تفسير سورة غافر

نظم الدرر
تفسير سورة سورة غافر من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

﴿حم*﴾ أي هذه حكمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي خصه بها الرحمن الرحيم الحميد المجيد مما له من صفة الكمال.
لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله بصدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق في داره التي أعدها له، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال: ﴿تنزيل الكتاب﴾ أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والاكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة، والتدريب للألباب السائرة
2
في جو المعاني والطائرة ﴿من الله﴾ أي الجامع لجميع صفات الكمال. ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر، لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال: ﴿العزيز العليم *﴾.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله ﴿ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل﴾ ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره، فقال الله تعالى ﴿أليس الله بكاف عبده﴾ - إلى قوله: ﴿أليس الله بعزيز ذي انتقام﴾ [الزمر: ٣٧] ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال ﴿قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته﴾ [الزمر: ٣٨] ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال ﴿قل لله الشفاعة جميعاً﴾ [الزمر: ٤٤] ﴿قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة﴾ {أو لم يعلموا
3
أن الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر} ﴿الله خالق كل شيء﴾ ﴿له مقاليد السماوات والأرض﴾ ثم عنفهم وقرَّعهم بجهلهم فقال تعالى ﴿أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون﴾ ثم قال تعالى ﴿وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه﴾ ثم اتبع تعالى - ذلك بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين، فتبارك المتفرد بالعزة والقهر، فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه، أعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى: ﴿حمتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم﴾ فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيهاً على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق ما أخر الجزاء الحتم للدار الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، مع قهره للكل في الدارين معاً، وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره، ثم قال تعالى ﴿غافر الذنب وقابل التوب﴾ تأنيساً لمن استجاب بحمده، وأناب بلطفه، وجرياً على حكم الرحمة وتغليبها، ثم قال ﴿شديد العقاب ذي الطول﴾ ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من الخوف والرجاء، واكتنف قوله ﴿شديد العقاب﴾ بقوله ﴿غافر الذنب وقابل التوب﴾ وقوله ﴿ذي الطول﴾ وأشار سبحانه بقوله - ﴿فلا يغررك تقلبهم في البلاد﴾ - إلى قوله قبل ﴿وأورثنا الأرض﴾ وكأنه في تقدير: إذا
4
كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد، ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم، وجدالهم في الآيات كجدالهم، وأن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب، وسبق لهم في أم الكتاب - انتهى.
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران - وهو محو الذنب عيناً وأثراً - مترتباً على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله: ﴿غافر الذنب﴾ أي بتوبة وغير توبة إن شاء، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة. قال السمين: نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن الكوفيون شيئاً.
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون: قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف
5
بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال: ﴿وقابل التوب﴾ وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة. ولما كان الاقتصار على الترغيب بما أطمع عذر المتمادي من سطوته، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم﴾ [النحل: ٦١] فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ: ﴿شديد العقاب *﴾ على أن تنكيره وإبهامه - كما قال الزمخشري - للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها.
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معرياً عن الواو لأن التمام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه: ﴿ذي الطول﴾ أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال: ﴿لا إله إلا هو﴾ ولما أنتج
6
هذا كله تفرده، أنتج قطعاً قوله: ﴿إليه﴾ أي وحده ﴿المصير *﴾ أي في المعنى في الدنيا، وفي الحس والمعنى في الآخرة، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده.
ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جواباً لما يعرض لهم من الشبه، فدل بإزاحته كل علة عى ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بياناً لا خفاء في شيء منه، أنتج قول ذماً لمن يريد إبطاله وإخفاءه: ﴿ما يجادل﴾ أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده ﴿في آيات﴾ وأظهر موضع الإضمار تعظيماً للآيات فقال: ﴿الله﴾ أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها، أو غيره بالتشكيك له، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى ﴿إلا الذين كفروا﴾ أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبساً على أنفسهم وتلبيساً على غيرهم.
ولما ثبت أن الحشر لا بد منه، وأن الله تعالى قادر كل قدرة
7
لأنه لا شريك له وهو محيط بجميع أوصاف الكمال، تسبب عن ذلك قوله: ﴿فلا يغررك تقلبهم﴾ أي تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم ﴿في البلاد *﴾ فإنه لا يكون التفعل بالقلب إلا عن قهر وغلبة، فتظن لإمهالنا إياهم أنهم على حق، أو أن أحداً يحميهم علينا، فلا بد من صيرورتهم عن قريب إلينا صاغرين داخرين، وتأخيرهم إنما هو ليبلغ الكتاب أجله.
8
ولما نهى عن الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمداً ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين، فقال مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة، وتلاشيهم عند المصادمة، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم: ﴿كذبت﴾ ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم، جعل مستغرقاً بجميع الزمان، فقال من غير خافض: ﴿قبلهم﴾ ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع، وحدهم فقال: ﴿قوم نوح﴾ أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام
8
بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء. ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال: ﴿والأحزاب﴾ أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله: ﴿من بعدهم﴾.
ولما كان التذكيب وحده كافياً في الأذى، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال: ﴿وهمَّت كل أمة﴾ أي من الأحزاب المذكورين ﴿برسولهم﴾ أي الذي أرسلناه إليهم. ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال: ﴿ليأخذوه﴾ ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً: ﴿وجادلوا بالباطل﴾ أي الأمر الذي لا حقيقة له، وليس له من ذاته إلا الزوال، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب، ثم بين علة مجادلتهم فقال: ﴿ليدحضوا﴾ أي ليزلقوا فيزيلوا ﴿به الحق﴾ أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته.
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب، وأن
9
فعله مسبب لغضب المرسل عليه، قال صارفاً القول إلى المتكلم دفعاً للالباس، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغاراً لهم: ﴿فأخذتهم﴾ أي أهلكتهم وهم صاغرون غضباً عليهم وإهانة لهم. ولما كان أخذه عظيماً، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال: ﴿فكيف كان عقاب *﴾ ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد.
ولما كان التقدير: فحقت عليهم كلمة الله لأخذهم على هذا الجدال إنهم أصحاب النار التي جادلوا فيها، عطف عليه قوله: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ، فلم يقدروا على التفصي من حقوقها ﴿حقت﴾ بالأخذ والنكال ﴿كلمت﴾ وصرف الكلام إلى صفة الإحسان تلطفاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارة له بالرفق بقومه فقال: ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بجميع أنواع الإحسان فهو لا يدع أعداءك.
ولما كان السياق للمجادلة بالباطل وهي فتل الخصم من اعتقاده الحق،
10
وذلك تغطية للدليل الحق وتلبيس، كان الحال أحق بالتعبير بالكفر الذي معناه التغطية فلذا قال تعالى: ﴿على الذين كفروا﴾ أي أوقعوا الكفر وقتاً ما كلهم سواء هؤلاء العرب وغيرهم، لأن علة الإهلاك واحدة، وهي التكذيب الدال على أن من تلبس به مخلوق للنار، ثم أبدل من «الكلمة» فقال: ﴿أنهم أصحاب النار *﴾ أي من كفر في حين من الأحيان فهو مستحق للنار في الأخرى كما أنه مستحق للأخذ في الدنيا لا يبالي الله به بالة، فمن تداركته الرحمة بالتوبة، ومن أوبقته اللعنة بالإصرار هلك.
ولما بين عداوة الكفار للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم بقوله: ﴿وما يجادل في آيات الله﴾ ما بعده، وكان ذلك أمراً غائظاً محزناً موجعاً، وختم ذلك ببيان حقوق كلمة العذاب عليهم تسلية لمن عادوهم فيه سبحانه، زاد في تسليتهم شرحاً لصدورهم وتثبيتاً لقلوبهم ببيان ولاية الملائكة المقربين لهم مع كونهم أخص الخلق بحضرته سبحانه وأقربهم من محل أنسه وموطن قدسه وبيان حقوق رحمته للذين آمنوا بدعاء أهل حضرته لهم فقال، أو يقال: إنه لما بين حقوق كلمة العذاب، كان كأنه قيل: فكيف النجاة؟ قيل: بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية،
11
فيغفر له إن تاب ما قدم من الكفر، فقال مظهراً لشرف الإيمان وفضله: ﴿الذين يحملون العرش﴾ وهم المقربون وهم أربعة كما يذكر إن شاء الله تعالى في الحاقه، فإذا كانت القيامة كانوا ثمانية، وهل هم أشخاص أو صفوف فيه كلام يذكر إن شاء الله تعالى ﴿ومن حوله﴾ وهم جميع الملائكة وغيرهم ممن ربما أراد الله كونه محيطاً به كما تقدم في التي قبلها ﴿وترى الملائكة حافين من حول العرش﴾ أي طائفين به، فأفادت هذه العبارة النص على الجميع مع تصوير العظمة.
ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه: ﴿يسبحون﴾ أي ينزهون أي يوقعون تنزيهه سبحانه عن كل شائبة نقص ملتبسين ﴿بحمد﴾ وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد، وكائنون تحت تصرفه وقهره، وإحسانه وجبره، فقال: ﴿ربهم﴾ أي باحاطة المحسن إليهم بأوصاف الكمال.
ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة، لا فرق بينهم
12
في ذلك وبين ما هو في الأرض السفلى بقوله: ﴿ويؤمنون به﴾ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب. ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف، فهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة وهكذا، وكانوا قد علموا من تعظيم الله تعالى للنوع الإنساني ما لم يعلمه غيرهم لأمره سبحانه لهم بتعظيمه بما اختص به سبحانه من السجود، وكان من أقرب ما يقترب به إلى الملك التقرب إلى أهل وده، نبه سبحانه على ذلك كله بقوله: ﴿ويستغفرون﴾ أي يطلبون محو الذنوب أعياناً وآثاراً.
ولما كان الاشتراك في الإيمان أشد من الاتحاد في النسب، قال دالاً على أن الاتصاف بذلك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعثه على إمحاض الشفقة: ﴿للذين آمنوا﴾ أي أوقعوا هذه الحقيقة لما بينهم من أخوة الإيمان ومجانسته وإن اختلف جنسهم في حقيقة التركيب وإن وقع منهم بعد ذلك خلل يحق عليهم الكلمة لولا العفو ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ ﴿ويعفو عن كثير﴾ «لن يدخل أحد الجنة بعمله». ولما ذكر استغفارهم بين عبارتهم عنه بقوله: ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره. ولما كان المراد بيان اتساع رحمته
13
سبحانه وعلمه، وكان ذلك أمراً لا يحتمله العقول، عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهاً على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال: ﴿وسعت كل شيء﴾ ثم بين جهة التوسع بقوله تميزاً محولاً عن الفاعل: ﴿رحمة﴾ أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك ﴿وعلماً﴾ أي وأحاط بهم علمك، فمن أكرمته فعن علم بما جلبته عليه مما يقتضي إهانة أو إكراماً.
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك، قالوا منبهين على ذلك: ﴿فاغفر للذين تابوا﴾ أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها ﴿واتبعوا﴾ أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا ﴿سبيلك﴾ المستقيم الذي لا لبس فيه. ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا: ﴿وقهم عذاب الجحيم *﴾ أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك، ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء.
14
ولما كانت النجاة من العذاب لا تستلزم الثواب، قالوا مكررين صفة
14
الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان: ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بتوفيق أحبابنا الذين لذذونا بالمشاركة في عبادك بالجنان واللسان والأركان ﴿وأدخلهم جنات عدن﴾ أي إقامة لا عناد فيها. ولما كانوا عالمين بأن سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقبح منه شيء، نبهوا على ذلك بقولهم: ﴿التي وعدتهم﴾ مع الزيادة في التملق واللطافة في الحث وإدخالهم لأجل استعمالك إياهم الصالحات.
ولما كان الإنسان لا يطيب له نعيم دون أن يشاركه فيه أحبابه الذين كانوا يشاركونه في العبادة قالوا مقدمين أحق الناس بالإجلال: ﴿ومن صلح من آبائهم﴾ ثم أتبعوهم ألصقهم بالبال فقالوا: ﴿وأزواجهم وذرياتهم﴾. ولما كان فاعل هذا منا ربما نسب إلى ذل أو سفه، وربما عجز عن الغفران لشخص لكثرة المعارضين، عللوا بقولهم مؤكدين لأجل نسبة الكفار العز إلى غيره، ومن ذلك تسميتهم العزى: ﴿إنك أنت﴾ أي وحدك ﴿العزيز﴾ فأنت تغفر لمن شئت غير منسوب إلى وهن ﴿الحكيم *﴾ فكل فعل لك في أتم مواضعه فلذلك لا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه.
ولما كان الإنسان قد يغفر له ويكرم، وفيه من الأخلاق ما ربما
15
حمله على بعض الأفعال الناقصة دعوا لهم بالكمال فقالوا: ﴿وقهم السيئات﴾ أي بأن تجعل بينهم وبينها وقاية بأن تطهرهم من الأخلاق الحاملة عليها بتطهير القلوب بنزع كل ما يكره منها أو بأن يغفرها لهم ولا يجازيهم عليها، وعظموا هذه الطهارة ترغيباً في حمل النفس في هذه الدار على لزومها بقمع النفوس وإماتة الحظوظ بقولهم: ﴿ومن تق السيئات﴾ أي جزاءها كلها ﴿يومئذ﴾ أي يوم إذ تدخل فريقاً الجنة وفريقاً النار المسببة عن السيئات أو إذ تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين: ﴿فقد رحمته﴾ أي الرحمة الكاملة التي لا يستحق غيرها أن يسمى معها رحمة، فإن تمام النعيم لا يكون إلا بها لزوال التحاسد والتباغض والنجاة من النار باجتناب السيئات ولذلك قالوا: ﴿وذلك﴾ أي الأمر العظيم جداً ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الفوز العظيم *﴾ فالآية من الاحتباك: ذكر إدخال الجنات أولاً دليلاً على حذف النجاة من النار ثانياً، ووقاية السيئات ثانياً دليلاً على التوفيق للصالحات أولاً، وسر ذلك التشويق إلى المحبوب - وهو الجنان - بعمل المحبوب - وهو الصالح - والتنفير من النيران باجتناب الممقوت من الأعمال، وهو السيء فذكر المسبب أولاً وحذف السبب لأنه لا سبب في الحقيقة إلا الرحمة، وذكر السبب ثانياً
16
في إدخال النار وحذف المسبب.
ولما أتم الذين آمنوا، فتشوفت النفس إلى معرفة ما لأضدادهم، قال مستأنفاً مؤكداً لإنكارهم هذه المناداة بانكار يومها: ﴿إن الذين كفروا﴾ أي أوقعوا الكفر ولو لحظة ﴿ينادون﴾ أي يوم القيامة بنداء يناديهم به من أراد الله من جنوده أو في الدار أرفع نعماً - أنهم آثر عند الله من فقراء المؤمنين، أكد قوله: ﴿لمقت الله﴾ أي الملك الأعظم إياكم بخذلانكم ﴿أكبر من مقتكم﴾ وقوله: ﴿أنفسكم﴾ مثل قوله تعالى: ﴿انظر كيف كذبوا على أنفسهم﴾ جاز على سبيل الإشارة إلى تنزه الحضرة المقدسة عما لزم فعلهم من المقت، فإن من دعا إلى أحد فأعرض عنه إلى غيره كان إعراضه مقتاً للمعرض عنه، وهذا المقت منهم الموجب لمقت الله لهم موصل لهم إلى عذاب يمقتون به أنفسهم، والمقت أشد البغض؛ ثم ذكر ظرف مقتهم العائد وباله عليهم بقوله: ﴿إذا﴾ أي حين، وأشار إلى أن الإيمان لظهور دلائله ينبغي أن يقبل من أي داع كان، فبنى الفعل لما لم يسم فاعله فقال: ﴿تُدعون إلى الإيمان﴾ أي بالله وما جاء من عنده ﴿فتكفرون *﴾ أي فتوقعون الكفر الذي هو تغطية الآيات موضع إظهارها والإذعان بها،
17
وهذا أعظم العقاب عند أولي الألباب، لأن من علم أن مولاه عليه غضبان علم أنه لا ينفعه بكاء ولا يغني عنه شفاعة ولا حيلة في خلاصه بوجه.
ولما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث، وكانوا قد استقروا العوائد، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد، من أن كل ثان لا بد له من ثالث، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان عن موت، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب: ﴿قالوا ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا ﴿أمتَّنا اثنتين﴾ قيل: واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم﴾ [آية: ٢٨] وأما الصعق فليس بموت، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم، والضب على الشهادتين، والفرس حين قال لها
18
فارسها ثبي إطلال على قولها وثباً وسورة البقرة ﴿وأحييتنا اثنين﴾ واحدة في البطن، وأخرى بالبعث بعد الموت، أو واحدة بالبعث وأخرى بالإقامة من الصعق، أو الإقامة في القبر، فشاهدنا قدرتك على البعث ﴿فاعترفنا﴾ أي فتسبب عن ذلك أنّا اعترفنا بعد تكرر الإحياء ﴿بذنوبنا﴾ الحاصلة بسبب إنكار البعث لأن من لم يخش العاقبة بالغ في متابعة الهوى، فذلك توبة لنا ﴿فهل إلى خروج﴾ أي من النار ولو على أدنى أنواع الخروج بالرجوع إلى الدنيا فنعمل صالحاً ﴿من سبيل﴾ فنسلكه فنخرج ثم تكون لنا موتة ثالثة وإحياءة ثالثة إلى الجنة التي جعلتها جزاء من أقر بالبعث.
ولما كان الجواب قطعاً: لا سبيل إلى ذلك، علله بقوله: ﴿ذلكم﴾ أي القضاء النافذ العظيم العالي بتخليدكم في النار مقتاً منه لكم ﴿بأنه﴾ أي كان بسبب أنه ﴿إذا دُعي الله﴾ أي وجدت ولو مرة واحدة دعوة الملك الأعظم من أي داع كان ﴿وحده﴾ أي محكوماً له بالوحدة أو منفرداً من غير شريك ﴿كفرتم﴾ أي هذا طبعكم دائماً رجعتم إلى الدنيا أولاً ﴿وإن يشرَك به﴾ أي يوقع الإشراك به ويجدد ولو بعدد الأنفاس من أي مشرك كان ﴿تؤمنوا﴾ أي بالشركاء وتجددوا ذلك غير متحاشين ومن تجديد الكفر وهذا مفهم لأن
19
حب الله للإنسان أكبر من حبه له الدال عليه توفيقه له في أنه إذا ذكر الله وحده آمن، وإن ذكر معه غيره على طريقة تؤل إلى الشركة كفر بذلك الغير وجعل الأمر لله وحده ﴿فالحكم﴾ أي فتسبب عن القطع بأن لا رجعة، وأن الكفار ما ضروا إلا أنفسهم مع ادعائهم العقول الراجحة ونفوذ ذلك أن كل حكم ﴿لله﴾ أي المحيط بصفات الكمال خاص به لا دخل للعوائد في أحكامه بل مهما شاء فعل إجراء على العوائد او خرقاً لها ﴿العلي﴾ أي وحده عن أن يكون له شريك، فكذب قول أبي سفيان يوم أحد «اعل هبل» وقول ابن عربي أحد أتباع فرعون أكذب وأقبح وأبطل حيث قال: العلي علا عن من وما ثم إلا هو، فعليه الخزي واللعنة وعلى من قال بقوله وعلى من توقف في لعنه.
ولما كانت النفوس لا تنقاد غاية الانقياد للحاكم إلا مع العظمة الزائدة والقدم في المجد، قال معبراً بما يجمع العظمة والقدم: ﴿الكبير *﴾ الذي لا يليق الكبر إلا له، وكبر كل متكبر وكبر كل كبير متضائل تحت دائرة كبره وكبره، وعذابه مناسب لكبريائه فما أسفه من شقي بالكبراء فإنهم يلجئون أنفسهم إلى أن يقولوا ما لا يجديهم ﴿ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا﴾ : ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك
20
بقوله ذاكراً من آيات الآفاق العلوية ما يرد الموفق عن غيه: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي يريكم﴾ أي بالبصر والبصيرة ﴿آياته﴾ أي علاماته الدالة على تفرده بصفات الكمال تكميلاً لنفوسكم، فينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بإعادة ما تحطم فيها من الحبوب فتفتتت بعد موتها بصيرورة ذلك الحب تراباً لا تميز له عن ترابها فيتذكر به البعث لمن انمحق فصار تراباً وضل في تراب الأرض حتى لا تميز له عنه من طبعه الإنابة، وهو الرجوع عما هو عليه من الجهل إلى الدليل بما ركز في فطرته من العلم، وذلك هو معنى قوله: ﴿وينزل لكم﴾ أي خاصاً بنفعكم أو ضركم ﴿من السماء﴾ أي جهة العلو الدالة على قهر ما نزل منها بإمساكه إلى حين الحكم بنزوله ﴿رزقاً﴾ لإقامة أبدانكم من الثمار والأقوات بانزال الماء فهو سبحانه يدلكم عليه ويتحبب إليكم لتنفعوا أنفسكم وأنتم تتبغضون إليه وتتعامون عنه لتضروها ﴿وما يتذكر﴾ ذلك تذكراً تاماً - بما أشار إليه الإظهار - فيقيس عليه بعث من أكلته الهوام، وانمحق باقيه في الأرض ﴿إلا من ينيب *﴾ أي له أهلية التجديد في كل وقت للرجوع إلى
21
الدليل بأن يكون حنيفاً ميالاً للطافته مع الدليل حيثما مال. ما هو بحلف جامد ما الفه، ولا يحول عنه أصلاً، لا يصغي إلي قال ولا قيل، ولو قام على خطابه كل دليل.
22
ولما كان كل من الناس يدعي أنه لا يعدل عن الدليل، وكان كل أحد مأموراً بالنظر في الدليل مأموراً بالإنابة لما دل عليه من التوجه إلى الله وحده، كان ذلك سبباً في معرفة الكل التوحيد الموجب لاعتقاده القدرة التامة الموجب لاعتقاد البعث، فكان سبباً لإخلاصهم، فقال تعالى مسبباً عنه: ﴿فادعوا﴾ وصرح بالاسم الأعظم تدريباً للمخلصين على كيفية الإخلاص فقال: ﴿الله﴾ أي المتوحد بصفات الكمال دعاء خضوع وتعبد بعد الإنابة بعد النظر في الدليل ﴿مخلصين له الدين﴾ أي الأفعال التي يقع الجزاء عليها، فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً اجتهد في تصفية أعماله، فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص.
ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى: ﴿ولو كره﴾ أي الدعاء منكم ﴿الكافرون *﴾ أي الساترون لأنوار عقولهم، والإخلاص أن
22
يفعل العباد لربهم مثل ما فعل لهم فلا يفعلوا فعلاً من أمر أو نهي إلا لوجهه خاصة من غير غرض لأنفسهم بجلب شيء من نفع أو ضر، وذلك لأنه سبحانه فعل لهم كل إحسان من الخلق والرزق ولأنفسهم خاصة لا لغرض يعود عليه - سبحانه وما أعز شأنه - بنفع ولا ضر، فلا يكون شكرهم له إلا بما تقدم، لكنه لما علم سبحانه بأن أباح لهم العمل لأجل الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه، ولم يجعل ذلك قادحاً في الإخلاص، قال الاستاذ أبو القاسم القشيري: ولولا إذنه في ذلك لما كان في العالم مخلص.
ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه
23
وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العباد مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره: هو ﴿رفيع الدرجات﴾ أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات.
ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في ﴿سأل﴾ بصيغة منتهى الجموع ﴿المعارج﴾ - ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف: ﴿ذو العرش﴾ أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان.
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال: ﴿يلقي الروح﴾ أي الذي تحيى به الأرواح
24
حياة الأشباح بالأرواح ﴿من أمره﴾ أي من كلامه، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك. ولما كان أمره عالياً على كل أمر، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: ﴿على من يشاء﴾ ولما كان ما رأوه من الملوك لا يتمكنون من رفع كل من أرادوا من رقيقهم، نبه على عظمته بقوله: ﴿من عباده﴾ وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم ﴿أو أنزل عليه الذكر من بيننا﴾ [ص: ٨] بأنه عليه السلام المخلص في عباده لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين، فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات. قال الرازي: قال ابن عطاء: حياة القلب على حسب ما ألقي إليه من الروح، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة، ومنهم من ألقي إليه روح النبوة، ومنهم من ألقي إليه روح الصديقية والكشف والمشاهدة، ومنهم من ألقي إليه روح العلم والمعرفة، ومنهم من ألقي إليه روح العبادة
25
والخدمة، ومنهم من ألقي إليه روح الحياة فقط، ليس له علم بالله ولا مقام مع الله، فهو ميت في الباطن، وله الحياة البهيمية التي يهتدي بها إلى المعاش دون المعاد - انتهى. وبالجملة فكل من هذه الأرواح منطق لمن ألقي عليه مطلق للسانه ببديع بيانه وإن اختلف نطقهم في بيانهم، وتصرفهم في عظيم شأنهم.
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال: ﴿لينذر﴾ أي الذي اختصه سبحانه بروحه، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعه درجاته وسفول درجات غيره ﴿يوم التلاق *﴾ أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جداً في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين: أحدهما بالآخر
26
فإنه - والله أعلم - قل ما يكون حتى يفترقا بالأمر بكل إلى داره: الأسعدين بغير حساب، والأخسرين لا يقام لهم وزن، وأشار الإثبات في الموقف دون الوصل إلى الأمر الوسط وهي لمن بقي لقاءهم يمتد إلى حين القصاص لبعضهم من بعض.
ولما أفهم ذلك عدم الحجاب من بيوت أو جبال، أو أشجار أو تلال، أو غير ذلك من سائر ذوات الظلال، نبه عليه في قوله معيداً ذكر اليوم لأنه أهول له: ﴿يوم هم﴾ أي بظواهرهم وبواطنهم ﴿بارزون﴾ أي برزوا لا ساتر فيه أصلاً.
ولما كان من المعلوم عندهم إنما لا ساتر له معلوم، أجرهم على ما يعهدون، وعبر بعبارة تعم ذلك فقال مستأنفاً في جواب من ظن أنه قد يخفي عليه شيء عن الساتر معظماً الأمر بإظهار الاسم الأعظم: ﴿لا يخفى على الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿منهم شيء﴾ أي من ذواتهم ولا معانيهم سواء ظهروا أو استتروا في هذا اليوم وفي غيره.
ولما كان من العادة المستمرة أن الملك العظيم إذا أرسل جيشه إلى من طال تمردهم عليه وعنادهم له فظفروا بهم وأحضروهم إليه أن يناديهم مناديه وهم وقوف بين يديه قد أخرستهم هيبته وأذلتهم عظمته
27
بلسان قاله أو لسان حاله بما يبكهم به ويوبخهم ويؤسفهم على ما مضى من عصيانهم ويندمهم قال: ﴿لمن الملك اليوم﴾ أي يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فيجيبون بلسان الحال أو المقال كما قال بعض من قال:
سكت الدهر طويلاً عنهم قد أبكاهم دماً حين نطق
﴿لله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال، ثم دل على ذلك بقوله: ﴿الواحد﴾ أي الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسمة ولا غيرها ﴿القهار *﴾ أي الذي يقهر من يشاء متكرراً وصفه بذلك دائماً أبداً لما ثبت من غناه المطلق بوحدانيته الحقيقة.
ولما أخبر عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب، أخبرهم بما يزيد رعبهم، ويبعث رغبهم ورهبهم، وهو نتيجة تفدره بالملك قال: ﴿اليوم تجزى﴾ أي تقضى وتكافأ، بناه للمفعول لأن المرغب المرهب نفس الجزاء ولبيان سهولته عليه سبحانه ﴿كل نفس﴾ لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت من إهمال أحد منهم.
28
ولما كان السياق للملك والقهر يقتضي الجزاء واعتماد الكسب الذي هو محط التكليف بالأمر والنهي ويقتضي النظر في الأسباب، لأن ذلك شأن الملك، قال معبراً بالباء والكسب: ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿كسبت﴾ أي عملت، وهي تظن أنه يفيدها سواء بسواء بالكيل الذي كالت يكال لها.
ولما كانت السببية مفهمة للعدل، فإن الزيادة تكون بغير سبب، قال معللاً نافياً مثل ما كانوا يتعاطونه من ظلم بعضهم لبعض في الدنيا: ﴿لا ظلم﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿اليوم﴾ ولما كان استيفاء الخلائق بالمجازاة أمراً لا يمكن في العادة ضبطه، ولا يتأنى حفظه وربطه، فكيف إذا قصدت المساواة في مثاقيل الدر فما دونها:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
ضافت النفوس من خوف الطول، فخفف عنها بقوله معلماً أن أموره على غير ما يعهدونه، ولذلك أكد وعظم باظهار الاسم الأعظم: ﴿إن الله﴾ أي التام القدرة الشامل العلم ﴿سريع الحساب *﴾ أي بليغ السرعة فيه، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير، ولا يشغله شأن عن شأن لأنه لا يحتاج إلى تكلف عد، ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب، ولا شيء، فكان في ذلك ترجية للفريقين
29
وتخويف، لأن الظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، والمؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب.
30
ولما تم هذا على هذا الوجه المهول، وكان يوم القيامة له أسماء تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله، منها يوم البعث وهو ظاهر، ومنها يوم التلاق لما تقدم، ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه خسارته، ومنها يوم الآزفة لقربه وسرعة أخذه، وكان كأنه قيل خطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأمن ممن ألقينا هذا الروح الأعظم من أمرنا فأنذرهم ما مضى من يوم التلاقي وما عقبناه به، عطف عليه قوله زيادة في بيان هوله إعلاماً بأنه مع ثبوته وثبوت التلاقي فيه قريب تحذيراً من تزيين إبليس للشهوات وتقريره بالتسويف بالتوبة: ﴿وأنذرهم﴾ أي هؤلاء المعرضين إعراض من لا يجوز الممكن ﴿يوم الآزفة﴾ أي الحالة الدائبة العاجلة السريعة جداً مع الضيق في الوقت وسوء العيش لأكثر الناس، وهي القيامة، كرر ذكرها الإنذار منها تصريحاً وتلويحاً تهويلاً لها وتعظيماً لشأنها.
ولما ذكر اليوم، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال:
30
﴿إذ القلوب﴾ أي من كل من حضره. ولما كان هذا الرعب على وجه غريب باطن، عبر ب «لدى» فقال: ﴿لدى الحناجر﴾ أي حناجر المجموعين فيه إلا من شاء الله، وهي جمع حنجور وهي الحلقوم وزناً ومعنى، يعني أنها زالت عن أمكانها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج وصارت مواضعها من الأفئدة هواء، وكانت الأفئدة معترضة كالشجا لا هي ترجع إلى مقارها فيستريحوا ولا تخرج فيموتوا.
ولما كان الحديث - وإن كان في الظاهر عن القلوب - إنما هو عن أصحابها، جمع على طريقة جمع العقلاء، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم، وبها صلاح الجملة وفسادها، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال: ﴿كاظمين﴾ أي ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً، ساكتين مكروبين، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم. ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات، قال مستأنفاً: ﴿ما للظالمين﴾ أي العريقين في الظلم منهم ﴿من حميم﴾ أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم
31
مزيل لكروبهم، قال ابن برجان: والحميم: الماء الحار الناهي في الحرارة، سمي القريب به لأنه يحمي لقريبه غضباً، والغضب حرارة تعرض في القلب تخرج إلى الوجه فيحمر وتنتفخ الأوداج فيستشيط غيظاً ﴿ولا شفيع يطاع *﴾ أي ليس لهم شفيع أصلاً لأن الشفيع يعلم أنه لو شفع ما أطيع فهو لا ينفع، وقد يشفع في بعضهم بعض المقربين لعلامة فيهم يحصل بها اشتباه يظن بهم أنهم ممن يستحق الشفاعة فينبه على أنهم ليسوا بذلك، فيبرأ منهم.
ولما كانت الشفاعة إنما تقع وتنفع بشرط براءة المشفوع له من الذنب إما بالاعتراف بما نسب إليه والإقلاع عنه، وإما بالاعتذار عنه، وكان ذلك إنما يجري عند المخلوقين على الظاهر، ولذلك كانوا ربما وقع لهم الغلط فيمن لو علموا باطنه لما قبلوا الشفاعة فيه، علل تعالى ما تقدم بعلمه أن المشفوع له ليس بأهل لقبول الشفاعة فيه لإحاطة علمه فقال: ﴿يعلم خائنة﴾ ولما كان السياق هنا للابلاغ في أن علمه تعالى محيط بكل كلي وجزئي، فكان من المعلوم أن الحال يقتضي جمع الكثرة، وأنه ما عدل عنه إلى جمع القلة إلا للاشارة إلى أن علمه تعالى بالكثير كعلمه بالقليل الكل، عليه هين، فالكثير عنده في ذلك قليل فلذا قال: ﴿الأعين﴾ أي خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهي الإشارة بالعين،
32
قال أبو حيان: من كسر وغمز ونظر يفهم منه ما يراد - انتهى.
وذلك يفعل بفعل ما يخالف الظاهر، ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر، أتبعه أخفى ما في الباطن فقال: ﴿وما تخفي الصدور *﴾ أي عن المشفوع عنده وغير ذلك.
ولما كان العفو عن الظالم الذي لا يرجع عن ظلمه نقصاً، لكونه لا حكمة فيه، عبر بالاسم الأعظم في جملة حالية فقال: ﴿والله﴾ أي والحال أن المتصف بجميع صفات الكمال ﴿يقضي بالحق﴾ أي الثابت الذي لا يصح أصلاً نفيه، فلو قضى فيمن يعلم أنه ليس بأهل للشفاعة فيه بقبول الشفاعة لنفى الحق وأثبت الباطل فخالف ذلك الكمال ﴿والذين يدعون﴾ أي الظالمون - على قراءة الجماعة، وأيها الظالمون - على قراءة نافع وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالخطاب للمواجهة بالإزراء. ولما كانت المراتب دون عظمته سبحانه لا تنحصر ولا يحتوي عليها كلها شيء، أثبت الجار فقال: ﴿من دونه﴾ أي سواه، ومن المعلوم أنهم خلقه فهم دون رتبته لأنهم في قهره ﴿لا يقضون بشيء﴾ من الأشياء أصلاً، فضلاً عن أن يقضوا بما يعارض حكمه، فلا مانع له من القضاء بالحق، فلا مقتضى لقبول الشفاعة فيمن يعلم عراقته في
33
الظلم أنه لا ينفك عنه.
ولما أخبر أنه لا فعل لشركائهم، وأن الأمر له وحده، علل ذلك بقوله مرهباً من الخيانة وغيرها من الشر، مرغباً في كل خير، مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكاراً ذلك: ﴿إن الله﴾ عبر به لأن السياق لتحقير شركائهم وبيان أنها في غاية النقصان ﴿هو﴾ أي وحده. ولما ذكر ما هو غيب، وصفه بأظهر ظاهر فقال: ﴿السميع﴾ أي لكل ما يمكن أن يسمع ﴿البصير *﴾ أي بالبصر والعلم لكل ما يمكن أن يبصر ويعلم، فلا إدراك لشركائهم أصلاً ولا لشيء غيره بالحقيقة، ومن لا إدراك له ولا قضاء له، فثبت أن الأمر له وحده، فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كل أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيشفع، فيشفعه الله تعالى فيفصل سبحانه بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره: جنته أو ناره، روى الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة
34
رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوة فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة، فقال:
«أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فذكر سؤالهم أكابر الأنبياء، وكل واحد منهم يحيل على الذي بعده إلى أن يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يأتونه: أنا لها، فينطلق فيسجد تحت العرش» - وهو مروي عن غير أبي هريرة عن أنس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن لم أر فيه التصريح بالشفاعة العامة بعد رفع رأسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السجود إلا فيما رواه البخاري في الزكاة من صحيحه في باب «من سأل الناس تكثراً» عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي
35
بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم»، وكذا فيما رواه أيو يعلى في مسنده فقال: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في طائفة من أصحابه فقال: «إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فذكر النفخ فيه للموت ثم للبعث ثم ذكر الحشر» - وهو حديث طويل جداً إلى أن قال: «ثم يقفون موقفاً واحداً مقدار سبعين عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماً وتعرقون إلى أن يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الأذقان، فتضجون وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا يقضى بيننا، فتقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلاً، فتأتون آدم فتطلبون ذلك إليه فيأبى فيقول: ما أنا بصاحب ذلك، ثم يستقربون الأنبياء نبياً نبياً كلما جاؤوا نبياً أبى عليهم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حتى تأتوني، فأنطلق حتى آتي الفحص فأخر ساجداً
36
فقال أبو هريرة: يا رسول الله! ما الفحص؟ قال: قدام العرش - حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول لي: يا محمد! فأقول: نعم يا رب! فيقول: ما شأنك - وهو أعلم فأقول: يا رب وعدتني فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال: قد شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينكم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً فنزل أهل السماء الدنيا مثل من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل من نزل من الملائكة، ومثل الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام، والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهو اليوم على أربعة - إلى أن قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يهتف بصوته فيقول: يا معشر الجن والإنس! إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يوم يومكم هذا أسمع قولكم، وأبصر أعمالكم، فانصتوا لي فإنما هي أعمالكم
37
وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول الله عز وجل ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون﴾ [يس: ٦٠-٦٣]- أو بها تكذبون - شك أبو عاصم، ﴿وامتازوا اليوم أيها المجرمون﴾ [يس: ٥٩] فتسمى النار وتجثو الأمم وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيقضي بين خلقه»
- فذكره وهو طويل جداً، ثم ذكر الصراط وبعض الشفاعات الخاصة في أهل الجنة، فذكر دخولهم الجنة ثم أنهم يشفعون في بعض أهل النار إلى أن قال: «ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع»
إلى أن قال: «ثم يقول الله عز وجل: بقيت أنا وأنا أرحم الراحمين. فيدخل الله يده في جهنم فيخرج منها لا يحصيه غيره» وروى ابن حبان في صحيحه - قال المنذري: ولا أعلم في إسناده مطعناً - عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة. يا رباه، فيقول الرب جل وعلا: يا لبيكاه، فيقول إبراهيم: يا رب حرقت بني - فيقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة أو شعيرة من الإيمان» وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وأحمد بن منيع: «يلقى رجل
38
أباه يوم القيامة فيقول: يا أبة! أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم، فيقول: نعم، فيقول خذ بازرتي، فيأخذ بازرته، ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض بعض الخلق، فيقول: يا عبدي! ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول: أي ربي، وأبي معي فإنك وعدتني أن لن تخزيني، فيعرض عنه ويقضي بين الخلق ويعرضهم ثم ينظر إليه فيقول: يا ابن آدم ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي ربي وأبي معي فإنك قد وعدتني أن لن تخزيني قال: فيمسخ الله أباه ضبعاً أمذر أو أمجر» - شك أبو جعفر أحد رواة ابن منيع - «فيأخذ بأنفه فيقول: أبوك هو، فيقول: ما هو بأبي، فيهوي في النار» وهو في البخاري في أحاديث الأنبياء وتفسير الشعراء بلفظ: «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آذر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك: لا تعصني، فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى عن أبي الأبعد، فيقول الله تعالى:
39
إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم عليه السلام: انظر ما تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ - وهو ذكر الضبعان - متلطخ فيؤخذ بقوامه فيلقى في النار»، وروى أبو يعلى الموصلي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة فتقطعه النار يريد أن يدخله الجنة، قال: فينادى أن الجنة لا يدخلها مشرك، ألا إن الله قد حرم الجنة على كل مشرك قال: فيقول: أي رب! أبي، فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة فيتركه، فكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرون أنه إبراهيم عليه السلام»، وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب على المنبر يقول:
«إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيدة وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم
40
شهيداً ما دمت فيهم} - إلى قوله: ﴿وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ [المائدة: ١١٨] » ورواه الترمذي والنسائي بنحوه، ومن نحو ما قال عيسى عليه السلام قول إبراهيم عيله السلام كما حكاه الله عنه ﴿فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم﴾ وروى مسلم في الإيمان من صحيحه والنسائي في التفسير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام» ﴿رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فأنه مني﴾ الآية - وقال عيسى عليه السلام ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ فرفع يديه وقال: اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي - وبكى «، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله: فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك»، وللشيخين في الحوض والفتن ومسلم في فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سهل بن سعد وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنا فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ
41
أبداً، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم» - زاد أبو سعيد رضي الله عنه: فأقول: «إنهم مني - فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي» ولمسلم وابن ماجه - وهذا لفظه - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر خطبته في الحج ثم قال: «ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم، ولا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذ أناساً ومستنقذ مني أناس فأقول: يا رب: أصحابي أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولفظ مسلم: «أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواماً ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب! أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولمسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو بين ظهراني أصحابه:
«إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم، فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا
42
يرجعون على أعقابهم» وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لغيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، ولتصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول يا رب هؤلاء أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ وفي رواية: بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج من بيني وبينهم رجل، فقال: هلم؛ فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم، فقال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم. أي ضوالها - أي الناجي قليل، وفي رواية لمسلم في الوضوء: ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً» قال المنذري:
43
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.
44
ولما وعظهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار، وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار، أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة من تتبع الديار والاعتبار، بما كان لهم فيها من عجائب الآثار، من الحصون والقصور وسائر الأبنية الصغار والكبار، فقال موبخاً ومقرراً عاطفاً على ما تقديره ألم يتعظوا بما أخبرناهم به من الظالمين الأولين من تبعهم من الإهلاك في الدنيا المتصل بالشقاء في الأخرى: ﴿أو لم يسيروا﴾ ولما كان المتقدمون من الكثرة والشدة والمكنة بحيث لا يعلمه إلا الله ولا يقدر آدمي على الإحاطة بمساكنهم، نبه عليه بقوله: ﴿في الأرض﴾ أي أي أرض ساروا فيها وعظتهم بما حوت من الأعلام.
ولما كان السير سبباً للنظر قال: ﴿فينظروا﴾ أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم. ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة، نبه عليها بقوله: ﴿كيف﴾ أي أنها أهل لأن يسأل عنها، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله: ﴿كان عاقبة﴾ أي آخر
44
أمر ﴿الذين كانوا﴾ أي سكاناً للأرض عريقين في عمارتها. ولما كان المنتفع بالوعظ يكفيه أدنى شيء منه، نبه على ذلك بالجار فقال: ﴿من قبلهم﴾ أي قبل زمانهم ﴿كانوا﴾ ولما كان السياق لمجادلة قريش لإدحاض الحق مع سماعهم لأخبار الأولين، كانوا كأنهم ادعوا أنهم أشد الناس، فاقتضى الحال تأكيد الخبر بأن الأولين أشد منهم، فأكدر أمرهم فيما نسبه إليهم معبراً بضمير الفصل بقوله: ﴿هم﴾ أي المتقدمون، لما لهم من القوى الظاهرة والباطنة.
ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة، وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول: ما كان أمرهم؟ :﴿أشد منهم﴾ أي هؤلاء - قرأه ابن عامر ﴿منكم﴾ بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتفات للتنصيص على المراد ﴿قوة﴾ أي ذواتاً ومعاني ﴿و﴾ أشد ﴿آثاراً في الأرض﴾ لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن.
ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة رسله، فكان ذلك سبب هلاكهم قال: ﴿فأخذهم الله﴾ أي
45
الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة، ولما لم يتقدم شيء يسند إليه أخذهم، قال مبيناً ما أخذوا به: ﴿بذنوبهم﴾ أي التي سببت لهم الأخذ ولم يغن عنهم شيء من ذلك الذي أبطرهم حتى عتوا به على ربهم ولا شفع فيهم شافع ﴿وما كان لهم﴾ أي من شركائهم الذين ضلوا بهم كهؤلاء ومن غيرهم ﴿من الله﴾ أي عوض المتصف بجميع صفات الكمال، أو كوناً مبتدئاً من جهة عظمته وجلاله، وأكد النفي بزيادة الجار فقال: ﴿من واق *﴾ أي يقيهم مراده سبحانه فيهم، لا من شركائهم ولا من غيرهم، فعلم أن الذين من دونه لا يقضون بشيء، ويجوز أن تكون «من» الأولى ابتدائية على بابها تنبيهاً على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه لهم وقاية لم تكن لهم باقية بخلاف من عاقبه الله عقوبة تأديب، فإن عذابه يكون سبب بقائه لما يحصل له منه سبحانه من الوقاية.
ولما ذكر سبحانه أخذهم ذكر سببه بما حاصله أن الاستهانة بالرسول استهانة بمن أرسله في قوله: ﴿ذلك﴾ أي الأخذ العظيم ولما كان مقصود السورة تصنيف الناس في الآخرة صنفين، فكانوا إحدى عمدتي الكلام، أتى بضميرهم فقال: ﴿بأنهم﴾ أي الذين كانوا من قبل ﴿كانت تأتيهم﴾ أي شيئاً فشيئاً في الزمان الماضي على وجه قضاه سبحانه فأنفذه ﴿رسلهم﴾ أي الذين هم منهم ﴿بالبينات﴾
46
أي الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها.
ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب، عبر بالماضي فقال: ﴿فكفروا﴾ أي سببوا عن إتيان الرسل عليهم الصلاة والسلام الكفر موضع ما كان إتيانهم سبباً له من الإيمان.
ولما سبب لهم كفرهم الهلاك قال: ﴿فأخذهم﴾ أي أخذ غضب ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم. ولما كان قوله ﴿فكفروا﴾ معلماً بسبب أخذهم لم يقل: بكفرهم، كما قال سابقاً: بذنوبهم، لإرشاد السباق إليه. ولما كان اجتراؤهم على العظائم فعل منكر للقدرة، قال مؤكداً لعملهم عمل من لا يخافه: ﴿إنه قوي﴾ لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ﴿شديد العقاب *﴾.
ولما كان ذلك عجباً لأن البينات تمنع من الكفر، فكان تقدير لمن ينكر الإرسال على هذه الصفة: فلقد أرسلناهم كذلك، وكان موسى عليه السلام من أجل المرسلين آيات، عطف على ذلك تسلية ونذارة لمن أدبر، وإشارة لمن استبصر قوله: ﴿ولقد﴾ ولفت القول إلى مظهر العظمة كما في الآيات التي أظهرها بحضرة هذا
47
الملك المتعاظم من الهول والعظم الذي تصاغرت به نفسه وتحاقرت عنده همته وانطمس حسه، فقال: ﴿أرسلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿موسى بآياتنا﴾ أي الدالة على جلالنا ﴿وسلطان﴾ أي أمر قاهر عظيم جداً، لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه ﴿مبين *﴾ أي بين في نفسه مناد لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر جداً، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول ألى أذاه مع ما له من القوة والسلطان ﴿إلى فرعون﴾ أي ملك مصر. ولما كان الأكابر أول من يتوجه إليه الأمر لأن بانقيادهم ينقاد غيرهم قال: ﴿وهامان﴾ أي وزيره. ولما كان من أعجب العجب أن يكذب الرسول من جاء لنصرته واستنقاذه من شدته قال: ﴿وقارون﴾ أي قريب موسى عليه السلام ﴿فقالوا﴾ أي هؤلاء ومن تبعهم، أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في التيه، فدل ذلك على أنه
48
لم يزل قائلاً به، لأنه لم يتب منه ﴿ساحر﴾ لعجزهم عن مقاهرته، ولم يقل، «سحار» لئلا يتوهم أحد أنه يمدحه بالبراعة في علم السحر فتتحرك الهمم للإقبال عليه للاستفادة منه وهو خبر مبتدأ محذوف، ثم وصفوه بقولهم: ﴿كذاب *﴾ لخوفهم من تصديق الناس له، فبعث أخصّ عباده به إلى أخسّ عباده عنده ليقيم الحجة عليه، وأمهله عندما قابل بالتكذيب وحلم عنه حتى أعذر إليه غاية الإعذار.
ولما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مباردتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة: ﴿فلما جاءهم﴾ أي موسى عليه السلام ﴿بالحق﴾ أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً ﴿من عندنا﴾ على ما لنا من القهر، فآمن معه طائفة من قومه ﴿قالوا﴾ أي فرعون وأتباعه ﴿اقتلوا﴾ أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح ﴿أبناء الذين آمنوا﴾ أي به فكانوا ﴿معه﴾ أي
49
خصوهم بذلك واتركوا من عداهم لعلهم يكذبونه ﴿واستحيوا نساءهم﴾ أي اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن.
ولما كان هذا أمراً صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران، أشار إلى أنه سبحان خرق العادة بإبطاله فقال: ﴿وما﴾ أي والحال أنه ما كيدهم - هكذا كان الأصل ولكنه قال: ﴿كيد الكافرين﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف ﴿إلا في ضلال﴾ أي مجانبة للسدد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله، ما حفر أحد منهم لأحدم منهم حفرة مكر إلا أركبه الله فيها.
ولما أخبر تعالى بفعله بمن تابع موسى عليه السلام، أخبر عن فعله معه بما علم به أنه عاجز فقال: ﴿وقال فرعون﴾ أي أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله وملاّه ما رأى منه خوفاً وذعراً، دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً عنه، موهماً أن آله هم الذين يردونه عنه، وأنه لولا ذلك قتله: ﴿ذروني﴾ أي اتركوني
50
على أيّ حالة كانت ﴿أقتل موسى﴾ وزاد في إيهام الأغبياء والمناداة على نفسه عند البصراء بالفضيحة بقوله: ﴿وليدع ربه﴾ أي الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه الأمر صعب جداً لأنه كان منهم من يوهي أمره بأنه لا يؤثر ما هو فيه شيئاً أصلاً تقرباً إلى فرعون، وإظهاراً للثبات على متابعته ﴿إني أخاف﴾ أي إن تركته ﴿أن يبدل دينكم﴾ أي الذي أنتم عليه من نسبة الفعل إلى الطبيعة بما يدعو إليه من عبادة إلهه.
ولما ألهبهم بهذا الكلام إلى ممالأتهم له على موسى عليه السلام، زاد في ذلك بقوله: ﴿وأن يظهر﴾ أي بسببه - على قراءة الجماعة بفتح حرف المضارعة ﴿في الأرض﴾ أي كلها ﴿الفساد *﴾ وقرأ المدنيان والبصريان وحفص بالضم إسناداً إلى ضمير موسى عليه السلام وبنصب الفساد أي بفساد المعائش فإنه إذا غلب علينا قوي على من سوانا، فسفك الدماء وسبى الذرية، وانتهب الأموال، ففسدت الدنيا مع فساد الدين، فسمى اللعين الصلاح - لمخالفته لطريقته الفاسدة - فساداً كما هو
51
شأن كل مفسد مع المصلحين، وقرأ الكوفيون ويعقوب «أو أن» بمعنى أنه يخاف وقوع أحد الأمرين: التبديل أو ظهور ما هو عليه مما سماه فساداً، وإن لم يحصل التبديل عاجلاً فإنه يحصل به الوهن.
52
ولما أعلم بمقالة العدو، أتبعه الإعلام بقول الولي فقال: ﴿وقال موسى﴾ إبطالاً لهذا القول وإزالة لآثاره مؤكداً لما استقر في النفوس من قدرة فرعون: ﴿إني عذت﴾ أي اعتصمت عند ابتداء الرسالة ﴿بربي﴾ ورغبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله: ﴿وربكم﴾ أي المحسن إلينا أجمعين، فأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا ﴿من كل متكبر﴾ أي عاتٍ طاغ متعظم على الحق هذا وغيره ﴿لا يؤمن﴾ أي لا يتجدد له تصديق ﴿بيوم الحساب *﴾ من ربه له وهو يعلم أنه لا بد من حسابه هو لمن تحت يده من رعاياه وعبيده فيحكم على ربه بما لا يحكم به على نفسه، ومعنى العوذ أنه لا وصول لأحد منهم إلى قتلي بسبب عوذي، هذا أمر قد فرغ منه مرسلي لخلاصكم، القادر على كل شيء.
ولما انقضى كلام الرأسين، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه لا بد أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم، واجتهد في جمع مفترق
52
علنهم وسرهم، قال تعالى مخبراً عن كلام بعض الأتباع في بعض ذلك: ﴿وقال رجل﴾ أي كامل في رجوليته ﴿مؤمن﴾ أي راسخ الإيمان فيما جاء به موسى عليه السلام. ولما كان للإنسان، إذا عم الطغيان، أن يسكن بين أهل العدوان، إذا نصح بحسب الإمكان، أفاد ذلك بقوله: ﴿من آل فرعون﴾ أي وجوههم ورؤسائهم ﴿يكتم إيمانه﴾ أي يخفيه إخفاء شديداً خوفاً على نفسه لأن الواحد إذا شذ عن قبيلة يطمع فيه ما لا يطمع إذا كان واحداً من جماعة مختلفة، مخيلاً لهم بما يوقفهم عن الإقدام على قتله من غير تصريح بالإيمان.
ولما رآهم قد عزموا على القتل عزماً قوياً أوقع عليه اسم القتل، فقال منكراً له غاية الإنكار: ﴿أتقتلون رجلاً﴾ أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنى، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال: ﴿أن﴾ أي لأجل أن ﴿يقول﴾ ولو على سبيل التكرير: ﴿ربي﴾ أي المربي لي والمحسن إليّ ﴿الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد ﴿جاءكم بالبينات﴾ أي الآيات الظاهرات من غير لبس ﴿من ربكم﴾ أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف له بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى
53
اعترافكم له بها.
ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرح بإيمانه، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره، فقال مشيراً إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقاً أو كاذباً، مقدماً القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه: ﴿وإن﴾ أي والحال أنه إن.
ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة: قتلهم خير الناس إذ ذاك، وإتيانهم بالعذاب، واطلاعهم على إيمانه، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن، حذف النون فقال: ﴿يك كاذباً فعليه﴾ أي خاصة ﴿كذبه﴾ يضره ذلك وليس عليكم منه ضرر، ولم يقل: أو صادقاً، وإن كان الحال مقتضياً لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه، فيكون قد أخل ببعض الأدب، فقال مظهراً لفعل الكون عادلاً عما له إلى ما عليهم معادلاً لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهاراً للنصفة ودفعاً للتهمة عن نفسه: ﴿وإن يك﴾ حذف نونه لمثل ما مضى ﴿صادقاً يصبكم﴾ أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه
54
ينفعه ولا ينفعكم شيئاً.
ولما كان العاقل من نظر لنفسه فلم يرد كلام خصمه من غير حجة، وكان أقل ما يكون من توعد من بانت مخايل صدقه البعض، قال ملزماً الحجة بالبعض، غير ناف لما فوقه إظهاراً للانصاف وأنه لم يوصله حقه فضلاً عن التعصب له نفياً للتهمة عن نفسه: ﴿بعض الذي﴾ وقال: ﴿يعدكم﴾ دون «يوعدكم» إشارة إلى أنهم إن وافوه أصابهم جميع ما وعدهموه من الخير، وإلا دهاهم ما توعدهم من الشر، والآية من الاحتباك: ذكر اختصاصه بضر الكذب أولاً دليلاً على ضده وهو اختصاصه بنفع الصدق ثانياً، وإصابتهم ثانياً دليلاً على إصابته أولاً، وسره أنه ذكر الضار في الموضعين، لأنه أنفع في الوعظ لأن من شأن النفس الإسراع في الهرب منه، ولقد قام أعظم من هذا المقام - كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مظهر إيمانه وقد جد الجد بتحقق الشروع في الفعل حيث اخذ المشركون بمجامع ثوب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يطوف بالبيت فالتزمه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول هذه الآية، ودموعه
55
تجري على لحيته حتى فرج الله وقد مزقوا كثيراً من شعر رأسه - رضي الله عنه.
ولما كان فرعون قد نسب موسى عليه الصلاة والسلام بما زعمه من إرادته إظهار الفساد إلى الإسراف بعد ما نسبه إليه من الكذب، علل هذا المؤمن قوله هذا الحسن في شقي التقسيم بما ينطبق إلى فرعون منفراً منه مع صلاحيته لإرادة موسى عليه الصلاة والسلام على ما زعمه فيه فرعون فقال: ﴿إن الله﴾ أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ﴿لا يهدي﴾ أي إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر ﴿من هو مسرف﴾ أي بإظهار الفساد متجاوز للحد، وكأنه رضي الله عنه جوز أن يتأخر شيء مما توعد به فيسموه كذباً، ولذا قال ﴿يصبكم بعض الذي يعدكم﴾ فعلق الأمر بالمبالغة فقال: ﴿كذاب *﴾ لأن أول خذلانه وضلاله تعمقه في الكذب، ويهدي من هو مقتصد صادق، فإن كان كاذباً كما زعمتم ضره كذبه، ولم يهتد لوجه يخلصه، وإن كان صادقاً أصابتكم العقوبة ولم تهتدوا لما ينجيكم، لاتصافكم
56
بالوصفين.
ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه، شرع في وعظهم إظهاراً للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكراً لهم بنعمة الله عليهم محذراً لهم من سلبها مستعطفاً بذكر أنه منهم: ﴿يا قوم﴾ وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال: ﴿لكم الملك﴾ ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله: ﴿اليوم﴾ وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله: ﴿ظاهرين﴾ أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى، بقوله معبراً بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيباً لهم: ﴿في الأرض﴾ أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها، قد غلبتم الناس عليها.
ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه، فلذلك قال: ﴿فمن ينصرنا﴾ أي أنا وأنتم، أدرج نفسه فيهم عن ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة: ﴿من بأس الله﴾ أي الذي له الملك كله، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى
57
في التدرع منه فقال: ﴿إن جاءنا﴾ أي غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله، ويجوز أن يكون صادقاً، بل يجب اعتقاد ذلك لما أظهره من الدلائل، وفي قوله هذا تسجيل عليهم بأنهم يعرفون أن الله ملك الملوك ورب الأرباب، وكذا قول موسى عليه السلام ﴿لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض﴾ [الاسراء: ١٠٢] وأن ادعاء فرعون الإلهية إنما هو محض عناد.
ولما سمع فرعون ما لا طعن له فيه، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن، فتشوف السامع لجوابه، أخبر تعالى أنه رد رداً دون رد بقوله: ﴿قال فرعون﴾ أي لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن دالاً بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه: ﴿ما أريكم﴾ أي من الآراء ﴿إلا ما أرى﴾ أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي، أي إن ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه. ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه، ويكون تطابقهما على ضلال، قال: ﴿وما أهديكم﴾ أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره ﴿إلا سبيل الرشاد *﴾ أي الذي أرى أنه صواب، لا أبطن شيئاً وأظهر غيره، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح
58
من كلام المؤمن لأنه ارتاب في أمره، وفي هذا أنه في غاية الرعب من أمر موسى عليه السلام لاستشارته لقومه في أمره واحتمال هذه المراجعات التي يلوح منها أنه يكاد ينفطر غيظاً منه ولكنه يتجلد.
ولما ظهر لهذا المؤمن رضي الله عنه أن فرعون ذل لكلامه، ولم يستطع مصارحته، ارتفع إلى أصرح من الأسلوب الأول فأخبرنا تعالى عنه بقوله مكتفياً في وصفه بالفعل الماضي لأنه في مقام الوعظ الذي ينبغي أن يكون من أدنى متصف بالإيمان بعد أن ذكر عراقته في الوصف لأجل أنه كان في مقام المجاهدة والمدافعة عن الرسول عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام الذي لا يقدم عليه إلا راسخ القدم في الدين: ﴿وقال الذي آمن﴾ أي بعد قول فرعون هذا الكلام الذي هو أبرد من الثلج الذي دل على جهله وعجزه وذله ﴿يا قوم﴾ وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم من اتهامه فقال: ﴿إني أخاف عليكم﴾ أي من المكابرة في أمر موسى عليه الصلاة والسلام. ولما كان أقل ما يخشى يكفي العاقل، وكانت قدرة الله سبحانه عليهم كلهم على حد سواء لا تفاوت فيها فكان هلاكهم كلهم كهلاك نفس واحدة، أفرد فقال: ﴿مثل يوم الأحزاب *﴾ مع أن إفراده أروع وأقوى في التخويف وأفظع للاشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على
59
إهلاكهم في أقل زمان.
60
ولما أجمل فصل وبين أو بدل بعد أن هول، فقال بادئاً بمن كان عذابهم مثل عذابهم، ودأبهم شبيهاً بدأبهم: ﴿مثل دأب﴾ أي عادة ﴿قوم نوح﴾ أي فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المحاولة والمقاومة لما يريدونه ﴿وعاد وثمود﴾ مع ما بلغكم من جبروتكم. ولما كان هؤلاء أقوى الأمم، اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال: ﴿والذين﴾ وأشار بالجار إلى التخصيص بالعذاب لئلا يقال: هذه عادة الدهر، فقال: ﴿من بعدهم﴾ أي بالقرب من زمانهم لا جميع من جاء بعدهم.
ولما كان التقدير: أهلكهم الله وما ظلمهم، عبر عنه تعميماً مقروناً بما تضمنه من الخبر بدليله فقال: ﴿وما الله﴾ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال. ولما كان في مقام الوعظ لهم ومراده ردهم عن غيهم بكل حال، علق الأمر بالإرادة لأنها متى ارتفعت انتفى الظلم، ونكر تعميماً فقال: ﴿يريد ظلماً﴾ أي يتجدد منه أن يعلق إرادته وقتاً ما بنوع ظلم ﴿للعباد *﴾ لأن أحد لا يتوجه أبداً إلى أنه يظلم عبيده الذين هم تحت قهره، وطوع مشيئته وأمره، ومتى لم يعرفوا حقه وأرادوا البغي على من يعرف حقه عاقبهم ولا بد، وإلا كان كفه ظلماً
60
للمبغي عليهم.
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر، لأنه لا يسوغ أصلاً أن ملكاً يدع عبيده يبغي بعضهم على بعض من غير إنصاف بينهم ونحن نرى أكثر الخلق يموت مقهوراً من ظالمه، ومكسوراً من حاكمه، فعلم قطعاً أن الموت الذي لم يقدر ولا يقدر أحد أصلاً أن يسلم منه إنما هو سوق إلى دار العرض وساحة الجزاء للقرض - كما جرت به عادة الملوك إذا وكلوا بمن يأمرون باحضاره إليهم لعرضه عليهم ليظهر التجلي في صفات الجبروت والعدل، ومظاهر الكرم الفضل قال: ﴿ويا قوم﴾ ولما كانوا منكرين للبعث أكد فقال: ﴿إني أخاف﴾ وعبر بأداة الاستعلاء زيادة في التخويف فقال: ﴿عليكم﴾ ولما كان قد سماه فيما مضى بالتلاقي والآزفة لما ذكر، عرف هنا أن الخلق فيه وجلون خائفون وأنهم لكثرة الجمع ينادُون وينادَون للرفعة أو الضعة وغير ذلك من الأمور المتنوعة التي مجموعها يدل على ظهور الجبروت وذل الخلق لما يظهر لهم من الكبرياء والعظموت فقال: ﴿يوم التناد *﴾ أي أهواله وما يقع فيه، فينادي الجبار سبحانه بقوله {ألم أعهد إليكم
61
يا بني آدم أن لا تعبدو الشيطان} وينادونه «بلى يا ربنا» وتنادي الملائكة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب «يا فلان ابن فلان أقبل لفصل النزاع» وينادي ذلك العبد «ألا سمعاً وطاعة» وينادي الفائز «ألا نعم أجر العاملين» وينادي الخائب «ألا بئس منقلب الظالمين» وينادي أصحاب الأعراف وأهل الجنة أهل النار وأهل النار أهل الجنة وينادي الكل حين يذبح الموت، ويدعى كل أناس بإمامهم، وتتنادى الملائكة وقد أحاطوا بالثقلين صفوفاً مترتبة ترتب السماوات التي كانوا بها بالتسبيح والتقديس، وترتفع الأصوات بالضجيج، بعضهم بالسرور وبعضهم بالويل والثبور، وتنادي ألسن النيران: أي الجبارون أين المتكبرون، وتنادي الجنة، أين المشمرون في مرضاة الله والصابرون، فيا له يوماً يذل فيه العصاة العتاة ويعز المنكسرة قلوبهم من أجل الله وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في آخرين بتشديد الدال من التناد على أنه مصدر تنادّ من ند البعير - إذا هرب ونفر، وهو كقوله يوم
﴿يفر المرء من أخيه﴾ [عبس: ٣٤] وتقدم في حذف ياء التلاق وإثباتها ما يمكن الفطن تنزيله هنا. ولما كانت عادة المتنادين الإقبال، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً:
62
﴿يوم تولون مدبرين﴾ أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى ﴿والملك على أرجائها﴾ [الحاقة: ١٧] وينادي المنادي ﴿يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان﴾ [الرحمن: ٣٣].
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره، قال مبيناً حالهم: ﴿ما لكم من الله﴾ أي الملك الجبار الذي لا ند له، وأعرق في النفي فقال: ﴿من عاصم﴾ أي مانع يمنعكم مما يراد فما لكم من عاصم أصلاً، فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه.
ولما كان التقدير: لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من احوالكم في هذا اليوم، عطف عليه قوله معمماً: ﴿ومن يضلل اللهُ﴾ أي الملك المحيط بكل شيء الباطن في اردية الجلال الظاهر في مظاهر القهر والجمال، إضلالاً جبله عليه فهو في غاية البيان - بما أشار إليه الفلك ﴿فما له من هاد *﴾ أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه، وأما الضلال العارض فيزيله الله لمن يشاء من عباده، وهذا لا يعرف إلا بالخاتمة كما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري: فمن مات على شيء فهو مجبول عليه.
63
ولما كان حاصل ما مضى من حالهم في أمر موسى عليه السلام أنه جاءهم بالبينات فشكوا فيها، وختم بتحذيرهم من عذاب الدنيا والآخرة، عطف عليه شك آبائهم في مثل ذلك، فقال مبيناً أنهم مستحقون لما حذر منه العذاب ليشكروا نعمة الله في إمهاله إياهم ويحذروا نقمته إن تمادوا وأكد لأجل إنكارهم أن يكونوا أتو ببينة، وافتتح بحرف التوقع لأن حالهم اقتضت توقع ذلك ودعت إليه: ﴿ولقد جاءكم﴾ أي جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد، ومن أنهم على طبائعهم لا سيما إن كانوا لم يفارقوا مساكنهم: ﴿يوسف﴾ أي نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي قبل زمن موسى عليه السلام: ﴿بالبينات﴾ أي الآيات الظاهرات ولا سيما في أمر يوم التناد ﴿فما زلتم﴾ بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم ﴿في شك﴾ أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن ﴿مما جاءكم به﴾ من التوحيد وما يتبعه، ودل على تمادي شكهم بقوله: ﴿حتى إذا هلك﴾ وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة ﴿قلتم﴾ أي
64
من عند أنفسكم بغير دليل كراهة لما جاء به وتضجرا منه جهلاً بالله تعالى: ﴿لن يبعث الله﴾ أي الذي له صفات الكمال.
ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل، أدخل الجار فقال: ﴿من بعده﴾ أي يوسف عليه السلام ﴿رسولا﴾ وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله.
ولما كان كأنه قيل: هذا ضلال عظيم هل ضل أحد مثله؟ أجيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن ﴿يضل﴾ وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخص الإضلال بالحيثية الماضية، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده ﴿الله﴾ أي بما له من صفات القهر ﴿من هو مسرف﴾ أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر.
ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال: ﴿مرتاب *﴾
65
أي يشك فيما لا يقبل الشك ويتهم غيره بما لا حظّ للتهمة فيه، أي ديدنه التذبذب في الأمور الدينية، فلا يكاد يحقق أمراً من الأمور، ولا إسراف ولا ارتياب أعظم من حال المشرك فإنه منع الحق أهله وبذله لمن لا يستحقه بوجه، وهذه الآية دليل على أن القبط طول الدهر على ما نشاهده من أنه لا ثقة بدخولهم في الدين الحق، ولا ثبات لهم في الأعمال الصالحة.
66
ولما ظهر ظهوراً لا يحتمل شكاً بما أتى به موسى عليه السلام من البينات أن شكهم في رسالة الماضي وجزمهم في الحكم بنفي رسالة الآتي أعظم ضلال وأنه من الجدال الذي لا معنى له إلا فتل المحق عما هو عليه من الحق إلى ما عليه المجادل من الضلال، وصل بذلك قوله على سبيل الاستنتاج ذماً لهم بعبارة تعم غيرهم: ﴿الذين﴾ أي جدال من ﴿يجادلون﴾ أي يقاتلون ويخاصمون خصاماً شديداً ﴿في آيات الله﴾ أي المحيطة بأوصاف الكمال لا سيما الآيات الدالة على يوم التناد، فإنها أظهر الآيات على وجوده سبحانه وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل.
ولما كان الجدال بالتي هي أحسن مشروعاً، وهو بما أمر به
66
قال: ﴿بغير سلطان﴾ أي تسليط ودليل ﴿أتاهم﴾ أي من عند من له الأمر كله ﴿كبر﴾ أي عظم هو، أي الجدال المقدر مضافاً قبل ﴿الذين﴾ وبين ما أبهم من هذا العظم بتمييز محول عن الفاعل فقال: ﴿مقتاً عند الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿وعند الذين آمنوا﴾ أي الذين هم خاصته.
ولما كان فاعل هذا لا يكون إلا مظلم القلب، فكان التقدير: أولئك طبع الله على قلوبهم، وصل به استنئافاً قوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الطبع العظيم ﴿يطبع﴾ أي يختم ختماً فيه العطب ﴿الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿على كل قلب﴾ ولما كان فعل كل ذي روح إنما هو بقلبه، نسب الفعل إليه في قراءة أبي عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين عنه بالتنوين فوصفه بقوله: ﴿متكبر﴾ أي متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله ﴿جبار *﴾ أي ظاهر الكبر قويّه قهار وقراءة الباقين بالإضافة مثلها سراء في أن السور داخل القلب ليعم جميع أفراده غير أن الوصف بالكبر والجبروت للشخص لا للقلب، وهي أبين من القراءة الشاذة بتقديم القلب على كل لأن
67
تقديم كل نص في استغراق أفراد القلوب ممن اتصف بهذا الوصف، ومن المقطوع به أن آحاد القلوب موزعة على آحاد الأشخاص لأنه لا يكون لشخص أكثر من قلب بخلاف ما إذا قدم القلب فإنه قد يدعي أن الشخص الواحد، وأن السور لأجل جمعه لأنواع الكبر والجبروت فيكون المعنى: على قلب شخص جامع لكل فرد من أفراد التكبر والتجبر - والله الموفق.
ولما ذكر الطبع المذكور، دل عليه بما ذكر من قول فرعون وفعله عطفاً على ما مضى من قوله وقول المؤمن، فإنه قصد ما لا مطمع في نيله تيهاً وحماقة تكبراً وتجبراً لكثافة قلبه وفساد لبه، فصار به ضحكة لكل من سمعه هذا إن كان ظن أنه يصل إلى ما أراد وإن كان قصد بذلك التلبيس على قومه للمدافعة عن اتباع موسى عليه السلام إلى وقت ما فقد نادى عليهم بالجهل، والإغراق في قلة الحزم والشهامة والعقل، فقال تعال: ﴿وقال فرعون﴾ أي بعد قول المؤمن هذا، معرضاً عن جوابه لأنه لم يجد فيه مطعناً: ﴿يا هامان﴾ وهو وزيره ﴿ابنِ﴾ وعرفه بشدة اهتمامه به بالإضافة إليه في قوله: ﴿لي صرحاً﴾ أي بناء ظاهراً يعلوه لكل أحد.
قال البغوي: لا يخفى على الناظر وإن بعد. وأصله من التصريح وهو الإظهار، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق،
68
فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي فقال: ﴿لعلي أبلغ الأسباب *﴾ أي التي لا أسباب غيرها لعظمها.
ولما كان بلوغها أمراً عجيباً، أورده على نمط مشوق عليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنها، ليتشوف السامع إلى بيانها، بقوله: ﴿أسباب السماوات﴾ أي الأمور الموصلة إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه.
ولما ذكر هذا السبب، ذكر المسبب عنه فقال: ﴿فاطًّلع﴾ أي فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع ﴿إلى إله موسى﴾ فيكون كما ترى عطفاً على ﴿أبلغ﴾، ونصبه حفص عن عاصم على الجواب تنبيهاً على أن ما أبرزه الخبيث في عداد الممكن إنما هو تمني محال غير ممكن في العادة.
ولما كان من جملة إرادته بذلك مع إيقاف قومه إلى وقت ما عن المتابعة أن يخيلهم بأن يقول: طلعت فبحثت عما قال موسى فلم أقف له على صحة، قدم لهم قوله مبيناً لحاله إذ ذاك لما ظن من ميل قلوبهم إلى تصديق موسى عليه السلام: ﴿وإني لأظنه﴾ أي موسى ﴿كاذباً﴾ فترك الكلام على احتمال أن يريد في الرسالة أو في الإلهية. ولما كان
69
هذا أمراً عجيباً، وهو كون أحد يظن أنه يخيل للعقول أنه يصعد إلى السماء، وأن الإله الذي هو غني عن كل شيء وقد كان ولا شيء معه يكون في السماء، أو في محل من المحال، فإن كل حال في شيء يحتاج إلى محله، وكل محتاج عاجز ولا يصلح العاجز للإلهية لو لم يجئ عن الله لما كان أهلاً لأن يصدق، فكان التقدير: عمله فرعون لأنا زيناه له، عطف عليه زيادة في التعجيب: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك التزيين العظيم الشأن اللاعب بالألباب. ولما كان الضار هو التزيين لا المزين الخاص، بناه للمفعول فقال: ﴿زين﴾ أي زين المزين النافذ الأمر، وهو لله تعالى حقيقة بخلقه وإلزامه لأن كل ما دخل في الوجود من المحدثات فهو خلقه، والشيطان مجازاً بالتسبب بالوسوسة التي هي خلق الله تعالى ﴿لفرعون سوء عمله﴾ في جميع أمره، فاقبل عليه راغباً فيه مع بعده من عقل أقل ذوي العقول فضلاً عن ذوي الهمم منهم فضلاً عن الملوك، وأطاعه فيه وقومه ﴿وصُد﴾ بنفسه ومنع غيره على قراءة الفتح، ومنعه الله - على قراءة الكوفيين ويعقوب بالضم ﴿عن السبيل﴾ أي التي لا سبيل في الحقيقة غيرها، وهو الموصلة
70
إلى الله تعالى.
ولما كان هذا السياق بحيث يظن منه الظان أن لفرعون نوع تصرف، نفى ذلك بقوله: ﴿وما كيد﴾ واعاد الاسم ولم يضمره لئلا يخص بخيثية من الحيثيات فقال: ﴿فرعون﴾ أي في إبطال أمر موسى عليه السلام ﴿إلا في تباب *﴾ أي خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه، وما تعطاه إلا لأنه محمول عليه ومقهور فيه، كما كشف عنه الحال، فدل ذلك قطعاً على أنه لو كان له أدنى تصرف يستقل به لما أنتج فعله الخسار.
ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان، أعرض المؤمن عنه تصريحاً، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحاً في قوله منادياً قومه ومستعطفاً لهم ثلاث مرات: الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة، والأخريان على سبيل التفصيل، فقال تعالى عنه: ﴿وقال الذي آمن﴾ أي مشيراً إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الوعظ: ﴿يا قوم﴾ أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير متهم في نصيحتهم ﴿اتبعون﴾ أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان ﴿أهدكم سبيل﴾
71
أي طريق ﴿الرشاد *﴾ أي الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد لا يوصل إلا إلى الخسار، فهو تعريض به شبيه بالتصريح.
ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال، وكان الداء كله في الإقبال على الفاني، والدواء كله في الإقدام على الباقي، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما يفنى إلى ما يبقى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله ﴿يا قوم﴾ كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال: ﴿إنما هذه الحياة﴾ وحقرها بقوله: ﴿الدنيا﴾ إشارة إلى دناءتها وبقوله: ﴿متاع﴾ إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال.
ولما افتتح بذم الدنيا، ثنى بمدح الآخرة فقال: ﴿وإن الآخرة﴾ لكونها المقصودة بالذات ﴿هي دار القرار *﴾ التي لا تحول منها أصلاً
72
دائم كل شيء من ثوابها وعقابها، فهي للتلذذ والانتفاع والترفه والاتساع لمن توسل إلى ذلك بحسن الاتباع أو للشقاوة والهلاك، لمن اجترأ على المحارم واستخف الانتهاك قال الأصفهاني: قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن.
وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب، فكان الترغيب في نعيم الجنان، والترهيب من عذاب النيران، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب، فالآية من الاحتباك: ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً، والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً.
73
ولما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله أنه بالإقبال على محاسن الأعمال، وترك السيء من الخلال، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا ﴿من عمل سيئة﴾ أي ما يسوء من أي صنف كان: الذكور والإناث
73
والمؤمنين والكافرين ﴿فلا يجزى﴾ أي من الملك الذي لا ملك سواه ﴿إلا مثلها﴾ عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء، فالكافر لما كان على عزم إدامه الكفر كان عذابه دائماً والفاسق لما كان على نية التوبة لاعتقاده أنه في معصية وشر كان عذابه منقطعاً، والآية على عمومها، وما خرج منها بدليل كان مخصوصاً فيخرج عليها جميع باب الجنايات وغيره، ومن قال: إنها في شيء معين، لزمه أن تكون مجملة، لأن ذاك المعين غير مذكور، والتخصيص أولى من الإجمال كما قال أهل الأصول.
ولما بين العدل في العقاب، بين الفضل في الثواب، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال: ﴿ومن عمل صالحاً﴾ أي ولو قل. ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال: ﴿من ذكر أو أنثى﴾ ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه: ﴿وهو﴾ أي عمل والحال أنه ﴿مؤمن﴾ ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال: ﴿فأولئك﴾
74
أي العالو الهمة والمقدار ﴿يدخلون الجنة﴾ أي بأمر من له الأمر كله بعد أن ضاعف لهم أعمالهم فضلاً، والآية من الاحتباك: ذكر المساواة أولاً عدلاً يدل على المضاعفة ثانياً فضلاً، وذكر إدخال الجنة ثانياً يدل على إدخال النار أولاً، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين ﴿يرزقون فيها﴾ أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً ولا إلى أسباب، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول ﴿بغير حساب *﴾ لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، وهذا من باب الفضل، وفضل الله لا حد له، ورحمته غلبت غضبه، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم، قال الأصبهاني: فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب، فأنهدمت قواعد المعتزلة.
ولما بلغ النهاية في نصحهم، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان: هالك وناج، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار، قال مبكتاً لهم بسوء مكافأتهم منادياً لهم مكرراً للنداء لزيادة التنبيه
75
والإيقاظ من الغفلة. والتذكير بأنهم قومه واعضاده، وعاطفاً على ندائه السابق لأنه غير مفصل له ولا داخل في حكمه: ﴿ويا قوم ما﴾ أي أيّ شيء من الحظوظ والمصالح ﴿لي﴾ في أني ﴿أدعوكم إلى النجاة﴾ والجنة بالإيمان شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم ﴿و﴾ مالكم من ذلك في كونكم ﴿تدعونني إلى النار *﴾ والهلاك بالكفران، فالآية من الاحتباك: ذكر النجاة الملازمة للايمان أولاً دليلاً على حذف الجنة أولاً، ومراده هزهم وإثارة عزائمهم إلى الحياة منه بتذكيرهم أن ما يفعلونه معه ليس من شيم أهل المروءة يجازونه على إحسانه إليهم بالإساءة.
ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالاً، بينه بقوله: ﴿تدعونني﴾ أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم ﴿لأكفر﴾ أي لأجل أن أكفر ﴿بالله﴾ أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر ﴿وأشرك﴾ أي أوقع الشرك ﴿به﴾ أي أجعل له شريكاً. ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته إلا العدم، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال:
76
﴿ما ليس لي به علم﴾ أي نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة، فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك، وإذا لم يكن به علم لم يكن له عزة ولا مغفرة، فلم يكن له وجود لأن الملك لازم الإلهية وهو أشهر الأشياء، فما ادعى له أشهر الأشياء، فكان بحيث لا يعرف بوجه من الوجوه، كان عدماً محضاً.
ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلاً عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، فقال مشيراً بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها: ﴿وأنا ادعوكم﴾ أي أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده ﴿إلى العزيز﴾ أي البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء. ولما وصفه بهذا الوصف ترهيباً، صح قطعاً وصفه ترغيباً بقوله: ﴿الغفار *﴾ أي الذي يتكرر له دائماً محو الذنب عيناً وأثراً ولا يقدر على ذلك غير من هو بصفة العزة، ومن صح وصفه بهذين الوصفين فهو الذي لا يجهل ما عليه، من صفات الكمال أحد، فالآية من الاحتباك: ذكراً أولاً عدم العلم دليلاً على العلم ثانياً، وثانياً العزة والمغفرة دليلاً على حذفهما أولاً.
ولما كان انتفاء العلم بالشيء من أهل العلم انتفاء ذلك الشيء في
77
أصول الدين، كان ما دعوه إليه باطلاً، وكان ما دعاهم إليه هو الحق، فلذلك أنتج قطعاً قوله: ﴿لا جرم﴾ وهي وإن كانت بمعنى: لا ظن ولا اضطراب أصلاً - كما مضى في سورة هود عليه السلام فيها معنى العلة، أي فلأجل ذلك لا شك في ﴿أنما﴾ أي الذي ﴿تدعونني إليه﴾ من هذه الأنداد ﴿ليس له دعوة﴾ بوجه من الوجوه، فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة ﴿في الدنيا﴾ التي هي محل الأسباب، الظاهرة لأن شيئا منه ليس له واحد من الوصفين ﴿ولا في الآخرة﴾ لأن ما لا تعلم إلهيته كذلك يكون ﴿وإن﴾ أي ولا اضطراب في أن ﴿مردنا﴾ أي ردنا العظيم بالموت وموضع ردنا ووقته منتهٍ ﴿إلى الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال لما اقتضته عزته، فيجازي كل أحد بما يستحقه ﴿وأنَّ﴾ أي ولا شك في أن ﴿المسرفين﴾ أي المجاوزين للحدود العريقين في هذا الوصف ﴿هم﴾ أي خاصة لأجل حكم الله بذلك عليهم ﴿أصحاب النار *﴾ أي الذين يخلدون فيها لا يفارقونها كما يقتضيه معنى الصحبة لأن إسرافهم اقتضى
78
إسراف ملازمتهم للنار التي طبعها الإسراف، وقد علم أن ربها لا يجزي بالسيئة إلا مثلها.
ولما تقرر أنه لا أمر لغير الله وأنه لا بد من المعاد، تسبب عنه بقوله: ﴿فستذكرون﴾ أي قطعاً بوعد لا خلف فيه مع القرب ﴿ما أقول لكم﴾ حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي وإن لم تقبلوه. ولما ذكر خوفهم الذي لا يحميهم منه شيء ذكر خوفه الذي هو معتمد فيه على الله ليحيمه منه فقال عاطفاً على «ستذكرون» غير مراعى فيها معنى السين: ﴿وأفوض﴾ أي أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله ﴿أمري﴾ فيما تمكرونه بي ﴿إلى الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة فهو يحميني منكم: إن شاء، قال صاحب المنازل: التفويض ألطف إشارة وأوسع من التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام، والتوكل شعبة منه، وهو على ثلاث درجات: الأولى أن تعلم أن العبد لا يملك قبل علمه استطاعة، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعول على نية، والثانية معاينة الاضطرار
79
فلا ترى عملاً منجياً ولا ذنباً مهلكاً ولا سبباً حاملاً، والثالثة شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون والقبض والبسط والتفريق والجمع.
ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة، على ذلك بياناً لمراده بقوله مؤكداً لأن عملهم في مكرهم به عمل من يظن أن سبحانه لا يبصرهم ولا ينصره ﴿إن الله﴾ وكرر الاسم الأعظم بياناً لمراده بأنه ﴿بصير﴾ أي بالغ البصر ﴿بالعباد *﴾ ظاهراً وباطناً، فيعلم من يستحق النصرة لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة.
80
ولما تسبب عن نصحه هذا لهم والتجائه إلى ملك الملوك حفظه منهم على عظم الخطر، قال تعالى مخبراً أنه صدق ظنه ﴿فوقاه الله﴾ أي جعل له وقاية تجنه منهم بما له سبحانه من الجلال والعظمة والكمال جزاء على تفويضه ﴿سيئات﴾ أي شدائد ﴿ما مكروا﴾ ديناً ودنيا، فنجاه مع موسى عليه السلام تصديقاً لوعده سبحانه بقوله ﴿أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ [القصص: ٣٥] ولما كان المكر السيء لا يحيق إلا بأهله قال: ﴿وحاق﴾ أي نزل محيطاً بعد إحاطة الإغراق ﴿بآل فرعون﴾ أي كلهم فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم، فالإحاطة
80
بفرعون من باب الأولى وإن لم نقل: أن الآل مشترك بين الشخص والأتباع، لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه فهو مفهوم موافقة ﴿سوء العذاب *﴾ أي العقوبة المانعة من كل مستعذب، ثم بين ذلك بقوله: ﴿النار﴾ أي حال كونهم ﴿يُعرضون عليها﴾ أي في البرزخ ﴿غدواً وعشياً﴾ أي غادين ورائحين في وقت استرواحهم بالأكل واستلذاذهم به - هذا دأبهم طول أيام البرزخ، وكان عليهم في هذا العرض زيادة نكد فوق ما ورد عاماً مما روى مالك والشيخان وغيرهم عن أن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» ولعل زيادة النكد أنهم هم المعروضون، فيذهب بهم في الأغلال يساقون لينظروا ما أعد الله لهم، وعامة الناس يقتصر في ذلك على أن يكشف لهم - وهو في محالّهم - عن مقاعدهم،
81
ففي ذلك زيادة إهانة لهم، وهو مثل: عرض الأمير فلاناً على السيف إذا أراد قتله، هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة ﴿ويوم تقوم الساعة﴾ يقال لهم: ﴿ادخلوا آل﴾ أي يا آل ﴿فرعون﴾ هو نفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به، وجعله نافع وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص فعل أمر من الإدخال، فالتقدير: نقول لبعض جنودنا: أدخلوا آله لأجل ضلالهم به اليوم ﴿أشد العذاب﴾ وإذا كان هذا لآله لأجله كان له أعظم منه من باب الأولى، وهذه الآية نص في عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب.
ولما كان هذا من خبر موسى عليه السلام وفرعون أمراً غريباً جداً، قل من يعرفه على ما هو عليه، لأنه من خفي العلم، أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: ﴿وإذ﴾ أي اذكر لهم هذا الذي أنبأناك به مما كان في الزمن الأقدم، ولا وصول له إليك إلا من جهتنا، لأنهم يعلمون قطعاً أنك ما جالست عالماً قط، واذكر لهم ما يكون في الزمن الآتي حين ﴿يتحاجون﴾ أي هؤلاء الذين نعذبهم ﴿في النار﴾ أي يتخاصمون فيما أتباعهم ورؤساؤهم بما لا يغنيهم: ﴿فيقول الضعفاء﴾ أي الأتباع
82
﴿للذين استكبروا﴾ أي طلبوا أن يكونوا كبراء.
ولما كانوا لشدة ما هم فيه يتبرأ كل منهم من صاحبه. أكدوا قولهم: ﴿إنا كنا لكم﴾ أي دون غيركم ﴿تبعاً﴾ أي أتباعاً، فتكبرتم على الناس بنا، وهو عند البصريين يكون واحداً كجمل ويكون جمعاً كخدم جمع خادم، ولعله عبر به إشارة إلى أنهم كانوا في عظيم الطواعية لهم على قلب رجل واحد ولما كان الكبير يحمي تابعه، سببوا عن ذلك سؤالهم فقالوا: ﴿فهل أنتم﴾ أي أيها الكبراء ﴿مغنون﴾ أي كافون ومجزون وحاملون ﴿عنا نصيباً من النار *﴾.
ولما أتى بكلام الضعفاء مضارعاً على الأصل، وإشارة مع تصوير الحال لأنه أقطع إلى طول خصامهم لأنه أشد في إيلامهم، فتشوف السامع إلى جوابهم، استأنف الخبر عنه بصيغة الماضي تأكيداً لتحقيق وقوعه رداً قد يتوهمه الضعيف من أن المستكبر له قوة المدافعة وإباء الأنفة فقال: ﴿قال الذين استكبروا﴾ أي من شدة ما هم فيه. ولما كان الأتباع قد ظنوا أن المتبوعين يغنون عنهم، أكدوا إخبارهم لهم بما ينافي ذلك فقالوا: ﴿إنّا كل﴾ أي كلنا كائنون ﴿فيها﴾ أي النار، كل يناله من العذاب بقدر ما يستحقه سواء إن
83
جادلتمونا أو تركتم جدالنا ولا يظلم بك أحداً، فلة قدرنا على شيء لأغنينا عن أنفسنا، ولو سألنا أن نزاد أو ننقص لما أجبنا. فإن هذه دار العدل فاتركونا وما نحن فيه.
ولما كان حكم الله تعالى مانعاً مما كان يفعل في الدنيا من فك المجرم وإيثاق غيره به، وكان سؤالهم في الإغناء سؤال من يجوز أن يكون حكمه على ما عليه الأحكام من حكام أهل الدنيا، عللوا جوابهم مؤكدين فقالوا: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بأوصاف الكمال ﴿قد حكم بين العباد *﴾ أي بالعدل، فأدخل أهل الجنة دارهم، وأهل النار نارهم، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً.
ولما دل على أنه لا يغني أحد عن أحد شيئاً، أخبر انهم لما رأوا بعدهم من الله وأنهم ليسوا بأهل لدعائه سبحانه، علقوا آمالهم بتوسط الملائكة، فأخبر عن ذلك منهم بقوله: ﴿وقال الذين في النار﴾ أي جميعاً الأتباع والمتبوعون ﴿لخزنة﴾ ووضع موضع الضمير قوله: ﴿جهنم﴾ للدلالة على أن سؤالهم لأهل الطبقة التي من شأنها وشأن خزنتها تجهم داخليها ليدل على أنهم لسوء ما هم فيه لا يعقلون، فهم لا يضعون شيئاً في محله كما كانوا في الدنيا:
84
﴿ادعوا ربكم﴾ أي المحسن إليكم بأنكم لا تجدون ألماً من النار ﴿يخفف عنه يوماً﴾ أي مقداره ﴿من العذاب *﴾ أي بعضه.
ولما سألوهم، استأنفوا جوابهم إشارة إلى ما حصل من تشوف السامع إليه، معرفين لهم بسياقه بالسبب، الجاعل لهم في محل الاطراح والسفول عن التأهل لأن يسمع لهم كلام، فقال تعالى مخبراً عنهم: ﴿قالوا﴾ أي الخزنة. ولما كان التقدير: ألم تكن لكم عقول تهديكم إلى الاعتقاد الحق، عطف عليه قوله إلزامناً لهم الحجة وتوبيخاً وتنديماً بتفويت أوقات الدعاء المجاب: ﴿أولم﴾ ولما كان المقام خطراً، والمرام وعراً عسراً، فكانوا محتاجين إلى الإيجاز، قالوا مشيرين بذكر فعل الكون مع اقتضاء الحال للإيجاز إلى عراقة الرسل عليهم السلام في النصح المنجي من المخاوف بالمعجزات والرفق والتلّطف وطول الأناة والحلم والصبر مع شرف النسب وطهارة الشيم وحسن الأخلاق وبداعة الهيئات والمناظر ولطافة العشرة وجلالة المناصب: ﴿تك﴾ بإسقاط النون مع التصوير للحال بالمضارع ﴿تأتيكم﴾ على سبيل التجدد شئياً في أثر شيء ﴿رسلكم﴾ أي الذين هم منكم فأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم، لأن الجنس إلى الجنس أمثل، والإنسان من مثله أقبل ﴿بالبينات﴾ أي التي لا شيء أوضح منها ﴿قالوا﴾ أي الكفار: ﴿بلى﴾ أي أتونا كذلك، ثم استأنفوا جوابهم لما حصل من التشوف إليه بما حاصله
85
عدم إجابتهم فسببوا عن إخبارهم بعدم إجابتهم للرسل عدم إجابة دعائهم فقال تعالى مخبراً عنهم: ﴿قالوا﴾ أي الخزنة: ﴿فادعوا﴾ أي أنتم الآن الله أو أهل الله من رسل البشر أو الملائكة أو غيرهم، أو لا تدعوا فإنه لا يسمع لكم.
ولما كان أمرهم بالدعاء موجباً لأن يظنوا نفعه، أتبعوه بما أيأسهم لأن ذلك أنكأ وأوجع وأشد عليهم وأفظع بقولهم: ﴿وما﴾ دعاؤكم - هكذا كان الأصل، ولكنه أتى بالوصف تعليقاً للحكم به فقال: ﴿دعاءُ الكافرين﴾ أي الساترين لمرائي عقولهم عن أنوار العقل المؤيد بصحيح النقل ﴿إلا في ضلال *﴾ أي ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا كذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة، من زرع شيئاً في الدنيا حصده في الآخرة، والآخرة ثمرة الدنيا لا تثمر إلا من جنس ما غرس في الدنيا.
86
ولما كان حاصل ما مضى من هذا القص الذي هو أحلى من الشراب، وأغلى من الجوهر المنظم في أعناق الكواعب الأتراب، لأنه سبحانه نصر الرسل على أممهم حين هموا بأخذهم، فلم يصلوا إليهم ثم أهلكهم الله هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فعذبهم أشد العذاب، وكذلك نصر موسى عليه السلام والمؤمن الذي دافع عنه، وكان نصر
86
اهل الله قاطبة خفياً، لأنهم يُبتلون ثم يكون لهم العاقبة، فكان أكثر الجامدين وهم أكثر الناس يظن أنه لا نصره لهم، قال الله تعالى لافتاً القول إلى مظهر العظمة، لأن النصرة عنها تكون على سبيل الاستنتاج مما مضى مؤكداً تنبيهاً للأغبياء على ما يخفى عليهم: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿لننصر رسلنا﴾ أي على من ناوأهم ﴿والذين آمنوا﴾ أي اتسموا بهذا الوصف وإن كانوا في أدنى رتبة.
ولما كانت الحياة تروق وتحلو بالنصرة وتتكدر بضدها، ذكرها لذلك ولئلا يتوهم لو سقطت أن نصرتهم تكون رتبتها دنية فقال: ﴿في الحياة الدنيا﴾ بالزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة، وإن غلبوا في بعض الأحيان فإن العاقبة تكون لهم، ولو بأن يقيض سبحانه لأعدائهم من يقتض ولو بعد حين، وأقل ذلك أن لا يتمكن أعداؤهم من كل ما يرون منهم ﴿ويوم يقوم الأشهاد *﴾ أي في الدار الآخرة من الملائكة والنبيين وسائر المقربين، جمع شهيد كشريف وأشراف، إشارة إلى أن شهادتهم بليغة في بابها، لما لهم من الحضور التام، وإلى ذلك يشير تذكير الفعل والتعبير بجمع القلة، ولكن الجياد قليل مع أنهم بالنسبة إلى أهل الموقف كالشعرة
87
البيضاء في جلد الثور الأسود، وإنما عبر بذلك إشارة إلى أهل الحكم بصفات الجبروت للقسط، فيرفع أولياءه بكل اعتبار، ويهين أعداءهم كل إهانة.
ولما وصف اليوم الآخر بما لا يفهمه كثير من الناس، أتبعه ما أوضحه على وجه بين نصره لهم غاية البيان، فقال مبدلاً مما قبله: ﴿يوم لا ينفع الظالمين﴾ الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير مواضعها ﴿معذرتهم﴾ أي اعتذارهم وزمانه ومكانه - بما أشار إليه كون المصدر ميمياً ولو جل - بما أشار إليه قراءة التذكير للفعل فعلم بذلك أنهم لا يجدون دفاعاً بغير الاعتذار وأنه غير نافعهم لأنهم لا يعتذرون إلا بالكذب ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ [الأنعام: ٢٣] أو بالقدر ﴿ربنا غلبت علينا شقوتنا﴾ [المؤمون: ١٠٦] ﴿ولهم﴾ أي خاصة ﴿اللعنة﴾ أي البعد عن كل خير، مع الإهانة بكل ضير ﴿ولهم﴾ أي خاصة ﴿سوء الدار *﴾ وهي النار الحاوية لكل سوء - هذا مع ما يتقدمها من المواقف الصعبة، وإذا كان هذا لهم فما ظنك بما هو عليهم، وقد علم من هذا أن لأعدائهم - وهم الرسل وأتباعهم - الكرامة والرحمة ولهم قبول الاعتذار وحسن الدار، فظهرت بذلك أعلام النصرة، وصح ما أخبر به من تمام القدرة.
88
ولما كان التقدير: فلقد نصرنا موسى رسولنا مع إبراق فرعون وإرعاده، عطف عليه قوله دالاً على الكرامة والرحمة، مؤكداً لإزالة ما استقر في النفوس من أن ملوك الدنيا لا يغلبهم الضعفاء: ﴿ولقد آتينا﴾ أي بما لنا من العزة ﴿موسى الهدى﴾ أي في الدين اللازم منه أن يكون له العاقبة وإن تناهت ضخامة من يعانده، لأنه ضال عن الهدى، والضال هالك وإن طال المدى، وذلك بما آتيناه من النبوة والكتاب.
ولما كانت النبوة خاصة والكتاب عاماً قال: ﴿وأورثنا﴾ أي بعظمتنا ﴿بني إسرائيل﴾ بعد ما كانوا فيه من الذل ﴿الكتاب *﴾ أي الذي أنزلنا عليه وآتيناه الهدى به - وهو التوراة - إيتاء هو كالإرث لا ينازعهم فيه أحد، ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم، حال كونه ﴿هدى﴾ أي بياناً عاماً لكل من تبعه ﴿وذكرى﴾ أي عظة عظيمة ﴿لأولي الألباب *﴾ أي القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية، فذكر إيتاء موسى الثمرة وذكر إيراثهم السبب إشارة إلى أنهم من جنى ثمرته فاهتدي، ومنهم من ضل، وذلك تحذير للاتباع، وتشريف للأنبياء بما نالوه من مراتب الارتفاع.
ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم: ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى، ولننصرنك مثل
89
ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم، فإنهم لا يعشرون فرعون فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر ولم ينفعه شيء منه، سبب عنه قوله: ﴿فاصبر﴾ أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها، ثم علل ذلك بقوله صارفاً القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظمها إنفاذ الأمر وصدق الوعد: ﴿إن وعد الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿حق﴾ أي في إظهار دينك وإعزاز أمرك، فقد رأيت ما اتفق لموسى عليه السلام مع أجبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة، قال القشيري: الصبر في انتظار الموعود من الحق على حسب الإيمان والتصديق، فمن كان تصديقه ويقينه أتم وأقوى كان صبره أكمل وأوفى.
ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بانجاز المرام، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام، موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال: ﴿واستغفر لذنبك﴾ أي وهو كل عمل كامل ترتقى منة الى اكمل وحال فاضل فيكون ذلك شكرا،
90
منك لأن اللةّ غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فتستن بك أمتك، وسماه ذنباً من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال، المطلع على بحور العظمة ومفاوز الجلال، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال، لافتاً القول إلى صفة التربية والأحسان لأنه من أعظم مواقعها فقال: ﴿وسبح﴾ أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبساً ﴿بحمد ربك﴾ أي إثبات الإحاطة باوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر. ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة، وكان العشي أدل عليها، قدمه فقال: ﴿بالعشي والإبكار *﴾ فإن تقلبهما دائماً دل على كمال مقلبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر، وهما الوسطى لأنهما تشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بل على الصلوات الخمس - نقله البغوي. وذلك لأن العشى من زوال الشمس، والأبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
91
ولما كان الأمر بشغل هذين الوقتين أمراً بشغل غيرهما من باب الأولى، لأن أول النهار وقت الاشتغال بالأعمال والاهتمام بالابتداء والتمام، وآخره وقت التهيؤ للراحة والمقيل بالأكل والشرب وما يتبعهما، وكان ذلك موجباً للاشتغال عن أعداء الدين رأساً، وكان ذلك أمراً على النفوس شاقاً علله بما يقتضي المداومة على الأعمال والإعراض عنهم لأن خذلانهم أمر قد فرغ منه فقال معللاً للمداومة على الطاعة: ﴿إن الذين يجادلون﴾ أي يناصبون بالعداوة لنقل أهل هذا الدين عنه إلى ما هم عليه من الباطل، ولفت القول إلى الجلالة الدالة على نهاية العظمة تهويناً لشأنهم فقال: ﴿في آيات الله﴾ أي الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا ﴿بغير سلطان﴾ أي أمر مسلط ودليل مسلك ﴿أتاهم إن﴾ أي ما ﴿في صدورهم﴾ بصدودهم عن سواء السبيل، وآذن ذكر الصدور دون القلوب لعظم الكبر جداً بأنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها ﴿إلا كبر﴾ أي عن اتباع الحق مع إشراق ضيائه واعتلاء لألائه
92
إرادة إطفائه أو إخفائه، والكبر إرادة التقدم والتعظم والرئاسة، وأن يكون مريد ذلك فوق كل أحد ﴿ما هم ببالغيه﴾ أي ببالغي مقتضاه من إبطال الدين تكبراً عن أن يكونوا تحت أوامره، لا يبلغون ذلك بوجه من الوجوه، ولا بد أن يظهر الدين بنصر الرسول ومن تبعه من المؤمنين على أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من أنواع الكافرين، ثم يبعثون فيكون أعداؤهم أسفل سافلين صغرة داخرين.
ولما ظهر من أول هذا الكلام وآخره تصريحاً وتلويحاً بما أفاده أسلوب كلام القادرين المصوغ لأعم من يمكن أن يخطر في البال أنه تعالى وصف نفسه في مطلع السورة بأنه غالب لكل شيء ولا يغلبه شيء وأن الذي بهم إنما هو إرادة أن يكونوا عالين غالبين، عنه قوله تعالى: ﴿فاستعذ﴾ أي اطلب العوذ ﴿بالله﴾ المحيط بكل شيء من شر كبرهم كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك كما أنجز له، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنه﴾ أي على ما له من البطون ﴿هو﴾ أي وحده ﴿السميع﴾ لكل ما يمكن أن يسمع. ولما كان السياق للعياذ من شياطين الإنس الذين لهم المكر الظاهر والباطن، ختم بقوله: ﴿البصير *﴾ الصالح للبصر والبصيرة فيعم المحسوس والمعلوم، وختم آيتي الأعراف وفصلت المسبوقتين لنزغ الشيطان الذي هو وساوس وخطرات باطنة بالعليم.
93
ولما كان أعظم النظر في آية المجادلة المكررة من أول السورة إلى هنا إلى البعث وصيرورة العباد إلى الله بالحشر ليقع فيه الحكم الفصل، وتتحقق نصرة الأنبياء وأتباعهم يوم يقوم الأشهاد، دل على قدرته عليه بما هو كالتعليل لما نفى في آية المجادلة من بلوغهم لما قصدوا من الكبر، فقال مؤكداً تنزيلاً للمقر العالم منزلة الجاهل المعاند لمخالفة فعله لاعتقاده: ﴿لخلق السماوات﴾ أي خلق الله لها على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها ﴿والأرض﴾ على ما ترون من عجائبها وكثرة متاعها ﴿أكبر﴾ عند كل من يعقل من الخلق في الخلق ﴿من خلق الناس﴾ أي خلق الله لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما، فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه على عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم ﴿ولكن أكثر الناس﴾ وهم الذين ينكرون البعث وغيره مما يمكن أن تتعلق به القدرة وصح به السمع ﴿لا يعلمون *﴾ أي لا علم لهم أصلاً، بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم، فهم لا يستدلون بذلك على القدرة على البعث كما أن البهائم ترى الظاهر فلا تدرك به الباطن، بل هم أنزل رتبة من البهائم، لأن هذا النحو من العلم في غاية الظهور فهو كالمحسوس، فمن توقف فيه كان جماداً.
94
ولما ثبت بهذا القياس الذي لا خفاء به لا دافع له ولا مطعن فيه أن القادر على خلق الكبير ابتداء قادر على تسوية الصغير إعادة، وثبت به أيضاً أن خلق الناس ليس مستنداً إلى طبائع السماوات والأرض وإلا لتساووا في العلم والجهل، والقدر والهيئة والشكل، لأن اقتضاء الطبائع لذلك على حد سواء لا تفاوت فيه، وهي لا اختيار لها، وكان من الناس من يقول: إن هذا الإيجاد إنما هو للطبائع، ومن هؤلاء فرعون الذي مضى في هذه السورة كثير من كشف عواره وإظهار عاره، دل على إبطاله بأن ذلك قول يلزمه التساوي فيما نشأ عن ذي الطبع لأن لا اختيار له ونحن نشاهد الأشياء مختلفة، فدل ذلك قطعاً على أنها غير مستندة إلى طبيعة بل إلى فاعل مختار، فكان التقدير بما أرشد إليه سياق الآية قطعاً مع ختمها بنفي العلم وعطف ما بعدها على غير مذكور: وأقلهم يعلمون، فثبت أن خالقهم الذي فاوت بينهم قادر مختار لا شريك له، فإنه ما يستوي العالم والجاهل: ﴿وما يستوي﴾ أي بوجه من الوجوه من حيث البصر ﴿الأعمى والبصير *﴾ وذلك موجب للعلم بأن استناد المتخالفين ليس إلى الطبيعة، بل إلى فاعل مختار.
ولما ذكر الظلام والنور الحسيين، أتبعه المعنويين نشراً مشوشاً
95
ليكشف قسما الظلام قسمي النور إشارة إلى أن المهتدي عزيز الوجود، كالذهب الإبريز بين النقود، فقال: ﴿والذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذه الحقيقة ثبتت أو لا ﴿وعملوا الصالحات﴾ كذلك فكانوا محسنين ﴿ولا المسيء﴾ أي الثابت الإساءة الذي كفر وعمل الصالحات، ووقع التغاير في العطف لأن المراد - والله أعلم - نفس التساوي بين أفراد الأعمى وأفراد البصير والمحسن والمسيء، ولكنه لما كان في المخاطبين الغبي والذكي، عطف البصير بغير «لا» ليكون ظاهر ذلك نفي المساواة بين نوعي الأعمى والبصير، لأن نفي المساواة بين أفراد الأنواع دقيق، واقتصر على الواو في عطف ﴿الذين آمنو﴾ لأنه لا ينتظم أن يراد جعل الأعمى والبصير فريقاً والمؤمن الموصوف فريقاً، وينتفي التساوي بينهما لأنه لا لبس في أن المؤمنين الموصوفين كالبصير، وليس فيهم من يتوهم مساواته للأعمى، فكان من الجلي معرفة أن المراد نفي مساواة الأعمى للبصير ونفي مساواة المؤمن الموصوف للمسيء، وزيدت «
96
لا» في المسيء وعبر فيه بالإفراد إشارة للفطن إلى أن المراد نفي التساوي بين أفراد كل نوع لأن ذلك أدل على القدرة، وأنها بالاختيار، وهذا بخلاف الظلمات في سورة فاطر لأنه لو تركت «لا» هناك لتوهم متوهم أن المنفي المساواة بين الأعمى والبصير وبين الظلمات، فيوجد حينئذ الطعن بأن الظلمات مساوية لهما باعتبار أن الظلمة منها كثيف جداً لا يمكن نفوذ البصر فيه، ومنها خفيف جداً يكون تسميته ظلاماً بالنسبة إلى النور الساطع، والآية من الاحتباك: ذكر عمل الصالحات أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والمسيء ثانياً دليلاً على المحسنين أولاً، وسره أنه ذكر الصلاح ترغيباً والإساءة ترهيباً.
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه في علمه إلا عدم تذكره لحسه حتى في نفسه قال تعالى: ﴿قليلاً ما يتذكرون﴾ أي المجادلون أو أيها المجادلون أو الناس لأن المتذكر غاية التذكر - بما دل عليه الإظهار - منكم قليل - على قراءة الكوفيين بالخطاب لأنه أقوى في التبكيت، وأدل على الغضب.
ولما ثبت بهذا كله تمام القدرة وانتفى ما توهمه من لا بصر له
97
من الطبائع ثبت قطعاً قوله: ﴿إن الساعة﴾ أي القيامة التي يجادله فيها المجادلون ﴿لآتية﴾ وعزتي! للحكم بالعدل في المقارنة بين المسيء والمحسن لأنه لا يسوغ في الحكمة عند أحد من الخلق أن يساوي أحد بين محسن عبيده ومسيئهم، فكيف يظن ذلك بأحكم الحاكمين الذي نشاهده يميت المسيء وهو في غاية النعمة والمعصية، والمحسن وهو في غاية البلاء والطاعة، والمظلوم قبل أن ينتصف من الظالم، ولهذا الأمر الظاهر قال: ﴿لا ريب فيها﴾ أي لا شك في إتيانها بوجه من الوجوه، لأفضي فيها بالعدل فأدخل فيها ناساً دار رحمتي، وآخرين نقمتي.
ولما وصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً، نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ أي بما فيهم من النوس وهو الاضطراب، وراعى معنى الأكثر فجمع لأن الجمع أدل على المراد وأقعد في التبكيت: ﴿لا يؤمنون *﴾ أي لا يجعلون المخبر لهم بإتيانها آمناً من التكذيب مع وضوح علمها لديهم، وما ذاك إلا لعناد بعضهم وقصور نظر الباقين على الحس.
ولما كان التقدير: فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له، والمسيء النار خذلاناً وإهانة له، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة،
98
وقال لعباده كلهم: آمنوا لأسلمكم من غوائل تلك الدار، عطف عليه قوله: ﴿وقال ربكم﴾ أي المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة: ﴿ادعوني﴾ أي استجيبوا لي بأن تعبدوني وحدي فتسألوني ما وعدتكم به من النصرة على وجه العبادة، وهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الدعاء هو العبادة» فقد حصر الدعاء في العبادة سواء كانت بدعاء أو صلاة أو غيرهما، فمن كان عابداً خاضعاً لله تعالى بسؤال أو غيره كانت عبادته دعاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: وحدوني اغفر لكم. وعن الثوري أنه قيل له: ادع، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء: ﴿أستجب﴾ أي أوجد الإجابة إيجاداً عظيماً كأنه ممن يطلب ذلك بغاية الرغبة فيه ﴿لكم﴾ في الدنيا أي بإيجاد ما دعوتم به، أو كشف مثله من الضر، أو إدخاره في الآخرة، ليظهر الفرق بين من له الدعوة ومن ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تتكلوا على ما سبق به الوعد فتتركوا الدعاء فتتركوا العبادة التي الدعاء مخها، فكل ميسر
99
لما خلق له، قال القشيري، وقيل: الدعاء مفتاح الإجابة، وأسنانه لقمة الحلال - انتهى - والآية بمعنى آية البقرة ﴿أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي﴾ [آية: ١٨٦].
ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر، فكان كأنه قيل: ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين، علله ترهيباً في طيه ترغيب بقوله: ﴿إن الذين يستكبرون﴾ أي يوجدون الكبر، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله: ﴿عن عبادتي﴾ أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء ﴿سيدخلون﴾ بوعد لا خلف فيه ﴿جهنم﴾ فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة ﴿داخرين *﴾ أي صاغرين حقيرين ذليلين، فالآية من الاحتباك: ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً. ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب، في دار ثواب وعقاب، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به
100
يهمل المتكبرين عليه مع الإبلاغ في الإحسان إليهم ﴿الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿الذي جعل لكم﴾ لا غيره ﴿الّيل﴾ أي مظلماً ﴿لتسكنوا فيه﴾ راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة ﴿والنهار مبصراً﴾ لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى، فالآية من الاحتباك: حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل: للراحة لمن أرادها، والعبادة لمن اعتمدها واستزادها.
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً: ﴿إن الله﴾ أي ذا الجلال والإكرام ﴿لذو الفضل﴾ أي عظيم جداً باختياره ﴿على الناس﴾ أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع. ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم، فكان
101
التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله، وكان الاسم قد يراد بعض مدلومه، وكان المراد هنا التعميم، أظهر للإفهام إرادة ذلك، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب ﴿لا يشكرون *﴾ فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً، أو يعملون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس، وهو كل من برز من الوجود، وبهم ثانياً الجن والإنس - والله أعلم.
102
ولما ثبت بآية الخافقين وآية الملوين ثبوتاً لا شك فيه أصلاً شمول القدرة بالاختيار، قال معظماً بأداة البعد وميم الجمع: ﴿ذلكم﴾ أي أيها المخاطبون! - الواحد القهار العظيم الشأن الذي علم بما ذكر من أفعاله أنه لا يشاركه أحد ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه أحد ولذلك قال: ﴿ربكم﴾ أي المربى لكم والمحسن إليكم بقدرته واختياره المتفرد بربوبيتكم لا رب لكم سواه. ولما كان في سياق الامتنان بالنعم للدلالة
102
على الساعة التي ينكرونها ويجادلون في أمرها، قدم الخلق على التهليل فقال: ﴿خالق كل شيء﴾ أي بما ثبت من تمام قدرته بإبداع الخافقين ثائبين والملوين متعاقبين دائبين، ولا مانع له من إعادة الثقلين لأنه ﴿لا إله إلا الله﴾ بل كان ذلك واجباً في الحكمة، لأن المنعم عليهم انقسموا إلى شاكر وكافر، فوجب في الحكمة إقامة الساعة للفصل بينهم، وجاء ذلك على ترتيب مطلع السورة، فإن العزيز ناظر إلى كمال القدرة على الإيجاد والإعدام، والعليم هو المتوحد بكمال الذات، فإن إحاطة العلم تستلزم كل كمال، والقدرة قد لا تستلزم العلم كما للحيوانات العجم، وهذا بخلاف ما مضى في آية الأنعام، فإن السياق هناك لإنكار الشرك وإثبات الوحدانية بما دل عليها من عموم الخلق طبق ما مضى أيضاً في مطلعها.
ولما أنتجت هذه الأخبار - التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له - الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال، سبب عنها قوله منكراً مبكتاً: ﴿فأنى﴾ أي فكيف ومن أي وجه ﴿تؤفكون *﴾ أي تقلبون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة التي الطعن فيها طعن في الإلهية التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه، وذلك مؤدٍ إلى سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد
103
المحسوس، وفي المعقول المركوز في جميع النفوس.
ولما كشف هذا السياق عن أن هذا الصرف أمر لا يقدم عليه عاقل، كان كأنه قيل: هل وقع لأحد غير هؤلاء مثل هذا؟ فأجيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الصرف الغريب البعيد عن مناهيج العقلاء ﴿يؤفك﴾ أي يصرف صرف سيئاً - بناه للمفعول إشارة إلى تمام قدرته عليه بكل سبب كان، ولأنه المتعجب منه ﴿الذين كانوا﴾ مطبوعين على أنهم ﴿بآيات الله﴾ أي ذي الجلال والجمال ﴿يجحدون *﴾ أي ينكرون عناداً ومكابرة، فدل هذا على أن كل من تكبر عن حق فأنكره مع علمه به عوقب بمسخ القلب وعكس الفهم، فصار له الصرف عن وجوه الدلائل إلى أقفائها ديدناً بحيث يموت كافراً إن لم يتداركه الله برحمة منه.
ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته، واضح في العقول معرفته، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحوداً، فقال دالاً بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك، بما حصل فيه من الاختلاف، فقال: ﴿الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿الذي جعل﴾ أي وحده ﴿لكم الأرض﴾ أي مع كونها فراشاً ممهداً ﴿قراراً﴾ مع كونها في
104
غاية الثقل، ولا ممسك لها سوى قدرته ﴿والسماء﴾ على علوها وسعتها مع كونها افلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار ﴿بناء﴾ مظلة كالقبة من غير عماد حامل، ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر، فالآية من الاحتباك: ذكر القرار أولاً دليلاً على الدوران ثانياً، والبناء ثانياً دليلاً على الفراش أولاً.
ولما ذكر المسكين ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها، ولا تشبه واحدة منها الأخرى، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال: ﴿وصوركم﴾ والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع ﴿فأحسن صوركم﴾ على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسدوا انطباع تصويرها إليه، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك.
ولما ذكر المسكن والساكن، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن
105
فقال: ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ الشهية الملائمة للطبائع النافعة على وجه لا احتياج معه بوجه، فلا دليل أدل على تمام العلم وشمول القدرة ووجود الاختيار من هذا التدبير في حفظ المسكن والسقف وتدبير ما به البقاء على وجه يكفي الساكن من جميع الوجوه على مر السنين وتعاقب الأزمان، وبث من الساكن - مع أنه قطعة يسيرة جداً من أديم الأرض - أنسالاً شعبهم شعباً فرعها إلى فروع لا تسعها الأرض، فدبر بحكمته وسعة علمه وقدرته تدبيراً وسع لهم به الأرض، وعمهم به الرزق، كما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن الحسن أنه قال: لما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام: إن الأرض لا تسعهم، قال: فإني جاعل موتاً، قالوا: إذا لا يهنأهم العيش، قال: فإني جاعل أملاً.
ولما دل هذا قطعاً على التفرد، قال على وجه الإنتاج: ﴿ذلكم﴾ أي الرفيع الدرجات ﴿الله﴾ أي المالك لجميع الملك، ودلهم على ما مضى بتربيتهم وما فيها من بديع الصنائع فقال: ﴿ربكم﴾ أي لا غيره، ولما أفاد هذا الدليل تربية لا مثل لها، دالة على إحاطة العلم وتمام القدرة على وجه لا حاجة معه مع حسنه وثباته
106
تسبب عنه ولا بد قوله: ﴿فتبارك﴾ أي ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض ﴿الله﴾ أي المختص بالكمال، ورقى الخطاب وعظم إيضاحاً للدلالة فقال: ﴿رب العالمين *﴾ كلهم أنتم وغيركم، ثم دل على ما أفاده الدليل معللاً بقوله: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الحي﴾ وكل ما عداه لا حياة له، لأنه ليس له من ذاته إلا العدم، فأنتج ذلك قطعاً قوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ فتسبب عنه قوله: ﴿فادعوه﴾ أي وحده بالقول والفعل على وجه العبادة، وذلك معنى ﴿مخلصين له الدين﴾ أي من كل شرك جلي أو خفي.
ولما أمر بقصر الهمم عليه، علله بقوله: ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وأظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن له من الصفات العلي ما لا ينحصر: ﴿لله﴾ أي المسمى بهذا الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى لذاته. ولما كان هذا الوجود على ما هو عليه من النظام، وبديع الارتسام، دالاً دلالة قطعية على الحمد، قال واصفاً بما هو كالعلة للعلم بمضمون الخبر: ﴿رب العالمين *﴾ أي الذي رباهم هذه التربية فإنه لا يكون إلا كذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما
107
قال: من قال ﴿لا إله إلا الله﴾ فليقل على أثرها ﴿الحمد لله رب العالمين﴾.
ولما
أمر
سبحانه
بما
دل
على
استحقاقه
إياه
، أنتج
قطعاً
قوله
: ﴿قل
أي
لهؤلاء
الذين
يجادلونك
في
التوحيد
والبعث
مقابلاً
لإنكارهم
بالتأكيد
: ﴿إني
نهيت
أي
ممن
لا
ناهي
غيره
، نهياً
عاماً
ببراهين
العقل
، ونهياً
خاصاً
بأدلة
النقل
﴿أن
أعبد
ولما
أهلوهم
لأعلى
المقامات
، عبر
عنهم
إرخاء
للعنان
بقوله
: ﴿الذين
تدعون
أي
يؤهلونهم
لأن
تدعوهم
، ودل
على
سفولهم
بقوله
تعالى
: ﴿من
دون
الله
أي
الذي
له
الكمال
كله
، ودل
على
أنه
ما
كان
متعبداً
قبل
البعث
بشرع
أحد
بقوله
: ﴿لما
جاءني
البينات
أي
الحجج
الواضحة
جداً
من
أدلة
العقل
والنقل
ظاهرة
، ولفت
القول
إلى
صفة
الإحسان
تنبيهاً
على
أنه
كما
يستحق
الإفراد
بالعبادة
لذاته
يستحقها
شكراً
لإحسانه
فقال
: ﴿من
ربي
أي
المربي
لي
تربية
خاصة
هي
أعلى
من
تربية
كل
مخلوق
سواي
، فلذلك
أنا
أعبده
عبادة
تفوق
عبادة
كل
عابد.
ولما
أخبر
بما
يتخلى
عنه
، أتبعه
الأمر
بما
يتحلى
به
فقال
: ﴿وأُمرت
أن
أسلم
أي
بأن
أجدد
إسلام
كليتي
في
كل
وقت
على
سبيل
الدوام
﴿لرب
العالمين
*﴾
لأن
كل
ما
سواه
مربوب
فالإقبال
عليه
خسار
، وإذا
نهى
هو
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
ذلك
وأمر
بهذا
لكون
الآمر
والناهي
ربه
لأنه
رب
كل
شيء
، كان
غيره
مشاركاً
له
في
ذلك
لا
محالة.
ولما
قامت
الأدلة
وسطعت
الحجج
على
أنه
سبحانه
رب
العالمين
الذين
من
جملتهم
المخاطبون
، ولا
حكم
للطبيعة
ولا
غيرها
، أتبع
ذلك
آية
أخرى
في
أنفسهم
هي
أظهر
مما
مضى
، فوصل
به
على
طريق
العلة
لمشاركتهم
له
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الأمر
والنهي
في
التي
قبلها
قوله
تعالى
: ﴿هو
لا
غيره
﴿الذي
ولما
كان
الوصف
بالتربية
ماضياً
، عبر
عنه
به
فقال
: ﴿خلقكم
من
تراب
أي
أصلكم
وأكلكم
التي
تربى
به
أجسادكم
﴿ثم
من
نطفة
من
مني
يمنى
﴿ثم
من
علقة
مباعداً
حالها
لحال
النطفة
كما
كان
النطفة
مباعداً
لحال
التراب
، ﴿ثم
بعد
أن
جرت
شؤون
أخرى
﴿يخرجكم
أي
يجدد
إخراجكم
شيئاً
بعد
شيء
﴿طفلاً
لا
تملكون
شيئاً
ولا
تعلمون
شيئاً
، ثم
يدرجكم
في
مدارج
التربية
صاعدين
بالقوة
في
أوج
الكمال
طوراً
بعد
طور
وحالاً
بعد
حال
﴿لتبلغوا
أشدكم
ثم
يهبطكم
بالضعف
والوهن
في
مهاوي
السفول
﴿لتكونوا
شيوخاً
ضعفاء
غرباء
، قد
مات
أقرانكم
، ووهت
أركانكم
، فصرتم
تخشون
كل
أحد.
ولما
كان
هذا
مفهماً
لأنه
حال
الكل
، بين
أنه
ما
أريد
به
إلا
البعض
لأن
المخاطب
الجنس
، وهو
يتناول
البعض
كما
يتناول
الكل
فقال
: ﴿ومنكم
من
يتوفى
بقبض
روحه
وجميع
معانيه
. ولما
كان
الموت
ليس
مستغرقاً
للزمن
الذي
بين
السنين
وإنما
هو
في
لحظة
يسيرة
مما
بينهما
، أدخل
الجار
على
الظرف
فقال
: ﴿من
قبل
أي
قبل
حال
الشيخوخة
أو
قبل
حال
الأشدية.
108
قال: من قال ﴿لا إله إلا الله﴾ فليقل على أثرها ﴿الحمد لله رب العالمين﴾.
ولما
أمر
سبحانه
بما
دل
على
استحقاقه
إياه
، أنتج
قطعاً
قوله
: ﴿قل
أي
لهؤلاء
الذين
يجادلونك
في
التوحيد
والبعث
مقابلاً
لإنكارهم
بالتأكيد
: ﴿إني
نهيت
أي
ممن
لا
ناهي
غيره
، نهياً
عاماً
ببراهين
العقل
، ونهياً
خاصاً
بأدلة
النقل
﴿أن
أعبد
ولما
أهلوهم
لأعلى
المقامات
، عبر
عنهم
إرخاء
للعنان
بقوله
: ﴿الذين
تدعون
أي
يؤهلونهم
لأن
تدعوهم
، ودل
على
سفولهم
بقوله
تعالى
: ﴿من
دون
الله
أي
الذي
له
الكمال
كله
، ودل
على
أنه
ما
كان
متعبداً
قبل
البعث
بشرع
أحد
بقوله
: ﴿لما
جاءني
البينات
أي
الحجج
الواضحة
جداً
من
أدلة
العقل
والنقل
ظاهرة
، ولفت
القول
إلى
صفة
الإحسان
تنبيهاً
على
أنه
كما
يستحق
الإفراد
بالعبادة
لذاته
يستحقها
شكراً
لإحسانه
فقال
: ﴿من
ربي
أي
المربي
لي
تربية
خاصة
هي
أعلى
من
تربية
كل
مخلوق
سواي
، فلذلك
أنا
أعبده
عبادة
تفوق
عبادة
كل
عابد.
ولما
أخبر
بما
يتخلى
عنه
، أتبعه
الأمر
بما
يتحلى
به
فقال
: ﴿وأُمرت
أن
أسلم
أي
بأن
أجدد
إسلام
كليتي
في
كل
وقت
على
سبيل
الدوام
﴿لرب
العالمين
*﴾
لأن
كل
ما
سواه
مربوب
فالإقبال
عليه
خسار
، وإذا
نهى
هو
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
ذلك
وأمر
بهذا
لكون
الآمر
والناهي
ربه
لأنه
رب
كل
شيء
، كان
غيره
مشاركاً
له
في
ذلك
لا
محالة.
ولما
قامت
الأدلة
وسطعت
الحجج
على
أنه
سبحانه
رب
العالمين
الذين
من
جملتهم
المخاطبون
، ولا
حكم
للطبيعة
ولا
غيرها
، أتبع
ذلك
آية
أخرى
في
أنفسهم
هي
أظهر
مما
مضى
، فوصل
به
على
طريق
العلة
لمشاركتهم
له
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الأمر
والنهي
في
التي
قبلها
قوله
تعالى
: ﴿هو
لا
غيره
﴿الذي
ولما
كان
الوصف
بالتربية
ماضياً
، عبر
عنه
به
فقال
: ﴿خلقكم
من
تراب
أي
أصلكم
وأكلكم
التي
تربى
به
أجسادكم
﴿ثم
من
نطفة
من
مني
يمنى
﴿ثم
من
علقة
مباعداً
حالها
لحال
النطفة
كما
كان
النطفة
مباعداً
لحال
التراب
، ﴿ثم
بعد
أن
جرت
شؤون
أخرى
﴿يخرجكم
أي
يجدد
إخراجكم
شيئاً
بعد
شيء
﴿طفلاً
لا
تملكون
شيئاً
ولا
تعلمون
شيئاً
، ثم
يدرجكم
في
مدارج
التربية
صاعدين
بالقوة
في
أوج
الكمال
طوراً
بعد
طور
وحالاً
بعد
حال
﴿لتبلغوا
أشدكم
ثم
يهبطكم
بالضعف
والوهن
في
مهاوي
السفول
﴿لتكونوا
شيوخاً
ضعفاء
غرباء
، قد
مات
أقرانكم
، ووهت
أركانكم
، فصرتم
تخشون
كل
أحد.
ولما
كان
هذا
مفهماً
لأنه
حال
الكل
، بين
أنه
ما
أريد
به
إلا
البعض
لأن
المخاطب
الجنس
، وهو
يتناول
البعض
كما
يتناول
الكل
فقال
: ﴿ومنكم
من
يتوفى
بقبض
روحه
وجميع
معانيه
. ولما
كان
الموت
ليس
مستغرقاً
للزمن
الذي
بين
السنين
وإنما
هو
في
لحظة
يسيرة
مما
بينهما
، أدخل
الجار
على
الظرف
فقال
: ﴿من
قبل
أي
قبل
حال
الشيخوخة
أو
قبل
حال
الأشدية.
109
ولما كان المعنى: لتتفاوت أعماركم وأحوالكم وأعمالكم، عطف عليه قوله: ﴿ولتبلغوا﴾ أي كل واحد منكم ﴿أجلاً مسمى﴾ أي له سماه الملك الذي وكل به في بطن أمه عن إذننا وبأمرنا الذي قدرناه في الأزل، فلا يتعداه مرة، ولا بمقدار ذرة فيتجدد للملائكة إيمان في كل زمان.
ولما كانت هذه الأمور مقطوعاً بها عند من يعلمها، وغير مترجاة عند من يجهلها، فإنه لا وصول للآدمي بحيلة ولا فكر إلى شيء منها، فعبر فيها اللام، وكان التوصل بالتفكر فيها والتدبر إلى معرفة أن الإله واحد في موضع الرجاء للعاقل قال: ﴿ولعلكم تعقلون *﴾ أي فتعلموا بالمفاوتة بين الناس فيها ببراهين المشاهدة بالتقليب في أطوار الخلقة
110
وأدوار الأسنان، وإرجاع أواخر الأحكام على أوائلها أن فاعل ذلك قادر مختار حكيم قهار، لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء.
ولما نظم سبحانه هذا الدليل في صنع الآدمي من التراب، وختمه بأن دلالته على البعث - بإجراء سنته في إرجاع أواخر الأمور على أوائلها وغير ذلك - لا يحتاج إلى غير العقل، أنتج عنه قوله: ﴿هو﴾ لا غيره ﴿الذي يحيي ويميت﴾ كما تشاهدونه في أنفسكم وكما مضى لكم الإشارة إليه بخلق السماوات والأرض، فإن من خلقهما خلق ما بينهما من الآجال المضروبة باختلاف الليل والنهار والشهور والأعوام لبلوغ الأفلاك مواضعها، ثم رجوعها عوداً على بدء مثل تطوير الإنسان بعد الترابية من النطفة إلى العلقة إلى ما فوقها، ثم رجوعه في مدارك هبوطه إلى أن تصير تراباً كما كان، فليست النهاية بأبعد من البداية.
ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة نافذة، سبب عن ذلك قوله معبراً بالقضاء: ﴿فإذا قضى أمراً﴾ أي أراد أيّ أمر كان من القيامة أو غيرها ﴿فإنما يقول له كن﴾ ولما كانت ﴿إذا﴾ شرطية أجابها في قراءة ابن عامر بقوله: ﴿فيكون *﴾ وعطفها في قراءة غيره على ﴿كن﴾ بالنظر إلى معناه، أو يكون خبراً لمبتدأ أي فهو يكون، وعبر بالمضارع تصويراً للحال وإعلاماً بالتجدد عند كل قضاء، وقد مضى في سورة البقرة إشباع الكلام في توجيه قراءة ابن عامر بما تبين به أنها
111
أشد من قراءة غيره.
ولما علم من هذا أنه لا كلفة عليه في شيء من الأشياء بهذه الأمور المشاهدة في أنفسهم وفي الآفاق، أنتج التعجب من حالهم لمن له الفهم الثاقب والبصيرة الوقادة، وجعل ذلك آياته الباهرة وقدرته القاهرة الظاهرة، فلذلك قال لافتاً الخطاب إلى أعلى الخلق لأن ذم الجدال بالباطل من أجل مقصود هذه السورة: ﴿ألم تر﴾ أي يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً، وبين بعدهم بأداة النهاية فقال: ﴿إلى الذين يجادلون﴾ أي بالباطل، ونبه على ما في هذه الآيات من عظمته التي لا نهاية لها بإعادة الاسم الجامع فقال: ﴿في آيات الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿أنَّى﴾ أي وكيف ومن أي وجه ﴿يُصرفون *﴾ عن الآيات الحقة الواضحة التي سبقت بالفطرة الأولى إلى جذور قلوبهم، فلا حجة يوردون ولا عذاب عن أنفسهم يردون، لأنه سبحانه استاقهم - كما قال ابن برجان - بسلاسل قهره المصوغة من خالص عزماتهم وعزائهم إرادتهم من حقيقة ذواتهم إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة - فصل ما جادلوا فيه واصفاً لهم بما يزيد في التعجيب من شدة جهلهم وتعاظم عماهم فقال: ﴿الذين كذبوا﴾ وحذف المفعول إشارة إلى عموم التكذيب: ﴿بالكتاب﴾ أي بسببه في جميع ما له من الشؤون التي
112
تفوت الحصر والعظمة في كل أمر كان أشير بأداة الكمال إلى أنه لكماله كأنه لا كتاب غيره لأن من سمعه فكأنما سمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإعجازه، فمن كذب بحرف منه فقد كذب بكل كتاب الله.
ولما كان التذكيب به تكذيباً بجميع الرسالات الإلهية، أكد عظمته بذلك وبالإضافة إلى مظهر العظمة، تحذيراً للمكذبين من سطواته، وتذكيراً لهم بأن العمل مع الرسول عمل مع من أرسله، فلذا لفت الكلام على الاسم الجامع لصفتي الجلال والإكرام فقال تعال: ﴿وبما أرسلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿به رسلنا﴾ من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره، وهو بحيث لا يحاط بكنه جلاله وعظمه حاله، ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى: ﴿فسوف يعلمون *﴾ أي بوعيد صادق لا خلف فيه، ما يحل بهم من سطوتنا.
113
ولما كانوا في الدنيا قد جمعت أيديهم إلى أذقانهم بجوامع السطوة، ثم وصلت بسلاسل القهر يساقون بها عن مقام الظفر بالنجاح إلى أهويات الكفر بالجدال بالباطل ومهامه الضلال المبين كما قال تعالى ﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً﴾ [يس: ٨] الآية، فجعل باطن تلك السلاسل الدنيوية
113
والأغلال ظاهراً في ذلك المجمع قال: ﴿إذ﴾ أي حين تكون ﴿الأغلال﴾ جمع غل، قال في ديوان الأدب، هو الذي يعذب به الإنسان. وقال القزاز: الغل من الحديد معروف، ويكون من القد، وقال في النهاية: هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، ويقال لها جامعة أيضاً - انتهى. وأصله الإدخال، يدخل فيه العنق واليد فتجمعان به، وذلك معنى قول الصغاني في مجمع البحرين: في رقبته غل من حديد، وقد غلت يده إلى عنقه ﴿في أعناقهم﴾ أي جامعة لأيديهم إلى تراقيهم، وعبر بإذ ومعناها المضي مع سوف ومعناها الاستقبال، لأن التعبير بالمضي إنما هو إشارة إلى تحقق الأمر مع كونه مستقبلاً ﴿والسلاسل﴾ أي في أعناقهم أيضاً يقيدهم ذلك عن كل تصرف لكونهم لم يتقيدوا بكتاب ولا رسول، والسلسلة من: تسلسل الشيء: اضطرب، قال الراغب: كأنه تصور منه تسلسل متردد، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه، وما سلسل متردد في مقره حتى صفا، حال كونهم ﴿يسحبون *﴾ أي بها، والسحب: الجر بعنف ﴿في الحميم *﴾ أي الماء الحار الحاضر الذي يكسب الوجوه سواداً، والأعراض عاراً، والأرواح
114
عذاباً والأجسام ناراً، والقلوب هماً واللحوم ذوباناً واعتصاراً، وذلك عوض ترفيعهم لأنفسهم عن سحبها بأسباب الأدلة الواضحات في كلف العبادات ومرارات المجاهدات وحرارات المنازلات.
ولما أخبر عن تعذيبهم بالماء الحار الذي من شأنه أن يضيق الأنفاس، ويضعف القوى، ويخفف القلوب، أخبر بما هو فوق ذلك فقال: ﴿ثم في النار﴾ أي عذابها خاصة ﴿يسجرون *﴾ أي يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين مركوبين كما يسجر التنور بالحطب - أي يملأ - وتهيج ناره، وكما يسجر - أي يصب - الماء في الحلق، فيملؤونها فتحمى بهم ويشتد اضطرامها لكونهم كانوا في الدنيا وقود المعاصي، والفتن بهم يشب وقودها ويقوى عودها، ويثبت عمودها، لأنهم لم يلقوا أنفسهم في نيران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفات الشهوات في أبواب الأوامر والنواهي، التي هي في الظاهر نيران، وفي الحقيقة جنان.
ولما كان المدعو إنما يدخر لأوقات الشدائد، قال موبخاً لهم مندماً مقبحاً لقاصر نظرهم لأنفسهم بانياً للمفعول لأن المنكىء هذا القول
115
مطلقاً لا لكونه من قائل معين: ﴿ثم قيل لهم﴾ أي بعد أن طال عذابهم، وبلغ منهم كل مبلغ، ولم يجدوا ناصراً يخلصهم ولا شافعاً يخصصهم: ﴿أين﴾ والتعبير عنهم بأداة ما لا يعقل في أحكم مواضعه في قوله: ﴿ما كنتم﴾ أي دائماً ﴿تشركون *﴾ أي بدعائكم لهم في مهماتكم دعاء عبادة مع تجديده في كل وقت؛ ثم بين سفولهم بقوله لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه فقال: ﴿من دون الله﴾ أي المحيط بجميع العز وكل العظمة، لتطلبوا منهم تخليصكم مما أنتم فيه أو تخفيفه: ﴿قالوا﴾ أي مسترسلين مع الفطرة وهي الفطرة الأولى على الصدق: ﴿ضلوا عنا﴾ فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا.
ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب، فاسترسلوا معها فبادروا أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا: ﴿بل لم نكن ندعو﴾ أي لم يكن ذلك في طباعنا. ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها، لا النفي المقيد بالاستغراق، فإنه لا ينفي ما دونه، أثبتوا الجار فقالوا: ﴿من قبل﴾ أي قبل هذه
116
الإعادة ﴿شيئاً﴾ لنكون قد أشركنا به، فلا يقدرهم الله إلا على ما يزيد في ضرهم ويضاعف ندمهم ويوجب لعن أنفسهم ولعن بعضهم بعضاً بحيث لا يزالون في ندم كما كان حالهم في الدنيا ﴿انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ [الأنعام: ٢٤] فالآية من الاحتباك: ذكر الإشراك أولاً دليلاً على نفيهم له ثانياً، والدعاء ثانياً دليلاً على تقديره أولاً.
ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم، كان كأنه قيل: هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء، فأجيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب ﴿يضل الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة، عن القصد النافع من حجة وغيرها ﴿الكافرين *﴾ أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً.
ولما تم جواب السؤال عن التعجب من هذا الضلال، رجع إلى خطاب الضلال فقال معظماً لما ذكر من جزائهم بأداة البعد وميم الجمع نصاً على تقريع كل منهم: ﴿ذلكم﴾ أي الجزاء العظيم المراتب، الصعب المراكب الضخم المواكب ﴿بما كنتم﴾ أي دائماً ﴿تفرحون﴾ أي تبالغون في السرور وتستغرقون فيه وتضعفون عن حمله للإعراض عن العواقب. ولما كانت الأرض سجناً، فهي في الحقيقة
117
دار الأحزان، حسن قوله: ﴿في الأرض﴾ أي ففعلتم فيها ضد ما وضعت له، وزاد ذلك حسناً قوله: ﴿بغير الحق﴾ فأشعر أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة، وهي الثبات دائماً للمفروح به، وذلك لا يكون إلا في الجنة ﴿وبما﴾ أي وبسبب ما ﴿كنتم تمرحون *﴾ أي تبالغون في الفرح مع الأشر والبطر والنشاط الموجب الاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح.
ولما كان السياق لذم الجدال، وكان الجدال إنما يكون عن الكبر، وكان الفرح غير ملازم للكبر، لم يسبب دخول النار عنه، بل جعله كالنتيجة لجميع ما مضى فقال: ﴿ادخلوا﴾ أي أيها المكذبون.
ولما كان في النار أنواع من العذاب، دل على تعذيبهم بكل نوع بذكر الأبواب جزاء على ما كانوا يخوضون بجدالهم في كل نوع من أنواع الأباطيل فقال: ﴿أبواب جهنم﴾ أي الدركة التي تلقي صاحبها بتكبر وعبوسة وتجهم ﴿خالدين فيها﴾ أي لازمين لما شرعتم فيه بالدخول من الإقامة لزوماً لا براح منها أصلاً.
ولما كانت نهاية في البشاعة والخزي والسوء، وكان دخولهم فيها مقروناً بخلودهم سبباً لنحو أن يقال: فهي مثواكم، تسبب عنه قوله: ﴿فبئس مثوى﴾ دون أن يقال: مدخل ﴿المتكبرين *﴾ أي موضع
118
إقامتهم المحكوم بلزومهم إياه لكونهم تعاطوا ما ليس لهم، ولا ينبغي أن يكون إلا الله يقول الله تعالى: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعنيهما قصمته» ولم يؤكد جملة ﴿بئس﴾ هنا لأن مقاولتهم هذه بنيت على تجدد علمهم في الآخرة بأحوال النار، وأحوال ما سببها، والتأكيد يكون للمنكر ومن في عداده، وحال كل منهما مناف للعلم، وزاد ذلك حسناً أن أصل الكلام مع الأعلم للسر الذي تقدم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعد جداً من التأكيد. ولما كان هذا في الجزاء أعظم الشماتة بهم، فكان فيهم أعظم التسلية لمن جادلوه وتكبروا عليه، سبب عنه قوله: ﴿فاصبر﴾ أي ارتقاباً لهذه النصرة، ثم علل بقوله مؤكداً لأجل تكذيبهم بالوعد: ﴿إن وعد الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿حق﴾ أي في نصرتك في الدارين فلا بد من وقوعه، وفيه أعظم تأسية لك ولذلك سبب عنه مع صرف القول إلى ما يأتي الاعتراض إشارة إلى أنه لا يسأل عما يفعل، قوله تعالى: ﴿فإما نرينك﴾ وأكده ب «ما» والنون ومظهر العظمة لأنكارهم لنصرته عليهم ولبعثهم ﴿بعض الذي نعدهم﴾ أي بما لنا من العظمة مما يسرك فيهم من عذاب أو متاب قبل وفاتك، فذاك إلينا وهو علينا هين.
ولما ذكر فعل الشرط وحذف جوابه للعلم به، عطف عليه قوله:
119
﴿أو نتوفينَّك﴾ أي قبل أن ترى ذلك فيهم وأجاب هذا المعطوف بقوله: ﴿فإلينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿يرجعون *﴾ أي معي في الدنيا فتريهم بعد وفاتك من نصر أصحابك عليهم بما تسرك به في برزخك فإنه لا بقاء لجولة باطلهم، وحساً في القيامة فنريك فيهم فوق ما تؤمل من النصرة المتضمنة لتصديقك وتكذيبهم، وإكرامك وإهانتهم، والآية من الاحتباك: ذكر الوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، والرؤية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً.
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان، وتحملهم على الموافقة والإذعان، فيزول النزاع بحسن الاتباع، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر، فلقد أرسالناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ: (ولقد أرسلنا) أي على ما لنا من العظمة) رسلاً) أي بكثرة.
ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال: (من قبلك) أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به:
120
(منهم من قصصنا) أي بما لنا من الإحاطة) عليك) أي أخبارهم وأخبار أممهم) ومنهم من لم نقصص (وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة) عليك (لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم) وما) أي أرسلناهم والحال أنه ما) كان لرسول (أصلاً) أن يأتي بآية) أي ملجئة أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون استعجالاً لاتباع قومه له، أو اقتراحاً من قومه عليه أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون له أو ينقادون، وصرف الكلام عن المظهر المشير إلى القهر إلى ما فيه - مع الإهانة - الإكرام فقال: (إلا بإذن الله) أي بأمره وتمكينه، فإن له الإحاطة بكل شيء، فلا يخرج شيء عن أمره، فإن لم يأذن في ذلك رضوا وسلموا وصبروا واحتبسوا، وإن أذن في شيء من ذلك من عذاب أو آية ملجئة أو غير ذلك جاءهم ما أذن فيه) فإذا جاء (وزادالأمر عظماً لمزيد الخوف والرجاء بالإظهار دون الإضمار فقال: (أمر الله) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وأمره ما توعد به من العذاب عند العناد بعد الإجابة إلى المقترح، ومن القيامة وما فيها، وتكرير الاسم الأعظم لتعظيم المقام باستحضار ما له من صفات الجلال والإكرام، ولثبات ما أراد ولزومه عبر عنه
121
بالقضاء، فقال مشعراً بصيغة المفعول بغاية السهولة: (قُضَي) أي بأمره على أيسر وجه وأسلهه) بالحق) أي الأمر الثابت الذي تقدم الوعد به وحكم بثبوته من إهلاك ناس وإنجاء آخرين أو إيمان قوم وكفر آخرين - وهذا كله هو الذي أجرى سبحانه سنته القديمة بثبوته، واما الفضل من الإمهال والتطول بالنعم فإنما هو قبل الإجابة إلى المقترحات، والدليل على أن هذا من مراد الآية ما يأتي من قوله: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (وما أشبهه) وخسر) أي هلك أو تحقق وتبين بالمشاهدة أنه خسر) هنالك) أي في ذلك الوقت العظيم بعظمة ما أنزلنا فيه، ظرف مكان استعير للزمان إيذاناً بغاية الثبات والتمكن في الخسارة تمكن الجالس) المبطلون) أي المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق، إما باقتراح الآيات مع إيتانهم بما يغنيهم عنها وتسميتهم له سحراً أو بغير ذلك، إما بتيسرهم على الرجوع عما هم فيه من العناد من غير إذعان وإما الهلاك، وإما بإدحاض الحجج والحكم عليهم بالغلب ثم النار ولو بعد حين، ومن هذه الآية أخذ سبحانه في رد مقطع السورة على مطلعها، فهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى) وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه () وما كان لرسول أن يأتي بآية (إلى) وجادلوا بالباطل
122
(و) أفلم يسيروا في الأرض (إلى) فأخذتهم فكيف كان عقاب (وهذا وما بعده مما اشتمل عليه من الحكمة والقدرة إلى الثلاث الآيات الأول.
ولما كان المبطلون ليسوا أشد ولا أقوى من بعض الحيوانات العجم، دل على ما أخبر به من نافذ نصرته فيهم بقوله مذكراً لهم نعمته مستعطفاً إلى طاعته دالاً على التوحيد بعد تليينهم بالوعيد مظهراً الاسم الجامع إشارة إلى أن هذه الآية من الدلالات لا يحصى: (الله) أي الملك الأعظم) الذي جعل لكم (لا غيره) الأنعام) أي الأزواج الثمانية بالتذليل والتسخير) لتركبوا منها (وهي الإبل مع قوتها ونفرتها، والتعبير باللام في الركوب مطلقاً ثم فيه مقيداً ببلوغ الأماكن الشاسعة إشارة إلى أن ذلك هو المقصود منها بالذات، وهو الذي اقتضى تركيبها على ما هي عليه، فنشأ منه بقية المنافع فكانت تابعة.
ولما كان الاقتيات منها - في عظيم نفعه وكثرته وشهوته - بحيث لا يناسبه غيره، عد الغير عدماً فقال تعالى: (منها) أي من الأنعام كلها) تأكلون (بتقديم الجار.
ولما كان التصرف فيها غير منضبط، أجمله بقوله: (ولكم فيها) أي كلها) منافع) أي كثيرة بغير ذلك في الدر والوبر والصوف وغيرها.
ولما كان سوقها وبلوغ الأماكن الشاسعة عليها في أقرب مدة لنيل الأمور الهائلة عظيم الجدوى جداً، نبه على عظمته بقطعه
123
عما قبله بإجمال المنافع ثم تفصيله منه فقال: (ولتبلغوا) أي مستعلين) عليها (وهي في غاية الذل والطواعية، ونبههم على نقصهم وعظيم نعمته عليهم بقوله: (حاجة) أي جنس الحاجة.
ولما كان في مقام التعظيم لنعمه لأن من سياق الامتنان وإظهار القدرة وحدها وجمع ما تضمر فيه فقال: (في صدوركم (إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حنى فاضت منها فملأت مساكنها.
ولما كان الحمل يكون مع مطلق الاستعلاء سواء كان على أعلى الشيء أولاً بخلاف الركوب، قال معبراً بأداة الاستعلاء فيها وفي الفلك غير سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، فإنهاكانت مغطاة كما حكي فكانوا في بطنها لا على ظهرها: (وعيلها) أي في البر) وعلى الفلك) أي في البحر) تحملون) أي تحمل لكم أمتعتكم فإن حمل الإنسان نفسه تقدم بالركوب.
وأشار بالنباء للمفعول أنه سخر ذلك تسخيراً عظيماً لا يحتاج معه إلى علاج في نفس الحمل.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها سبحانه مشتملة على آيات كثيرة، عبر فيها بالماضي وعطف بالمضارع تنبيهاً على ما تقديره: فأراكم هذه الآيات البينات منها، قوله: (ويريكم) أي في لحظة) آياته) أي الكثيرة الكبيرة فيها وفي غيرها من أنفكسم ومن الآفاق، ودل على كثرة الآيات وعظمتها بإسقاط تاء التأنيث كما هو المستفيض
124
في غير النداء بإظهار الاسم الأعظم في قوله: (فأيّ آيات الله) أي المحيط بصفات الكمال) تنكرون (حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته التي من أوضحها البعث.
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد، تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهيب فقال: (أفلم
سيروا) أي هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام) في الأرض (أيّ أرض كانت، سير اعتبار) فينظروا (نظر ادكار فيما سلكوه من سلبها ونواحيها، ونبه زيادة العظمة فيما حثهم على النظر فيه بسوقه مساق الاستفهام تنبيهاً على خروجه عن أمثاله، ومباينته لأشكاله، بقوله: (كيف كان عاقبة) أي آخر أمر) الذين (ولما كانوا لا يقدرون على استغراق نظر جميع الأرض وآثار جميع أهلها، نبه بالجار على ما تيسر فقال تعالى: (من قبلهم) أي مع قرب الزمان والمكان، لوما كانوا معتمدين في مغالبة الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ومجادلته بالباطل في الآيات الظاهرة على كثرتهم وقوتهم وقلة أصحابه مع ضعفهم، وكان قد تقدم الإنكار عليهم في المجادلة لإدحاض الحق، وعظيم النكيرعليهم بعدم النظر عن المسير في
125
الأرض بأعين الاعتبار في الآثار، من المساكن والديار، لمن مضى من الأشرار، وأثبت لهم الأشدية وأنها لم تغن عنهم، وذكر فرعون وما كان له من المكنة بالمال والرجال، وأنه أخذه أخذة صارت مثلاً من الأمثال، وكان قد بقي مما قد يتعلل به في المبالغة الكثرة، ذكرها مضمومة إلى الشدة تأكيداً لمضمون الخبر في أنه لا أمر لأحد مع أمره، فقال مستانفاً جواباً لمن يقول: ما كانت عاقبتهم؟ فقال: (كانوا أكثر منهم) أي عدداً أضعافاً مضاعفة ولا سيما قوم نوح عليه الصلاة والسلام: (وأرشد قوة (في الأبدان كقوم هود عليه الصلاة والسلام الذين قالزا كما يأتي في التي بعدها
﴿من أشد منا قوة﴾ [فصلت: ١٥] ) وآثاراً في الأرض (بنحت البيوت في الجبال،
126
بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما تبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم أمرنا بل كانوا كأمس الذاهب.
ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم، سبب عنه شرح حالهم، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم، فقال مبيناً لما أغنى: (فلما جاءتهم رسلهم) أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم) بالبينات) أي الدالة على صدقهم لا محالة) فرحوا) أي القوم الموصوفون) بما عندهم من العلم (الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفاً مع الوهم، وتقييداً بالحاضر من الرسم من علم ظاهر الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال التي قبلها ﴿ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم﴾ [الزمر: ٤٩] وكما قال قارون لما قيل له) وأحسن كما أحسن الله إليك (: (قال) :(إنما أوتيته على علم عندي (وفرحهم به
127
لأداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما واستهزوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا، وإسراع المصائب إليهم، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد، ويكابدونه من الأنداد والأضداد، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به من بعدّهم ذلك محالاً وباطلاً وضلالاً، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى) فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون (ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد، وأحاطوا بهم المكر والغوايل، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم، وأطال غمهم وترحهم) وحاق) أي أحاط على وجه الشدة) بهم بما كانوا) أي عادة مستمرة.
ولما كان استهزائهم بالحق عظيماً جداً، عد استهزائهم بغيرة عدماً، وأشار إلى ذلك بتقديم الجال فقال: (به يستهزؤون (من الوعيد الذي
128
كانوا قاطعين ببطلانه فعلم قطعاً أنه إنما يفرح من العلم بما تضمن النجاة والسعادة الأبدية على أن سوق الكلام هكذا مليء بالاستهزاء بهم والتهكم عليهم لأنهم نصبوا العالم المطيق المنطيق الذي إذا غلب خصمه فأسكته وألقمه الحجر فأخرسه وأفحمه بواضح الحجة وقويم المحجة ظهر عليه السرور وغلبه الفرح فإن عاند خصمه ووقف مع وهمه استهزأ به وتضاحك منه - هذا مع ما عنده من عمايات الجهل التي لا يكفرون على إنكارها بدليل اعتراف هؤلاء الذين أرسل إليهم هذا النبي الكريم أن أهل الكتاب أعلم منهم، فكانوا يوجهون ركابهم إلى اليهود يسألونهم عن أمرهم وأمره على أنه قد أتاهم بما يعلي به قدرهم على أهل الكتاب، ويجعلهم المخصوصين بالسيادة على مر الأحقاب، وهم يأبون بمجادلتهم بالباطل إلا سفولاً وإعراضاً عن الصواب، وعدولاً ونكوصاً ونكولاً، والآية مرشدة إلى أنه لا يتعلم إلا من ظن من نفسه القصور، ولهذا كل أقبل شيء للعلم الصغار، والآية من الاحتباك: إثبات الفرح أولاً دليل عل حذف
129
ضده ثانياً، وإثبات الاستهزاء ثانياً دليل على حذف مثله أولاً.
ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة،
وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا (ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال) هو الذي يريكم آياته (وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به على اقتراح غيره، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم) فائت بآية إن كنت من الصادقين (ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف، حتى قال) الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا (ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى ان قال) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم لشدة الإلف وضوحها جدال المجادل، وضلال المماحك المماحل، لولا أنه قد
130
أخرجتها شدة الألف لها من حيز الغرابة من خلق الخافقين وتكوير الملوين، وبسط الأرض ورفع السماء وتصوير الإنسان وما فيه من عظيم الشأن، فكشفت ستورها، وبين دلالتها وظهورها، ولفت الكلام إلى تهديد المجادلين بقوله منكراً عليهم) ألم تر إلى الذين يجادلون خصمه بما هو من حججه كالشمس نوراً وطلعة وظهوراً أنكر بالاستفهام الذي هو أمر من وقع السهام.
فلما ثبت بذلك عنادهم وغلظتهم وقوتهم في لددهم واشتدادهم، بين جهلهم بذلهم عند ما أحكموا عقده من شرهم، فقال مبيناً لما أجمل من الحيق مسبباً عنه لافتاً القول إلى مظهر العظمة ترهيباً: (فلما رأوا) أي عاينوا) بأسنا) أي عذابنا الشديد على ما له مجامع العظمة، ومعاقد العز ونفوذ الكلمة، كما ظهر لنا في هذا البأس من غير إشكال ولا إلباس، وأكدوا ذلك نافين لما كانوا فيه من الشرك: بقولهم) وحده (ودل على إنحلال عراهم ووهي قواهم بزيادة التصريح في قولهم: (وكفرنا بما كنا) أي جبلة وطبعاً) به مشركين (لأنا علمنا أنه لا يغني من دون الله شيء.
131
ولما كان الكفر بالغيب سببا لعدم قبول الإيمان عند الشهادة قال: (فلم يك) أي لم يصح ولم يقبل بوجه من الوجوه لأنهع لا كون يساعد على ذلك ولا بأدنى درجات الكون، فأشار بكان إلى أن هذا أمر مستقر وشأن مستمر لكل أمة ليس خاصا بالمحدث عنهم ومن مضى قبلهم وبحذف لام الكلمة إلى أنهم أمعنوا في الترقق بتقرير الإيمان وتكريره وتسريحه، والوقت ضيق والمجال حصير، وقد أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة، فلم يكونوا لفوات الوقت موفين بما طلب منهم) ينفعهم إيمانهم) أي يتجد لهم نفعة بعد ذلك لأنه إيمان إلجاء واضطرار لا إيمان طواعية واختيار) لما رأوا (وأظهر موضع الإضمار زيادة في الترهيب، فقال: (بأسنا (لأن الإيمان لا يتحقق ولا يتصور إلا مع الغيب، وأما عند الشهادة فقد كشفت سريرته على أنه قد فاتت حقيقته وصثورته، فلو ردوا لعادوا، ولو أتاهم بعد ذلك العذاب لانقادوا، ولهذا السر قال تعالى صارفا القول إلى الاسم المقتضي لمزج الحكمة بالعظمة: (سنت الله) أي سن الملك الأعظم المحيط علما وقدرة ذلك ف يكل دهر سنة، ولذا قال) التي قد خلت في عباده (أن الإيمان بعد كشف الغطاء لا يقبل، وكل أمة كذبت الرسل أهلكت، وكل من أجيب إلى الإيمان المقترحة فلم يؤمن عذب، سنها سنة وأمضاها عزمة، فلا غير لها، فربح
132
إذ ذاك المؤمنون) وخسر) أي هلك أو تحقق وتبين أنه خسر. ولما كان المكان لا ينفك عن الزمان، استعير ظرفه له وليدل على غاية التمكن فقيل: (هنالك) أي في ذلك الوقت العظيم الشأن بما كان فيه وكان) الكافرون) أي العريفون في هذا الوصف فلا انفكاك بينهم وبينه، وقد التف آخرها بما بين من كمال العزة وتمام القدرة وشمول العلم مما رتب من أسباب الهداية والإضلال ووالإشقاء والإسعاد والنجاة والإهلاك بأولها أي التفاف، واكتنفت البداية والنهاية بيان ذلك مع ما اشتمل عليه الوسط أيضا منه أعظم اكتناف، فسبحان من هذا إنزاله، وتبارك اسمه وجل جلاله، ولا إله سواه ولا حوةل ولا قوة إلا بالله، رب سهل كريم.
133
مقصودها الإعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل شيء قدره وعلماً من علمه لعباده فشرعه، لهم، فجاءتهم به عنه رسله، وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله والاستقامة على طاعته المقترن بهما - كما تقدم في الزمر في قوله)) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون () [آية: ٩] فتكون عاقبته الكشف الكلي حين يكون سبحانه سمع العالم الذي يسمع به، (بصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) - إلى آخر الحديث القدسي الذي معناه أنه يوفقه سبحانه فلا يفعل إلا ما يرضيه، وعلى ذلك دل اسمها) فصلت (بالإشارة إلى ما في الآية المذكورة فيها هذه الكلمة من الكتاب المفصل لقوم يعلمون.
والسجدة بالإشارة إلى ما في آيتها من الطاعة له بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك الديان، والتسبيح الذي هو المدخل الأول للإيمان) بسم الله (الذي لم يرض لإحاطته بأوصاف الكمال من جلال الكتاب إلا ما اقترن بجمال العمل) الرحمن (الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ففصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان) الرحيم (الذي خص العلماء العاملين بسماع الدعوة ونفوذ الكلمة) حم) أي حكمة محمد التي
134
أعجزت الخلائق.
ولما ختمت غافر الكفرة جادلوا في آيات الله بالباطل، وفرحوا بما عندهم من علم ظاهر الحياة الدنيا، وأنهم عند البأس انسلخوا عنه وتبرؤوا منه ورجعوا إلى ما جاءت به الرسل فلم يقبل منهم، فعلم أن كل علم لم ينفع عند الشدة والبأس فليس بعلم، بل الجهل خير منه، وكان ذلك شاقاً على النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خوفاً من أن يكون آخر أمر أمته الهلاك، مع الإصرار على الكفر إلى مجيء البأس، وأن يكون أغلب أحواله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النذارة، افتتح سبحانه هذه السورة بأن هذا القرآن رحمة لمن كان له علم وله قوة توجب له القيام فيما ينفعه، وكرر الوصف بالرحمة في صفة العموم وصفة الخصوص إشارة إلى أن أكثر الأمة مرحوم، وأعلم أن الكتاب فصل تفصيلاً وبين تبييناً لا يضره جدال مجال، وكيد مماحك مماحل، وأنه مغن بعجز الخلق عنه عن اقتراح الآيات فقال مخبراً عن مبتدأ: (تنزيل) أي بحسب التدريج عظيم) من الرحمن) أي الذي له الرحمة العامة للكافر والمؤمن بإنزال الكتب وإرسال الرسل) الرحيم) أي الذي يخص رحمته بالمؤمنين بإلزامهم ما يرضيه عنهم.
ولما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج، بين
135
أنه مع ذلك حاوٍ لكل خير فقال مبدلاً من تنزيل: (كتاب) أي جامع قاطع غالب.
ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال: (فصلت) أي تفصيل الجوهر) آياته) أي بينت بياناً شافياً في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات، حال كونه) قرآناً) أي جامعاً مع التفصيل، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة (قرا) من معنى الإمساك، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد، ولا نهاية وعد، بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: (عربياً (لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة، وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة، وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً، قال الحرالي: وهو قرأن لجمعه، فرقان لتفصيله، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية، مجيد لإقامته قسطاس العدل، عربي لبيانه عم كل شيء، كما قال تعالى في سوره أحسن القصص، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص
فيقبل العدول عن سنن.
ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلاً
136
للأعتاب، والقرع خضوعاً وحباً للأبواب، قال معلقاً ب (فصلت أو تنزيل) أو (الرحمن الرحيم) :(لقوم) أي ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه) يعملون) أي فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم بما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار، وفي هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفاً له، وفيه حث لهم - وهم أولو العزائم الكبار - على العلم بع ليغتنوا عن سؤال اليهود، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علماً كثيراً، وعن هذا الكفر إيماناً عظيماً كبيراً، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربياً، وقد خالفت كلامهم وأسجاعهم، مع كونه ليس شعراً ولا سجعاً أصلاً ولا هم من أنواع نثرهم، ولا من ضروب خطبهم، فعجزوا عن الإيتان بشيء
137
من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعضار، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة بمن ينيب.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات، وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم، وكان بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها، ألا ترى قوله تعالى
﴿ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا﴾ [غافر: ٤] وتأنيس نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله
﴿فلا يغررك تقبلهم في البلاد﴾ [غافر: ٤] فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه (فعصمتهم واقية
﴿أنا لننصر رسلنا﴾ [غافر: ٥١] وقال تعالى:
﴿وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب﴾ [غافر: ٥] أي رأيت ما حل بهم وقد بلغك خبرهم، فلا اعتبر هؤلاء بهم
﴿أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وإثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق﴾ [غافر: ٢١] وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات) ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله (ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون، وبسط القصة تنبيهاً على سوء عاقبة من عتند وجادل بالباطل وكذب الآيات، ثم قال تعالى بعد آيات) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في
138
صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه (إذ الحول والقوة ليست لهم
﴿فاستعذ بالله﴾ [الأعراف: ٣٠٠] من شرهم، فخلق غيرهم لة استبصروا أعظم من خلقهم
﴿لخلق السماوات والأرض أكبر من خلقالناس﴾ [غافر: ٥٧ [وهو غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين
﴿إنما نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء﴾ [سبأ: ٩] ثم قال تعالى بعد هذا) ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنّى يصرفون (إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد بيانها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم
﴿ضلوا عنا بل لمن نكن ندعو من قبل شيئاً﴾ [غافر: ٧٤] ثم صبر تعالى نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بقوله:
﴿فاصبر إن وعد الله حق﴾ [الروم: ٦٠] ثم أعاد تنبيههم فقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض (إلى ختم السورة، ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه آي هذه السورة في سورة الزمر شيء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات، فلما بينت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التي تحديت بها العرب، وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق، وكان قيله لهم: احذروا ما قدم لكم، فقد جاءكم محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأوضح آية وأعظم برهان) تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً (وتضمنت هذه السورة العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره وكبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة
139
تبهر العقول بأول وهلة، فلا يمكن العربي الفصيح في شاهد برهان أدنى توقف، ولا يجول في وهمه إلى معارضة بعض آيها أدنى تشوف، وأنه لكتاب عزيز) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد () ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي (فوبخهم سبحانه وتعالى وأدحض حجتهم وأرغم باطلهم وبكَّت دعاويهم ثم قال) قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في اذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد () إنما يستجيب الذين يسمعون (وقرعهم تعالى في ركيك جوابهم عن واضح حجته بقولهم) قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر (وقولهم) لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه (وهذه شهادة منهم على أنفسهم بالانقطاع عن معارضته، وتسجيلهم بقوة عارضته، ثم فضحهم بقوله) قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به (- الآية، وتحملت السورة مع هذا بيان هلاك من عاند وكذب ممن كان قبلهم وأشد قوة منهم، وهم الذين قدم ذكرهم مجملاً في سورة غافر في آيتي) أو لم يسيروا في الأرض () أفلم يسيروا (فقال تعالى مفصلاً
140
لبعض ذلك الإجمال) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (ثم قال) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة (ثم قال تعالى) فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً (الاية، ثم قال) وأما ثمود (فبين تعالى حالهم وأخذهم، فاعتضد التحام السورتين، واتصال المقصدين - والله أعلم - انتهى.
ولما كان حال الإنسان إن مال إلى جانب الخوف الهلع أو إلى جانب الرجاء البطر، فكان لا يصلحه إلا الاعتدال، بالتوسط الموصل إلى الكمال، بما يكون لطبعه بمنزلة حفظ الصحة ودفع المرض لبدنه، قال واصفاً ل (قرآناً)) بشيراً) أي لمن اتبع) ونذيراً) أي لمن امتنع فانقطع.
روى أبو نعيم في الحلية في تلاجمة إمامنا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجه أنه قال في خطبة له: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها إن سنح له الرجاء ادلهمه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف،
141
فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسد.
ولما كانت عادتهم دوام الاحتياط في كل بشارة ونذارة بأمر دنيوي، سبب عن هذا مخالفتهم لعادتهم في ترك الحزم بالجزم بالإعراض فقال: (فأعرض أكثرهم) أي عن تجويز شيء من بشائره أو نذائره) فهم (لذلك) لا يسمعون) أي يفعلون فعل من لا يسمع فهم لا يقبلون شيئاً مما دعا إليه وحث عليه.
ولما أخبر عن إعراضهم، أخبر عن مباعدتهم فيه فقال: (وقالوا) أي عند إعراضهم ممثلين لمباعدتهم في عدم قبولهم: (قلوبنا في أكنَّة) أي أغشية محيطة بها، ولما كان السياق في الكهف للعظمة كان الأنسب له أداة الاستعلاء فقال) إنا جعلنا على قلوبهم أكنة (وعبروا هنا بالظرف إبعاداً لأن يسمعوا) مما) أي مبتدئة تلك الأغشية وناشئة من الأمر الذي) تدعونا (أيها المخبر بأنه نبي) إليه (فلا سبيل له إلى الوصول إليها لنفيه أصلاً.
ولما كان القلب أفهم لما يرد إليه من جهة السمع قالوا: (وفي آذاننا (التي هي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب) وقر) أي ثقل قد أصمها عن سماعه) ومن بيننا وبينك) أي
142
مبتدئ من الحد الذي فصلك منا والحد الذي فصلنا منك في منتصف المسافة قي ذلك) حجاب (ساتر كثيف، فنحن لا نراك لنفهم عنك بالإشارة، فانسدت طرق الفهم لما نقول) فاعمل) أي بما تدين به.
ولما كان تكرار الوعظ موضعاً للرجاء في رجوع الموعوظ قطعوا ذلك الرجاء بالتأكيد بأداته، وزادوه بالنون الثالثة والتعبير بالاسمية فقالوا: (إننا عاملون) أي بما ندين به فلا مواصلة بيينا بوجه ليستحي أحد منا من الآخر في عمله أو يرجع إليه، ولو قال) وبيينا (من غير) من (لأفهم أن البينين بأسرهما حجاب، فكان كل من الفريقين ملاصقاً لبينه، وهو نصف الفراغ الحاصل بينه
وبين خصمه، فيكون حينئذ كل فريق محبوساً بحجابة لا يقدر على عمل فينا في ما بعده أو يكون بينهما اتصال أقله بالإعلام بطرق من أراد من المتباينين الحجاب، فأفادت (من) التبعيض مع إفادة الابتداء، فإنهم لا يثبتون الحجاب في غير أمور الدين.
ولما أخبروا باعراضهم وعللوا بعدم فهمهم بما يدعو إليه، أمره سبحانه بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال: (قل) أي لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادي
143
عليهم بالعجز: (إنما أنا بشر مثلكم (لا غير بشر مما لا يرى، والبشر يرى بعضه بعضاً ويسمعه ويبصره فقولكم أنه لا وصول لكم إلى رؤيتي ولا إدراك شيء مما أقول مما لا وجه له أصلاً.
ولما كان ادعاؤهم لعدم المواصلة بينهم قد تضمن شيئين: أحدهما فيه، والآخر فيما يدعو إليه، ونقض الأول، قال في الثاني: (يوحى إليّ) أي بطريق يخفى عليكم) إنما إلهكم) أي الذي يستحق العبادة) إله واحد (لا غير واحد، وهذا مما دلت عليه الطرق النقلية، وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورات النفسانية، أي لست مغايراً للبشر ممن يخفى عليكم شخصه كالملك، ولا يعجم عليهم مراده بصوته كسائر الحيوانات، ومع كوني بشراً فلست بمغاير لكم في الصنف بكوني أعجمياً، بل أنا مثلكم سواء في كوني عربياً، ومع ذلك كله فأصل ما أوحي إلي ليس معبراً عنه بجمل طوال تمل أو تنسى، أو يشكل فهمها، وإنما هو حرف واحد وهو التوحيد، فلا عذر لكم أصلاً في عدم فهمه ولا سماعه ولا رؤية قائله.
ولما قطع حجتهم وأزال علتهم، سبب عن ذلك قوله:
144
(فاستقيموا) أي اطلبوا واقصدوا وأوجدوا القوام متوجهين وإن كان في غاية البعد عنكم) إليه (غير معرجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره.
ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه، أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال: (واستغفروه) أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً.
واما أمر بالخير، رغب فيه ووهب من ضده، فكان التقدير للترغيب: فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك، فعطف عليه ما السياق له فقال: (وويل) أي وسواة وهلاك) للمشركين ولما كانت العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكان أفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بوحدانيته، فكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان اخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان أخس الأعمال التي بين العبد وبين الخلق منع ما أوجه الله في الزكاة، وكان معنى الشرك الحكم بأن ما لا شيء له أصلاً وما لا يمكن أن يكون له ملك تام على شيء أصلاً قد شارك من له الكل خلقاً وتصرفاً فيما هو عليه من الملك التام الذي
145
لا شوب فيه، وكانت الزكاة إشراك من له ملك غير تام لمثله في جزء يسير من ماله.
قال ذاماً لمن أبى أن يشارك الخلائق وأشرك بالخالق: (الذين لا يؤتون) أي أمثالهم من أولاد آدم) الزكاة (من المال الذي لا صنع لهم في خلقه، فهو مخلف عن أبيهم آدم، فالقياس يقتضي اشتراكهم كلهم فيه على حد سواء، ولكنا رحمناهم بتخصيص كل واحد منهم بما ملكت يمينه منه بطريقة، فقد حكموا في أمر ربهم بما لا يرضونه لأنفسهم، فإنهم أبوا أن يشركوا ببذل الزكاة بعض أخوانهم في بعض مالهم الذي ملكهم له ضعيف، وأشركوا ما لا يملك شيئاً أصلاً بما لا نفع مع المالك المطلق.
ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والأقبال بكلياتهم على لذاتها، فأنكروا الآخرة، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل أصلاً فعلاً لا يمكنه تعاطيه بوجه، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون، ما أثبت لنفسه من فعله، فقال مؤكداً تنبيهاً على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق: (وهم بالآخرة) أي الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها) هم) أي بخاصة من بين أهل الملل) كافرون (فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه
146
أحد في حق من يشاهدون في كل وقت من أفعاله أكثر من ذلك، وأثبتوا لمن لم يشاهددوا له فعلاً قط ما لا يمكنه فعله أصلاً، وهم يدعون العقول الصحيحة والآراء المتينة ورضوا لأنفسهم بالدناءة في منع الزكاة وحكموا بأعظم منها على الله وهم يدعون مكارم الأخلاق ومعالي الهمم، فأقبح بهذه عقولاً وأسفل بها همماً فقد تضمنت الآية أن الويل لمن اتصف بصفات ثلاثة: الشرك الذي هو ضد التعليم لأمر الله، والامتناع من الزكاة الذي هو ضد الشفقة علىخلق الله وإنكار القيامة المؤدي إلى الاستغراق فيما أبغض الله في طلب الدنيا ولذاتها وهو من الاستهانة بأمر الله، قال الأصبهاني: وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام: أمس واليوم والغد، فمعرفة كيف ينبغي وقوع الأحوال في الاليوم الحاضر هو بالإحسان إلى أهل العلم بقدر الطاقة، ومعرفة الأحوال في اليوم المستقبل بالإقرار بالبعث والقيامة، فإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال.
ولما ذكر ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً، ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً، فقال مجيباً لمن تشوف لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره:
147
(إن الذين آمنوا) أي بما آتاهم الله من العلم النافع) وعملوا الصالحات (من الزكاة وغيرها ليكون عملهم شرعياً نافعاً، ولما كان افتتاح السورة بالرحمن الرحيم مشعراً بأن الأسباب الظاهرية انمحت عند السبب الحقيقي الذي هو رحمته، أعرى الخبر عن الفاء، فقال إيذاناً بعظم الجزاء لأن سببه رحمة الرحيم، ولو كان بالفاء لآذنت أنه على مقدار العمل الذي هو سببه: (لهم أجر) أي عظيم) غير ممنون) أي مقطوع - جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله به من أقوالهم في الآخرة والدنيا، والممنون: المقطوع من مننت الحبل أي قطعته بقطع مننه ومنه قولهم: قد منه السفر أي قطعه وأذهب منته.
ولما ذكر سبحانه سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد بخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق: (قل) أي لمن أنكر الآخرة منكراً عليه بقولك: (أئنكم (وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر) لتكفرون) أي توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة) بالذي خلق الأرض)
148
أي على سعتها وعظمتها من العدم) في يومين (فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها، وهذا اليومان الأحد والاثنين - نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنه ما وعبد الله بن سلام رضي الله عنه - قال ابن الجوزي: والأكثرين، وحديث مسلم الذي تقدم في سورة البقرة
﴿خلق الله التربة يوم السبت﴾ يخالف هذا، فإن البداءة فيهبيوم السبت وهو مصرح بأن خلق الأرض وما فيها في ستة أيام كما هو ظاهر هذه الآية، ويجاب بأن المراد بالخلق فيه إخراج أقواتها بالفعل، والمراد هنا تهيئتها لقبول ذلك، ويشكل أيضاً بأن الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك، وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل، فالظاهر أن المراد باليوم ما قاله الحرالي: مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر أو مقدار يومين تعرفونها من أيام الدنيا.
ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره، عطف على) تكفرون (قوله: (وتجعلون) أي مع هذا الكفر) له أنداداً (مما خلقه، فتثبتون له أفعالاً وأقوالاً مع أنكم لم تروا شيئاً من ذلك، فأنكرتم ما تعملون مثله وأكبر منه، وأثبتّم ما لم تعملوه أصلاً، هذا هو الضلال المبين.
ولما بكتهم على قبيح معتقدهم، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال: (ذلك) أي
149
الإله العظيم) رب العالمين) أي موجدهم ومربيهم، وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال.
ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب، فقال عاطفاً على ما تقديره: أبدع الأرض على ما ذكر: (وجعل (ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي) فيها رواسي (هي أشدها وهي الجبال، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال: (من فوقها (فمنعتها من الميد، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها، أساطين حاملة، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل.
ولما هيأها لما يراد منها، ذكر ما أودعها فقال: (وبارك فيها) أي جعلها قابلة ميسرة للسير إليه والإقبال عليه، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى) وقدر فيها أقواتها) أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه، منهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه، وقدره فأمضاه، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان
150
جميع ما تقدم من إيداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها، دفعة واحدة لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته، ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها فقال: (في أربعة أيام (وهذا العدد عن ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية، فتعارض آية) ألم السجدة () لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام (وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خصالأقوات والمنافع لأحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد، وإنما كان أدل على القدرة، لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة، وتقدير الأقوات فإنه أملا لا يقوم بنفسه، فلم يفرد يوميه بالذكر، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه، لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار، ليضل به كثيراً ويهدي
151
به كثيراً، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها، والاعتناء بشأنهم وشأنها، وزادت أيضاً بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم - كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور، وليعلم أيضاً بخلق السماء التي هي أكبر جرماً وأتقن جسماً وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح، بل لحكم تعجز عن حملها العقول، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً على السكينة والبعد من العجلة.
152
ولما كان لفظ) سواء (الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو) إلى كلمة سواء بيننا وبينكم (قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله: (أربعة أيام (من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة، ناصباً على المصدر: (سواء) أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء) للسائلين) أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها، لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص، وقراءة يعقوب بجر (سواء) معينة لأن تكون نعتاً ل (أربعة) وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة، قال ابن برجان: ألاترى الأمر إلى السماء أولاً في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات
153
والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم - أمر قويم وحكمة شائعة آية قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة.
الشتاء الربيع الصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب، قال: وقوله (السائلين) تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه - انتهى.
ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي، ولفظ الاستواء وحب الغاية الدال على عظيم العناية فقال: (ثم استوى) أي قصد قصداً هو القصد منتهياً قصده) إلى السماء وهي) أي والحال أنها) دخان (بعد ما فتقها من
154
الأرض، قالوا: كان ذلك الدخان بخار الماء فهو مستعار من المرتفع من النار، وهو تشبيه صوري، فالسماء متقدمة في الدخانية على الأرض، تقدم الذكر على الأنثى ثم خلقت ذات الرض وبعد تصوير السماء أولاً إيجاداً وتتميماً لتسوية السماء بعد أن كانت دخاناً، ويومان لتتميم المنافع فتداخلت الأعداد لتداخل الأفعال،) فقال لها) أي عقب مقارنتين لما قدرته فيكما وأردته منكما من إخراج المنافع من المياه والنبات والمعادن وغيرها، ووضع المصدر موضع الحال مبالغة فقال: (طوعاً أو كرهاً) أي طائعين أو كارهتين في إخراج ما أودعتكما من الأمانة في أوقاتها وعلى ما ينبغي من مقاديرها وهيآتها طوع تسخير لا تكليف)
155
قالتا أتينا) أي نحن وما فينا ما بيننا.
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل: (طائعين) أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل، وذلك هو بذلهما للأمانة، وعدم حملها، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً) فقضاهن) أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات) سبع سماوات (صنعاً نافذاً هو كالقضاء لا تخلف فيه) في يومين) أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جحميع الخافقين، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحداً من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع، قال ابن جرير: وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض.
يعني فرغ من ذلك وأتمه) وأوحى) أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي)
156
في كل سماء أمرها) أي الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل، وزمام مبرم لا ينحل.
ولما عم، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم: (وزينّا) أي بما لنا من العظمة) السماء الدنيا) أي القربى إليكم لأجلكم) بمصابيح (من زواهر النجوم، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها، ودل السياق على أن المراد: زينة) و (حفظناها بها) حفظاً (من الشياطين، فالآية من الاحتباك: حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها.
ولما كان هذا أمراً باهراً، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها: (ذلك) أي الأمر الرفيع والشأن البديع) تقدير العزيز (الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء) العليم (المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت
157
أمه من الأمم قبلها، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول: إنه فاعل بالذات لا بالاختيار، فاقتضى الحال عدداً، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص، وخلق الأرض في يومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذاناً بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض - مع أنها أكبر جرماً وأعجب صنعاً وأتقن جسماً - أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار.
158
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان، وتحملهم على الموافقة والإذعان، فيزول النزاع بحسن الاتباع، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر، فلقد أرسلناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿ رسلاً ﴾ أي بكثرة. ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال :﴿ من قبلك ﴾ أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به :﴿ منهم من قصصنا ﴾ أي بما لنا من الإحاطة ﴿ عليك ﴾ أي أخبارهم وأخبار أممهم ﴿ ومنهم من لم نقصص ﴾ وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة ﴿ عليك ﴾ لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم ﴿ وما ﴾ أي أرسلناهم والحال أنه ما ﴿ كان لرسول ﴾ أصلاً ﴿ أن يأتي بآية ﴾ أي ملجئة أو غير ملجئة مما يطلب الرسول استعجالاً لاتباع قومه له، أو اقتراحاً من قومه عليه أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون له أو ينقادون، وصرف الكلام عن المظهر المشير إلى القهر إلى ما فيه - مع الإهانة - الإكرام فقال :﴿ إلا بإذن الله ﴾ أي بأمره وتمكينه، فإن له الإحاطة بكل شيء، فلا يخرج شيء عن أمره، فإن لم يأذن في ذلك رضوا وسلموا وصبروا واحتسبوا، وإن أذن في شيء من ذلك من عذاب أو آية ملجئة أو غير ذلك جاءهم ما أذن فيه ﴿ فإذا جاء ﴾ وزاد الأمر عظماً لمزيد الخوف والرجاء بالإظهار دون الإضمار فقال :﴿ أمر الله ﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وأمره ما توعد به من العذاب عند العناد بعد الإجابة إلى المقترح، ومن القيامة وما فيها، وتكرير الاسم الأعظم لتعظيم المقام باستحضار ما له من صفات الجلال والإكرام، ولثبات ما أراد ولزومه عبر عنه بالقضاء، فقال مشعراً بصيغة المفعول بغاية السهولة :﴿ قُضيَ ﴾ أي بأمره على أيسر وجه وأسهله ﴿ بالحق ﴾ أي الأمر الثابت الذي تقدم الوعد به وحكم بثبوته من إهلاك ناس وإنجاء آخرين أو إيمان قوم وكفر آخرين - هذا كله هو الذي أجرى سبحانه سنته القديمة بثبوته، وأما الفضل من الإمهال والتطول بالنعم فإنما هو قبل الإجابة إلى المقترحات، والدليل على أن هذا من مراد الآية ما يأتي من قوله :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ﴾ وما أشبهه ﴿ وخسر ﴾ أي هلك أو تحقق وتبين بالمشاهدة أنه خسر ﴿ هنالك ﴾ أي في ذلك الوقت العظيم بعظمة ما أنزلنا فيه، ظرف مكان استعير للزمان إيذاناً بغاية الثبات والتمكن في الخسار تمكن الجالس ﴿ المبطلون * ﴾ أي المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق، إما باقتراح الآيات مع إتيانهم بما يغنيهم عنها وتسميتهم له سحراً أو بغير ذلك، إما بتيسرهم على الرجوع عما هم فيه من العناد من غير إذعان وإما بالهلاك، وإما بإدحاض الحجج والحكم عليهم بالغلب ثم النار ولو بعد حين، ومن هذه الآية أخذ سبحانه في رد مقطع السورة على مطلعها، فهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى ﴿ وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ﴾ ﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية ﴾ إلى ﴿ وجادلوا بالباطل ﴾ و ﴿ أفلم يسيروا في الأرض ﴾ إلى ﴿ فأخذتهم فكيف كان عقاب ﴾ وهذا وما بعده مما اشتمل عليه من الحكمة والقدرة إلى الثلاث الآيات الأول.
ولما كان المبطلون ليسوا أشد ولا أقوى من بعض الحيوانات العجم، دل على ما أخبر به من نافذ نصرته فيهم بقوله مذكراً لهم بنعمته مستعطفاً إلى طاعته دالاً على التوحيد بعد تليينهم بالوعيد مظهراً الاسم الجامع إشارة إلى أن ما في هذه الآية من الدلالات التي لا تحصى :﴿ الله ﴾ أي الملك الأعظم ﴿ الذي جعل لكم ﴾ لا غيره ﴿ الأنعام ﴾ أي الأزواج الثمانية بالتذليل والتسخير ﴿ لتركبوا منها ﴾ وهي الإبل مع قوتها ونفرتها، والتعبير باللام في الركوب مطلقاً ثم فيه مقيداً ببلوغ الأماكن الشاسعة إشارة إلى أن ذلك هو المقصود منها بالذات، وهو الذي اقتضى تركيبها على ما هي عليه، فنشأ منه بقية المنافع فكانت تابعة. ولما كان الاقتيات منها - في عظيم نفعه وكثرته وشهوته - بحيث لا يناسبه غيره، عد الغير عدماً فقال تعالى :﴿ منها ﴾ أي من الأنعام كلها ﴿ تأكلون * ﴾ بتقديم الجار.
ولما كان التصرف فيها غير منضبط، أجمله بقوله :﴿ ولكم فيها ﴾ أي كلها ﴿ منافع ﴾ أي كثيرة بغير ذلك في الدر والوبر والصوف وغيرها. ولما كان سوقها وبلوغ الأماكن الشاسعة عليها في أقرب مدة لنيل الأمور الهائلة عظيم الجدوى جداً، نبه على عظمته بقطعه عما قبله بإجمال المنافع ثم تفصيله منه فقال :﴿ ولتبلغوا ﴾ أي مستعلين ﴿ عليها ﴾ وهي في غاية الذل والطواعية، ونبههم على نقصهم وعظيم نعمته عليهم بقوله :﴿ حاجة ﴾ أي جنس الحاجة. ولما كان في مقام التعظيم لنعمه لأن من سياق الامتنان وإظهار القدرة وحدها وجمع ما تضمر فيه فقال :﴿ في صدوركم ﴾ إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حتى فاضت منها فملأت مساكنها. ولما كان الحمل يكون مع مطلق الاستعلاء سواء كان على أعلى الشيء أولاً بخلاف الركوب، قال معبراً بأداة الاستعلاء فيها وفي الفلك غير سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، فإنها كانت مغطاة كما حكي فكانوا في بطنها لا على ظهرها :﴿ وعليها ﴾ أي في البر ﴿ وعلى الفلك ﴾ أي في البحر ﴿ تحملون * ﴾ أي تحمل لكم أمتعتكم فإن حمل الإنسان نفسه تقدم بالركوب. وأشار بالبناء للمفعول إلى أنه سخر ذلك تسخيراً عظيماً لا يحتاج معه إلى علاج في نفس الحمل.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها سبحانه مشتملة على آيات كثيرة، عبر فيها بالماضي وعطف بالمضارع تنبيهاً على التجدد على ما تقديره : فأراكم هذه الآيات البينات منها، قوله :﴿ ويريكم ﴾ أي في لحظة ﴿ آياته ﴾ أي الكثيرة الكبيرة فيها وفي غيرها من أنفسكم ومن الآفاق، ودل على كثرة الآيات وعظمتها بإسقاط تاء التأنيث كما هو المستفيض في غير النداء بإظهار الاسم الأعظم في قوله :﴿ فأيّ آيات الله ﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿ تنكرون * ﴾ حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته التي من أوضحها البعث.
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد، تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهب فقال :﴿ أفلم يسيروا ﴾ أي هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام ﴿ في الأرض ﴾ أيّ أرض كانت، سير اعتبار ﴿ فينظروا ﴾ نظر ادكار فيما سلكوه من سبلها ونواحيها، ونبه على زيادة العظمة فيما حثهم على النظر فيه بسوقه مساق الاستفهام تنبيهاً على خروجه عن أمثاله، ومباينته لأشكاله، بقوله :﴿ كيف كان عاقبة ﴾ أي آخر أمر ﴿ الذين ﴾ ولما كانوا لا يقدرون على استغراق نظر جميع الأرض وآثار جميع أهلها، نبه بالجار على ما تيسر فقال تعالى :﴿ من قبلهم ﴾ أي مع قرب الزمان والمكان، ولما كانوا معتمدين في مغالبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومجادلته بالباطل في الآيات الظاهرة على كثرتهم وقوتهم وقلة أصحابه مع ضعفهم، وكان قد تقدم الإنكار عليهم في المجادلة لإدحاض الحق، وعظم النكير عليهم بعدم النظر عن المسير في الأرض بأعين الاعتبار في الآثار، من المساكن والديار، لمن مضى من الأشرار، وأثبت لهم الأشدية وأنها لم تغن عنهم، وذكر فرعون وما كان له من المكنة بالمال والرجال، وأنه أخذه أخذة صارت مثلاً من الأمثال، وكان قد بقي مما قد يتعلل به في المبالغة الكثرة، ذكرها مضمومة إلى الشدة تأكيداً لمضمون الخبر في أنه لا أمر لأحد مع أمره، فقال مستأنفاً جواباً لمن يقول : ما كانت عاقبتهم ؟ فقال :﴿ كانوا أكثر منهم ﴾ أي عدداً أضعافاً مضاعفة ولا سيما قوم نوح عليه الصلاة والسلام :﴿ وأشد قوة ﴾ في الأبدان كقوم هود عليه الصلاة والسلام الذين قالوا كما يأتي في التي بعدها﴿ من أشد منا قوة ﴾[ فصلت : ١٥ ] ﴿ وآثاراً في الأرض ﴾ بنحت البيوت في الجبال، وحفر الآبار، وإنباط المياه، وبناء المصانع الجليلة - وغير ذلك مما كانوا عليه.
ولما كان التقدير : فنظروا فأهلكهم الله، سبب عن كثرتهم وشدتهم في قوتهم قوله نافياً صريحاً، أو يكون استفهاماً إنكارياً ﴿ فما ﴾ أي أيّ شيء ﴿ أغنى عنهم ﴾ أو لم يغن عنهم شيئاً من الغنى ﴿ ما كانوا ﴾ أي دائماً كما في جبلاتهم من دواعيه ﴿ يكسبون * ﴾ بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما رتبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم أمرنا بل كانوا كأمس الذاهب.
ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم، سبب عنه شرح حالهم، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم، فقال مبيناً لما أغنى :﴿ فلما جاءتهم رسلهم ﴾ أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم ﴿ بالبينات ﴾ أي الدالة على صدقهم لا محالة ﴿ فرحوا ﴾ أي القوم الموصوفون ﴿ بما عندهم من العلم ﴾ الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفاً مع الوهم، وتقييداً بالحاضر من الرسم من علم ظاهر الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال في التي قبلها
﴿ ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ﴾[ الزمر : ٤٩ ] وكما قال قارون لما قيل له ﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك ﴾ :" قال " :﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾ وفرحهم به لأنه أداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما فيها واستهزؤوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا، وإسراع المصائب إليهم، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد، ويكابدونه من الأنداد والأضداد، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به بعدّهم ذلك محالاً وباطلاً وضلالاً، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى ﴿ فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون ﴾ ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد، وأحاطوا بهم المكر والغوايل، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم، وأطال غمهم وترحهم ﴿ وحاق ﴾ أي أحاط على وجه الشدة ﴿ بهم ما كانوا ﴾ أي عادة مستمرة.
ولما كان استهزاؤهم بالحق عظيماً جداً، عد استهزاءهم بغيره عدماً، وأشار إلى ذلك بتقديم الجار فقال :﴿ به يستهزؤون * ﴾ من الوعيد الذي كانوا قاطعين ببطلانه فعلم قطعاً أنه إنما يفرح من العلم بما تضمن النجاة والسعادة الأبدية على أن سوق الكلام هكذا مليء بالاستهزاء بهم والتهكم عليهم لأنهم نصبوا أنفسهم منصب العالم المطيق المنطيق الذي إذا غلب خصمه فأسكته وألقمه الحجر فأخرسه وأفحمه بواضح الحجة وقويم المحجة ظهر عليه السرور وغلبه الفرح فإن عاند خصمه ووقف مع وهمه استهزأ به وتضاحك منه - هذا مع ما عنده من عمايات الجهل التي لا يقدرون على إنكارها بدليل اعتراف هؤلاء الذين أرسل إليهم هذا النبي الكريم أن أهل الكتاب أعلم منهم، فكانوا يوجهون ركابهم إلى اليهود يسألونهم عن أمرهم وأمره على أنه قد أتاهم بما يعلي به قدرهم على أهل الكتاب، ويجعلهم المخصوصين بالسيادة على مر الأحقاب، وهم يأبون بمجادلتهم بالباطل إلا سفولاً وإعراضاً عن الصواب، وعدولاً ونكوصاً ونكولاً، والآية مرشدة إلى أنه لا يتعلم إلا من ظن من نفسه القصور، ولهذا كان أقبل شيء للعلم الصغار، والآية من الاحتباك : إثبات الفرح أولاً دليل عل حذف ضده ثانياً، وإثبات الاستهزاء ثانياً دليل على حذف مثله أولاً.
ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة، وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها ﴿ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ﴾ ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال ﴿ هو الذي يريكم آياته ﴾ وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به عن اقتراح غيره، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم ﴿ فائت بآية إن كنت من الصادقين ﴾ ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف، حتى قال ﴿ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا ﴾ ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى أن قال ﴿ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ﴾ ثم شرع يعدد الآيات العظيمة التي تأبى لشدة وضوحها جدال المجادل، وضلال المماحك المماحل، لولا أنه قد أخرجتها شدة الإلف لها من حيز الغرابة من خلق الخافقين وتكوير الملوين، وبسط الأرض ورفع السماء وتصوير الإنسان وما فيه من عظيم الشأن، فكشف ستورها، وبين دلالتها وظهورها، ولفت الكلام إلى تهديد المجادلين بقوله منكراً عليهم ﴿ ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ﴾ على عادة البلغاء في أنه إذا أخرس أحدهم خصمه بما هو من حججه كالشمس نوراً وطلعة وظهوراً أنكر بالاستفهام الذي هو أمر من وقع السهام.
فلما ثبت بذلك عنادهم وغلظتهم وقوتهم في لددهم واشتدادهم، بين جهلهم بذلهم عند ما بدا لهم وبال أمرهم وحان أن تبرك عليهم أثقال العذاب الفائتة للقوى، فحلت ما أحكموا عقده من شرهم، فقال مبيناً لما أجمل من الحيق مسبباً عنه لافتاً القول إلى مظهر العظمة ترهيباً :﴿ فلما رأوا ﴾ أي عاينوا ﴿ بأسنا ﴾ أي عذابنا الشديد على ما له من العظمة التي أدنت بها نسبته إلينا وصدوره عنا ﴿ قالوا آمنا بالله ﴾ أي الذي له مجامع العظمة، ومعاقد العز ونفوذ الكلمة، كما ظهر لنا في هذا البأس من غير إشكال ولا إلباس، وأكدوا ذلك نافين لما كانوا فيه من الشرك : بقولهم ﴿ وحده ﴾ ودل على انحلال عراهم ووهي قواهم بزيادة التصريح في قولهم :﴿ وكفرنا بما كنا ﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿ به مشركين * ﴾ لأنا علمنا أنه لا يغني من دون الله شيء.
ولما كان الكفر بالغيب سبباً لعدم قبول الإيمان عند الشهادة قال :﴿ فلم يك ﴾ أي لم يصح ولم يقبل بوجه من الوجوه لأنه لا كون يساعد على ذلك ولا بأدنى درجات الكون، فأشار بكان إلى أن هذا أمر مستقر وشأن مستمر لكل أمة ليس خاصاً بالمحدث عنهم، ومن مضى قبلهم وبحذف لام الكلمة إلى أنهم أمعنوا في الترقق بتقرير الإيمان وتكريره وتصريحه في إطلاقه وتسريحه، والوقت ضيق والمجال حصير، وقد أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة، فلم يكونوا لفوات الوقت موفين بما طلب منهم ﴿ ينفعهم إيمانهم ﴾ أي يتجدد لهم نفعه بعد ذلك لأنه إيمان إلجاء واضطرار لا إيمان طواعية واختيار ﴿ لما رأوا ﴾ وأظهر موضع الإضمار زيادة في الترهيب فقال :﴿ بأسنا ﴾ لإن الإيمان لا يتحقق ولا يتصور إلا مع الغيب، وأما عند الشهادة فقد كشفت سريرته على أنه قد فاتت حقيقته وصورته، فلو ردوا لعادوا، ولو أتاهم بعد ذلك العذاب لانقادوا، ولهذا السر قال تعالى صارفاً القول إلى الاسم المقتضي لمزج الحكمة بالعظمة :﴿ سنت الله ﴾ أي سن الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة ذلك في كل دهر سنة، ولذا قال :﴿ التي قد خلت في عباده ﴾ أن الإيمان بعد كشف الغطاء لا يقبل، وكل أمة كذبت الرسل أهلكت، وكل من أجيب إلى الإيمان المقترحة فلم يؤمن عذب، سنها سنة وأمضاها عزمة، فلا غير لها، فربح إذ ذاك المؤمنون ﴿ وخسر ﴾ أي هلك أو تحقق وتبين أنه خسر. ولما كان المكان لا ينفك عن الزمان، استعير ظرفه له وليدل على غاية التمكن فقيل :﴿ هنالك ﴾ أي في ذلك الوقت العظيم الشأن بما كان فيه وكان ﴿ الكافرون * ﴾ أي العريقون في هذا الوصف فلا انفكاك بينهم وبينه، وقد التف آخرها بما بين من كمال العزة وتمام القدرة وشمول العلم مما رتب من أسباب الهداية والإضلال والإشقاء والإسعاد والنجاة والإهلاك بأولها أي التفاف، واكتنفت البداية والنهاية بيان ذلك مع ما اشتمل عليه الوسط أيضاً منه أعظم اكتناف، فسبحان من هذا إنزاله، وتبارك اسمه وجل جلاله، ولا إله سواه ولا حول ولا قوة إلا بالله - رب سهل يا كريم.
Icon