيب وإما التوبة، وأمَّا العفو عن الذَّنب من غير توبة ؛ فهو قسم ثالث. فلمَّا أهمل الله تعالى ذكره، دلَّ على بطلانه.
وأجيب : بأنَّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين، بل نقطعُ بحصول العفو في الجملة وأمَّا في حقِّ كل واحد ؛ فذلك مشكوكٌ فيه، قال تعالى :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨ ] فقطع بغفران ما سوى الشرك، لكن لا في حقِّ كل أحدٍ، بل في حقِّ من يشاء ؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء، عدم العفو على الإطلاق، وأيضاً فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم، ألا ترى قوله تعالى ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [ عبس : ٣٨، ٣٩ ] وهم المؤمنون ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة ﴾ [ عبس : ٤٠-٤٢ ] فذكر المؤمنين والكافرين، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث، لم يدل عند الجبائيُّ على نفيه ؛ فكذا ههنا.
١ ينظر: حجة القراءات (٣٢٣)، إعراب القراءات ١/٢٥٥، إتحاف ٢/٩٧-٩٨، الكشاف ٢/٣٠٨، المحرر الوجيز ٣/٨٠، البحر المحيط ٥/١٠١، الدر المصون ٣/٥٠١..
٢ ستأتي في سورة الأحزاب آية (٥١)..
٣ تقدم..
فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم، ألا ترى قوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨، ٣٩] وهم المؤمنون ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٤٠ - ٤٢] فذكر المؤمنين والكافرين، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث، لم يدل عند الجبائيُّ على نفيه؛ فكذا ههنا.
قوله
تعالى
: ﴿والذين
اتخذوا
مَسْجِداً ضِرَاراً﴾
الآية.
قرأ نافع، وابن عامر «الذين اتَّخَذُوا» بغير «واو». والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقةِ مصاحفهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشَّام حذفت منها الواوُ، وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. فمنْ أسقط الواوَ ففيه أوجه:
أحدها: أنَّها بدلٌ من «آخرون» قبلها، وفيه نظر؛ لأنَّ هؤلاء الذين اتَّخَذُوا مسجداً ضراراً، لا يقال في حقِّهم: إنَّهم مُرجَوْن لأمر الله؛ لأنَّهُ رُوي في التفسير أنَّهم من كبار المنافقين، ك: أبي عامر الرَّاهب.
الثاني: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ، أحدها: أنَّهُ «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ» والعائدُ محذوفٌ تقديره: بنيانه منهم.
الثاني: أنَّهُ «لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ» قاله النَّحاسُ والحوفيُّ وفيه بعدٌ لطول الفصل.
الثالث: أنه «لا تقُمْ فيهِ» قالهُ الكسائيُّ. قال ابن عطيَّة: «ويتجه بإضمارٍ، إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها، بتقدير: لا تقمْ في مسجدهم».
الرابع: أنَّ الخبر محذوفٌ، تقديره: يعذبون، ونحوه، قاله المهدويُّ.
الوجه الثالث: أنَّه منصوبٌ على الاختصاص، وسيأتي هذا الوجه أيضاً في قراءة الواو.
وأما قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلاَّ أنَّه يمتنع وجه البدل من «آخرون» ؛ لأجل العاطف.
202
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: ﴿والذين اتخذوا﴾ ما محلُّه من الإعراب؟ قلتُ: محله النصب على الاختصاص، كقوله تعالى: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ [النساء: ١٦٢]. وقيل: هو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، معناه: فيمن وصفنا الذين اتَّخذُوا، كقوله: ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨]. يريد على مذهب سيبويه فإنَّ تقديرهُ: فيما يُتْلى عليكم السارق؛ فحذف الخبر، وأبقى المبتدأ، كهذه الآية.
قال القرطبي: ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً﴾ معطوف، أيك ومنهم الذين اتَّخذُوا مسجداً، عطف جملة على جملة.
قوله: «ضِرَاراً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، أي: مُضَارَّةً لإخوانهم.
الثاني: أنَّهُ مفعولٌ ثان ل «اتَّخذوا» قاله أبُو البقاءِ.
الثالث: أنَّه مصدر في موضع الحال من فاعل «اتخذوا»، أي: اتخذوه مضارين لإخوانهم. ويجوزُ أن ينتصبَ على المصدريَّةِ أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضراراً. ومتعلقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ، أي: ضراراً لإخوانهم، وكفراً بالله.

فصل


قال ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، وعامة المفسِّرين: الذين اتَّخَذُوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين، وديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وحارثة بن عامرٍ، وابناهُ مجمع وزيدُ بنُ حارثة، ومعتبُ بنُ قشير وعبادُ بنُ حنيفٍ أخو سهل بن حنيفٍ، وأبُو حبيبةَ بن الأزهرِ، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، ورجل يقال له: بحزَجٌ، بنوا هذا المسجد ضراراً، يعني مضارة للمؤمنين، والضرار: محاولة الضّر، كما أنَّ الشقاقَ محاولة ما يشُق.
و «كُفْراً» قال ابنُ عباسٍ: يريدُ به ضراراً للمؤمنين، وكُفْراً بالنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وما جاء به. قال ابنُ عباسٍ، ومجاهد وقتادة وغيرهم: إنَّ أبا عامر الرَّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصَّر، ووعدهم قيصر أنَّه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه. وقال غيرهم: اتخذوه ليَكْفُرُوا فيه بالطَّعْنِ على النبيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين» أي: يفرقُون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا: نبني مسجداً فنُصلِّي فيه؛ ولا نصلِّي خلف محمَّدٍ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلافِ الكلمة وإبطال الألفة.
وكان يُصلِّي لهم مجمعُ بنُ حارثة، فلمَّا فرغوا أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو يتجهَّزُ إلى
203
تبوك، فقالوا يا رسول الله: إنَّا بنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة، والليلةِ المطيرةِ، والليلة الشاتية، وإنَّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه، وتدعو بالبركةِ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي على جناح سفرٍ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه».

فصل


قال القرطبيُّ: «تفطَّن مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - من هذه الآية وقال: لا يُصلِّي جماعتان في مسجدٍ واحدٍ بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. وروي عن الشَّافعي المنع؛ لأنَّ في ذلك تشتيتاً للكلمة، وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريدُ الانفراد عن الجماعةِ كان له عذر فيقيمُ جماعة، ويقدم إمامه فيقعُ الخلاف بينهم، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم».
قوله: ﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾.
الإرصاد: الانتظارُ، قاله الزجاجُ: وقال ابنُ قتيبة: الانتظارُ مع العداوةِ. قالوا: والمرادُ به: أبو عامر الرَّاهبُ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهَّب في الجاهليَّة، وتنصَّر ولبس المسوح، فلمَّا قدم النبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - المدينة قال له أبُو عامرٍ: ما هذا الذي جِئْتَ به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم»، قال أبو عامرٍ: أنا عليها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّكَ لَسْتَ عليهَا» قال بلى، ولكنك أدخلتَ في الحنيفيَّة ما ليس منها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ما فعلتُ ولكنِّي جئتُ بها بيضَاءَ نقيَّةٌ» فقال أبُو عامرٍ، أمات اللهُ الكاذبَ طريداً وحيداً غريباً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آمين» وسمَّاه أبا عامر الفاسق فلمَّا كان يوم أحد، قال أبُو عامر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا أجدُ قوماً يقاتلُونك إلاَّ قاتلتك معهم؛ فلمْ يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمَّا انهزمت هوازن يئس، وخرج هارباً إلى الشَّام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدُّوا لما استطعتم من قوَّة وسلاح، وابنُوا لِي مسجداً فإنِّي ذاهب إلى قيصر ملك الرُّوم، فآتي بجندٍ من الرُّوم، فأخرج مُحمَّداً وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله: ﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة: ١٠٧] وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشَّام.
قوله: «مِنْ قبلُ» فيه وجهان:
أحدهما - وهو الذي لم يذكر الزمخشريُّ غيره -: أنَّهُ متعلقٌ بقوله: «اتَّخَذُوا»، أي: اتَّخذُوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء.
والثاني: أنه متعلقٌ ب «حَاربَ»، أي: حارب من قبل اتِّخاذ هذا المسجد.
قوله: ﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ «ليَحْلفُنَّ» جوابُ قسم مقدر، أي: والله ليحْلِفنَّ. وقوله «إنْ أردْنَا» جوابٌ لقوله: «ليَحْلِفُنَّ» فوقع جوابُ القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله «إنْ أرَدْنَا». و «إنْ» نافية، ولذلك وقع بعدها «إلاَّ». و «الحُسْنَى» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ،
204
أي: إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلاَّ الإرادة الحسنى. وقال الزمخشريُّ «مَا أرَدْنَا ببناء هذا المسجد إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلا الإرادة الحسنى، وهي الصلاةُ». قال أبو حيَّان كأنَّه في قوله: «إلاَّ الخَصْلةِ الحسْنَى» جعله مفعولاً، وفي قوله: «أو إلاَّ الإرادة الحسنى» علةً؛ فكأنه ضمَّن «أرادَ» معنى «قَصَدَ»، أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلاَّ الإرادة الحسنى. قال «وهذا وجهُ متكلف» وأرادوا بالفعلة الحسنى: الرفق بالمسلمين، والتوسعة على أهل الضعف، والعلة، والعجز عن المصير إلى مسجد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّهم قالوا لرسُول الله: إنَّا بَنينا مسجداً لذي العلَّةِ والحاجة واللَّيلة المطيرة. ثم قال تعالى: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي: أنَّ الله أطلعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على أنَّهم حلفُوا كاذبين.
روي أنه لمّا انصرفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تبوك؛ فنزل بذي أوان موضع قريب من المدينةِ، أتوهُ فسألوهُ إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه، ويأتيهم، فنزل القرآن عليه وأخبره خبر مسجد الضرار، وما همُّوا به، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مالك بن الدخشم، ومعن بن عديّ، وعامر بن السكن، والوحشي قاتل حمزة، وقال لهم: «انْطلقُوا إلى هذا المَسْجدِ الظَّالم أهلُه فاهدمُوهُ وأحْرِقُوهُ» فخرجوا مسرعين حتَّى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهلهُ فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد، وفيه أهله فحرقوه وهدموهُ، وتفرَّق عنه أهله، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف، والنتن، والقمامة، ومات أبُو عامرٍ الرَّاهب بالشَّام وحيداً غريباً.
ورُوي أنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة، فيؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليتُ فيه وأنا لا أعلم ما أضمرُوا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيتُ معهم، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلاَّ أنهم يتقرَّبُون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدَّقه وأمره بالصلاةِ في مسجد قباء. قال عطاءٌ «لمَّا فتح الله على عُمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجدَ، وأمرهم ألاَّ يبنوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه».
قوله: «لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً».
قال ابن عباس «لا تُصلّ فيه» منع اللهُ نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُصلِّي في مسجد الضِّرارِ.
قال ابنُ جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلُّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين.
205
ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
فالجواب: علة المنع وقعت بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة.

فصل


قال القرطبي «قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه. وقال علماؤنا: كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه».

فصل


قال النقاش «ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنَّها بنيت على شر».
قال القرطبي «وهذا لا يلزمُ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ. وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم».

فصل


قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة
206
عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليتُ فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم؛ فعذرهُ عمر، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء».

فصل


قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضَّ الشارع على بنائه بقوله:» مَنْ بنَى للهِ مسجداً، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ «يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم. كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير. والضَّابطُ فيه: أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضرَّ ذلك بجاره، أو غير جاره، نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين. مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها، خلافاً للشافعي، فإنَّ أصحابه قالوا: لو حفر في ملكه بئراً، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منه ماء البئر الأولى جاز؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه؛ فلا يمنع، ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول. ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه».
قوله: «...
لمَسْجِدٌ... «فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها لامُ الابتداء.
والثاني: أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره: والله لمسجدٌ أسِّسَ، أي: بني أصله على التقوى.
وعلى التقديرين فيكون»
لمَسْجِدٌ «مبتدأ، و» أسِّسَ «في محل رفع نعتاً له، و» أحقُّ «خبره. والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف، أي: أسِّسَ بنيانه، و» مِنْ أوَّلِ «متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ» مِنْ «تكون لابتداء الغاية في الزمان؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله: [الطويل]
207
٢٨٤٥ - مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا
وقول الآخر: [الطويل]
٢٨٤٦ - تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ
وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف، أي: من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصُّبحِ، ومن مجيء أزمان يوم. قال القرطبي:» مِنْ «عند النحويين مقابلة» مُنذ «، ف» منذ «في الزمان بمنزلة» من «في المكان، أي: من تأسيس أوَّل الأيام؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو» أسس «؛ كقوله: [الكامل]
٢٨٤٧ - لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ؟
أي من مرور حجج ومن مرور دهر، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ»
مِنْ «لا يجر بها الأزمان، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ ب» مِنْذُ «، تقولُ: ما رأيته منذُ شهرٍ، أو سنة. قال أبو البقاءِ» وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤]، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره «.
قال شهابُ الدِّين: البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر، والخلاف في هذه المسألة قوي، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ. وقال ابنُ عطيَّة:»
ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» ؛ لأنَّها بمعنى: البداءة، كأنَّهُ قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو «.
وقوله:»
أَحَقُّ «ليس للتفضيل، بل بمعنى» حقيقٌ «، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ.
208
قال القرطبيُّ» أحقُّ «هو أفعل من الحق، و» أفعل «لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله، والآخر حق باطناً وظاهراً، ومثله قوله تعالى:
﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٤] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير، وأنَّ مصيرها إلى خير، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون. و «أنْ تقُوم»
أي: بأن تقوم. والتاء لخطاب الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. و «فِيهِ» متعلقٌ ب÷. قوله: «فِيهِ رجالٌ» يجوزُ أن تكون «فيه» صفةً لمسجد و «رِجَالٌ» فاعلٌ، وأن تكون حالاً من الهاء في «فِيهِ»، و «رِجَالٌ» فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد.
ويجوزُ أن يكون «فيهِ» خبراً مقدَّماً، و «رِجَالٌ» مبتدأ مؤخر. وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه:
أحدها: الوصف.
والثاني: الحالُ على ما تقدم.
والثالث: الاستئناف.
وقرأ عبد الله بن زيدٍ «فِيهِ» بكسر الهاء، و «فِيهُ» بضمها، وهو الأصل، جمع بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد، ورفع توهُّم أنَّ «رِجَالٌ» مرفوع ب «تَقُوم». وقوله «يُحِبُّون» صفة ل «رِجَالٌ»، و «أنْ» مفعول به. وقرأ طلحة بن مصرف، والأعمش «يَطَّهَّرُوا» بالإدغام، وعلي بنُ أبي طالب «المُتَطهِّرين» بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين.

فصل


معنى «أسس» أي: بُني أصله ﴿عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ﴾ بُني ووضع أساسه ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ مُصلياً. واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت، وأبو سعيد الخدري: هو مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال: سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال: مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: قُلتُ لهُ: كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: قال أبِي: دخلتُ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ يا رسُول الله، «أيُّ المَسْجدينِ
209
الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: فأخَذَ كفّاً من حَصْبَاءَ فضرب به الأرض ثُمَّ قال:» هُوَ مسجدُكُمْ هذا «لِمسجدِ المدينةِ. قال: فقُلتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذكره. وهذا قول سعيد بن المسيّب. وقال قوم: إنَّهُ مسجد قباء، وهي رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً، وكان عبدُ الله يفعله، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فيُصلِّي فيه رَكعتَيْنِ «.
وقوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات.
قال عطاءٌ: كانوا يستنجون بالماءِ، ولا ينامون الليل على جنابة. روى أبو هريرة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ قال: كانوا يستنجون بالماءِ؛ فنزلت فيهم هذه الآية، ﴿والله يُحِبُّ المطهرين﴾.
وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف على باب مسجد قباء وقال: «يا معْشَر الأنْصَارِ إنَّ الله أثْنَى عليكُم، فما الذي تصْنَعُونَ فِي الوضُوءِ؟»
فقالوا: نتبع الأحجار بالماءِ، فقرأ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ الآية. «
قالوا: المرادُ منه: الطهارة بالماء بعد الحجر. وقيل: المرادُ منه: الطَّهارة من الذنوب والمعاصي.
وقيل: محمول على الأمرين.
فإن قيل: لفظ الطَّهارة حقيقة في إزالة النَّجاسات، ومجاز في البراءة عن المعاصي،
210
واستعمال اللفظ الواحدة في الحقيقة، والمجاز معاً لا يجوزُ.
فالجوابُ: أنَّ لفظ النَّجس اسم للمستقذر، وهذا القذرُ مفهوم مشترك فيه بين القسمين، فزال السُّؤال.
قوله: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾.
قرأ نافع، وابن عامر» أسِّسَ «مبنياً للمفعول،» بُنيانُه «بالرفع، لقيامه مقام الفاعل.
والباقون»
أسَّسَ «مبنياً للفاعل،» بُنيانَهُ «مفعول به، والفاعل ضمير» مَنْ «وقرأ عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و» بُنْيَانهُ «مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم.
وقرأ نصر بن علي، ونصر بن عاصم»
أسسُ بُنيانِهِ «. وقرأ أبُو حيوة» أساسُ بُنيانِهِ «جمع» أُسِّ «. وروي عن نصر بن عاصم أيضاً» أَسُّ «بهمزة مفتوحة وسين مضمومة.
وقرىء»
إسَاسُ «بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى» البُنيانِ «. وقرىء» أسَاسُ «بفتح الهمزة و» أسّ «بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان.
ونقل صاحبُ اللوامح فيه»
أسَسُ «بالتخفيف ورفع السين،» بنيانِهِ «بالجر، ف» أسس «مصدر أسس الحائط، يؤسسُه أسَساً، وأسًّا. فهذه عشر قراءات، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ. ويقالُ: كان ذلك على أس الدهر، كقولهم: على وجه الدهر. ويقال: أسَّ، مضعفاً: أي: جعل له أسَاساً، وآسَسَ، بزنة» فاعل «.
و»
البُنْيَان «فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُ مصدر، ك: الغُفْران، والشُّكران، وأطلق على المفعول ك»
الخَلْق «بمعنى المخلوق، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ، يقالُ: هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ، أي: مضروبه، ومنسوجه.
والثاني: أنَّهُ جمعٌ، وواحده»
بُنْيَانة «؛ قال الشاعرُ:
211
يعنون أنه اسم جنسٍ، ك: قمح وقمحة.
قوله: «على تقوى» يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بنفس «أسَّسَ» فهو مفعول في المعنى.
والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في «أسَّسَ» أي: قاصداً بنيانه التقوى، كذا قدَّره أبُو البقاءِ.
وقرأ عيسى بن عمر «تَقْوًى» منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ الفها للتأنيث، فلا وجهَ لتنوينها، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق.
قال ابنُ جني: قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق، ك «أرْطَى». قوله: «خَيْرٌ» خبر المبتدأ. والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم. و «أمْ» متصلة، و «مِنْ» الثانية عطف على «مِنْ» الأولى، و «أسَّسَ بُنْيانَهُ» كالأولى، قوله: «على شَفَا جُرُفٍ» كقوله: «على تقوى» في وجهيه. والشَّفا: الشَّفير، وشفا الشيء حرفه، يقال: أشْفَى على كذا إذا دنا منه. وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران. وقرأ حمزة، وابنُ عامرٍ، وأبو بكر عن عاصم «جُرْفٍ» بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها. فقيل: لغتان. وقيل: السَّاكن فرعٌ على المضموم، ك: «عُنْق» في «عُنُق» و «طُنْب» في «طُنُب». وقيل: العكس ك: «عُسُر ويُسُر». و «الجُرْف» البئر التي لم تُطْوَ. وقيل: هو الهُوَّةُ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية، قاله أبُو عبيدة.
وقيل: هو المكان الذي يأكلهُ الماء، فيجْرفه، أي: يذهب به، ورجُلٌ جراف، أي: كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ، قاله الراغبُ.
قوله: «هَارٍ» نعت ل: «جُرُفٍ»، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو المشهورُ -: أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه، وذلك أنَّ أصله: هاورٌ، أو هايرٌ بالواو والياء؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا: هَارَ يَهُور فانهارَ، وهَارَ يَهير، وتهَوَّر البناءُ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام، وهي «الراء» على العين - وهي «الواو» أو «الياء» - فصار ك: غازٍ، ورامٍ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما، فوزنه بعد القلب: «فَالِع»، ثم تزنُه بعد الحذف ب «فَالٍ».
الثاني: أنه حذفت عينه اعتباطاً، أي: لغير موجبٍ، وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب على لامه، فيقال: هذا هارٌ، ورأيت هاراً، ومررتُ بهارٍ، ووزنه أيضاً «فال».
والثالث: أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف، وأنَّ أصله «هَوِر»، أو «هَيِر» بزنة «كَتِف»،
212
فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقُلِب ألفاً، فصار مثل قولهم: كبشٌ صافٌ. أي: صَوِف، ويومٌ راحٌ، أي: روحٌ. وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله، كما تقولُ: هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ.
وهذا أعدل الوُجُوهِ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف. ومعنى: «هَارٍ» أي: ساقط متداع منهال.
قال الليثُ: الهورُ: مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ، إذا انصدَعَ من خلفه، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه، وهو جرفٌ هارٍ أي: هائر، فإذا سقط؛ فقد انهارَ وتَهيَّر. ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو.
قوله: «فانهار» فاعله إمَّا ضميرُ البنيان، والهاءُ في «به» على هذا ضمير المؤسس الباني أي: فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار، وإمَّا ضمير الشَّفَا، وإمَّا ضمير الجرف أي: فسقط الشَّفَا، أو سقط الجرفُ، والهاء في «بِهِ» للبنيان، ويجوزث أن يكون للباني المؤسس. والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ. والباءُ في «به» يجوز أن تكون المعدِّية، وأن تكون التي للمصاحبة، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة. وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنَّها حال أي: فانهار مصاحباً له.

فصل


معنى الآية: أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال، ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾.
قوله: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾.
أي: ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم. و «بُنيَانهُم» يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله، أي: لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف، أي: بناء بنيانهم؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي: لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة. وقوله: «الذي بَنَوا» تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة، وإنَّما دبَّرُوا أموراً، من قولهم: كم أبني وتهدمُ، وعليه قوله: [الطويل]
213
٢٨٤٨ - كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ
٢٨٤٩ - متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ؟

فصل


في كونه سبباً للريبة وجوه: الأول: أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.
وثانيها: أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما أمر بتخريبه، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسداص، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم منه، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟
وثالثها: أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد، كما حبب العجل إلى قوم موسى، فلمَّا أمر الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ قاله ابن عباس. وقال الكلبيُّ: «ريبة» أي: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه. وقال السُّدي: لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم.
قوله: «إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ» المستثنى منه محذوفٌ، والتقدير: لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص «تقطَّع» بفتح التَّاء، والأصل تتقطع بتاءين، فحذفت إحداهما.
وعن ابن كثير «تَقْطع» بفتح الياء وتسكين القاف «قُلوبَهُم» بالنصب، أي: تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل. وقرأ الباقون «تُقَطَّع» بضمِّها، وهو مبني للمفعول، مضارع «قطَّع» بالتشديد. وقرأ أبيّ «تَقْطَع» مخففاً من «قطع». وقرأ الحسنُ، ومجاهد وقتادة، ويعقوب «إلى أن» ب «إلى» الجارة. وأبو حيوة كذلك، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ «تُقَطِّع» بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول، «قُلُوبَهُم» نصباً على المفعول به، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم
214
كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير «الرِّيبة»، أي: إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله «ولو قُطِّعَتْ» وبها قرأ أصحابه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس. والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق. وقيل: معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل: حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة. «والله عَلِيمٌ» بأحوالهم، «حَكِيمٌ» في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم.
215
قوله :" لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ".
قال ابن عباس " لا تُصلّ فيه " منع اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُصلِّي في مسجد الضِّرارِ١.
قال ابنُ جريج : فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلُّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين٢.
ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل : كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
فالجواب : علة المنع وقعت بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة.

فصل


قال القرطبي " قال علماؤنا : لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ. وكذلك قالوا : لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه. وقال علماؤنا : كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه ".

فصل


قال النقاش " ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها ؛ لأنَّها بنيت على شر ".
قال القرطبي " وهذا لا يلزمُ ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ. وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل٣، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم " ٤.

فصل


قال القرطبيُّ " قال علماؤنا : من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب ؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم، فقال : لا والله ولا نعمة عين ! أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليتُ فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم ؛ فعذرهُ عمر، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء ".

فصل


قال القرطبيُّ " قال علماؤنا : إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضَّ الشارع على بنائه بقوله :" مَنْ بنَى للهِ مسجداً، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ " ٥ يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره ؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم. كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير. والضَّابطُ فيه : أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضرَّ ذلك بجاره، أو غير جاره، نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين. مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة ؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها، خلافاً للشافعي، فإنَّ أصحابه قالوا : لو حفر في ملكه بئراً، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منه ماء البئر الأولى جاز ؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه ؛ فلا يمنع، ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه ؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول. ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب ؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه ".
قوله :". . . لمَسْجِدٌ. . . " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها لامُ الابتداء.
والثاني : أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره : والله لمسجدٌ أسِّسَ، أي : بني أصله على التقوى.
وعلى التقديرين فيكون " لمَسْجِدٌ " مبتدأ، و " أسِّسَ " في محل رفع نعتاً له، و " أحقُّ " خبره. والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف، أي : أسِّسَ بنيانه، و " مِنْ أوَّلِ " متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ " مِنْ " تكون لابتداء الغاية في الزمان ؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله :[ الطويل ]
مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا٦
وقول الآخر :[ الطويل ]
تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ٧
وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف، أي : من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصُّبحِ، ومن مجيء أزمان يوم. قال القرطبي :" مِنْ " عند النحويين مقابلة " مُنذ "، ف " منذ " في الزمان بمنزلة " من " في المكان، أي : من تأسيس أوَّل الأيام ؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو " أسس " ؛ كقوله :[ الكامل ]
لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ ؟٨
أي من مرور حجج ومن مرور دهر، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ " مِنْ " لا يجر بها الأزمان، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ ب " مِنْذُ "، تقولُ : ما رأيته منذُ شهرٍ، أو سنة. قال أبو البقاءِ٩ " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله :﴿ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾ [ الروم : ٤ ]، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره ".
قال شهابُ الدِّين١٠ : البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر، والخلاف في هذه المسألة قوي، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ. وقال ابنُ عطيَّة :" ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون " من " تجر لفظة " أول " ؛ لأنَّها بمعنى : البداءة، كأنَّهُ قال : من مبتدأ الأيام، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو ".
وقوله :" أَحَقُّ " ليس للتفضيل، بل بمعنى " حقيقٌ "، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ.
قال القرطبيُّ١١ " أحقُّ " هو أفعل من الحق، و " أفعل " لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله، والآخر حق باطناً وظاهراً، ومثله قوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير، وأنَّ مصيرها إلى خير، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون. و " أنْ تقُوم " أي : بأن تقوم. والتاء لخطاب الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -. و " فِيهِ " متعلقٌ به. قوله :" فِيهِ رجالٌ " يجوزُ أن تكون " فيه " صفةً لمسجد و " رِجَالٌ " فاعلٌ، وأن تكون حالاً من الهاء في " فِيهِ "، و " رِجَالٌ " فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد.
ويجوزُ أن يكون " فيهِ " خبراً مقدَّماً، و " رِجَالٌ " مبتدأ مؤخر. وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه :
أحدها : الوصف.
والثاني : الحالُ على ما تقدم.
والثالث : الاستئناف.
وقرأ عبد الله١٢ بن زيدٍ " فِيهِ " بكسر الهاء، و " فِيهُ " الثانية بضمها، وهو الأصل، جمع بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد، ورفع توهُّم أنَّ " رِجَالٌ " مرفوع ب " تَقُوم ". وقوله " يُحِبُّون " صفة ل " رِجَالٌ "، و " أنْ " مفعول به. وقرأ طلحة١٣ بن مصرف، والأعمش " يَطَّهَّرُوا " بالإدغام، وعلي بنُ أبي طالب " المُتَطهِّرين " بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين.

فصل


معنى " أسس " أي : بُني أصله ﴿ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ ﴾ بُني ووضع أساسه ﴿ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾ مُصلياً. واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت، وأبو سعيد الخدري : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال : سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال : مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال : قُلتُ لهُ : كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى ؟ قال : قال أبِي : دخلتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ يا رسُول الله، " أيُّ المَسْجدينِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى ؟ قال : فأخَذَ كفّاً من حَصْبَاءَ فضرب به الأرض ثُمَّ قال :" هُوَ مسجدُكُمْ هذا " لِمسجدِ المدينةِ. قال : فقُلتُ : أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذكره١٤. وهذا قول سعيد بن المسيّب. وقال قوم : إنَّهُ مسجد قباء، وهي رواية عطية عن ابن عباس١٥، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً، وكان عبدُ الله يفعله، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيُصلِّي فيه رَكعتَيْنِ " ١٦.
وقوله :﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ أي : من الأحداث والجنابات والنجاسات.
قال عطاءٌ : كانوا يستنجون بالماءِ، ولا ينامون الليل على جنابة. روى أبو هريرة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾١٧ قال : كانوا يستنجون بالماءِ ؛ فنزلت فيهم هذه الآية، ﴿ والله يُحِبُّ المطهرين ﴾.
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف على باب مسجد قباء وقال :" يا معْشَر الأنْصَارِ إنَّ الله أثْنَى عليكُم، فما الذي تصْنَعُونَ فِي الوضُوءِ ؟ " فقالوا : نتبع الأحجار بالماءِ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ﴿ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ الآية١٨ ".
قالوا : المرادُ
١ انظر المصدر السابق..
٢ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٥٥) عن ابن جريج..
٣ أخرجه البخاري (١/٦٣٢) كتاب الصلاة: باب الصلاة في البيعة تعليقا قال الحافظ في "الفتح" (١/٦٣٣): وصله البغوي في الجعديات..
٤ أخرجه أبو داود (١/١٧٦) كتاب الصلاة: باب في بناء المساجد حديث (٤٥٠)..
٥ تقدم تخريجه..
٦ البيت للحصين بن الحمام ينظر: المفضليات ١/٢١٥، المقرب ١/١٩٨، أمالي ابن الشجري ٢/٢٢٣، الخزانة ٣/٣٢٣، رصف المباني ٣٢١، الدر المصون ٣/٥٠٣..
٧ البيت للنابغة الذبياني ينظر: ديوانه ص (٤٥)، خزانة الأدب ٣/٣٣١، شرح التصريح ٢/٨، شرح شواهد المغني ص (٣٤٩) مغني اللبيب (٣١٩)، المقاصد النحوية ٣/٢٧٠، أوضح المسالك ٣/٢٢ شرح الأشموني ٢/٢٨٧ شرح ابن عقيل ص (٣٥٨)، الدر المصون ٣/٥٠٣..
٨ البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر: ديوانه (٤١) ابن يعيش ٤/٩٣، ٨/١١، الإنصاف ١/٣٧١، المغني ١/٣٣٥، أوضح المسالك ٣/٤٨، العيني ٣/٣١٢، التصريح ٢/١٧، الهمع ١/٢١٧، الأزهية ص (٢٨٣) أسرار العربية ص (٢٧٣) الأغاني ٦/٨٦، خزانة الأدب ٩/٤٣٩، ٤٤٠، الدرر ٣/١٤٢، الشعر والشعراء ١/١٤٥، المقاصد النحوية ٣/٣١٢، جواهر الأدب (٢٧٠) رصف المباني ص (٣٢٠) شرح الأشموني ٢/٢٩٧..
٩ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ٢/٢٢..
١٠ ينظر: الدر المصون ٣/٥٠٣..
١١ ينظر: تفسير القرطبي ٨/١٦٦..
١٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٨٣، البحر المحيط ٥/١٠٣، الدر المصون ٣/٥٠٤..
١٣ ينظر: الكشاف ٢/٣١١، المحرر الوجيز ٣/٨٤، البحر المحيط ٥/١٠٣، الدر المصون ٣/٥٠٤..
١٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٧٥) بمعناه وللحديث شواهد عن سهل بن سعد وأبي بن كعب بمعناه..
١٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٧٤) عن علي وعطية العوفي عن ابن عباس.
وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٨)..

١٦ أخرجه البخاري ٣/٦٩ كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: باب من أتى مسجد قباء كل سبت (١١٩٣) وباب إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا (١١٩٤) ومسلم ٢/١٠١٦-١٠١٧ كتاب الحج: باب فضل مسجد قباء (٥١٦/١٣٩٩) و(٥٢١/١٣٩٩)..
١٧ أخرجه أبو داود (١/٥٩) كتاب الطهارة: باب الاستنجاء بالماء حديث (٤٤) وابن ماجه (١/١٢٨) كتاب الطهارة: باب الاستنجاء بالماء حديث (٣٥٧) والترمذي (٥/٢٦٢) رقم (٣١٠٠) وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه..
١٨ أخرجه ابن ماجه (١/١٢٧) رقم (٣٥٥) وابن الجارود (٤٠) والدارقطني (١٠/٦٢) والحاكم (١/١٥٥) والبيهقي (١/١٠٥) من حديث طلحة بن نافع قال: ثني أبو أيوب وجابر وأنس-به وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..
قوله :﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ ﴾.
قرأ نافع١، وابن عامر " أسِّسَ " مبنياً للمفعول، " بُنيانُه " بالرفع، لقيامه مقام الفاعل.
والباقون " أسَّسَ " مبنياً للفاعل، " بُنيانَهُ " مفعول به، والفاعل ضمير " مَنْ " وقرأ٢ عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و " بُنْيَانهُ " مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم.
وقرأ نصر بن علي٣، ونصر بن عاصم " أسسُ بُنيانِهِ ". وقرأ أبُو٤ حيوة " أساسُ بُنيانِهِ " جمع " أُسِّ ". وروي عن نصر٥ بن عاصم أيضاً " أَسُّ " بهمزة مفتوحة وسين مضمومة.
وقرئ " إسَاسُ " بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى " البُنيانِ ". وقرئ " أسَاسُ " بفتح الهمزة و " أسّ " بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان٦.
ونقل صاحبُ اللوامح فيه " أسَسُ " ٧ بالتخفيف ورفع السين، " بنيانِهِ " بالجر، ف " أسس " مصدر أسس الحائط، يؤسسُه أسَساً، وأسًّا. فهذه عشر قراءات، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ. ويقالُ : كان ذلك على أس الدهر، كقولهم : على وجه الدهر. ويقال : أسَّ، مضعفاً : أي : جعل له أسَاساً، وآسَسَ، بزنة " فاعل ".
و " البُنْيَان " فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُ مصدر، ك : الغُفْران، والشُّكران، وأطلق على المفعول ك " الخَلْق " بمعنى المخلوق، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ، يقالُ : هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ، أي : مضروبه، ومنسوجه.
والثاني : أنَّهُ جمعٌ، وواحده " بُنْيَانة " ؛ قال الشاعرُ :
كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ٨
يعنون أنه اسم جنسٍ، ك : قمح وقمحة.
قوله :" على تقوى " يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس " أسَّسَ " فهو مفعول في المعنى.
والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في " أسَّسَ " أي : قاصداً بنيانه التقوى، كذا قدَّره أبُو البقاءِ.
وقرأ عيسى٩ بن عمر " تَقْوًى " منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ ألفها للتأنيث، فلا وجهَ لتنوينها، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق.
قال ابنُ جني١٠ : قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق، ك " أرْطَى ". قوله :" خَيْرٌ " خبر المبتدأ. والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم. و " أمْ " متصلة، و " مِنْ " الثانية عطف على " مِنْ " الأولى، و " أسَّسَ بُنْيانَهُ " كالأولى، قوله :" على شَفَا جُرُفٍ " كقوله :" على تقوى " في وجهيه. والشَّفا : الشَّفير، وشفا الشيء حرفه، يقال : أشْفَى على كذا إذا دنا منه. وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران. وقرأ حمزة١١، وابنُ عامرٍ، وأبو بكر عن عاصم " جُرْفٍ " بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها. فقيل : لغتان. وقيل : السَّاكن فرعٌ على المضموم، ك :" عُنْق " في " عُنُق " و " طُنْب " في " طُنُب ". وقيل : العكس ك :" عُسُر ويُسُر ". و " الجُرْف " البئر التي لم تُطْوَ. وقيل : هو الهُوَّةُ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية، قاله أبُو عبيدة.
وقيل : هو المكان الذي يأكلهُ الماء، فيجْرفه، أي : يذهب به، ورجُلٌ جراف، أي : كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ، قاله الراغبُ.
قوله :" هَارٍ " نعت ل :" جُرُفٍ "، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها - وهو المشهورُ - : أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه، وذلك أنَّ أصله : هاورٌ، أو هايرٌ بالواو والياء ؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا : هَارَ يَهُور فانهارَ، وهَارَ يَهير، وتهَوَّر البناءُ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام، وهي " الراء " على العين - وهي " الواو " أو " الياء " - فصار ك : غازٍ، ورامٍ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما، فوزنه بعد القلب :" فَالِع "، ثم تزنُه بعد الحذف ب " فَالٍ ".
الثاني : أنه حذفت عينه اعتباطاً، أي : لغير موجبٍ، وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب على لامه، فيقال : هذا هارٌ، ورأيت هاراً، ومررتُ بهارٍ، ووزنه أيضاً " فال ".
والثالث : أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف، وأنَّ أصله " هَوِر "، أو " هَيِر " بزنة " كَتِف "، فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقُلِب ألفاً، فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ. أي : صَوِف، ويومٌ راحٌ، أي : روحٌ. وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله، كما تقولُ : هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ.
وهذا أعدل الوُجُوهِ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف. ومعنى :" هَارٍ " أي : ساقط متداع منهال.
قال الليثُ : الهورُ : مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ، إذا انصدَعَ من خلفه، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه، وهو جرفٌ هارٍ أي : هائر، فإذا سقط ؛ فقد انهارَ وتَهيَّر. ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو.
قوله :" فانهار " فاعله إمَّا ضميرُ البنيان، والهاءُ في " به " على هذا ضمير المؤسس الباني أي : فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار، وإمَّا ضمير الشَّفَا، وإمَّا ضمير الجرف أي : فسقط الشَّفَا، أو سقط الجرفُ، والهاء في " بِهِ " للبنيان، ويجوز أن يكون للباني المؤسس. والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف ؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ. والباءُ في " به " يجوز أن تكون المعدِّية، وأن تكون التي للمصاحبة، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة. وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا ؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حال أي : فانهار مصاحباً له.

فصل


معنى الآية : أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم ؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم ؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال، ﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾.
١ ينظر: السبعة ص (٣١٨)، الحجة ٤/٢١٨، حجة القراءات ص (٣٢٣)، إتحاف ٢/٩٨..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٨٤، البحر المحيط ٥/١٠٣، الدر المصون ٣/٥٠٤..
٣ ينظر: السابق..
٤ ينظر: السابق..
٥ ينظر: السابق..
٦ ينظر: الكشاف ٢/٣١١، المحرر الوجيز ٣/٨٤، البحر المحيط ٥/١٠٣، الدر المصون ٣/٥٠٤..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٣١١، المحرر الوجيز ٣/٨٤، البحر المحيط ٥/١٠٣، الدر المصون ٣/٥٠٤..
٨ ينظر: ديوان زهير بشرح ثعلب ٢٥٧، البحر المحيط ٥/١٠٣، والمحرر الوجيز ٣/٨٤، والدر المصون ٣/٥٠٤..
٩ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٨٤، البحر المحيط ٥/١٠٣، الدر المصون ٣/٥٠٥..
١٠ ينظر: المحتسب لابن جني ١/٣٠٤..
١١ ينظر: الكشاف ٢/٣١٢، المحرر الوجيز ٣/٨٤-٨٥، البحر المحيط ٥/١٠٤، الدر المصون ٣/٥٠٥..
قوله :﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾.
أي : ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم. و " بُنيَانهُم " يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله، أي : لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف، أي : بناء بنيانهم ؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي : لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة. وقوله :" الذي بَنَوا " تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة، وإنَّما دبَّرُوا أموراً، من قولهم : كم أبني وتهدمُ، وعليه قوله :[ الطويل ]
متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ ؟١

فصل


في كونه سبباً للريبة وجوه : الأول : أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.
وثانيها : أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بتخريبه، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسدا، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم منه، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم ؟
وثالثها : أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد، كما حبب العجل إلى قوم موسى، فلمَّا أمر الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه ؟ قاله ابن عباس. وقال الكلبيُّ :" ريبة " أي : حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه٢. وقال السُّدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم٣.
قوله :" إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ " المستثنى منه محذوفٌ، والتقدير : لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها.
وقرأ ابن عامر٤، وحمزة، وحفص " تقطَّع " بفتح التَّاء، والأصل تتقطع بتاءين، فحذفت إحداهما.
وعن ابن٥ كثير " تَقْطع " بفتح الياء وتسكين القاف " قُلوبَهُم " بالنصب، أي : تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل. وقرأ الباقون " تُقَطَّع " بضمِّها، وهو مبني للمفعول، مضارع " قطَّع " بالتشديد. وقرأ أبيّ٦ " تَقْطَع " مخففاً من " قطع ". وقرأ الحسنُ٧، ومجاهد وقتادة، ويعقوب " إلى أن " ب " إلى " الجارة. وأبو حيوة كذلك، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ٨ " تُقَطِّع " بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول، " قُلُوبَهُم " نصباً على المفعول به، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن. وقيل : الفاعلُ ضمير " الرِّيبة "، أي : إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله " ولو قُطِّعَتْ " وبها قرأ أصحابه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس. والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق. وقيل : معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل : حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة. " والله عَلِيمٌ " بأحوالهم، " حَكِيمٌ " في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم.
١ ينظر: الدر المصون ٣/٥٠٦، روح المعاني ١١/٢٤..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٢٩)..
٣ انظر: المصدر السابق..
٤ ينظر: السبعة ص (٣١٩)، الحجة ٤/٢٣٠، حجة القراءات ص (٣٢٤)، إعراب القاراءت ١/٢٥٥، إتحاف ٢٢/٩٩..
٥ ينظر: السابق..
٦ ينظر: الكشاف ٢/٣١٣، المحرر الوجيز ٣/٨٦، البحر المحيط ٥/١٠٥، الدر المصون ٣/٥٠٦..
٧ ينظر: السابق..
٨ ينظر: السابق..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ الآية.
لمَّا شرح أحوال المنافقين، عاد إلى بيانِ فضيلة الجهادِ. قيل: هذا تمثيلٌ كقوله تعالى ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ [البقرة: ١٦] قال مُحمَّدُ بن كعب القرظيُّ: «لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة بمكَّة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربِّك ولنفْسِكَ ما شئتَ. فقال:» أشترطُ لربِّي أن تعبُدُوهُ ولا تُشرِكُوا بِهِ شَيْئاً ولنفْسِي أن تمنعوني ممَّا منعون منه أنفسكُم وأموالكُم «قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال:» الجنَّة «قالوا ربح البيعُ لا نقيلُ ولا نستقيلُ»، فنزل: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾.
قال الحسنُ، ومجاهدٌ، ومقاتل: «ثامنَهُم فأغْلَى ثمنهُمْ».
قوله: «بِأَنَّ لَهُمُ» متعلقٌ ب «اشْتَرَى»، ودخلت الباءُ هنا على المترُوكِ على بابها،
215
وسمَّاها أبُو البقاءِ «باء» المقابلةِ، كقولهم: «باء» العوض، و «باء» الثمنية. وقرأ عمرُ ابنُ الخطاب والأعمش «بِالجنَّةِ». قال أهلُ المعاني: لا يجوزُ أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة؛ لأنه مالك الكل، ولهذا قال الحسنُ: اشترى أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، وإنَّما ذكر اللهُ ذلك، لحسن التَّلُّطفِ في الدُّعاءِ إلى الطَّاعةِ؛ لأن المؤمنَ إذا قاتل في سبيل اللهِ حتى يقتل؛ فتذهب روحه، وينفق ماله في سبيل الله تعالى جزاؤه في الآخرة الجنَّة، فكان هذا استبدالاً وشراءً. قال الحسنُ: «والله بيعة رَابحةٌ، وكفةٌ راجحةٌ، بايع اللهُ بها كلَّ مُؤمِنٍ والله ما على الأرض مؤمن إلاَّ وقد دخل في هذه البيعة».
وفيه لطيفةٌ، وهي أن المشتري لا بدَّ وأن يغاير البائع، وههنا البائعُ هو اللهُ تعالى، والمشتري هو الله، وهذا إنما يصحُّ في حقِّ القيم بأمر الطفل الذي لا يمكُنُه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحَّة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة؛ فهذا جارٍ مجرى التَّنبيه على كون العبد كالطِّفلِ الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه؛ وأنَّهُ تعالى هو الرَّاعي لمصالحه بشرط الغبطةِ.

فصل


قال القرطبيُّ: «هذه الآية دليلٌ على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسَّيد، لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه، وجاز بين السيد وعبده ما لا يجوزُ بينه وبين غيره؛ لأنَّ ماله له، وله انتزاعه».

فصل


أصل الشراءِ من الخلق أن يعوضوا بما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم، أو مثل ما خرج عنهم في النفع، فاشترى الله من العباد إتلاف أنفسهم، وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنَّة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك، وهو عوض عظيمٌ لا يدانيه المعوض، فأجرى ذلك على مجرى ما يتعارفونه في البيع والشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثَّواب والنَّوال فسمّي هذا شراء.

فصل


قال بعضُ العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغينَ المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم، وأسقمهم، لما في ذلك من المصلحة ومن الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونُون عند شيءٍ أكثر صلاحاً، وأقل فساداً منهم عند ألم الأطفالِ، وما يحصلُ للوالدين من الثَّواب فيما ينالهم من الهم، ثم إنَّ الله تعالى يعوض هؤلاء الأطفال عوضاً إذا صارُوا إليه.
قوله: «يُقَاتِلُون» يجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون حالاً. وقال
216
الزمخشري: «يُقَاتلُون» فيه معنى الأمر، كقوله: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [الصف: ١١]. وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف، لأنَّ الطَّلبَ لا يقع حالاً. وقد تقدَّم الخلاف في ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ في آل عمران قرأ حمزة والكسائيُّ: «فيُقْتلُونَ» بتقديم المفعول على الفاعل. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول.
قوله: «وَعْداً» منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة؛ لأنَّ معنى «اشْتَرَى» معنى: وعدهم بذلك، فهو نظير: «هَذَا ابني حقّاً». ويجوزُ أن يكُون مصدراً في موضع الحال وفيه ضعفٌ. و «حَقّاً» نعت له. و «عَلَيْهِ» حالٌ من «حَقّاً» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ لو تأخَّر.
قوله: «فِي التوراة» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ متعلقٌ ب «اشْتَرَى»، وعلى هذا فتكُونُ كل أمَّةٍ قد أمِرَت بالجهادِ، ووعدتْ عليه الجنَّة.
والثاني: أنَّهُ متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفةٌ للوعد، أي: وعداً مذكوراً وكائناً في التَّوراة.
وعلى هذا فيكون الوعد بالجنَّة مذكوراً في كتب الله المنزلةِ، وقال الزمخشريُّ في أثناء الكلامِ: «لا يجُوزُ عليه قبيحٌ قطّ» قال أبُو حيَّان: «استعمل» قَطْ «في غير موضوعه، لأنَّهُ أتَى به مع قوله» لا يجُوزُ عليه «، و» قطّ «ظرفٌ ماضٍ، فلا يعمل فيه إلاَّ الماضي».
قال شهابُ الدِّين «ليس المرادُ هنا زمناً بعينه».
ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله﴾ أي: أنَّ نقض العهد كذبٌ، ومكرٌ، وخديعة وكل ذلك من القبائح، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها، فالغني عن كلِّ الحاجات أولى أن يكون مُنزهاً عنها. أي لا أحد أوفى بعهده من الله، وهذا يتضمَّنُ وفاء الباري بالكل فأمَّا وعده فللجميع، وأمَّا وعيده فمخصوصٌ ببعض المذنبين وببعض الذُّنُوب، وفي بعض الأحوال.
قوله: «فاستبشروا» فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم و «استفعل» هنا ليس للطلب، بل بمعنى «أفعل»، ك «اسْتوْقَدَ»، و «أوقد» والمعنى: أظهروا السُّرورَ بذلك، والبشارة: إظهار السُّرور في البشرة.
وقوله: ﴿الذي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ توكيد، كقوله: ﴿الذي بَنَوْاْ﴾ [التوبة: ١١٠]، لينصَّ لهم على هذا البيع بعينه.
217
قوله تعالى: ﴿التائبون﴾ الآية.
لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات. وقال جماعةٌ: الآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية.
قوله: «التائبون» فيه خمسةُ أوجه:
أحدها: أنَّهُ مبتدأ، وخبره «العابدون» وما بعده أوصاف، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك.
الثاني: أنَّ الخبر قوله «الآمرون».
الثالث: أنَّ الخبر محذوفٌ، أي: التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، أي من لم يجاهد غير معاندٍ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ، قال الزجاجُ: وهو حسن، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين، كقوله: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [النساء: ٩٥] ويؤيده قوله: ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ. وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف، أي: هم التائبون، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى: ﴿مِنَ المؤمنين﴾ ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود، والأعمش «التَّائبينَ» بالياءِ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر، وقد صرَّح الزمخشري، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين.
الخامس: أنَّ «التَّائبُونَ» بدلٌ من الضمير المتصل في «يُقاتِلُونَ».
ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل: التَّائبُون من كذا لله، ولا العابدون لله لفهم ذلك، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي، مبالغةً في ذلك. ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف، لمناسبتها لبعضها، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي، لتبايُن ما بينهما، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ، أو كفٍّ. وكذا «الحَافِظُونَ» عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ، وهو ظاهرٌ بالتأمل، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها.
وقيل: إنَّما دخلت الواوُ؛ لأنها «واوُ» الثمانية، كقولهم: ﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] وقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. قال بعض النَّحويين: هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ، يقولون إذا عدُّوا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة. قال القرطبيُّ: «وهي لغة قريش» وقال أبو البقاءِ: «إنَّما دخلت» الواو «في الصفة الثامنة، إيذاناً بأنَّ
218
السبعة عندهم عدد تام، ولذلك قالوا: سبع في ثمانية، أي: سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق».
وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً، لا تحقيقَ له.

فصل في تفسير هذه الصفات


قوله «التائبون» قال ابنُ عبَّاسٍ: التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ وقال الحسنُ: من الشِّرك والنفاق. وقيل: التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ: «الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية، لجمعه بين الأمرين» وقال الأصوليُّون: التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل، فالتخصيص تحكم. و «العَابِدُونَ» قال ابنُ عباسٍ «الذين يؤدُّون العبادة الواجبة عليهم» وقال غيره: المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ «هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء» وقال قتادةُ «قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم» الحامدون «الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ «.
»
السائحون «قال ابنُ مسعودٍ: الصائمون. وقال ابن عباس» ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام «وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» سياحةُ أمتي الصيامُ «.» وعن الحسن «أنَّ هذا صوم الفرض» وقيل: هم الذين يديمون الصيام. قال سفيانُ بنُ عيينة «إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً، لتركه اللذات كلها، من المطعم والمشرب والنكاح» وقال عطاءٌ: «السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله» وهو قول مسلم. وقال عكرمةُ: «هم طلبة
219
العلم، ينتقلون من بلدٍ إلى بلدٍ» وقوله ﴿الراكعون الساجدون﴾ يعني: المُصلِّين. وقوله ﴿الآمرون بالمعروف﴾ بالإيمان ﴿والناهون عَنِ المنكر﴾ عن الشّرك. وقيل: المعروفُ: السنّةُ، والمنكر: البدعة.
قوله: ﴿والحافظون لِحُدُودِ الله﴾ القائمون بأوامر الله. وقال الحسنُ «أهلُ الوفاءِ ببيعة الله».
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآيات.
لمَّا بيَّن في أول السُّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين، والمنافقين من جميع الوجوه، بيَّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القُرْبِ من الإنسان كالأب والأم، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم.
قال ابنُ عباسٍ: لمَّا فتح رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكَّة، أتى قبر أمه آمنة، فوقف عليه حتى حميت الشمسُ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها، فنزلت ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ وعن أبي هريرة قال: «زَارَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبرَ أمه فبكَى وأبْكَى من حولهُ، فقال:» اسْتأذَنْتُ ربِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لها؛ فَلمْ يُؤذَنْ لِي واسْتَأذَنتُهُ في أنْ أزُورَ قَبْرهَا فأذِنَ لِي، فزُورُوا القُبُور فإنَّهَا تُذكرُ المَوْتَ «.
قال قتادة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لأستغفرنَّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه»
فأنزل الله هذه الآية. وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال: يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ» فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة: أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ: على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ» فأنزل الله هذه الآية، وقوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [
220
القصص: ٥٦]. وفي رواية قال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِعَمِّهِ «قُلْ: لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ»، قال: لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ، يقُولُونَ: إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ؛ فنزل قوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] الآية. قال الواحديُّ: «وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام».
قال ابنُ الخطيب «وليس هذا بمُسْتَبعدٍ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال: إنَّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، قال: فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت هذه الآية».
وفي رواية: فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله ﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤].

فصل


قال القرطبيُّ: «تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز، فإن قيل: صحَّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه:» اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ «فكيف الجمع بين الآية والخبر؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال: كأنِّي أنظرُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُولُ
«ربِّ اغفرْ لِقوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ»
وروى البخاريُّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمَّن قبله «.
قال القرطبيُّ:»
لأَنَّهُ قاله ابتداء عن نفسه. وجواب ثان: أنَّ المراد بالاستغفار في الآية: الصّلاة. قال عطاءُ بن أبي رباح: الآية في النَّهْي عن الصَّلاةِ على المشركين، والاستغفار هنا يراد به الصلاة.
جواب ثالث: أنَّ الاستغفارَ للأحياءِ جائز؛ لأنَّهُ مرجو إيمانهم، ويمكن تألفهم بالقول الجميل، وترغيبهم في الدِّين بخلاف الأموات «.
قوله: ﴿وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى﴾ كقوله:»
أعطوا السائل ولو على فرس «وقد تقدَّم أنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة. وقوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم﴾ [التوبة: ١١٣] كالعلَّةِ للمنع من الاستغفار لهم.
221
قوله: ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾.
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ: أحدها: أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه.
وثانيها: أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل، وأقوى.
وثالثها: أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي: قليل الغضب، وبكونه أوهاً، أي: كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً؛ فكأنه قيل: إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر، فمنع غيره أولى.
قوله:» وَعَدَهَآ إِيَّاهُ «. اختلف في الضمير المرفوعِ، والمنصوبِ المنفصل، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على» إبراهيم «، والمنصُوب على» أبيه «، يعني: أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ، وحماد الرَّاوية. وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ» وعدهَا أباهُ «بالباءِ الموحَّدةِ. وقيل: المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل» إبراهيم «. وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ؛ فذلك طمع في إيمانه.

فصل


دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه، لقوله: ﴿واغفر لأبي﴾ [الشعراء: ٨٦] وقوله: ﴿رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب﴾ [إبراهيم: ٤١] وقال: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ [مريم: ٤٧] وقال أيضاً ﴿لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤]، والاستغفار للكافر لا يجوز.
فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ والمعنى: أن أباه وعده أن يؤمن؛ فلذا استغفر لهُ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله، تبرَّأ منه. وقيل: إنَّ الواعدَ»
إبراهيم «وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران:
الأول: أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة.
222
والثاني: أنَّ من النَّاس من حمل قوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق، قالوا: ويدل عليه قوله: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ [التوبة: ٨٤].

فصل


اختلفوا في السَّببِ الذي تبيَّن إبراهيم به أنَّ أباهُ عَدُوّ للهِ. فقيل: بالإصْرارِ والموت وقيل: بالإصْرارِ وحده. وقيل: بالوحي. فكأنه تعالى يقولُ: لمَّا تبيَّن لإبراهيم أنَّ أباهُ عدو لله تبَّرأ منه؛ فكونوا كذلك، لأنِّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: ﴿اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [النحل: ١٢٣]. قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾. الأوَّاهُ: الكثيرُ التأوه، وهو من يقولُ: أوَّاه، وقيل: من يقولُ: أوَّهْ، وهو أنْسَبُ؛ لأنَّ «أوه» بمعنى: أتوجع، ف «الأوَّاهُ» : فعَّال مثالُ مبالغة من ذلك، وقياسُ فعله أن يكون ثلاثياً؛ لأنَّ أمثله المبالغة إنَّما تطَّرد في الثُّلاثي وقد حكى قطربٌ فعله ثلاثياً، فقال: يقال: آهَ يَئُوهُ، ك «قَامَ يقُومُ،» أوْهاً «.
وأنكر النحويون هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يقال من»
أوَّهْ «بمعنى: أتوَجَّعُ، فعلٌ ثلاثي، إنما يقال: أوَّه تأويهاً، وتأوَّه تأوهاً؛ قال الراجز: [الرجز]
٢٨٥٠ - فَأوَّهَ الرَّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ... وقال المثقبُ العَبْدِيُّ: [الوافر]
٢٨٥١ - إِذَا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بليْلٍ تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ
وقال الزمخشريُّ:»
أوَّاه: فعَّال، مِنْ أوَّهْ، ك: «لئَّالٍ» من اللُّؤلؤ، وهو الذي يكثر التَّأوُّه «.
قال أبُو حيان»
وتشبيه «أوَّاه» مِنْ «أوَّهْ» ك «لَئّال» من اللؤلؤ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ مادة «أوَّهْ» موجودةٌ في صورة «أوَّاه»، ومادة «لؤلؤ» مفقودةٌ في «لَئّال» ؛ لاختلاف التركيب إذ «لَئّال» ثلاثي، و «لؤلؤ» رباعيّ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية «.
قال شهابُ الدِّين:»
لَئّال «، و» لؤلؤ «كلاهما من الرُّباعي المكرر، أي: إنَّ الأصل لام وهمزة ثم كرَّرْنا، غاية ما في الباب أنَّهُ اجتمع الهمزتان في» لَئّال «فأدغمت أولاهما في الأخرى، وفُرق بينهما في» لؤلؤ «وقال ابن الأثير في قوله عليه السلام:» أوْه عن الرِّبا «كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء، وربَّما
223
قلبُوا الواو ألفاً فقالوا: آهِ من كذا، وربَّمَا شدَّدُوا الواو وكسرُوها وسكَّنُوا الهاء فقالوا» أوّهْ «وربما حذفُوا مع التَّشديد الهاء فقالوا:» أوّ «وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول» أوَّهْ «.
وقال الجوهريُّ: بعضهم يقول «آوَّه»
بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاءِ؛ لتطويل الصوت بالشِّكاية، ورُبَّمَا أدخلُوا فيه التَّاء فقالوا «أوَّتَاهُ» بمدِّ وبغير مدّ.

فصل


قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الأوَّاه: الخاشع المُتضرِّع» وعن عمر: «الدُّعَّاءُ أنَّهُ سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الأوَّاه، فقال:» ويروى «أن زينب تكلَّمت عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما غيَّر لونه؛ فأنكر عمر، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: دعهَا فإنَّها أوَّاهَةٌ» فقيل يا رسُول الله، وما الأواهةُ؟ قال: «الدَّاعيةُ الخاشِعةُ المُتضرِّعَةُ».
وقيل: معنى كون إبراهيم أوَّاهاً، كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً لهُ. وعن عبَّاسٍ: الأوَّاه، المؤمن التَّواب.
وقال عطاءٌ وعكرمةُ: هو الموقن. وقال مجاهدٌ والنخعيُّ: هو الفقيه. وقال الكلبيُّ وسعيد بنُ المسيِّب: هو المُسبِّحُ الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة.
وقال أبُو ذرٍّ: هو المتأوه؛ لأنه كان يقول «آهٍ من النَّار قَبْلَ ألا تنفعَ آهُ». و «الحَلِيمُ» معلوم.
وإنَّما وصفهُ بهذين الوصفين ههنا؛ لأنَّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشَّفقة والخوف، ومن كان كذلك فإنَّه تعظم رقته على أبيه وأولاده، ثم إنَّهُ مع هذه الصفات تَبَرَّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمَّا ظهر له إصراره على الكُفْرِ، فأنتم بهذا المعنى أولى.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً﴾ الآية.
224
لمَّا منع المسلمين من أن يستغفرُوا للمشركين، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول الآية، فلمَّا نزلت هذه الآية خافُوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين.
وأيضاً فإنَّ أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين، كانوا ماتوا قبل نزولِ هذه الآية فوقع الخوفُ في قلوب المسلمين أنَّهُ كيف يكون حالهم؛ فأزال الله ذلك عنهم بهذه الآية وبيَّن أنه لا يؤاخذهم بعمل إلاَّ بعد أن يُبيِّنَ لهم أنَّه يجبُ عليهم أن يتَّقُوهُ ويحترزوا عنه فهذا وجهٌ حسنٌ في النَّظْمِ.

فصل


معنى الآية: ما كان الله ليحكم عليكم بالضَّلالةِ بترك الأوامرِ باستغفاركم للمشركين ﴿حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾.
قال مجاهدٌ: «بيان الله للمؤمنين في ترْكِ الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة». وقال الضحاك: «ما كان اللهُ ليُعذِّبَ قوماً حتى يُبيِّنَ لهم ما يأتون وما يذَرُونَ». وقال مقاتلٌ والكلبيُّ: هذا في المنسوخ، وذلك أنَّ قوماً قدمُوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأسلمُوا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبةِ؛ فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة، ولا علمَ لهم بذلك، ثم قدمُوا بعد ذلك المدينة؛ فوجدُوا الخمر قد حُرِّمَتْ والقبلة قد صُرفتْ، فقالوا يا رسول الله: قد كنت على دينٍ ونحن على غيره، فنحن ضلال؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم﴾ الناسخ، وقيل: المعنى: أنَّهُ أضلهُ عن طريق الجنَّةِ أي: صرفه ومنعه من التوجّه إليه.
وقالت المعتزلة: المراد من هذا الإضلال، الحكم عليهم بالضلال؛ واحتجُّوا بقول الكميت: [الطويل]
٢٨٥٢ - وطَائِفَةٍ قَدْ أكفرُونِي بحُبِّكُم...........................
قال ابنُ الأنباري «وهذا التَّأويلُ فاسدٌ؛ لأنَّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطلٌ؛ لأنه يلزم من قولنا: أكفر في الحُكْم صحة قولنا: أضَلّ. وليس كل موضع صح فيه» فعل «صح فيه» أفعل «. فإنَّه يجوزُ أن يقال» كسر «، و» قتل «، ولا يجوزُ» أكْسَرَ «، و» أقْتَلَ «؛ بل يجبُ فيه الرُّجوع إلى السماع».
225
قوله: ﴿إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ الآية.
فيها فوائد:
أحدها: أنَّه تعالى لمَّا أمر بالبراءة من الكُفَّارِ، بيَّن أنَّه له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم.
وثانيها: أنَّ المسلمين قالوا: لمَّا أمرتنا بالانقطاع عن الكُفَّار؛ فحينئذٍ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا، وأولادنا، وإخواننا، فكأنَّهُ قيل: إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم، فالإله المالكُ للسَّمواتِ والأرضِ، المُحْيِي المُمِيت ناصركم؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم.
وثالثها: أنَّهُ تعالى لمَّا أمر بهذه التكاليف الشَّاقة كأنَّهُ قال: وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي، لكوني إلهكم، ولكونكم عبيداً لي.
226
قوله تعالى :﴿ التائبون ﴾ الآية.
لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات. وقال جماعةٌ : الآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية.
قوله :" التائبون " فيه خمسةُ أوجه :
أحدها : أنَّهُ مبتدأ، وخبره " العابدون " وما بعده أوصاف، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك.
الثاني : أنَّ الخبر قوله " الآمرون ".
الثالث : أنَّ الخبر محذوفٌ، أي : التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، أي من لم يجاهد غير معاندٍ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ، قال الزجاجُ : وهو حسن، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين، كقوله :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾ [ النساء : ٩٥ ] ويؤيده قوله :﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ. وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف، أي : هم التائبون، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى :﴿ مِنَ المؤمنين ﴾ ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود، والأعمش " التَّائبينَ " بالياءِ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً ؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر، وقد صرَّح الزمخشري، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين.
الخامس : أنَّ " التَّائبُونَ " بدلٌ من الضمير المتصل في " يُقاتِلُونَ ".
ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل : التَّائبُون من كذا لله، ولا العابدون لله لفهم ذلك، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي، مبالغةً في ذلك. ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف، لمناسبتها لبعضها، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي، لتبايُن ما بينهما، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ، أو كفٍّ. وكذا " الحَافِظُونَ " عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ، وهو ظاهرٌ بالتأمل، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها.
وقيل : إنَّما دخلت الواوُ ؛ لأنها " واوُ " الثمانية، كقولهم :﴿ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] وقوله :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ [ الزمر : ٧٣ ] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. قال بعض النَّحويين : هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ، يقولون إذا عدُّوا : واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة. قال القرطبيُّ :" وهي لغة قريش " وقال أبو البقاءِ :" إنَّما دخلت " الواو " في الصفة الثامنة، إيذاناً بأنَّ السبعة عندهم عدد تام، ولذلك قالوا : سبع في ثمانية، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق ". وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً، لا تحقيقَ له.

فصل في تفسير هذه الصفات


قوله " التائبون " قال ابنُ عبَّاسٍ : التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ١ وقال الحسنُ : من الشِّرك والنفاق٢. وقيل : التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ :" الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية، لجمعه بين الأمرين " وقال الأصوليُّون : التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل، فالتخصيص تحكم. و " العَابِدُونَ " قال ابنُ عباسٍ " الذين يؤدُّون العبادة الواجبة عليهم " ٣ وقال غيره : المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ " هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء " ٤ وقال قتادةُ " قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم " الحامدون " الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء٥. قال عليه الصلاة والسلام :" أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ " ٦.
" السائحون " قال ابنُ مسعودٍ : الصائمون٧. وقال ابن عباس " ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام " ٨ وقال عليه الصلاة والسلام :" سياحةُ أمتي الصيامُ " ٩. " وعن الحسن " أنَّ هذا صوم الفرض " ١٠ وقيل : هم الذين يديمون الصيام. قال سفيانُ بنُ عيينة " إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً، لتركه اللذات كلها، من المطعم والمشرب والنكاح " ١١ وقال عطاءٌ :" السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله " ١٢ وهو قول مسلم. وقال عكرمةُ :" هم طلبة العلم، ينتقلون من بلدٍ إلى بلدٍ " ١٣ وقوله ﴿ الراكعون الساجدون ﴾ يعني : المُصلِّين. وقوله ﴿ الآمرون بالمعروف ﴾ بالإيمان ﴿ والناهون عَنِ المنكر ﴾ عن الشّرك. وقيل : المعروفُ : السنّةُ، والمنكر : البدعة.
قوله :﴿ والحافظون لِحُدُودِ الله ﴾ القائمون بأوامر الله. وقال الحسنُ " أهلُ الوفاءِ ببيعة الله " ١٤.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٨٣) عن الحسن وذكره الرازي (١٦/١٦١) عن ابن عباس..
٢ انظر الأثر السابق..
٣ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٦١)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٨٣)..
٥ أخرجه الطبري في "المصدر السابق" وذكره الرازي (١٦/١٦١)..
٦ أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (٤٤٨٣، ٤٤٨٤، ٤٣٧٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٠٣) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ وابن مردويه..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٨٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٠٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٨٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٠٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر..
٩ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٨/٢٧٠) وله شاهد عن عائشة موقوفا أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٨٦)..
١٠ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٦١) عن الحسن..
١١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٣٠)..
١٢ انظر: المصدر السابق..
١٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٠٤) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٢٣٠)..
١٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٣٠)..
قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ الآيات.
لمَّا بيَّن في أول السُّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين، والمنافقين من جميع الوجوه، بيَّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القُرْبِ من الإنسان كالأب والأم، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم.
قال ابنُ عباسٍ : لمَّا فتح رسُول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة، أتى قبر أمه آمنة، فوقف عليه حتى حميت الشمسُ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها، فنزلت ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾١ وعن أبي هريرة قال :" زَارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أمه فبكَى وأبْكَى من حولهُ، فقال :" اسْتأذَنْتُ ربِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لها ؛ فَلمْ يُؤذَنْ لِي واسْتَأذَنتُهُ في أنْ أزُورَ قَبْرهَا فأذِنَ لِي، فزُورُوا القُبُور فإنَّهَا تُذكرُ المَوْتَ " ٢.
قال قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرنَّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه " فأنزل الله هذه الآية٣. وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال :" لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال : يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ " فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة : أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ : على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم " لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ " فأنزل الله هذه الآية، وقوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾٤ [ القصص : ٥٦ ]. وفي رواية قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ " قُلْ : لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ "، قال : لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ، يقُولُونَ : إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ ؛ فنزل قوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ] الآية٥. قال الواحديُّ :" وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام ".
قال ابنُ الخطيب " وليس هذا بمُسْتَبعدٍ ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال : إنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، قال : فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان ؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ".
وفي رواية : فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ ﴾ إلى قوله ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ].

فصل


قال القرطبيُّ :" تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم ؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين ؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز، فإن قيل : صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه :" اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ " ٦ فكيف الجمع بين الآية والخبر ؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال : كأنِّي أنظرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُول " ربِّ اغفرْ لِقوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ " وروى البخاريُّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمَّن قبله ".
قال القرطبيُّ :" لأَنَّهُ قاله ابتداء عن نفسه. وجواب ثان : أنَّ المراد بالاستغفار في الآية : الصّلاة. قال عطاءُ بن أبي رباح : الآية في النَّهْي عن الصَّلاةِ على المشركين، والاستغفار هنا يراد به الصلاة.
جواب ثالث : أنَّ الاستغفارَ للأحياءِ جائز ؛ لأنَّهُ مرجو إيمانهم، ويمكن تألفهم بالقول الجميل، وترغيبهم في الدِّين بخلاف الأموات ".
قوله :﴿ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى ﴾ كقوله :" أعطوا السائل ولو على فرس " وقد تقدَّم أنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة. وقوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم ﴾ [ التوبة : ١١٣ ] كالعلَّةِ للمنع من الاستغفار لهم.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٨٩) عن عطية وذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٦٥) عن ابن عباس..
٢ أخرجه مسلم ٢/٦٧١ كتاب الجنائز باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (١٠٨-٩٧٦)..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٣١)..
٤ أخرجه البخاري (٨/١٦٢) كتاب التفسير: باب ما كان للنبي والذين آمنوا...... حديث (٤٦٧٥) ومسلم (١/٥٤) كتاب الإيمان رقم (٣٩) والبيهقي في "الدلائل" (٢/٣٤٣) والطبري في تفسيره" (٦/٤٨٨).
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٠٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه..

٥ انظر الحديث السابق..
٦ تقدم تخريجه..
قوله :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾.
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ : أحدها : أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه.
وثانيها : أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عليه الصلاة والسلام -، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم ؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل، وأقوى.
وثالثها : أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي : قليل الغضب، وبكونه أوهاً، أي : كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً ؛ فكأنه قيل : إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر، فمنع غيره أولى.
قوله :" وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ". اختلف في الضمير المرفوعِ، والمنصوبِ المنفصل، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على " إبراهيم "، والمنصُوب على " أبيه "، يعني : أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ، وحماد الرَّاوية١. وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ " وعدهَا أباهُ " بالباءِ الموحَّدةِ. وقيل : المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل " إبراهيم ". وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ ؛ فذلك طمع في إيمانه.

فصل


دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه، لقوله :﴿ واغفر لأبي ﴾ [ الشعراء : ٨٦ ] وقوله :﴿ رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب ﴾ [ إبراهيم : ٤١ ] وقال :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي ﴾ [ مريم : ٤٧ ] وقال أيضاً ﴿ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ]، والاستغفار للكافر لا يجوز.
فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله ﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾ والمعنى : أن أباه وعده أن يؤمن ؛ فلذا استغفر لهُ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله، تبرَّأ منه. وقيل : إنَّ الواعدَ " إبراهيم " وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران :
الأول : أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة.
والثاني : أنَّ من النَّاس من حمل قوله :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق، قالوا : ويدل عليه قوله :﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ [ التوبة : ٨٤ ].

فصل


اختلفوا في السَّببِ الذي تبيَّن إبراهيم به أنَّ أباهُ عَدُوّ للهِ. فقيل : بالإصْرارِ والموت وقيل : بالإصْرارِ وحده. وقيل : بالوحي. فكأنه تعالى يقولُ : لمَّا تبيَّن لإبراهيم أنَّ أباهُ عدو لله تبَّرأ منه ؛ فكونوا كذلك، لأنِّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله :﴿ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]. قوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾. الأوَّاهُ : الكثيرُ التأوه، وهو من يقولُ : أوَّاه، وقيل : من يقولُ : أوَّهْ، وهو أنْسَبُ ؛ لأنَّ " أوه " بمعنى : أتوجع، ف " الأوَّاهُ " : فعَّال مثالُ مبالغة من ذلك، وقياسُ فعله أن يكون ثلاثياً ؛ لأنَّ أمثله المبالغة إنَّما تطَّرد في الثُّلاثي وقد حكى قطربٌ فعله ثلاثياً، فقال : يقال : آهَ يَئُوهُ، ك " قَامَ يقُومُ، " أوْهاً ".
وأنكر النحويون هذا القول على قطرب، وقالوا : لا يقال من " أوَّهْ " بمعنى : أتوَجَّعُ، فعلٌ ثلاثي، إنما يقال : أوَّه تأويهاً، وتأوَّه تأوهاً ؛ قال الراجز :[ الرجز ]
فَأوَّهَ الرَّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ٢ ***. . .
وقال المثقبُ العَبْدِيُّ :[ الوافر ]
إِذَا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بليْلٍ *** تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ٣
وقال الزمخشريُّ :" أوَّاه : فعَّال، مِنْ أوَّهْ، ك :" لئَّالٍ " من اللُّؤلؤ، وهو الذي يكثر التَّأوُّه ".
قال أبُو حيان " وتشبيه " أوَّاه " مِنْ " أوَّهْ " ك " لَئّال " من اللؤلؤ ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ مادة " أوَّهْ " موجودةٌ في صورة " أوَّاه "، ومادة " لؤلؤ " مفقودةٌ في " لَئّال " ؛ لاختلاف التركيب إذ " لَئّال " ثلاثي، و " لؤلؤ " رباعيّ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية ".
قال شهابُ الدِّين :" لَئّال "، و " لؤلؤ " كلاهما من الرُّباعي المكرر، أي : إنَّ الأصل لام وهمزة ثم كرَّرْنا، غاية ما في الباب أنَّهُ اجتمع الهمزتان في " لَئّال " فأدغمت أولاهما في الأخرى، وفُرق بينهما في " لؤلؤ " وقال ابن الأثير في قوله عليه السلام :" أوْه عن الرِّبا " كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء، وربَّما قلبُوا الواو ألفاً فقالوا : آهِ من كذا، وربَّمَا شدَّدُوا الواو وكسرُوها وسكَّنُوا الهاء فقالوا " أوّهْ " وربما حذفُوا مع التَّشديد الهاء فقالوا :" أوّ " وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول " أوَّهْ ".
وقال الجوهريُّ : بعضهم يقول " آوَّه " بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاءِ ؛ لتطويل الصوت بالشِّكاية، ورُبَّمَا أدخلُوا فيه التَّاء فقالوا " أوَّتَاهُ " بمدِّ وبغير مدّ.

فصل


قال عليه الصلاة والسلام :" الأوَّاه : الخاشع المُتضرِّع " ٤ وعن عمر :" الدُّعَّاءُ أنَّهُ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوَّاه، فقال :" الدعاء " ٥ ويروى " أن زينب تكلَّمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بما غيَّر لونه ؛ فأنكر عمر، فقال عليه الصلاة والسلام : دعهَا فإنَّها أوَّاهَةٌ " فقيل يا رسُول الله، وما الأواهةُ ؟ قال :" الدَّاعيةُ الخاشِعةُ المُتضرِّعَةُ " ٦.
وقيل : معنى كون إبراهيم أوَّاهاً، كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً لهُ. وعن عبَّاسٍ : الأوَّاه، المؤمن التَّواب٧.
وقال عطاءٌ وعكرمةُ : هو الموقن٨. وقال مجاهدٌ والنخعيُّ : هو الفقيه٩. وقال الكلبيُّ وسعيد بنُ المسيِّب : هو المُسبِّحُ الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة١٠.
وقال أبُو ذرٍّ : هو المتأوه ؛ لأنه كان يقول " آهٍ من النَّار قَبْلَ ألا تنفعَ آهُ " ١١. و " الحَلِيمُ " معلوم.
وإنَّما وصفهُ بهذين الوصفين ههنا ؛ لأنَّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشَّفقة والخوف، ومن كان كذلك فإنَّه تعظم رقته على أبيه وأولاده، ثم إنَّهُ مع هذه الصفات تَبَرَّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمَّا ظهر له إصراره على الكُفْرِ، فأنتم بهذا المعنى أولى.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣١٥، الدر المصون ٣/٥٠٨..
٢ ينظر: الطبري ١٤/٥٣٥، الدر المصون ٣/٥٠٨..
٣ ينظر: مجاز القرآن ١/٢٧٠، طبقات فحول الشعراء ١/٢٧٣، جامع البيان ١٤/٣٥٤، الخصائص ٣/٣٨، ابن يعيش ٤/٣٩، معاني الزجاج ٢/٤٧٤، زاد المسير ٣/٥١٠، التهذيب ٦/٨٠ اللسان: أوه، المفضليات ٥٨٦، الدر المصون ٣/٥٠٨..
٤ أخرجه ابن عساكر (٢/٧٦) والطبري (٦/٤٩٨)..
٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٣٢)..
٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٦٧)..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٩٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٠٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٨ أخرجه الطبري (٦/٤٩٦) عن ابن عباس وعطاء وعكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٠٩-٥١٠) وعزاه إلى ابن جرير وأبي الشيخ عن ابن عباس. وابن أبي حاتم عن مجاهد..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٩٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥١٠) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٤٩٧)..
١١ أخرجه الطبري (٦/٤٩٨)..
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً ﴾ الآية.
لمَّا منع المسلمين من أن يستغفرُوا للمشركين، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول الآية، فلمَّا نزلت هذه الآية خافُوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين.
وأيضاً فإنَّ أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين، كانوا ماتوا قبل نزولِ هذه الآية فوقع الخوفُ في قلوب المسلمين أنَّهُ كيف يكون حالهم ؛ فأزال الله ذلك عنهم بهذه الآية وبيَّن أنه لا يؤاخذهم بعمل إلاَّ بعد أن يُبيِّنَ لهم أنَّه يجبُ عليهم أن يتَّقُوهُ ويحترزوا عنه فهذا وجهٌ حسنٌ في النَّظْمِ.

فصل


معنى الآية : ما كان الله ليحكم عليكم بالضَّلالةِ بترك الأوامرِ باستغفاركم للمشركين ﴿ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾.
قال مجاهدٌ :" بيان الله للمؤمنين في ترْكِ الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة " ١. وقال الضحاك :" ما كان اللهُ ليُعذِّبَ قوماً حتى يُبيِّنَ لهم ما يأتون وما يذَرُونَ " ٢. وقال مقاتلٌ والكلبيُّ : هذا في المنسوخ، وذلك أنَّ قوماً قدمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمُوا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبةِ ؛ فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة، ولا علمَ لهم بذلك، ثم قدمُوا بعد ذلك المدينة ؛ فوجدُوا الخمر قد حُرِّمَتْ والقبلة قد صُرفتْ، فقالوا يا رسول الله : قد كنت على دينٍ ونحن على غيره، فنحن ضلال ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم ﴾٣ الناسخ، وقيل : المعنى : أنَّهُ أضلهُ عن طريق الجنَّةِ أي : صرفه ومنعه من التوجّه إليه.
وقالت المعتزلة : المراد من هذا الإضلال، الحكم عليهم بالضلال ؛ واحتجُّوا بقول الكميت :[ الطويل ]
وطَائِفَةٍ قَدْ أكفرُونِي بحُبِّكُم ***. . . ٤
قال ابنُ الأنباري " وهذا التَّأويلُ فاسدٌ ؛ لأنَّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا : ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطلٌ ؛ لأنه يلزم من قولنا : أكفر في الحُكْم صحة قولنا : أضَلّ. وليس كل موضع صح فيه " فعل " صح فيه " أفعل ". فإنَّه يجوزُ أن يقال " كسر "، و " قتل "، ولا يجوزُ " أكْسَرَ "، و " أقْتَلَ " ؛ بل يجبُ فيه الرُّجوع إلى السماع ".
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٠٠) وذكره البغوي (٢/٣٣٢-٣٣٣)..
٢ انظر: المصدر السابق..
٣ المصدر السابق..
٤ ينظر: الرازي ١٦/١٦٨..
قوله :﴿ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ الآية.
فيها فوائد :
أحدها : أنَّه تعالى لمَّا أمر بالبراءة من الكُفَّارِ، بيَّن أنَّه له ملك السماوات والأرض، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم.
وثانيها : أنَّ المسلمين قالوا : لمَّا أمرتنا بالانقطاع عن الكُفَّار ؛ فحينئذٍ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا، وأولادنا، وإخواننا، فكأنَّهُ قيل : إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم، فالإله المالكُ للسَّماواتِ والأرضِ، المُحْيِي المُمِيت ناصركم ؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم.
وثالثها : أنَّهُ تعالى لمَّا أمر بهذه التكاليف الشَّاقة كأنَّهُ قال : وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي، لكوني إلهكم، ولكونكم عبيداً لي.
قوله: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار﴾ الآية.
لمَّا شرح أحوال غزوة تبوك، وأحوال المتخلِّفين عنها، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي﴾ الآية. تاب الله: تجاوز وصفح، ومعنى توبته على النبيِّ: مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلُّف، فقال: ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣]، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلُّفِ عنه.
وقيل: توبةُ الله عليهم استنقاذهم من شدَّةِ العسرةِ. وقيل: خلاصهم من نكايةِ العدوِّ وعبَّر عن ذلك بالتوبة - وإن خرج عن عرفها - لوجود معنى التَّوبة فيه، وهو الرُّجُوع إلى الحالة الأولى. وقيل: افتتح الكلام به؛ لأنَّه كان سبب توبتهم، فذكره معهم، كقوله تعالى: ﴿فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ٤١]. وقيل: لا يبعدُ أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلاَّ أنَّه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم، لأجْلِ تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد، ثم إنَّه تعالى ضمَّ ذكر الرسول إلى ذكرهم، تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدِّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إليهم في قبول التوبة.
قوله: «... اتبعوه» يجوز فيه وجهان:
226
أحدهما: أنَّهُ اتباعٌ حقيقي، ويكون عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خرج أولاً، وتبعه أصحابه. وأن يكون مجازاً، أي: اتبعوا أمرهُ ونهيهُ. وساعةُ العُسْرة عبارةُ عن وقتِ الخروج إلى الغزوِ، وليس المرادُ حقيقة السَّاعة، بل كقولهم «يَوْم الكُلاَب»، و: [الطويل]
٢٨٥٣ -.................................... عَشِيَّة قَارعْنَا جُذَامَ وحمْيَرا
فاستعيرت «السَّاعة» لذلك؛ كما استعير «الغداة» و «العَشيَّة» في قوله: [الطويل]
٢٨٥٤ - غَداةَ طفَتْ عَلماءِ بكرُ بنُ وَائِلٍ................................
وقوله: [الطويل]
٢٨٥٥ - إذَا جَاءَ يَوْماً وارثي يبتَغِي الغِنَى........................

فصل


في المراد بساعة العسرةِ قولان:
الأول: أنها غزوةُ تبوك، والمرادُ منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّاً في ذلك السَّفرِ. والعسرة: تعذر الأمر وصعوبته. قال جابِر «حصلت عسرة الظهر، وعسرة الماءِ، وعسرة الزَّادِ».
أمَّا عُسرةُ الظهرِ؛ فقال الحسنُ: كان العشرةُ من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم.
وأمَّا عسرة الزَّادِ، فريما مصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، حتَّى لا يبقى من
227
التَّمرة إلاَّ النواة، وكان معهم شيء من شعير مُسَوَّسٍ، فكان أحدهم إذا وضع اللُّقْمَة في فيه أخذ أنفه من نتن اللُّقمةِ. وأمَّا عسرة الماءِ، فقال عمرُ: خرجنا في قيظٍ شديدٍ، وأصابنا فيه عطشٌ شديدٌ؛ حتَّى إنَّ الرجُل لينحر بعيرهُ فيعصر فرثهُ، ويشربهُ.
وهذه تسمى غزوة العسرة، ومن خرج فيها فهو جيش العُسرةِ، وجهزهم عثمان وغيره من الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
والثاني: قال أبو مسلم «يجوزُ أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال، والأوقات الشديدة على الرَّسُولِ، وعلى المؤمنين؛ فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها.
وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن، كقوله: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر﴾ [الأحزاب: ١٠] وقوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] الآية، والمقصود منه وصف المهاجرين، والأنصار بأنَّهُم اتَّبعُوا الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيدُ نهاية المدح والتعظيم «.
قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ﴾ قرأ حمزة وحفص عن عصام»
يَزِيغُ «بالياءِ
228
من تحت والباقون بالتاء من فوق. فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكون اسمُ» كاد «ضمير الشَّأن و» قلوبُ «مرفوع ب» يزيغُ «، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، وأن يكونَ اسمها ضمير القوم، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذكرُ» المهاجرين والأنصار «، ولذلك قدَّرهُ أبو البقاءِ، وابنُ عطيَّة:» من بعد مَا كَادَ القَوْمُ «. وقال أبو حيان - في هذه القراءة -» فيتعيَّن أن يكونَ في «كاد» ضميرُ الشَّأن، وارتفاع «قُلوبُ» ب «يزيغُ»، لامتناع أن يكون «قلوب» اسم «كاد»، و «يزيغُ» في موضع الخبر؛ لأنَّ النِّيةَ فيه التأخير ولا يجوزُ: من بعد ما كاد قلوب يزيغُ بالياء «قال شهابُ الدِّين: ولا يتعيَّن ما ذكر في هذه القراءة، لما تقدَّم من أنَّهُ يجوزُ أن يكون اسمُ» كاد «ضميراً عائداً على الجمع أو القوم، والجملة الفعليَّة خبرها، ولا محذور يمنع ذلك من ذلك. وقوله: لامتناع أن يكون» قُلُوب «اسم» كَادَ «لزم أن يكون» يزيغُ «خبراً مقدماً؛ فيلزمُ أن يرفع ضميراً عائداً على» قُلوبُ «، ولو كان كذلك للزم تأنيثُ الفعل؛ لأنَّهُ حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأنَّ جمع التَّكسير يجري مجرى المؤنث مجازاً. وأمَّا قراءة التَّاء من فوق؛ فتحتمل أن يكون في» كَادَ «ضميرُ الشَّأن، كما تقدَّم، و» قلوبُ «مرفوع ب» تزيغُ «وأنَّثَ لتأنيث الجمع، وأن يكون» قُلبوُ «اسمها، و» تزيغُ «خبر مقدَّم، ولا محذور في ذلك؛ لأنَّ الفعل قد أنَّثَ.
وقال أبُو حيَّان: وعلى كُلِّ واحدٍ من هذه الأعرايب الثلاثة إشكال على ما تقرَّر في علم النَّحو مِنْ أنَّ خبر أفعالِ المقاربةِ لا يكون إلاَّ مضارعاً رافعاً ضمير اسمها؛ فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير»
عَسَى «من أفعال المقاربة، ولا يكونُ سبباً، وذلك بخلاف» كان «فإن خبرها يرفع الضمير والسبي لاسم» كان «، فإذا قدَّرْنَا فيها ضمير الشَّأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبرِ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم» كاد «، بل ولا سبباً له، وهذا يلزمُ في قراءة التَّاءِ أيضاً.
وأما توسط الخبر؛ فهو مبنيٌّ على جوازِ مثل هذا التركيب في مثل: «كان يقُومُ زيد»
، وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع. وأمَّا الوجه الأخير؛ فضعيف جداً، من حيثُ أضمر في «كاد» ضميراً، ليس له علىمن يعود إلاَّ بتوهُّم ومن حيثُ يكونُ خبر «كاد» رافعاً سبباً. قال شهابُ الدِّين: كيف يقولُ «والصَّحيحُ المنعُ» وهذا التركيب موجود في القرآن، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] ﴿كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا﴾ [الجن: ٤]، وفي قول امرىء القيس: [الطويل]
٢٨٥٦ - وإنْ تَكُ سَاءَتْكَ مِنِّي خَليقَةٌ............................
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالة. وإنَّما اختلفوا في تقديره: هل من باب تقديم الخبر،
229
أم لا؟ فمن منع؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح، والخبرُ الصريح متى كان كذلك؛ امتنع تقديمهُ على المبتدأ، لئلاَّ يلتبس بباب الفاعل؛ فكذلك بعد نسخه، ومن أجازَ فلأمن اللَّبْس. ثم قال أبُو حيَّان: «ويُخَلِّصُ من هذه الإشكالات اعتقادُ كون» كَادَ «زائدة، ومعناها مراد، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكُون مثل» كَانَ «إذا زيدتْ، يُراد معناها ولا عمل لها، ويؤيِّدُ هذا التأويل قراءةُ ابن مسعودٍ» مِنْ بعْدِ ما زَاغَتْ «بإسقاط» كاد «وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠] مع تأثُّرها بالعامل وعملها فيما بعدها؛ فأحرى أن يُدَّعَى زيادتها، وهي ليست عاملةً ولا معمولةً» قال شهابُ الدِّين زيادتُها أباهُ الجمهور، وقال به من البصريين الأخفشُ وجعل منه ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه: ١٥] وتقدَّم الكلام [البقرة: ٢٠٥] على ذلك. وقرأ الأعمشُ، والجحدريُّ «تُزيغ» بضم التاء، وكأَّنه جعل «أزَاغَ»، و «زَاغَ» بمعنى. وقرأ أبَيّ «كَادَتْ» بتاء التأنيث.

فصل


«كاد» عند بعضهم تفيد المقاربة، وعند آخرين تفيدُ المقاربة مع عدم الوقوع و «الزيغ» الميل، أي: من بعد ما كاد تميلُ قلوب فريق منهم، أو بعضهم، ولم يرد الميل عن الدِّين بل أراد الميل للتخلف، والانصراف؛ فهذه التوبةُ توبةٌ عن تلك المقاربة.
واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم، فقيل: هَمَّ بعضهم عند تلك الشدَّة العظيمة أن يفارق الرسول، لكنه صبر واحْتَسبَ؛ فلذلك قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ لمَّا صبرُوا وندمُوا على ذلك الأمر اليسير. وقال آخرون: بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة، فلمَّا نالتهم الشِّدة، وقع ذلك في قلوبهم، ومع ذلك تلافوا هذا اليسيرَ خوفاً من أن يكون معصية؛ فلذلك قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾.
فإن قيل: ذكر التوبة في أوَّل الآية، وفي آخرها، فما فائدة التَّكرارِ؟
فالجوابُ من وجوه:
أحدها: أنَّهُ تعالى ابتدأ بذكر التَّوبةِ قبل ذكرِ الذَّنبِ تَطْيبباً لقلوبهم ثم لمَّا ذكر الذَّنبَ أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيماً لشأنهم.
وثانيها: إذا قيل: عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة» وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾
230
يريدُ ازداد عنهم رضا. قال ابنُ عبَّاسٍ: مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً. وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء.
وثالثها: أنه قال ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة﴾ وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال: ﴿مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾ فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس. ثمَّ قال تعالى ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ وهما صفتان لله تعالى، ومعناهما متقارب، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة.
وقيل: إحداهما للرَّحمة السَّالفة، والأخرى للمستقبلة.
قوله: ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ الآية.
قوله «وعَلى الثَّلاثةِ» يجوزُ أن ينسقَ على «النبيِّ، أي: تاب على النبي، وعلى الثلاثة، وأن ينسقَ على الضَّمير في» عَليْهِمْ «أي: تاب عليهم، وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر.
وقرأ جمهورُ النَّاس»
خُلِّفُوا «مبنيّاً للمفعول مشدداً، من: خلَّفه يخلِّفه.
وقرأ أبُو مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم. وقرأ عكرمةُ، وزر بنُ حبيشٍ، وعمرُو بنُ عبيدٍ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزميّ، ومعاذ للقارئ»
خَلَفُوا «مبنيّاً للفاعل مخففاً من:» خَلَفَه «.
والمعنى: الذين خلفوا، أي: فسدُوا، مِنْ: خُلُوف الفمِ. ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء كذلك، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين، وعلي بنُ الحسينِ، وابناه: زيدٌ، ومحمد الباقرُ، وابنه جعفر الصادقُ:»
خَالفُوا «بألف، أي: لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج.
قال الباقرُ»
ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم «.
وقرأ الأعمش»
وعلى الثَّلاثة المخلَّفين «. و» الظَّن «هنا بمعنى العلم؛ كقوله: [الطويل]
231
٢٨٥٧ - فقُلْتُ لهُم:
ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ
وقوله: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم. وقيل: هو على بابه؛ لأنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقف أمرهم على الوحي، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة.
قوله: ﴿أَن لاَّ مَلْجَأَ﴾ «أنْ» هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و «لا» وما في حيَّزها الخبرُ، و ﴿مِنَ الله﴾ خبرها، ولا يجوزُ أن تتعلق ب «مَلْجَأ»، ويكون «إلاَّ إليْهِ» الخبر لأنه كان يلزم إعرابه؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً.
وقد قال بعضهم: إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ، كقوله: [الطويل]
٢٨٥٨ - أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً........................
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ» برفع «يومٌ» وقد تقدم ذلك [الأنفال: ٤٨].
قوله: «إلاَّ إليه» استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي: لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك: «لا إله إلاَّ الله».

فصل


هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ [التوبة: ١٠٦].
واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل: ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً؟ فيقولُ: بموضع كذا، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه.
وقيل: لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ -
232
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قدر تحصيل الآلات، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل، فصح أن يقال: خلفهم الرسول.
وقيل: إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ [التوبة: ١٠٦] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة. قال كعبُ بنُ مالكٍ، وهو أحد الثلاثةِ: قول الله في حقنا ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمرنا؛ يشير إلى قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ [التوبة: ١٠٦]

فصل


هؤلاء الثلاثةُ هم: كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع.
وفي قصتهم قولان:
الأولُ: أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، قال الحسنُ: كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال: يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ أمرك؛ فاذهبي في سبيل الله، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفعل، وكان للثاني أهلٌ فقال: يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أمرك؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل. والثالث: ما كان ذا مال ولا أهل فقال: ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فلحقوا برسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل قوله
﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ [التوبة: ١٠٦].
والثاني - وهو قول الأكثرين -: أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال كعبٌ: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب حديثي، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم، وأتيته فقلتُ: إن كراعي، وزادي كان حاضراً، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، ثمَّ إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم، حتى أمر بذلك نساءهم؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت: يا رسول الله لقد بكى، حتَّى خفتُ على بصره، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين﴾ [التوبة: ١١٧] وقوله: ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى حجرته، وهو عند أمِّ سلمة فقال: اللهُ أكبرُ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا» فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ: توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال: «لا» فقلتُ: نصفه، قال: «لا»، قلت: فثلثه، قال: «نعم».
233

فصل


معنى: ﴿ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه: إعراض الرسول عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وبقائهم على ذهه الحالة خمسين يوماً، وقيل: أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم، أي: ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ، ومجانية الأولياء، ونظر الَّاس إليهم بعين الإهانةِ، و «ظَنُّوا» أي: استيقنوا «أن لا مَلْجَأ» لا مفزع من الله إلا إليه.
قال ابنُ الخطيبِ: يقرب معناه من قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك، وأعوذُ بكَ مِنْكَ».
قوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾ فيه وجوه:
أحدها: قال أهلُ السُّنَّةِ: المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى، فقوله: «تَابَ عليْهِمْ» يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله: «لِيتُوبُوا» يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ؛ فهو نظير قوله: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً﴾ [التوبة: ٨٢] مع قوله ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ﴾ [النجم: ٤٣] وقوله ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ﴾ [الأنفال: ٥] مع قوله ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾ [التوبة: ٤٠] وقوله ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ﴾ [يونس: ٢٢] مع قوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ﴾ [الأنعام: ١١].
وثانياً: تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل.
وثالثها: أصلُ التوبة الرُّجوع أي: تاب عليهم؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك.
ورابعها: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾ أي: ليداوموا على التوبةِ ولا يراجعوا ما يبطلها.
وخامسها: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ لينتفعوا بالتوبة ﴿إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾.
واعلم أنَّ ذكر «الرَّحيم» عقب ذكر «التَّواب» يدلُّ على أنَّ قبول التوبةِ لمحض الرحمة والكرم، لا لأجل الوجوب، كما تقولُ المعتزلةُ، وذلك يقوي أنَّهُ لا يجبُ عقلاً على الله قبول قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله﴾ الآية.
لمَّا قبل توبة هؤلاء الثلاثة، ذكر ما يكون كالزَّاجر عن فعل مثل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد، أي: اتَّقُوا الله في مخالفة أمر الرسُول ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ أي: مع النبي وأصحابه في الغزوات، ولا تتخلَّفُوا عنها، وتجلسوا مع المنافقين في البيوتِ.
قال نافعٌ: «مَعَ الصادقين» أي: مع محمد. وقال سعيدُ بن جبيرٍ: مع أبي بكر وعمر.
234
وقال ابن جريج: مع المهاجرين، لقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ [الحشر: ٨] إلى قوله ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾ [الحشر: ٨].
وقال ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم، وخرجُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى تبوك بإخلاصٍ ونيّة. وقيل: من الذين صدقوا في الاعتراف بالذَّنب، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.

فصل


دلَّت الآية على فضيلة الصِّدق، وكمال درجته، قال ابن مسعودٍ: إنَّ الكذب لا يصلحُ في جدٍّ ولا هزلٍ، ولا أن يعد أحدُكم صبيَّة شيئاً ثم لا ينجزُ له، اقرءوا إن شئتم، وقرأ الآية.
«وروي أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إنّي أريد أن أومن بك إلاَّ أنِّي أحبُّ الزِّنا، والخمر، والسرقة، والكذب، والناس يقولون: إنك تُحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرهَا، فإن قنعت منِّي بتركِ واحد منها آمنت بك، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام:» فقبل ذلك ثُمَّ أسلم، فلمَّا خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرضوا عليه الخمر، فقال: إن شربتُ الخمر فسألني رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن شربها، وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقتُ أقام الحدَّ عليَّ، فتركها، ثمَّ عرضوا عليه الزِّنا؛ فجاء ذلك الخاطرُ، فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما أحسن ما قلت، لمَّا منعتني من الكذب انسدت أبوابُ المعاصي عليَّ، «وتاب عن الكُلِّ وقال ابنُ مسعود:» عَليْكُم بالصِّدقِ فإنَّه يقربُ إلى البرِّ، والبرُّ يقرب إلى الجنَّة، وإنَّ العبْدَ ليصدق؛ فيكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذب يقربُ إلى الفُجُورِ، والفُجُورِ يُقرِّبُ إلى النار، وإن الرَّجُلَ ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً، ألا ترى أنه يقال: صَدَقْتَ، وبَرَرْتَ، وكذَبْتَ، وفَجَرْتَ «.
وقيل في قول إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٢، ٨٣] إن إبليس لو لمْ يذكر هذا الاستثناء لصادر كاذباً في ادعاء إغواء الكلِّ، فكأنه استنكفَ عن الكذبِ؛ فذكر هذا الاستثناء، وإذا كان الكذبُ شيئاً يستنكفُ منه إبليس، فالمسلم أوْلَى أن يستنكفَ منه ومن فضائل الصِّدق أنَّ الإيمان منه لا من سائر الطَّاعات، ومن معايب الكذب أنَّ الكفر منه لا من سائر الذنوب.
235
قوله :﴿ وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ ﴾ الآية.
قوله " وعَلى الثَّلاثةِ " يجوزُ أن ينسقَ على " النبيِّ، أي : تاب على النبي، وعلى الثلاثة، وأن ينسقَ على الضَّمير في " عَليْهِمْ " أي : تاب عليهم، وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر.
وقرأ جمهورُ النَّاس " خُلِّفُوا " مبنيّاً للمفعول مشدداً، من : خلَّفه يخلِّفه.
وقرأ أبُو١ مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم. وقرأ عكرمةُ، وزر٢ بنُ حبيشٍ، وعمرُو بنُ عبيدٍ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزوميّ، ومعاذ للقارئ " خَلَفُوا " مبنيّاً للفاعل مخففاً من :" خَلَفَه ".
والمعنى : الذين خلفوا، أي : فسدُوا، مِنْ : خُلُوف الفمِ. ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة. وقرأ أبو العالية٣، وأبو الجوزاء كذلك، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين، وعلي٤ بنُ الحسينِ، وابناه : زيدٌ، ومحمد الباقرُ، وابنه جعفر الصادقُ :" خَالفُوا " بألف، أي : لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج.
قال الباقرُ " ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم ".
وقرأ الأعمش٥ " وعلى الثَّلاثة المخلَّفين ". و " الظَّن " هنا بمعنى العلم ؛ كقوله :[ الطويل ]
فقُلْتُ لهُم : ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ *** سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ٦
وقوله :﴿ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم. وقيل : هو على بابه ؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام وقف أمرهم على الوحي، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة.
قوله :﴿ أَن لاَّ مَلْجَأَ ﴾ " أنْ " هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و " لا " وما في حيَّزها الخبرُ، و﴿ مِنَ الله ﴾ خبرها، ولا يجوزُ أن تتعلق ب " مَلْجَأ "، ويكون " إلاَّ إليْهِ " الخبر لأنه كان يلزم إعرابه ؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً.
وقد قال بعضهم : إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ، كقوله :[ الطويل ]
أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً ***. . . ٧
وقوله عليه الصلاة والسلام :" لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ " ٨ برفع " يومٌ " وقد تقدم ذلك [ الأنفال : ٤٨ ].
قوله :" إلاَّ إليه " استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي : لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك :" لا إله إلاَّ الله ".

فصل


هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله ﴾ [ التوبة : ١٠٦ ].
واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل : ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً ؟ فيقولُ : بموضع كذا، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه.
وقيل : لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - في قدر تحصيل الآلات، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل، فصح أن يقال : خلفهم الرسول.
وقيل : إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله ﴾ [ التوبة : ١٠٦ ] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة. قال كعبُ بنُ مالكٍ، وهو أحد الثلاثةِ : قول الله في حقنا ﴿ وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ ﴾ ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ؛ يشير إلى قوله :﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله ﴾ [ التوبة : ١٠٦ ].

فصل


هؤلاء الثلاثةُ هم : كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع.
وفي قصتهم قولان :
الأولُ : أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عليه الصلاة والسلام -، قال الحسنُ : كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أمرك ؛ فاذهبي في سبيل الله، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم وفعل، وكان للثاني أهلٌ فقال : يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمرك ؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل. والثالث : ما كان ذا مال ولا أهل فقال : ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلحقوا برسُول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله ﴾ [ التوبة : ١٠٦ ].
والثاني - وهو قول الأكثرين - : أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - قال كعبٌ :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حديثي، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام : ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم، وأتيته فقلتُ : إن كراعي، وزادي كان حاضراً، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ثمَّ إنَّه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم، حتى أمر بذلك نساءهم ؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت : يا رسول الله لقد بكى، حتَّى خفتُ على بصره، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين ﴾ [ التوبة : ١١٧ ] وقوله :﴿ وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ ﴾ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، وهو عند أمِّ سلمة فقال : اللهُ أكبرُ ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا " فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم ؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال :" لا " فقلتُ : نصفه، قال :" لا "، قلت : فثلثه، قال :" نعم ".

فصل


معنى :﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ﴾ تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه : إعراض الرسول عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وبقائهم على ذهه الحالة خمسين يوماً، وقيل : أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم، أي : ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ، ومجانية الأولياء، ونظر الناس إليهم بعين الإهانةِ، و " ظَنُّوا " أي : استيقنوا " أن لا مَلْجَأ " لا مفزع من الله إلا إليه.
قال ابنُ الخطيبِ : يقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام :" أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك، وأعوذُ بكَ مِنْكَ ".
قوله :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا ﴾ فيه وجوه :
أحدها : قال أهلُ السُّنَّةِ : المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى، فقوله :" تَابَ عليْهِمْ " يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله :" لِيتُوبُوا " يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ ؛ فهو نظير قوله :﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً ﴾ [ التوبة : ٨٢ ] مع قوله ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ ﴾ [ النجم : ٤٣ ] وقوله ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ ﴾ [ الأنفال : ٥ ] مع قوله ﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ التوبة : ٤٠ ] وقوله ﴿ هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ ﴾ [ يونس : ٢٢ ] مع قوله :﴿ قُلْ سِيرُواْ ﴾ [ الأنعام : ١١ ].
وثانياً : تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل.
وثالثها : أصلُ التوبة الرُّجوع أي : تاب عليهم ؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك.
ورابعها :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا ﴾ أي : ليداوموا على التوبةِ ولا يراجعوا ما يبطلها.
وخامسها :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ لينتفعوا بالتوبة ﴿ إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم ﴾.
واعلم أنَّ ذكر " الرَّحيم " عقب ذكر " التَّواب " يدلُّ على أنَّ قبول التوبةِ لمحض الرحمة والكرم، لا لأجل الوجوب، كما تقولُ المعتزلةُ، وذلك يقوي أنَّهُ لا يجبُ عقلاً على الله قبول التوبة.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣١٨، المحرر الوجيز ٣/٩٤، البحر المحيط ٥/١١٢، الدر المصون ٣/٥١١..
٢ ينظر: السابق..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٣١٨، البحر المحيط ٥/١١٢، الدر المصون ٣/٥١١..
٤ ينظر: السابق..
٥ ينظر: السابق..
٦ تقدم..
٧ صدر بيت لكثير عزة وعجزه:
لنفس لقد طالبت غير منيل ***...
وهو في ديوانه (٥٠٨) وروايته هكذا:
أراني ولا كفران لله إنما *** أواخي من الأقوام كل بخيل
ينظر: الخصائص ١/٣٣٧ والمغني ٢/٣٩٤ واللسان (أوأ) والدر المصون ٣/٥١١..

٨ أخرجه عبد الرزاق (١١٤٥٠، ١٣٨٩٩) والبيهقي (٦/٥٧-٧/٤٦١) والطحاوي (١/٢٨٠)..
قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله ﴾ الآية.
لمَّا قبل توبة هؤلاء الثلاثة، ذكر ما يكون كالزَّاجر عن فعل مثل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد، أي : اتَّقُوا الله في مخالفة أمر الرسُول ﴿ وَكُونُواْ مَعَ الصادقين ﴾ أي : مع النبي وأصحابه في الغزوات، ولا تتخلَّفُوا عنها، وتجلسوا مع المنافقين في البيوتِ.
قال نافعٌ :" مَعَ الصادقين " أي : مع محمد. وقال سعيدُ بن جبيرٍ : مع أبي بكر وعمر١.
قوال ابن جريج : مع المهاجرين، لقوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ [ الحشر : ٨ ] إلى قوله ﴿ أولئك هُمُ الصادقون ﴾٢ [ الحشر : ٨ ].
وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم ؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم، وخرجُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاصٍ ونيّة٣. وقيل : من الذين صدقوا في الاعتراف بالذَّنب، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.

فصل


دلَّت الآية على فضيلة الصِّدق، وكمال درجته، قال ابن مسعودٍ : إنَّ الكذب لا يصلحُ في جدٍّ ولا هزلٍ، ولا أن يعد أحدُكم صبيَّة شيئاً ثم لا ينجزُ له، اقرءوا إن شئتم٤، وقرأ الآية.
" وروي أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنّي أريد أن أومن بك إلاَّ أنِّي أحبُّ الزِّنا، والخمر، والسرقة، والكذب، والناس يقولون : إنك تُحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرهَا، فإن قنعت منِّي بتركِ واحد منها آمنت بك، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام :" اترك الكذب " فقبل ذلك ثُمَّ أسلم، فلمَّا خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر، فقال : إن شربتُ الخمر فسألني رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن شربها، وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقتُ أقام الحدَّ عليَّ، فتركها، ثمَّ عرضوا عليه الزِّنا ؛ فجاء ذلك الخاطرُ، فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أحسن ما قلت، لمَّا منعتني من الكذب انسدت أبوابُ المعاصي عليَّ، " وتاب عن الكُلِّ٥ وقال ابنُ مسعود :" عَليْكُم بالصِّدقِ فإنَّه يقربُ إلى البرِّ، والبرُّ يقرب إلى الجنَّة، وإنَّ العبْدَ ليصدق ؛ فيكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذب يقربُ إلى الفُجُورِ، والفُجُورِ يُقرِّبُ إلى النار، وإن الرَّجُلَ ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً، ألا ترى أنه يقال : صَدَقْتَ، وبَرَرْتَ، وكذَبْتَ، وفَجَرْتَ " ٦.
وقيل في قول إبليس :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾ [ ص : ٨٢، ٨٣ ] إن إبليس لو لمْ يذكر هذا الاستثناء لصادر كاذباً في ادعاء إغواء الكلِّ، فكأنه استنكفَ عن الكذبِ ؛ فذكر هذا الاستثناء، وإذا كان الكذبُ شيئاً يستنكفُ منه إبليس، فالمسلم أوْلَى أن يستنكفَ منه ومن فضائل الصِّدق أنَّ الإيمان منه لا من سائر الطَّاعات، ومن معايب الكذب أنَّ الكفر منه لا من سائر الذنوب.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٠٩)..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٣٧)..
٣ انظر المصدر السابق..
٤ انظر المصدر السابق..
٥ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٧٦)..
٦ أخرجه البخاري ١٠/٥٢٣ كتاب الأدب، باب قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله...﴾ (٦٠٩٤) ومسلم (٤/٢٠١٢) كتاب البر والصلة باب قبح الكذب (١٠٣-٢٦٠٧)..
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب﴾ الآية.
لمَّا أوجب عليهم موافقة الرسول في جميع الغزوات والمشاهد؛ أكد ذلك بالنَّهي في هذه الآية عن التخلف عنه. قال المفسرون: ظاهره خبر ومعناه نهي، كقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله﴾ [الأحزاب: ٥٣]، ﴿وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب﴾ سكان البوادي: مزينة وجُهينة، وأشجع وأسلم، وغفار، قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: يتناولُ جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة، فإنَّ اللفظ عامٌّ، والتخصيص تحكم، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلَّفُوا عن رسُولِ الله إذا غزا، ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ أي: لا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدَّعة حال ما يكونُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحرِّ والمشقَّةِ، والمعنى: ليس لهم أن يكرهُوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لنفسه. يقال: رَغِبْتُ بنفسي عن هذا الأمر، أي: توقفتُ عنه وتركته، وأرغب بفلان عن هذا الأمر، أي: أبخل به عليه ولا أتركه.
وظاهر الآية وجوب الجهادِ على الكل، إلاَّ ما خصَّه الدَّليل من المرضى، والضعفاء، والعاجزين. ولمَّا منعهم من التخلف، بيَّن أنهم لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من المشقة إلاَّ وهو يوجب الثَّواب العظيم عند الله تعالى.
وذكر أموراً منها بقوله: «ذلك بِأَنَّهُمْ» مبتدأ وخبر، والإشارة به إلى ما تضمَّنهُ انتفاء التخلف عن وجوب الخروج معه. «لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ» وهو العطشُ، يقال: ظَمِىءَ يَظْمَأُ ظَمَأ، فهو ظمآنُ وهي ظَمْأى، وفيه لغتان: القصر والمد، وبالمد قرأ عمرو بنُ عبيدٍ، نحو: سَفِه سَفَاهاً، والظَّمءُ: ما بين الشَّربتيْنِ.
ومنها: قوله: «ولاَ نَصَبٌ» أي: إعياء وتعب. ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي: مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن، يقال: فلان خميص البطنِ، ومنها قوله: ﴿وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار﴾. «مَوْطِئاً» مفعل، مِن: وَطِىءَ، ويحتملُ أن يكون مصدراً
236
بمعنى: الوطْء وأن يكون مكاناً، والأوَّلُ أظهر؛ لأنَّ فاعل «يَغِيظُ» يعودُ عليه من غير تأويل، بخلاف كونه مكاناً، فإنَّهُ يعُودُ على المصدر، وهو الوطْءُ، الدالُّ عليه مكان المُوطِىءُ. والمعنى: لا يضعُ الإنسان قدمه، ولا يضع فرسه حافره، ولا يضع بعيره خفه، بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار. قوله: «يَغِيظُ الكفار» قال ابنُ الأعرابي: يقال: غَاظَه، وغيَّظَه، وأغَاظَه بمعنًى واحدٍ، أي: أغضبه. وقرأ زيدُ بنُ عليّ «يُغِيظُ» بضمِّ الياءِ.
وقوله: ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾ النَّيْلُ: مصدرٌ؛ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعاً موقع المفعول به، وليس ياؤه مبدلةً من «واو» كما زعم بعضهم، بل نالهُ يَنولُه مادةٌ أخرى، وبمعنى آخر، وهو «المناولة»، يقال: نِلْتُه أنوله، أي: تناولتُه، ونِلْتُه أنَالُهُ، أي: أدركتُه.
والمعنى: ولا ينالهم من العدو أسراً، أو قتلاً، أو هزيمةً قليلاً كان أو كثيراً ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ أي كان ذلك قربة عند الله لهم.
قال قتادة: «هذا الحكم من خواص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلَّف عنه إلاَّ بعذر» وقال ابنُ زيدٍ: هذا حين كان المسلمون قلّة فلمَّا كثروا نسخها الله بقوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾. وقال عطيَّة: ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم، وهذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ إجابة الرَّسُولِ واجبة، وكذلك غيره من الأئمة.
قال الوليدُ بنُ مسلم: سمعتُ الأوزاعيَّن وابن المباركِ، وابن جابرٍ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنَّها لأوّلِ هذه الأمَّةِ وآخرها، وذلك لأنا لو سوَّغْنَا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعضٌ دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهادِ.
قوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ أي: تمرة فما فوقها، وعلاقة سوط فما فوقها ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً﴾ قال الزمخشريُّ: «الوَادِي» : كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل، وهو في الأصل فاعل من: ودَى، إذا سَالَ، ومنه «الوَدِيّ». وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. وجمع على «أوْدِيَة»، وليس بقياس، وكان قياسُه «الأوداي»، ك «أواصل» جمع: «واصل»، والأصلُ: ووَاصل، قلبت «الواو» الأولى همزة. وهم قد يستثقلون واحده، حتى قالوا: «أقَيْتُ» في «وَقيْتُ». وحكى الخليل، وسيبويه، في تصغير واصل اسم رجل «أوَيْصِل»، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ «ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ» وقد استدركَ هذا عليه؛ فزادُوا: نَادٍ وأندية؛ وأنشدوا: [الطويل]
237
٢٨٥٩ - وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ
والنَّادي المجلسُ.
وقال الفرَّاءُ: إنَّه يجمع على «أوْدَاء» ك «صاحب وأصحاب» ؛ وأنشد لجرير: [الوافر]
٢٨٦٠ - عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ
وزاد الرَّاغبُ في «فاعل وأفْعِلَة» :«نَاجٍ وأنْجِيَة» فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ، في «فاعل وأفْعِلَة». ويقالُ: أوداه: أي: أهلكه؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم. وسمي الدِّية ديةً؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم. ومنه «الوَدْيُ» وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة، وما يخرجُ عند البول، و «الوَدِيُّ» بكسر الدال وتشديد الياء: صغار النَّحل.
قوله: «إلاَّ كُتِبَ» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «ظَمَأ» وما عطف عليه أي: لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأفرد الضَّمير في «به»، وإن تقدَّمته أشياء، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أي: كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنةٍ.
وقوله: «إِلاَّ كُتِبَ» كنظيره. يُحتمل أن يعُود على العمل الصالح المتقدم، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «يُنفقُونَ» و «يقْطَعُونَ»، أي: إلاَّ كتب لهم الإنفاق أو القطع. وقوله: «ليَجْزيهُم» متعلق ب «كُتِبَ» وقوله: ﴿أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ فيه وجهان:
الأول: أنَّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح، واللهُ تعالى يجزيهم على الأحسنِ، وهو الواجبُ والمندوب دون المباح.
والثاني: أن الأحسن صفةٌ للجزاء، أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل، وهو الثواب. روى خريم بن فاتك قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ وكتب اللهُ لهُ سبعمائة ضعفٍ».
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ الآية.
يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ.
238
أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة. فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ، ولا عن سرية. فلمَّا قدم الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - المدينة، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة؛ فنزلت هذه الآية. والمعنى: لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف، ويبلغها للغائبين، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين، وعلى هذا القول ففيه احتمالان:
أحدهما: أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ومشاهدتهم التنزيل؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع؛ عرفوه وحفظوه، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين، ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى.
والاحتمال الثاني: أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ. والمعنى: فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، أي: أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر، والفتح، والظفر، لعلهم يحذرون؛ فيتركوا الكفر والنفاق.
وأما الثاني: وهو أن هذا حكم مبتدأ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسَّفر، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر، فقال: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ إلى حضرة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليتفقهوا في الدِّين، بل ذلك غيرُ واجب، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ.
ثم قال: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ﴾ يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة
239
إلى حضرة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليتفقهوا في الدِّين، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم؛ فينذروا ويحذروا قومهم، لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم.
فإن قيل: أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان؟
فالجواب: متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر؛ وجب عليه السَّفر، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد، وشرع حادث. وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ.
قوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ «لولا» تحضيضية، والمرادُ به الأمر؛ لأنَّ «لوْلاَ» إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل «هَلاَّ» ؛ لأنَّ «هَلاَّ» كلمتان «هل» وهو استفهام وعرض؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ: هل تأكلُ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه، و «لا» وهو جحد، ف «هلاَّ» مركب من أمرين: العرض، والجحد. فإذا قلت: هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت: هل فعلت. ثم قلت معه «لا» أي: ما فعلت، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب، وهكذا الكلام في «لوْلا» لأنك إذا قلت: لوْلاَ دخلتَ عليَّ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به، لو فعل، وهكذا الكلام في «لوما» ومنه قوله: ﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة﴾ [الحجر: ٧] ف «لَوْلاَ»، و «هَلاَّ» و «لوْمَا» ألفاظ متقاربة، والمراد بها: الترغيب والتحضيض. و «مِنْهُم» يجوزُ أن يكون صفةً ل «فِرْقَةٍ»، وأن يكون حالاً من «طَائِفَةٌ» ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها.
وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف. والذي ينبغي أن يقال: إنَّ «مِن كُلِّ فرقةٍ» حال من «طَائفَةٌ» و «مِنْهُم» صفة ل «فِرْقَةٍ». ويجوزُ أن يكون «مِن كُلِّ» متعلقاً ب «نفر». وفي الضمير من قوله «لتفَقَّهُوا» قولان:
أحدهما: أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة.
والثاني: للطائفة القاعدة، والضَّمير في «رَجَعُوا» عائدٌ على النَّافرة. قال ابنُ العربي، والقاضي أبو بكرٍ، والشيخُ أبو الحسن: «إنَّ الطَّائفة ههنا واحد، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد، وهو صحيح، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر».
قال القرطبي: «أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له: طائفة قوله تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩] أي: نفسين، بدليل قوله: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: ١٠] فجاء بلفظ التثنية، وأما الضمير في:» اقْتَتلُوا «وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين».
240

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين، أو واحداً؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم، لقوله «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ» وهو عبارة عن أخبارهم. وقوله «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع.
قال القاضي: «لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة؛ ولأنَّ قوله:» وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ «يصجُّ وإن لم يجب القبول، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة، وإن لم يلزم القبول؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به».
والجوابُ: أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم، فإن قيل: إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم.
فالجوابُ: أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة، وهو المطلوب.
وأمَّا قوله: «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ» يصحُّ وإن لم يجب القبولُ؛ فالجوابُ: أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله: «وليُنذِرُوا» بل بقوله: «لعَلَّهُم يَحْذرُون» فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار.

فصل


الفقه معرفة أحكام الدِّين، وهو ينقسمُ إلى فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ» وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه.
وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد؛ فإذا قعد أهل بلد عن
241
تعلمه عصوا جميعاً، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم»، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ» وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله ﴿لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ [النساء: ٧٨].
242
قوله :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾ أي : تمرة فما فوقها، وعلاقة سوط فما فوقها ﴿ وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً ﴾ قال الزمخشريُّ :" الوَادِي " : كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل، وهو في الأصل فاعل من : ودَى، إذا سَالَ، ومنه " الوَدِيّ ". وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. وجمع على " أوْدِيَة "، وليس بقياس، وكان قياسُه " الأوداي "، ك " أواصل " جمع :" واصل "، والأصلُ : ووَاصل، قلبت " الواو " الأولى همزة. وهم قد يستثقلون واحده، حتى قالوا :" أقَيْتُ " في " وَقيْتُ ". وحكى الخليل، وسيبويه، في تصغير واصل اسم رجل " أوَيْصِل "، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ١ " ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ " وقد استدركَ هذا عليه ؛ فزادُوا : نَادٍ وأندية ؛ وأنشدوا :[ الطويل ]
وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ٢
والنَّادي المجلسُ.
وقال الفرَّاءُ : إنَّه يجمع على " أوْدَاء " ك " صاحب وأصحاب " ؛ وأنشد لجرير :[ الوافر ]
عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ٣
وزاد الرَّاغبُ في " فاعل وأفْعِلَة " :" نَاجٍ وأنْجِيَة " فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ، في " فاعل وأفْعِلَة ". ويقالُ : أوداه : أي : أهلكه ؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم. وسمي الدِّية ديةً ؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم. ومنه " الوَدْيُ " وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة، وما يخرجُ عند البول، و " الوَدِيُّ " بكسر الدال وتشديد الياء : صغار النَّحل.
قوله :" إلاَّ كُتِبَ " هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " ظَمَأ " وما عطف عليه أي : لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأفرد الضَّمير في " به "، وإن تقدَّمته أشياء، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أي : كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنةٍ٤.
وقوله :" إِلاَّ كُتِبَ " كنظيره. يُحتمل أن يعُود على العمل الصالح المتقدم، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من " يُنفقُونَ " و " يقْطَعُونَ "، أي : إلاَّ كتب لهم الإنفاق أو القطع. وقوله :" ليَجْزيهُم " متعلق ب " كُتِبَ " وقوله :﴿ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ فيه وجهان :
الأول : أنَّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح، واللهُ تعالى يجزيهم على الأحسنِ، وهو الواجبُ والمندوب دون المباح.
والثاني : أن الأحسن صفةٌ للجزاء، أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل، وهو الثواب. روى خريم بن فاتك قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ وكتب اللهُ لهُ سبعمائة ضعفٍ٥ ".
١ ينظر: إعراب القرآن ٢/٤٥..
٢ تقدم..
٣ ينظر البيت في ديوانه ٤٩٤ برواية الوداء في موضع الأوداء والبحر المحيط ٥/٩٢ واللسان (ودى) والقرطبي ٨/١٨٥ والدر المصون ٣/٥١٢..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٨/١٨٥)..
٥ أخرجه الترمذي ٤/١٤٥ كتاب فضل الجهاد: باب ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله (١٦٢٨) والنسائي ٦/٤٩ كتاب الجهاد: باب فضل النفقة في سبيل الله (٣١٨٦) وأحمد ٤/٣٤٥..
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ الآية.
يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ.
أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة. فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ، ولا عن سرية. فلمَّا قدم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - المدينة، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة ؛ فنزلت هذه الآية١. والمعنى : لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف، ويبلغها للغائبين، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين، وعلى هذا القول ففيه احتمالان :
أحدهما : أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ومشاهدتهم التنزيل ؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع ؛ عرفوه وحفظوه، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو ؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار، والتقدير : فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين، ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى.
والاحتمال الثاني : أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ. والمعنى : فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين٢، أي : أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين ؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر، والفتح، والظفر، لعلهم يحذرون ؛ فيتركوا الكفر والنفاق.
وأما الثاني : وهو أن هذا حكم مبتدأ ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسَّفر، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر، فقال :﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين، بل ذلك غيرُ واجب، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ.
ثم قال :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم ؛ فينذروا ويحذروا قومهم، لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم.
فإن قيل : أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان ؟
فالجواب : متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر ؛ وجب عليه السَّفر، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك ؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد، وشرع حادث. وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة ؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ.
قوله :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ ﴾ " لولا " تحضيضية، والمرادُ به الأمر ؛ لأنَّ " لوْلاَ " إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل " هَلاَّ " ؛ لأنَّ " هَلاَّ " كلمتان " هل " وهو استفهام وعرض ؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ : هل تأكلُ ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه، و " لا " وهو جحد، ف " هلاَّ " مركب من أمرين : العرض، والجحد. فإذا قلت : هلا فعلت كذا ؟ فكأنك قلت : هل فعلت. ثم قلت معه " لا " أي : ما فعلت، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب، وهكذا الكلام في " لوْلا " لأنك إذا قلت : لوْلاَ دخلتَ عليَّ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به، لو فعل، وهكذا الكلام في " لوما " ومنه قوله :﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة ﴾ [ الحجر : ٧ ] ف " لَوْلاَ "، و " هَلاَّ " و " لوْمَا " ألفاظ متقاربة، والمراد بها : الترغيب والتحضيض. و " مِنْهُم " يجوزُ أن يكون صفةً ل " فِرْقَةٍ "، وأن يكون حالاً من " طَائِفَةٌ " ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها.
وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف. والذي ينبغي أن يقال : إنَّ " مِن كُلِّ فرقةٍ " حال من " طَائفَةٌ " و " مِنْهُم " صفة ل " فِرْقَةٍ ". ويجوزُ أن يكون " مِن كُلِّ " متعلقاً ب " نفر ". وفي الضمير من قوله " ليتفَقَّهُوا " قولان :
أحدهما : أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة.
والثاني : للطائفة القاعدة، والضَّمير في " رَجَعُوا " عائدٌ على النَّافرة. قال ابنُ العربي، والقاضي أبو بكرٍ، والشيخُ أبو الحسن :" إنَّ الطَّائفة ههنا واحد، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد، وهو صحيح، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر ".
قال القرطبي :" أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له : طائفة قوله تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ [ الحجرات : ٩ ] أي : نفسين، بدليل قوله :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] فجاء بلفظ التثنية، وأما الضمير في :" اقْتَتلُوا " وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين ".

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين، أو واحداً ؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم، لقوله " وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " وهو عبارة عن أخبارهم. وقوله " لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع.
قال القاضي :" لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد ؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة ؛ ولأنَّ قوله :" وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " يصجُّ وإن لم يجب القبول، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة، وإن لم يلزم القبول ؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به ".
والجوابُ : أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة ؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً ؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم، فإن قيل : إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم.
فالجوابُ : أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة، وهو المطلوب.
وأمَّا قوله :" وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " يصحُّ وإن لم يجب القبولُ ؛ فالجوابُ : أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله :" وليُنذِرُوا " بل بقوله :" لعَلَّهُم يَحْذرُون " فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار.

فصل


الفقه معرفة أحكام الدِّين، وهو ينقسمُ إلى فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين مثل : علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال عليه الصلاة والسلام " طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ " ٣ وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل : علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه.
وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ؛ فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعاً، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، قال عليه الصلاة والسلام :" فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم " ٤، وقال عليه الصلاة والسلام " فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ " ٥ وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله ﴿ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٧٨ ].
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٧٩)..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥١٦) بنحوه وذكره البغوي (٢/٣٣٩)..
٣ أخرجه ابن ماجه ١/٨١، المقدمة: باب فضل العلماء (٢٢٤).
قال في مصباح الزجاجة ١/٩٤: هذا إسناد ضعيف لضعف حفص بن سليمان البزاز هذا فلقد اتهمه بعضهم بالكذب والوضع، ولقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحديث يتقوى بطرق تبلغ إلى درجة الحسن، فلقد قال السيوطي: رأيت له خمسين طريقا ولقد جمعتها في جزء..

٤ اخرجه الترمذي ٥/٤٨، كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه (٢٦٨٥)، وقال هذا حديث غريب. والدارمي ١/٨٨ مرسلا وفي ١/٩٧-٩٨ مرفوعا..
٥ أخرجه البخاري ١/٣١٤ كتاب الطهارة: باب الوضوء ثلاثا ثلاثا (١٦٠)، ومسلم ١/٢٠٦ كتاب الطهارة: باب جامع الوضوء (٦/٢٢٧)..
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار﴾ الآية.
نقل عن الحسن أنَّه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة. وأنكر المحقِّقُون هذا النسخ وقالوا: إنَّهُ تعالى لمَّا أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطَّريق الأصلح وهو أن يَبْتَدِئوا من الأقرب، فالأقرب، منتقلاً إلى الأبعدِ. ألا ترى أنَّ أمر الدعوةِ وقع على هذا الترتيب قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ [الشعراء: ٢١٤] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب؛ لأنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حارب قومه أولاً، ثم انتقل إلى غزو سائر العربِ، ثم انتقل إلى غزو الشَّام، والصَّحابة لمَّا فرغوا من أمر الشَّام دخلوا العراق. والعلَّة في الابتداء بالأقرب وجوه:
أحدها: أنَّ مقابلة الكل دفعة واحدة متعذّر، والكُلُّ متساوٍ في وجود القتال لما فيه من الكُفْرِ والمحاربة، والجمع متعذِّر، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة.
242
وثانيها: أنَّ النفقات في الأقرب أقلّ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ.
وثالثها: أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد، فقد عرضوا الذراري للفتنة، وأموالهم إلى النهب.
ورابعها: أنَّ المجاورين لدار الإسلام إمَّا أن يكونوا أقوياء ضعفاء، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد، والشَّرُّ الأكثر أولى بالدفع، وإن كان ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل؛ فكأن الابتداء بهم أولى.
وخامسها: أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد، فيكون غزوه أسهل.
وسادسها: أنَّ دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهلُ كل بلدٍ بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤمنة أسهل.
وسابعها: أنَّهُ إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولاً.
وثامنها: ما تقدَّم من أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابتداء في الدعوة بالأقرب، وبالغزو بالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك. حتَّى إنَّ الأعرابي الذي جلس على المائدة، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «كُلْ مِمَّا يَليكَ» فدلت الآيةُ على أنَّ الابتداء بالأقرب واجبٌ.
فإن قيل: ربَّمَا كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح؛ لأنَّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب؛ لأنَّهُ لا يقيمُ له وزناً.
فالجوابُ: أنَّ ذلك احتمالٌ واحد، وما ذكرنا احتمالات كثيرة، ومصالح الدنيا مبنيةٌ على ترجيح الأكثر مصلحة، وهذا الذي قلناه إنَّما هو فيما إذا تعذَّر الجمعُ بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل، فالأولى هو الجمع.
قوله: «وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ» هو من باب: «لا أرينَّك ههنا»، وتقدم شرحه [الأنفال: ٢٥]. «غِلْظَةً» قرأ الجمهور بكسر الغين، وهي لغة أسد. وقرأ الأعمشُ، وأبانُ بن تغلب، والمفضَّلُ كلاهما عن عاصم بفتحها، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبُو حيوة، والسُّلمي، وابنث أبي عبلة والمفضل، وأبانُ في رواية عنهما «غُلْظة» بالضَّم، وهي لغةُ تميم، وحكى أبُو عمرو اللغات الثلاث.
والغِلْظَة: أصلها في الأجْرَام، فاستعيرت هنا للشِّدَّة والصَّبر والتَّجلد قال المفسرون: شجاعة، وقيل: عنفاً، وقيل: شدة. والغلظة ضد
243
الرِّقة، وفائدتها أنها أقوى تأثيراً في الزَّجْرِ، والمنع عن القبيح، وهذا غيرُ مطَّرد، بل يحتاجُ تارة إلى الرِّفْقِ واللُّطفِ، وتارة إلى العنف، ولهذا قال: ﴿وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنَّه ينفرُ ويوجب تفرق القوم، فقوله: ﴿وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ يدلُّ على تقليل الغلظة، كأنَّهُ قيل لا بد وأن يكونوا بحيثُ لو فتَّشُوا عن أخلاقكم، وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة، وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة؛ فلا يخلو عن نوع غلظة. وهذه الغلظةُ إنَّما تعتبرُ فيما يتعلَّق بالدَّعوة إلى الدِّين، إمَّا بإقامة الحُجَّةِ، وإمَّا بالقتال فأمَّا فيما يتعلقُ بالبيع، والشراء، ونحوه فلا.
ثم قال ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي: بالفوز والنصر، ويكون إقدامه على القتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه.
قوله تعالى ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ﴾ الآية.
لمَّا ذكر مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة قال: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ «ما» صلة مؤكدة «فَمِنْهُم» أي: من المنافقين: «مَنْ يقُولُ» قيل: يقولُ بعضهم لبعض، ليثبتوهم على النِّفاقِ وقيل: يقولونه لعوام المسلمين، ليصرفوهم عن الإيمان، وقيل: يقولون ذلك على سبيل الهزؤ.
قوله: «أيُّكُمْ» الجمهور على رفع «أيُّكُمْ» بالابتداءِ، وما بعده الخبر. وقرأ زيدُ بنُ عليّ وعبيد بن عمير بالنصب، على الاشتغال، ولكن يُقدَّر الفعل. متأخراً عنه من أجلِ أنَّ لهُ صدر الكلام.
والنَّصب عند الأخفش في هذا النحو أحسنُ من الرفع؛ لأنَّهُ يجري اسم الاستفهام مجرى الأسماء المسبوقةِ بأداة الاستفهام، نحو: أزيداً ضربته، في ترجيح إضمار الفعلِ.
قوله: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ أي: يقيناً وتصديقاً؛ لأنَّهُم يقرُّون بها ويعترفون بأنَّها حقٌّ من عند الله، وتقدم الكلامُ في زيادة الإيمان، ونقصانه في أول سورة الأنفال [الأنفال: ٢] ثم قال: ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي: يفرحون بنزول القرآن، وقيل: بثوابِ الآخرة، وقيل: بالنَّصر والظفر. والاستبشار: استدعاء البشارة؛ لأنَّهُ كُلَّما يذكر النعمة حصلت البشارة فهو بالتذكر يطلب تجدُّد البشارة، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للمذكورين في المؤمنين.
فقال: ﴿وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي: شكٌّ ونفاق: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ والمرادُ بالرِّجْسِ: إمَّا العقائد الباطلةُ، وإما الأخلاقُ المذمومة، فعلى الأول يكون المعنى: كانوا مكذبين بالسُّورِ النَّازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذِّبين بهذه السُّورة الجديدة، فقد انضمَّ كفرٌ إلى كفرٍ.
244
وعلى الثاني: أنَّهم كانُوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد، والآن زادت تلك الأخلاق الذَّميمة بسبب نزول هذه السُّورة الجديدة.
والأمر الثاني: أنَّهم يموتون على كفرهم، وهذه الحالة مضادة للاستبشار الذي حصل في المؤمنين، وهذه الحالة أقبحُ من الحالةِ الأولى؛ لأنَّ الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرَّجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكُفْرِ وموتهم عليه.
قال مجاهدٌ: «في هذه الآية الإيمان يزيدُ وينقصُ، وكان عمر يأخذُ بيد الرَّجُلِ والرجلين من أصحابه فيقولُ تعالوا نزداد إيماناً، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ: إنَّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياضُ حتَّى يبيضَّ القلب كله وأيْمُ الله لو شققتم عن قلبِ المؤمنِ لوجدتموه أبيضَ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود.
قوله:»
أَوَلاَ يَرَوْنَ «قرأ حمزة، ويعقوب بتاء الخطابِ، وهو خطابُ للذينَ آمنُوا والباقون بياءِ الغيبة، رجُوعاً على ﴿الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾. والرُّؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصريةً. قال الواحديُّ: قوله:» أولا تَروْنَ «هذه ألف الاستفهام دخلت على» واو «العطف، فهو متصل بذكر المنافقين، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليلِ في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ [الحج: ٦٣] المعنى: أنزل الله من السماءِ ماء؛ فكان كذا وكذا.
قوله: ﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ أي: يبتلون»
في كُلِّ عام مرَّةً أو مرَّتين «بالأمراض والشدائد.» ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ «عن ذلك النِّفاق، ولا يتَّعظُون كما يتَّعظُ المؤمنُ إذا مرض، فإنَّهُ يتذكَّرُ ذنوبه، وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك خوفاً وإيماناً، قاله ابنُ عبَّاسٍ. وقال مجاهدٌ: يفتنون بالقحطِ والشِّدة والجوع. وقال قتادة: بالغزو والجهاد؛ لأنَّهُم إذا تخلَّفوا وقعوا في ألسنة النَّاس باللَّعْن والخزي والذكر القبيح، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين فقد عرَّضُوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنَّهْبِ من غير فائدة. قال مقاتل: يفضحون بإظهار نفاقهم. وقال عكرمةُ: ينافقون ثم يؤمنون ثم
245
ينافقون. وقال يمان: ينقضون عهدهم في السَّنة مرة أو مرتين» ثُمَّ لا يتوبُونَ «من نقض العهدِ، ولا يرجعون إلى الله من النِّفاقِ؛» وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ «أي: لا يتَّعظُون بما يرونَ من تصديق وعد الله بالنَّصر والظفر للمسلمين.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ الآية.
هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنَّهُ كلما نزلت سورة مشتملة على شرح فضائح المنافقين وسمعوها تأذّوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطَّعْن في تلك السُّورة والاستهزاء بها، وتحقير شأنها، ويحتملُ أنَّهُمْ كانوا يستحقرون القرآن كُلَّهُ؛ فكلما سمعوا سورة، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وضحكوا وتغامزوا، وقيل: نظر بعضهم إلى بعض يريدون الحرب.
قوله: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ في محل نصب بقول مضمر، أي: يقولون: هل يراكم، وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و»
مِنْ أحَدٍ «فاعل.
والمعنى: أنَّهم عند سماع تلك السُّورةِ يتأذون، ويريدون الخروج من المسجد، يقول بعضهم لبعض ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ من المؤمنين إن قمتم، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنَّ أحداً يراهم أقاموا وثبتوا. وقيل: إنهم كانُوا إذا نزلت سورةٌ اشتدَّ كفرهم ونفاقهم، وذلك النظر دالٌّ من الإنكار الشديد، والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النَّظر وتلك الأحوال الدَّالة على النِّفاقِ والكفر؛ فعند ذلك قالوا: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ أي: لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّاً.
ثم قال تعالى: ﴿صَرَفَ الله قُلُوبَهُم﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ: عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن: طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج «أضلهم اللهُ تعالى مجازاةً على فعلهم»
. ذلك: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون﴾ عن الله دينه. قال ابنُ عبَّاسٍ: لا تقولُوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنَّ قوماً انصرفوا؛ فصرف اللهُ قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة. والمقصود: التفاؤل بترك هذه اللَّفظة الواردة فيما لا ينبغي، والتَّرغيب في تلك اللفظةِ الواردة في الخير قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة﴾ [الجمعة: ١٠].
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ الآية.
لمَّا أمر رسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى
246
الخلق وهي مما يعسر تحملها؛ إلاَّ لمن خصَّه الله بالتوفيق، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أنَّ هذا الرسول منكم؛ فكلُّ ما يحصلُ له من العزّ والشَّرف، فهو عائدٌ إليكم فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم في حقكم، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان.
قوله «مِّنْ أَنفُسِكُمْ» صفة ل «رسُول» أي: من صميم العربِ. قال ابنُ عباسٍ: ليس من العرب قبيلة إلاَّ وقد ولدت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وله فيهم نسب. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَا ولدَنِي مِنْ سفاحِ أهْلِ الجاهليَّة شيءٌ، ما ولدَنِي إلاَّ نكاحٌ كنِكَاحِ الإِسلامِ».
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو، والزهري، وعبدُ الله بن قسيط المكي، ويعقوبُ من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفاطمة، وعائشة بفتح الفاء، أي: من أشْرفكُم، من النَّفاسة.

فصل


اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات، أولها: قوله «مِنْ أنفُسِكُم» وفيه وجوه: أحدها: ما تقدم عن ابن عباس، والمراد منه: ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته، أي: كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا، فهو سبب لعزكم، فإنه منكم، ومن نسبكم. وثانياً: يريد أنه بشر مثلكم، كقوله
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ [يونس: ٢] وقوله: ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: ١١٠] والمعنى: أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النَّاسِ، كما قرر في الأنعام.
وثالثها: أنَّ هذا خطاب لأهل الحرم؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته، وكانوا يخدمونهم، فكأنه قيل للعرب: كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنَّهُ أعلى في الشَّرفِ من أسلافه.
والصفة الثانية: قوله «عَزِيزٌ» فيه أوجه:
أحدها: أنَّهُ صفة ل «رسُول»، وفيه أنه تقدَّم غيرُ الوصف الصَّريح على الوصف الصَّريح.
وقد يجاب بأنَّ «مِنْ أنفُسِكُم» متعلق ب «جَاءَ» و «ما» يجوزُ أن تكون مصدرية، أو بمعنى «الذي».
247
وعلى كلا التقديرين فهي فاعل ب «عَزِيز»، أي: يعزُّ عليه عنتُكم، أو الذي عنتُّمُوهُ، أي: عنتُهم يُسيئه، فحذف العائد على التدرج؛ وهذا كقوله: [الوافر]
٢٨٦١ - يَسُرُّ المَرْء ما ذهبَ اللَّيَالِي وكانَ ذهَابُهُنَّ لهُ ذَهَابَا
أي: يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون «عزيزٌ» خبراً مقدماً، و «مَا عَنتُّمْ» مبتدأ مؤخراً والجملةُ صفة ل «رسُول» وجوَّزَ الحوفي: أن يكون «عزيزٌ» مبتدأ، و «ما عنتم» خبره وفيه الابتداء بالنَّكرةِ؛ لأجْلِ عملها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى ﴿العنت﴾ [النساء: ٢٥]. والأرجح أن يكون «عَزيزٌ» صفة ل «رسُولٌ» لقوله بعد ذلك «حَرِيصٌ» فلم يجعل خبراً لغيره وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو حريصٌ، لا حاجة إليه. قال الفرَّاءُ: «ما» في قوله: «مَا عنِتُّم» في موضع رفع، أي: عزيز عليه عنتكم، أي: يشقُّ عليه مكروهكم. وقال القتيبيُّ: ما أعنتكم وضركم. وقال ابن عباس: ما ضللتم. وقال الضحاكُ والكلبيُّ: ما آثمكم.
والصفة الثالثة: قوله: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» والحريص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيراتِ إليكم في الدُّنيا والآخرة، وعلى هذا التقدير يكونُ قوله: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي: شديد معزَّته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم؛ لأنَّ العزيز هو الغالب الشَّديد، وبهذا التقدير لا يحصلُ التَّكرار.
والصفة الرابعة والخامسة قوله: ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ «بالمُؤمنينَ» متعلقٌ ب «رَءُوفٌ» ولا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع؛ لأنَّ شرطه تأخُّر المعمول عن العاملين، وإن كان بعضهم قد خالف، ويجيزُ: زيداً ضربتُ وشتمته، على التَّنازع.
وإذا فرَّعنا على هذا الضعيف، فيكون من إعمال الثاني، لا الأول، لما عُرف أنَّهُ متى أعمل الأوَّلُ أضمر في الثاني من غير حذف.

فصل


قال ابن عباس: سمَّاه الله تعالى ههنا باسمين من أسمائه. والمعنى: رءوفٌ بالمطيعين.
فإن قيل: كيف يكون كذلك، وقد كلَّفهم في هذه السُّورة بأنواعٍ من التَّكاليفِ الشَّاقَّة التي لا يقدرُ على تحملها إلا من وفقه الله تعالى.
فالجوابُ: قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق، والأدب المشفق، والمعنى:
248
أنه فعل بهم ذلك ليتخلَّصُوا من العقاب المؤبد، ويفُوزُوا بالثَّواب المؤبد.
فإن قيل: لمَّا قال: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ فهذا النَّسق يوجب أن يقال: رءوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال: ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
فالجواب: أنَّ هذا يفيد الحصر، أي: لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين. فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التَّغليظِ، كأنَّهُ يقول: إنِّي وإن بالغت في التَّغليظِ في هذه السُّورة، إلاَّ أنَّ ذلك التَّغليظ على الكُفَّارِ والمنافقين، وأما رحمتي، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين.
قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ يعني: المشركين والمنافقين، أي: أعرضوا عنك وقيل: تولوا عن طاعة الله وتصديق الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السُّورة. وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد. ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ والمرادُ: أنَّه لا يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف؛ لأنَّ الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء. «عليْهِ توكَّلتُ» أي: لا أتوكل إلاَّ عليه: ﴿وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾.
فإن قيل: العرشُ غير محسوس، فلا يعرف وجوده إلاَّ بعد ثُبوتِ الشريعةِ، فكيف يمكنُ ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟.
فالجواب: وجود العرش أمرٌ مشهورٌ، والكفار سمعوه من اليهود والنصارى وأيضاً لا يبعد أنَّهُم كانوا قد سمعُوهُ من أسلافهم.
وقرأ الجمهور بجرِّ الميم من «العَظيمِ» صفة للعرش. وقرأ ابنُ محيصنٍ برفعها نعتاً للرب ورويت هذه قراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: «وهذه القراءة أعجبُ إليَّ؛ لأنَّ جعل» العظيم «صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش» وأيضاً قال «فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيماً كبر جثته وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار وإن جعلناه صفة لله تعالى كان المرادُ من العظمة وجوب التقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزَّهاً عن أن يتمثل في الأوهام، أو اتصل إليه الأفهام».

فصل


روي عن أبيّ بن كعب والحسن قالا: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] إلى آخرها. وقال أبي بن كعب: «هما
249
أحدث الآيات بالله عهداً» وفي رواية: «أقرب القرآنِ من السَّماءِ عهداً» وهو قول سعيد بن جبير.
وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله﴾ [البقرة: ٢٨١].
قال القرطبي «يحتمل أن يكون قول أبيّ: أقرب القرآن من السماء عهداً بعد قوله» واتقوا يَوْماً «والله أعلمُ.
ونقل عن حذيفة أنَّهُ قال: أنتم تسمُّون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب، ما تركت أحداً إلاَّ نالتْ منه «.
قال ابنُ الخطيبِ:»
وهذه الرواية يجب تكذيبها؛ لأنَّا لو جوزنا ذلك؛ لكان ذلك دليلاً على تطرُّق الزيادة والنقصان إلى القرآن وهو باطلٌ «.
وروت عائشة قالت: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
إنَّه ما نزل عليَّ القرآنُ إلاَّ آيةً آيةً وحَرْفاً حَرْفاً ما خلا سُورة براءة، و ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] فإنَّما نزلتَا عليَّ ومعهما سَبْعُونَ ألف صف مِنَ الملائكةِ كُلُّهُم يقُولُ: يا مُحمدَّدُ استوصِ بنسبةِ اللهِ خَيْراً «.
250
سورة يونس - عليه السلام -
قالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة، وباقيها بالمدينة، وهي مائة وتسع آيات. وهي مكية في قول عكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاثة آيات وقال مقاتل: إلا آيتين من قوله: ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك﴾ [الآية ٩٤] وقال الكلبي: إنها مكية إلا قوله ﴿ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين﴾ [الآية ٤٠] فإنها مدنية نزلت في اليهود، وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمس مائة وسبعة وستون حرفا.
251
قوله تعالى ﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ﴾ الآية.
لمَّا ذكر مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة قال :﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ " ما " صلة مؤكدة " فَمِنْهُم " أي : من المنافقين :" مَنْ يقُولُ " قيل : يقولُ بعضهم لبعض، ليثبتوهم على النِّفاقِ وقيل : يقولونه لعوام المسلمين، ليصرفوهم عن الإيمان، وقيل : يقولون ذلك على سبيل الهزؤ.
قوله :" أيُّكُمْ " الجمهور على رفع " أيُّكُمْ " بالابتداءِ، وما بعده الخبر. وقرأ زيدُ١ بنُ عليّ وعبيد بن عمير بالنصب، على الاشتغال، ولكن يُقدَّر الفعل. متأخراً عنه من أجلِ أنَّ لهُ صدر الكلام.
والنَّصب عند الأخفش في هذا النحو أحسنُ من الرفع ؛ لأنَّهُ يجري اسم الاستفهام مجرى الأسماء المسبوقةِ بأداة الاستفهام، نحو : أزيداً ضربته، في ترجيح إضمار الفعلِ.
قوله :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ أي : يقيناً وتصديقاً ؛ لأنَّهُم يقرُّون بها ويعترفون بأنَّها حقٌّ من عند الله، وتقدم الكلامُ في زيادة الإيمان، ونقصانه في أول سورة الأنفال [ الأنفال : ٢ ] ثم قال :﴿ وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي : يفرحون بنزول القرآن، وقيل : بثوابِ الآخرة، وقيل : بالنَّصر والظفر. والاستبشار : استدعاء البشارة ؛ لأنَّهُ كُلَّما يذكر النعمة حصلت البشارة فهو بالتذكر يطلب تجدُّد البشارة.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٢٤، البحر المحيط ٥/١١٨، الدر المصون ٣/٥١٣..
ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للمذكورين في المؤمنين فقال :﴿ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي : شكٌّ ونفاق :﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ والمرادُ بالرِّجْسِ : إمَّا العقائد الباطلةُ، وإما الأخلاقُ المذمومة، فعلى الأول يكون المعنى : كانوا مكذبين بالسُّورِ النَّازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذِّبين بهذه السُّورة الجديدة، فقد انضمَّ كفرٌ إلى كفرٍ.
وعلى الثاني : أنَّهم كانُوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد، والآن زادت تلك الأخلاق الذَّميمة بسبب نزول هذه السُّورة الجديدة.
والأمر الثاني : أنَّهم يموتون على كفرهم، وهذه الحالة مضادة للاستبشار الذي حصل في المؤمنين، وهذه الحالة أقبحُ من الحالةِ الأولى ؛ لأنَّ الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرَّجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكُفْرِ وموتهم عليه.
قال مجاهدٌ :" في هذه الآية الإيمان يزيدُ وينقصُ، وكان عمر يأخذُ بيد الرَّجُلِ والرجلين من أصحابه فيقولُ تعالوا نزداد إيماناً١، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ : إنَّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياضُ حتَّى يبيضَّ القلب كله وأيْمُ الله لو شققتم عن قلبِ المؤمنِ لوجدتموه أبيضَ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود٢.
١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤٠)..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤٠)..
قوله :" أَوَلاَ يَرَوْنَ " قرأ حمزة، ويعقوب١ بتاء الخطابِ، وهو خطابُ للذينَ آمنُوا والباقون بياءِ الغيبة، رجُوعاً على ﴿ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾. والرُّؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصريةً. قال الواحديُّ : قوله :" أولا تَروْنَ " هذه ألف الاستفهام دخلت على " واو " العطف، فهو متصل بذكر المنافقين، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليلِ في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ [ الحج : ٦٣ ] المعنى : أنزل الله من السماءِ ماء ؛ فكان كذا وكذا.
قوله :﴿ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ﴾ أي : يبتلون " في كُلِّ عام مرَّةً أو مرَّتين " بالأمراض والشدائد. " ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ " عن ذلك النِّفاق، ولا يتَّعظُون كما يتَّعظُ المؤمنُ إذا مرض، فإنَّهُ يتذكَّرُ ذنوبه، وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك خوفاً وإيماناً، قاله ابنُ عبَّاسٍ. وقال مجاهدٌ : يفتنون بالقحطِ والشِّدة والجوع٢. وقال قتادة : بالغزو والجهاد ؛ لأنَّهُم إذا تخلَّفوا وقعوا في ألسنة النَّاس باللَّعْن والخزي والذكر القبيح، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين فقد عرَّضُوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنَّهْبِ من غير فائدة٣. قال مقاتل : يفضحون بإظهار نفاقهم٤. وقال عكرمةُ : ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون٥. وقال يمان : ينقضون عهدهم في السَّنة مرة أو مرتين " ثُمَّ لا يتوبُونَ " من نقض العهدِ، ولا يرجعون إلى الله من النِّفاقِ ؛ " وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ " أي : لا يتَّعظُون بما يرونَ من تصديق وعد الله بالنَّصر والظفر للمسلمين.
١ ينظر: السبعة ص (٣٢٠)، الحجة ٤/٢٣٢، حجة القراءات ص (٣٢٦)، إعراب القراءات ١/٢٥٨، إتحاف ٢/١٠٠..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٢٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٢٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٢٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٢٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٤ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤١) والرازي (١٦/١٨٥)..
٥ انظر: المصدر السابق..
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ الآية.
هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنَّهُ كلما نزلت سورة مشتملة على شرح فضائح المنافقين وسمعوها تأذّوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطَّعْن في تلك السُّورة والاستهزاء بها، وتحقير شأنها، ويحتملُ أنَّهُمْ كانوا يستحقرون القرآن كُلَّهُ ؛ فكلما سمعوا سورة، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وضحكوا وتغامزوا، وقيل : نظر بعضهم إلى بعض يريدون الحرب.
قوله :﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ في محل نصب بقول مضمر، أي : يقولون : هل يراكم، وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و " مِنْ أحَدٍ " فاعل.
والمعنى : أنَّهم عند سماع تلك السُّورةِ يتأذون، ويريدون الخروج من المسجد، يقول بعضهم لبعض ﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ من المؤمنين إن قمتم، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنَّ أحداً يراهم أقاموا وثبتوا. وقيل : إنهم كانُوا إذا نزلت سورةٌ اشتدَّ كفرهم ونفاقهم، وذلك النظر دالٌّ من الإنكار الشديد، والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النَّظر وتلك الأحوال الدَّالة على النِّفاقِ والكفر ؛ فعند ذلك قالوا :﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ أي : لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّاً.
ثم قال تعالى :﴿ صَرَفَ الله قُلُوبَهُم ﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ : عن كل رشد وخير وهدى١ وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم٢. وقال الزجاج " أضلهم اللهُ تعالى مجازاةً على فعلهم ". ذلك :﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ عن الله دينه. قال ابنُ عبَّاسٍ : لا تقولُوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنَّ قوماً انصرفوا ؛ فصرف اللهُ قلوبهم، ولكن قولوا : قد قضينا الصلاة٣. والمقصود : التفاؤل بترك هذه اللَّفظة الواردة فيما لا ينبغي، والتَّرغيب في تلك اللفظةِ الواردة في الخير قال تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة ﴾ [ الجمعة : ١٠ ].
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٨٦)..
٢ انظر: المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٢٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٥٢٤) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ الآية.
لمَّا أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى الخلق وهي مما يعسر تحملها ؛ إلاَّ لمن خصَّه الله بالتوفيق، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أنَّ هذا الرسول منكم ؛ فكلُّ ما يحصلُ له من العزّ والشَّرف، فهو عائدٌ إليكم فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم في حقكم، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان.
قوله " مِّنْ أَنفُسِكُمْ " صفة ل " رسُول " أي : من صميم العربِ. قال ابنُ عباسٍ : ليس من العرب قبيلة إلاَّ وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَا ولدَنِي مِنْ سفاحِ أهْلِ الجاهليَّة شيءٌ، ما ولدَنِي إلاَّ نكاحٌ كنِكَاحِ الإِسلامِ " ١.
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وأبو العالية٢، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو، والزهري، وعبدُ الله بن قسيط المكي، ويعقوبُ من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة، وعائشة بفتح الفاء، أي : من أشْرفكُم، من النَّفاسة.

فصل


اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات، أولها : قوله " مِنْ أنفُسِكُم " وفيه وجوه : أحدها : ما تقدم عن ابن عباس، والمراد منه : ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته، أي : كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا، فهو سبب لعزكم، فإنه منكم، ومن نسبكم. وثانياً : يريد أنه بشر مثلكم، كقوله ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ﴾ [ يونس : ٢ ] وقوله :﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ [ الكهف : ١١٠ ] والمعنى : أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النَّاسِ، كما قرر في الأنعام.
وثالثها : أنَّ هذا خطاب لأهل الحرم ؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته، وكانوا يخدمونهم، فكأنه قيل للعرب : كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنَّهُ أعلى في الشَّرفِ من أسلافه.
والصفة الثانية : قوله " عَزِيزٌ " فيه أوجه :
أحدها : أنَّهُ صفة ل " رسُول "، وفيه أنه تقدَّم غيرُ الوصف الصَّريح على الوصف الصَّريح.
وقد يجاب بأنَّ " مِنْ أنفُسِكُم " متعلق ب " جَاءَ " و " ما " يجوزُ أن تكون مصدرية، أو بمعنى " الذي ".
وعلى كلا التقديرين فهي فاعل ب " عَزِيز "، أي : يعزُّ عليه عنتُكم، أو الذي عنتُّمُوهُ، أي : عنتُهم يُسيئه، فحذف العائد على التدرج ؛ وهذا كقوله :[ الوافر ]
يَسُرُّ المَرْء ما ذهبَ اللَّيَالِي وكانَ ذهَابُهُنَّ لهُ ذَهَابَا٣
أي : يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون " عزيزٌ " خبراً مقدماً، و " مَا عَنتُّمْ " مبتدأ مؤخراً والجملةُ صفة ل " رسُول " وجوَّزَ الحوفي : أن يكون " عزيزٌ " مبتدأ، و " ما عنتم " خبره وفيه الابتداء بالنَّكرةِ ؛ لأجْلِ عملها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى ﴿ العنت ﴾ [ النساء : ٢٥ ]. والأرجح أن يكون " عَزيزٌ " صفة ل " رسُولٌ " لقوله بعد ذلك " حَرِيصٌ " فلم يجعل خبراً لغيره وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي : هو حريصٌ، لا حاجة إليه. قال الفرَّاءُ :" ما " في قوله :" مَا عنِتُّم " في موضع رفع، أي : عزيز عليه عنتكم، أي : يشقُّ عليه مكروهكم. وقال القتيبيُّ : ما أعنتكم وضركم. وقال ابن عباس : ما ضللتم٤. وقال الضحاكُ والكلبيُّ : ما آثمكم٥.
والصفة الثالثة : قوله :" حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ " والحريص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيراتِ إليكم في الدُّنيا والآخرة، وعلى هذا التقدير يكونُ قوله :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ أي : شديد معزَّته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم ؛ لأنَّ العزيز هو الغالب الشَّديد، وبهذا التقدير لا يحصلُ التَّكرار.
والصفة الرابعة والخامسة قوله :﴿ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ " بالمُؤمنينَ " متعلقٌ ب " رَءُوفٌ " ولا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع ؛ لأنَّ شرطه تأخُّر المعمول عن العاملين، وإن كان بعضهم قد خالف، ويجيزُ : زيداً ضربتُ وشتمته، على التَّنازع.
وإذا فرَّعنا على هذا الضعيف، فيكون من إعمال الثاني، لا الأول، لما عُرف أنَّهُ متى أعمل الأوَّلُ أضمر في الثاني من غير حذف.

فصل


قال ابن عباس : سمَّاه الله تعالى ههنا باسمين من أسمائه٦. والمعنى : رءوفٌ بالمطيعين.
فإن قيل : كيف يكون كذلك، وقد كلَّفهم في هذه السُّورة بأنواعٍ من التَّكاليفِ الشَّاقَّة التي لا يقدرُ على تحملها إلا من وفقه الله تعالى.
فالجوابُ : قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق، والأدب المشفق، والمعنى : أنه فعل بهم ذلك ليتخلَّصُوا من العقاب المؤبد، ويفُوزُوا بالثَّواب المؤبد.
فإن قيل : لمَّا قال :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ فهذا النَّسق يوجب أن يقال : رءوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال :﴿ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
فالجواب : أنَّ هذا يفيد الحصر، أي : لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين. فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التَّغليظِ، كأنَّهُ يقول : إنِّي وإن بالغت في التَّغليظِ في هذه السُّورة، إلاَّ أنَّ ذلك التَّغليظ على الكُفَّارِ والمنافقين، وأما رحمتي، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين.
١ أخرجه البيهقي (٧/١٩٠) والطبراني (١٠/٣٩٩) وابن عساكر (١/٣٤٦) والبغوي في "تفسيره" (٢/٣٤١) من طريق المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس.
وذكره الهيثمي في "المجمع" (٨/٢١٧) وقال: لم أعرف المديني ولا شيخه وبقية رجاله وثقوا..

٢ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١٠١، الكشاف ٢/٣٢٥، المحرر الوجيز ٣/١٠٠، البحر المحيط ٥/١٢١، الدر المصون ٣/٥١٤..
٣ ينظر البيت في الدرر ١/٢٥٣ والجنى الداني ص٣٣١ والأشباه والنظائر ٣/٣٧ وشرح التصريح ١/٢٦٨ وشرح المفصل ٨/١٤٢، ١٤٣، وهمع الهوامع ١/٨١ والبحر ٥/١٢١ والدر المصون ٣/٥١٤..
٤ أخرجه الطبري (٦/٥٢٣) وذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤٢)..
٥ ذكره البغوي في "تفسيره" (٢/٣٤٢)..
٦ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٦/١٨٨)..
قوله تعالى :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ يعني : المشركين والمنافقين، أي : أعرضوا عنك وقيل : تولوا عن طاعة الله وتصديق الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - وقيل : تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السُّورة. وقيل : تولوا عن نصرتك في الجهاد. ﴿ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ ﴾ والمرادُ : أنَّه لا يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف ؛ لأنَّ الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء. " عليْهِ توكَّلتُ " أي : لا أتوكل إلاَّ عليه :﴿ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم ﴾.
فإن قيل : العرشُ غير محسوس، فلا يعرف وجوده إلاَّ بعد ثُبوتِ الشريعةِ، فكيف يمكنُ ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى ؟.
فالجواب : وجود العرش أمرٌ مشهورٌ، والكفار سمعوه من اليهود والنصارى وأيضاً لا يبعد أنَّهُم كانوا قد سمعُوهُ من أسلافهم.
وقرأ الجمهور بجرِّ الميم من " العَظيمِ " صفة للعرش. وقرأ ابنُ١ محيصنٍ برفعها نعتاً للرب ورويت هذه قراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم :" وهذه القراءة أعجبُ إليَّ ؛ لأنَّ جعل " العظيم " صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش " وأيضاً قال " فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيماً كبر جثته وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار وإن جعلناه صفة لله تعالى كان المرادُ من العظمة وجوب التقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزَّهاً عن أن يتمثل في الأوهام، أو اتصل إليه الأفهام ".

فصل


روي عن أبيّ بن كعب والحسن قالا : آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] إلى آخرها٢. وقال أبي بن كعب :" هما أحدث الآيات بالله عهداً " وفي رواية :" أقرب القرآنِ من السَّماءِ عهداً " ٣ وهو قول سعيد بن جبير.
وقيل : آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ].
قال القرطبي٤ " يحتمل أن يكون قول أبيّ : أقرب القرآن من السماء عهداً بعد قوله " واتقوا يَوْماً " والله أعلمُ.
١ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/١٠١، المحرر الوجيز ٣/١٠٠، البحر المحيط ٥/١٢٢، الدر المصون ٣/٥١٤..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/٥٢٤)..
٣ انظر: المصدر السابق..
٤ ينظر: تفسير القرطبي ٨/١٩٢..
Icon