تفسير سورة الرّوم

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الروم من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

بل المؤمنين عامة، والسجدة في هذه السورة من عزائم السجود، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، روى البخاري ومسلم عن رافع قال:
صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد، فقلت ما هذه؟
قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. ولمسلم عنه قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في (اقرأ باسم ربك) و (إذا السماء انشقت) وهذه السجدة آخر السجدات الواردة في القسم المكي وهي اثنتا عشرة سجدة وبقي في القسم المدني سجدة الرعد والحج فقط تتمة الأربع عشرة سجدة، ومن قال بالسجدة آخر الحج أبلغها خمس عشرة. وقدمنا ما يتعلق بالسجود في الآية ١٥ من سورة السجدة المارة، وفيها ما يرشدك لغيرها من المواقع فراجعها ففيها كفاية. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الروم عدد ٣٤- ٨٤- ٣٠
نزلت بمكة بعد الانشقاق عدا الآية ١٧ فإنها نزلت بالمدينة، وهي ستون آية وثمنمئة وتسع عشرة كلمة، وثلاث آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
ومثلها في عدد الآي سورة الذاريات المارة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «الم» تقدم ما فيه أول الأعراف ج ١ وما بعدها مما بدئت به من السور فراجعها ففيها كفاية «غُلِبَتِ الرُّومُ» ٢ قبيلة روم بن يونان بن علجان بن يافث بن نوح عليه السلام «فِي أَدْنَى الْأَرْضِ» أرض العرب، لأن أل فيها للعهد والمعهود في الخطاب أرض العرب، لأن أرض الروم التي وقع فيها الغلب قريبة منها ولأنهم هم المخاطبون في هذا القرآن.
وقد تواقفت الروم مع الفرس، وكانت الفرس متوافقة مع المشركين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغلبت فارس الروم وقهرتها «وَهُمْ» الروم المغلوبون «مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ» هذا «سَيَغْلِبُونَ» ٣ الفرس. ولا وقف هنا بل يقرأ متصلا بما بعده إذ لا يحسن الوقف عليه. وسيكون غلب الروم للفرس «فِي بِضْعِ سِنِينَ» ٤
435
آتية ما بين الثلاث والتسع «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» هذا الغلب «وَمِنْ بَعْدُ».
وقد حذف المضاف هنا ونوى معناه، ولذلك بني الظرفان على الضمّ أي من قبل الغلب ومن بعده يكون الأمر لله وحده كما هو في سائر الأوقات، إذ لا يكون شيء إلا بقضائه وقدره وإرادته «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» يقرأ متصلا «بِنَصْرِ اللَّهِ» الروم على الفرس، لأنهم أهل كتاب، كما يفرح المشركون بنصر الفرس لأنهم مشركون مثلهم «يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ٥ وأعلم يا أكمل الرسل أن هذا الوعد بنصر الروم على الفرس «وَعْدَ اللَّهِ» حق واقع لا مرية فيه أبدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» البتة، كيف وهو الآمر بالوفاء به، وقوله الحق، وبيده الأمر «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ٦ ذلك لفرط جهلم بشئون الله عز وجل وعدم تذكرهم بما يجب عليهم وما يستحيل على الله. وفي لفظ أكثرهم دليل على أن الأقل يعلمون ذلك. واعلم أن الكفرة «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» أي أن علمهم مقصور على ما يتعلق بمعاشهم وصنايعهم ومنافعهم ومضارهم وشهواتهم، ولا يعلمون لماذا خلقوا ولا يتفكرون بحالهم ومصيرهم ومرجع ما خلق لهم، ولماذا خلق، لأن هذا كله من أمور الآخرة. ويأتي ظاهر بمعنى زائل قال الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
مطلب قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور، وغلب الروم الفرس:
وعليه يكون المعنى يعلمون ما هو زائل فان، ولا يعلمون ما هو دائم باق والفاعل يعود على اكثر، ومن هذا القسم أن مخترع القوة الجاذبية حيث كانت قطئة تشغله بذهابها وإيابها من فتح الباب لها وغلقه، ففتح لها نفقا تحت الباب، فصارت تخرج وتدخل منه دون كلفة، واستراح منها، ثم أنها ولدت ولم ينتبه أن ذلك النفق كان لها ولأولادها فعمد وفتح لكل نفقا، مما يدل على أن الذكي البارع في شيء قد يكون أبله في غيره. وكذلك مخترع الخطوط الكهربائية أعطته خادمته بيضة كي يسلقها وقالت له أبقها على النار خمس دقائق، فأخرج الساعة ووضعها بالدلة وأمسك البيضة بيده، فقالت له للآن وأنت واضع البيضة على النار؟! فقال لها
436
لم تمض الخمس دقائق بعد، فنظرت وإذ البيضة بيده والساعة في الدلة، فعكست الأمر.
فالذي يكون عن هذه الأمور التافهة غافلا فمن باب أولى أن يكون المشغول بالدنيا أغفل بكثير عن أمور الآخرة لا سيما وأن منها ما هو غير معقول، كما يدل عليه قوله «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ»
٧ ساهون لا هون بالدنيا لا ينظرون إلى ما يتعلق بها، ولا يصرفون حواسهم لما خلقت لها، لأن الله تعالى طبع عليها وسلبهم منافعها فصدّت عقولهم عن النظر إليها، أجارنا الله من ذلك. وسبب نزول هذه الآية أن كسرى بعث جيشا على رأسه شهربان ليقاتل جيش الروم الذي على رأسه مخيلن، فغلبه بأذرعات وبصرى وهما أقرب أرض للشام إلى أرض العرب، فشق ذلك على المسلمين لأنهم أهل كتاب ويودونهم، وفرح المشركون لأنهم كفرة مثلهم ويحبونهم، فقال المشركون للمسلمين إن قاتلتمونا فسوف نغلبكم أيضا لأن إخواننا غلبوا إخوانكم. قالوا وبعد نزولها قال أبو بكر للمشركين لا تفرحوا فإن الروم ستغلب فارسا في الحرب القابلة إذ أخبرنا الصادق المصدوق سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك عن ربه عز وجل، وإخباره واقع لا محالة، فقال له أبي بن خلف اجعل بيننا أجلا نناصبك، أي نراهنك عليه، فجعل الأجل ثلاث سنين، وتراهنا على عشر قلاص، وأخبر أبو بكر حضرة الرسول، وكان القمار لم يحرم بعد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده بالحطمة ومادده في الأجل، فلقي أبو بكر أبيا فقال له تعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل، فاتفقا على مئة قلوص إلى تسع سنين من شهر كذا من عام كذا، وإنما فعل هذا أبو بكر لأنه جازم بأن الله تعالى لا بدّ وأن يصدق رسوله بما أخبر به لقوة إيمانه، وإلا لو لم يرد الله ذلك لما ألقى في قلبه الموافقة على تمديد الأجل بعد أن اتفقا على غيره. ولما شاع بين الناس أن أبا بكر يريد الهجرة من مكة بسبب الضيق الذي وقع على المسلمين عامة في أذى قريش، أتاه أبيّ وقال له أعطني كفيلا بالحظر إذا أنت نزلت مكة فكفله ابنه عبد الله، وبعد الهجرة أراد أبي أن يذهب مع المشركين للاشتراك في واقعة أحد الكائنة في السنة الثالثة من الهجرة، فجاءه عبد الله بن أبي بكر وطلب منه كفيلا بالحظر إذا هو مات أو قتل، فأعطاه كفيلا، ثم انه تلاقى مع
437
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حرب أحد وضربه الرسول فجرحه جرحا بليغا مات منه بعد رجوعه إلى مكة، ثم ظهرت الروم على فارس بعد وقعة الحديبية على رأس سبع سنين من تاريخ المراهنة، إذ وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيها الهجرة، وهو تاريخ نزول هذه السورة، فقد هاجر صلّى الله عليه وسلم بعدها بقليل إذ لم ينزل عليه بعدها إلا العنكبوت والمطففين، وختم الوحي المكي بهما، وذلك بعد عقد المعاهدة بين شهرمان وقيصر، وقد ضمنا المعاهدة شروطا لم يحبا أن يطلع عليها خاصتهم فضلا عن عامتهم، لأنها تتعلق بمصالح الدولتين، وإذ كانت بحضور ترجمانه، وخافا أن يذيع شيئا منها وكل منهما حريص على كتمانها، فقال شهريان لقيصر السريين اثنين فإذا جاوزهما فشا، فقتلا الترجمان لئلا يفشي شيء من خبر تلك المعاهدة باتفاق الطرفين، ومنذ ذلك التاريخ صار مثلا: كل سر جاوز الاثنين شاع.
وجعلوا لهذه الشطرة صدرا: كل علم ليس في القرطاس ضاع. فقمر أبو بكر أبيا وأخذ الحظر كله من ورثته، وأمره الرسول بالتصدق به ففعل. وهذه من الآيات البينات الدالات على صدقه صلّى الله عليه وسلم التي اعترف بها المشركون أنفسهم وهي من الإخبار بالغيب.
والحكم الشرعي في هذا هو جواز المقامرة والربا والعقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار على مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد، ولم يجوزه الآخرون.
أما هذه المقامرة فقد وقعت قبل تحريم القمار وكان جائزا متعارفا بينهم، إلا أنه لما كانت التأدية بعد تحريمه وكانت العبرة بالابتداء لأن الأصل إبقاء ما كان على ما كان أخذه أبو بكر، ولو كان أخذه حراما لما أمره بالتصدق به، لأن التصدق بالحرام حرام حتى قيل إن من تصدق بالحرام طلبا للأجر يكفر. وإنما أمره بالتصدق به نورعا، ولئلا يقول المشركون أخذه أبو بكر مع قول صاحبه بحرمته أو لحاجة فيه.
قال تعالى «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» التي هي أقرب شيء منهم وما أودعها الله من غرائب الأشياء وبدايع الحكم فيها ظاهرا وباطنا وانها لا بد لها من الانتهاء ليعلموا أن أمر سائر الخلائق جرى على الحكمة الخارقة لا بد لها من الانتهاء بالأجل الذي قدّره لها مبدعها وليتحققوا أن «ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى» تفنى عند بلوغه «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
438
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ»
٨ جاحدون البعث بعد الموت «أَوَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الجاحدون «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الهلاك والدمار فيعتبروا في كيفية إهلاكهم وسببه مع أنهم «كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأن الأمم الماضية أكبر أجساما وأقوى جوارح، وأصبر جنانا على الشدة من كفار قريش، لأن آثارهم تدل على ذلك «وَأَثارُوا الْأَرْضَ» حرثوها للزراعة وإخراج المعادن منها «وَعَمَرُوها» بالبناء الضخم والجنان والأنهار والسبل «أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها» أهل مكة وغيرهم وحتى الآن لم يبلغ أهل هذا القرن الذي جاء بالبدائع من الكهرباء واللاسلكي والسيارات والطائرات والمدمرات وغيرها مما لم يتصوره العقل قبلا، وما وجد من ضخامة الأبنية وقوتها وهندستها، مما يدل على رقيهم في هذا الفن وغيره من الأمور الدنيوية، كيف وقد وصفهم الله تعالى بأنهم يعلمون ظاهرها وهذا كله من الظاهر. واعلم أن عمارة هؤلاء للأرض كانت بعد عمارة الجنّ، لأنهم تقدموا عليهم في الخلقة وفي سكنى الأرض، والدليل على مهارتهم في البناء والصنائع ما ذكره الله تعالى عن عملهم لسيدنا سليمان المحاريب والتماثيل والبنايات والأواني العظام وغيرها، راجع الآية ٨٤ من سورة الأنبياء والآية ٢٥ من سورة سبأ المارقين، والآية ٤٤ من سورة النمل في ج ١، «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ولم يؤمنوا فأعلكهم الله «فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بذلك الإهلاك «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ٩ لعدم تصديقهم الرسل ولإصرارهم على الكفر «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى» بالرفع اسم كان مؤخر على قراءة من نصب عاقبة وجعلها خبرها مقدما، وبالنصب على أنها خبرها على قراءة من رفع عاقبة على أنها اسمها، وتطلق السوءى على أسوإ العقوبات، وقيل هي أحد أسماء النار، أي أن جزاء المسيئين أسوأ الجزاء وهو النار التي هي أسوأ من كل سوء، وما ندري لعل ما عند الله ما هو أسوا وأسوا وإنما كانت تلك للعاقبة المشئومة عاقبتهم «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» ١٠ فعاقبهم بأسوء العقوبات
«اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» جليله وحقيره فينشئه شيئا فشيئا، ثم يميته بعد انقضاء أجله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» حيا كما بدأه «ثُمَّ
439
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»
١١ بعد الحياة الثانية للحساب والجزاء على ما وقع منكم في حياتكم الدنيا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ» ييأس ويتحير «الْمُجْرِمُونَ» ١٢ إذ تنقطع حجتهم فيسكتون. والإبلاس الحزن المفرط لشدة اليأس، ومنه اشتق إبليس، يقال أبلس إذا يأس من كل خير يريده وإذا تحير في كل أمره وسكت وانقطعت حجته، وأبلست الناقة إذا لم ترع من شدة الضيعة أي كثرة اشتياقها للفحل، وإنما يبلسون في الآخرة لظهور خطأهم وخيبتهم مما كانوا يأملونه من شفاعة أوثانهم، قال تعالى «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ» الدين اختصوا بهم في الدنيا وأصنامهم التي عبدوها من دون الله «شُفَعاءُ» يشفعون لهم كما كانوا يغرونهم ويزعمون صدقهم «وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» ١٣ إذ تنبرأ منهم ويتبرءون منها وكان كفرهم بالدنيا بسببها. وهذا مما أوجب حيرتهم ودهشتهم حتى أبلسوا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» ١٤ أهل الجنة وأهل النار بعد الفصل بينهم، إذ يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية ٥٩ من سورة يس في ج ١، أي انفصلوا عن المؤمنين فينفصلوا حالا بحيث لا يبقى مجرم بين المؤمنين، ولا مؤمن بين المجرمين بمجرد هذا الأمر «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ» ١٥ يسرون فيها سرورا عظيما.
يقال حبره إذا أسره سرورا تهلل منه له وجهه بالبشر وظهر فيه أثره «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا «وَلِقاءِ الْآخِرَةِ» وأنكروا البعث بعد الموت «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» ١٦ لا يغيبون عنه أبدا أما المؤمنون العصاة فقد أشار الله إليهم في آيات أخر لأنهم لم يدخلوا في هذين الفريقين أما عدم دخولهم مع المؤمنين إذ قرن إيمانهم بالعمل الصالح وهم ليسوا من أهله، وأما مع الكافرين فلأنهم لم يكذبوا آيات الله ورسله ولم ينكروا البعث، وإنما هم جماعة قصروا عن أعمال الخير وفرطوا باتباع الأهواء فلهم جزاء غير هذا بنسبة كسبهم. وهذه الآية المدنية في هذه السورة.
مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث:
قال تعالى «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ» أي سبحوا الله أيها الناس
440
ونزهوه في هذا الوقت، ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء المشتملان على التسبيح «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» ١٧ عظموه أيضا ويدخل فيه صلاة الصبح «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» في هذه الأوقات وغيرها إذ يسبحه فيها من خلقه من نعرف ومن لا نعرف وما لا نعرف ويحمده أيضا، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية ٤٤ من الإسراء في ج ١، «وَعَشِيًّا» يدخل فيه صلاة العصر «وَحِينَ تُظْهِرُونَ» ١٨ فيدخل فيه صلاة الظهر، انتهت الآية المدنية التي هي آيتان بمثابة ثلاث آيات من حيث العدد. قال ابن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم وقرأها أعني هذه الآية، ونظيرها الآية ١٣٠ من سورة طه في ج ١، والآية ٧٨ من سورة الإسراء أيضا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وروى مسلم عن سعيد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائة قال كيف يكتب الف حسنة؟ قال يسبح الله مئة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة، وذلك أن كل حسنة تمحو خطيئة. وروى مسلم عن جورية بنت الحارث زوج النبي صلّى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعد ما تعال النهار، فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم، فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك (أي التي قلتهن في تلك المدة كلها) لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقة ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.
وأخرج عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاده.
وقال فيهما حديث حسن صحيح. قال تعالى «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» راجع تفسيرها في الآية ٩٦ من الأنعام المارة، وله صلة في
441
الآية ٢٨ من آل عمران في ج ٣ إن شاء الله «وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالمطر «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» ١٩ من قبوركم أحياء مثل خروج النبات من الأرض الميتة. ثم شرع يبين بعض دلائل قدرته على البعث بعد الموت ليتعظ منكروه فقال «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ» أي أصلكم آدم عليه السلام «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ» أيها الناس من ذلك الأصل الواحد «بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» ٢٠ في الأرض فتلأونها كثرة
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» من جنسها «أَزْواجاً» مثلكم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» وهنّ من أعظم النعم عليكم فلو جعلتهن من غير جنسكم لما حصلت الألفة ولما اطمأن الزوج لزوجته «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» من غير سابق معرفة ولا قرابة، ولولا التجانس لما حصلت تلك المودة والرحمة، ولا يوجد سبب لهذا التعاطف والمودة المفرطة إلا الزوجية المتجانسة، وهذا يطلب في الزوجية التجانس في البيئة أيضا ليتوافقا بالأخلاق والعوائد والآداب لأنها مع هذه تكون أكثر ألفة ومحبة ممن يتخالفان في الطبائع إذ يحتاج إلى التطبع (عند الاختلاف) بغير ما اعتاد عليه الآخر، وقل أن يمكن تغيير الطبع، وقلّ من يقدر على الصبر عند خلافه، وقد أمرت الشريعة بالتكافؤ، ولهذه الغاية ترى حوادث الطلاق كثيرة، فلو تقيد الناس بالتكافؤ لما رأيت رجلا يترك زوجته، وجل مصائب الناس من عدم تمسكهم بشريعتهم «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في الآيتين «لَآياتٍ» عظيمات دالات على القادر المبدع المبدئ المعيد «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ٢١ فيها فيؤمنون بمنشئها «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» في الكلام واللغات العربية والفارسية والعبرية والحبشية وغيرها كالقبطية والكردبة والبربوية والسريانية والكورية والإفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية والجركسية وغيرها، مما تفرع عنها وتداخل فيها «وَأَلْوانِكُمْ» الأبيض والأسود والأحمر والأشقر والأسمر وما بينهما من الألوان «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف الذي أبدعه المبدع جل جلاله لحكمة التعارف باللون واللغة والشكل والصورة والحلية، مع أنكم من أصل واحد «لَآياتٍ» كافيات للإيمان بالله والاعتراف ببالغ قدرته وعظيم سلطانه، إذ لو اتفقت الأصوات والصور
442
لوقع اليأس بين الناس، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه وجعل ما خلق عبرة وعظة «لِلْعالِمِينَ» ٢٢ بكسر اللام لأنهم أهل التدبر والتفكر بآيات الله، قال تعالى (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الآية ٤٤ من العنكبوت الآتية، وقرىء بفتح اللام أي أن تلك الآيات واضحات لا تخفى على أحد، والأولى أولى، ولفظ العالمين بالفتح يدخل فيه من يعقل ومن لا يعقل، فالذي لا يعقل لا ترد عليه الآيات ولا يعقلها، لأن من العالم من هو دون البهائم فلا يعقل ولا يفقه أيضا، لذلك فإن القراءة بكسر اللام أحسن. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» في طلب الرزق وهذه الآية تشير إلى أن النوم كما يكون ليلا يكون نهارا وكذلك السعي يكون فيهما، وإن تخصيص أحدهما للنوم والآخر لطلب المعاش لا يمنع من استعمالهما معا في ذلك، وهو من أجل النعم على الخلق، ولا نعمة من نعم الله إلا وهي جليلة، ولكن منها ما هو أجل «إِنَّ فِي ذلِكَ» التقسيم وجعل كل من الليل والنهار صالحين للاستراحة والعمل والعبادة، إذ يخلف أحدهما الآخر عند الحاجة، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية ٦٢ من الفرقان ج ١، «لَآياتٍ» بالغات في الدلالة على الواحد المعبود بحق «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ٢٣ سماع قبول فيعون ما يتلقونه من قبل المرشدين «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً» بنزول الغيث وخشية مما يترقب من الصواعق والشهب «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» يبسها فيجعلها تهتز بالنبات وتربو بالماء «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة للنبات «لَآياتٍ» دالات على إحياء البشر بعد موته «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ٢٤ قدرة الله ويستظهرون كمال صنعه وبالغ إبداعه في استنباط الأسباب وكيفية التكوين، إذ لا فرق عند الله بين الإحياءين، كما لا فرق عنده بين الإماتتين، لأن القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ» تقف وتثبت وتمسك نفسها بلا عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية ١٠ من سورة لقمان المارة وله صلة في الآية ٥ من سورة الرعد في ٣ «وَالْأَرْضُ» على الهواء والماء بلا مرتكز ولا
443
ما سك فهي والسماء قائمتان «بِأَمْرِهِ» لهما بقوله جل قوله كونا كذلك، فكانتا حالا بين الكاف والنون، دون مهلة أو تراخ، راجع الآية ١١ من سورة فصلت المارة، «ثُمَّ» أنتم أيها الناس كذلك قائمون بأمره، ذلك وإنه «إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ» المدفونين بها لأجل البعث بنفخة واحدة من بوق إسرافيل عليه السلام «إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» ٢٥ منها أحياء كحالتكم الدنيوية
كاملين غير ناقصين، لأن الله تعالى يعيد للأعرج رجله، وللأقطع يده، وللأعور عينه، حتى القلفة، وهذا من قبيل إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال قيام السموات والأرض واستمساكها، ودعاؤكم وخروجكم بأمره. قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» ٢٦ منقادون مطيعون له لا لغيره، فالذي لم يطعه فعلا يطعه بالقوة، والذي لم يعظمه قالا يوقره حالا، لأن المراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من شيء «ثُمَّ يُعِيدُهُ» كما خلقه بلا واسطة «وَهُوَ» أمر الإعادة «أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وأيسر من الإبداء لأنه كان على غير مثال والإعادة على مثال سابق، لهذا فإن اسم التفضيل هنا على غير بابه، أي أن أهون بمعنى هين، إذ لا شيء على الله بأهون من غيره ولا أصعب بأن يحتاج لامر آخر أكثر من الأول، فالعظيم والأعظم والقليل والأقل عنده سواء، لأن أمره لهما واحد لا يعز عليه شيء «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الذي ليس بعده مثل من الوصف العجيب الشان كالقدرة العامة والحكمة التامة والعظمة البالغة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» ٢٧ في كل شيء العليم بكل شيء.
مطلب جواز الشوكة إلا لله ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها:
«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ» في بطلان الشرك ثم بين هذا المثل بقوله «هَلْ لَكُمْ» أيها الأحرار المالكون للعبيد والإماء «مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ» من المال والأنعام والأولاد وغيرها هذا استفهام على طريق النفي، أي ليس لعبيدكم شركة معكم فيما رزقناكم، وإذا كان كذلك فكيف تشركون عبيدي وخلقي معي؟ ألا تساوون أيها الحمقاء أنفسكم
444
بربكم من هذه الحيثية؟ فكما أنكم لا تشركون عبيدكم في ملكم، فأنا لا أشرك أحدا في ملكي «فَأَنْتُمْ فِيهِ» أي الرزق الكائن لكم «سَواءٌ» مع عبيدكم، كلا، بل لكم خاصة. وهذا استفهام إنكاري أي لستم في رزقكم وعبيدكم سواء، إذ ليس لهم التصرف به دون أمركم، ولا يحق لهم أن يعارضوكم في إنفاقه والتصرف فيه، مع أنهم مثلكم في البشرية ومثلكم في الكسب وهم غير مخلوقين لكم، فاذا علمتم هذا عرفتم خطأكم في إشراك خلقي بي فيما هو من خصائصي. وهل «تَخافُونَهُمْ» أي العبيد بأن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم فيها «كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» أي تخافونهم أن يستبدوا بالتصرف بأموالكم بدون رأيكم مثل خيفتكم ممن هو من نوعكم، أي كما تخافون من الأحرار الذين مثلكم إذا كانوا شركاءكم في المال أن ينفردوا به، أو يخاف أحدكم شريكه في الميراث أن ينفرد به، أي لا حق لهم في أموركم لا في التصرف ولا في القسمة ولا في الإرث إذا متم، فإذا كنتم لا تخافون هذا من مماليككم ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف ترضون أن تكون أصنامكم التي هي من صنع أيديكم شريكة لي وتعبدونها من دوني وهي وأنتم من خلقي، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من سورة الصافات «كَذلِكَ» مثل هذا التفصيل الواضح «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونبينها ونمثلها «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ٢٨ هذه الأمثال فيتدبرونها، ويتعظون بها، ويعون مغزاها، وينتبهون لمعناها.
ونظير هذه الآية الآية ٧٤ من سورة النحل المارة فراجعها. واعلم أن التمثيل لتصوير المعاني المعقولة تصويرة المحسوسة إبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس ليكون غاية في الإيضاح والبيان، وفي هذه الآية إشارة إلى صحة أصل الشركة بين الناس لافتقارهم بعضهم لبعض، هذا ولما كان إعراضهم مستمر انتقل عن مجادلة إرشادهم إلى الحق لاستحالة قبولهم له فقال عز قوله «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بشركهم ذلك «أَهْواءَهُمْ» في ضروب الإشراك «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جاهلين ما يجب عليهم معرفته ولكن يا قوم «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» استفهام على طريق الإبعاد والتعجب أي لا أحد يقدر على هدايته «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ٢٩ أي أن الذين يخذلهم الله لا أحد يمنعهم منه أو يحول بينهم وبين عذابه إذا حل بهم
445
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ» الذي أنت عليه يا سيد الرسل لا تمل عنه ولا تلتفت إلى غيره وتوجه إليه بكلك لا بوجهك فقط، لأن هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهو ضرب من ضروب علم المعاني الذي يزيد الكلام رونقا وبهجة حال كونك «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين يخالفه فهو دين الحق لكونه «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي خلقته في عالم الذر والرحم والدنيا، ولهذا قال «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الذي خلق الناس عليه، فلا ينبغي أن يغير أو يبدّل، ولهذا أمر الله تعالى رسوله ليقتدي به أصحابه المؤمنون به بتعديل وتسوية الوجه والمراد منه الكل للإقبال على الدين والاهتمام بشأنه والمحافظة على أركانه وشروطه، لأنه هو أصل الأديان التي جبل الله خلقه الطائعين على التمسك فيه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، ثم قال، قرأوا إن شئتم (فطرة الله) الآية، زاد البخاري فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسنه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (أي مستوبة لم يذهب من بدنها شيء) هل تحسون بها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا (فطرة الله) الآية، والمراد بالفطرة العهد الذي أخذه الله على البشر حين خاطبهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية ١٧٢ من الأعراف في ج ١، فكل مولود بالعالم جار على ذلك الإقرار، وإن عبد غير الله في بداية أمره فإنه يرجع إلى عهد ربه الأزلي فيسبق عليه الكتاب فيتوب ويموت على الإيمان، راجع الآية ١٠٤ من سورة الأنبياء المارة، والآية ٣٠ من الأعراف ج ١. واعلم أن لا عبرة في الإيمان الفطري في أحكام الدنيا، بل العبرة في الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه إلخ، فمع وجود الإيمان الفطري محكوم له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم. أي حولتهم عنه، على أنهم لو تركوا وشأنهم لا بد وأن يعتقوا هذا الدين الإسلامي المستحسن في العقول السليمة والأطباع المستقيمة المتهيئة لقبول الحسن ولم يعدلوا عنه ما سلموا من أفات التقليد التي ينزلون بها عن هذه الفطرة التي جبلت عليها خلقته والحجة المستقيمة إلى ما يتلقونه
446
ممّن يتعاهدهم، وإلا فلا تغيير لما وضعه الله «ذلِكَ» الدين القويم والفطرة المستقيمة هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ» البالغ مستوى العدالة «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ٣٠ حقيقته فيزيغون عنه والأقل يعلم شيئا منه ويعرض عنه،
فلا تنظر يا سيد الرسل إلى هؤلاء وقم به أنت وأصحابك حال كونكم «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» خاضعين له راجعين إليه «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليكم في أوقاتها فهي أسّه وعماده وملاك شعاء «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ٣١ به غيره «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» بدل من المشركين بإعادة الجار وقرىء فارقوا، وهذه الآية تقيّد آية الأنعام ١٥٩ المارة لأنها تفيد التبعيض وتلك تفيد العموم، وقدمنا ما يتعلق بمثل هذا الخطاب في الآية ٦٤ من سورة الزمر المارة، وهؤلاء لم يتفقوا على التفريق في الدين بل تعدّوه «وَكانُوا شِيَعاً» فرقا مختلفة فيه كل طائفة تشايع غيرها وإمامها الذي أضلها، ومع أنهم كلهم على ضلال في ذلك فإنهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ٣٢ راضون به يحسبونه حقا لعدم تدبرهم وتفكرهم في حقيقته، راجع الآية ١٣ من الشورى المارة تجد ما يتعلق ببحث التفرق.
قال تعالى «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» بالدعاء والتضرع حالة كونهم خاشعين مقبلين راجعين إليه «ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» ٣٣ معه غيره في العبادة والدعاء ويظن هؤلاء الكفرة العتاة أنما تنشر عليهم شيئا من رحمتنا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من النعم جزاء لفضلنا عليهم كلا بل قل لهم يا سيد الرسل إن الله لم يهملكم ولم يعطكم لتكفروا به «فَتَمَتَّعُوا» بكفركم «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ٣٤ عاقبة ذلك، وفي هذه الجملة التفات من الغيبة إلى الخطاب وتهديد ووعيد بسوء العاقبة، قال تعالى «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً» وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة ففيه إيذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم ليطلعوا عليها «فَهُوَ يَتَكَلَّمُ» أي ذلك البرهان المعبر عنه بسلطان «بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» ٣٥ وما هنا مصدرية، أي لم ننزل سلطانا بإشراكهم وإنما اختلقوه من أنفسهم «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من غيث أو صحة أو ولد أو رزق، أي مطلق نعمة، كما أن
447
الضر في الآية السابقة يطلق على أضداد هذه الرحمة ويشتمل على كل شر «فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من كل ما يسوء الإنسان «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» بسبب ما اقترفوه من السيئات «إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» ٣٦ يبأسون من الرحمة، بخلاف المؤمنين فإنهم إذا أصابهم خير شكروا الله، وإذا مسهم ضرّ صبروا رجاء رحمة الله بكشفه عنهم.
مطلب ما قاله البلخي للبخاري وحق القريب على قريبه والولي وما شابهه:
قال بعض العارفين من أهالي بلخ لصاحب له كيف حالكم يا أهل بخارى؟ قال نحن قوم إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال البلخي حال كلاب بلخ هكذا، فقال وكيف حالكم يا أهل بلخ؟ قال نحن قوم إذا وجدنا آثرنا وإذا فقدنا شكرنا.
وهؤلاء لعمري هم أهل الله العارفون الصادقون، وهؤلاء هم الصوفية الذين هم حقيقة صوفية لا متصوفة زماننا، فأين نحن منهم رجماك ربي رحماك، نسألك العفو والعافية والشكر على العافية، والتوفيق لما تحب من الأعمال، والستر الجميل، وإذا قدرت علينا قدرا لا تريد أن تكشفه عنا فنسألك الصبر الجميل عليه، وأن تجعلنا من القليل، ولا تكلنا إلى غيرك، ولا تؤاخذنا بما نفعل ويفعل السفهاء منا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ» من خلقه يوسعه عليهم بجهد وبغيره «وَيَقْدِرُ» يضيّق على من يشاء ولو جدّ ما جد «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والقبض الجاريان بمقتضى المشيئة «لَآياتٍ دالات على حكمة المعطي «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ٣٧ به ويرضون بقسمته لاعتقادهم أن ذلك مراده لا غير، ولله در القائل:
نكد الأديب وطيب عيش الجاهل قد أرشداك إلى حكيم كامل
ثم نبههم الله تعالى إلى ما يجب أن يفعل، وما يجب أن لا يفعل، وما يجب أن يترك، فخاطب به سيد المخاطبين ليعمل به أمته فقال «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من البر والصدقة والنظر والصلة، لأن هذه كلها من حق المسلم على المسلم، فكيف بالقريب الذي له حقّان حق الإسلام وحق القرابة، فالعطاء إليه يكون صدقة وصلة «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب يكفيه «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر
448
الغريب الذي نفدت نفقته فبقي منقطعا عن أهله فينبغي لمن وسع الله عليه أن يعطيه ما يكفيه ويبلغه اهله. وليعلم أن الله تعالى إذا بسط رزقه على عبده فإن ما ينفقه منه في سبيل البر والخير لا ينقصه بل يزيده، كما انه إذا ضيق عليه فإن التشدد بالإمساك لا يوفر عليه، وفيه قيل:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها على الناس طرا قبل أن تنفلت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل ينميها إذا هي ولت
بل عليه الشكر إذا رزق، قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) والصبر عند الضيق، قال تعالى (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية ٧ من سورة إبراهيم المارة. وما قيل إن هذه الآية مدنية والمراد بها الزكاة قيل لا قيمة له لأنها مكية كسورتها، واستثناؤها يحتاج إلى دليل، ولم يوجد، ومما يدل على أن المراد بها غير الزكاة الإجماع على مكيتها، والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وقد استنبط من هذه الآية الإمام أبو حنيفة وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب على قريبه الموسر، ووجه استنباطه هو أن آت أمر، والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، وهو هنا معدوم، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي، وقد جاء بجانب المسكين وابن السبيل بعد القريب، ولو كان المراد الزكاة لم يقدم ذو القربى عليهما لأنهم فيها سواء. هذا وما جاء عن أبي سعيد الخدري أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه السلام فاطمة رضي الله عنها فدكا لم يثبت، وينفيه ما اشتهر أنها ادعت فدكا بعد وفاة أبيها صلّى الله عليه وسلم بطريق الإرث، وقد ردت دعواها لقوله صلّى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، - أو كما قال-. وقد ثبت لك أن الآية المدنية لا بد من دليل يؤيد مدنيتها، وهذه الآية مكة، وحادثة فدك بالمدينة ولا يوجد ما يؤيدها.
قال تعالى «ذلِكَ» إعطاء القرابة المساكين وأبناء السبيل فيه «خَيْرٌ» كثير لفاعله، وإنفاق المال لأمثال هؤلاء أحصن من الاستئثار للإنسان بما أتحفه الله به من النعم، ومنعه من الفقراء وشبههم «لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بإنفاقه ويتقربون به إليه «وَأُولئِكَ» المريدون وجه الله بصدقاتهم المعطون لها عن طيب
449
نفس «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ٣٨ الفائزون بالنعيم المقيم عند الله القائل «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ» بأن تأخذوا أكثر منه «فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» بل يمحق بركته ويفنيه، وقال بعض المفسرين ما أعطيتم من الهدايا بقصد أن تعود عليكم بأكثر منها فلا يبارك لكم فيها عند الله لأنكم لم تبتغوا بها وجهه، فلا يثيبكم عليها، وقال إن هذا كان متعارفا عندهم قبل الإسلام، وبقي على حاله فيما بينهم، وحرّم على النبي صلّى الله عليه وسلم وحده، واستدلوا على هذا بقوله تعالى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) الآية ٦ من سورة المدثر المارة في ج ١، ولهذا يقولون تأتي الهدية على حمار فترجع على بعير. وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية المذكورة من المدثر فراجعها. وقال بعضهم المراد بالزيادة هنا الزيادة المعروفة بالمعاملة التي حرمها الشرع، لأن الآية نزلت في ربا ثقيف وقريش، وهذا القول أوفق بظاهر الآية لأنها تشير إلى مقدمات تحريم الربا على طريقة التدريج التي أشرنا إليها في المقدمة في بحث التدريج بالأحكام، كما وقع في الخمر، والمعنى الأول بعيد عن الظاهر، على أنه يبعد أن يراد بها والله أعلم بيوع العينة التي كانت تتعاطاها الجاهلية وبقي أثرها في زمننا هذا، المشار إليها في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها في بيع العينة، وذلك أن يبيع الرجل ما يساوي خمسة بعشرة مثلا لقاء الإمهال، أو يبيعه شيئا صوريا لا حقيقة له مثل أن يقول له اشتريت مني هذه الساعة أو هذا البساط أو هذا القماش بعشرة؟ فيقول اشتريت، وقبلت، لفظا من غير تقابض أو بتقابض، ثم يقول له بعتنيه بثمانية؟ فيقول بعتكه، فيعطيه الثمن الأخير ويكتب عليه الأول، فهذه بيوع لا يبارك الله بها لأن ظاهرها بيع وباطنها ربا، والله مطلع على النيات لا تخفى عليه خافية والأمور بمقاصدها، لهذا فإنه تعالى لا بد وأن يسلط على متعاطيها ما يمحق ماله ويسلب نعمته من ولد أو زوجة أو قريب أو إتلاف بحرق أو غرق أو خسارة، لأن هذا العمل حيلة على الله العالم بجليات الأمور وخوافيها، وقد مسخ الله طائفة من بني إسرائيل قردة وخنازير حينما احتالوا على صيد السمك يوم السبت راجع الآية ١٦٢ من الأعراف في ج ١، وقال بعض الأئمة إن الذين يأكلون الربا بالحيلة يحشرون يوم القيامة على صور القردة والخنازير، استنباطا من
450
قوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الآية ٢٧٦ من البقرة في ج ٣، والآية المتقدمة من الأعراف، وسنأتي على توضيح هذا هناك إن شاء الله مع قصة أهل البيت في موضعها بالآية ٦٠ من المائدة في ج ٣ إن شاء الله. وقد شاهدنا كثيرا ممن تعاطوا الربا أصالة وبالحيلة قد أفقرهم الله وسلب نعمتهم وأحاجهم إلى السؤال، ومنهم من تمتع بها مدة حياته ولم ينتقل ماله لأولاده، ومنهم من انتقل ماله لأولاده فاستهلكوه فيما حرم الله واحتاجوا إلى السؤال. وعلى كل فإنهم لا ينتفعون بما لهم انتفاعا نافعا في الدنيا، فهم في الآخرة أشد حرمانا منه ومعاقبة عليه. ولهذا البحث صلة أيضا في الآية ٣٤ من سورة التوبة في ج ٣، ألا فلينتبه الذين يريدون دوام نعم الله عليهم وانتقالها لأولادهم من ذلك، وليتعظوا بغيرهم ويتوبوا إلى ربهم قبل أن يحيق بهم عذاب الدنيا ويحيط بهم عذاب الآخرة. قال تعالى «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ» طهارة، لأن النفقة المقبولة طهارة لصاحبها من الذنوب، لأن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الزكاة، كما أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الحج، ومنها لا يكفرها إلا الهم بالمعيشة، ومنها ومنها طهرنا الله منها. وقد يراد بهذه الطهارة ما يقابل (وما آتيتم من ربّا) إلخ، أي طهارة لأنفسكم بعقود البيع الصحيحة الخالية من ذلك الفضل المصرح به فيها بأنه ربا، فإنكم نثابون عليه ثواب الصدقة لما فيها من مراعاة حق المسلم، ولذلك أعقبها بقوله «تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بها وتبغون رضاءه «فَأُولئِكَ» المجتنبون الحالة الأولى الفاعلون الثانية «هُمُ الْمُضْعِفُونَ» ٣٩ الذين تضاعف لهم البركة والرحمة والأجر على عملهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة والله يضاعف لمن
يشاء بأكثر وأكثر، إذ أثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة التي يتوخونها من ذلك الربا الرجس، وقد مدحهم الله تعالى على فعلهم الطيب الطاهر بالإشارة الدالة على التعظيم تقديرا لفعلهم الحسن. هذا، وإن ما ذكرته في تفسير هذه الآية لم يتطرق له أحد من المفسرين، كما هو الحال في تفسير الآية ٨٨ من سورة النمل المارة في ج ١، ولعلها ممّا ينتقد، ولكن حسب اعتقادي أقول إنه أحسن قول في تفسيرها ولا أقول كما قال الغير فيما ينفرد به:
451
إذ لعله: أن يقف على ضد ما فهمته. ولا أصمه بالشطر الأخير من قوله:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
وما علي إذا ما قلت معتقدي إلى جهول يظن الجهل عدوانا
وأظنه إذا أنصف حبّذ ما قلته لأنه منطبق على المعنى الواقع، وبعد أن فوضت العلم فيه إلى الله لم يبق محل للانتقاد وغيره. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ» كلا لم يستطيعوا ولن يستطيعوا لأنهم وأوثانهم مخلوقون له «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» ٤٠ أنظر رعاك الله إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من بلاغة عظمى في قوله من الأولى والثانية والثالثة إذ استقلت كل منها بتأكيد تعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم.
مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده:
قال تعالى «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» من المعاصي فإن الناس صاروا يقدمون على المنكرات والفواحش وهم سائرون في البحر ولم يخشوا أن يرسل الله عليهم ريحّا فتغرقهم، كما أنهم يفعلون تلك الخبائث في البر ولم يخافوا أن يخسف الله بهم كما فعل بغيرهم، وقد كثر الحرق والقتل والنهب والسلب والزنى واللواطة والشرب والقمار فيهما معا، وقل الحياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أجرنا من غضبك ومن القحط فقد قلت بركات البر حتى ان الزرع لا يأتي بضعفه وبركات البحر حتى ان اللآلئ لا تكاد تدرك. وما قيل إن فساد البر في مدن الصحراء، وفساد البحر في مدن السواحل، أو قلة مياه العيون، أو عدم إثبات الأرض، وخلو الأصداف، أو بقتل ابن آدم أخاه، وفي البحر بغصب الجلندي السفينة المار ذكرها في الآية ٧١ من سورة الكهف، وغير ذلك مما يضاهي هذا، فهو بعيد عن المعنى المراد بمناسبة هذه الآية، وإن تقييدها بمثل هذه المسائل مناف لظاهرها العام المطلق في كل فساد يقع في البحر. وهؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا في البر والبحر لا يهملهم الله، وقد أمهلهم «لِيُذِيقَهُمْ» جزاء «بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» مقدما معجلا «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ٤٣ عن
452
هذه الأعمال القبيحة، حتى إذا أصروا عليها عاقبهم عليها كلها في الآخرة غير عقاب الدنيا. واعلم أنه لا يوجد في القرآن العظيم آية مبدوءة بالظاء غير هذه «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ» وتفكروا في أطلال منازلهم وتدبروا كيفية إهلاكهم واسألوا عن أسبابها وإبقاء مساكنهم خاوية تعلموا أنه «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» ٤٢ بالله جاحدين حقوقه مثلكم، واعلموا أنكم إذا لم ترجعوا عما أنتم عليه يكون مصيركم مثلهم. وأنت يا سيد الرسل لا يهمنّك تماديهم «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» المعهود في الآية ٣٠ المارة ولا تكرار، لأن في الأول لفظ حنيفا وإشارة إلى الدين الحنيف بأنه هو الدين القيم، وفي هذه القيم فقط الذي لا عوج فيه، والمعرفة إذا أعيدت يراد منها الأولى نفسها كما أوضحناه في سورة الانشراح ج ١، وقد أمر الله عباده على لسان رسوله بإقامة الدين والإسراع للتمسك فيه «قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» إذ لا يقبل فيه الرجوع إليه ولا التوبة ولا الفداء ولا الشفاعة المطلقة «يَوْمَئِذٍ» يوم يحل ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، حينئذ «يَصَّدَّعُونَ» ٤٣ يتفرقون بعضهم عن بعض، والتصدّع تفرق أجزاء الأواني، واستعير لمطلق التفرق، قال تعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الآية ٤ من القارعة في ج ١، أي أن أشخاص الناس تتفرق لشدة هول ذلك اليوم. واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» هو يحمل وباله وحده «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» ٤٤ يوطئون لها ويبنون وهو عبارة عن معنى يستفاد من أفعال الخير التي سيراها صاحبها حسا، أولا في القبر، وثانيا في الجنة، كما يمهد الإنسان فراشه في الدنيا ليستريح عليه في مضجعه من كل ما ينغص نؤمه. قال تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ» بأكثر مما عملوا لأنهم أحبابه، أما الذين عملوا السيئات فإنه يعاقبهم في ياره «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» ٤٥ لأنهم كرهوا الخير لأنفسهم فأبغضهم الله، لأن من لا يحبه يبغضه. ثم عطف على الآيات من ٢٠ إلى ٢٥ المارة التي عدد فيها آثار نعمه على عبده تذكيرا لهم بأفضاله
453
وحثا لهم على الإخلاص لحضرته، لأنه هو وحده المتفضل بها عليهم، فقال جل قوله «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته «أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» عباده بالغيث «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ثمر الخصب المتسبب عنه «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» بسبب تلك الرياح، فتصلوا إلى مقاصدكم من البلاد والقرى والبوادي وغيرها «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الأرباح في زروعكم وأثماركم وتجاراتكم برا وبحرا «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ٤٦ نعمه المتوالية عليكم. قال تعالىَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ»
كما أرسلناك إلى هؤلاء، أي الموجودين على ظهر الأرضَ جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ»
على صدقهم كما جئتهم به أنت وكذبوهم كما كذبوكَ انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا»
منهم وأنجينا المؤمنينَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
٤٧ بنا.
واعلم أن في الآية ١٠٣ من سورة يونس المارة والآيتين ١٧١ و ١٧٢ من سورة الصافات المارة أيضا والآية ٢١ من المجادلة الآتية في ج ٣، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لحضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم بالظفر والنصر على أعدائه، وفيها كفالة وعهد من الله تعالى على نفسه المقدسة بنصر المؤمنين وهو الموفي بعهده ووعده، القائم بكفالته، الصادق بما يخبر، وقد وفّى لرسوله ما تعهد به له ولأصحابه، وهذا الوعد عام لكل مؤمن ومؤمنة مستمر إلى يوم القيامة، وفيه أيضا وفي الحساب والقضاء، ولكن الناس لم يكونوا مؤمنين موقنين بالمعنى الذي يريده الله منهم كما كان عليه محمد وأصحابه، ولو كانوا كذلك ما سلب منهم نعمة الملك، ولم يسلط عليهم عدوهم ولجاءهم النصر من حيث لا يشعرون، وسخر لهم كل شيء، ولكن أين الإيمان وأين الإسلام كل منهما رسم بلا جسم، ومسمى بلا اسم، ودعوى بلا برهان، وقول بلا بيان، نعم انهم مسجلون رسميا مسلمين، وأعمالهم أعمال الكافرين، لا تراحم ولا توادد بينهم، ولا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة ولا صدقة بالمعنى الذي يريده الله منهم، ولكنهم زناة شربة خمر قذفة للمحصنات كذبة همّازون لمأزون محتالون شهداء زور وبهتة مغترون، فأنى ينظر الله إليهم، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لازلتم منصورين، ما دمتم متبعين سنتي فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم،
454
فإذا كان هذا جزاء ترك السنن فما بالك بالفرائض، وما بالك بارتكاب المحرمات، وما بالك بالتجاهر بالشرب واللعب واللواطة بلا خوف من الله ولا حياء من الناس، وإني أخشى أن يكونوا قد صاروا حثالة بالمعنى الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلم يذهب الصالحون أسلافا الأول فالأول، حتى لا يبقى من الناس إلا حثالة كحثالة الثمر والشجر لا يبالي الله بهم. رحماك ربي عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أهل التقوى وأهل المغفرة. ومما يدل على أن هذا الوارد في الآيتين المذكورتين نصر مستمر في الدنيا والآخرة ما رواه أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حتما على الله أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر بمعناه. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ» مسيرة يوم وأيام وأقل وأكثر خفيفا أو كثيفا «وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» قطعا متفرقة أو يضم بعضه لبعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» من فرجه ووسطه «فَإِذا أَصابَ بِهِ» بذلك الغيب «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» ٤٨ به لما يدره عليهم وعلى أنعامهم ودوابهم من الخيرات «وَإِنْ كانُوا» أولئك العباد «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ» ذلك الغيث «مِنْ قَبْلِهِ» كرره تأكيدا للدلالة على بعد عهدهم به والأحسن عود هذا الضمير إلى الرياح، فيكون المعنى من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح «لَمُبْلِسِينَ» ٤٩ قانطين آيسين، لأنه بعد إرسال الرياح يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها، فإذا هبت الرياح قبل المطر لا يكون مبلسا بل يكون راجيا برؤية هيئة السحاب وهبوب الرياح «فَانْظُرْ» يا من يتأتي منك النظر «إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ» وحسن تأثيرها في الأرض وفي قلوب الناس «كَيْفَ يُحْيِ» الإله القادر الرؤوف بخلقه «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات والأزهار والثمار «إِنَّ ذلِكَ» الإحياء للأرض بعد يبسها الذي هو بمثابة الموت لها وإحياء نباتها بعد جفافه بالمطر من قبل الله القادر على ذلك فإنه ولا ريب «لَمُحْيِ الْمَوْتى» كما أحيا الأرض الميتة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ٥٠ لا يعجزه شيء،
455
قال تعالى «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً» ليبس الأرض وما عليها «فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا» بعد أن كان ذلك النبات أخضر يهتزّ «لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» ٥١ ما أسلفناهم من نعم الغيث ويجحدون نزوله كأنما لم نغثهم أبدا. واعلم أنه لم يأت في القرآن لفظ المطر إلا للعذاب، والغيث إلا المرحمة، وقد بينا ما يتعلق بتفصيل هذا في الآية ٢٢ من سورة الحجر فراجعها. قال تعالى «فَإِنَّكَ» يا سيد الرسل «لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» قلوبهم «وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ» المختوم على آذانهم «الدُّعاءَ» الذي ترشدهم به «إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» ٥٢ عنك بظهورهم لأنهم إذا كانوا مقبلين إليك قد يفهمون بالإشارة والرمز «وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» في هوّة هواهم «إِنْ تُسْمِعُ» ما تسمع «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» لأنهم مقبلون إليك بقلوبهم وأبصارهم مصغون بعقولهم وآذانهم، ينظرون لما تقوله بكليتهم «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ٥٣ لك منقادون مطيعون لأوامرنا التي تبلغهم إياها، فاترك أمثال أولئك واعرض عنهم ولا تحزن عليهم لأنهم في حكم الموتى واحرص على هؤلاء فإنهم هم المنتفعون بوعظك ونصحك.
مطلب في سماع الموتى وتلقين الميت في قبره وإعادة روحه إليه والأحاديث الواردة بذلك:
هذا، وقد استدل بعض الحكماء بهذه الآية على أن الأموات لا يسمعون، وأيدها بقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية ٢٢ من سورة فاطر ج ١، وهذا القائل توصل بقوله هذا إلى عدم تلقين الميت في القبر إذ لا فائدة له منه، وقال لو حلف لا يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث لأنه ليس بأهل للكلام ولا للسماع.
وحكى السفارينى في البحور الزاخرة أن عائشة رضي الله عنها ذهبت إلى نفي السماع وذلك أنه جاء في صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت ذهل ابن عمر إنما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله يبكون عليه الآن، قالت وذلك مثل قوله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم يسمعون ما أقول، إنما قال إنهم
456
الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، ثم قرأت الآيتين، ورجح هذا القاضي أبو يعلى من أكابر الحنابلة في كتابه الجامع الكبير، مستدلين بالآيتين المذكورتين وشبهها مما في القرآن العظيم. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنهم يسمعون وهو اختيار ابن جرير الطبري وابن قتيبة وغيره، وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على هذا، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال:
لما كان يوم بدر وظهر عليهم (على المشركين) رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا، وفي رواية أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى (بئر من اطواء بدر) وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. زاد في رواية لمسلم عن أنس: ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. وبما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى انه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل (يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم) ؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا ويفسح له في قبره سبعون ذراعا، وتملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة، وأما الكافر إلخ. وبما رواه الطبري في الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل يا فلان بن فلانة، فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله، ولكنكم لا تسمعون إلخ.
وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال: كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت، فلم يعلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمر على قبرها فقال ما هذا القبر؟
فقالوا أم محجن، قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم، فصف الناس، فصلى عليها، فقال صلّى الله عليه وسلم أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا يا رسول الله أتسمع؟ قال ما أنتم بأسمع منها، فذّكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد أي كنسه، وإجابتها له
457
على سبيل المعجزة له صلّى الله عليه وسلم. وبالحديث الذي رواه الشيخان المار ذكره في الآية ٢٦ من سورة إبراهيم المارة في بحث سؤال القبر. وبما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير المشار إليه في الآية ٤١ من سورة النازعات المارة وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى، ثم خاطب أصحابه فقال فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا عليه إلى يوم القيامة. وبما أخرجه ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه.
وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له أتسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفنه معه. وبما في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلم: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه يسمع قرع نعالهم.
وأجابوا عن الآيتين بما قاله السهيلي إنها كقوله تعالى (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) الآية ٤١ من الزخرف، أي أن الله تعالى هو الذي يسمع لا أنت.
وقال غيره من الأجلة لا تسمعهم إلا أن بشاء الله أولا فتسمعهم سماعا ينفعهم، لأن الشيء قد ينتفي لانتفاء فائدته وثمرته، قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الآية ١٧٩ من الأعراف في ج ١، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في الآيتين المذكورتين. هذا وإن السيدة عائشة رضي الله عنها لم تحضر قول النبي صلّى الله عليه وسلم لأهل بدر، فغيرها ممن حضر أحفظ للقضية منها، على أنهم إذا كانوا عالمين كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين، أما وقد اتفقت الكلمة على أن الشهداء يسمعون لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون الآية ١٧١ من آل عمران في ج ٣، كما سنبينه في تفسيرها إن شاء الله، وأجمعوا على أن روح الميت تعود إليه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله منهم، فلا مانع إذا من القول بسماعهم في الجملة، وهو للقول الحق، على أن يكون هذا السماع على أحد وجهين:
الأول أن يخلق الله تعالى عز وجل وهو القادر على كل شيء في بعض أجزاء الميت
458
قوة يسمع بها من شاء الله إسماعه كالسلام ونحوه، ولا يمنع من ذلك وجوده تحت الثرى وقد انتحلت منه هاتيك البنية وانقصمت العرى، ولا يكاد يتوقف في قبول هذا القول من يجوز أن يرى أعمى الصين بقّة الأندلس. الثاني أن يكون ذلك السماع للروح بلا واسطة قوة البدن، ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه، وإذ كان للروح على القول الصحيح تعلق بالبدن كله أو بعضه بعد الموت لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله، وهذا التعلق غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبله أجرى الله سبحانه عادة أمره بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر، وكذا عند حمل البدن وعند الغسل مثلا، ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوها فيها نفسها أن تسمع كل مسموع، لما أن السماع مطلقا، وكذا الإحساسات تابعة المشيئة، فيقتصر على القول بما ورد فقط من السلام ونحوه، ولا يلزم على هذا التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقا في أفنية القبور، لما أن مدار السماع عليه مشيئة الله تعالى، وقدمنا ما يتعلق في بحث الروح بصورة مفصلة في الآية ٨٥ من الإسراء في ج ١ فراجعها.
مطلب في أدوار الخلقة والجناس وحقيقة أفعال وفعائل وأنواع الكفر والجهل:
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» هو ماء مهين ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة إلخ وكلها ضعيفة «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» تبدأ من المراهقة إلى الشاب إلى الكهولة إلى الكمال إلخ «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً» لأن ما بعد الكمال إلا النقص «وَشَيْبَةً» شيخوخة فهوما وهو تمام النقصان، فسبحانه «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» من القوة والضعف والشباب والشيب وغيرها «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بتدبير خلقه «الْقَدِيرُ» ٥٤ على ما يشاء، وقدمنا ما يتعلق في مراتب الخلق في الآية ٦٧ من سورة المؤمن المارة، وله صلة في الآية ٥ من سورة الحج في ج ٣. قال تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ» المحكوم عليهم بالعذاب لما قدمنا أنه لا يسمى سجر ماء إلا بعد إثبات ما أسند إليه، وهذا القسم يكون عند تذاكرهم من مدة مكثهم في الدنيا والبرزخ فيقولون «ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» وإنما استقلوا مدة لبثهم مع كثرتها لطول يوم القيامة
459
على المعذبين وشدّة هوله «كَذلِكَ» مثل هذه الأيمان الكاذبة التي يأتون بها يوم القيامة وأنواع الإفك التي يعتذرون بها ويحاججون ربهم وغيرهم بها «كانُوا يُؤْفَكُونَ» ٥٥ بالدنيا وينصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب، إذ كذبوا أنفسهم، لأنهم لبثوا في الدنيا وفي القبر مئات السنين، وهذا لكذبهم في الدنيا بأنهم لم يبعثوا ولم يحاسبوا ولم يعاقبوا «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ» في حالة الدنيا لهؤلاء الكاذبين «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ» من يوم خلقكم إلى يوم موتكم في الدنيا، ومن يوم موتكم في البرزخ «إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» الذي كنتم تنكرونه قرونا كثيرة «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ٥٦ أنكم تبعثون ولا تصدقون الرسل بما جاءتكم به، وإن علمكم الآن وتصديقكم لا ينفعكم شيئا لتفريطكم به وقت نفعه، وفي هذا يقال:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخش سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
هذا وبين الساعة والساعة في الآية الأولى جناس تام مماثل، ولا يضر اختلاف حركات الإعراب ولا وجود ال في أحدهما لأنها مؤكدة، ولا يضر اتحاد مدلولها في الأصل، لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمن لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة، وأخذ أحدها من الآخر لا يضر أيضا، كما هو موضح في بحث جناس الاشتقاق. قالوا ولا يوجد في القرآن العظيم جناس من هذا النوع إلا هذه في القسم المكي جميعه، وسيأتي مثله في الآية ٤٥ من سورة النور في القسم المدني ج ٣ إن شاء الله، لأن الابصار الأول فيها جمع بصر، والثاني جمع بصيرة كما ستقف عليه هناك إن شاء الله. وقال بعضهم إن هذا النوع من الجناس لا يكون بين حقيقة ومجاز، وان الابصار الثاني في تلك الآية ليس من باب الحقيقة بل في المجاز والاستعارة، لأن البصيرة تجمع على بصائر لا على الابصار، ولأن علماء العربية قالوا إن صيغة أفعال من جمع القلة وهو لا يطرد إلا في اسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار، أو مكسورها كغيب وأغياب، أو مضمومها كرطب وأرطاب، وساكن العين كثوب وأثواب، أو محركها كعضد وأعضاد
460
وفخذ وأفخاذ، وصفة فعائل من جموع الكثرة وهي لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثه مدّة كسحابة وسحائب، وبصيرة وبصائر، وحلوبة وحلائب، وشمال وشمائل، وعجوز وعجائز، وسعيد علم على امرأة وسعائد، وقد استعيرت الأبصار للبصائر مجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز، وقد ظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز وانكسر التجنيس فيها، وهو بغير محله لما ذكرنا أن الساعة عبارة عن قطعة من الزمن وكلاهما حقيقة فيه، تأمل. قال تعالى «فَيَوْمَئِذٍ» يوم قيام الساعة «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ» ولا احتجاجهم لأن قبول العذر والتوبة محلّهما الدنيا، وقد انقضت «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ٥٧ يسترضون لربهم فلا تطلب منهم العتبى وهي الاسترضاء لفوات محلها، وبعد أن حق عليهم العذاب فلا مناص لهم منه. وقال بعضهم: إن العتبى من الإعتاب بمعنى إزالة البعث كالعطاء والاستعطاء أن لا يطلب منهم إزالة عتب الله أي غضبه لا بالتوبة ولا بالطاعة ولا غيرهما «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليعتبروا فيه فلم يعتبروا، وهذا إشارة إلى عدم قبول الاعتذار في الآخرة «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ» من الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل، أو مما نزل على من قبلك «لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ» أيها الرسل «إِلَّا مُبْطِلُونَ» ٥٨ فيما جئتم به، فكان شأنهم معك كشأنهم مع الرسل قبلك، لأنهم كلوا يأتونهم بالحق ويكذبونهم ويرمونهم بالباطل من القول، ويصمونهم بالافتراء فلم ينتفعوا بما نضرب لهم من الأمثال ونقص عليهم من القصص ونذكرهم به من الأخبار السالفة «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع البليغ المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ٥٩ الجهلة الذين علم الله اختيارهم الضلال على الهدى والكفر على الإيمان، ولذلك وصموا مرشديهم بما لا يليق بهم لشدة توغلهم بالكفر.
واعلم أن الكفر أربعة أنواع: الأول أن يقر بالإيمان بلسانه ولا يعتقد صحته بقلبه وهذا كفر النفاق. الثاني أن لا يتعرف على الله أصلا ككفر فرعون إذ يقول (ما علمت لكم من إله غيري) وهذا كفر إنكار. الثالث أن يعرف الله بقلبه ولا يقره بلسانه كإبليس، وهذا كفر جحود. الرابع أن يعرف الله يقلبه
461
ويقر به بلسانه ولا يدين به كأمية بن الصلت وهذا كفر عناد. ومنه كفر أبي طالب قبل إيمانه في آخر رمق من حياته على قول ابن عباس أو بعد مماته على ما جاء بأن الله أحيا له أبوبه وعمه أبا طالب فآمنوا به إكراما لحضرته المقدسة ولما لأبي طالب عليه من الأيادي البيضاء، والقول بما ذكره ابن عباس أولى لأن الإيمان بعد الموت لا عبرة به إلا أن يكون خاصة له وإكراما لحفيده، وما عام إلا وقد خصص، وما ذكرنا من أقواله في الآية ٥٦ من سورة القصص المارة في ج ١ والآية ٢٦ من سورة الأنعام المارة تدل على أنه عارف بربه معتقد صحة رسالة ابن أخيه وأن الذي منعه من التصريح بالإسلام مخافة مذمة قريش. والجهل اثنان بسيط وهو من لا يعرف صاحبه ما هو للعلم، ومركب وهو مثل الأول إلا أن صاحبه لا يعرف نفسه أنه لا يعرف، وهذا هو الذي يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب الحق، ولهذا قالوا هو شر من البسيط، وما الطف ما قيل في هذا:
قال حمار الحكيم يوما... لو أنصفوني لكنت أركب
لأني جاهل بسيط... وصاحبي جاهل مركب
وقيل فيه أيضا:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني... ولو كنت أعلم ما تقول عذلتكا
ولكن جهلت مقالتي فعذلتني... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
وقال الآخر:
فبايعا هذا ببخس معجل... غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم
فإن قلت لا أدري فتلك مصيبة... وإن قلت أدري فالمصيبة أعظم
وأمثال هذا كثير. قال تعالى «فَاصْبِرْ» يا خاتم الرسل على أذاهم فقد أظلك ما وعدناك به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» في نصرك وإعلاء كلمتك ثابت في أزلنا إنجازه فدم على ما أنت عليه «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» ٦٠ أي لا يحملونك على العجلة بما تعدهم به فإنهم لا يصدقونك ولا يؤمنون بوعدك الذي وعدك به ربك مع أنه واقع لا محالة، ولكن له أجل لا يسبقه. هذا ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير
462
Icon