تفسير سورة المائدة

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ هو أمر بالوفاء بكل عقد. والعقد: كل اتفاق يتم بين اثنين فأكثر؛ مكتوباً كان أو غير مكتوب: فالزواج عقد، والوفاء به: حسن العشرة، وترك المضارة. والبيع عقد، والوفاء به: عدم الغش، وحسن المعاملة. والوعد - أياً كان - عقد، والوفاء به: إنجازه. ويقاس على ذلك سائر الاتفاقات التي تحمل بين طياتها حقوقاً والتزامات (انظر آية ٧٢ من سورة الأنفال) ﴿بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾ وهي الإبل والبقر والغنم؛ أو هي الأنعام الوحشية؛ من الظباء والبقر والحمر ونظائرها ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تحريمه في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾ غير مستحلي صيد ما يصاد منها، وأنتم محرمون. وقيل المراد بالإحلال: أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطونها عند ذبحها
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ﴾ شعائر الله: حدوده التي حددها لعباده - من إحلال الحلال، وتحريم الحرام - والمراد بها هنا: معالم الحج؛ كالطواف، والسعي، والحلق، والنحر، ونحوه. وإحلالها: تعدي حدود الله تعالى فيها، ومخالفة أوامره ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي ولا تنتهكوا حرمات الشهر الحرام، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب؛ وانتهاك حرماتها: القتل فيها ﴿وَلاَ الْهَدْيَ﴾ وهو ما يهدى إلى البيت تقرباً إلى الله تعالى ﴿وَلاَ الْقَلائِدَ﴾ جمع قلادة؛ وهو ما قلد به الهدي. أي لا تنتهكوا حرمات الهدي؛ سواء كان مقلداً أو غير مقلد. وقيل: إنهم كانوا في الجاهلية يتقلدون من لحاء شجر الحرم؛ فيأمنون على أنفسهم حتى يلحقوا بأهلهم؛ فنهى الله عن التقلد بشيء من شجر الحرم
﴿وَلا آمِّينَ﴾ ولا قاصدين ﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي لا تمنعوا قاصدي البيت عن الوصول إليه، ولا تقاتلوهم؛ لأنهم ﴿يَبْتَغُونَ﴾ بذلك ﴿فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ انتهيتم من أداء مناسك الحج، وحل لكم ما حرم
-[١٢٥]- عليكم - بسبب الإحرام - كالصيد والحلق ونحوهما ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يحملنكم ﴿شَنَآنُ﴾ بغض ﴿قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ﴾ أي من أجل أنهم منعوكم ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ﴾ عليهم ﴿وَتَعَاوَنُواْ﴾ جميعاً ﴿عَلَى الْبرِّ﴾ بالناس ﴿وَالتَّقْوَى﴾ وتقوى الله تعالى وخشيته ﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ﴾ أي ولا تتعاونوا على ارتكاب الذنوب ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ على الناس
﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ أي ما سمي عليه بغير اسمه تعالى ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ التي ماتت من الضرب؛ من وقذه: إذا ضربه حتى استرخى وأشرف على الهلاك ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ التي تردت - أي سقطت - من مكان عال ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ التي ماتت من نطح أخرى لها ﴿وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ﴾ أي ما بقي من أكله، أو ما أمسكه ليأكله ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي يستثنى من التحريم: ما ذكيتموه؛ أي طهرتموه بالذبح قبل أن يموت من الضرب، أو السقوط، أو النطح، أو أكل السبع ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ أي على الأصنام والأوثان ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾ الاستقسام: طلب ما قسم في الغيب؛ و «الأزلام» قداح كانوا يستعملونها لذلك ﴿ذلِكُمْ﴾ الذي ذكرته لكم وحرمته عليكم خروج عن أمر الله تعالى ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى أكل شيء ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ مجاعة ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾ أي غير مائل لذنب؛ وإنما ألجأته الضرورة القصوى
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ من المطاعم ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ التي تذكونها بأيديكم ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾ أي وأحل لكم أيضاً صيد ما علمتموه ﴿مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾ وهي سباع البهائم والطير: كالكلب، والفهد، والعقاب، والصقر، والبازي، ونحوها.
-[١٢٦]- ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ المكلب: مؤدب الجوارح، ومعلم الكلاب ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ أي مما أمسكن لكم من الصيد، ولم يأكلوا منه؛ أما إذا أكلت الجوارح من الصيد؛ فلا يحل أكله؛ بل يترك لهم ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ من اليهود والنصارى؛ الذين يدينون بما نزل عليهم، ويسمون الله تعالى على ذبائحهم
﴿لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ كذبائحكم تماماً؛ ولا يطلق الحل إلا على الذبائح فحسب - لا على سائر الأطعمة - ألا ترون أنهم يطعمون الخنزير؛ وهو حرام عندنا وإثم كبير ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ الحرائر العفيفات ﴿مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ حل لكم زواجهن ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ حل لكم أيضاً ﴿إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مهورهن ﴿مُحْصِنِينَ﴾ متزوجين ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ زانين. والسفاح: الزنا ﴿وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ الخدن: الصديق ﴿حَبِطَ﴾ بطل
﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ﴾ أي أحدث؛ وذلك أنهم كانوا يذهبون إلى الغائط لقضاء حاجتهم. والغائط: الأرض المستوية الواسعة؛ ومنه غيط، وغيطان: لما يحرث ويزرع ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ﴾ أي جامعتم
-[١٢٧]- ﴿فَتَيَمَّمُواْ﴾ اقصدوا ﴿صَعِيداً﴾ الصعيد: وجه الأرض؛ من تراب وغيره ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ ضيق ﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ يطهر أجسامكم من الأحداث والخبائث، وأرواحكم من دنس الشك والمعاصي ويؤخذ من التيمم أن الله تعالى لم يرد من الغسل والوضوء: مجرد النظافة الظاهرية - وإلا لما أجزأ التيمم: الذي هو في حقيقته يتنافى مع مظهر النظافة - وإنما أريد بذلك التطهر الباطني، والتطهر الروحي؛ وبهما يكون العبد أهلاً لمناجاة ربه وللوقوف بين يديه، وبذلك أيضاً ينظر الله تعالى إليه برحمته ومغفرته، وإنعامه وإحسانه فعلى المغتسل والمتوضىء أن ينوي تطهير روحه، قبل تطهير جوارحه؛ وأن يقصد بغسل يديه: محو ما ارتكبتا من آثام وذنوب. وبغسل وجهه: إزالة خائنة عينيه، وإثم أذنيه. وبمسح رأسه: إزاحة هواجسه ووساوسه، وطرد ما يلقي الشيطان في فكره، مما يكون سبباً في وبال أمره. وبغسل رجليه: إزالة ما علق بهما من آثار خطإ خطا إليه، وجرم مشى فيه وما أراد الله تعالى بالغسل والوضوء والتيمم: سوى تطهير ذاتكم وصفاتكم، ونقاء سركم وسريرتكم ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالوفاء والصفاء
﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإيمان ﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ﴾ بأن تسمعوا وتطيعوا؛ فإذا وفيتم بذلك: وفى لكم ما ضمن لكم الوفاء به: من إتمام نعمته، ودخول جنته، والتمتع بدار كرامته وقيل: الميثاق: هو الذي أخذ عليهم - وهم في صلب آدم - حين قال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ﴾ والأول أولى ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي بما تخفي القلوب
﴿يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ﴾ قائمين في سبيل مرضاته: تقصدون وجهه في سائر أعمالكم، وتبتغون فضله في جميع أموركم
﴿شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ﴾ أي يجب أن يكون العدل في الحكم، والصدق في الشهادة؛ في المكان الأول من تقديركم، وألا تحيدوا عن ذلك أبداً مهما كان المحكوم عليه أو المشهود له ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يحملنكم ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ﴾ بغض قوم ﴿عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ بينهم؛ لعداوتكم لهم، وكراهتكم إياهم ﴿اعْدِلُواْ﴾ بين الجميع - أعداء وأحباء، بعداء وأقرباء - فذلك أزكى لكم، وأطهر لنفوسكم، وهذا ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أي أقرب لخشية الله تعالى، ومخافة عقابه وأهل التقوى: هم أهل الخوف من الله تعالى، والحذر من أن يخالفوه
﴿يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ هم يهود بني النضير. وقيل: قريش بالإيذاء والقتال ﴿فَكَفَّ﴾ منع} أن تصل إليكم بسوء ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ وحده ﴿﴾ لا على غيره (انظر آية ٨١ من سورة النساء).
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ على الإيمان والطاعة ﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ النقيب: هو الذي ينقب عن أفعال القوم ويفتش عنها ﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ لبني إسرائيل على لسان رسله ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ بالتوفيق والمعونة ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ﴾ وداومتم عليها ﴿وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ﴾ أعطيتموها لمن أمرت باعطائها لهم ﴿وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي﴾ جميعاً ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ عظمتموهم ووقرتموهم ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ بالصدقات التي يردها لكم في الدنيا أضعافاً مضاعفة، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت لئن فعلتم ذلك ﴿لأُكَفِّرَنَّ﴾ لأمحون ﴿عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ التي ارتكبتموها ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾
﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ﴾ الميثاق ﴿مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ أخطأ طريق الصواب والحق
﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ أي فبنقضهم عهدهم اللعنة من الله تعالى: الطرد والمقت؛ نعوذ به تعالى من غضبه ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ جافية عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ وذلك بتحريفهم التوراة، وكتابة ما يرغبون فيها، ومحو ما لا يرغبون، أو تحريفهم معانيها بما يتفق وأهواءهم ﴿وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ الحظ: النصيب. أي تركوا نصيباً مما ذكروا به فلم يفعلوه ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ﴾ على خيانة ﴿مِنهُمُ﴾ ومن ذلك همهم ببسط أيديهم إليكم بالإيذاء والقتال ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾ استكانوا ولم يبسطوا أيديهم ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ أي عن الذين هموا بكم ﴿وَاصْفَحْ﴾ عن ذنبهم هذا ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ خصوصاً من أحسن لمن أساء. وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ هذا هو حال اليهود
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ أيضاً؛ كما أخذنا ميثاق اليهود ﴿فَنَسُواْ حَظّاً﴾ نصيباً ﴿مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ كما نسيت اليهود «تشابهت قلوبهم» ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾ أي بين اليهود والنصارى، أو بين اليهود أنفسهم، أو بين النصارى بعضهم مع بعض. وعلى كلا الوجهين: فقد شاعت العداوة بين اليهود وبعضهم، وبين النصارى وبعضهم، وبين اليهود والنصارى؛ فترى اليهود وقد انقسموا إلى فرقتين متنافرتين: قرّايين وربانيين؛ وكلاهما له دين خاص، وشريعة خاصة، ونظام يخالف نظام الآخر - في العبادات والمعاملات - لا يجتمعان إلا في أمر واحد: هو كراهة المسلمين والنصارى. وترى النصارى وقد انقسموا إلى فرق متعددة: كاثوليك، وأرثوذكس، وبروتستانت؛ كل منها له شريعة خاصة ونظام خاص؛ وتراهم دائبي الخلاف في كل صغيرة وكبيرة. أما عداوة اليهود للنصارى، والنصارى لليهود، فأمر لا يحتاج إلى
-[١٢٩]- برهان أو دليل؛ قال تعالى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾ وترى الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - وقد تفنن بعضهم في إهلاك البعض - هلاكاً تشيب لهوله الولدان - فمن مخترع للقنبلة الذرية إلى مخترع للهيدروجينية، إلى مصمم لقنبلة الكوبالت؛ إلى ما لا نهاية له من صنوف الإيذاء والبلاء الذي لا يوصف؛ وبذلك حق عليهم الإغراء؛ فهم أبد الدهر في شحناء وبغضاء
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ خطاب لليهود والنصارى في عهد النبي ﴿قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ اسم جنس. أي ما كنتم تخفونه من كتابيكم «التوراة والإنجيل» وكان مما أخفوه وبيّنه النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: رجم الزانيين المحصنين ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ موضح؛ وهو القرآن الكريم. اللهم أمدنا بنوره، واجعله حجة لنا لا علينا
﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ طريق مرضاته ﴿سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ طرق الأمن والسلامة؛ و ﴿السَّلاَمِ﴾: يشمل كل ما تحتمله هذه الكلمة من معانٍ زاخرة بأنبل الصفات والسمات؛ فالسلام: هو السلامة والسلم، والود والهدوء، والسكينة والطمأنينة، والخير والبر ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ﴾ وهي جمع ظلمة؛ وهي تقع على كل ضلال وخبال، وسوء وشر، وعصيان وفسوق أرأيت كيف يتعثر الإنسان في الظلمات: فلا يرى ما يعترضه من عقبات، ولا ما يصادفه من مهاوي ومهالك؟ فيقع في موارد التهلكة وسوء العاقبة. والمراد بالظلمات أيضاً: الجهل والكفر (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) فمن أحبه الله تعالى: هداه إلى سبل السلام، وأخرجه من الظلمات ﴿إِلَى النُّورِ﴾ والنور: كل عمل يتسم بالنبل والفضل، والهدي والرشاد أرأيت كيف يهتدي الإنسان في النور إلى سلامته وأمنه، ويتوقى مواطن الخطل والزلل؛ وبالتالي يقي نفسه غضب الرب، وسوء المنقلب والمراد بالنور: الإيمان. أي يخرجهم من ظلمات الكفر، إلى نور الإيمان ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بأمره وإرادته ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ﴾ طريق ﴿مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريق النجاة، طريق الفلاح، طريق الجنة كأنّ سائلاً سأل: ما هو القرآن؟ وما فائدته؟ وما جدوى نزوله؟ فقيل له: هو ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وهو تعريف عرّف به القرآن منزله تعالى؛ العالم بأسراره وأنواره، الواضع لمعالمه وأحكامه
وهذا التعريف بالقرآن؛ خير مما عرفه به الأصوليون؛ من أن القرآن: هو اللفظ العربي، المنزل
-[١٣٠]- على محمد للتدبر والتذكر، المنقول متواتراً؛ وهو ما بين دفتي المصحف؛ المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس.
وهو تعريف - كما ترى - جاف، خال من الروح والروعة الواجبة. وخير التعاريف به: تعريف منزله ومبدعه؛ تعالى شأنه، وعز سلطانه
﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً﴾ أي فمن يملك أن يدفع شيئاً أراده الله تعالى ﴿إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ الذي تزعمون ألوهيته، أو بنوتهلله أن يهلك ﴿أُمُّهُ﴾ مريم التي ولدته؛ ذكرها تعالى ليعرفهم أن الله الواجب الوجود: لا يلد ولا يولد؛ فكيف تقولون عمن ولدته مريم: إنهالله، أو ابنالله؟
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى﴾ تبجحاً منهم ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ قالوا ذلك حين دعاهم النبي للإيمان، وحذرهم غضب الله تعالى وعقابه ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: إذا كنتم صادقين في أنكم أبناء الله وأحباؤه ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ وذلك أنهم قالوا: ﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ ﴿بَلْ أَنتُمْ﴾ في الحقيقة ﴿بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ كسائر البشر ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ بأن يوفقه للإيمان والطاعة ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ بأن يتخلى عن هدايته؛ لتمسكه بالكفر وعناده
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ طرق الهداية ﴿عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ﴾ أي على فتور من إرسال الرسل، وانقطاع الوحي ﴿أَن تَقُولُواْ﴾ أي أرسلناه لئلا تقولوا ﴿مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ﴾ محمد ﴿بَشِيرٍ﴾ لمن آمن منكم وأطاع بالجنة ﴿نَذِيرٍ﴾ لمن كفر وعصى بالنار
﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً﴾
أي مالكين؛ بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ﴾ خلصهم من الذل، وفضلهم على الكل؛ فازدادوا كفراً وعتواً وأنجاهم من البلوى، وأطعمهم المن والسلوى؛ فأبوا الطعام الأعلى، وطلبوا الطعام الأدنى وأنزل عليهم مائدة من السماء؛ فكفروا بما هنالك، وأوقعوا أنفسهم في المهالك؛ فأعد لهم ربهم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين
﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ أرض بيت المقدس ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي كتب في لوحه المحفوظ أن تسكنوها وتقيموا فيها ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ أي لا ترجعوا مدبرين منهزمين
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ أقوياء أشداء شجعاناً. وقيل: سفلة لا خلاق لهم. وقال بعض المفسرين: إنهم من بقايا قوم عاد، وأنهم ضخام الأجسام، عظام الأجساد؛ حتى أن أحدهم ليحمل الإثني عشر نفساً في أحد أكمامه. وهو قول غير صحيح، وإنما قصه القصاصون الأفاكون؛ وزينوه بروايات
-[١٣١]- لا أصل لها، وعنعنات لا وجود لها
﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ الله تعالى ويخشونه ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ بالإيمان والشجاعة والإقدام ﴿ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ أي ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب المدينة ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ﴾ عليهم؛ وبدأتموهم بالهجوم والقتال ﴿فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ أنظر كيف يعلمنا الله سبحانه وتعالى الخطط الحربية الحكيمة الموفقة: يعلمنا أن نتبع خطة الهجوم، خطة الاستبسال، خطة بيع النفس في سبيله جل شأنه وهي قاعدة معروفة متبعة؛ يعلمها كل ذي لب، ويتبعها كل ذي قلب: «اطلب الموت توهب لك الحياة» وإذا فكرت أيها المؤمن جلياً، ونظرت ملياً في هذه الخطة؛ لأنبأك التاريخ عن إصابتها وسدادها؛ فهناك سعدبن أبي وقاص، وقد قام بجيشه الصغير؛ فاكتسح به دولة الفرس اكتساحاً، وجعلها أثراً بعد عين؛ وقد كانت في أوج عظمتها وقوتها وهناك أيضاً طارقبن زياد؛ وقد فتح الأندلس فتحاً سجله له التاريخ بمداد الفخار والإكبار ولم تكن تلكم الفتوح والانتصارات: لكثرة في العدد، أو زيادة في المدد؛ وإنما هي الخطة التي وضعها القائد الأعلى، والمرشد الأعظم، وحث عليها عباده (انظر آية ٢٥١ من سورة البقرة)
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ من هذا نعلم أن التوكل من لوازم الإيمان؛ وأن الإيمان بلا توكل: إيمان مشوب بالشك والشرك؛ إذ أن الإيمان به تعالى يستوجب حتماً الإيمان بقدرته وقوته، والوثوق بمعونته ومن آمن ب الله تعالى ولم يؤمن بصفاته العلية السنية؛ فهو من عداد الكافرين (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾ فازدادوا بذلك جبناً على جبنهم، وخوراً على خورهم، ورفضوا التوكل علىالله، وأبوا الاستماع إلى نصح الناصحين؛ الذين يخافون ربهم، وقد أنعم الله عليهم ﴿فَاذْهَبْ﴾ يا موسى ﴿أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ أضاف بنو إسرائيل إلى جبنهم وضعفهم وحقارتهم: كفراً بربهم لا يعدله كفر، وتحدياً يستأهل ما أعده الله تعالى لهم من عذاب بئيس إذ قالوا لنبيهم الكريم؛ الذي بعثه الله تعالى إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا﴾
﴿قَالَ﴾ موسى ﴿رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ﴾ من دنياي ﴿إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ ولا نصلح أن نلقى بمفردنا الجبابرة فنخرجهم من بيت المقدس ﴿فَافْرُقْ﴾ فافصل واحكم ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ الكافرين؛ الذين خرجوا عن طاعتك
﴿قَالَ﴾ الله تعالى لموسى ﴿فَإِنَّهَا﴾ أي الأرض المقدسة ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ لا يدخلونها ولا يتمتعون بخيراتها؛ بل ﴿يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾ سائرين على وجوههم؛ لا يبلغون مقصداً، ولا يحوزون مأملاً؛ عقوبة لهم على عصيانهم وجبنهم، وعدم
-[١٣٢]- استماعهم لكلام ربهم ونصح نبيهم ﴿فَلاَ تَأْسَ﴾ لا تحزن ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ الكافرين العاصين
﴿وَاتْلُ﴾ يا محمد ﴿عَلَيْهِمْ﴾ على هؤلاء اليهود؛ الذين هموا أن يبسطوا إليكم أيديهم بالبطش والأذى ﴿نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ هابيل وقابيل ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً﴾ لله ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا﴾ هابيل ﴿قَالَ﴾ قابيل - الذي لم يتقبل قربانه - لهابيل الذي تقبل منه ﴿لأَقْتُلَنَّكَ﴾ حسداً منه له ﴿قَالَ﴾ هابيل ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين يخشونه
﴿لَئِن بَسَطتَ﴾ مددت ﴿إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ فلن أقابلك بمثل بغيك؛ و ﴿مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ﴾ لأني لست شريراً مثلك {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ} ترجع ﴿بِإِثْمِي﴾ إثم قتلي ﴿وَإِثْمِكَ﴾ الذي ارتكبته من قبل؛ ولم يتقبل قربانك بسببه أو المراد «بإثمي»: آثامي تلقى عليك «وإثمك» الذي ارتكبته بقتلي.
قال «يؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف؛ فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه» يعضده قوله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ زينت له، وتابعته وطاوعته
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ﴾ يحفر فيها برجله ومنقاره ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ جسده؛ والسوأة: كل ما يسوء الإنسان ظهوره
﴿مِنْ أَجْلِ ذلِكَ﴾ القتل الذي حصل بين ابني آدم ﴿كَتَبْنَا﴾ حكمنا وقضينا ﴿عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وعلى غيرهم أيضاً ﴿للَّهِ﴾ أي بغير أن يكون ذلك القتل قصاصاً من المقتول الذي قتل نفساً ظلماً ﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ﴾ أي وبغير أن يكون القتل بسبب إفساد المقتول في الأرض، وقطعه للطريق، وسلبه أموال الناس وإفساده للأمن ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾ أي لأنه بفعلته هذه سن القتل، وجعل كل الناس عرضة له، ولأن عقوبته في الآخرة لا تنقص عن عقوبة من قتل الناس جميعاً؛ ألا ترى أن جزاءه جهنم، وأنه خالد فيها، وأن غضب الله تعالى محيط به، ولعنته منصبة عليه، وأنه تعالى أعد له عذاباً عظيماً مهيناً؟ فأي شقاء وأي عذاب بقي لمن قتل الناس جميعاً بعد هذا الشقاء، وفوق هذا العذاب؟ (انظر آية ٩٣ من سورة النساء) ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أي أنقذها من هلاك محدق: كغرق، أو حرق، أو دفع عدو ظالم، أو غير ذلك ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ لأنه سن بينهم النجدة، والتضحية، والأمن. وقيل: إن الكف عن القتل: هو الإحياء.
بعد ذلك بين الله تعالى لنا الأسباب الموجبة للقتل، والتي استثناها في الآية السابقة بقوله جل شأنه: ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ﴾ قال تعالى:
﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بمحاربة المسلمين،
-[١٣٣]- ومخالفة ما أمر الله تعالى به، وإتيان ما نهى عنه ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً﴾ وهم قطاع الطريق؛ الذين يعيثون في الأرض، وينتهكون الحرمات، ويفسدون الأمن؛ فجزاء أمثال هؤلاء ﴿أَن يُقَتَّلُواْ﴾ إن كان إثمهم القتل فقط ﴿أَوْ يُصَلَّبُواْ﴾ إن كان إثمهم القتل وسلب المال ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ﴾ إن كان إثمهم سلب المال «السرقة بالإكراه» وطريقة ذلك أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى - يده للسرقة، ورجله لإخافة الطريق - فإن لم يتب تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾ إن كان إثمهم التخويف فقط؛ والنفي: أن يطرد من موطنه قسراً حتى يلحق بأرض العدو، أو هو نفيه من بلده إلى بلد آخر يسجن فيها حتى تبدو توبته، وتظهر إنابته؛ ويقلع عن معصية الله إيذاء عباده الآمنين (انظر آية ٣٨ من هذه السورة) ﴿ذلِكَ﴾ الجزاء المتقدم ﴿لَهُمْ خِزْيٌ﴾ ذل وفضيحة ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ يعلق بهم وبأبنائهم وذراريهم
﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ﴾ عن محاربة الله تعالى ورسوله، وعادوا إلى حظيرة الإيمان ﴿مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ فأولئك ليس لكم عليهم من سبيل؛ لأن الإيمان يجبُّ ما قبله. أما إذا كان الساعي في الأرض بالفساد من المؤمنين: فعليه القود والقصاص. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: يعفى من حق الله تعالى، ويؤخذ بحق الناس
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ﴾ خافوه، واخشوا عقابه ﴿وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ الوسيلة: هي القربة، والعمل الصالح
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾ يسرق السارق - حين يسرق - وهو آمن مطمئن؛ لا يخشى شيئاً: اللهم سوى ذلك السجن الذي يطعم ويكسى ويعالج فيه؛ فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي، ويخرج من هذا السجن وهو إلى الإجرام أميل، وعلى الشر أقدر يدل على هذا أن تعداد الجرائم يزداد يوماً عن يوم، وعاماً عن عام، وذلك لقصور العقل البشري وعجزه عن الوصول للشفاء النافع، والدواء الناجع أما عقوبة قطع يد السارق فالذي وضعها الرحيم الرحمن، الذي هو أعلم بالإنسان من الإنسان؛ وها هي ذي بلاد الحجاز - رغم فقر أهلها وعوزهم - فلا تكاد تسمع بوقوع سرقة فيها؛ حتى أن الإنسان ليقع منه الدرهم فيتذكره فيعود إليه فيجده في موضعه بعد أيام؛ حيث لا يجسر أحد أن ينظر إليه، فضلاً عن أن يمد يده لأخذه وما ذلك إلا بفضل انتشار الأحكام الدينية؛ جزى الله تعالى القائمين بها خير الجزاء وها هي ذي أوروبا وأمريكا تناديان بوجوب تغيير هذه القوانين الوضعية؛ حيث لم تعد صالحة لردع النفوس الشريرة؛ بدليل ازدياد الجرائم؛ فللَّه ما أحلى هذا الدين، وأجمل تعاليمه وشرائعه ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا﴾ من إثم السرقة
-[١٣٤]- ﴿نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ﴾ النكال: العبرة للغير. أي ذلك القطع عبرة منالله: يعتبر بها الغير؛ فيتجنب أسبابها
﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ رجع إلى الله من بعد ارتكاب السرقة، واعترف بها ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أعماله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ يقبل توبته؛ بعد توقيع الحد عليه
﴿يَأَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ خاطب الله تعالى سائر النبيين بأسمائهم؛ فقال: «يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى» ولم يخاطب الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه إلا بقوله: «يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر» وفي هذا من رفعة شأنه عليه الصَّلاة والسَّلام ما لا يخفى
﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ الحرام والرشوة ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل
﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ جمع رباني نسبة إلى الرب؛ وهم العلماء والحكماء. وقيل: هم الرهبان ﴿وَالأَحْبَارُ﴾ العلماء ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ﴾ حفظوا، واستودعوا علمه ﴿مِن كِتَابِ اللَّهِ﴾ وهو التوراة ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ أي لا تخافوهم خوفاً ينسيكم أوامري؛ فأنا أحق بالخشية منهم؛ لأني أنفع وأضر، وهم لا يستطيعون جلب نفع لأنفسهم، ولا دفع ضر عنها. وهذا نهي عن التزلف والتملق، ووجوب نهي العاصي عن عصيانه، والطاغي عن طغيانه
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ﴾ أي في التوراة ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ تقتل
-[١٣٥]- ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ تفقأ ﴿وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ﴾ يجدع ﴿وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ﴾ تقطع ﴿وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾ تقلع ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ فيقتص لكل عضو بمثله إذا أمكن.
لو أن المجرم المعتاد للإجرام، والذي أشربت نفسه حب الأذى والضرر؛ علم أنه لو فقأ عيناً فقئت عينه، أو كسر سناً كسرت سنه؛ لما جسر على الأذى: ولا قوي على الفتك ولو أن أعصى العصاة، وأعتى العتاة؛ حينما يضع يده على عصاه؛ ليوقع الضرر بعبادالله: علم أنه إنما يضرب نفسه، ويقتطع من جوارحه: لانقلبت شروره خيرات، وسيئاته حسنات؛ ولكان مندفعاً إلى الخير - إن لم يكن بطبيعته وفطرته - فبرعبه ورهبته غير ما في هذه العقوبات الرادعة من شفاء للقلوب المكلومة، والنفوس الموتورة؛ التي يتولد منها - بسبب عدم إنزال العقاب الصارم، بالمجرم الظالم - سلسلة جرائم وأخذ ثارات؛ يتزلزل لها الأمن وتنزعج منها العدالة أرشد الله تعالى الناس، لما يصلح الناس ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المعتدي ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ أي إن ذلك التجاوز تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه، أو هو كفارة للمعتدي نفسه؛ لأن العفو كالاقتصاص؛ فلا يجوز للمعتدى عليه أن يطالبه بالقصاص بعد التصدق والعفو
﴿وَقَفَّيْنَا﴾ أتبعنا ﴿عَلَى آثَارِهِم﴾ أي آثار النبيين الذين تقدموا عيسى عليه السلام ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ما تقدمه ﴿مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى﴾ من الله ﴿وَنُورٌ﴾ لمن اتبعه ﴿وَمُصَدِّقاً﴾ أي الإنجيل جاء مصدقاً ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ تقدمه
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ ولكنهم لم يحكموا بما فيه؛ بل حكموا تبعاً لأهوائهم ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ومن عجب أن تنزل التوراة لليهود فلا يعملون بها، ويحرفونها عن مواضعها، وينزل الإنجيل للنصارى فلا يعملون بما فيه، بل يكون دأبهم تغييره ومخالفته، وينزل القرآن الكريم على المسلمين فيجعلون ديدنهم التشدق بحروفه، ومراعاة وقوفه. والإفراط في الغن إفراطاً أخل بنطقه، والتزيد في المد تزيداً أخل بمعناه؛ وتركوا العمل بما فيه؛ ولم ينزله منزله تعالى إلا لذلك ولكنه الشيطان زيّن لهم تافه الأمور، وصرفهم عن لب القرآن
﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْكِتَابِ﴾ القرآن ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ما تقدمه ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ كالتوراة والإنجيل ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ رقيباً وحافظاً وأميناً ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ الشرعة: الشريعة. والمنهاج: الطريق البيِّن الواضح ﴿وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ﴾ ليختبركم ﴿فِي مَآ آتَاكُم﴾ من الشرائع والتكاليف؛ فيعلم - علم ظهور - المطيع منكم والعاصي، والبر والفاجر
-[١٣٦]- ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ ابتدروها وسابقوا نحوها؛ قبل الفوات بالوفاة ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ويجزي كلاً بما عمل بين اليهود - وقد احتكموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض مجرميهم - وقيل: إن سادة اليهود وكبراءهم ذهبوا إليه وقالوا له: إنا إن أسلمنا أسلم سائر اليهود، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فاقض لنا عليهم ونحن نسلم لك ونؤمن بك. فأبى اتباعهم، وأنزل الله تعالى عليه هذه الآية ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ﴾ يضلوك ﴿عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ من الأحكام في كتابه المبين ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عنك، وانصرفوا عن تصديقك
﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم﴾ بالعقوبة في الدنيا؛ كالجلاء، والجزية، والأسر، والقتل ﴿بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ التي أتوها؛ ومنها الإعراض والتولي وسيصيبهم في الآخرة بالعقوبة الكاملة المدمرة
﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ﴾ أي أصدقاء توالونهم من دون المؤمنين ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ يستدل من ذلك أن موالاة الكفار كفر؛ ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ أي من جنسهم، ومن جماعتهم فاحذر - يا رعاك الله - أن توالي الكافرين؛ فتكون من الظالمين (انظر آية ٢٨ من سورة آل عمران)
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ أي يسارعون في ولايتهم وصداقتهم ﴿يَقُولُونَ﴾ إنما نواليهم لأننا ﴿نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ أي مصيبة، أو حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ بالنصر ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ بنزول العذاب ﴿فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من النفاق والمكر بالمؤمنين
﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ بطلت
﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾ غيركم: مؤمنين، طائعين، صالحين ﴿يُحِبُّهُمْ﴾ لإيمانهم ﴿وَيُحِبُّونَهُ﴾ لمعرفتهم به، ومزيد فضله عليهم
وحب المؤمن لربه: يجب أن يكون متميزاً عن سائر الحب؛ فلا يجوز أن يكون كحب الولد؛ إذ هو كاسبه، ولا كحب الوالد؛ إذ هو واهبه، ولا كحب المال؛ إذ هو مكسبه، ولا كحب الزوج؛ إذ هو هاديها وراعيها، ولا كحب سائر الأهل - مهما كانوا نافعين قادرين، ومهما كانوا أحباء محبين - بل يجب ألا يشاركه تعالى في الحب مخلوق - مهما سما قدره، وعلت منزلته - ولا يجوز أن يتعلق حبه تعالى بسبب من الأسباب؛ لئلا يزول ذلك الحب بزوال هذا السبب بمعنى أنه يحبه لأنه يحفظ عليه أهله، أو ولده، أو ماله. بل يجب أن يكون حبهلله لذات الله فإنه تعالى إن شاء وهب، وإن شاء سلب؛ وإن شاء أعطى، وإن شاء منع؛ لا يسأل تعالى عما يفعل وهم يسألون
والحبلله إن كان مبنياً على خوف عذابه، أو رجاء ثوابه؛ فإنه لا يخالف الشرع؛ قال تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ لكنه على كل حال ليس بالحب الذي يناسب ذات الله المقدسة وقد ذهب بعض الصوفية إلى أكثر من هذا؛ فقال: إن حبه تعالى لا يجوز أن يكون رغبة في جنته، أو خوفاً من ناره؛ بل يجب أن يكون مجرداً عن كل غرض، أو شبهة الغرض؛ بل يكون حبه تعالى: هو الغاية، وهو الوسيلة، وهو المقصد، وهو المطلب فإذا ما وصل العبد إلى هذه المرتبة: كان صديقاً؛ بل وفوق مرتبة الصديقين واعلم أيها المؤمن - هديت وكفيت - أن محبة الله تعالى ورضاءه لا يتوافران إلا برضاء الناس ومحبتهم؛ فاحرص على رضاء مخلوقاته وحبهم - حتى العجماوات منها - فيرضى عنك الجميع ويحبونك، ويرضى عنك الله تعالى ويحبك
وما من إنسان يحبه مولاه: إلا أحبه كل مخلوق، وتيسر له كل صعب، وهان عليه كل عسير
واعلم أن مخلوقات الله تعالى بمثابة عياله؛ فمن أكرمهم: أكرمهالله، ومن أعزهم: أعزه، ومن غفر لهم: غفر له ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
واعلم - هداك الله وعافاك - أنه ما من لقمة تطعمها، ولا نفقة تنفقها؛ إلا كان لك بها أجر: لو علمته لأطعمت الفقراء سائر طعامك وما طعمته، ولو تحققته لأنفقت عليهم نفقة عيالك وما بخلت به
-[١٣٨]- واعلم - علم اليقين - أن الله تعالى معطيك بذلك ما تريد فوق ما تريد - في الحياة الدنيا - ومعطيك في الآخرة ما لم تتوهمه، وما لم يخطر ببالك وأن عطاءه تعالى ليس كعطائك - مهما بذلت - وأن مثوبته ليست كمثوبتك - مهما بالغت - فاعمل بذلك لدنياك وآخرتك؛ إني لك من الناصحين (انظر آية ٢٢ من سورة المجادلة) ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ﴾ من علامة حب الله تعالى للمؤمن، وحب المؤمن لربه: أن يكون لين الجانب متواضعاً لإخوانه المؤمنين، قوي الشكيمة متسربلاً بالعزة والكبرياء حيال الكافرين والمنافقين؛ لا يراعى أحداً لسعته أو لبطشه. أقدار الناس عنده تتسامى بإيمانهم وتقواهم، لا بقوتهم وغناهم من خلصائه وأوليائه
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ﴾ ناصركم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ جعل تعالى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: شرطاً من شرائط الإيمان؛ فلينظر هذا وليعتبر
﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ﴾ أي أذن مؤذنكم بها ﴿اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً﴾ هذه صفة الكافرين؛ وصفهم الله تعالى بها في كتابه الكريم؛ ومن عجب أن هذه الصفة قد أصبحت من سمات كثير ممن تسموا بالمؤمنين: يراك أحدهم وقد شرعت في طاعة مولاك بإقامة الصلاة - التي أمرك بأدائها - فيغرب في الضحك، ويمعن في السخرية، وي٠جتمع حولك مع أمثاله من الفاسقين الضالين؛ فيجعلون من صلاتك سبباً للضحك عليك، والسخرية بك ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾
﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ﴾ هل تكرهون ﴿مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ من القرآن ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ﴾ على النبيين أي ثواباً. والمثوبة - وإن كانت مختصة بالإحسان - لكنها وضعت هنا موضع العقوبة؛ كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
﴿مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ﴾ طرده من رحمته ﴿وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ وأي شر أشر من لعن الله تعالى وغضبه؟ بل أي درك ينحط فيه إنسان - بعد اللعن والغضب - أحط من المسخ؟
﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ وأي حيوان أقبح شكلاً، وأخبث منظراً، وأكره رائحة، وأزرى خلقاً وهيئة من القردة والخنازير؟ هذا وصف بني إسرائيل من ناحية الخلق؛ أما وصفهم من ناحية الخلق: فشأنه لا يقل بحال عن الخلق؛ فقد وصفهم الله تعالى بقوله ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ والمراد بالطاغوت: الطغيان المادي أو هو كل رأس في الضلال؛ هذه الصفات، وتلك السمات؛ ساقها الله تعالى وصفاً لليهود ﴿أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ في الدنيا: بما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة، وفي الآخرة: بما أعده الله تعالى
-[١٣٩]- لهم من عذاب النار وبئس المصير ﴿وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ﴾ عن طريق الصواب والحق
﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ الحرام والرشوة. والسحت: الحرام. أو هو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار ﴿لَوْلاَ﴾ هلا ﴿يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ﴾ الزهاد فيهم ﴿وَالأَحْبَارُ﴾ العلماء ﴿عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ﴾ الكذب والزور
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أي شحيحة بخيلة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ دعاء عليهم بتقييد أيديهم عن عمل الخير؛ ليحرموا من ثوابه ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ غل اليد وبسطها: كناية عن البخل والجود. قال تعالى ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ ومن أكرم من الله؟ ومن أبسط يداً منه تعالى؟ ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي بين اليهود والنصارى وبين سائر المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبل ذلك: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ﴾ أو هو بين اليهود أنفسهم؛ فكل فرقة منهم تخالف الأخرى؛ ولقوله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ فهم متباغضون أبد الدهر، متنافرون طول العمر؛ شتت الله تعالى شملهم، وفرق جمعهم
﴿لَكَفَّرْنَا﴾ محونا
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الطاعات مفتاح لسائر السعادات، وأن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ﴾ طائفة ﴿مُّقْتَصِدَةٌ﴾ تعمل بالعدل والخير؛ ولا تقول إلا الحق. وأصل القصد: الاستقامة؛ وهو ضد الإفراط؛ والمقصود بهم الطائفة التي قالت في عيسى: إنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه؛ ولم تقل: إنه ابنالله، أو إنه ابن زنا؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ أي ساء الذي يعملونه؛ لأن أعمالهم كلها سيئة
﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ يحفظك من مكرهم وكيدهم؛ فلا يتمكن أحد من قتلك أو خداعك؛ وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يحرسون الرسول، فلما نزلت ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ قال: «انصرفوا عني فقد عصمني الله من الجن والإنس؛ فلا أحتاج إلى من يحرسني» أما عصمته - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - من الشيطان: فهي عصمة مصاحبة له منذ ولد عندما تداعى إيوان كسرى، وخبت نيران الفرس؛ وعندما شق جبريل الأمين عن صدره الشريف؛ فنزع منه حظ الشيطان من بني الإنسان؛ فكان معجزة الله تعالى بين البشر، وسيد ولد آدم ولا فخر
﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى ﴿لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ أي لستم على دين، ولا على نظام، أو لستم على حق
-[١٤٠]- ﴿حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ بأن تعملوا بما فيها. وفي التوراة والإنجيل نعت محمد، والتبشير بمجيئه؛ فالإيمان به إذن: إقامة للتوراة والإنجيل، وعمل بما فيهما (انظر آية ١٥٧ من سورة الأعراف) ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم﴾ أي من اليهود والنصارى ﴿مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ من القرآن ﴿طُغْيَاناً﴾ على طغيانهم ﴿وَكُفْراً﴾ على كفرهم ﴿فَلاَ تَأْسَ﴾ لا تحزن
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ب الله تعالى؛ وهم قوم محمد عليه الصَّلاة والسَّلام ﴿وَالَّذِينَ هَادُواْ﴾ اليهود: قوم موسى عليه السلام ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ جنس من أهل الكتاب. وصبأ: إذا رجع. وقيل: هم قوم كانوا يعبدون النجوم. وقيل: قوم كانوا على دين نوح عليه السلام؛ وأبوا اتباع دين آخر ﴿وَالنَّصَارَى﴾ قوم عيسى عليه السلام ﴿مَنْ آمَنَ﴾ من هؤلاء جميعاً ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً﴾ في دنياه ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من العذاب ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يوم القيامة؛ إذ هم ناجون بإيمانهم ب الله واليوم الآخر، وبالعمل الصالح
﴿وَحَسِبُواْ﴾ أي ظن بنو إسرائيل ﴿أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي ألا يتنزل بهم عذاب بسبب تكذيبهم ﴿فَعَمُواْ﴾ عن رؤية الحق ﴿وَصَمُّواْ﴾ عن سماعه؛ وذلك لأنهم لم ينتفعوا بما رأوا ولا بما سمعوا؛ فكانوا كالأعمى والأصم ﴿ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ رفع عنهم العذاب، ومهد لهم سبيل المتاب، ولن يتوب إنسان، قبل أن يتوب عليه المنان قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾ لكن بني إسرائيل هم هم؛ طول العمر، وأبد الدهر؛ فبعد أن عموا وصموا، وبعد أن رفع ربهم عنهم العذاب، ﴿ثُمَّ﴾ مهد لهم سبل المتاب ﴿عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فمجازيهم به
﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وكيف يكون إلهاً من ولدته مريم؟ ومن صفاته تعالى أنه لا يلد ولا يولد ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ أن يدخلها، أو يشم ريحها ﴿وَمَأْوَاهُ﴾ مرجعه ﴿النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الكافرين ﴿مِنْ أَنصَارٍ﴾ يمنعونهم من عذابالله، أو ينصرونهم من دونه؛ و
﴿لَّقَدْ كَفَرَ﴾ أيضاً ﴿الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ وهم النصارى حيث يقولون: إن الله ذو ثلاثة أقانيم ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ﴾ يرجعوا
-[١٤١]- ﴿عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ بهذا القول ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الدنيا بالخزي، وفي الآخرة بالنار
﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ الذي ألهته النصارى ورمته اليهود ﴿إِلاَّ رَسُولٌ﴾ من عند الله ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ أمثاله ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ مبالغة في الصدق ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾ كما تأكل سائر المخلوقات؛ وفي هذا القول إشارة لطيفة إلى أن من يأكل الطعام؛ لا بد أن يكون في حاجة إلى إخراجه ومن يكن هذا حاله؛ فكيف يعبد؟ أو كيف يتوهم أنه إله؟ ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ﴾ الدالة على فساد حكمهم، وخطل رأيهم ﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيف يصرفون عن عبادتي؛ رغم ظهور الآيات الدالة على وحدانيتي؟
﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ الغلو: مجاوزة الحد؛ من إفراط. أو تفريط: فقد قالت النصارى عن عيسى: إنه إله، وإنه ابن الله. وقالت اليهود عنه: إنه ابن زنا قاتلهم الله أنى يؤفكون ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ﴾ يعني بهم اليهود ﴿قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ﴾ بافترائهم على المسيح وأمه؛ وهو عبد الله وكلمته، وأمه صديقة ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ من الناس؛ بصرفهم عن الإيمان ﴿وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ﴾ عن الطريق المستوي الواضح المستقيم
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ أي لعنوا على لسان داود في الزبور، وعلى لسان عيسى في الإنجيل
﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ﴾ لا ينهى بعضهم بعضاً ﴿عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ بل تصيب الطائعين والعاصين معاً؛ لأن الطائعين لم يكونوا ينهون مرتكبي المنكر عن منكرهم؛ فيصيبهم ما يصيبهم
﴿تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ﴾ أي من اليهود ﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يصادقون مشركي العرب وعبدة الأوثان؛ ليستعينوا بهم على المسلمين ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ لدنياهم وآخرتهم
-[١٤٢]- ﴿أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ بسبب مصاحبتهم للكافرين، وموالاتهم لهم، وعدائهم للمسلمين وعدم تناهيهم عما يعملونه من المنكر
﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ إذ أن موالاة الكافرين كفر
﴿لَتَجِدَنَّ﴾ يا محمد ﴿للَّهِ﴾ بك ﴿الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ ب الله من عبدة الأوثان ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى﴾
قيل: نزلت في نفر من نصارى الحبشة؛ وفدوا على رسولالله فقرأ عليهم القرآن وآمنوا به؛ ولما رجعوا إلى الحبشة أخبروا النجاشي بذلك فآمن وظل على إيمانه حتى مات مسلماً. وقيل: إنهم قوم كانوا على ملة عيسى عليه السلام؛ فلما بعث محمد آمنوا به وصدقوه. والظاهر أن المراد: عموم النصارى ﴿ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن عبادة الله تعالى
﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ خشوعاً وتأثراً ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ﴾ وذلك أنهم عرفوا من الإنجيل أن مجيء محمد عليه الصَّلاة والسَّلام حق، وأن نزول القرآن عليه حق (انظر آية ١٥٨ من سورة الأعراف) ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي مع أمة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام؛ الذين هم شهداء على سائر الأمم
﴿فَأَثَابَهُمُ﴾ جزاهم
﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ اليمين اللغو: أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك، وليس كما ظن، أو هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف؛ كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ وتحريرها: إعتاقها من الرق؛ كفارة لليمين (انظر آية ١٧٧ من سورة البقرة)
﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ و «الخمر»: كل ما خامر العقل؛ وقد جاء في الحديث الشريف أنها أم الكبائر وقد تعددت في زماننا هذا أنواعها وألوانها؛ لشدة رغبة العصاة فيها، وانكبابهم عليها؛ قال: «يأتي على أمتي زمان يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» وقد صدق الحديث على هذه الفترة من الزمن؛ وها هم الآن يشربونها بأسماء عدة؛ ليس من بينها لفظ «الخمر» ويشربون بعضه للتداوي؛ وهو من أفتك أنواع الخمور وأفحشها؛ كأصناف حديد الكينا وغيرها؛ مما لا يتورع بعض العلماء والفقهاء عن شربه؛ متسترين بأنها تحمل اسماً غير اسم الخمر، وغاب عنهم أن الله تعالى مطلع على خفاياهم، وعالم سرهم ونجواهم
ومن دواعي الحسرة والأسف أننا نجد بعض الأمم الغربية - الغير الإسلامية - تحارب الخمور بكل الوسائل وكافة السبل؛ وتحظر صنعها وبيعها وحملها؛ في حين أننا في مصر لا نكون عصريين ومتحضرين إذا لم نشربها ونعرف سائر أنواعها وأصنافها.
ومن عجب أنها في مصر - زعيمة الدول العربية - تباع جهاراً وعلى مقربة من المساجد، وبتصريح رسمي من الحكومة المسلمة - التي دينها الرسمي الإسلام - فحتى متى نظل في هذه الأدران، راضين عن هذا الكفران؟
ونحن نرجو ونلحف في الرجاء: أن تقوم حكومتنا الرشيدة المسلمة برفع هذا الإصر، ومحو هذا العار؛ لنكون أهلاً لما بوأنا الله تعالى من زعامة، وما اختصنا به من كرامة
والخمر: يحد شاربها ويستتاب. وقد جاء في البخاري: «أن النبي حد شارب الخمر، وأمر أن يضربوه بالنعال» وهذا قاطع بوجوب امتهان شارب الخمر وتسفيهه والإزراء به
والخمر من أولى مهامها أن تجعل شاربها يحيا حياة هي دون مستوى الحياة الإنسانية المهذبة؛ فيتسلط عليه الجانب الحيواني، على الجانب العقلي والروحي، الكامن في أعماقه وهي فوق هذا تهبط بالقوى
-[١٤٤]- العقلية إلى مستوى لا يرتضيه لنفسه إنسان يريد أن يعيش موقراً بين أقرانه؛ مكرماً بين أنداده؛ لأنها تؤثر تأثيراً مباشراً على جهازه العصبي؛ فتغير من إحساساته وانفعالاته تغييراً كبيراً يجعله أقل قدرة على ضبط أقواله وأفعاله؛ فيسهل انقياده إلى حيث يرضى الشيطان، ويغضب الرحمن «والميسر»: القمار؛ ويدخل تحته سائر ضروب اللعب وأوراق اليانصيب «اللوترية» و «الأنصاب»: الأصنام والأحجار التي كانوا ينصبونها للعبادة من دون الله تعالى «والأزلام»: قداح أو سهام؛ كان أهل الجاهلية يستقسمون بها؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾ والاستقسام بها: طلب معرفة ما قسم للإنسان في الغيب. والرجس: القذر؛ وهو كل ما يستوجب العذاب والعقاب
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾ يدفعكم إلى شرب الخمر، وإغوائكم على لعب القمار ﴿أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ﴾ بعد أن ألف الله تعالى بين قلوبكم بالإيمان ﴿وَالْبَغْضَآءَ﴾ بعد أن جعلكم الله تعالى إخواناً أحباء ولكن الشيطان - ودأبه دائماً إذاية بني الإنسان - أراد بدفعكم إلى هذه المناكير أن يعادي بعضكم بعضاً، ويبغض بعضكم بعضاً، وكيف لا يتعادى من سلبت عقله الخمر، وأطاحت برشده ولبه؟ أو كيف لا يتعادى المقامرون؛ وقد سلب بعضهم مال البعض الآخر ظلماً وزوراً؟ قد أراد الشيطان بذلك أيضاً أن ﴿يَصُدَّكُمْ﴾ يمنعكم ويحول بينكم وبين ﴿ذِكْرِ اللَّهِ﴾ تذكره وعبادته ﴿وَعَنِ الصَّلاَةِ﴾ وكيف يذكر الله تعالى أو يصلي له من لا عقل له؟ أو كيف يعبد الله من شغله القمار عن أهله وولده، بل عن أكله وشربه؟ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿مُّنتَهُونَ﴾ راجعون عن طاعة الشيطان، إلى طاعة الرحمن؟ ومنصرفون عن العصيان، وعائدون إلى حظيرة الإيمان؟ (انظر آية ٢١٩ من سورة البقرة)
﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الطاعة ﴿جُنَاحٌ﴾ إثم ﴿فِيمَا طَعِمُواْ﴾ ذاقوا. قال أكثر المفسرين: إنها نزلت حين تحرج قوم عند نزول تحريم الخمر وهي لا تزال في بطونهم.
والذي أراه في معنى الآية:
﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ﴾ أي أكلوا وشربوا من المباحات ﴿إِذَا مَا اتَّقَواْ﴾ الله تعالى وخافوه، وتناولوا هذا المطعوم من حله، وأدوا حق التنعم به، وأطعموا منه البائس والفقير؛ يدل عليه قوله جل شأنه ﴿وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ وأي صالحات أسمى، ولا أنمى من إطعام الطعام؛ فبه يدخل المؤمن جنة ربه، ويحظى بقربه ومزيد حبه وليس للمانع سوى النيران وغضب الرحمن واذكر إن شئت قول الحكيم العليم: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ وقول الجبار القهار: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾
-[١٤٥]- ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ ربهم؛ فلم ينالوا ما طعموه وأطعموه إلا من حله؛ لا يشوبه نهب ولا سلب، ولا خداع ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ ربهم؛ فلم يدركهم العجب بكرمهم، ولم يراءوا بجودهم ﴿وَّأَحْسَنُواْ﴾ العمل خالصاً لوجهه الكريم؛ غير مبتغين أجراً ولا شكوراً ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً﴾
﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ﴾ ليختبرنكم ﴿اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ﴾ يسوقه إليكم؛ بحيث إنه ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ﴾ بالإمساك؛ كصغار الوحش، وضعاف الطير وفراخه وبيضه تناله ﴿وَرِمَاحُكُمْ﴾؛ وذلك الابتلاء ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ علم ظهور؛ إذ هو جل شأنه عالم بما كان وسيكون ﴿مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ أي من يخشاه؛ مع أنه غائب عنه لا يراه ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ﴾ فاصطاد ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لاستهانته بأوامر الله تعالى، وارتكابه ما نهى عنه، واستحلاله ما حرم والتكاليف: امتحان من الله تعالى لعبيده؛ وقد تكون المغفرة، وقد يكون التعذيب: بقدر تسلط الطبيعة البشرية على النفس وعدم تسلطها؛ فكلما كان تسلط الطبيعة قاسياً ومستحكماً على النفس؛ كانت مغفرة الله تعالى أدنى من المذنب - طالما أقلع عن ذنبه، ولجأ إلى ربه - وكلما كان ارتكاب الإثم واقعاً تحت الاختيار المحض، والرغبة المطلقة: كان الذنب أقبح، والجرم أفدح وكانت العقوبة أشد - لاستهانة النفس بوعد خالقها ووعيده - لذا توعد الله تعالى من اصطاد في الإحرام، بالتعذيب والإيلام وإلا فأي دافع يدفع المحرم إلى الصيد؟ وأي حافز له إلى ذلك غير المخالفة لأوامر الله تعالى، وعدم الاعتداد بنواهيه لذلك وجبت له الجحيم، وحق عليه العذاب الأليم
﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ محرمون بالحج أو العمرة ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً﴾ قتله، ناسياً إحرامه، أما متعمد القتل مع تذكر الإحرام ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ﴿فَجَزَآءٌ﴾ أن جزاء على قتل الصيد ﴿مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ أي يذبح ما يماثلها في الشكل والعد: نظيره في الخلق، وقدره في الجسم؛ فإن قتل نعامة: أهدى ناقة - للتماثل ولقرب الشبه بين الإثنين في الخلقة - وإن قتل حماراً وحشياً: أهدى بقرة، وإن قتل ظبياً: أهدى شاة، وهكذا. و ﴿النَّعَمِ﴾: واحد الأنعام؛ وهو المال الراعية؛ وأكثر ما يقع على الإبل ﴿هَدْياً﴾ الهدي: ما يهدى إلى الحرم ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ لمحو ما ارتكبه من قتل الصيد وهو محرم ﴿طَعَامُ﴾ إطعام ﴿مَسَاكِينَ﴾ وذلك يأن يقوم ثمن المثل؛ ويطعم به المساكين ﴿أَو عَدْلُ ذلِكَ﴾ أي ما يعادل ذلك الإطعام ويماثله من الأيام ﴿صِيَاماً﴾ يصومه قاتل الصيد المتعمد؛ عن كل صاع يومين ﴿لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ ثقل جزائه ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا﴾ عما مضى قبل التحريم
-[١٤٦]- ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى ما نهى عنه ﴿فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ في الآخرة
﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ ما اصطدتموه من سمك وحيوان؛ محلين أو محرمين و ﴿الْبَحْرِ﴾: سائر البحار والأنهار ﴿وَطَعَامُهُ﴾ ما قذفه على ساحله: حياً أو ميتاً؛ ما دام صالحاً للأكل ﴿مَتَاعاً لَّكُمْ﴾ تتمتعون بأكله ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ السائرين من أرض إلى أرض
﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ﴾ يقوم به أمر دينهم؛ بالحج إليه. ودنياهم؛ بأمن من يدخله. وهي قوام أن لا قوام لهم؛ من ملك يجمع كلمتهم، أو رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم جعل تعالى
﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ كذلك؛ يمتنع فيه القتل والعدوان، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ﴿وَالْهَدْيَ﴾ وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام ﴿وَالْقَلاَئِدَ﴾ جمع قلادة؛ وهي ما يعلق بأعناق الأنعام المهداة إلى الحرم؛ جميع ذلك جعله الله تعالى حراماً لا يعتدى عليه؛ وذلك لتهذيب النفوس التي أشربت حب الفتك والعدوان، ولتأهيلها لتلقي الأوامر والنواهي، وإعدادها لقبول الزجر عن المخالفات والعصيان؛ فكان جميع ذلك بمثابة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، وينتظم عقدهم، ويسلس قيادهم
﴿اعْلَمُواْ﴾ أيها الناس ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ﴾ لمن عصاه ﴿وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن أطاعه
﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ﴾ ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ فمحاسبكم عليه
﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ﴾ الحرام ﴿وَالطَّيِّبُ﴾ الحلال، وكيف يستويان و ﴿الْخَبِيثُ﴾ موصل إلى النار و ﴿الطَّيِّبِ﴾ موصل إلى الجنة؟ ﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ﴾ واتركوا الحرام - مهما كثر - فإنه منعدم البركة، محقق المحق واحرصوا على الحلال - مهما قل - ففيه الخير كل الخير، وفيه النماء والبركة ﴿يأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ يا ذوي العقول
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ
-[١٤٧]- عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾
وهي الأشياء التي لا يستفاد بها علم، ولا يبتغى من ورائها نفع. وقد كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام؛ مستهزئين به تارة، وممتحنين له أخرى. روى البخاري ومسلم رضي الله تعالى عنهما في «صحيحيهما» قال رجل لرسول الله: يا نبي الله من أبي؟ قال: «أبوك فلان» فنزلت. والإساءة المتوقعة والمعنية بقوله جل شأنه ﴿إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ هي أن يكون السائل ابن زنا، أو منتسباً لغير أبيه.
وروي أيضاً أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ قال: «والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما أطقتموها، ولو لم تطيقوها لكفرتم» فأنزل الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾. وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فالآية الكريمة نزلت للنهي عن كل سؤال لا فائدة من ورائه، ولا حاجة إلى استقصائه. وقد كان هدي الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: السؤال للفهم والعلم؛ فقد سألوه صلوات الله تعالى وسلامه عليه عما فيه خير دنياهم وآخرتهم رجاء النفع لا الضرر، والاستفادة لا التعنت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ﴾ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾.
وقيل: كان السؤال عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
وخير ما يقال في هذه الآية الكريمة: إن المراد بالنهي: سؤال الآيات، واقتراح المعجزات؛ وفي إبدائها إساءة بالغة لمنكريها. قال تعالى عندما سأله بنو إسرائيل أن ينزل عليهم مائدة من السماء: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا﴾ أي عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها ﴿حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ أي لا تسألوا معجزة، ولا تقترحوا آية؛ إلا إذا نزل القرآن؛ ففيه كل تبيان وبرهان، وفيه ما يغنيكم عن كل سؤال، وعن كل آية، وعن كل معجزة؛ قال الإمام البوصيري رضي الله تعالى عنه:
دامت لدينا ففاقت كل معجزة
من النبيين إذ جاءت ولم تدم ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ أي عن المسألة التي سلفت منكم
﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ أي سأل قوم - ممن كان قبلكم - مثل سؤالكم هذه الآيات واقترحوا مثل ما اقترحتموه من المعجزات ﴿ثُمَّ أَصْبَحُواْ﴾ بعد إجابة سؤالهم ﴿بِهَا كَافِرِينَ﴾ وذلك كما فعل بنو إسرائيل عند اقتراحهم استبدال الطعام، وإنزال المائدة، أو كقوم صالح الذين سألوا الآية؛ فلما جاءتهم الناقة عقروها
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ﴾ وهي الناقة يبحر أذنها ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ﴾ وهي ابنة السائبة؛ وحكمها حكم أمها ﴿وَلاَ سَآئِبَةٍ﴾ كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث: سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت؛ فإذا ماتت: أكلها الرجال والنساء جميعاً، وبحرت أذن بنتها الأخيرة فصارت ﴿بَحِيرَةٍ﴾ ﴿وَلاَ وَصِيلَةٍ﴾ الوصيلة التي كانت في الجاهلية: هي الشاة تلد سبعة أبطن - عناقين عناقين - فإن ولدت في الثامنة جدياً ذبحوه لآلهتهم، وإن ولدت جدياً وعناقاً، قالوا: وصلت أخاها؛ فلا يذبحون أخاها من أجلها،
-[١٤٨]- ولا تشرب لبنها النساء؛ وكان للرجال وحدهم، وجرت مجرى السائبة ﴿وَلاَ حَامٍ﴾ كانوا في الجاهلية إذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن؛ قالوا: قد حمى ظهره. فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى
﴿قَالُواْ حَسْبُنَا﴾ كافينا ﴿مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ﴾ من عبادات وعادات
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ فقوموها على الإيمان، وروضوها على الطاعة، واعملوا على خلاصها من عقاب الله تعالى، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ فقد فعلتم ما أمرتم به، وقمتم بما وجب عليكم. وهو كقوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾
﴿يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾
أي ليشهد بينكم ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي حضرت أسبابه ومقدماته؛ كاشتداد المرض، والنزع ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ﴾ مشهود لهما بالتقى والورع والصلاح ﴿مِّنْكُمْ﴾ من دينكم وملتكم ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ أي من غير دينكم وملتكم - إذا لم يوجد الأولان - وذلك لأن الوقت وقت ضرورة ملحة؛ وليس في الإمكان أن نطلب ممن يعالج سكرات الموت أن ينتظر حتى يعثر على المؤمنين الأتقياء الصلحاء وقالوا بعدم جواز شهادة غير المسلم على المسلم؛ إلا في الوصية - بشرط أن تكون في حال السفر - وقيل: ﴿مِّنْكُمْ﴾ أي من أقاربكم؛ لأنهم أعلم بأحوال الميت ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ أي من الأجانب المؤمنين ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ سافرتم فيها ﴿فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ أي فمتم بعد أن أديتم إلى الشاهدين ما تملكون، وأوصيتم بما تريدون؛ فإن قاما بما استودعاه، وأديا ما ائتمنا عليه، وارتاح ورثة المتوفى لتصرفهما؛ فقد تم أمر الله.
أما إذا توهم الورثة كذبهما أو خيانتهما؛ فما عليكم إلا أن ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ تمسكونهما ﴿مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ﴾ وقد كانوا يجلسون للحكومة بعد صلاة العصر ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾ يحلف الشاهدان به تعالى ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ إن شككتم فيهما؛ ويقولان: ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ﴾ أي بالحق الذي استودعناه وائتمنا عليه، أو لا نشتري بالحلف ب الله ﴿ثَمَناً﴾ عوضاً؛ ولا نبيع أخرانا بدنيانا ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ المتوفى، أو صاحب المصلحة المقسم له ﴿ذَا قُرْبَى﴾ يهمنا أمره ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الثِمِينَ﴾ المستوجبين للعقاب إذا كتمنا الشهادة
﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً﴾ بأن كذبا في الشهادة، ولم يؤدياها على وجهها ﴿فَآخَرَانِ﴾ من أولياء الميت؛ أو من الموصى إليهم ﴿يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا﴾ في الحلف ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ أي استحق عليهم الإثم؛ وهم المجنى عليهم من أهل الميت وعشيرته ووارثيه ﴿الأَوْلَيَانِ﴾ الأحقان بالشهادة لقرابتهما، أو لمعرفتهما ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾ يحلفان به ﴿لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ﴾
-[١٤٩]- أولى وأصدق ﴿مِن شَهَادَتِهِمَا﴾ وأنهما قد كذبا فيما قالا، وخانا الأمانة؛ وأن ما وجد لديهما هو من مال المتوفى لا من مالهما ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَآ﴾ عليهما في ذلك ﴿إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ إن كنا معتدين، أو كاذبين
﴿ذلِكَ﴾ الذي مر ذكره؛ من ترتيب الشهادة، ودفعها عند الارتياب ووقوع الإثم ﴿أَدْنَى﴾ أقرب ﴿أَن يَأْتُواْ﴾ أي الشهداء ﴿بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ﴾ الصحيح؛ كما حملوها بلا خيانة فيها
﴿أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ فيفتضحوا بظهور كذبهم الذين أرسلهم لهداية خلقه
﴿فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ﴾ أي بماذا أجابكم أقوامكم
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ بالإمامة والرسالة ﴿وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾ بالطهارة، والاصطفاء على نساء العالمين ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾ قويتك ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبريل عليه السلام ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ صغيراً ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ المهد: فراش الطفل ﴿وَكَهْلاً﴾ الكهل: الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ﴾ الكتابة ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ العلم النافع ﴿وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ﴾ وهو الذي ولد أعمى ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى﴾ من القبور أحياء ﴿بِإِذْنِي﴾ قيل: أخرج سامبن نوح، ورجلين، وامرأة، وجارية؛ وتكلم معهم خلق كثير. وقال بعض المحدثين: المراد بالموتى: موتى القلوب والنفوس. وهو قول هراء لا يلتفت إليه عاقل؛ وذلك لأن إحياء موتى القلوب متيسر لمن عنده أدنى معرفة ب الله تعالى؛ فكيف يكون معجزة لنبي؟ والمعجزة من صفاتها وخصائصها عدم توفرها لغير نبي مؤيد من الله تعالى ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ﴾ منعت ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ﴾ أي اليهود حين هموا بقتلك ﴿إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات والحجج الظاهرات
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ وحي إلهام. والحواريون: الخواص والأصفياء؛ وهم أنصار عيسى عليه السلام
﴿قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي لا تمتحنوا ربكم باقتراح الآيات والمعجزات؛ خشية أن يصيبكم عذابه - إذا كذبتموني بعد نزولها - قال تعالى: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ (
انظر آية ١٠صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)
﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ بأنها منزلة من السماء، وليست من صنع البشر ﴿وَنَعْلَمَ﴾ بذلك ﴿أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ في ادعائك النبوة
﴿تَكُونُ لَنَا﴾ يوم نزولها ﴿عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً﴾ علامة دالة على صدقي، وعلى وجودك
﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ كما اقترحتم ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ﴾ أي بعد نزولها
﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ أنزهك عما لا يليق بك (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ﴿مَا يَكُونُ لِي﴾ ما يصح لي ولا يجوز ﴿أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ فكيف بادعاء الألوهية؟
-[١٥٠]- وسؤاله تعالى لعيسى يوم القيامة ليس سؤال استفهام؛ بل هو لإقامة الحجة على هؤلاء الكفرة الفجرة الذين عبدوا من دون الله مخلوقات الله؛ واتخذوا عبيده آلهة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ﴾ أي قلت للناس ذلك القول ﴿فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ لأنك علام الغيوب ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أي ما أكنه في صدري؛ فكيف بالذي أقوله بلساني؟
﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أي كنت مشاهداً لأعمالهم، مراقباً لأفعالهم؛ مدة إقامتي بينهم في هذه الحياة ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ أمتني، أو توفيت مدة إقامتي في الدنيا ورفعتني إليك ﴿كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ المراقب لأعمالهم وأفعالهم
﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ في الدنيا؛ في عبادة الله تعالى والإنابة إليه ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ بساتين ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي خلوداً مؤبداً؛ لا غاية له، ولا انتهاء لأمده ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ فأرضاهم ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ فرضي عنهم (انظر آيتي ٥٤ من هذه السورة، و٢٢ من سورة المجادلة)
﴿للَّهِ﴾ ملكاً وخلقاً وعبيداً؛ لم يشركه أحد في خلقهم، ولا يشركه أحد في عبادتهم ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أراده ﴿قَدِيرٌ﴾ على فعله.
150
سورة الأنعام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

150
Icon