تفسير سورة الأنفال

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الأنفال
١ - ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ الآية، قال المفسرون: نزلت الآية حين اختلف أهل بدر في الغنائم، وكان الشبان في ذلك اليوم قتلوا وأسروا، والأشياخ وقفوا مع رسول الله - ﷺ - في المصاف، فقال الشبان: لنا الغنائم؛ لأنا أبلينا، وقال الأشياخ: كنا ردءًا لكم، ولو انهزمتم لانحزتم (١) إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا (٢).
وقال عبادة بن الصامت (٣): فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا؛ فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى
(١) في (ح): (للجوتم)، ومعناهما متقارب.
(٢) هذا معنى أثر عن ابن عباس رواه بلفظ مقارب أبو داود (٢٧٣٧)، كتاب الجهاد، باب في النفل، وسنده صحيح. ورواه أيضًا النسائي في "تفسيره" ١/ ٥١٥ (٢١٧)، والطبري في "تفسيره" ٩/ ١٧٢، والحاكم في "مستدركه" ٢/ ١٣٢، وصححه ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وقال: على شرط البخاري، وانظر الأثر أيضاً في: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٣٧ ب، وهو مخطوط في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة وله سورة في مكتبة جامعة الإِمام بالرياض (٣٣٢ - ٣٤٠)، و"تفسير البغوي" ٣/ ٣٢٣، و"أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٣٤ - ٢٣٥.
(٣) هو أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري من سادات الأنصار، وكان أحد النقباء في بيعة العقبة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - ﷺ -، توفي عام ٣٤ هـ وقيل غير ذلك.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٢/ ٥، و"الإصابة في تمييز الصحابة" ٤/ ٢٧.
7
رسول الله - ﷺ - فقسمه بيننا على السواء (١).
والنفل: الغنيمة (٢) وجمعه الأنفال، ونفلت فلانا نفلاً: أعطيته، والإمام ينفل الجند: إذا جعل لهم ما غنموا، قال الأزهري: وجُماع معنى النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل، وسميت الغنائم أنفالًا لأن
(١) رواه الإمام أحمد في "مسنده" ٥/ ٣٢٢، وفيه: فقسمه رسول الله فينا عن براء. يقول: على السواء.
وروى نحوه مطولًا الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير، سورة الأنفال ٢/ ٣٢٦. ورواه أيضًا بلفظ مقارب ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٧٢ - ١٧٣.
(٢) هذا باعتبار اللغة؛ قال عنترة كما في "ديوانه" ص ١٩٣:
إنا إذا حمس الوغى نروي القنا ونعف عند مقاسم الأنفال
وقال أوس بن حجر كما في "ديوانه" ص ١٢٤:
نكصتم على أعقابكم يوم جئتمو تزجون أنفال الخميس العرمرم
وروى البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة الأنفال ٨/ ٣٠٦ عن ابن عباس قال: الأنفال: الغنائم اهـ.
ولكن ينبغي التنبيه إلى أن للشارع استعمالا آخر للنفل وهو ما يعطاه المقاتل من الغنيمة زيادة على قسطه منها لنكايته في العدو، أو شجاعته أو اشتراكه في سرية، ونحو ذلك، وقد جاء هذا في أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - ﷺ - بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلًا كثيراً فكانت سهامهم اثنى عشر بعيرًا أو أحد عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا. رواه البخاري في "صحيحه" (٣١٣٤) كتاب الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، وعن معن بن يزيد أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا نفل إلا بعد الخمس". رواه أحمد في "المسند" ٣/ ٤٧٠ وسنده صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" ٢/ ١٢٥٤ (٧٥٥٢).
وهذا هو اصطلاح الفقهاء في النفل، انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد ١/ ٣٩٥، و"المغني" لابن قدامة ١٣/ ٥٣، كما رجّح عدد من المفسرين أن هذا المعنى هو المراد في الآية، وسيأتي بيان ذلك عند الرد على من قال إن الآية منسوخة.
8
المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم، وصلاة (١) التطوع نافلة؛ لأنها زيادة أجر للمؤمن (٢) على ما كتب له من ثواب ما فرض عليه (٣).
ونذكر استقصاء النافلة عند قوله تعالى: ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء: ٧٩] إن شاء الله (٤).
وأما معنى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ فقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ إخبار عمن لم يسبق ذكره إيجازًا واختصارًا؛ لأن حالة النزول كانت تدل على من سأل وتنبيء عنه، ومثله في القرآن كثير.
وأكثر أهل العلم قالوا: معنى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ أي: عن حكمها وعلمها سؤال استفتاء (٥) (٦).
(١) في "تهذيب اللغة" وسميت صلاة التطوع... إلخ.
(٢) في "تهذيب اللغة" لأنها زيادة أجر لهم على ما كتب من ثواب ما فرض عليهم.
(٣) "تهذيب اللغة" للأزهري (نفل) ٤/ ٣٦٣٦.
(٤) قال في هذا الموضع: ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾ معنى النافلة في اللغة: ما كان زيادة على الأصل، ذكرنا هذا في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ ومعناها أيضاً في هذه الآية الزيادة، قال مجاهد: النافلة للنبي - ﷺ - خالصة؛ من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهي نافلة له، من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل له خاصة وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم.. وذهب قوم إلى أن معنى النافلة: التطوع الذي يتبرع به الإنسان، وقالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة عليه، ثم نسخت عنه فصارت نافلة، أي: تطوعًا وزيادة على الفرائض..
(٥) في (ح): (استقصاء)، وهو خطأ.
(٦) ذكر هذا القول وجهًا في تفسير الآية أبو الليث السمرقندي في "تفسيره" ٣/ ٣٢٥، والثعلبي في "الكشف والبيان" ٦/ ٣٧ ب؛ واختاره السمين الحلبي كما في "الفتوحات الإلهية" ٢/ ٢٢٥، ولم أجد من ذكره عن مفسري الصحابة والتابعين، =
9
قال الزجاج: وإنما سألوا عنها لأنها كانت حرامًا على من كان قبلهم (١).
وقيل: (عن) معناه (من) أي: يسألونك من الأنفال أن تعطيهم، فهذا سؤال استعطاء، يدل على هذا المعنى ما روي عن الخليل أنه كان يقول: (عن) هاهنا زيادة صلة، معناه: (يسألونك الأنفال) (٢)، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود، وهو قول الضحاك وعكرمة (٣).
= وهو قول فيه نظر من عدة أوجه:
أولاً: أن الجواب يحدد السؤال، فقوله تعالى: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ دليل على أنهم سألوا لمن الأنفال؟، ومن المستحق لها؟ أو أنهم سألوا أن يعطوا منها.
ثانيًا: أن أسباب النزول تعين على فهم المراد، وما ورد في أسباب النزول الآية يدور حول ثلاثة أمور:
أ- أن بعض الصحابة سألوا شيئًا من الغنيمة، وهذا ما رجحه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٦٨.
ب- أن بعض الصحابة أراد أن يستأثر بما حازه من غنيمة فنزلت الآية تأنيبًا لهم، وهذا معنى سبب النزول الذي ذكره المؤلف في مطلع السورة، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٩١ - ٢٩٥.
ثالثًا: أن رسول الله - ﷺ - وعد قومًا شيئاً من الغنيمة فاختلف أصحابه -رضي الله عنهم- في ذلك بعد انقضاء الحرب، فنزلت الآية لنزع الغنيمة من أيديهم وتسليمها لرسول الله - ﷺ - يصنع فيها ما يشاء، فقسمها رسول الله - ﷺ - بينهم بالعدل.
انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٧١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٩ - ١٦٥٣.
وبهذا يتبين أن ما ورد من أسباب نزول للآية لا يدل على أن السائل سأل عن حكم الأنفال -كما يقول المؤلف- وإنما سأل عن الأنفال، أو سأل أن يعطى منها.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" لأبي إسحاق الزجاج ٢/ ٣٩٩.
(٢) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢٦٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٥٥، دون تعيين القائل.
(٣) رواه عنهما ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٧٥.
10
وقال صاحب النظم (١): قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ ليس في هذا بيان أنهم [عن أَيشِ (٢)] (٣) سألوا من حكم الأنفال، فلما قال: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ دل ذلك على أن السؤال وقع عن الأنفال لمن هي (٤).
وقوله تعالى: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ أي: أنها لله لا شك في ذلك، وللرسول يضعها حيث يشاء من غير مشاركة فيها، ولا مشاجرة فيما يراه منها (٥)، قال سعد بن أبي وقاص: لما كان يوم بدر جئت بسيف (٦)، قلت: يا رسول الله، هب هذا لي، فقال: "هذا ليس لي ولا لك لكن اذهب فاطرحه
(١) هو: أبو علي الجرجاني، وقد سبق التعريف به وبكتابه.
(٢) بفتح الهمزة وسكون الياء وكسر الشين المعجمة، ومعناها: أي شيء، قال الفيومي في "المصباح المنير" ١/ ٣١١: وقالوا: أي شيء، ثم خففت الياء، وحذفت الهمزة تخفيفًا، وجعلا كلمة واحدة فقيل: أيش، قاله الفارابي اهـ. وفي "المعجم الوسيط" ١/ ٣٤: أيش: منحوت من (أي شيء) بمعناه، وقد تكلمت به العرب اهـ. وقال العلامة السهانفوري في "بذل المجهود" ١/ ٣٢٤: أيش هذا: مخفف أي شيء، قال في "مرقاة الصعود": حكى أبو علي الفارسي في تذكرته: حكى أبو الحسن والفراء أنهم يقولون: أيش لك، والقول فيه عندنا إنه أي شيء لك؟ حذف همزهُ فألقى حركته على الياء فتحرك بالكسر فكره به فسكن فلحقه تنوين فحذف لالتقاء الساكنين، قال: فإن قلت: بقي الاسم على حرف واحد، قيل: حسنه الإضافة اللازمة، فصار لزوم الإضافة مشبهًا له بما في نفس الكلمة، حتى حذف منها كما قيل: فيم، وبم، كذلك أيش اهـ. وقال محمود خطاب في "المنهل المورود" ١/ ٦٥: أيش هذا: بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، وكسر الشين المعجمة، أصلها: أي شيء هذا، فخففت الياء وحذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال وجعلا كلمة واحدة، وهو استفهام إنكاري.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٤) سبق التنبيه إلى أن كتاب "نظم القرآن" للجرجاني مفقود.
(٥) هكذا في جميع النسخ.
(٦) ساقط من (م).
11
في القبض" (١)، فلما نزل قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ قال رسول الله - ﷺ -: "يا سعد، إنك سألتني السيف وليس لي، وإن قد صار لي فاذهب فخذه" (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي: بطاعته واجتناب معاصيه، ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾. قال المفسرون (٣): أمروا بالطاعة والجماعة وترك المفارقة والمخالفة، ومعنى (ذات بينكم). قال أحمد بن يحيى (٤): أي: الحالة التي بينكم (٥)؛ فالتأنيث عنده للحالة، وهو قول الكوفيين (٦).
وقال الزجاج: معنى ذات بينكم: حقيقة وصلكم، والبين: الوصل (٧)، فذات عنده بمعنى النفس كما يقال: ذات الشيء ونفسه،
(١) القبض بفتح الباء بمعنى: المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٤/ ٦.
(٢) روى الحديث بألفاظ مقاربة الإمام أحمد في "مسنده" ١/ ١٧٨، وأبو داود (٢٧٤٠) كتاب الجهاد، باب: في النفل، والترمذي (٣٢٧٤) أبواب تفسير القرآن، سورة الأنفال، وقال: حسن صحيح، والحاكم في "المستدرك" كتاب قسم الفيء ٢/ ١٣٢، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه عليه الذهبي.
وأصل الحديث في "صحيح مسلم" (١٧٤٨) كتاب "فضائل الصحابة" باب: في فضل سعد بن أبي وقاص.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٤٠٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٤، والبغوي ٣/ ٣٢٦.
(٤) هو: أحمد بن يحيى الشيباني، أبو العباس، الملقب بـ (ثعلب).
(٥) انظر: كلام أبي العباس ثعلب في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٩٩ (ذات)، وفي "لسان العرب" ٣/ ١٤٧٦ (ذات).
(٦) ذهب الكوفيون إلى أن الاسم في (ذا) الذال وحدها وما عداها تكثير لها، وذهب البصريون إلى أن الذال ليست هي الاسم فيها بل هي بكمالها الاسم.
انظر "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص ٥٣٥، و"تفسير ابن جرير" ٩/ ١٧٧.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه"، له ٢/ ٤٠٠.
12
وذكرنا معنى (ذات) مستقصى عند قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٩ - ١٢٠].
وقال صاحب النظم: (ذات) كناية عن الخصومة والمنازعة هاهنا، وهي الواقعة بينهم.
وقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قال ابن زيد: أسلموا لله ولرسوله [في الأنفال (١)] فإنهما يحكمان فيها ما أرادا ويضعانها حيث أرادا (٢).
وقال أبو إسحاق (٣): أي: اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها (٤).
هذا الذي ذكرنا معنى الآية وتفسيرها، فأما حكمها فقال مجاهد وعكرمة والسدي (٥): هي منسوخة (٦)، نسخها قوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ٤١]، فكانت الغنائم يومئذ للنبي - ﷺ - خاصة، فنسخها الله بالخمس، وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي عنه.
(١) ساقط من (م).
(٢) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٧٨ باختلاف يسير.
(٣) إذا أطلق المؤلف هذه الكنية فمراده الزجاج.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٠.
(٥) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الكبير الكوفي المفسر، اختلف علماء "الجرح والعديل" في توثيقه، فقال ابن أبي حاتم: لا يحتج به، وقال الذهبي: حسن الحديث، وقال ابن حجر: صدوق يهم، وقد أخرج له الجماعة إلا البخاري، توفي سنة ١٢٧ هـ.
انظر. "الكاشف" أ ١/ ٧٥، و"تقريب التهذيب" ص ٥٢٠ (٦٤٨١)، و"طقبات المفسرين" للداودي ١/ ١١٠.
(٦) أخرج آثارهم ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٧٥.
13
وقال ابن زيد: الآية ليست بمنسوخة؛ لأن الأنفال لله -لا شك مع الدنيا بما فيها والآخرة-، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله عز وجل بوضعها فيها (١). والقول هو الأول؛ لأن قوله: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ تمليك له إياها وذلك التمليك نسخ بالخمس (٢)، وابن زيد ذهب إلى أن معنى قوله لله والرسول أن الحكم فيها له، وهذا لم ينسخ.
(١) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٧٦.
(٢) هذا القول فيه نظر، والراجح أن الآية محكمة غير منسوخة، وبيان ذلك من وجوه: أولاً: لا يصح القول بنسخ الآية اعتمادًا على قول السلف بأن هذه الآية منسوخة حتى نتحقق من وجود التعارض، وعدم إمكانية الجمع، ومعرفة التاريخ؛ لأن عادة السلف التوسع في إطلاق لفظ النسخ، فيطلقونه على بيان المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، ونحو ذلك، كما يطلقونه على المعنى المعروف عند الأصوليين وهو رفع الحكم الكلي للآية.
انظر: "الموافقات في أصول الأحكام" للشاطبي ٣/ ٧٣.
ثانيًا: أن الراجح من أقوال المفسرين أن المراد بالأنفال في الآية: ما يعطى المقاتل زيادة على نصيبه من الغنيمة لسبب من الأسباب، وقد رجح ذلك ابن جرير ٩/ ١٧٥ - ١٧٦، وابن كثير ٢/ ٣١٣ - ٣١٦، والكيا الهراسي في "أحكام القرآن" ٣/ ١٤٩.
ويشهد لهذا الترجيح "أسباب النزول" فهي وإن كانت متعددة لكنها تعود في الجملة إلى قضية واحدة وهي تنفيل بعض المقاتلين شيئًا من الغنيمة، ومن أصرح ذلك ما رواه أبو أمامة عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سألته عن الأنفال، قال: فينا يوم بدر نزلت، كان الناس على ثلاث منازل: ثلث يقاتل العدو، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى، وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله - ﷺ -، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه، فقال الذين جمعوه وأخذوه قد نفل رسول الله - ﷺ - كل امرئ ما أصاب فهو لنا دونكم. الحديث رواه الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال ٢/ ٣٢٦، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ - يوم بدر: "من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا" قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله =
14
........................
= عليهم قال المشيخة: كنا ردءًا لكم، لو انهزمتم لفئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله - ﷺ - لنا فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ﴾ الحديث. رواه أبو داود في "سننه" كتاب الجهاد، باب: النفل ٣/ ٧٧، وسنده صحيح، ورواه الحاكم في "المستدرك" كتاب قسم الفيء ٢/ ١٣١، وصححه ووافقه عليه الذهبي وقال: هو على شرط البخاري.
وقد ثبت في "صحيح البخاري" ٦/ ٢٤٦ كتاب الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلًا فله سلبه أن النبي - ﷺ - نفل -يوم بدر- القاتل سلب قتيله. فإن قيل: قد ثبت عن ابن عباس أنه فسر الأنفال بالغنائم، كما في "صحيح البخاري" ٨/ ٣٠٦ كتاب: التفسير، باب: قوله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ...﴾.
فالجواب: أن تفسيره هذا معارض بما ثبت عنه أيضًا أنه فسرها بالتنفيل فقد روى الإمام مالك عن القاسم بن محمد أنه قال: سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال: فقال ابن عباس: الفرس من النفل، والسلب من النفل، قال: ثم عاد الرجل لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضاً.
انظر: "الموطأ" كتاب الجهاد، ما جاء في السلب في النفل ص ٣٠١.
وقد روى الأثر نفسه الإِمام عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/٢٤٩ عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد، ورجال سنده كلهم أئمة.
وبما سبق يتبين لنا القول الراجح في المراد بالأنفال، وأنها الزيادة فيما يعطى المقاتل على نصيبه من الغنيمة، وعلى ضوء ذلك تكون الآيتان المدعى فيهما ناسخ ومنسوخ تبينان موضوعين مختلفين فكيف يكون بينهما تعارض؟
ثالثا: القول بأن غنيمة بدر كانت خالصة لرسول الله، وقد قسمها بين المسلمين ولم يخمسها؛ لأن آية الخمس متأخرة في النزول عن آية الأنفال.
انظر: "كتاب الأموال" لأبي عبيد ص ٤٢٦، قول فيه نظر من وجهين:
أ- أن تخميس غيمة بدر ثابت في حديث علي - رضي الله عنه - حيث قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي - ﷺ - أعطاني شارفًا من الخمس. رواه البخاري (٣٠٩١) كتاب الخمس، باب فرض الخمس ٤/ ١٧٦. والشارف: المسنة من النوق.
وروى الدارقطني في "سننه" كتاب السير ٤/ ١١٠ (٢٦) عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - =
15
٢ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الآية.
يقال: وجل يوجل وجلًا فهو وجل وأوجل: إذا فرق وخاف، وقال معن بن أوس (١):
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تغدو المنية أول (٢)
= قال: أعطاني رسول الله - ﷺ - يوم بدر أربعة أسهم، سهمين لفرسي، وسهمًا لي، وسهمًا لأمي من ذوي القربى. ومعلوم أن نصيب ذوي القربى إنما هو من الخمس. فإن قيل: عدم تخميس غنيمة بدر ثابت عن ابن عباس -كما ذكر الواحدي- وعن عبادة بن الصامت كما روى ذلك الحاكم بسند صحيح "المستدرك" ٣/ ٣٢٦. فالجواب: أن المثبت مقدم على النافي؛ لأن عند المثبت زيادة علم.
رابعًا: أنه على القول بأن المراد بالأنفال: الغنائم، فإنه لا تعارض بين الآيتين، ووجه ذلك أن اللام في قوله تعالى: ﴿وَالرَّسُولِ﴾ إما أن تكون للتمليك، أو للاختصاص وبيان حق التصرف والقسمة والحكم، فإن كانت للتميك فالآية الثانية: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ مخصصة لعموم الأولى، وليست ناسخة لها؛ لأنها لم ترفع جميع حكمها وإنما أبقت بعض الغنيمة لله والرسول.
أما إن كانت اللام للاختصاص وبيان حق التصرف والحكم والقسمة فإن الثانية مبينة لإجمال الأولى، فالأولى حكمت بأن حق التصرف والقسمة مختص بالله ورسوله، والثانية بينت حكم الله وقسمته للغنيمة. وبهذا يتبين عدم صحة دعوى النسخ بأي وجه من الوجوه. والله أعلم.
(١) هو: معن بن أوس بن نصر المزني، شاعر فحل، أدرك الجاهلية والإسلام، توفي سنة ٦٤هـ. انظر: "الإصابة" ٣/ ٤٩٩، و"خزانة الأدب" ٧/ ٢٦٠، و"الأعلام" ٧/ ٢٧٣.
(٢) البيت في "ديوانه" ص ٢٨، وهو مطلع لاميته المشهورة باسم لامية العجم، والتي يستعطف بها صديقه، وكان معن طلق أخته وتزوج بأخرى، فآلى أخوها أن لا يكلمه. والشاعر يريد في البيت: أنه يؤثر أن يكون هو السابق في الوفاة، وهو وجل أن يبقى بعد وفاة صاحبه فيتألم لفراقه، ويذوق مرارة ذلك.
انظر: "شرح ديوان الحماسة" للتبريزي ٣/ ٤١٣٢ و"خزانة الآدب" ٨/ ٢٩١.
16
قال المفسرون وأهل المعاني (١): هذه الآية تتضمن وصف المؤمنين بوجل القلوب عند ذكر الله (٢).
قال الزجاج: تأويله: إذا ذكرت عظمة الله جل وعز وقدرته وما خوف به من عصاه وجلت قلوبهم أي: فزعت (٣).
يقول: إنما المؤمن الذي إذا خوف بالله فرق قلبه وانقاد لأمره خوفًا من عقابه، ومفهومه: ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله ويترك اتباع ما أنزل في كتابه، والإشارة فيه إلى إلزام أصحاب بدر طاعة الرسول فيما يرى من قسمة الغنيمة.
قال ابن عباس: ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾: خافت قلوبهم وخشعت لذكر الله (٤). وقال مجاهد: فرقت قلوبهم (٥).
(١) المراد بأهل المعاني: اللغويون الذين تكلموا عن معاني القرآن من جهة اللغة والنحو كالفراء وأبي عبيدة والأخفش والزجاج والنحاس وأبي عبيد وابن قتيبة وابن الأنباري والأزهري، قال الزركشي في "البرهان" ١/ ١٩٢: قال ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: قال أهل المعاني، فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ومن قبله، وفي بعض كلام الواحدي: أكثر أهل المعاني، الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا.
وانظر نحو هذا القول في: "الإتقان" للسيوطي ١/ ١٤٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٧٩، والسمرقندي ٢/ ٤، ولم أجده عند أهل المعاني.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٠.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٧٧ مختصرًا، وقد روى ابن أبي حاتم عنه مثل قول مجاهد. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٥/ ١٦٥٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٩٧.
(٥) رواه ابن جرير ١٣/ ٣٨٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٥٥، وهو في "تفسير مجاهد" ص ٣٥١.
17
فإن قيل: قوله: ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وقوله في آية أخرى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ الرعد: ٢٨. كيف يجمع بينهما والآيتان متدافعتان؛ لأن الوجل خلاف الطمأنينة؟ قيل: هذا جهل وذهاب عما عليه الآيتان لأن الاطمئنان إنما يكون من (١) ثلج اليقين (٢)، وشرح الصدور، ولمعرفة التوحيد والعلم به، وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل الموعود به، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة أو عند خوف الزيغ عن الهدى وما يستحق به الوعيد، فتوجل القلوب لذلك فكل واحدة من الحالتين غير صاحبتها فليس هنا إذًا تضاد ولا تدافع وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين اجتمعا في آية واحدة وهو قوله: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٣]؛ لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا فانتفى عنهم الشك والارتياب فهو معنى قوله: ﴿تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ وهذا كله كلام أبي علي الفارسي (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾. قال ابن عباس: يريد تصديقًا ويقينًا (٤)، وزيادة الإيمان الذي هو التصديق (٥) يكون على وجهين:
(١) في (س): (عن).
(٢) في (ح): (النفس)، وهما بمعنى. يقال: ثَلَجَ قلبه وثَلِجَ: تيقن. انظر: "اللسان" (ثلج) ١/ ٥٠٠.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ١/ ٢٢٢.
(٤) رواه بنحوه ابن جرير ٩/ ١٧٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٥٦ أمن رواية علي بن أبي طلحة.
(٥) التصديق بعض الإيمان، فإن كان المؤلف يريد أن يبين كيفية زيادة هذا البعض فكلامه مقبول، وإن كان يريد أن يفسر الإيمان بالتصديق فقط فكلامه محل نظر إذ إن الثابت عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان: تصديق الجنان، وقول اللسان، =
18
أحدهما: وهو الذي عليه عامة أهل العلم أن ذلك يكون بانشراح الصدور ووضوح الدليل، فكل من زاده الله شرح الصدر واتضاح الدلائل زاده معرفة ويقينًا، وما من آية ظهرت له إلا زاد تصديقه لقوة المعرفة التي تقوي بها البصيرة؛ لأنه يكون من الشك أبعد، واليقين مهما كان احتمال الشك عنه أبعد كان أقوى، وإلى هذا أشار النبي - ﷺ - في قوله: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح" (١).
= وعمل الأركان. وزيادة الإيمان تكون بزيادة أحد هذه الثلاثة، فزيادة التصديق تكون بما ذكره المؤلف رحمه الله وزيادة الإيمان بالقول والعمل تكون بزيادة ما يحبه الله ويرضاه من القول والعمل والإحسان فيه.
قال الإمام البخاري رحمه الله كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للإمام اللالكائي ٥/ ٨٨٩. وقال أبو عمر بن عبد البر المالكي: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمانا، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعة لا تسمى إيمانًا، قالوا إنما الإيمان: التصديق والإقرار، إلى أن قال: وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح من الإخلاص. "التمهيد" ٩/ ٢٣٨ - ٢٤٣.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل. "مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية" ٧/ ٥٠٥.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلاف صوري.
انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الدمشقي ٢/ ٤٦٢.
(١) الصحيح أنه من كلام عمر -رضي الله عنه-، ولا يصح رفعه. انظر: "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكانى ص ٢٣٥.
19
يريد أن معرفته بالله أقوى وإلا فكان غيره من الصحابة يصدق الرسول كما يصدق هو.
الوجه الثاني في زيادة التصديق: أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله، يصدقون بالأول والثاني والثالث، وكل ما يأتي من عند الله؛ فيزيد تصديقهم؛ لأن من صدق إنسانًا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد، وهذا معنى قول أبي إسحاق (١)، يدل على صحة هذا قول مقاتل: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾: تصديقًا مع تصديقهم (٢) بما أنزل عليهم من قبل ذلك من القرآن (٣).
فعلى هذا ما من آية استأنفوا بها تصديقًا إلا ازدادوا إيمانا.
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. قال ابن عباس: يريد بالله يثقون، لا يرجون غيره (٤).
٤ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ الإشارة في قوله (أولئك) إلى من وصف بالأوصاف التي تقدمت.
قال ابن عباس: يقول: (برئوا من الكفر) (٥)، وقال الكلبي: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ صدقًا منهم لأنه لم يكن يوم بدر مع رسول الله - ﷺ - إلا الصادق في إيمانه (٦).
(١) يعني الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠١.
(٢) في "تفسير مقاتل": تصديقًا مع إيمانهم مع تصديقهم... إلخ.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل بن سليمان" ١١٨ أ.
(٤) رواه مختصرًا ابن جرير ٩/ ١٧٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٥٦ أ.
(٥) رواه ابن جرير ٩/ ١٨٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٥٧ ب.
(٦) في "تنوير المقباس" ص١٧٧ عن الكلبي عن ابن عباس: صدقًا يقينًا.
20
وقال مقاتل: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ لا شك في إيمانهم كشك المنافقين (١)، وقال أهل المعاني: أولئك الذين أخلصوا الإيمان لا كمن كان له اسمه على ظاهر الحال وهم عن ذلك بمعزل لما يشوبه من الفساد (٢).
فأما وجه انتصاب قوله (حقًّا) فمذهب الفراء فيه أنه انتصب على معنى أخبركم بذلك حقًا (٣)، أي: إخبارًا حقًا، وهذا كما ذكرنا في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ [النساء: ١٥١]، فعنده أن هذا نصب من نية الخبر، ومذهب سيبويه وأصحابه أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف دل عليه الكلام (٤)، قال المبرد: (حقوا حقًّا) (٥)، ومعنى حقوا حقًا أي: أتوا ما وصفوا به وفعلوه حقًّا صدقًا، من قول العرب: حققته حذره وأحققته أي: فعلت ما كان يحذر (٦)، وقال الزجاج: (حقًا) منصوب بمعنى دلت (٧) عليه الجملة وهي قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ أي: أحق ذلك حقًّا (٨).
(١) "تفسير مقاتل" ١١٨ أ.
(٢) ذكر معنى ذلك ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٠ ولم أجد من ذكره من أصحاب المعاني كأبي عبيدة والفراء والأخفش والزجاج والنحاس والأزهري.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٥٤.
(٤) انظر: "كتاب سيبويه" ١/ ٣٨٣.
(٥) قال المبرد في "المقتضب" ٣/ ٢٦٦: هذا باب ما وقع من المصادر توكيدًا، وذلك قولك: هذا زيد حقًّا؛ لأنك لما قلت: هذا زيد، فخبرت، إنما خبرت بما هو عندك حق، فاستغنيت عن قولك: أحق ذلك، وكذلك: هذا زيد الحق لا الباطل؛ لأن ما قبله صار بدلاً من الفعل.
(٦) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (حقق) ١/ ٢١٦.
(٧) في (ح) و (س): (دل)، وما أثبته من (م) وهو موافق للمصدر التالي.
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠١ وقد تصرف الواحدي في عبارة الزجاج.
21
ومعنى هذا كأنه قال: أخبركم بذلك أحقه حقًا، ومعنى هذا راجع إلى معنى قول الفراء، فعلى قول الزجاج والفراء يعود هذا التأكيد المذكور بقوله (حقًا) إلى إخبار الله تعالى، وعلى قول المبرد يعود إلى تأكيد إيمانهم وتحقيقه، وعلى هذا فكل من استجمع شرائط الإيمان واعتقادها فهو مؤمن في الحال على الحقيقة من غير استثناء (١)، وإنما الاستثناء للحالة المقابلة؛ لأن العبد على غير أمن من العاقبة فيرجو الموافاة على الإيمان إن شاء الله [والناس مختلفون في هذا فأهل الحديث ذهبوا إلى أن المؤمن يقول: أنا
(١) يعني يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومسألة الاستثناء في الإيمان من المسائل الكلامية التي أشغلت الفكر الإسلامي دون طائل، وقد انقسمت الأمة في هذه المسألة على ثلاث أقوال:
أ- قيل إن ذلك محرم، وهو مذهب المرجئة والجهمية الذين يرون أن الإيمان شيء واحد لا تفاضل فيه، فالاستثناء في الإيمان شك فيه -كما يرون-.
ب- أن ذلك واجب؛ لأن في تركه تزكية للنفس، وشهادة لصاحبها بأنه من الأبرار المتقين. وهذا قول بعض من ينتسب للحنابلة.
ج- أنه محرم إذا كان للشك، جائز فيما عدا ذلك، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد جوزوا الاستثناء في الإيمان لاعتبارات ثلاث:
١ - أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، والمؤمن لا يستطيع أن يجزم بذلك.
٢ - أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، فلا عبرة بالإيمان قبل الموافاة عليه، فالمستثني لا يشك في إيمانه وإنما أراد عدم علمه بالعاقبة.
٣ - تعليق الأمر بمشيئة الله تعالى، والإخبار أن إيمانه وعدمه مرهون بمشيئة الله كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٤٣]، وقوله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [التكوير: ٢٩].
انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ٧/ ٤٢٩ - ٤٦٠، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٤٩٤ - ٤٩٨.
22
مؤمن إن شاء الله] (١) لا على الشك فيما يجب عليه الإيمان به، ولكن على معنى: أن المؤمن الحقيقي من يكون من أهل الجنة، قالوا: وجميع عمر العبد كطاعة واحدة يتوقف بعضها على بعض في الصحة، فإذا شرع في صلاة أو صوم فما لم يفرغ منها ولم يخرج منها على الصحة لا يقال: إنه مصل على الحقيقة وصائم على الحقيقة، وكذلك ما لم تحصل موافاته على السلامة والإيمان لا يعلم أنه مؤمن على الحقيقة (٢)، فأما في علم الله فيجوز أن يكون مؤمنًا على الحقيقة ولكنا لا ندري ذلك.
وقال قوم من أصحابنا (٣) وهو مذهب الإمام أبي إسحاق الإسفراييني رحمه الله: إنه يكون في الحال مؤمنًا على الحقيقة وإن جاز أن يتغير في العاقبة (٤)، وليس سلامة العاقبة من شرط استحقاق الاسم على الحقيقة، وتغير (٥) الأحكام في المستقبل لا يمنع ثبوتها في الحقيقة في الحال كالحركة إذا وجدت بالمحل أوجبت له حكم المتحرك، وجواز (٦) وجود السكون لا يمنع من استحقاق حكم المتحرك وكذلك في جميع الأسماء المشتقة من معان، قالوا: والأصل في هذا أن الأسامي مبقاة على استعمال
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا التعليل يذكره بعض المتأخرين من أصحاب الحديث، ولكنه ليس قول السلف، وإنما المأثور عن السلف بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات كلها فلا يشهدون لأنفسهم بذلك لما فيه من تزكية النفس بلا علم. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٧/ ٤٣٩.
(٣) يعني الأشاعرة، ومنهم أبو المعالي الجويني في كتاب "الإرشاد" ص ٣٣٦.
(٤) في (ح) و (س): (الباني)، من غير نقط.
(٥) في (ح): (لغير)، وهو خطأ.
(٦) في (ح): (وهو جواز)، وهذا خطأ من الناسخ.
23
أهل اللغة، وأهل اللغة لم يطلقوا هذا الاسم بشرط موافاة العاقبة، فللرجل أن يقول: أنا مؤمن حقًا، وأنا مؤمن على الحقيقة، أموت على الإيمان إن شاء الله، وهذا مذهب مخالفينا في هذه المسألة (١).
وقوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ قال عطاء: يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم (٢)، ونحو هذا قال أهل المعاني: لهم مراتب بعضها أعلى من بعض على قدر أعمالهم (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ قال أهل اللغة: الكرم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن (٤)، والكريم: المحمود فيما يحتاج إليه فيه، فالله تعالى يوصف بأنه كريم (٥)، وقال تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٧]، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٧]، ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩)﴾ [النمل: ٢٩]، ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: ٣١]، ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣]، ونذكر شرح كل واحد في موضعه، فالرزق الكريم: هو الشريف الفاضل الحسن الممدوح.
قال هشام بن عروة: يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب (٦) وهنيء العيش (٧).
(١) يعني المعتزلة والكرامية، انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ٧/ ٤٤١.
(٢) ذكره أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩ أ.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠١، وروى نحوه ابن جرير ٩/ ١٨١ عن عبد الله بن محيريز الجمحي.
(٤) "تهذيب اللغة" (كرم) ٤/ ٣١٣٢، و"لسان العرب" (كرم) ٧/ ٣٨٦١.
(٥) كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: ٦].
(٦) في (م): (المأكل والمشرب).
(٧) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩ أ، واعتمده ابن جرير تفسيرًا للجملة من الآية =
24
٥ - وقوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ الآية، اختلفوا في متعلق الكاف في قوله (كما) قال المفسرون: لما رأى النبي - ﷺ - كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال: من قتل قتيلًا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرًا فله كذا وكذا، ليرغبهم في القتال، فلما أظفر الله بالمشركين وأمكن منهم قال سعد بن عبادة للنبي - ﷺ -: يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقوك (١) بأنفسهم ولم يتأخروا عن القتال جبنًا ولا بخلًا ببذل مهجهم (٢)، ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال، فمتى أعطيت هؤلاء مما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون (٣) وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة لما سمعوا، فأنزل الله عز وجل: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ أي امض لأمر الله في الغنائم كما مضيت لأمره (٤) في الخروج وهم له (٥) كارهون (٦)، وهذا قول الفراء (٧) وأبي إسحاق (٨).
= دون أن ينسبه إلى أحد. انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٨١.
(١) في (ح): (وقومك)، وهو خطأ.
(٢) في (م): (أنفسهم ومهجهم).
(٣) في "مفاتح الغيب" ٨/ ١٢٩: فأمسك المسلمون عن الطلب.
(٤) في (م): (له).
(٥) ساقط من (ح).
(٦) انظر: "تفسير الثوري" ص ١١٥، و"المصنف" للصنعاني ٥/ ٢٣٩ ولم يذكرا ما بعد الآية الأولى، وذكره الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٢٩.
(٧) انظر "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٣، وفيه: قام سعد بن معاذ، بدل سعد بن عبادة.
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٣٩٩.
25
قال أبو إسحاق: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ ويكون تأويله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون كذلك تنفل من رأيت (١) وإن كرهوا، قال: وموضع الكاف في (كما) نصب، المعنى: الأنفال (٢) ثابتة (٣) مثل إخراج ربك إياك من بيتك بالحق (٤).
وعلى هذا: الكاف تتعلق بقوله: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وهذا يدل على أن الله نزعها من أيديهم، ويكون التأويل: نزعها الله من أيديهم بالحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، والكاف بمعنى: مثل، وهو نعت مصدر محذوف على تقدير: الأنفال ثابتة لله والرسول ثبوتًا بالحق مثل إخراج ربك من بيتك بالحق، فالعامل في الكاف: معنى قوله: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾.
قال أبو بكر بن الأنباري: والآية مفتتحة بحرف يتعلق بآية قبلها، وهو سائغ جائز إذ كان أواخر الآيات مجراها مجرى أواخر الأبيات (٥)، وغير مستنكر أن تفتتح الأبيات (٦) بألفاظ تتعلق بما قبلها، من ذلك قول امرئ القيس:
وقوفًا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل (٧)
(١) عند الزجاج: رأينا.
(٢) في (ج): (أنفال).
(٣) عند الزجاج: ثابتة لك.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٣٩٩ - ٤٠٠.
(٥) في (ح): الأثبات)، وفي (س): (الآيات)، وكلاهما خطأ.
(٦) في (ح): (الأثبات)، وفي (س): (الآيات)، وكلاهما خطأ.
(٧) انظر "ديوانه" ص ٣.
26
قال أبو عباس (١): كان أصحابنا ينصبون (وقوفًا) على القطع من: الدخول، وحومل، وتوضح والمقراة (٢).
وقال غيره: نصبه على الحال من الضمير الذي في (نبك) أي: قفا نبك في حال وقوف (٣) صحبي (٤)، ولا يختلف أهل اللغة والنحو في تعلق "وقوف" بما ليس بحاضر معه في بيته.
وقال ابن قتيبة: يريد أن كراهتهم لما فعلته في الغنائم ككراهتهم للخروج معك، كأنه قال: هذا من كراهتهم كما أخرجك وإياهم ربك وهم كارهون (٥).
وعلى هذا (الكاف) متعلق بمحذوف يدل عليه باقي الكلام؛ لأن
(١) يعني المبرد، وانظر قوله في "شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات" لأبي بكر الأنباري ص ٢٤، وقد ذكر أبو بكر الأنباري أن أبا العباس لم يرتض ما ذكره عن أصحابه، بل مال إلى القول بأن (وقوفًا) نصب على المصدر و (قفا) والتقدير: قفا كوقوف صحبي على مطيهم.
(٢) قال الأعلم الشنتمري في "شرح ديوان امرئ القيس" ص٦٠: الدخول وحومل: بلدان، وتوضح والمقراة: موضعان.
وقال ابن بليهد في "صحيح الأخبار" ١/ ١٦: الدخول وحومل باقيان بهذا الاسم إلى يومنا هذا، أما الدخول فهو ماء عذب معروف الآن بهذا الاسم يقع شمالي الهضب المعروف بين وادي الدواسر ووادي رنية، أما حومل فهو جبل قريب من الدخول، والمقراة: وادٍ ينصب على جهة الجنوب بين الهضب والسوادة، وقد حرف اليوم إلى القمرا.
وتوضح: أرض قريبة من الهضب، يقال لها اليوم (التوضيحات) تقع عن جبل الحمل جنوبًا، والحمل جبل يقع جنوبي الهضب اهـ باختصار.
(٣) في (ح): (وقوفي)، وهو خطأ.
(٤) "شرح القصائد السبع لابن الأنباري" ص ٢٤، ولم يعين القائل.
(٥) "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص ٢٢١.
27
مجادلتهم في الأنفال وتشبيه تلك القصة بإخراج الله إياه على كره منهم يدل على كراهتهم، ثم قال: ومن تتبع هذا من كلام العرب وأشعارهم وجده، قال الشاعر (١):
فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر
يريد: لا تدفنوني ولكن (٢) دعوني للتي إذا صيدت يقال لها: خامري أم عامر (٣)، يعني الضبع لتأكلني، فحذف وأبقى من الكلام ما يدل على المحذوف (٤).
وقال بعضهم: (الكاف) متعلق بما بعده وهو قوله: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾ وهذا يحكي عن الكسائي (٥) وهو معنى قول مجاهد (٦)، يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك هم
(١) هو: عمرو بن مالك الشنفرى -وهو شاعر جاهلي واحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم- وقد وقع في الأسر فأنشد هذا البيت مع أبيات. انظر: "طبقات الشعراء" ص ٣١، و"الحماسة بشرح التبريزي" ٣/ ٦٣، و"الأغاني" ٢١/ ١٣٦.
(٢) كرر ناسخ (ح) بعد (لكن) الشطر الثاني من البيت.
(٣) خامري: أي استتري، وأم عامر: الضبع، وهو مثل يضرب للأحمق، والعرب تقول: إن الضبع من أحمق الدواب وهي تصدق ما يقال لها، فلا يزال الصائد يروضها بكلمات حتى يوثق يديها ورجليها، ثم يسحبها، ولو شاءت أن تقتله لأمكنها. انظر: "فضل المقال في شرح كتاب الأمثال" ص ١٨٧، و"مجمع الأمثال" ١/ ٣٣٢.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٢١ باختصار.
(٥) ذكر ذلك عنه النحاس في "معاني القرآن" ٣/ ١٣١، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٦/ ٢٢٠، ٢٢٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٢٢.
(٦) روى ابن جرير ٩/ ١٨١ عن مجاهد قال: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾، كذلك يجادلونك في الحق: القتال، اهـ. وقد بين ابن جرير معناه بمثل ما ذكر المصنف، ورواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩ ب بلفظ المصنف.
28
يكرهون القتال ويجادلونك فيه (١).
وهذا الوجه اختيار صاحب النظم، وقد سلك في تحقيق هذا التشبيه طريقًا حسنًا فقال: ظاهر هذا النظم يدل على أنه شبه مجادلتهم في الحق وهو مذموم عنده بإخراج الله تعالى إياه من بيته، وهو غير مذموم لأنه من فعله عز وجل، وإذا كان كذلك فلابد من أن نقدر في التشبيه تحريفًا عن موضعه ويكون التشبيه واقعًا في المعنى الباطن على قوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ لأن الذم وقع على كراهة المؤمنين للخروج كما هو واقع على مجادلتهم في الحق، ويكون التقدير: كما كانت كراهتهم لإخراج الله إياك بالحق يجادلونك في الحق بعد ما تبين، ويجوز أن يدخل حرف التشبيه على شيء، والمراد به ما بعده مما هو متعلق به داخل في قصته (٢)، كما نقول في حرف الاستفهام، فإنه يدخل على شيء والمستفهم عنه غيره كقوله عز وجل: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٤].
والمعنى: أفهم الخالدون إن مت؛ لأن الاستفهام في الحقيقة واقع على [الخلود دون الموت، وفي ظاهر اللفظ وقع على الموت، وكذلك قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤] الاستفهام في الحقيقة واقع على الانقلاب، وهو في الظاهر واقع على الموت والقتل، كذلك في هذه الآية دخل حرف التشبيه في الإخراج وهو في الحقيقة واقع
(١) هذا القول رجحه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٢، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" ٣/ ١٣٢، وجعله ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز" ٦/ ٢٢٠ أحد الوجهين المقبولين في تفسير الآية، والوجه الآخر قول الفراء وأبي إسحاق الذي ذكره المصنف.
(٢) قال الزركشي في "البرهان" ٣/ ٤٢٥: قد تدخل الآداة على شيء؛ وليس هو عين المشبه، ولكنه ملتبس به، واعتمد على فهم المخاطب.
29
على الكراهة] (١).
وقال أبو عبيدة: الكاف بمعنى حرف القسم، و (ما) بمعنى (الذي) والتقدير: والذي أخرجك من بيتك بالحق يجادلونك.
قال أبو بكر (٢): وهذا بعيد؛ لأن (الكاف) ليست من حروف الأقسام (٣)، وأما التفسير فقوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ أي أمرك بالخروج من المدينة ودعاك إليه ﴿مِنْ بَيْتِكَ﴾ يعني المدينة قاله مجاهد والحسن، وابن جريج، وعامة المفسرين (٤)، قالوا: إن الله تعالى أمر نبيه بالخروج من
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) يعني الأنباري، انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٤٦٠.
(٣) ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٤٥٩ - ٤٦٣، خمسة عشر قولًا في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ ولم يرتض واحدًا منها بل رجح قولًا جديدًا لم يسبق إليه وهو أن الكاف ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل وأن هناك حذفًا، والتقدير: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ أي بسبب إظهار دينه وقد كرهوا خروجك تهيبًا للقتال، وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله، وأمدك بملائكته. وفي هذا القول نظر من عدة أوجه:
أ- عدم اعتماده على المأثور عن السلف وهم أعلم بالتأويل.
ب- البعد بين هذه الآية -التي يرى أبو حيان أن فيها حذفًا- والآية التي يراها دليلًا على الحذف وهي قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ إذ يفصل بينهما ثلاث آيات.
ج- إن كراهتهم للخروج، وجدالهم لرسول الله لا يصلح علة للنصر، بل علة للفشل كما جاء في السورة نفسها الآية ٤٦: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
د- إن الأصل عدم التقدير.
عـ- إن أبا حيان اعتمد هذا القول بناءً على رؤيا منامية.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٨٢، والثعلبي ٦/ ٣٩، وابن عطية ٦/ ٢٢٢، ونسبه لجمهور المفسرين، وذكر عن ابن بكير أن المعنى كما أخرجك ربك من مكة وقت الهجرة اهـ. وفيه نظر لا يخفى.
30
المدينة لطلب عير (١) قريش، وكره ذلك طائفة من المؤمنين لأنهم علموا أن قريشًا تمنع عيرها منهم، وأنهم لا يظفرون بالعير عفوًا دون القتال فذلك قوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ أي الخروج معك.
قال أهل المعاني: وهذه الكراهة من المؤمنين كانت كراهة الطبع؛ للمشقة التي تلحق في السفر (٢)، لا كراهة أمر الله ورسوله (٣).
وقيل: كانت الكراهة قبل أن علموا أن الله أمر به وأن النبي - ﷺ - عزم على ذلك، هذا قول عامة أهل التفسير (٤) في هذه الآية.
(١) ساقط من (ح).
(٢) الأولى أن يقال: كراهة الطبع للقاء العدو والقتال؛ لأنهم علموا أن قريشًا لن تترك عيرها كما ذكر ذلك المؤلف بناء على أن هذه الكراهة للخروج من المدينة لتلقي العير، والذي يظهر من سياق قصة بدر كما ذكرها ابن هشام في "السيرة" ٢/ ٣١٣، وكما يدل عليه قوله تعالى: ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ أن هذه الكراهة إنما حدثت لبعض المؤمنين بعد تحققهم من ذوات العير، ورغبة رسول الله - ﷺ - في مواجهة الفير؛ ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٣ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما شاور النبي - ﷺ - في لقاء القوم، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمر الناس فتعبوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، وكره ذلك أهل الإيمان؛ فأنزل الله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾، وهذا الأثر وإن كان سنده ضعيفاً ولكنه يتقوى بما جاء بمعناه بأسانيد صحيحة. انظر: "المفسر ابن عباس وتحقيق ما روي عنه". رسالة ماجستير أعدها حمد القرعاوي ص ٢٩٦.
(٣) لم أقف على مصدره.
(٤) لم أجد أحدًا من المفسرين ذكر هذا القول وهو مرجوح بدلالة قوله تعالى في الآية نفسها ﴿بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ مما يشير إلى أنه لا عذر لهم في جدالهم وكراهتهم، قال أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٤٦٣: وفي قوله: ﴿بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ إنكار عظيم عليهم؛ لأن من جادل في شيء لم يتضح كان أخف عتبًا، أما من نازع في أمر واضح فهو جدير باللوم والإنكار.
31
وقوله تعالى: ﴿بِاَلحَق﴾ أي بالوحي، كأنه أوحى إليه وأمره بالخروج لأن جبريل نزل وأخبره بعير قريش وأمره بالمسير إليها، هذا معنى قول الكلبي (١)، قال عطاء عن ابن عباس: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ يريد الهجرة من مكة إلى المدينة (٢)، ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ يريد لتركهم مكة وديارهم وأموالهم.
(١) روى الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩ ب عن الكلبي قال في قوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ قال: امض على الذي أخرجك ربك من بيتك، وروى الثعلبي أيضاً في "تفسيره" ٦/ ٤٠/ ب قصة خروج النبي - ﷺ - لعير قريش عن ابن عباس وابن زيد وابن يسار والسدي وفيه: فنزل جبريل عليه السلام وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشًا، وروى نحو ذلك ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٧ عن ابن عباس وابن جريج.
(٢) ذكر هذا القول دون نسبة إلى ابن عباس: البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٢٨، وابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" ٣/ ٣٢٢ وهو ضعيف لما يأتي:
١ - مخالفته لسياق الآيات فما قبل هذه الآية وما بعدها حديث عن غزوة بدر.
٢ - مخالفته لأسباب نزول هذه الآية، انظرها في "تفسير ابن كثير" ٢/ ٣١٩ مع التنبه إلى أن كل سبب بمفرده لا يخلو من مقال فبعضها من كلام مجاهد وبعضها من كلام السدي، وما رفع منها ففي سنده عبد الله بن لهيعة، وقد اختلط بعد احتراق كتبه، كما أنه مدلس وقد عنعن.
انظر: "إتحاف ذوي الرسوخ بمن رمي بالتدليس من الشيوخ" ص ٣٣، ولكن مجموع الروايات وأقوال المفسرين مع دلالة السياق يشهد أن الآية نزلت في الخروج إلى بدر.
٣ - أن الواحدي لم يذكر سند هذه الرواية حتى يحكم عليه صحة وضعفًا ولم أجد من أسندها.
٤ - أن هذا القول مخالف للقول الثابت عن ابن عباس وهو ما رواه البخاري في (٤٦٤٥) كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال عن سعيد بن جبير؛ قال: قلت لابن عباس -رضي الله عنه- سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر اهـ. فلم يخصص منها شيئًا.
32
٦ - قوله تعالى: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ قال المفسرون: إن عير قريش أقبلت من الشام فندب رسول الله - ﷺ - أصحابه وقال: إن الله، ينفلكموها، فخرجت طائفة كارهة، فلما التقوا أمروا بالقتال ولم يكونوا أعدوا له أهبة، فشق ذلك عليهم وقالوا: هلا أخبرتنا فكنا (١) نعد له (٢)، قال ابن عباس وابن إسحاق: وكان جدالهم نبي الله قولهم: لم تعلمنا قتالًا فنستعد له إنما خرجنا للعير (٣).
وقوله تعالى: ﴿فِي الْحَقِّ﴾ أي في القتال، عن ابن عباس (٤)، ومجاهد (٥).
وقوله تعالى: ﴿بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ (٦) قال السدي: بعد ما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به (٧).
وقال أبو صالح عن ابن عباس: يجادلونك في القتال بعد ما أمرت به (٨).
(١) في (س): (لكنا).
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٨٣، والسمرقندي ٢/ ٥، والبغوي ٣/ ٣٢٨.
(٣) ذكره عنهما الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٢٩٦، وبمعناه ابن جرير ٩/ ١٨٣ - ١٨٤، ولم أجد قول ابن إسحاق في "السيرة النبوية"، ويبدو أن هذا القول لابن جرير تفسيرًا لقول ابن عباس وابن إسحاق. انظر ابن جرير ٩/ ١٨٣ - ١٨٤.
(٤) رواه ابن جرير ٩/ ١٨٣ - ١٨٤ من رواية الكلبي.
(٥) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٢، وانظر: "تفسير الإمام أحمد" ص ٣٥٢.
(٦) في (س): (ما بعد)، وهو خطأ.
(٧) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٥٩ - ١٦٦٠، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٠٠.
(٨) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٤.
33
وقال أبو إسحاق: يجادلونك في الحق بعد ما تبين وعدهم الله عز وجل أنهم يظفرون بأهل مكة أو (١) بالعير (٢)، يريد أن هذا التبين كان بوعد الله إياهم الظفر (٣).
قال أهل المعاني: إنما كانت تلك المجادلة طلبًا للرخصة لأنهم لم يستعدوا للقتال، وقيل عددهم [وكانوا رجالة] (٤)، ولم يكن فيهم إلا فارسان؛ فخافوا، وحال الصعوبة تخيل إلى النفس الشبهة، وإن كانت الحال ظاهرة والدلالة واضحة (٥).
وقوله تعالى: ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾، قال ابن إسحاق: كراهة للقاء القوم (٦)، يريد أنهم لشدة كراهتهم للقتال كأنهم (٧)
(١) في (ح): (وبالعير)، وهو كذلك في "معاني القرآن وإعرابه" وهو خطأ، والصواب (أو) كما في (م) و (س). لأن الله وعدهم إحدى الطائفتين، ولم يعدهم الطائفتين كلتيهما.
(٢) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠١.
(٣) يعني أن الله وعدهم الظفر بأحد الأمرين كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧]. فلما فاتهم العير تبين لهم أنه لا بد من مواجهة النفير وأنهم سيظفرون بهم تحقيقًا لوعد الله.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٥) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني كالفراء والأخفش وأبي عبيدة والزجاج والنحاس والأزهري وابن قتيبة، وهؤلاء وأمثالهم ممن تكلم عن معاني القرآن من جهة اللغة والنحو هم مراد الواحدي بقوله: قال أهل المعاني، قال الزركشي في "البرهان" ١/ ٢٩٢ قال ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: قال أهل المعاني فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ومن قبله. وفي بعض كلام الواحدي: أكثر أهل المعاني: الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا. وقد ذكر نحوًا من ذلك السيوطي في "الإتقان" ٢/ ٣.
(٦) "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٣.
(٧) في (م): (كانوا).
34
يساقون إلى الموت عيانًا، فذلك معنى قوله: ﴿وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾، وقال صاحب النظم: أي: يعلمون أنه واقع بهم، ومنه قول النبي (١) - ﷺ -: "من انتفى من ابنه وهو ينظر إليه" (٢) أي: يعلم أنه ابنه، وقوله عز وجل: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ [النبأ: ٤٠] أي: يعلم (٣).
٧ - قوله عز وجل: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ إحدى: تأنيث أحد على غير بنائه (٤)، كأنهم استأنفوا للمؤنث بناءً كصفراء من أصفر، وعطشى (٥) من عطشان، و (الطائفتان) العير والنفير في قول المفسرين (٦).
(١) ساقط من (ح).
(٢) رواه النسائي في "سننه" كتاب الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء من الولد ٦/ ١٧٩ بلفظ: "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عز وجل منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة". وبهذا اللفظ رواه أيضًا أبو داود (٢٢٦٣) "سننه" كتاب الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء، والدارمي في "سننه" كتاب النكاح، باب: من جحد ولده وهو يعرفه ٢/ ٢٠٤ (٢٢٣٨)، والحاكم في "المستدرك" كتاب الطلاق ٢/ ٢٠٣، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
أقول: مدار الحديث على عبد الله بن يونس، وهو مجهول الحال لم يرو عنه إلا يزيد بن الهاد.
انظر: "الكاشف" ١/ ٦١٠، و"تقريب التهذيب" ص ٣٣٠ (٣٧٢٢).
(٣) هذا قول في تفسير الآية وتحتمل معنى آخر وهو: يوم يرى عمله مثبتًا في صحيفته خيرًا كان أو شرًّا. "زاد المسير" ٩/ ١٣.
(٤) انظر: "لسان العرب" (وحد) ٨/ ٤٧٧٩.
(٥) في (ح) كتبت هكذا: (عطشا).
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٨٤، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٦، و"تفسير البغوي" ٣/ ٣٢٨، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٠٠ - ٣٠١، والمراد بالعير: الإبل التي تحمل تجارة قريش مقبلة من الشام وفيها أربعون رجلاً بزعامة أبي سفيان بن حرب، وأما =
35
قوله تعالى: ﴿أَنَّهَا لَكُمْ﴾ (أن) في موضع نصب على البدل من (إحدى) قاله الفراء (١) والزجاج (٢)، قالا: ومثله قوله: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ [محمد: ١٨] فـ (أن) في موضع نصب كما نصبت الساعة، ومثله: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾ [الفتح: ٢٥] (أن) في موضع رفع بـ (لولا) (٣)، وقال أبو علي الفارسي: (إحدى) في موضع نصب بأنه المفعول الثاني و (أنها لكم) بدل منه، والتقدير: وإذ (٤) يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين، أو ملك إحدى الطائفتين، ونحو هذا مما يدل عليه (لكم).
وقوله تعالى: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد التي ليس فيها حرب ولا قتال (٥)، وقال الزجاج: أي تودون أن الطائفة التي ليست فيها حرب ولا سلاح -وهو (٦) الإبل- تكون لكم، و (ذات الشوكة) أي: ذات السلاح (٧).
= النفير فهم كفار قريش الذين نفروا بزعامة أبي جهل لحماية عيرهم من رسول الله - ﷺ - وأصحابه. انظر. "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٢٤٤ - ٢٤٧
(١) "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" له ٢/ ٤٠٢.
(٣) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع، والزجاج لم يذكر الآية الأولى وهي قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾.
(٤) في (م): (والله)، وهو خطأ.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٧٧ بمعناه.
(٦) في "معاني القرآن وإعرابه": وهي، والمقصود: الإبل التي مع أبي سفان وهي العير.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ١/ ٢/ ٤٠٢.
36
وتأنيث (ذات) لأن المراد بها الطائفة، والمعنى: وتودون أن الطائفة غير ذات الشوكة تكون لكم، وأما (الشوكة) فهي هاهنا السلاح (١)، وأصلها: النبت الذي له حد، شبّه السلاح به، ومنه يقال: رجل شائك السلاح إذا كان حديد السنان والنصل، وهو فاعل من الشوك، ثم يقلب شائك فيقال: شاكي السلاح، كما يقال: جرف هار، وهاير، ومنه قول زهير:
لدى أسد شاكي السلاح ضبارم (٢) له لبد أظفاره لم تقلم (٣)
قال أبو عبيد: الشاكي والشائك (٤) جميعًا: ذو الشوكة والحد في سلاحه (٥).
وكما يوصف الرجل بهذا يوصف السلاح أيضًا به، فيقال: سلاح (٦) شاك وشائك، قال عنترة:
(١) انظر: "جمهرة اللغة" (ش ك و) ٢/ ٨٧٨، و"الصحاح" (شوك) ٤/ ١٥٩٥.
(٢) الضبارم، بضم الضاد: الأسد الشديد الخَلق، ويطلق على الرجل الشجاع الجريء على الأعداء.
انظر: "لسان العرب" (ضبرم) ٤/ ٢٥٤٨.
(٣) "ديوانه" بشرح أبي العباس ثعلب ص ٢٣، وفيه: شاكي السلاح مقذف، وكذلك هو في رواية الشنتمري في "شرح الديوان" ص ٢١.
والمقذف: الغليظ اللحم، واللبد: الشعر المتراكب على زبرة الأسد، كما في المصدرين السابقين.
(٤) في (م): (الشائك والشاكي).
(٥) "لسان العرب" ٤/ ٢٣٦٢ - ٢٣٦٣ (شوك).
(٦) ساقط من (س).
37
فتعرفوني أنني أنا ذاكم شاك سلاحي في الحوادث معلم (١)
ومنه قول المجدث (٢):
وألبس من رضاه في طريقي سلاحًا يذعر الأبطال شاكا (٣)
وهذا من قولهم: هو شاك السلاح بحذف الياء، كما قالوا رجل مال (٤): ذو مال، ونال من النوال (٥)، وكبش صاف (٦): ذو صوف، وكذلك رجل شاك (٧)، وسلاح شاك (٨)، فأما قولهم: شاكّ في السلاح بالتشديد مع (في) فمعناه: ذو شكة، والشكة: السلاح (٩).
(١) نسب المؤلف هذا البيت لعنترة، وليس في "ديوانه"، ولم أجد من نسبه له، والصحيح أنه لطريف بن تميم العنبري. كما في "الأصمعيات" ص ١٢٨، و"شرح شواهد الشافعية" ص ٢٧٠، و"كتاب سيبويه" ٣/ ٤٦٦، و"معاهد التنصيص" ١/ ٢٠٤.
(٢) لم يتبين لي من هو ولم يذكر في "كتاب ألقاب الشعراء" من سمي بالمجدث أو ما يقاربه.
(٣) انظر البيت بلا نسبة في "البحر المحيط" ٤/ ٤٥٥، و"الدر المصون" ٥/ ٥٦٩.
(٤) في "لسان العرب" ٧/ ٤٣٠٠ (مول). رجلٌ مال: ذو مال، وقيل كثير المال، كأنه قد جعل نفسه مالاً، وحقيقته: ذو مال.
(٥) في "لسان العرب" ٨/ ٤٥٨٣ (قول): رجل نال -بوزن بالٍ-: جواد، وهي في الأصل: نائل.
(٦) في "لسان العرب" ٤/ ٢٥٢٧ - ٢٥٢٨ (صوف): (كبش أصوف وصَوِف، على مثال (فَعِل) وصائف وصافٌ وصاف، الأخيرة مقلوبة، وصوفا في كل ذلكَ: كثير الصوف.
(٧) بضم الكاف وكسرها. انظر "لسان العرب" ٤/ ٢٣٠٩ (شكك).
(٨) في "القاموس المحيط" ٤/ ٢٣٦٢ - ٢٣٦٣ (شوط): رجل شاكُ السلاح، وشائكه، وشوكه، وشاكيه، حديده.
وفي "لسان العرب" ١٠/ ٤٥٤ (شوك): رجل شاكي السلاح وشاكُ السلاح، برفع الكاف، مثل جرف هارٍ وهارٌ، ومن قال: شاك السلاح، بحذف الياء فهو كما يقال: رجل مال ونال: من المال والنوال، وإنما هو مائل، ونائل.
(٩) في "لسان العرب" ٤/ ٢٣٠٩ (شكك): الشاكُّ في السلاح: وهو اللابس السلاح التام.
38
وقوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ قال ابن عباس: ﴿يُحِقَّ الْحَقَّ﴾ يظهر الإسلام (١)، وقال أهل المعاني (٢): معنى يحق الحق: يظهره ويعليه لأن الحق حق حيث كان، ولكنه إذا لم يكن ظاهرًا أشبه الباطل؛ لأن من صفة الحق ظهوره، فإظهاره تحقيق له من هذا الوجه (٣).
وقوله تعالى: ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾، قال ابن عباس: أي بعداته (٤)، وقال عطاء عنه (٥): موعود من الله قد سبق في علمه، ووعد نبيه بذلك في سورة الدخان: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ (٦) يريد: ننتقم له من أبي جهل (٧)، فـ (كلماته) على هذا ما قد أخبر به من إظهار الحق وإعزازه
(١) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٢٤، وقد ورد نحوه في التفسير المنسوب لابن عباس والمطبوع باسم "تنوير المقباس من تفسير ابن عباس" ص ١٧٧. وهذا الكتاب مع عدم صحة نسبته إلى ابن عباس فإن جامعه -والمشهور أنه الفيروز أبادي- قد رواه بشده عن محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذه هي سلسة الكذب. انظر: "الإتقان" ٣/ ٢١٥.
(٢) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني، وقد ذكر نحو هذا القول أبو السعود في تفسيره "إرشاد العقل السليم" ٤/ ٧.
(٣) بين الراغب الأصفهاني أن إحقاق الحق على ضربين: أحدهما: بإظهار الأدلة والآيات، والثاني: بإكمال الشريحة وبثها في الكافة. انظر: "المفردات في غريب القرآن" ص ١٢٥ (حقق).
(٤) لم أجد من رواه عنه، وقد ذكر هذا القول ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٢٤ دون أن ينسبه لأحد، ومعناه: بوعوده السابقة بأن يظهر الدين.
(٥) ساقط من (س)، وفي (ح): وقال: طاعته موعد... إلخ. وهو خطأ، ولم أجد من ذكر هذه الرواية.
(٦) الآية ١٦.
(٧) هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أحد طواغيت قريش وأبطالها =
39
بقوله (١): ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (٢) على ما تقدم به وعده (٣).
وقال بعضهم: (بكلماته) أي بأمره إياكم أن تجاهدوهم (٤).
قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ قد ذكرنا الكلام في معنى (الدابر) فيما تقدم (٥)، قال أبو إسحاق: أي: ظَفَركم بذات الشوكة أقطع (٦) لدابرهم (٧)، وفي هذا بيان عن النعمة عليهم بالظفر بقريش حين خرجوا (٨) يحمون العير، وإن كرهوا هم ذلك، وأن ما أراد الله لهم كان خيرًا مما أرادوا هم.
٨ - قوله تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ﴾ اللام في صلة قوله (يقطع) أي: يقطع دابرهم ليحق الحق، قال ابن عباس: يريد أن يحق الله مواعيده للمؤمنين (٩)، وذكرنا أن معنى إحقاق الحق إظهاره وإعلاؤه على غيره (١٠).
= ودهاتها في الجاهلية، وكان أشد الناس عداوة للنبي - ﷺ - وأصحابه، قتل يوم بدر سنة ٢ هـ. انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٢١٥ - ٤١٧، و"تهذيب الأسماء واللغات" ٢/ ٢٠٦، و"الأعلام" ٥/ ٨٧.
(١) الجار والمجرور متعلقان بقوله: أخبر.
(٢) التوبة: ٣٣، الفتح: ٢٨، الصف: ٩.
(٣) الذي ذهب إليه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٨ - ١٨٩، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٤٥ أن المراد بـ (كلماته): آياته المنزلة في قتال الكفار، وذهب مقاتل في "تفسيره" ١١٨ ب إلى أن المراد بذلك ما أنزل على محمد - ﷺ -.
(٤) انظر: التعليق السابق.
(٥) انظر: "تفسير البسيط" الأنعام: ٤٥.
(٦) في (ح): (أو قطع)، وهو خطأ.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٢.
(٨) في (م): (دخلوا)، وهو خطأ.
(٩) ذكر نحوه ابن الجوزي دون نسبة إلى ابن عباس، انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٢٤.
(١٠) انظر: تفسير الآية السابقة.
وقوله تعالى: ﴿وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ أي: يعدمه ويهلكه؛ لأن الباطل باطل، وكان الكفر باطلاً قبل بدر، ولكن معنى إبطاله ههنا: إعدامه، كما أن معنى إحقاق الحق: إظهاره، وإلى هذا [أشار ابن عباس في معنى (يبطل الباطل) فقال: يريد: ﴿وَيَقْطَعَ (١) دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: ٧] ألا ترى أنه] (٢) أشار إلى إعدامهم وإهلاكهم (٣)، وقال صاحب النظم: ﴿وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ أي: يفني الكفر، والآية بيان عن إرادة الله تعالى إظهار الحق وإعدام الباطل به على كره من المشركين، وإعزاز للمسلمين.
٩ - قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآية، يجوز أن يكون العامل في (إذ)، (ويبطل الباطل) فتكون الآية متصلة بما قبلها (٤)، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير: واذكر إذ، بمعنى التذكير بالنعمة (٥).
وقوله تعالى: ﴿تَسْتَغِيثُونَ﴾ أي تطلبون منه المغوثة (٦) [والغوث والإغاثة] (٧)، ويقول الواقع في بلية: أغثني، أي: فرج عني، ومعنى الإغاثة والغوث والمغوثة: سد الخلة في وقت الحاجة (٨)، وقال المفسرون (٩):
(١) في (س): (قطع).
(٢) ما بين المعقوفين مكرر في (ح).
(٣) لم أجد من روى عن ابن عباس ما ذكره الواحدي سوى الفيروز أبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٧، حيث قال: (ويبطل الباطل): يهلك الشرك وأهله.
(٤) وهذا ما ذهب إليه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٨٩.
(٥) في (ج) و (س): التذكر.
(٦) في (م): (المعونة).
(٧) ما بين المعقوفين مكرر في (ح).
(٨) انظر: "معجم مقاييس اللغة" (غوث) ٤/ ٤٠٠.
(٩) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٨٩، والثعلبي ٦/ ٤١ ب، والبغوي ٣/ ٣٣٢.
41
﴿تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه للنصر عليهم، وذلك أن المهاجرين والأنصار لما رأوا أنفسهم في قلة عدد استغاثوا، قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (١)، قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله - ﷺ - إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف (٢) استقبل القبلة (٣) ومد يده يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، الله إن تهلك هذه العصابة من أهل (٤) الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾ (٥).
وذكرنا معنى الإمداد في آخر سورة الأعراف وفي سورة آل عمران.
وقوله تعا لي: ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ وقرأ نافع (٦) بفتح الدال (٧)،
(١) من (م).
(٢) النيف: من واحد إلى ثلاث، وكل ما زاد على العقد فهو نيف.
انظر" "لسان العرب" ٨/ ٤٥٧٩ (نوف). ورواية المصنف هذه موافقة لرواية الإمام أحمد في "المسند"، وفي "صحيح مسلم": ثلاثمائة وتسعة عشر، وفي "سنن الترمذي": ثلاثمائة وبضعة عشر.
(٣) ساقط من (ح).
(٤) ساقط من (م).
(٥) رواه بلفظ مقارب مع زيادة: مسلم في "صحيحه" (١٨٦٣) كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر ٣/ ١٣٨٣ (١٨٦٣)، والترمذي (٣٢٧٥) "كتاب تفسير القرآن"، سورة الأنفال، وأحمد في "المسند" ١/ ٣٠.
(٦) هو: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم المدني، أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته.
(٧) انظر: كتاب "التيسير في القراءات السبع" لأبي عمرو الداني ص ١١٦، و"تقريب النشر في القراءات العشر" لابن الجزري ص ١١٨، وقد قرأ بالفتح أيضاً أبو جعفر ويعقوب، انظر: المصدر السابق، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" للدمياطي ص ٢٣٦.
42
قال الفراء: أما (مُرْدِفين) متتابعين، و (مُرْدَفين) فُعل بهم (١)، وقال الزجاج: يقال: أردفت الرجل: إذا جئت بعده، ومعنى (٢) (مردفين) يأتون فرقة بعد فرقة (٣).
واختلف أهل اللغة في (ردف وأردف) والأكثرون على أنهما بمعنى. [قال] (٤) ثعلب عن ابن الأعرابي (٥): يقال: (ردفته وأردفته واحد) (٦). وقال أبو عبيد عن أبي زيد (٧): ردفت الرجل وأردفته: إذا ركبت خلفه، وأنشد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا (٨) (٩)
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٤.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: فمعنى.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٢.
(٤) إضافة من المحقق.
(٥) هو: محمد بن زياد بن الأعرابي أبو عبد الله الكوفي الهاشمي مولاهم، تقدمت ترجمته.
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف)، ونصه: ردفته وأردفته بمعنى واحد.
(٧) هو: سعدي بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو زيد البصري، صاحب النحو واللغة، كان صدوقًا علامة حافظًا لنوادر والشعر، توفي سنة ٢١٤ هـ.
انظر: "مراتب النحويين" ص ٧٣، و"نزهة الألباء" ص ١٠١، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٠، و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ٤٩٤.
(٨) البيت لحزيمة بن نهد بن زيد بن ليث القضاعي، وهو شاعر جاهلي قديم. وحزيمة: بالحاء المهملة المفتوحة، وكسر الزاي، وانظر: " الأغاني" ١٣/ ٧٨، و"معجم ما استعجم" ١/ ١٩، و"المعارف" ص ٣٤٢. وقيل إن البيت لخزيمة -بالخاء المعجمة- ابن مالك بن زيد. انظر "اللسان" (ردف) ٣/ ١٦٢٥.
والمعنى: إذا الجوزاء تبعت الثريا، وذلك إبان اشتداد الحر وجفاف المياه، وتفرق الناس في طلبها، فحينئذٍ تغيب عنه محبوبته فتسيء ظنونه، وتشتد همومه.
(٩) انظر: قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف).
43
ومعناه: جاءت على ردفها، أي: تبعتها ورؤيت (١) خلفها.
وفصل آخرون بينهما، فقال الزجاج: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته: أركبته خلفي، وأردفت الرجل: إذا جئت بعده (٢).
وقال شَمِر: ردفت وأردفت: إذا فعلت ذلك بنفسك، فإذا فعلت بغيرك: فأردفت لا غير (٣).
فمن قرأ (مردِفين) بكسر الدال (٤) فمعناه: أن بعضهم في إثر بعض، كالقوم الذين ترادفوا على الدواب؛ كما ذكره الفراء (٥) والزجاج (٦)، وهو قول قتادة والسدي: متتابعين (٧)، واختار أبو حاتم هذه القراءة، وقال: معناه: بألف من الملائكة جاءوا بعد المسلمين على آثارهم، يقال: ردفه وأردفه: إذا جاء بعده؛ كما قال: أردفت الثريا: أي جاء (٨) بعدها (٩). وروي عن أبي عمرو: أردف بعضهم بعضًا: من الإرداف، وهو أن يحمل الرجل صاحبه خلفه (١٠)، وأنكر أبو عبيد هذا وقال: لم يسمع هذا في صفة الملائكة (١١).
(١) في (س): (وردفت).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٢.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٤ (ردف).
(٤) وهي قراءة السبعة غير نافع، انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٤، و"التيسير في القراءات السبع" ص ١١٦، و"تقريب النشر" ص ١١٨.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٢.
(٧) رواه عنهما ابن جرير ٩/ ١٩١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٦٣.
(٨) هكذا في جميع النسخ.
(٩) انظر: قول أبي حاتم في "الوسيط" ٢/ ٤٤٦.
(١٠) انظر قول أبي عمرو في: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩١، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٠٧.
(١١) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٧٦.
44
ومن قرأ بفتح الدال فمعناه: بألفٍ أردف الله المسلمين بهم وأمدهم بهم، وهو قول مجاهد، قال: الإرداف: إمداد المسلمين بهم (١)، واختار أبو عبيد هذه القراءة (٢)، وروي عن الفراء وأبي عبيدة قالا: من فتح الدال أراد: جيء بهم بعدهم وأمدوا بهم، فهم ممدون بهم (٣)، وتفسير ابن عباس يدل على القراءتين لأنه قال: مع كل ملك ملك (٤)، وهذا يحتمل الوجهين؛ لأنك إن كسرت كان معناه: متتابعين، وإن فتحت كان المعني: أنهم جعلوا كذلك، قال أبو علي: من كسر الدال احتمل وجهين أحدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم، كما تقولي: أردفت زيدًا دابتي، فيكون المفعول الثاني محذوفًا من الآية، وحذف المفعول كثير (٥).
ويقوي هذا الوجه الذي ذكره أبو علي ما قال عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يريد ألفًا بعد ألف (٦).
(١) في "تفسير الإمام مجاهد" ص ٣٥٢، و"تفسير ابن جرير" ١٣/ ٤١٣، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" ٤/ ٣٠، عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ قال: ممدّين اهـ. فلعل المصنف ذكر قول مجاهد بالمعنى.
(٢) انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٠٧.
(٣) في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٤: (مردَفين): فعل بهم اهـ. "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٢٤١: ومن قرأها بفتح الدال وضعها في موضع (مفعولين) من أردفهم الله من بعد من قبلهم وقدامهم.
(٤) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ١٩٢ بإسناد فيه قابوس بن أبي ظبيان، وهو ضعيف لا يحتج به كما في الكاشف ٢/ ٣٣٤.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٢٤.
(٦) أكثر المؤلف من ذكر رواية عطاء عن ابن عباس بل بنى عليها تفسيره هذا وكذلك، و"الوسيط"، و"الوجيز"، ولم أجد لها ذكرًا في كتب التفسير كـ"تفسر عبد الرزاق"، =
45
قال: والوجه الآخر في (مردفين) أن يكونوا جاءوا بعد المسلمين، قال الأخفش: تقول العرب: بنو فلان يردفوننا، أي: يجيئون بعدنا (١)، وقال أبو عبيدة: (مردفين) جاءوا بعد، وردفني وأردفني واحد (٢)، قال أبو علي: وهذا الوجه كأنه أبين لقوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآية، فقوله (مردفين) جائين بعد لاستغاثتكم (٣) ربكم وإمداده إياكم، ومن فتح الدال
= و"ابن جرير"، و"ابن أبي حاتم"، و"الثعلبي"، و"البغوي"، و"الدر المنثور"، وغيرها. وقد يذكرها في أحيان قليلة الفخر الرازي وابن الجوزي، وهما يكثران النقل من "البسيط"، وفي القلب شيء من صحة هذه الرواية لما يأتي:
١ - أن هذه الرواية مفسرة لجميع آيات القرآن، وهذا غير معهود عن السلف، قال الخليلي: هذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضية ورواتها مجاهيل. "الإتقان" ٢/ ٢٤١.
٢ - أن الإِمام الشافعي رحمه الله قال: لم يثبت في التفسير عن ابن عباس إلا شبيه بمائة حديث.
انظر: المصدر السابق ص ٢٤٢، ولعل الشافعي لم تصح عنده رواية علي بن أبي طلحة الوالبي إذ هي في الأصل منقطعة، لكن عرفت الواسطة وهو ثقة. انظر: "التفسير والمفسرون" ١/ ٧٨.
٣ - أن هذه الرواية قد تخالف الرواية الصحيحة عن ابن عباس.
أقول: تبين لي فيما بعد أن هذه الرواية موضوعة، وقد تقدم ذلك عند الحديث عن مصادر المؤلف، في مقدمة التحقيق.
(١) "الحجة للقراء السبعة"٤/ ١٢٥، و"فتح الباري" ٨/ ٣٠٧، ولم أجده في "معاني القرآن".
(٢) قول أبي عبيدة هذا ذكره بنصه أبو علي الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٢٥، ونص قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٤١ (مردفين) مجازه: مجاز فاعلين، من أردفوا، أي جاءوا بعد قوم قبلهم، وبعضهم يقول: ردفني. أي جاء بعدي، وهما لغتان.
(٣) في (ح): (استغاثتكم).
46
فهم مردَفون، على: أردفوا الناس أي: أُنزلوا بعدهم (١).
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ قال الفراء هذه (الهاء) للإرداف أي: ما جعل الله [الإرداف إلا بشرى (٢)، وقال الزجاج: أي: ما جعل الله المدد] (٣) إلا بشرى (٤)، وهذا أولى لأن الإمداد بالملائكة كانت البشرى (٥)، وقال ابن عباس: كان رسول الله - ﷺ - يوم بدر في العريش قاعدًا يدعو وكان أبو بكر قاعدًا على يمينه معه، ليس معه غيره، فخفق رسول الله - ﷺ - من نعسة نعسها ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر فقال: أبشر بنصر الله فلقد رأيت في منامي بقلبي -والأنبياء إذا ناموا لا تنام قلوبهم ينظرون بها كما ينظرون بأبصارهم وهم مستيقظون- جبريل يقدم الخيل فبشره بإمداد الله إياهم بالملائكة (٦)، وهذه الآية مفسرة ومشروحة في سورة آل عمران.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٢٥، وقد تصرف الواحدي في عبارة أبي علي واختصرها.
(٢) اهـ. كلام الفراء. انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٠٤.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٤) اهـ. كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٣.
(٥) هكذا في جميع النسخ، وعبارة الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٣١: وهذا أولى لأن الإمداد بالملائكة حصل بالبشرى، وفي كلتا العبارتين غموض.
(٦) رواه بلفظ مقارب عن ابن عباس ابن إسحاق، انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٢٦٦ - ٢٦٨، وروى البخاري أوله بمعناه في "صحيحه" (٢٩١٥) كتاب الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي - ﷺ -. وكذلك روى البخاري بعضه بلفظ: أن النبي - ﷺ - قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب"، "صحيح البخاري" (٣٩٩٥) كتاب المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا، كما روى قضية رؤية النبي بقلبه عن أنس بلفظ: فيما يرى قلبه، والنبي - ﷺ - نائمة عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، و"صحيح البخاري" كتاب الأنبياء، باب: كان النبي - ﷺ - تنام عينه ولا ينام قلبه ٥/ ٣٣.
١١ - قوله تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ﴾. قال الزجاج: (إذ) موضعها نصب على معنى: وما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت، قال: ويجوز أن تكون على (١): اذكروا إذ يغشيكم (٢) النعاس (٣).
واختلف القراء في ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾ فقرؤوا (٤) من غشي ومن أغشى ومن غشّى (٥)، فمن قرأ (يغشاكم) فحجته قوله: ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى﴾ [آل عمران: ١٥٤] فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس أو الأمنة التي هي سبب النعاس؛ كذلك في هذه الآية، ومن قرأ (يُغْشِيكم) أو (يُغَشّيكم) فالمعنى واحد، وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩] وقال ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ [النجم: ٥٤] وقال: ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [يونس: ٢٧]، وإسناد الفعل في هذا إلى الله تعالى أشبه بما بعده من قوله (وينزل) (ويذهب).
وقوله ﴿أَمَنَةً﴾ منصوب مفعول له كقولك: فعلت ذلك حذر الشر، والتأويل: إن الله جل وعز أمنهم أمنًا حتى غشيهم النعاس بما وعدهم من النصر (٦).
(١) عبارة الزجاج هكذا: ويجوز على أن يكون.
(٢) في (ح) و (س): (يغشاكم)، وما في (م) موافق للمصدر التالي.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٣.
(٤) في (ج): (فقريء).
(٥) إذا كان الفعل (غشي) فالقراءة (يغشاكم)، وإذا كان الفعل (أغشى) فالقراءة (يُغْشِيكم)، وإذا كان الفعل (غشى) فالقراءة (يُغَشّيكم) والقراءة الأولى لابن كثير وأبي عمرو، والثانية لنافع، والثالثة لعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.
انظر: "التبصرة في القراءات" ص ٢٢١، و"تقريب النشر" ص ١١٨، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٣٦.
(٦) التعليل بأن الأمن بسبب وعدهم بالنصر يحتاج إلى دليل ولم أجده، ويشكل على =
48
قال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنةً من الله، وفي الصلاة من الشيطان (١).
وغشيان النعاس أصحاب بدر، كغشيانه إياهم يوم أُحد، وقد ذكرنا الكلام فيه وفي قوله ﴿أَمَنَةً﴾، في سورة آل عمران.
وقوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ ذكر أهل التفسير (٢) أن المسلمين لما بايتوا المشركين ببدر أصابت جماعة منهم جنابات احتاجوا لها إلى الماء فساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء وغلبوهم عليه (٣)، فوسوس إليهم الشيطان أن ذلك عون من الله للعدو، وقال لهم: كيف ترجون الظفر عليهم وقد غلبوكم على الماء (٤) وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين وتزعمون أنكم أولياء
= هذا التعليل نزول الأمن عليهم بعد معركة أحد كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [آل عمران: ١٥٤]، ثم إن التعبير بقوله (أمنة منه) في قصة بدر، وبقوله: ﴿أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ في قصة أحد ما يؤكد أن الأمن فيض من الله، ونفحة من نفحات رحمته على عباده المؤمنين سواء وعدوا بالنصر أم لم يوعدوا.
(١) رواه ابن جرير ٩/ ١٩٣ - ١٩٤، والسمرقندي ٢/ ٩، والثعلبي ٦/ ٤٢ ب، والبغوي ٣/ ٣٣٤.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٣/ ٤١٢ - ٤٢٦، والثعلبي ٦/ ٤٣ أ، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٢، ٣٣.
(٣) في (ج): (إليه).
(٤) تضاربت الروايات فيمن غلب على الماء، فالمشهور أن المسلمين غلبوا عليه، وصنعوا حوضًا كبيرًا، وقد روى ذلك البيهقي في "دلائل النبوة" ٢/ ٣٢١ عن ابن شهاب وعروة بن الزبير وعاصم بن عمر وموسى بن عقبة، ورواه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢٥٩ - ٢٦٠ عن رجال من بني سلمة، وكلا الإسنادين غير متصل. وروى ابن جرير ٩/ ١٩٥ عن ابن عباس أن المشركين هم الذين غلبوا على الماء، =
49
الله وفيكم نبيه؟! فأنزل الله تعالى مطرًا أسال منه الوادي حتى اغتسلوا وتطهروا وزالت الوسوسة؛ فذلك قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ أي من الأحداث والجنابة، ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ أي وسوسته التي تكسب عذاب الله وغضبه، ولذلك سمى الوسوسة رجزًا (١)، ومضى الكلام في الرجز وأن معناه العذاب (٢)، ومن المفسرين من يحمل رجز الشيطان على الجنابة وهي من الشيطان (٣).
= لكن سند هذه الرواية مسلسل بالضعفاء، وهم أسرة العوفي، انظر: "تفسير ابن جرير" ١/ ٢٦٣ حاشية (١)، وقد أبدع المحقق في بيان ذلك.
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس عند ابن جرير ٩/ ١٩٦ تفيد أن المشركين غلبوا على الماء أول الأمر، وسندها ضعيف أيضًا لأن أحد رجالها مدلس وهو ابن جريج، ولم يصرح بالتحديث.
انظر: "إتحاف ذوي الرسوخ بمن رمي بالتدليس" ص ٣٧.
والذي صح عن ابن عباس ما رواه ابن جرير ٩/ ١٩٥ من رواية علي بن أبي طلحة أنه قال: نزل النبي - ﷺ - يعني حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء.. إلخ.
لكن هذه الرواية ليست نصًّا في غلبة المشركين على الماء لاحتمال وصول المسلمين إليه بعد نزول المطر، وأما قوله: (وقد غلبكم المشركون) فهو من وسوسة الشيطان لا حقيقة. والله أعلم.
(١) قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٧١ الرجز: العذاب. قال تعالى -حكايته عن قوم فرعون-: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ﴾ [الأعراف: ١٣٤] أي العذاب، ثم قد يسمى كيد الشيطان رجزًا؛ لأنه سبب العذاب، قال الله تعالى: ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾.
(٢) البقرة: ٥٩.
(٣) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢٨٣، و"تفسير الفخر الرازي" ١٥/ ١٣٨.
50
وقال عطاء: رجز الشيطان: تخويفه إياهم بالعطش (١)، وهذا أيضًا نوع من الوسوسة.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ قال ابن عباس: باليقين والعز والنصر (٢)، ومعنى الربط في اللغة: الشد، ذكرنا ذلك في قوله: ﴿وَرَابِطُواْ﴾ [آل عمران: ٢٠٠] ويقال: لكل من صبر عل أمر: ربط قلبه، كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب، ويقال: رجل رابط الجأش، قال الأصمعي: هو الذي يربط نفسه يكفها بجرأته (٣) وشجاعته (٤)، ومنه قول لبيد:
رابط الجأش على كل وجل (٥)
ويشبه أن يكون (على) هاهنا صلة، والمعنى وليربط قلوبكم بالصبر (٦) وما أوقع فيها من اليقين فتثبت ولا تضطرب.
وقوله (٧): ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ قال المفسرون: وذلك أن المسلمين كانوا [قد نزلوا] (٨) على كثيب تغوص فيه أرجلهم، فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام (٩)، والكناية تعود على الماء.
(١) لم أعثر عليه فيما بين يدي من مراجع.
(٢) لم أجد من ذكره عن ابن عباس، وقد ذكر ابن الجوزي عنه أنه قال: بالصبر، انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٢٨.
(٣) في "تهذيب اللغة": لجرأته.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (ربط) ٢/ ١٣٤٦.
(٥) هذا عجز بيت وصدره:
يُسْئِد السير عليها راكب
انظر: "ديوانه" ص ١٧٦، ومعنى: يسئد: يغذّ ويسرع، كما في المصدر نفسه.
(٦) في (م): (النصر)، واللفظ ساقط من (س).
(٧) من (م).
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٩) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩٤، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ٤٣ أ.
51
قال الزجاج: وجائز أن يكون (به): بالربط؛ لأن (يربط) يدل عليه، فكأنه قال: ويثبت بالربط أقدامكم (١).
١٢ - قوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ قال أبو إسحاق: إذا (٢) في موضع نصب على: وليربط إذ يوحي، قال: ويجوز أن يكون على: اذكروا (٣).
ومعنى (يوحي ربك) أي: يلقي إليهم من وجه يخفى، هذا حقيقة معنى الإيحاء (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ يعني الذين أمد الله بهم المسلمين، وقوله تعالى: ﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾ أي بالعون والنصرة، كما يقال: فلان مع فلان أي معونته معه (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، قال عطاء عن ابن عباس: يريد ادعوا لهم، ولا يمدن أحد منهم سيفه ليضرب به إلا بادرتموه بسيوفكم (٦)،
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٤ بتصرف.
(٢) ساقط من (ح).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٤.
(٤) انظر: "الصحاح" (وحي) ٦/ ٢٥٢٠.
(٥) هذه بعض معان المعية الخاصة، وليسر ذلك من التأويل المذموم بل هو مقتضى لغة العرب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (مع) في كلامهم لصحبته اللائقة، وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها، فكون نفس الإنسان معه لون وكون علمه وقدرته وقوته معه لون، وكون زوجته معه لون، وكون أميره ورئيسه معه لون، وكون ماله معه لون، فالمعية ثابتة في هذا كله مع تنوعها واختلافها. "مختصر الصواعق المرسلة" ص ٣٩٤.
(٦) لم أعثر على مصدره، وفي معناه نظر، إذ لو ثبت هذا لما قتل أحد من المسلمين لكن الواقع أنه استشهد في معركة بدر أربعة عشر رجلا. انظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ٣٥٤ - ٣٥٥.
52
وقال مقاتل: يعني بشروهم بالنصر، وكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم ويرى (١) الناس أنه منهم (٢) (٣).
وقال عبد العزيز بن يحيى: شجعوهم وقووا عزمهم في الجهاد (٤)، وهذا معني قول الزجاج: جائز أن يكونوا يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوبهم تقوى بها (٥)، قال أبو روق: هو أن الملك كان يتشبه بالرجل الذي يعرفونه فيأتي الرجل منهم ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن، فيتحدث بذلك المسلمون ويزدادون جرأة (٦)، وهذا اختيار الفراء (٧) وابن الأنباري، وقال الزجاج: وجائز أن يكونوا يرونهم مددًا فإذا عاينوا نصر الملائكة ثبتوا (٨).
وذكر أبو بكر (٩) وجهًا آخر فقال: معناه اقتلوا المشركين وأفسدوا صفوفهم فإنكم إذا فعلتم ذلك ثبّتم المؤمنين، وهذا معنى قول المبرد: (وازروهم) (١٠)، وهو قول الحسن قال: (فثبتوا الذين آمنوا) بقتالكم
(١) في (ح): (فيرى).
(٢) في (س): (منكم).
(٣) "تفسير مقاتل" ل ١١٩ أ.
(٤) لم أعثر عليه، وقد ذكره الثعلبي ٦/ ٤٣ أبلا نسبة.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٤، ونص عبارة الزجاج: جائز أن يكون أنهم يثبتوهم... إلخ.
(٦) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٤٣ ب، والأثر مرسل لأن أبا روق من صغار التابعين ولم يسنده إلى صحابي.
(٧) انظر: "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٥.
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٤.
(٩) هو: ابن الأنباري.
(١٠) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٤٣/ب، وهو قول ابن إسحاق، انظر "السيرة =
53
المشركين (١).
وقوله تعالى: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾، قال عطاء: يريد الخوف من أوليائي (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾، قالوا: جائز أن يكون هذا أمرًا للملائكة وهو الظاهر، وجائز أن يكون أمرًا للمؤمنين (٣)، ومعناه: فاضربوا الرؤوس؛ لأنها فوق الأعناق. قال عطاء عن ابن عباس: يريد كل هَامَة وجمجمة (٤)، وقال عكرمة: معناه: فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق (٥)، [وقال الفراء: "علمهم مواضع الضرب فقال: اضربوا الرؤوس (٦)] (٧) "،
= النبوية" ٢/ ٢٧٣ - ٢٧٤، ومعنى (وازروهم): أعينوهم. انظر: "القاموس المحيط" فصل: الواو، باب: الراء ص ٤٩٢.
(١) "زاد المسير" ٣/ ٣٢٩، و"الوسيط" ٢/ ٤٤٨، وانظر: "تفسير الحسن البصري" ١/ ٣٩٩ جمع وتوثيق د/ محمد عبد الرحيم.
(٢) رواه البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٣٤، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٤٤٨.
(٣) رجح هذا القول ابن جرير ١٣/ ٤٣٠، والسمرقندي ٢/ ١٠، والرازي ١٥ - ١٤٠، وانظر القولين في "تفسير الثعلبي" ٦/ ٤٣ ب، والبغوي ٣/ ٣٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٣٢٩، والرازي ١٥/ ١٤٠، وقتال الملائكة يوم بدر ثابت في "صحيح مسلم"، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة رقم (١٧٦٣) ٣/ ١٣٨٣.
(٤) انظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٣٧٨، وبمعناه عند الثعلبي ٦/ ٤٣ ب، والهامة: أعلى الرأس، وقيل: الرأس، وقيل غير ذلك. انظر: "لسان العرب" (هوم) ١٢/ ٦٢٤.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٤٣ ب، ورواه ابن جرير ١٣/ ٤٣٠، وابن أبي حاتم ٣/ ٢٣١ ب مختصرًا بلفظ: الرؤوس.
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٥، ونصر عبارة الفراء: اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
54
وقال أبو بكر (١): أراد به الرؤوس، وذلك أن الملائكة حين أمرت بالقتال لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس فعلمهم الله تعالى أن يضربوا الرؤوس.
قال قطرب (٢): يعني ما فوق الأعناق (٣).
ونصب (فوق) يكون بالظرف.
وقوله تعالى: ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ يعني الأطراف من اليدين والرجلين، عن ابن عباس (٤)، وابن جريج (٥)، والسدي (٦).
وفي رواية: (كل بنان) من الأصابع إلى الذراع (٧)، قال الليث (٨):
(١) يعني: ابن الأنباري، وانظر قوله هذا في: "زاد المسير" ٣/ ٣٢٩، وفي "تفسير البغوي" ٣/ ٣٣٥.
(٢) هو: محمد بن المستنير أبو علي المعروف بقطرب النحوي اللغوي المعتزلي أحد أئمة اللغة والنحو، تتلمذ على سيبويه وغيره من علماء البصرة، توفي سنة ٢٠٦ هـ. انظر: "نزهة الألباء" ص ٧٦، و"إنباه الرواة" ٣/ ٢١٩، و"مراتب النحويين" ص ١٠٩.
(٣) لم أجد من ذكر هذا القول عنه، ولعله في كتابه "معاني القرآن" وهو من الكتب التي لم أعثر عليها، وانظر نحو هذا القول في: "النكت والعيون" ٢/ ٣٠٢.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٦٨، والثعلبي ٦/ ٤٣ ب.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ١٩٩، والثعلبي ٦/ ٤٣ ب.
(٦) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٥/ ١٦٦٨، وابن كثير ٢/ ٣٢٤.
(٧) لم أجد هذه الرواية في كتب التفسير.
(٨) هو: الليث بن نصر بن سيار الخرساني اللغوي النحوي، وقيل: الليث بن المظفر، وقيل: الليث بن رافع، كان من أكتب الناس في زمانه، بارعًا في الأدب، بصيرًا بالشعر والغريب والنحو، من تلامذة الخليل بن أحمد وراوي كتاب "العين" عنه، بل قيل إنه هو مؤلفه، وجزم الأزهري بذلك وتبعه المؤلف.
انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢٨، و"إنباه الرواة" ٣/ ٤٢، و"لسان الميزان" ٤/ ٤٩٤، و"بغية الوعاة" ٢/ ٢٧٠، وانظر: الرد علي الأزهري في نسبة كتاب العين لليث، وصحة نسبته في مقدمة كتاب "العين" ١/ ١٩.
55
البنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، والبنان في كتاب الله هي (الشوى) وهي الأيدي والأرجل (١).
وبنحو هذا قال الفراء، قال: يعني الأيدي والأرجل (٢)، قال أبو بكر (٣): البنان أطراف الأصابع، اكتفى الله به من جملة اليد والرجل، والعرب تكتفي ببعض الشيء من كله، وأنشد لعنترة:
عهدي به (٤) مدّ النهار كأنما خُضب البنان ورأسه بالعظلم (٥)
يعني قتيلاً مضرجًا في دمه، وأراد بالبنان [جملة أطرافه.
وقال عطية والضحاك: كل كان: مفصل (٦)، وهو اختيار أحمد بن يحيى، قال: البنان] (٧) كل طرف ومفصل (٨).
(١) "تهذيب اللغة" (بنن) ١٥/ ٤٦٨، والنص في كتاب "العين" (بن) ٨/ ٣٧٢، وتفسير (الشوى) بالأيدي والأرجل قول لأهل اللغة، وقيل: ظاهر الجلد كله. انظر: "تهذيب اللغة" (شوى) ١١/ ٤٤٢، و"لسان العرب" (شوى) ١٤/ ٤٤٧.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٥ بتصرف.
(٣) هو: ابن الأنباري، وقد ذكر بعض قوله هذا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٣٠، كما ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٤٨.
(٤) في (س): (بها).
(٥) "ديوانه" ص ٢٧ بمثل رواية المصنف، وانظر: "شرح ديوانه" للشنتمري ص ٢١٣، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٠٩، و"اللسان" (شدد) ٤/ ٢٢١٤، و"الدر المصون" ٥/ ٥٨٠، وفيها جميعًا: شد النهار، وهو بمعنى رواية الديوان، أي: ارتفاعه، انظر: "اللسان" (مدد) ٧/ ٤١٥٨.
والعِظْلم: بكسر العين: قال الجوهري في "الصحاح" (عظلم) ٥/ ١٩٨٨: نبت يصبغ به، وفي "اللسان" (عظلم) ٥/ ٣٠٠٤: صبغ أحمر.
(٦) رواه عنهما ابن جرير ٩/ ١٩٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٦٨.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) "فصيح ثعلب" ص ٤٦ بنحوه.
56
قال أبو الهيثم (١): وكل مفصل (٢) بنانة (٣)، وقال الزجاج في هذه الآية: أباحهم الله عز وجل قتلهم بكل نوع يكون في الحرب (٤).
١٣ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الإشارة تعود إلى ما أمر به من ضربهم؛ يقول: ضرب أعناقهم وبنانهم بما ارتكبوا من الشقاق، وذكرنا معنى الشقاق فيما تقدم (٥).
وقال أبو إسحاق: شاقوا: جانبوا وصاروا في شق غير شق المؤمنين (٦)، والشق: الجانب، وقال ابن قتيبة: شاقوا: نابذوا وباينوا (٧).
وقال ابن عباس: ﴿شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يريد: حاربوا الله وحاربوا رسوله (٨)، وهذا معنى وليس بتفسير؛ وذلك أن المحارب: مباين مخالف، يدل على هذا أنه قد باين (٩) من لا يحارب: فيقال: قد شاق، فحقيقة معنى
(١) هو: خالد بن يزيد الرازي أبو الهيثم، اشتهر بكنيته، من أئمة اللغة بارعًا حافظًا عالماً ورعًا كثير الصلاة، صاحب سنة، توفي عام ٢٧٦ هـ انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٥ - ٤٦، و"إنباه الرواة" ٤/ ١٨٨، و"بغية الوعاة" ٢/ ٣٢٩.
(٢) ساقط من (ح).
(٣) "تهذيب اللغة" (بن) ١/ ٣٩١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٥.
(٥) انظر: البسيط (النسخة الأزهرية) ١/ ٩١ أ، ونص قوله في هذا الموضع: ("شقاق": أي خلاف وعداوة، وتأويله: أنهم صاروا في شق غير شق المسلمين، والعداوة تسمى شقاقًا، ؛ لأن كل واحد من المعادين يأتي بما يشق على صاحبه، أو لأن كل واحد صار في شق غير شق صاحبه).
(٦) اهـ كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٥.
(٧) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٨٨.
(٨) "الوسيط" ٢/ ٤٤٨.
(٩) في (م): تباين اهـ. والضمير في قوله (أنه) ضمير الشأن، و (من) فاعل (باين) والمعنى: إن من لا يحارب من الكفار قد باين، ويقال له: قد شاق الله ورسوله، فتبين أن تفسير ابن عباس المشاقة بالمحاربة من باب التمثيل.
الشقاق: الانفصال، من قولهم: انشق انشقاقًا وشقه شاقًّا، والشقان: الجانبان انفصل أحدهما عن الآخر، وشاقه شقاقًا: إذا صار في شق عدوه بأن باينه وخالفه.
وشاقوا الله: مجاز، وحقيقته (١): شاقوا أولياء الله (٢)؛ ألا ترى أن أبا إسحاق قال: صاروا في شق غير شق المؤمنين (٣).
١٤ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ﴾ قال مقاتل: يعني القتل يوم بدر وضرب الملائكة الوجوه والأدبار (٤) فعنده الإشارة تعود إلى ما ذكر (٥)، والصحيح أن الإشارة بقوله ﴿ذَلِكُمْ﴾ تعود على (٦) ما عاد عليه (٧) قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ﴾ وهذا قريب مما قاله (٨)؛ لأن قتلهم يوم بدر حصل بذلك الضرب.
(١) في (ح): (وحقيقة).
(٢) بل مشاقة الله لا تقتصر على مشاقة أوليائه فهي تعني مخالفته وسبه بادعاء الشركاء والولد له، ومحاربة دينه، وترك شرعه، وغير ذلك من أنواع المشاقة، قال الإمام ابن كثير ٢/ ٣٢٥: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، أي: خالفوهما فساروا في شق، وتركوا الشرع والإيمان به واتّباعه في شق.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٥.
(٤) "تفسير مقاتل" ١١٩ ب، وقد تصرف الواحدي في عبارته.
(٥) في (ح): (ما ذكره).
(٦) في (خ) و (س): (إلي).
(٧) في (ح): (إليه).
(٨) الفرق بين قول مقاتل وما رجحه الواحدي هو أن مقاتل يرى أن الإشارة تعود إلى القتل والضرب، والواحدي يرى أن الإشارة تعود إلى الضرب فقط وهو ما ذكره ابن جرير ١٣/ ٤٣٣ والخلاف يسير؛ لأن ضرب الأعناق يعني القتل لا سيما من ملك.
58
وأما محل ﴿ذَلِكُمْ﴾ من الإعراب فقال الزجاج: هو رفع على إضمار الأمر، المعنى: الأمر ذلكم فذوقوه، ولا يجوز أن يكون ﴿ذَلِكُمْ﴾ ابتداء، و ﴿فَذُوقُوهُ﴾ الخبر، من قِبلِ أن ما بعد الفاء لا يكون خبرًا للمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسمًا موصولاً، أو نكرة موصوفة، نحو: الذي يأتيني فله درهم، وكل رجل في الدار فمكرم، فأما: زيد فمنطلق، لا يجوز إلا أن نجعل زيدًا خبرًا لابتداء محذوف، على معنى: هذا زيد منطلق، أي: فهو منطلق، وعلى هذا قول الشاعر (١):
وقائلة خولان فانكح فتاتهم (٢)
أي: هؤلاء خولان، وهذا الذي ذكرته معنى قول أبي إسحاق مع شرح أبي علي (٣)، وقال غيره: يجوز أن يكون محل ﴿ذَلِكُمْ﴾ نصبًا بذوقوا، كما تقول: زيدًا فاضربه (٤).
(١) هذا البيت من شواهد سيبويه في "الكتاب" ١/ ١٣٩ وهو من أبياته الخمسين التي لم يعرف قائلوها، وعجز البيت:
أكرومة الحيين خلو كما هيا
وخولان: قبيلة باليمن، وهم أبناء خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث. والأكرومة: الكريمة، والحيان: حي أبيها وحي أمها يعني: أنها كريمة النسب من جهة أبيها ومن جهة أمها، خلو: أي لا زوج لها، كما هي: أي بكر كما هي خلقتها الأولى.
انظر: "خزانة الأدب" ١/ ٤٥٥، و"شرح أبيات سيبويه" للسيرافي ١/ ٢٧٣.
(٢) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٧. وقد نقله الواحدي بالمعنى كما أشار لذلك بقوله: وهذا الذي ذكرته معنى قول أبي إسحاق.
(٣) "الإغفال".
(٤) ممن جوز ذلك الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٤٨، وأبو البقاء في "التبيان" ص ٤٠٦. وقد بين أبو حيان ضعف هذا الوجه، انظر:"البحر المحيط" ٤/ ٤٧٢.
59
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾، قال الفراء: إن شئت جعلت ﴿أَن﴾ رفعًا بالعطف على ﴿ذَلِكُمْ﴾ (١)، وهو قول أبي إسحاق، قال: المعنى: الأمر ﴿ذَلِكُمْ﴾ والأمر ﴿وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ (٢)، قال الفراء: ويجوز أن [عمرًا قائمًا، بل يلزمه أن يقول مبتدئًا: عمرًا منطلقًا؛ لأن المخبر مُعلم، ولا (٣) يجوز إضمار (اعلم)] (٤) هاهنا؛ لأن كل كلام تخبر به فأنت مُعلم (٥)، فاستغنى عن إظهار العلم (٦) وإضماره، وهذا القول لم يقله أحد من النحويين (٧).
ومعنى الآية وعيد للكافرين بعذاب النار بعد ما نزل بهم من ضرب (٨) الأعناق وكل بنان.
١٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾. الزحف: معناه في اللغة: الدنو قليلاً قليلاً، يقال: زحف إليه يزحف زحفًا، إذا مشى قليلاً، ويقال أيضًا: أزحفت (٩) للقوم: إذا دنوت لقتالهم، وكذلك تزحّف وتزاحف، قال الأعشى:
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٥ بالمعنى.
(٢) نص كلام الزجاج: المعنى: الأمر ذلكم وأن الله، والأمران الله موهن، و"معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٧.
(٣) في "معاني القرآن وإعرابه": ولكنه لم يجز.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٥) زاد محقق "معاني القرآن وإعرابه" بعد هذه الكلمة لفظ: به.
(٦) في "معاني القرآن وإعرابه": أو.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٨.
(٨) في (ح): (ضروب).
(٩) في (س): (زحفت).
60
لمن الظعائن سيرهن تزحف (١)
ويقال: أزحف لنا عدونا ازحافًا، أي: صاروا يزحفون [إلينا زحفًا لقتالنا، ويقال أيضًا: ازدحف القوم ازدحافًا] (٢) إذا مشى بعضهم إلى بعض، وقال أحمد بن يحيى (٣): الزحف: المشي قليلاً قليلاً إلى الشيء، ومنه الزحاف في الشعر: يسقط ما بين الحرفين حرف فيزحف (٤) أحدهما إلى الآخر (٥).
وقال الأزهري: أصل الزحف للصبي، وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم، وشبه بزحف الصبي مشي الفئتين تتلاقيان (٦) للقتال فتمشي كل فئة مشيًا رويدًا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب وهي مزاحف أهل الحرب (٧) انتهى كلامه.
فالزحف مصدر كما بينّا، ثم تسمى الفئة التي تريد أن تلقى الأخرى للقتال زحفًا، قال الليث: الزحف: جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة، فهم الزحف، والجميع: الزحوف (٨).
(١) وعجزه:
مثل السفين إذا تقاذَفَ تجدف
والبيت لم أجده في "ديوان الأعشى"، وقد نسب إليه في "تفسير الثعلبي" ٦/ ٤٦ ب، وابن الجوزي ٣/ ٣٣١، و"الدر المصون" ٥/ ٥٨٤.
وهو في "تاج العروس" (زحف) من غير نسبة.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٣) هو: أبو العباس (ثعلب).
(٤) في (م) و (س): (فزحف).
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (زحف) ٢/ ١٥١٦. وقد ذكر الواحدي عبارة ثعلب بالمعنى.
(٦) في "تهذيب اللغة": تلتقيان.
(٧) "تهذيب اللغة" (زحف) ٢/ ١٥١٦.
(٨) "تهذيب اللغة" (زحف) ٢/ ١٥١٦، والنص في كتاب "العين" (زحف) ٣/ ١٦٣.
61
فقوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾ نصب على الحال، ويجوز أن يكون حالاً للكفار، ويجوز أن يكون حالاً للمخاطبين وهم المؤمنون.
والزحف: مصدر موصوف به كالعدل والرضا، ولذلك لم يجمع، قال أبو إسحاق في هذه الآية: إذا واقفتموهم (١) للقتال فلا تنهزموا (٢).
ومعنى ﴿فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾: لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم.
١٦ - قوله تعالى ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ﴾ الآية، معنى التحرف في اللغة: الزوال عن جهة الاستواء، يقال: تحرف وانحرف واحرورف، وذكرنا هذا عند قوله ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ (٣) (٤).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾، قال أبو عبيد (٥): التحيز: التنحي، وفيه لغتان: التحيز والتحوز (٦).
الليث: يقال: مالك تتحوز إذا لم تستقر على الأرض، والاسم منه: التحوز (٧)، وأصل هذا من الحوز وهو الجمع، يقال: حزته فانحاز وتحوز تحيزًا (٨): إذا انضم واجتمع، ويقال من هذا: الحية تتحوز: إذا انطوت
(١) يعني: إذا وقفتم معهم في موقف واحد.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٥ باختصار.
(٣) من الآية ٤٦ من سورة النساء، والآية: ١٣ من سورة المائدة.
(٤) انظر: "تفسير البسيط" ٣/ ٥٦٤، تحقيق محمد المحيميد.
(٥) في (م): (أبو عبيدة).
(٦) "تهذيب اللغة (جاز) ٥/ ١٧٨، ونُسب هذا القول في "لسان العرب" (حوز) ٥/ ٣٤٠، وفي "البحر المحيط" ٥/ ٢٩١ إلى أبي عبيدة. ولم أجده في "مجاز القرآن" له.
(٧) "تهذيب اللغة" (حاز) ١/ ٧٠٠، والنص في كتاب "العين" (حوز) ٣/ ٢٧٤.
(٨) ذكر الواحدي عن أبي عبيد أن في الكلمة لغتين: التحوز والتحيز، فكان الأولى أن يقول: تحوز تحوزًا، وتحيز تحيزًا، لكن جاء في اللغة ما يدل على صحة عبارة =
62
واجتمعت، ثم سمي التنحي تحيزًا؛ لأن المتنحي عن جانب ينضم عنه ويجتمع إلى غيره، فلا يبسط فيه.
فأما التفسير فقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وأي: يوم لقاء الكفار، والإشارة تعود إلى قوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ﴾ أي: منعطفًا مستطردًا، كأنه يطلب عورة تمكنه إصابتها فينحرف عن وجه وُيرى أنه منهزم (١) ثم يكر.
قال السدي: أما المتحرف: فالمستطرد يريد العودة (٢)، والمتحيز: إلى إمام وجنده إذا لم يكن له بهم طاقة (٣). وظاهر الآية نهي عن الانهزام بين يدي الكفار إلا أن يكون مستطردًا أو منضمًا إلى جماعة يريدون العود إلى القتال.
واختلف المفسرون في هذه الآية فقال الحسن وقتادة والضحاك: هذا الوعيد خاص فيمن كان ينهزم يوم بدر (٤)، وهو قول أبي سعيد الخدري،
= الواحدي، قال ابن منظور: ومن كلامهم: مالك تحوز كما تحيز الحية، وتحوّز تحيز الحية، وتحوّز الحية. "لسان العرب" (حوز) ٢/ ١٠٤٦، وفي المصدر نفسه ٢/ ١٠٤٦: وتحوّز عنه وتحيّز: إذا تنحى، وهي (تفعيل) أصلها (تحيوز) فقلبت الواو ياء لمجاورة الياء، وأدغمت فيها. اهـ.
(١) في (م): (ينهزم).
(٢) في (ح): (العورة)، يعني عورة العدو وموطن ضعفه، وما أثبته موافق لتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم.
(٣) رواه ابن جرير ٩/ ٢٠١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٧٠ بنحوه.
(٤) انظر أقوالهم في: "المصنف" للصنعاني ٥/ ٢٥١، و"تفسير ابن جرير" ١٣/ ٤٣٨، وابن أبي هاشم ٣/ ٢٣٢/ ب، والثعلبي ٦/ ٣٧/ أ، وابن كثير ٢/ ٣٠٧، وزاد ابن كثير نسبة هذا الرأي إلى: عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع وسعيد بن جبير وعكرمة، قال ابن كثير: وهذا كله لا ينفي أن يكون =
63
وقال: إنما كان ذلك يوم بدر خاصة، لم يكن لهم أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض مسلم ولا للمسلمين فِئَة، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم لبعض فئة (١).
وقال ابن عباس: الآية عامة في كل من انهزم عن العدو (٢).
= الفرار من الزحف حرامًا على غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فيهم اهـ. ويظهر للمتأمل لأقوال من يرى أن الآية خاصة في أهل بدر أنهم يعنون ما عناه أبو سعيد الخدري في قوله الذي ذكره الواحدي، فأهل بدر ليس لهم فئة يفيئون إليها كما قال الرسول - ﷺ -: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". رواه مسلم (١٧٧٣)، كتاب الجهاد، باب: الإمداد بالملائكة (١٧٦٣)، وما بقي في المدينة من المسلمين يومئذ أقل من أن يغزوا عدوًا أو يصدوا مهاجمًا.
وللعلماء قاعدة عظيمة في أصول التفسير وهي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا قال ابن جرير ١٣/ ٤٤٠: نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، ومما يؤكد ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه" كتاب الوصايا، باب: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ الآية، أن النبي - ﷺ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وذكر منهن: التولي يوم الزحف.
(١) رواه بلفظ مقارب ابن جرير ١٣/ ٤٣٧، ورواه مختصرا أبو داود في "سننه" (٢٦٤٦) كتاب الجهاد، باب: في التولي يوم الزحف، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(٢) هذا معنى أثر عن ابن عباس من رواية الوالبي، انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٠٣، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٧٧، وانظر: صحيفة علي بن أبي طلحة ص ٢٣٩.
وقول ابن عباس هذا مقيد بقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾. وبقول النبي - ﷺ -: "من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثين فقد فر". رواه الطبراني في "المعجم الكبير" ١١/ ٩٣ (١١١٥١)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٥/ ٣٢٨: رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ. ورواه سعيد بن منصور في "سننه" ٥/ ٢٢٦ (١٠٠١) موقوفًا على ابن عباس.
64
فأما حكم الآية: فالمتحرف عن جانب إلى جانب لمكايد القتال غير منهزم، وأما المتحيز، فهو الذي ينهزم [من العدو] (١) وينوي التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم، أو يستمد ويعود إلى القتال فهذا أيضًا مستثنى من الوعيد، وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة عنه جاز له التحيز إذا نوى العود والاستعانة قلّ العدو أو كثر (٢)، روى جرير (٣)، عن منصور، عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين هلكت؛ فررت من الزحف، فقال عمر: أنا فئتك (٤)، وقال أيضًا: أنا فئة كل مسلم (٥).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) هكذا يرى الواحدي جواز الفرار من الزحف إذا نوى العودة دون قيد آخر، وهذا مذهب جمهور العلماء.
انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٠١، و"أحكام القرآن" للهراسي ٣/ ١٥٤، و"الثمر الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني" ص ٤١٣، و"المغني" ١٣/ ١٨٧، وبعض العلماء يرى أن الجيش إذا بلغ اثنى عشر ألفاً فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثر عددهم، ما لم يغلب على ظنهم استئصال العدو لهم.
انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٣٢، و"أحكام القرآن" للهراسي ٣/ ١٥٤، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٣٨٢.
(٣) جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي أبو عبد الله الرازي القاضي، ولد بأصبهان ونشأ في الكوفة ونزل بالري، كان ثقة محدثًا ناشرًا للعلم، يرحل إليه، مات سنة ١٨٨ هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٩/ ٩، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٢٩٧، و"تقريب التهذيب" ص ١٣٩ (٩١٦).
(٤) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٤٧ أ.
(٥) رواه الصنعاني في "المصنف" ٥/ ٢٥٢، وابن جرير ٩/ ٢٠٣، والثعلبي ٦/ ٤٧ أ، والبغوي ٣/ ٣٣٨.
65
وأما إذا لم ينو الالتجاء إلى فئة من المسلمين، وانهزم هزيمة على الحقيقة؛ فإن كان المشركون أكثر من ضعف المسلمين لم يعص ولم يأثم، وإن كانوا ضعفهم أو أقل استحق الوعيد وعصى وأثم.
فإن قيل: إن قوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ يدل على أن المنهزم إذا عصى بالهزيمة بقي في النار خالدًا (١)، قلنا: قد ذكرنا أن الآية مخصوصة بأهل بدر على قول الأكثرين، قال يزيد بن أبي حبيب (٢): أوجب الله لمن فر يوم بدر النار، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٥]، ثم كان يوم حنين بعد ذلك فقال: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥]، ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة: ٢٧] (٣).
(١) في (م): (مخلدًا).
(٢) هو: يزيد بن أبي حبيب أبو رجاء المصري، الإِمام الحجة، مفتي الديار المصرية، كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى والعلم مع كونه مولى حبشيًّا، مات سنة ١٣٢٨ هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" ٢/ ٤/ ٣٣٦، و"الكاشف" ٢/ ٣٨ (٦٢٨٩)، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣١، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٠٨.
(٣) رواه البغوي ٣/ ٣٣٧، ورواه أيضًا مع زيادة ابن جرير ٩/ ٢٠٢، وما جاء في حادثتي أحد وحنين يؤكد تحريم الفرار من الزحف حيث وصف بأنه استزلال من الشيطان وأن الله قد عفا عن الفارين، أما سياق يزيد بن أبي حبيب للآيتين في قصة حنين فقد يفهم منه أن التوبة على الصحابة الفارين وليس الأمر كذلك بل على من أسلم من كفار هوازن بدلالة السياق حيث قال الله تعالى: ﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ وعلى فرض أنه على الصحابة الفارين فإنها تأكيد على تحريم الفرار وأنه من كبائر الذنوب التى تحتاج إلى توبة.
66
وإن قلنا الآية عامة فقوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ لا يفيد التخليد فيكون منتهى مكثه في جهنم إلى الشفاعة والرحمة.
قال أبو إسحاق: ﴿مُتَحَرِّفًا﴾ منصوب على الحال، [وكذلك ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا﴾] (١) قال: [ويجوز أن يكون النصب فيهما على الاستثناء، أي: إلا رجلاً متحرفًا أو متحيزًا (٢)، قال] (٣): وأصل متحيز: متحيوز، فأدغمت الياء في الواو (٤).
١٧ - وقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾، قال المفسرون: يعني يوم بدر (٥)، قال مجاهد: اختلفوا يوم بدر فقال هذا: أنا قتلت، وقال هذا: أنا قتلت! فأنزل الله عز وجل هذه الآية (٦)
وأما معنى إضافة القتل إلى الله فقال أكثر أهل المعاني (٧): الله قتلهم بتسبيبه ذلك من المعونة عليه، وتشجيع القلب، وإلقاء الرعب في قلوب
(١) ما بين المعقوفين غير موجود في "معاني القرآن وإعرابه" لأبي إسحاق الزجاج.
(٢) ليس هناك فرق بين الإعرابين من حيث المعنى، فهو مستثنى على كلتا الحالتين، وإنما الفرق في تقدير المستثنى منه، فعلى الإعراب الأول هو مستثنى من عموم الأحوال، والتقدير: ومن يولهم دبره في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أو التحيز، وعلى الإعراب الثاني هو مستثنى من عموم الرجال، والتقدير: وأي رجل يولهم دبره إلا رجلاً متحرفًا أو متحيزًا.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٦.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٠١، والثعلبي ٦/ ٤٧ ب.
(٦) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٤٨ ب، ورواه بلفظ مقارب ابن جرير ٩/ ٢٠٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٧٢، والبغوي ٣/ ٣٣٩.
(٧) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٦، و"معاني القرآن" لأبي جعفر النحاس ٣/ ١٤١، و"الكشاف" ٢/ ١٤٩.
67
المشركين، وكل هذا كان (١) أبلغ في قتلهم من تعمد القاصد إليه وهذا المعنى أراد أبو إسحاق، فقال: أضاف الله عز وجل قتلهم إليه لأنه هو الذي تولى نصرهم، وأظهر في ذلك الآيات المعجزات (٢)، وقال الحسين بن الفضل (٣): الجرح كان إليهم، وإخراج الروح كان إلى الله تعالى، يقول: فلم تميتوهم (٤) ولكن الله أماتهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ قال المفسرون (٦): إن جبريل قال للنبي - ﷺ - يوم بدر: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فخرج رسول الله - ﷺ - من العريش، وأخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه؛ فلم يبق مشرك إلا دخل عينه منها شيء، وشغل بعينه؛ فكان ذلك سبب هزيمتهم، وقال عكرمة: ما وقع منها شيء إلا في عين رجل (٧).
(١) ساقط من (م).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٦.
(٣) هو: الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري، العلامة المفسر الإمام اللغوي المحدث، إمام عصره في معاني القرآن وكان آية في ذلك، توفي سنة ٢٨٢ هـ. انظر: "العبر" ١/ ٤٠٦، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٤١٤، و"طبقات المفسرين" للداودي ١/ ١٥٩، وللسيوطي ص ٣٧.
(٤) في (ح): (تميتيهم)، وفي (س): (تميتموهم).
(٥) "تفسير الثعلبي" ٦/ ٤٨ ب، ونص العبارة فيه: قال الحسين بن الفضل: أراد به: فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم، وأنتم جرحتموهم؛ لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٠٤، والثعلبي ٦/ ٤٧ ب، والبغوي ٣/ ٣٣٩، و"الدر المنثور" ٣/ ٣١٧.
(٧) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٩/ ٢٠٤. ومثل هذا لا يعرف بالرأي، فإن كان عكرمة سمعه من أحد أصحاب النبي - ﷺ - فله حكم الرفع وإلا فهو مردود.
68
فأما معنى نفيه ما أثبت من رمي الرسول وإسناد ذلك إلى نفسه، فقال أهل المعاني (١): إنه لم يعتد برميه مع رمي الله إياهم، وهكذا كل ما لا يعتد به نحو: تكلمت ولم تتكلم، ولم تصنع شيئًا (٢)، فهذا معنى (٣) نفي الرمي عن الرسول.
ومعنى إسناده إليه فلأنه كان منه التسبيب والتسديد.
واحتج أصحابنا (٤) بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وكذلك الأفعال المتولدة من اكتساب العباد، وقالوا: الرمي فعل واحد أضافه الله إلى نبيه، وأثبته له ثم وصف به نفسه، وكان من الله الإنشاء والإيجاد بالقدرة القديمة، ومن الرسول الحذف والإرسال، وهكذا جميع أفعال العباد المكتسبة، من الله تعالى الإيجاد، ومن العباد الاكتساب (٥).
(١) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني.
(٢) يعني: إذا تكلم إنسان بكلام غير مفيد قيل له: لم تتكلم، وإذا صنع شيئًا غير محقق للغرض المطلوب، قيل له: لم تصنع شيئًا.
(٣) ساقط من (س).
(٤) يعني الأشاعرة، انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٣٩، ولم أجد الاستدلال بالآية فيما بين يدي من كتب العقيدة الأشعرية، وانظر المعنى في: "الإبانة" للأشعري ص ٢٣، و"تمهيد الأوائل" للباقلاني ص ٣٤١، و"كتاب الإرشاد" للجويني ص ١٧٤، و"غاية المرام" للآمدي ص ٢٠٧.
(٥) يشير المؤلف رحمه الله إلى قضية طالما أشغلت الفكر الإسلامي، وتحددت فيها الآراء، وكثر حولها الجدال، وهي علاقة الخالق -سبحانه- بأفعال العباد.
والمؤلف سار على مذهب جمهور الأشاعرة القائلين بنظرية الكسب رغبة في تحقيق الوسطية بين المعتزله القدرية القائلين: إن الإنسان يخلق أفعاله، وبين الجهمية الجبرية القائلين: إن الإنسان مجبور على أفعاله وأنه كالريشة في مهب الريح. =
69
........................
= وخلاصة مذهب جمهور الأشاعرة بينه الزنجاني في "شرح المواقف" ص ٢٣٧ بقوله: أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارًا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنًا لهما، فيكون الفعل مخلوقًا لله إبداعًا وإحداثا، ومكسوبًا للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقرنته لقدرته وإرادته، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلًا له.
وقول الزنجاني هذا يفسر معنى كسب العباد عند الأشاعرة، والذي عرفه الآمدي في "غاية المرام من علم الكلام" ص ٢٢٣ بقوله: إنه المقدور بالقدرة الحادثة، أو المقدور القائم بمحل القدرة، ويوضح هذه النظرية قول الشهرستاني في "الملل والنحل" بهامش "الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم ١/ ١٢٨: المكتسب هو المقدور بالقدرة الحادثة أو الحاصل تحت القدرة الحادثة، ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، غير أن الله تعالى أجرى سننه بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها ومعها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، وسمي هذا الفعل كسبًا، فيكون من الله تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد مجعولًا تحت قدرته اهـ. وإذ قد تبين معنى قول المؤلف: "وهكذا جميع أفعال العباد المكتسبة، من الله تعالى الإيجاد، ومن العباد الاكتساب" فإن لي حول ذلك وقفتين:
الأولى: الاستدلال بهذه الآية على نظرية الكسب ونفي أثر قدرة العبد استدلال باطل؛ فإن واقعة الحال وأسباب النزول وأقوال الصحابة المعاصرين لنزول القرآن وتلاميذهم، تفسر مراد الله، وتوضح معناه.
قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٢٧: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم: أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، أي: بل هو الذي أظفركم عليهم، ثم قال تعالى لنبيه - ﷺ - أيضًا في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه" ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الجملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا =
70
.......................
= ناله منها ما شغله عن حاله؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ أي هو الذي بلّغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رفع رسول الله - ﷺ - يديه -يعني يوم بدر- فقال: "يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين. ثم ذكر الإمام ابن كثير عدة روايات بهذا المعنى ثم قال: وقد روي في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي - ﷺ - يوم بدر اهـ. واذ قد تبين معنى الآية وسبب نزولها فإنه لا يصح حملها على كل رمية أو كل فعل صادر من كل إنسان.
فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب!
فالجواب: أن عموم اللفظ هنا ليس أفعال الإنسان كلها، بل كل رمية بلغت ذلك المبلغ، وأثرت ذلك التأثير.
الثانية: مذهب أهل السنة والجماعة في أفعال العباد أن قدرة العبد لها أثر في فعله كأثر الأسباب في مسبباتها فهو الموجد لفعله باختياره، والله تعالى هو خالق أفعال العبد باعتبار أن خالق الأسباب هو خالق مسبباتها، فالسحاب -مثلاً- سبب المطر، والماء سبب الإنبات، وقد جرت العادة أنه لولا السحاب ما نزل الماء، ولولا الماء ما حصل الإنبات، ومع ذلك فالله تعالى هو المنزل للماء، المنبت للشجر، فكذلك قدرة العبد هي سبب فعله، والله تعالى خالق العبد وخالق فعله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى" ٨/ ٤٨٧: الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة: إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات.
وقد أحسن إمام الحرمين الجويني المنتسب للمذهب الأشعري في عرض قول أهل السنة والرد على أئمة المذهب الأشعري حيث قال: الركن الأول في قدرة العبد وتأثيرها في مقدورها، فنقول: قد تقرر عند كل حَاظٍ بعقله، مرقى عن مراتب =
71
وقال أبو إسحاق: أعلم الله أن كفًا من حصى لا يملأ عيون ذلك الجيش الكثير برمية بشر، وأنه جلّ وعزّ تولى إيصال ذلك إلى أبصارهم، فقال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ أي لم يصب رميك ذلك
= التقليد في قواعد التوحيد أن الرب -سبحانه وتعالى- مطالب عباده بأعمالهم في حياتهم، وداعيهم إليها، ومثيبهم ومعاقبهم عليها في مآلهم، وتبين بالنصوص التي لا تتعرض للتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم به، فمن أحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله، أو مستقر على تقليده، مصمم على جهله ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع، والتكذيب بما جاء به المرسلون، فإن زعم زاعم ممن لم يوفق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلاً، فإذا طولب بمتعلق الله تعالى بفعل العبد تحريمًا وفرضًا، ذهب في الجواب طولًا وعرضًا، وقال: لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]. قيل: ليس لم جئت به حاصل، كلمة حق أريد بها باطل، ومن زعم أن لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه، فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته أن يثبت في نفسه ألوانًا وإدراكات، وهذا خروج عن حد الاعتدال، إلى التزام الباطل والمحال، ثم قال: إن قائلًا لو قال: العبد مكتسب، وأثر قدرته الاكتساب، والرب -تبارك وتعالى- مخترع وخالق لما العبد مكتسب، قيل له: فما الكسب؟ وما معناه؟ وأديرت الأقسام المقدرة على هذا القائل، فلا يجد عنها مهربًا.
فإن قيل: لم لا تذكرون قولًا مقنعًا في الرد على من يزعم أن العبد مخترع، خالق لأفعاله؟
قلنا: المسلمون بأجمع قاطبة قبل أن ظهرت البدع والآراء ونبغ أصحاب الأهواء، على أنه لا خالق إلا الله تعالى، ثم قال: قدرة العبد مخلوقة لله -تبارك وتعالى- باتفاق العالمين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعًا، ولكنه مضاف إلى الله -تبارك وتعالى- تقديرًا وخلقًا، وإذا كان مُوقع الفعل -يعني القدرة- خالقًا لله فالواقع به مضاف خلقًا إلى الله تعالى وتقديرًا اهـ. باختصار من كتاب "العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية" للجويني ص ٤٣ - ٥٠.
72
[ويبلغ ذلك] (١) المبلغ، بل إنما الله تولى ذلك (٢).
وروى أبو عمرو (٣) عن أبي العباس (٤) أنه قال: معناه: وما رميت الرعب والفزع في قلوبهم إذ رميت بالحصى، وهذا عدول عن الظاهر.
وقال المبرد: معناه: ما رميت بقوتك إذ رميت، ولكنك بقوة الله رميت (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا﴾، قال المفسرون: أي ينعم عليهم نعمةً عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والمثوبة (٦).
وقال محمد بن إسحاق: أي ليعرف المؤمنين نعمته (٧) عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرتهم وقلة عدد المؤمنين (٨).
وقال أبو إسحاق: أي: لينصرهم نصرًا جميلاً، ويختبرهم بالتي هي أحسن (٩).
وذكرنا معنى البلاء في سورة البقرة، وقال صاحب النظم: وليبلي المؤمنين فعل ذلك.
وذكرنا نظائر هذا في سورة آل عمران [١٢٦]، عند قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٧.
(٣) في (م) و (س): (أبو عمر). وهو أبو عمرو بن العلاء، تقدمت ترجمته.
(٤) هو: ثعلب، وانظر قوله هذا في: "تهذيب اللغة" (رمى) ٢/ ١٤٧٦.
(٥) المصدر السابق نفسه.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٤٩ أ، والبغوي ٣/ ٣٤٠، وبنحو ذلك قال الإمام ابن جرير ٩/ ٢٠٦، والماوردي ٢/ ٣٠٥ ونسبه للمفسرين.
(٧) في (ح): وقال: نعمته... إلخ، وفي "السيرة النبوية": من نعمته.
(٨) "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٢٦٨ مع اختلاف يسير.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٧.
73
قُلُوبُكُم بِهِ}، فاللام (١) تتعلق بمحذوف والكناية في قوله ﴿مِنْهُ﴾ (٢) تعود إلى اسم الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: ﴿سَمِيعٌ﴾ لدعائهم، ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتهم (٣).
١٨ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ الكلام في ﴿ذَلِكُمْ﴾ ومحله من الإعراب، ومحل ﴿أَن﴾ كما ذكرنا في قوله: ﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: ١٤]، وحكى صاحب النظم عن بعض النحويين أنه قال: معنى (ذلك) أنه نقيض (لا) فكما أن (لا) ينفي ما قبله فـ (ذلك) يثبت ما قبله على (٤) مناقضته، وكذلك (كلا): نفي لما قبله (٥)، و (كذلك): تثبيت لما قبله، على مناقضة (كلا).
وإذا كان كذلك فالمعنى في قوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ إثبات ما ذكر قبله من القتل والرمي، وإبلاء المؤمنين بلاءً حسنًا، وتقدير الإعراب: الأمر ذلكم، والحق ذلكم (٦).
(١) يعني في قوله تعالى: ﴿وَلِيُبْلِيَ﴾ والتقدير: فعل ذلك ليبلي.
(٢) ساقط من (ح).
(٣) انظر نحوه في: "تنوير المقباس" ص ١٧٩، وانظر: "الوجيز" ٦/ ٢٥١ وقد ذكر المؤلف في مقدمته أنه اعتمد قول ابن عباس.
(٤) في (ج): (عن).
(٥) المشهور عند علماء اللغة أن (كلا) لا تقتصر على مجرد النفي بل تتضمن الزجر والردع، قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص ٥٥٨: (كلا: ردع وزجر)، وفي "لسان العرب" (كلا) ٧/ ٣٩٠٨، قال الأخفش: معنى (كلا) الردع والزجر، قال الأزهري: وهذا مذهب سيبويه، وإليه ذهب الزجاج في جميع القرآن، وروى ابن شميل عن الخليل أنه قال: كل شيء في القرآن (كلا): رد، يرد شيئًا ويثبت آخر.
(٦) وإلى هذا الإعراب ذهب أبو البقاء العكبري في "التبيان" (٤٠٦)، وكذلك =
74
وفي قوله: ﴿مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ وجوه من القراءة: التشديد مع التنوين، والإضافة، والتخفيف معهما (١) أيضًا، ومثله قوله: ﴿كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ [الزمر: ٣٨]، بالتنوين، وبالإضافة (٢) أيضًا.
قال أهل المعاني: وتوهينه كيدهم يكون بأشياء: بإطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريقَ كلمتهم، ونقض ما أبرموا باختلاف عزومهم (٣).
قال ابن عباس: يهنئ (٤) رسول الله - ﷺ -، يقول: "إني قد أوهنت كيد
= الزمخشري في "تفسيره" ٢/ ١٥٠ لكنه قدره بلفظ: الغرض ذلكم.
(١) قرأ ابن كثير ونافع وأبو جعفر وأبو عمرو (مَوهّنٌ) بفتح الواو، وتشديد الهاء، مع التنوين، ونصب الدال في (كيد) مفعول به.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف، وشعبة عن عاصم (موْهِنٌ) بسكون الواو، وتخفيف الهاء، مع التنوين، ونصب الدال في (كيد) أيضًا.
وقرأ حفص عن عاصم (موْهنُ) بسكون الواو، وتخفيف الهاء من غير تنوين، وخفض الدال في (كيد) على الإضافة.
انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٤، و"تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة" للجزري ص ١١٨، و"المستنير في تخريج القراءات المتواترة" ١/ ٢٥٦.
ومن الجدير بالتنبيه أن المؤلف ذكر من وجوه القراءة: التشديد مع الإضافة، ولم أجد من ذكر ذلك في القراءات المتواترة أو الشاذة، لكن الزجاج ذكر جواز ذلك من الناحية اللغوية. انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٤٠٧.
(٢) بالتنوين قرأ أبو عمرو ويعقوب، وقرأ الباقون بالإضافة. انظر: "تحبير التيسير" ص ١٧٣، و"تقريب النشر" ص ١٦٨.
(٣) لم أجد هذا القول فيما بين يدي من كتب أهل المعاني، وقد ذكره بحروفه الفخر الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٤١.
(٤) في (ح): (يعني).
75
عدوك حتى قُتلت جبابرتهم (١) وأُسر (٢) أشرافهم" (٣).
١٩ - قوله تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ الأكثرون على أن هذا خطاب للمشركين (٤)، وذلك أن أبا (٥) جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر (٦)، وروي أنه قال: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأحنه (٧) الغداة (٨).
وقال السدي: إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فأنزل الله هذه الآية (٩)، فمعنى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا﴾ إن تستنصروا لأهدى الفئتين فقد جاءكم النصر، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء (١٠)، والحسن ومجاهد والزهري والسدي
(١) في "تفسير الرازي": خيارهم.
(٢) هكذا في جميع النسخ، وفي "تفسير الرازي"، و"الوسيط" (أسرت).
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٤١، وبنحوه في "الوسيط" ٢/ ٤٥٠.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٠٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٧٥، والثعلبي ٦/ ٤٩.
(٥) في (ح): (أبو). وهو خطأ.
(٦) روى نحوه ابن جرير ٩/ ٢٠٩، عن يزيد بن رومان، وبمعناه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٧٥، عن عطية العوفي.
(٧) أحنه: أهلكه، و (الحين) بفتح الحاء: الهلاك، انظر: "القاموس المحيط" (حين) (١١٩٢)، و"لسان العرب" (حين) ٢/ ١٠٧٤.
(٨) رواه ابن جرير ٢٠٧/ ٩ - ٢٠٨، عن الزهري وروى نحوه عن الصحابي عبد الله بن ثعلبة العدوي وكذلك رواه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٢٨، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ورواه أيضاً أحمد في "المسند" ٥/ ٤٣١.
(٩) رواه الثعلبي ٦/ ٤٩ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٢، وبنحوه ابن جرير ٩/ ٢٠٨.
(١٠) رواه بمعناه ابن جرير ٩/ ٢٠٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٧٥ من رواية علي بن أبى طلحة.
76
والضحاك والعوفي (١).
ومضى الكلام في معنى الاستفتاح عند قوله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ (٢)، والاستفتاح على قول هؤلاء (٣): الاستنصار.
وقال عكرمة: قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق؛ فقال الله تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ ان تستقضوا فقد جاءكم القضاء (٤)، واختار الفراء القول الأول (٥)، وذكر أبو إسحاق القولين جميعًا، وقال: كلا القولين جيد (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا﴾، قال ابن عباس: يريد عن الشرك بالله ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (٧).
﴿وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾، قال الحسن: وإن يعودوا لقتال محمد نعد عليهم بالقتل والأسر والهزيمة مثل يوم بدر (٨).
(١) روى أقوالهم عدا الحسن البصري ابن جرير ٩/ ٢٠٧ - ٢٠٨.
(٢) البقرة: ٨٩، وانظر النسخة الأزهرية ١/ ٧٠ ب، وقد قال هناك ما نصه: يستفتحون على الذين كفروا: قال ابن عباس والسدي: هو أنهم إذا حزبهم أمر، وظهر لهم عدو قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، وكانوا يسألون النصر بمحمد وبكتابه.
(٣) في (س): (على هذا القول).
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ٤٩ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٢، ورواه مختصرًا ابن جرير ٩/ ٢٠٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٧٥.
(٥) انظر: كتابه "معاني القرآن" ١/ ٤٠٦.
(٦) انظر: كتابه "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٨.
(٧) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٣٥ بلفظ: عن قتال محمد - ﷺ - والكفر، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٩ بلفظ: عن القتال والكفر.
(٨) لم أجد من ذكره عنه وقد ذكره بلا نسبة الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٤٩ب،=
77
وهو قول ابن عباس (١) وغيره (٢).
﴿وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا﴾ أي جماعتكم شيئًا ﴿وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ في العدد، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرئ بكسر ﴿أَن﴾ وفتحه (٣)، فمن كسر فهو منقطع مما قبله، ويقوي ذلك أن في حرف عبد الله: والله مع المؤمنين (٤).
ومن فتح فوجهه: ﴿وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ [ولأن الله مع المؤمنين، أي لذلك لن تغني عنكم فئتكم شيئًا] (٥)، قال الفراء: فيكون موضعها نصبًا لأن الخفض يصلح فيها (٦).
= والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٥١.
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٣٦، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٩.
(٢) هو قول ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٤، وعروة بن الزبير كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٥/ ١٦٧٦، وابن جرير في "تفسيره" ٩/ ٢٠٩، والسمرقندي في "تفسيره" ٢/ ١٢.
(٣) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وحفص عن عاصم بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر. انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٥، وكتاب "التيسير" ص ١١٦، و"تقريب النشر" ص ١١٨، و"تحبير التيسير" ص ١١٨.
(٤) انظر: كتاب "المصاحف" للسجستاني ص ٦٢، و"تفسير الثعلبي" ٦٩/ ٥٠ أ، و"الكشاف" ٢/ ١٥١، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ١٢، و"المحرر الوجيز" ٦/ ٢٥٤ - ٢٥٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٢٩٨، فهؤلاء وافقوا المؤلف في نص قراءة ابن مسعود، وخالفه ابن جرير الطبري في "تفسيره" ٩/ ٢١٠، والفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤٠٧، فذكر أن لفظ قراءة ابن مسعود وإن الله لمع المؤمنين.
هذا: ولم يذكر قراءة ابن مسعود ابن خالويه في "مختصره في شواذ القرآن"، ولا ابن جني في "المحتسب في تفسير شواذ القرآن".
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٧.
78
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يريد: وإن كانوا قليلًا، ولا غالب لمن كان الله معه، وقال أيضًا: وأن الله مع المؤمنين في النصر لهم (١).
وقال أبيّ بن كعب وعطاء الخرساني: قوله: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ [خطاب لأصحاب النبي - ﷺ - يقول: إن تستنصروا الله وتسالوه الفتح فقد جاءكم الفتح، (٢) والنصر، ثم عاد إلى خطاب الكفار فقال: ﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (٣).
ومن أهل المعاني من يجعل جميع الآية خطابًا للمؤمنين على هذا القول (٤) فيقول: معنى قوله: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ أي عن المنازعة في الأنفال، ﴿وَإِنْ تَعُودُوا﴾ إلى مثل ما كان منكم من المنازعة فيها نعد للإنكار عليكم، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئًا مع منع نصر الله لكم.
(١) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٩، وإسناده واهٍ؛ لأنه من رواية الكلبي وهو كذّاب مجمع على تركه. انظر: "تهذيب التهذيب" ٣/ ٥٦٩ - ٥٧٠.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٣) ذكره عنهما الثعلبي ٦/ ٤٩ ب مختصرًا ورواه كذلك ابن أبي هاشم ٥/ ١٦٧٥ عن عطاء، وهو قول ضعيف لما يأتي:
أولاً: أن في هذا القول تفكيك للضمائر فبعضها يعود إلى المؤمنين وبعضها يعود إلى الكافرين دون ملجيء لذلك، والأصل تناسق الضمائر.
ثانيًا: صحة سبب نزول الآية في أبي جهل وكفار قريش كما تقدم، قال القرطبي ٧/ ٣٨٧: الصحيح أنه خطاب للكفار.
(٤) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٠٦، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٣٣٥، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٦/ ٢٥٤، والرازي في "التفسير الكبير" ١٥/ ١٤٢، وهو قول ضعيف جدًّا لعدة أمور منها: =
79
والوجه ما عليه عامة المفسرين أن الآية بأسرها خطاب للمشركين (١)
٢٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قال أهل المعاني: إنما خص المؤمنين بالأمر دون غيرهم من المكلفين؛ لأن غيرهم بمنزلة من لا يعتد به لتركهم العمل بما يجب عليهم، مع أن إفرادهم بالخطاب إجلال لهم ورفع من أقدارهم (٢)، قال عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: يريد: أطيعوا الله والرسول فإن طاعة الرسول طاعة لي، ولا تعرضوا عنه وقد سمعتم موعظتي وما أعددت لأوليائي وأهل طاعتي من الثواب، وما أعددت لأعدائي وأهل معصيتي من العقاب (٣).
وقال ابن عباس أيضاً: لا تولوا عن رسول الله وأنتم تسمعون ما نزل من القرآن، وتسمعون المواعظ (٤).
= أولاً: مخالفته لما صح عن الصحابة -رضي الله عنهم- في سبب نزول الآية.
ثانيًا: في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ ما يؤكد أن المخاطبين أعداء الله محاربون له.
ثالثًا: في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ما يفيد أن الخطاب لغيرهم؛ ولو كان لهم لكان المعنى: وإن تعودوا أيها المؤمنون للمنازعة نعد للإنكار والله معكم، وهذا غير مراد قطعًا لأن الآية إنكار على المخاطبين، ولذا اضطر الرازي ٨/ ١٤٧ لما جوزّ هذا الوجه أن يقيد المؤمنين بقوله: فإن الله لا يكون إلا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب. اهـ. ولا عصمة إلا للأنبياء.
(١) وقد اقتصر عليه ابن جرير ١٣/ ٤٥٠، وأبو الليث السمرقندي ٢/ ١٢، وابن كثير ٢/ ٣٠٨، وصححه القرطبي ٧/ ٣٨٧.
(٢) انظر: "البحر المحيط" ٤/ ٤٧٩، وقد ذكر أنه قول الجمهور، ولم أجده فيما بين يدي من كتب أهل المعاني.
(٣) لم أقف على مصدره.
(٤) رواه بلفظ مقارب الثعلبي ٦/ ٥٠ أ، وأنظر: "الوسيط" ٢/ ٤٥١.
80
وقال ابن إسحاق: لا تخالفوا أمره وأنتم تسمعون لقوله، وتزعمون أنكم منه (١).
وقال غيره من أهل المعاني: وأنتم تسمعون دعاءه لكم، نهاهم الله عز وجل عن التولي في هذه الحال، ويسعهم الانصراف في غيرها (٢).
وهذا القائل حمل التولي على الانصراف، والأولى أن يحمل ذلك على مخالفة الأمر؛ لأنه وإن أقبل على الرسول بوجهه ولم يعتقد طاعته لم يكن مطيعًا.
وقد حصل في الآية وجهان:
[أحدهما: لا تولوا] (٣) عن رسول الله - ﷺ - أي: لا تنفضوا عنه، وقد ذم قوماً بالانفضاض عنه في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] الآية، وفي قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ [النور: ٦٣].
والثاني: أن معنى قوله: ﴿وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ ولا تعرضوا عن أمره، وتلقوه بالطاعة والقبول، كما قال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣].
وذكر أبو علي الفارسي الوجهين (٤) جميعًا (٥)، كما حكيناه.
(١) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٣١٤.
(٢) انظر: هذا القول في "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٣٤، و"البرهان" للحوفي ١١/ ٣٥ ب، ورده أبو السعود في "تفسيره" ٤/ ١٤ - ١٥.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٤) ساقط من (م).
(٥) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٣٤.
81
وعلى الوجه الأول: الخطاب لأصحاب رسول الله - ﷺ - الذين يسمعون كلامه.
وعلى الثاني: الخطاب عام لكل من بلغته دعوته، وعلى هذا فالله تعالى أوجب طاعة الرسول على من سمع ما أتى به، فدل هذا على أن من لم يسمع ذلك ممن لم تبلغه الدعوة لم تجب الطاعة عليه.
٢١ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾، قال ابن عباس: يعني اليهود، قريظة والنضير وبني قينقاع (١)، وهو قول الحسن (٢).
وقال مقاتل: يعني المنافقين (٣) الذين يظهرون الطاعة ويسرون المعصية، ويقولون سمعنا سماع قابل، وليسوا كذلك، وهو قول ابن إسحاق (٤).
وقيل: هو من صفة المشركين، جُعلوا بمنزلة من لم يسمع؛ لأنهم لم ينتفعوا بالمسموع، وهذا اختيار أبي إسحاق، قال: ومعنى قوله: ﴿سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ أنهم (٥) استمعوا سماع (٦) عداوة وبغضاء فلم يتفهموا (٧)،
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٣٧، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٤٥١.
(٢) ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٤٧٩ - ٤٨٠ بلفظ: هم أهل الكتاب.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١١٩ أ. وما بعد كلمة (المنافقين) من كلام المؤلف توضيحًا لقول مقاتل.
(٤) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٣١٤.
(٥) في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: لأنهم.
(٦) في المصدر السابق: استماع.
(٧) في (ح): (يتفقهوا). والمثبت موافق للمصدر.
ولم يتفكروا [فيما سمعوا] (١) فكانوا بمنزلة من لم (٢) يسمع (٣).
٢٢ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ﴾ الآية، قال ابن عباس (٤) ومجاهد (٥) ومقاتل (٦): يريد المشركين، نفرًا من بني عبد الدار، وبني عبد العزى، كانوا صمًا عن الحق؛ فلا يسمعونه، بكمًا عن التكلم به.
وكل ما دب على وجه الأرض فهو من جملة الدواب (٧)، بين الله تعالى أن هؤلاء الكفار شر ما دب على الأرض من الحيوان.
٢٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ أي لو خلق فيهم خيرًا؛ لأن ما خلقه الله يعلمه، وما لا يعلمه الله فهو ما لم يخلقه على معنى أنه لا يعلمه مخلوقًا (٨)، كما قال تعالى: ﴿أتنبئون الله بما لا يعلم [في الأرض﴾ [يونس: ١٨] أي: بما لم يجعله ولم يخلقه، ومعنى الآية: ولو
(١) ما بين المعقوفين زائد عما في المصدر.
(٢) في (ح) و (م): (لا)، وما أثبته من (س) موافق للمصدر.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٨.
(٤) رواه مختصراً البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة الأنفال ٦/ ١١٨، وابن جرير ١٣/ ٤٦٠، وابن أبي حاتم ٣/ ٢٣٥ ب.
(٥) رواه ابن جرير١٣/ ٤٦١ بمعناه.
(٦) "تفسير مقاتل" ١١٩ ب، وقد أورد المؤلف قول مقاتل بمعناه.
(٧) في "لسان العرب" (دبب) ٣/ ١٣١٤: الدابة: اسم لما دب من الحيوان مميزة وغير مميزة، ثم قال في الصفحة التالية: وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب.
(٨) يشير المؤلف إلى تعلق علم الله بالكون من ناحية الوجود والعدم، وذلك قسمان:
أحدهما: جملة الموجودات.
الثاني: جملة المعدومات. فالموجود يعلمه الله موجودًا، والمعدوم لا يعلمه الله موجودًا، بمعنى أنه يعلمه معدومًا.
83
علم الله أنهم يصلحون بما يورده] (١) من حججه وآياته لأسمعهم إياها ولم يخلف (٢) عنهم شيئًا منها.
وقال ابن جريج وابن زيد: لأسمعهم الحجج والمواعظ سماع تفهيم وتعليم، ولو أسمعهم بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، ولتولوا وهم معرضون (٣).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿لَأَسْمَعَهُمْ﴾: يريد: لهداهم (٤).
﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ رجع تبارك وتعالى إلى ما سبق في علمه وقضائه وقدره فأخبر بما كان قبل أن يكون، ومعنى قوله (٥): (لهداهم) أي: لأسمعهم ما يهتدون به سماع تفهيم.
وشرح أبو علي الجرجاني هذا القول شرحًا شافيًا فقال: إن الله يعلم ما يكون، وما لا يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، فتأويل قوله: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ أي ليس فيهم خير فلا يسمعهم؛ لأنه جبلهم على ذلك، وهذا مثل قولك للرجل: لو علمت أنك تفهم لأخبرتك، أي: أنك لا تفهم، ثم قال: ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ -أي إسماع الإفهام الذي ينفع (٦) ويجدي إذا كان في الإنسان خير، وكان سعيدًا- ﴿لَتَوَلَّوْا﴾ أيضًا
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٢) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: يخف.
(٣) ما ذكره المؤلف هو قول ابن زيد كما رواه بلفظ مقارب ابن جرير ٩/ ٢١٢، وأما قول ابن جريج فنصه: ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لقالوا ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ [يونس: ١٥] ولقالوا ﴿لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا﴾ [الأعراف: ٢٠٣] ولو جاءهم بقرآن غيره لتولوا وهو معرضون.
(٤) رواه بمعناه الفيروزأبادى في "تنوير المقباس" ص ١٧٩ من رواية الكلبي وهو واهٍ.
(٥) أى ابن عباس في قوله السابق.
(٦) في (م): (ينتفع به).
84
﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ إخبارًا منه عز وجل عما لا يكون لو يكون كيف يكون (١)، ومثل هذا قوله إخبارًا عن المنافقين: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ (٢) [الحشر: ١١] فقال الله تعالى: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ (٣) [الحشر: ١٢] فأعلمنا أن ذلك لا يكون منهم، ثم قال: ﴿وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾ [الحشر: ١٢] فأعلم عز وجل عما لا يكون بأنه لو كان كيف يكون.
وسلك أبو إسحاق في معنى هذه الآية طريقة حسنة فقال: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ جواب كل ما يسألون عنه، ثم قال (٤): ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا﴾ أي لو بين لهم كل ما يختلج (٥) في نفوسهم ﴿لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ لمعاندتهم (٦).
واختاره ابن الأنباري وشرحه فقال: ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه مما يقترحون ويطالبون (٧) من المعجزات، ولو
(١) ساقط من (ح).
(٢) حذف الجرجاني أو المؤلف بعض الآية ونصه: ﴿وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا﴾ وقد فعل ذلك الرازي أيضًا في "تفسيره" ١٥/ ١٥٠ وهو كثير النقل من تفسير الواحدي "البسيط".
(٣) في جميع النسخ: (ولئن). وهو خطأ.
(٤) في "معاني القرآن وإعرابه": ثم قال جل وعز. وفي (م): (وقوله).
(٥) في المصدر السابق: يعتلج. اهـ، والكلمتان متقاربتان في المعنى، ففي "لسان العرب" (خلج) ٣/ ١٢٢٣: اختلج الشيء في صدري وتخالج: احتكأ مع شك، وأصل الاختلاج: الحركة والاضطراب. وفي المصدر نفسه (علج) ٥/ ٣٠٦٥: اعتلج القوم: اتخذوا صراعًا وقتالاً، واعتلج الموت: التطم، وهو منه، وأعتلج الهمّ في صدره، كذلك على المثل.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٠٩.
(٧) ساقط من (ح).
85
أسمعهم ذلك وأجابهم إلى ما يحبون منه لأعرضوا لعنادهم الحق، وحرصهم على إبطال أعلامه.
قال أصحابنا (١): وفي الآية دليل واضح على أن المقادير والكفر والإِسلام والخير والشر سابقة ماضية، وأن الشقي لا ينتفع بدعوة الرسول واستماع الحق.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾، قال ابن عباس: أجيبوا لله وللرسول بالطاعة (٢)، وقال عطاء عنه: سارعوا إلى ما دعاكم رسول الله - ﷺ - إليه (٣) من طاعتي (٤).
قال أبو عبيدة والزجاج: معنى استجيبوا: أجيبوا (٥)، وأنشد قول الغنوي:
(١) يعني الأشاعرة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة، انظر: "مقالات الإسلاميين" للأشعري ٢/ ٣٤٦، و"عقيدة السلف وأصحاب الحديث" للصابوني ص ٢٨٤، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٣٥٣، و"القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة" ص ٢٤٧.
(٢) لم أجد من ذكره عن ابن عباس سوى الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٩، وقد ذكر القول دون نسبة أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٤٥، والبخاري في "صحيحه" كتاب التفسير ٨/ ٣٠٧ والزجاج في "معاني القرآن" ٢/ ٤٠٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٣٨.
(٣) ساقط من (س).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٤٥، و"معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٩، وقد ذكر هذا المعنى ابن منظور في "لسان العرب" (جوب) ٢/ ٧١٦، فقال: الإجابة والاستجابة بمعنى. وقال الراغب في "المفردات" (جوب) ص ١٠٢: الاستجابة قيل هي الإجابة، وحقيقتها هي التحري للجواب والتهيؤ له، لكن عبر به عن الإجابة لقله انفكاكها منها.
86
فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)
وقوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ قال السدي: هو الإيمان والإسلام، وفيه الحياة (٢)، وعلى هذا معنى الآية: أجيبوا الرسول إذا دعاكم إلى الإيمان، والإيمان حياة القلب، والكفر موته، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ (٣) قيل: المؤمن من الكافر، وقال قتادة: يعني: القرآن، أي: أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة (٤)، وعلى هذا القول: القرآن يحيي؛ لأنه سبب الحياة بالعلم، والجاهل حياته موت؛ لأنه يعيش بجهل (٥)، والقرآن لما كان سببًا للإقتداء كان فيه الحياة النافعة.
والأكثرون على أن معنى قوله: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ هو الجهاد (٦) وهو
(١) هذا عجز بيت، وصدره:
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى
والبيت للغنوي كما في "الأصمعيات" ص ٩٦، و"نوادر أبى زيد" ص ٣٧، و"مجاز القرآن" ١/ ٦٧، و"شواهد الكشاف" ٤/ ٣٣٠.
(٢) رواه بلفظ مقارب ابن جرير ٩/ ٢١٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٠، والثعلبي ٦/ ٥٠ ب.
(٣) الأنعام: ٩٥، يونس: ٣١، الروم: ١٩.
(٤) رواه بلفظ مقارب ابن جرير ٩/ ٢١٤، والثعلبي ٦/ ٥٠ ب.
(٥) هذا التعليل فيه نقص بيّن، والأولى أن يقال: إن القرآن يحيي؛ لأنه شامل لجميع ما ذكره المفسرون من أسباب الحياة، فالقرآن داعٍ إلى الإيمان، وداع إلى العمل، وداعٍ إلى الجهاد، وداع إلى الحق، وداع إلى النعيم المقيم، وكل واحد من هذه الأمور سبب للحياة المذكورة في الآية.
(٦) هذا قول عروة بن الزبير وابن إسحاق وابن قتيبة، ولم يذكر المفسرون غيرهم.
انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢١٤، والثعلبي ٦/ ٥٠ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٤، والماوردي ٢/ ٣٠٧، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٢٠.
87
قول ابن إسحاق (١)، واختيار أكثر أهل المعاني (٢).
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم (٣)، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف (٤) أمرهم، واجترأ عليهم عدوهم.
وقال أبو إسحاق: أي لما يكون سببًا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة (٥)، وسبب هذه الحياة: يعني الجهاد.
وقال ابن قتيبة: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ يعني الشهادة؛ لأن الشهداء ﴿أَحْيَاءُ عِندَ رَبِهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (٦)، وسبب الشهادة: الجهاد، وقال مجاهد: {لِمَا
(١) "السيرة النبوية" ٢/ ٢٦٨.
(٢) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص ١٥١، وقد نسب الواحدي هذا القول لأكثر أهل المعاني ولم أجد من ذكره منهم سوى ابن قتيبة بينما اختار قولًا غيره كل من الفراء وأبي عبيدة والزجاج والنحاس، ولم يتعرض لتفسير الآية كل من الأخفش واليزيدي والأزهري، وقد يقال: إن ذلك يعود إلى كثرة الكتب المؤلفة في معاني القرآن التي اطلع عليها الواحدي ولم تصل إلينا، ولكن يشكل عليه أن المفسرين القدامى المهتمين بعزو الأقوال إلى أصحابها لم يعزوا هذا القول إلا لابن إسحاق وابن قتيبة.
انظر: الثعلبي ٦/ ٥٠ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٤، وابن الجوزي ٣/ ٣٣٩.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٧. وجملة: بجهاد عدوكم، ليست موجودة في المطبوعة، وكذلك ذكر ابن الجوزي ٣/ ٣٣٩ قول الفراء دون هذه الجملة، فإما أن تكون موجدة في بعض النسخ دون بعض، وإما أن تكون زيادة من الواحدي للتوضيح.
(٤) في (س): (لضعف).
(٥) اهـ. قول أبي إسحاق الزجاج، وما بعده من كلام الواحدي، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٩.
(٦) آل عمران: ١٦٩، ولم أجد قول ابن قتيبة هذا فيما بين يدي من كتبه، وقد ذكره الثعلبي ٦/ ٥٠ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٤، ولابن قتيبة قول آخر في معنى الآية ونصه: =
88
يُحْيِيكُمْ} أي للحق (١)، وهذا يحتمل كل ما ذكرنا من القرآن والإيمان والجهاد.
وحكى أبو علي الجرجاني في قوله: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ يعني الجنة، واحتج بأن الحياة الدائمة النافعة حياة الجنة كقوله عز وجل: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت: ٦٤]، أي: الحياة الدائمة، وهذا معنى قول عطاء (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، قال ابن عباس والضحاك: يحول بين الكافر وبين طاعته، ويحول بين المؤمن وبين معصيته (٣)، وقال عطاء عنه: يحول بين المؤمن وبين أن يكفر به، ويحول بين الكافر وبين أن يؤمن به (٤).
= (لما يحييكم) أي إلى الجهاد الذي يحيي دينكم ويعليكم. انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص ١٥١.
(١) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٧٩، والثعلبي ٦/ ٥٠ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٤.
(٢) لم أجد من ذكره عنه، وقد ذكر القول دون تعيين القائل السمرقندي ٢/ ١٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٤٨١.
(٣) رواه عن ابن عباس بلفظ مقارب: الحاكم في "المستدرك" كتاب التفسير ٢/ ٣٢٨، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ورواه أيضًا ابن جرير ٩/ ٢١٥، والثعلبي ٦/ ٥١ أ، والبيهقي في كتاب "الاعتقاد" ص ٦٧، وهو من رواية علي بن أبي طلحة الصحيحة. انظر: "صحيفة علي بن أبي طلحة" ص٢٥٠. أما قول الضحاك فقد رواه عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٥٧، وابن جرير ٩/ ٢١٥، والثعلبي ٦/ ٥١ أوغيرهم.
(٤) روى نحوه البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٤٤ من قول عطاء، ورواه بمعناه السمرقندي ٢/ ١٣ من رواية الكلبي عن ابن عباس.
89
ونحو هذا قال سعيد بن جبير (١). وقال (٢) في رواية خُصيف (٣): يحول بين قلب الكافر وأن يعمل خيرًا. وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه (٤).
قال ابن الأنباري: وهذا مذهب مجاهد (٥)، واختيار الفراء (٦)، أي: فالأمور مردودة إليه، والسعيد من أسعده، والشقي من أصله وأشقاه، و ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
(١) رواه الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٥٧، وابن جرير ٩/ ٢١٥، والبغوي ٣/ ٣٤٤.
(٢) ظاهر السياق يدل على أن القائل سعيد بن جبير ويحتمل أن يكون ابن عباس، وخصيف يروي عن سعيد مباشرة وعن ابن عباس بواسطة كما في "تفسير ابن جرير" ٤/ ١٥٤ - ١٥٥، ولكن أئمة التفسير يروون هذا القول عن خصيف عن مجاهد كما في "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢١٦، والثعلبي ٦/ ٥١/ أ، والواحدي اختصر عبارة شيخه الثعلبي فوقع في هذا الخلل، فقد ذكر الثعلبي قول ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير ثم قال: وقال مجاهد يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري، وروى خصيف عنه: قال: يحول بين قلب الكافر وأن يعمل خيرًا، وقال السدي:.. إلخ، كما هو موجود في نص الواحدي.
(٣) هو: خصيف بن عبد الرحمن الجزري أبو عون الحضرمي الأموي مولاهم، رأى أنس بن مالك -رضي الله عنه-، كان شيخًا صالحًا فقيهاً عابدًا، إلا أنه كان سيء الحفظ، ويخطئ كثيراً، ضعفه أحمد والجمهور، ووثقه ابن سعد وابن عدي، وقال الحافظ ابن حجر: الإنصاف فيه قبول ما وافق الثقات في الروايات، وترك ما لم يتابع عليه، توفي سنة ١٣٧ هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" ٣/ ٢٢٨ (٧٦٦)، و"الكاشف" ١/ ٣٧٣ (١٣٨٩)، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٥٤٣، و"تقريب التهذيب" ص ١٩٣ (١٧١٨).
(٤) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٧، والثعلبي ٦/ ٥١ أ.
(٥) انظر: المصدرين السابقين نفس الموضع.
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٧.
90
قال أصحابنا (١): وهذه الآية دليل على أن القلوب بيد الله يقلبها كيف شاء، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه (٢) حال بينه وبين قلبه (٣) وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه.
(١) يعني الأشاعرة، انظر: كتاب "تمهيد الأوائل" ص ٣١٨، و"الغنية" ص ١٢٧، و"تفسير الخازن" ٢/ ١٧٥، وهذا مذهب أهل السنة قاطبة. انظر: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" لأبي القاسم اللالكائي ٤/ ٥٧٨، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٨/ ٤٥٩، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص ١٠٦ - ١٠٧.
(٢) يعني الإرادة الكونية المستلزمة لوجود المراد، أما من ناحية الإرادة الشرعية فإن الله تعالى يريد إيمان الكافر ولا يريد كفر المؤمن، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧].
وانظر تفصيل الإرادتين والفرق بينهما في: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٨/ ٤٤٠، ٤٧٥ - ٤٨٠، و"مدراج السالكين" للإمام ابن القيم ١/ ٢٧٥ - ٢٨١، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص ٦٩، ٧٠.
(٣) الله جل جلاله لا يحول بين العبد وبين الإيمان إلا بسبب من العبد نفسه كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف: ٥]. وقال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠]. وقال تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦]. والله تعالى لا يظلم أحداً، وقد مكن العباد من الهداية والطاعة، كما مكنهم من الكفر والمعصية، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا أراد العبد الطاعة التي أوجبها عليه إرادة جازمة كان قادرًا عليها، وكذلك إذا أراد ترك المعصية التي حرمت عليه إرادة جازمة كان قادرًا على ذلك، وهذا مما اتفق عليه المسلمون وسائر أهل الملل، ثم قال: فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله لكن مع قوله ذلك فيجب أن تعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، وأن الله خالق كل شيء فهو خالق العباد وقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، فهو رب كل شيء ومليكه لا يكون شيء إلا بمشيئته وإذنه وقضائه وقدره. "مجموع الفتاوى" ٨/ ٤٣٧، ٤٤٠.
91
قال قتادة: معنى ذلك أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره (١)، قال أبو بكر: فيكون المعنى على هذا: أنه تعالى أقرب إلى المرء من قلبه، ولا تخفى عليه خافية، يدل على ذلك قوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (٢).
وقال الزجاج: معناه: واعلموا أن الله مع المرء في القرب بهذه المنزلة (٣). وفي هذا تحذير شديد للعباد.
وحكى الزجاج قولًا آخر وهو أن المعنى: أنه يحول بين الإنسان وما يسوف به نفسه بالموت (٤).
ويكون المعنى على هذا أن الله (٥) يحول بين المرء وما تمنى بقلبه من البقاء وطول العمر فيسوف بالتوبة، ويقدم المعصية، أي: فاعملوا ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من تأميل البقاء، وطول الأجل، فإن ذلك لا يوثق به.
وحكي عن مجاهد أنه قال: يحول بين المرء وعقله (٦).
(١) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٧، والثعلبي ٦/ ٥١ ب.
(٢) ق: ١٦. وهذا القول بناءً على أحد القولين في المراد بالآية وأنه قرب الله تعالى، وفي الآية قول آخر وهو أن المراد بالقرب قرب الملكين الموكلين بالإنسان، انظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٣٣٠، و"شرح حديث النزول" لشيخ الإِسلام ابن تيمية ص٣٥٥، وهو القول الراجح بدلالة السياق.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٩.
(٤) المصدر السابق.
(٥) في (ح): (المرء)، وهو خطأ.
(٦) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٦، ورواه بمعناه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٨، والثعلبي ٦/ ٥١
92
قال أبو بكر (١): معناه: فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تأمنون زوال العقول الذي ترتفع معه (٢) المحنة (٣)، وتحصلون على ما قدمتم قبله (٤) من العمل فإن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.
والقلب هاهنا كناية عن العقل كما قال في غير هذا: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: ٣٧].
وحكى هو (٥): ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ بالموت فاعملوا قبل وقوعه، وأنتم أصحاء تصلون إلى الازدياد من الحسنات (٦).
وذكر أبو إسحاق قولًا آخر حاكيا وهو: أنهم كانوا يفكرون في كثرة عدوهم، وقلة عددهم؛ فيدخل (٧) قلوبهم الخوف؛ فأعلم الله عز وجل أنه يحول بين المرء وقلبه؛ بأن يبدلّه بالخوف أمنًا (٨)، ويبدل عدوهم -بظنهم أنهم
(١) هو: ابن الأنباري كما في "زاد المسير" ٣/ ٣٣٩.
(٢) أي مع زوال العقول.
(٣) المعنى: أنه إذا زال العقل ارتفع مع زواله الامتحان والتكليف، وئبت للإنسان ما قدم قبل زواله من خير أو شر.
هذا وقد نقل ابن الجوزي قول ابن الأنباري مختصرًا فقال: قال ابن الأنباري: المعنى: يحول بين المرء وعقله، فبادروا الأعمال؛ فإنكم لا تأمنون زوال العقول، فتحصلون على ما قدمتم. "زاد المسير" ٣/ ٣٣٩.
كما نقله الفخر الرازي بمعناه فقال:.. والمعنى: فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون، فإنكم لا تأمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف. "تفسير الفخر الرازي" ١٥/ ١٤٩.
(٤) أي قبل زوال العقول.
(٥) يعني: ابن الأنباري.
(٦) ذكره بمعناه ابن الجوزي ٣/ ٣٤٠، كما ذكره الثعلبي ٦/ ٥١ب، بمعناه دون نسبة.
(٧) في "معاني القرآن وإعرابه": فيدخل في.
(٨) في المصدر السابق: الأمن.
93
قادرون عليهم- الجبن والخوف (١) (٢).
قال أبو بكر: وذلك أن المسلمين يوم بدر لما رأوا قلتهم في العدة، وكثرة المشركين جزع بعضهم فقال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ أي: أنه قادر على (٣) أن يحوّل الجزع من قلوبكم إلى قلوب المشركين، والشجاعة من قلوبهم إلى قلوبكم حتى يكون ذلك سبب ظفركم بهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: للجزاء على الأعمال.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ الآية (٥)، معنى الفتنة هاهنا: البلية التي يظهر فيها باطن (٦) أمر الإنسان، وأصلها من الاختبار -كما ذكرنا قبل (٧) - وسميت البلية فتنة لأنها كالاختبار للناس (٨)؛ فمن تعرض لها وأثارها دل على سوء دخلته، ومن قعد عنها وطلب إماتتها دل على صلاح نيته وحسن سريرته.
وهذه الآية محتملة وجهين من التفسير والإعراب:
(١) في المصدر السابق: الخور.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٠٩ - ٤١٠.
(٣) ساقط من (س).
(٤) ذكر هذا القول عن ابن الأنباري بمعناه مختصرًا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٤٠، وبنحوه الثعلبي ٦/ ٥١ ب، ولم يعين القائل.
(٥) ساقط من (س) وكتب الناسخ بدله: للمؤمنين.
(٦) يعني: ما أخفاه
(٧) انظر: "تفسير البسيط" [الأعراف: ١٥٥].
(٨) في (م): (للإنسان).
94
أحدهما: أن هذا أمر باتقاء الفتنة التي تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح جميعًا ولا تقتصر على الذين ظلموا دون غيرهم، وهذا مذهب ابن عباس؛ لأنه قال في هذه الآية: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب (١)؛ فعلى هذا الفتنة هو إقرار المنكر وترك التغيير له، ونحو هذا قال أبو روق والكلبي وابن زيد.
قال أبو روق: تصيب الصالح والطالح (٢).
وقال الكلبي: تصيب الظالم والمظلوم، ولا يكون بالظلمة وحدهم خاصة، ولكنها عامة (٣).
وقال ابن زيد: الفتنة: الضلالة (٤)، يعني افتراق الكلمة، ومخالفة بعضهم بعضاً.
ووجه الإعراب على هذا التفسير ما ذكره الفراء (٥) وحكاه الزجاج عنه (٦)، وهو أن قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ جزاء فيه طرف من النهي، نحو قولك: أنزل عن الدابة لا تطرحك، ولا تطرحنَّك (٧)، فهو جواب الأمر بلفظ
(١) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٢، وهو من رواية علي بن أبي طلحة الصحيحة.
(٢) ذكره هذا القول من غير نسبة: أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٨٢ - ٤٨٣، ولم أجد من ذكره عن أبي روق.
(٣) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٧٩ مختصرًا عن الكلبي عن ابن عباس.
(٤) رواه ابن جرير ٨/ ٢١٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٠٧.
(٦) لم يصرح الزجاج باسم الفراء بل قال: زعم بعض النحويين... إلخ. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٠
(٧) في (ح) و (س): (ولا تطرحك)، وهو خطأ.
95
النهي، المعنى: إن تنزل عنه (١) لا يطرحك (٢)، فإذا أتيت بالنون الخفيفة والثقيلة كان أوكد للكلام.
وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا القول فقال: إن قال قائل كيف دخلت النون في قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ وهو خبر ولا وجه لدخولها في الأخبار.
فالجواب: أن هذا الكلام تأويله تأويل الخبر؛ إذ كان (٣) المعنى: واتقوا فتنة إن لا تتقوها (٤) لا تصيب الذين ظلموا (٥)، أي: لا تقع بالظالمين دون غيرهم لكنها تقع بالصالحين والطالحين، فلما ظهر الفعل ظهور النهي، والنهي راجع إلى معنى الأمر؛ إذ القائل إذا قال (٦): لا تقم، يريد دع القيام، ووقع هذا جوابًا للأمر أو كالجواب له، فأكد له شبه النهي فدخلت النون المعروف دخولها في النهي، ومثل (٧) هذا قوله تعالى:
(١) هكذا في جميع النسخ، وهو كذلك في أصل "معاني القرآن وإعرابه" كما أشار المحقق إلى ذلك، لكنه جعل الضمائر كلها بالتذكير وهو صواب إذ في "لسان العرب" (دبب) ٣/ ١٣١٤: الدابة: التي تركب، وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب، وهو يقع على المذكر والمؤنث، وحقيقته الصفة اهـ. وكذلك ذكر أبو علي الفارسي الجملة بالتذكير، انظر: "الإغفال" ص ٨٣٥.
(٢) في (ح) و (س): (لا تطرحك).
(٣) في (م): (لو كان)، وهو خطأ.
(٤) في "زاد المسير": إن لا يتقوها... إلخ.
(٥) يعني: خاصة.
(٦) في "زاد المسير": يقول، وسقط: إذا.
(٧) ذكر ابن الجوزي إن التمثيل بالآية المذكورة لقول آخر عن ابن الأنباري في سبب دخول النون، فقال: الثاني أنه نهي محض، معناه: لا يقصدن الظالمون هذه الفتنة فيهلكوا، فدخلت النون لتوكيد الاستقبال، كقوله: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾.
انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٤٢، وسيذكر المؤلف هذا القول عن ابن الأنباري شرحه للوجه الثاني في الآية.
96
﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ [سُلَيْمَانُ﴾ (١) [النمل: ١٨] تأويله: إن تدخلوا لا يحطمنكم] (٢)، فدخلت النون على الخبر لشبهه لفظ النهي، قال: وسبيل النون الشديدة والخفيفة أن تدخلا في ستة مواضع: في الأمر، والنهي، والاستفهام، وجواب اليمين، و (إما) إذا كانت جزاء، و (ما) إذا كانت صلة، كقولك: قومن، ولا تقومن، وهل تقومن، وإما تقومن أقم، والله لتقومن، وعن قليل ما تندمن (٣).
(١) اهـ. ما نقله ابن الجوزي من كلام ابن الأنباري، انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٤٣ باختصار واختلاف يسير.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٣) هذه المواضع التي ذكرها المؤلف اقتصر عليها جمهور النحاة، وذهب بعض المحققين كابن هشام إلى جواز التوكيد في مواضع أخرى منها:
أ- بعد (لا) النافية، كقوله تعالى في الآية المذكورة: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ على أحد القولين في معناها، وكقول النابغة الذبياني يخاطب عمرو بن هند:
لا أعرفنك معرضا لرماحنا في جف تغلب واردي الأمرار
ومنع الجمهور من ذلك لأن النفي يضاد التوكيد.
ب- بعد (لم)، كقول الشاعر:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما شيخًا على كرسيه معممًا
جـ- بعد أداة جزاء غير (إما) كقول الشاعرة ابنة مرة الحارثي:
من تثقفن منهم فليس بآئب أبدًا وقتل بني قتيبة شافي
ويرى سيبويه أن هذا الوجه والذي قبله خاص بالضرورة الشعرية، كما جوز ابن جني في "اللمع" ص ٣١٦ قياس دخول نون التوكيد في النفي.
انظر تفصيل ما سبق بيانه في: "كتاب سيبويه" ٣/ ٥١١ - ٥٢١، و"أوضح المسالك" ٣/ ١٢٦ - ١٣٥، و"النحو الوافي" ٤/ ١٦٧ - ١٨٤، وانظر أيضًا: "البحر المحيط" ٤/ ٤٨٣ - ٤٨٤، حيث دليل على جواز دخول نون التوكيد على المنفي بـ (لا).
97
الوجه الثاني (١): أن هذا أمر باتقاء فتنة تقتصر على الظالم وتصيبه بليتها، وهذا الوجه مروي في التفسير أيضًا عن ابن عباس، روي عنه أنه قال: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [في الرؤوس دون الأتباع، وروى عطاء عنه: يريد: لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة (٢)] (٣)
وقال الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير (٤).
وقال الزبير: لقد قرأناها زمانا وما ندري من عني بها، فإذا نحن المعنيون بها (٥)، وقال ابنه عبد الله: لقد خوفنا بها ونحن مع رسول الله - ﷺ -
(١) يعني في سبب دخول النون في قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ والوجه الأول ما ذكره قبل هذا الوجه، وكلا الوجهين لابن الأنباري كما في "زاد المسير" ٣/ ٣٤٣.
(٢) وردت قراءة شاذة بهذا اللفظ، رويت عن علي وزيد بن ثابت وأبي جعفر الباقر والربيع بن أنس وأبي العالية وابن جماز، انظر: "المحتسب" ١/ ٢٧٧.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٤) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٨، والثعلبي ٦/ ٥٢ أ، وإيراد هذا القول وما بعده من الأقوال التي تشير إلى أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله - ﷺ - يوم الجمل بعد قول المؤلف إن معنى الآية أمر باتقاء فتنة تقتصر على الظالم -أمر في غاية الخطورة، إذ يفهم منه أن من قيل أن الآية نزلت فيهم- وهم أهل يوم الجمل ظالمون، وهذا مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - ﷺ - واعتقاد عدالتهم ونزاهة قصدهم، والترضي عنهم، وسلامة الصدور نحوهم، وأن المقتتلين في يوم الجمل وصفين مجتهدون منهم المصيب المأجور، ومنهم المخطئ المعذور. انظر: "العواصم من القواصم" ص ٢٤٨، و"منهاج السنة النبوية" ٤/ ٤٤٨ - ٤٥٠. وسيأتي مزيد بيان لذلك.
(٥) رواه ابن برير ٩/ ٢١٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٢، وبمعناه أحمد في "المسند" ١/ ١٦٥، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٢١، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد ونعيم بن حماد في "الفتن" وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٩٩. رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح.
98
وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة (١).
وقال السدي: نزلت هذه الآية في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجول فاقتتلوا (٢).
قال الحسن أيضًا: الذين ظلموا منكم خاصة فلان وفلان، وهو يوم الجمل خاصة (٣)، ونحو هذا قال مقاتل والضحاك (٤) وقتادة (٥): أن هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله - ﷺ - أصابتهم الفتنة يوم الجمل (٦).
(١) لم أجد من روى هذا القول عن عبد الله بن الزبير، بل رواه بنحوه عن أبيه -رضي الله عنهما- الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٥٧، وابن جرير ٩/ ٢١٨، وذكره ابن كثير ٢/ ٣٣١ بلفظه ونسبه لابن جرير ولم أجده فيه.
(٢) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٨، والثعلبي ٦/ ٥٢ ب، وبمعناه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٢، والبغوي ٣/ ٣٤٦.
(٣) لم أجد من رواه بهذا اللفظ، وقد رواه بمعناه مع تسمية من نزلت فيهم ابن جرير ٩/ ٢١٨، والثعلبي ٦/ ٥٢ أ، وذكره هود بن محكم الهواري في كتابه "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٨٢، بلفظ: يعني أصحاب النبي عليه السلام. وسيأتي توضيح المراد منه.
(٤) رواه البغوي ٣/ ٣٤٦، وعبد بن حميد كما قال السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٤٦.
(٥) رواه البغوي ٣/ ٣٤٦.
(٦) هذا القول وما روي عن السلف بمعناه يحتاج إلى إيضاح من عدة نقاط:
أولاً: ليس ما وقع بين الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الجمل سبب لنزول الآية؛ لأن العلماء اشترطوا في السبب أن يقع أيام نزول الآية متقدما عليه، انظر: "البرهان في علوم القرآن" ١/ ٢٦، و"الإتقان في علوم القرآن" ١/ ٤٢، و"مناهل العرفان" ١/ ١٠١.
ثانيًا: للسلف مفهوم في معنى قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، أوسع من اصطلاح المتأخرين، قال الزركشي في "البرهان" ١/ ٣١: عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم؛ لا أن هذا كان السبب في نزولها اهـ.
وقد سبقه شيخ الإِسلام ابن تيمية فقال في "مقدمة أصول التفسير" ص ١٦ ما نصه: وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن =
99
ووجه إعراب الآية على هذا القول ما ذكره أبو إسحاق، وهو أن قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ [نهي بعد أمر، والمعنى: اتقوا فتنة، ثم نهى بعد، ثم (١) قال ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾] (٢) الفتنة الذين ظلموا أي: لا يتعرضن [الذين ظلموا] (٢) لما ينزل بهم معه العذاب (٣) (٤).
= هذا داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا.
ثالثًا: على قول من قال من السلف: إن هذه الآية نزلت في أهل يوم الجمل من الصحابة، وقول الزبير: نحن المعنيون بها، يكون معنى الآية: إن هناك من ظلم، وهم قتلة عثمان -ومعلوم أنهم ليسوا من الصحابة- فعمت العقوبة وأصابت من لم يظلم من أصحاب رسول الله - ﷺ -.
وليس المعنى أن بعض الصحابة ظلم، فأصابت العقوبة الجميع، كما قد يفهم من سياق المؤلف للأقوال، إذ من الثابت أن كلا الطرفين من أصحاب رسول الله - ﷺ - في وقعة الجمل يريد الإصلاح، وإنما أثار الفتنة، وأوقد نار الحرب أولئك البغاة الذين قتلوا عثمان -رضي الله عنه- وكرهوا اتفاق أصحاب رسول الله - ﷺ - خوفًا من سيف الحق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" ٤/ ٤٦٥: لما طلب طلحة والزبير الانتصار من قتلة عثمان، قامت قبائلهم فقاتلوهم؛ ولهذا كان الإمساك عن مثل هذا هو المصلحة، كما أشار به على على طلحة والزبير، واتفقوا على ذلك، ثم إن القتلة أحسوا باتفاق الأكابر، فأثاروا الفتنة، وبدأوا بالحملة على عسكر طلحة والزبير، وقالوا لعلي: إنهم حملوا قبل ذلك، فقاتل كل من هؤلاء وهؤلاء دفعًا عن نفسه، ولم يكن لعلي ولا لطلحة والزبير غرض في القتال أصلاً، وإنما كان الشر من قتلة عثمان.
(١) هكذا، وفي "الإغفال": فقال: وهو الصواب.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٣) في "الإغفال": من العذاب.
(٤) هذا قول أبي إسحاق الزجاج كما في "الإغفال" ص ٨٣٦، وليس في "معاني القرآن وإعرابه"، وقد ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ٤٦ - ٤٧ أن لهذا الكتاب عدة نسخ مختلفة المخارج، وقد عارض بعضها ببعض حتى حصل منها نسخة أخرى اهـ.
والجدير بالذكر أن أبا على الفارسي سمع نسخته من المؤلف، كما في "الإغفال" ص ١.
100
وشرح أبو بكر هذا القول فقال: قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ نهي محض معناه: لايقصدن الظالمون هذه الفتنة فيهلكوا فلفظ النهي كأنه للفتنة، وهو للذين ظلموا، ومثله قوله: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ﴾ [النمل: ١٨] أمرتهم بالدخول ثم نهتهم أن يحطمهم سليمان فقالت: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ﴾ فلفظ النهي لسليمان ومعناه للنمل، كما تقول: لا أرينك هاهنا، فلفظ النهي لنفسك ومعناه: لا تكونن هاهنا فإني أراك (١).
قال صاحب النظم: تأويل هذا: واتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا منكم خاصة (٢)، يريد أن في نهيه بقوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ [إخبارًا أن تلك الفتنة مصيبة (٣) للذين ظلموا، كما تقول: اتق بلية لا تصيبن] (٤) المتعرض لها، يفهم من هذا أنك أمرت باتقاء فتنة تصيب من تعرّض لها، فقوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ نهي في موضع وصف النكرة، وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا، يؤكد هذا ما روي في حرف عبد الله: واتقوا فتنة أن تصيب الذين
(١) انظر: قول ابن الأنباري مختصرًا في "زاد المسير" ٣/ ٣٤٢.
(٢) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٣٩٣ وهذا القول مرجوح، والأول هو الراجح لأمرين:
أولاً: موافقته للظاهر المتبادر من الآية.
ثانيًا: أنه مؤيد بقول النبي - ﷺ - لما سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث". رواه البخاري (٧٢٩٢) كتاب الفتن، باب: قول النبي: "ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب". ومسلم (٢٨٨٠١)، كتاب الفتن، باب: اقتراب الفتن.
وروى الترمذي في "سننه" (٢١٦٨) كتاب الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، عن رسول الله - ﷺ - قال: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه". قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
(٣) ساقط من (ح).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (س)
101
ظلموا (١)، واختار أبو علي الفارسي الوجه الثاني، وقال: إنه قول أبي الحسن (٢)، ولا يصح عندنا إلا قوله، دون القول الأول، وقال: إنه نهي بعد أمر، واستغني عن استعمال حرف العطف معه لاتصال الجملة الثانية بالأولى كما استغنى عن ذلك بقولهم (٣): ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]، و ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩]، ومحال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي، [ودخول النون هاهنا يمنع (٤) أن تكون ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ جوابًا للأمر] (٥)، وأطال الكلام في إبطال القول الأول ونصرة قول أبي الحسن (٦).
(١) ذكر هذه القراءة ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٦/ ٢٦٢ - ٢٦٤، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٤٨٢ - ٤٨٣، وقراءة ابن مسعود المشهورة: (واتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا).
انظر: "مختصر في شواذ القرآن" لابن خالوية ص ٤٩، و"زاد المسير" ٣/ ٣٤٢، و"الجامع لأحكام القرآن" ٧/ ٣٩٣، و"البحر المحيط" ٤/ ٤٨٢ - ٤٨٣.
(٢) يعني الأخفش الأوسط، وانظر قوله في كتابه "معاني القرآن" ١/ ٣٤٧.
وهو: سعيد بن مسعدة البلخي ثم البصري، إمام النحو، وأبرع تلاميذ الخليل بن أحمد وسيبويه كان من أعلم الناس بالكلام، وأحذقهم بالجدل لكنه كان معتزليًّا، وله كتب كثيرة في النحو والعروض ومعان القرآن وغيرها، توفي سنة ٢١٥هـ، وقيل غير ذلك.
انظر: "أخبار النحويين البصريين" ص ٦٦، و"طبقات النحويين واللغويين" ص ٧٢، و"نزهة الألباء" ص ١٠٧، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٦، و"سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٢٠٦.
(٣) يعني المختلفين في شأن أصحاب الكهف، وفي "الإغفال": بقوله.
(٤) في (ح): (لمنع)، وهو خطأ.
(٥) ما بين المعقوفين معنى كلام أبي علي الفارسي ونصر كلامه: ومما يدل على أن لفظ أمر فلا يجوز أن يكون جزاء دخول النون فيه، والنون لا تدخل في الجزاء.
(٦) انظر: "الإغفال" ص ٨٣٧، وعمدة أبي علي الفارسي في إبطال القول الأول دخول =
102
وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [قال عطاء: يريد لمن عطّل حدوده وانتهكها (١)، وفي قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾] (٢) حث على لزوم الاستقامة خوفًا من الفتنة ومن عقاب الله بالمعصية فيها.
٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ الآية، قال أبو علي: هذا من الذكر الذي يكون عن النسيان، والمعنى: قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن بتلك الحال المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة فتشكروا عليه (٣) (٤)، قال الكلبي (٥) والفراء (٦): نزلت في المهاجرين خاصة.
وقال عكرمة: يعني النبي ومن معه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة (٧). وقال الكناني: يعني حين كانوا بمكة في عنفوان (٨) الإِسلام قبل أن يكملوا أربعين (٩).
= النون على قوله تعالى: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ وهو منفي، وقد سبق توجيه المؤلف لذلك، وذهب أبو حيان إلى قياس دخول النون على المنفي وذكر له شواهد عدة، انظر: "البحر المحيط" ٤/ ٤٨٢ - ٤٨٥.
(١) لم أجد من ذكره.
(٢) ساقط من (س).
(٣) أي: على موضع النعمة.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٤٢٨.
(٥) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص١٨٠ عنه عن ابن عباس.
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٧.
(٧) رواه ابن جرير ٩/ ٢١٩ - ٢٢٠، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣١٠، و"معالم التنزيل" ٣/ ٣٤٧.
(٨) عنفوان الشيء: أوله، انظر: "الصحاح" (عنف) ٤/ ١٤٠٧، و"مجمل اللغة" (عنف) ٣/ ٦٣٢.
(٩) ذكره الثعلي ٦/ ٥٣ أبلا نسبة.
103
وقوله تعالى: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾، قال ابن عباس (١) والكلبي (٢): في أرض مكة.
وقوله تعالى: ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾، قال ابن عباس: ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ إذ أخرجتم منها، والناس هاهنا: العرب (٣) يريد المشركين، ونحو ذلك قال الكلبي (٤) وغيره (٥)، وقال عكرمة وقتادة: هم كفار قريش (٦)، وقال وهب: يعني فارسًا والروم (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَآوَاكُمْ﴾ أي جعل لكم مأوى ترجعون إليه وتسكنون فيه، قال ابن عباس: فضمكم إلى الأنصار (٨)، وقال السدي والكلبي والكناني: فآواكم إلى المدينة دار الهجرة (٩).
(١) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٤٣، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٥٣.
(٢) ذكره الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص١٨٠ عنه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٣٩٤.
(٣) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٤٣ بمعناه.
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق الصنعاني" ١/ ٢/ ٢٥٨، وابن جرير ٩/ ٢٢٠، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص١٨٠ عنه عن ابن عباس.
(٥) كالسدي فيما رواه عنه ابن جرير ٩/ ٢٢٠، وقتادة فيما رواه عنه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٢.
(٦) رواه بمعناه ابن جرير ٩/ ٢١٩ - ٢٢٠، ورواه البغوي ١٣/ ٣٤٧ عن عكرمة بلفظ: كفار العرب. وانظر: القرطبي ٧/ ٣٩٤.
(٧) رواه ابن جرير ١٣/ ٤٧٨، وابن أبي حاتم ٣/ ٢٣٨ أ، والثعلبي ٦/ ٥٣ أ، والصنعاني ١/ ٢/ ٢٥٨، ولم يذكر الروم، وذكره السيوطي في "الدر" ٤/ ٤٧، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ.
(٨) ذكره القرطبي ٧/ ٣٩٤، وبمعناه ابن الجوزي ٣/ ٣٤٣ ن والفيروزأبادي ص ١٨٠ وأبو حيان ٥/ ٣٠٦.
(٩) رواه ابن جرير ١٣/ ٤٧٩ عن السدي، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" =
104
﴿وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ﴾، قال ابن عباس: يريد بقوته (١)، وقال السدي: وأيدكم بالأنصار (٢)، وقال الكلبي والكناني: وأيدكم بنصره يوم بدر بالملائكة (٣).
﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ يعني الغنائم ببدر في قول ابن عباس (٤) والكلبي (٥) والكناني (٦)، يريد أحلّها لكم ولم تحل لأحد قبلكم.
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، قال عطاء: يريد: كي تطيعوا (٧)، قال أهل المعاني: وهذا تذكير بالنعمة في تقويتهم بعد الضعف، وأمنهم بعد الخوف، ونصرهم على أعدائهم، وبسط أرزاقهم (٨).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ الخون
= ٣/ ٣٤٣ إلى ابن عباس والأكثرين، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٠ عن الكلبي عن ابن عباس.
(١) رواه الفيروزأبادي ص ١٨٠ بلفظ: أعانكم وقواكم بنصرته يوم بدر.
(٢) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٠ بمعناه، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٢٢، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٣) رواه البغوي ٣/ ٣٤٧ عن الكلبي، وكذلك المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٥٣، ونسبه ابن الجوزي ٣/ ٣٤٣ إلى الجمهور.
(٤) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٠، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٤٨٥.
(٥) رواه البغوي ٣/ ٣٤٧.
(٦) لم أجد من ذكره عنه.
(٧) لم أجد من ذكره عنه.
(٨) لم أجده فيما بين يدي من كتب أهل المعاني، وانظر معناه في: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢١٩، و"البحر المحيط" ٤/ ٤٨٥.
105
والخيانة والمخانة: خون الحق (١) الذي قد ضمن فيه التأدية، وخان: يتعدى إلى مفعولين، نحو: اعطى، ويجوز أن يقتصر على أحدهما، ويدلك على تعدي (خان) إلى مفعولين قول أوس:
خانتك ميّة ما علمت كما خان الإخاء خليلَه لبد (٢)
قال ابن عباس في رواية عطاء (٣)، والزهري (٤) والكلبي (٥) وعبد الله [بن أبي قتادة (٦)] (٧): نزلت هذه الآية في أبي لبابة (٨) حين بعثه رسول الله
(١) أي تنقصه وعدم الوفاء به، قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" (خون) ٢/ ٢٣١: الخاء والواو والنون أصل واحد، وهو التنقص، يقال: خانه يخونه خونًا: وذلك نقصان الوفاء.
(٢) "ديوانه" ص ٢٢. قال ابن منظور: لبد: اسم آخر نسور لقمان بن عاد وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أُهلكوا خُيّر لقمان بين بقاء سبع بَعْرات سمْر، من أظْبٍ عفر، في جبل وعر، لا يسمها القطر، أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلص بعده نسر، فاختار النسور، فكان آخر نسوره يسمى لبدًا، وقد ذكرته الشعراء. "لسان العرب" (لبد) ٧/ ٣٩٨٤.
(٣) ذكرها ابن الجوزي ٣/ ٣٤٤، وأبو حيان ٤/ ٤٨٦، ورواها مختصرة الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٠ من رواية الكلبي.
(٤) رواه عنه ابن جرير ٩/ ٢٢١، والثعلبي ٦/ ٥٣ ب، ورواه مختصراً مالك في "الموطأ" ص ٣٢١، ورواه عن الزهري، عن كعب بن مالك الإمام الصنعاني في "المصنف" ٥/ ٤٠٧.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٥٣ ب، ورواه مختصرًا الفيروزأبادي ص١٨٠ عنه عن ابن عباس.
(٦) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٤، وابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" ٣/ ٢٥٤، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٢٣ - ٣٢٤، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وسعيد بن منصور وأبي الشيخ.
(٧) في (ح): (بن أبي، وقتادة)، وهو خطأ وما أثبته موافق للمصادر السابقة، وهو عبد الله بن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري السلمي المدني تابعي ثقة قليل الحديث، توفي سنة ٩٩ هـ. انظر: "التاريخ الكبير" ١/ ٣/ ١٧٥، و"الكاشف" ١/ ٥٨٦، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٤٠٤.
(٨) هو: أبو لبابة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري أحد نقباء الأنصار، شهد بيعة =
106
-- إلى قريظة لما حاصرهم، وكان أهله وولده فيهم قالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أي: إنه الذبح فلا تفعلوا، فكانت تلك منه خيانة لله ورسوله (١).
وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من رسول الله - ﷺ - فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك (٢).
وقال ابن زيد: نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون؛ يظهرون الإيمان ويسرون الكفر (٣)، ونحو هذا قال محمد بن إسحاق، أي: لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفونه (٤) في السر إلى غيره (٥).
= بيعة العقبة، وكذلك بدرًا وقيل: بل استعمله النبي - ﷺ - على المدينة حين خرج إلى بدر، وكانت راية بني عمرو معه يوم الفتح، توفي في خلافة علي، ويقال بعد سنة ٥٠ هـ.
انظر: "أسد الغابة" ٥/ ٢٨٤، و"الإصابة" ٤/ ١٦٨، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٥٧٨.
(١) جميع روايات الأثر التي ذكرها المؤلف ضعيفة، فروايتا عطاء والكلبي عن ابن عباس ساقطتان، وروايتا الزهري وابن أبي قتادة مرسلتان، وقد رواه عبد الرزاق في "المصنف" ٥/ ٤٠٦، عن الزهري، عن كعب بن مالك، والزهري لم يدرك كعبًا الذي مات سنة ٤٠ هـ، والزهري ولد سنة ٥٠ هـ. على أقل تقدير.
انظر: "تهذيب التهذيب" ٨/ ٣٨٤، ٩/ ٣٨٧، وقال ابن جرير ١٣/ ٤٨٣: جائز أن تكون نزلت في أبي لبابة، وجائز أن تكون نزلت في غيره، ولا خبر عندنا بأي ذلك كان يجب التسليم له بصحته.
(٢) رواه ابن جرير ١٣/ ٤٨٣ مختصرًا.
(٣) رواه مختصرًا ابن جرير ١٣/ ٤٨٣.
(٤) في "السيرة النبوية": تخالفوه اهـ. وهو الصواب لأنه معطوف على الفعل المجزوم.
(٥) "السيرة النبوية" ٢/ ٦٦٩.
107
وقال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته (١).
وقوله تعالى: ﴿وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾، قال الفراء: إن شئت جعلت (وتخونوا) جزمًا على النهي، وإن شئت جعلته صرفًا (٢) ونصبته كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله (٣) (٤)
والجزم مذهب الأخفش (٥) (٦)، ويدل على صحته ما روي في حرف
(١) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٣ - ١٦٨٤، والثعلبي ٦/ ٥٤ أ.
(٢) الصرف: أن يصرف المتكلم الفعل الثاني عن معنى الفعل الأول المتقدم عليه، وانظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٧٥، وقال الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٣٣: فإن قلت: وما الصرف؟ قلت: أن تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوله حادثة لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصرف.
(٣) هذا صدر بيت، وعجزه:
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد اختلف في قائله، فقيل: هو الأخطل، وهذا رأي سيبويه في "الكتاب" ٣/ ٤٢، وقيل: المتوكل الليثي، وقيل: الطرماح بن حكيم، وقيل: سابق البربري، انظر: "الخزانة" ٨/ ٥٦٤، و"معجم شواهد العربية" ٢/ ٨٨٧.
قال في خزانة الأدب، الموضع السابق: والصحيح أنه لأبي الأسود الدؤلي اهـ. وهو في "ديوانه" ص ٤٠٤، ونسب إليه في "شرح التصريح" ٢/ ٢٣٨، و"شرح شذور الذهب" ص ٣١٠، و"همع الهوامع" ٢/ ١٣.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٠٨ بتصرف.
(٥) هو: أبو الحسن سعيد بن مسعدة. تقدمت ترجمته.
(٦) ذكر مذهبه هذا الثعلبي ٦/ ٥٤ أ، ولم يتعرض الأخفش لتفسير الآية في كتابه "معاني القرآن"، ولكنه ذكر رأيه في مثلها وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢]، هو في هذه المواضع يذهب إلى جواز =
108
عبد الله، (ولا تخونوا أماناتكم) (١)، وقد ذكرنا الوجهين بالشرح في قوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: ٤٢].
وذهبت طائفة إلى أن قوله: ﴿وَتَخُونُوا﴾ جواب للنهي بالواو (٢)، والعرب تجاوب بالواو كما تجاوب بالفاء (٣)، ومنهم من يجعل الواو بدلاً من الفاء، وكلا الوجهين قد شرحنا في قوله: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ [الأنعام: ٢٧]، في قراءة من قرأ بالنصب (٤).
والأمانة هاهنا: مصدر سمي به المفعول (٥) ولذلك جمع، قال ابن عباس في رواية الوالبي: الأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، يعني الفرائض، يقول: لا تنقصوها (٦) (٧).
= النصب والجزم، حيث قال: إن شئت جعلت (وتكتموا الحق) نصبًا، إذا نويت أن تجعل الأول اسمًا فتضمر مع (تكتموا)، (أن) حتى تكون اسمًا، وإن شئت عطفتها فجعلتها جزمًا على الفعل الذي قبلها. "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٧١، وانظر تفاصيل الخلاف في المسألة في: "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص ٤٤٨.
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٠٨، و"تفسير الرازي" ١٥/ ٥٢، ولم يشر إليها أصحاب القراءات الشاذة.
(٢) ساقط من (م).
(٣) ذكر هذا القول الثعلبي ٦/ ٥٤ أ، ومكي في "مشكل إعراب القرآن" ص ٣١٤، والرازي ١٥/ ١٥٢، وأبو حيان ٤/ ٤٨٦.
(٤) وهي قراءة حفص وحمزة ويعقوب، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٤٣، و"إرشاد المبتدئ" ص ٣٠٧، و"تحبير التيسير" ص ١٠٨.
(٥) ساقط من (ح).
(٦) في (ح): (لا تنقضوها)، وكذلك في "تفسير الثعلبي" وابن كثير، وما أثبته موافق لمصادر تخريجه عدا الثعلبي وابن كثير.
(٧) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٤، والثعلبي ٦/ ٥٤ أ، وانظر: =
109
وقال الكلبي: أما خيانة الله ورسوله: فمعصية الله ورسوله، وأما خيانة الأمانة: فكل أحد مؤتمن على ما افترض الله عليه إن شاء خانها، وإن شاء أداها لا يطلع عليه أحد إلا الله (١).
وقال قتادة في قوله: ﴿وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ إن دين الله أمانة (٢)، فأدوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده (٣).
وهذه الأقوال توجه على قول من قال: موضع (٤) ﴿وَتَخُونُوا﴾ جزم وعلى هذا الوجه قول ابن زيد: ﴿وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ قال: يعني دينكم، وقد فعل ذلك المنافقون (٥).
وقال السدي: إذا خانوا الله ورسوله فقد خانوا أماناتهم (٦)، وهذا يتوجه على قول من يقول بالصرف، أو يجعل الواو جوابًا للنهي، بمعنى: لا تخونوا الله والرسول فتخونوا أماناتكم، أي إنكم إذا خنتم الرسول فقد خنتم أماناتكم.
واختار أبو علي الجزم وقال: يمكن أن يكون هذا من باب حذف المضاف، فيكون المعنى: ولا تخونوا ذوي أماناتكم، قال: وهذا أشبه بما
= "زاد المسير" ٣/ ٣٤٥، و"الوسيط" ٢/ ٤٥٣، وابن كثير ٢/ ٣٣٣، وصحيفة علي ابن أبي طلحة ص ٢٥١.
(١) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" للشيخ هود بن محكم ٢/ ٢٩.
(٢) في (ح)، و (س): هي أمانة، وأثبت ما في (م) لموافقته لما في المصدرين التاليين.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٥٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٨.
(٤) في (س): (في قول من قال في موضع)، وهو خطأ.
(٥) رواه ابن جرير ١٣/ ٤٨٥، وابن أبي حاتم ٣/ ٢٣٨ ب، والثعلبي ٦/ ٥٤ أ.
(٦) رواه ابن جرير ١٣/ ٤٨٤، والثعلبي ٦/ ٥٤ أ، والبغوي ٣/ ٣٤٨.
110
قبله، وذوو الأمانة: نحو المودع والمعير والموكل والشريك ومن يدك في ماله يد أمانة لا يد ضمان (١)، ثم حذفت المضاف (٢)، وقد ذكرت إحدى مفعولي الخيانة، ولم تذكر الثاني وهو المنهي عن الخيانة فيه (٣)، وإذا لم (٤) تقدر حذف المضاف فقد ذكرت المنهي عن الخيانة فيه ولم تذكر صاحب الأمانة، كقولك: أعطيت درهمًا.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي تعلمون أنها أمانة من غير شبهة، وقيل: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [ما في الخيانة، خلاف الجهال بتلك المنزلة (٥)، وقال صاحب النظم: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾] (٦) أن ما فعلتم من الإشارة إلى الحلق خيانة لله ورسوله (٧).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي محنة (٨)، يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه فيستحق الثواب أو العقاب.
(١) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" ١/ ٢١٨.
(٢) يعني لفظ (ذوي) في قوله: والمعنى: ولا تخونوا ذوي أماناتكم، وقد ساق المؤلف العبارة على وجه الخطاب للتمثيل، ولا يخفى أنه لا يعني الجملة القرآنية، إذ لا يصح أن يخاطب بشر بأنه حذف شيئًا من القرآن.
(٣) ساقط من (س).
(٤) ساقط من (س).
(٥) ذكر هذا القول الماوردي في "النكت" ٢/ ٣١١ ولم يعين القائل.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) ذكر هذا القول المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٥٤، كما ذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٤٨ لكن من غير نسبة.
(٨) انظر: "الصحاح" (فتن) ٦/ ٢١٧٥.
111
قال المفسرون: وكان لأبي لبابة مال وأهل وولد في قريظة، ولذلك مال إليهم في إطلاعهم على أن حكم سعد فيهم القتل (١).
وقال ابن زيد: فتنة: اختبار اختبرتم بها، وقرأ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، قال ابن عباس: يريد لمن نصح لله ولرسوله وللمؤمنين، وأدى أمانته، ولم يخن نفسه ولا ربه ولا نبيه ولا أحدًا من المؤمنين (٣).
وهذه الآية بيان عن حال الأموال والأولاد في الافتتان بهما حتى يركب الإنسان كل (٤) عظيم لغلبة الهوى فيهما، فيحرم عظيم الأجر لما لا يبقى (٥) عليه من عاجل النفع.
قال عبد الله بن أبي قتادة (٦): ذكر الله تعالى أن مناصحة أبي لبابة وخيانته إنما كانت لأن أهله كان فيهم (٧).
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٥٣ أ، والبغوي ٣/ ٣٤٧، وابن الجوزي ٣/ ٣٤٥، و"أسباب النزول" ص ٢٣٨ - ٢٣٩ للمؤلف، و"الجامع لأحكام القرآن" ٧/ ٣٩٦.
(٢) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٥، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٢٤.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٥٤، وذكره مختصرًا من غير نسبة البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٤٨.
(٤) ساقط من (م).
(٥) في (ح): (لم يبق)، والصواب ما أثبته، والمعنى: يُحرم الإنسان عظيم الأجر لأجل ما لا يدوم عليه من المتاع العاجل بل سيرحل عنه.
(٦) تابعي من أبناء الأنصار. تقدمت ترجمته.
(٧) لم أجد من ذكره بهذا اللفظ، وقد رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٢ بلفظ: نزلت في أبي لبابة، وزاد ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٤: حين أشار إلى بني قريظة أنه الذبح.
112
٢٩ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾ الآية، قال أصحاب المعاني: إنما جاز الشرط في خبر الله تعالى مع علمه أنهم يتقون أو لا يتقون لأنه يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك للمظاهرة في العدل (١)، وعلى هذا المعنى أيضًا يتوجه ابتلاء الله العباد للبيان (٢) أن الجزاء على ما يظهر من الفعل دون ما في المعلوم مما لم يقع بعد. واتقاء الله عز وجل: الامتناع عن معاصيه بأداء فرائضه (٣)، واختلفوا في هذه الآية فمنهم من قال: إنها ابتداء خطاب من الله تعالى للمؤمنين، وليست تتصل بما قبلها (٤).
(١) لم أجده عند أهل المعاني، وقد ذكر نحوه الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٥٣، وقال القرطبي رحمه الله: كان الله عالمًا بأنهم يتقون أم لا يتقون، فذكر بلفظ الشرط؛ لأنه خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضًا. "الجامع لأحكام القرآن" ٧/ ٣٩٦. ولا يخفى أن استعمال الشرط يفيد عظيم فائدة التقوى في الحصول على الفرقان، وتكفير السيئات، وغفران الذنوب، فيسعى المؤمن لتحقيق كمالها، ويحذر من التفريط فيها.
(٢) هكذا، والمعنى: مستقيم.
(٣) هكذا، ومعلوم أن أداء الفرائض بعض التقوى، ولو قال المؤلف رحمه الله تقوى الله: الامتناع عن معاصيه وأداء أوامره، لكان أشمل، قال الإمام البغوي ٣/ ٣٤٨: إن تتقوا الله: بطاعته وترك معصيته. وقال الإِمام ابن كثير ٢/ ٣١٤: من اتقى الله بفعل أوامره، وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، وقال القرطبي ٧/ ٣٩٦: فإذا اتقى العبد ربه، وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه وترك الشبهات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال.. إلخ. والمقصود أن تقوى الله أعم من أداء الفرائض.
(٤) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ١٤، وإليه ذهب ابن عاشور في "التحرير والتنوير" ٩/ ٣٢٥.
113
ومنهم من قال: إنها متصلة بقصة الخيانة، يقول: إن تتقوا الله باجتناب خيانته، وخيانة رسوله، وخيانة أمانته يجعل لكم فرقانًا (١)، وقد ذكرنا معنى الفرقان في اللغة وأنه مصدر لـ (فرق) نحو (٢) الرجحان والنقصان (٣).
واختلفت عبارات المفسرين في تفسير الفرقان هاهنا وكلها راجع إلى معناه في اللغة، فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: مخرجًا من الشبهات مثل قوله في البقرة: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (٤)، يريد المخرج من الشبهات، وأراد هاهنا بالمخرج: أن الله تعالى يجعل لكم فرقانًا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم بنصره إياكم عليه، وهذا قول مقاتل (٥).
وقال عكرمة (٦) والسدي (٧) وعبد الكريم الجزري (٨): (فرقانًا:
(١) إلى هذا القول يميل ابن جرير ٩/ ٢٢٤، والثعلبي ٦/ ٥٤ ب، وابن الجوزي ٣/ ٣٤٦.
(٢) في (ح): (بعض)، وهو خطأ.
(٣) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: ٥٣.
(٤) البقرة: ١٨٥، وقد روى قول ابن عباس من رواية ابن أبي طلحة مختصرًا ابن جرير ١/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٦، ولفظها: الفرقان: المخرج.
(٥) هذا قول مقاتل بن حيان كما في: "تفسير ابن أبي حاتم" ٥/ ١٦٨٦، والثعلبي ٦/ ٥٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٩، وهو أيضًا قول مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" ١٢ أ.
(٦) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٥، والثعلبي ٦/ ٥٤ ب.
(٧) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٥.
(٨) هو: عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد التابعي الإمام الحافظ عالم الجزيرة، كان ثقة ثبتاً كثير الحديث، توفي سنة ١٢٧ هـ.
114
نجاة) (١)، يريدون أن الله تعالى يفرق بينكم وبين ما تخافون فتنجون، وقد جمع مجاهد بين معنى القولين (٢) فقال: مخرجًا في الدنيا والآخرة (٣)، يعنى: مخرجًا في الدنيا من الشبهات، ونجاة في الآخرة.
[وقال الضحاك: (بيانًا) (٤)، وهو معنى قول من قال: مخرجًا من الشبهات] (٥).
وقال ابن زيد وابن إسحاق: هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل (٦).
= انظر: "التاريخ الكبير" ٣/ ٢/ ٨٨، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ٨٠، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٦٠٢.
(١) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٥٨، عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد، ولم أجد من ذكره عنه.
(٢) في (س): (المعنيين).
(٣) رواه ابن جرير ٩/ ٢٢٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٦، والثعلبي ٦/ ٥٤ ب، وعزاه السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٢٤، إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ. وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٣٥٤.
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ٥٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٩.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٦) رواه عن ابن زيد بمعناه الثعلبي ٦/ ٥٤ ب، وابن جرير ٩/ ٢٢٦ فيما يظهر بالمقارنة بينه وبين تفسير الثعلبي، إذ أن اسم القائل وسنده ساقط من المخطوطة والمطبوعة كما ذكر المحقق، وبقي القول بنصه كما في "تفسير الثعلبي"، وقد ذكره أيضًا الماوردي ٢/ ٣١١، وابن الجوزي ٣/ ٣٤٦، وزادا نسبته إلى ابن إسحاق كالواحدي.
والواقع أن بين قولي ابن زيد وابن إسحاق اختلافًا بيِّنًا في المعنى، وإن اشتركا في بعض الألفاظ، فقد جاء قول ابن إسحاق في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٥، و"تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٢٦، والثعلبي ٦/ ٥٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٤٩ بلفظ: أي: فصلاً بين الحق والباطل؛ ليظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم.
115
وقال الكلبي: (نصرًا) (١) وهو اختيار الفراء، قال: يقول: فتحًا ونصرًا كقوله: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: ٤١]، يعني يوم الفتح والنصر (٢)، يريد أن يعز المؤمنين وينصرهم ويدل من خالفهم ويخذلهم فرقًا بينهم وبينهم.
وقوله تعالى: ﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، قال عطاء: يريد تفضل على أوليائه بالعصمة بعد ما كفّر سيئاتهم (٣)، وقال أهل المعاني: أي أنه ابتدأكم بالفضل العظيم فلا يمنعكم ما وعدكم على طاعاتكم (٤).
وقيل: إنه الذي يملك الفضل العظيم فاكتفوا بالطلب من عنده دون غيره (٥).
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٥٤ ب.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٨.
(٣) لم أجد من ذكره، وفي متنه نظر إذ ليس كل ولي معصومًا، بل العصمة مقصورة على الأنبياء، وقد خاطب الله تعالى أصحاب النبي -وهم من خير أولياء الله- بقوله: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: ٢]، وأخبر عنهم بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ١٥٢] ووصف عباده المتقين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣٥].
ثم إن في متن الأثر تناقض وذلك أن ظاهره يدل على أن الأولياء معصومون في وقت دون وقت أو في حال دون حال؛ حيث أثبت لهم سيئات، وهذا يناقض العصمة.
(٤) لم أجده.
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٥٤ دون نسبة.
116
٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذه الآية راجعة إلى قوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [مُسْتَضْعَفُونَ﴾] (١) يذكرهم الله عز وجل حالهم بمكة ونعمته على رسوله بإبطاله مكر المشركين، وهذه السورة مدنية، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: إن مشركي قريش توامروا (٢) في دار الندوة فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون، وقال بعضهم: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، قال أبو جهل: ما هذا برأي ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربونه (٣) بأسيافهم ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا تقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، وأوحى الله عز وجل إلى نبيه بذلك وأذن له بالخروج إلى المدينة فخرج إلى الغار، فذلك قوله: ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ (٤).
(١) في (ح) و (س): (فكثركم) موضع (مستضعفون)، ولا يوجد آية بهذا اللفظ، وفي (م): ﴿اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦] وهي خطاب لقوم شعيب، وكلام المؤلف يدل على أنه أراد ما أثبته، وقد اضطررت لتغيير نص المؤلف لكون الخطأ في آية من كتاب الله.
(٢) هكذا في جميع النسخ، وهي لغة في تآمروا، قال مسجد الدين الجزري: آمروا النساء في أنفسهن: أي شاوروهن في تزويجهن، ويقال فيه: (وامرته، وليس بفصيح). "النهاية في غريب الحديث" (أمر) ١/ ٦٦.
(٣) هكذا في جميع النسخ، والصواب: فيضربوه؛ لأنه معطوف على منصوب.
(٤) هذا معنى أثر رواه عن ابن عباس، الإمام ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" ٢/ ٩٣، وأحمد ١/ ٣٤٨، وابن جرير ٩/ ٢٢٦، والثعلبي ٦/ ٥٥ أ، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٠. فيه عثمان بن عمرو والجزري، وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ.
وقد روى قضية حصار بيت النبي - ﷺ - ومحاولة قتله ودخوله الغار الإمام أحمد =
117
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم (١) وقتادة: (ليوثقوك ويشدوك) (٢)، وكل من شُّد فقد أُثبت؛ لأنه لا يقدر على الحركة، ومن هذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحة منعته الحركة: قد أُثبت فلان فهو مثبت.
وقال عطاء وعبد الله بن كثير (٣) وابن زيد: (ليسجنوك) (٤)، وهو لفظ الفراء (٥) والزجاج (٦) وابن قتيبة (٧) وابن الأنباري، قال أبو بكر: يريد: ليثبتوك في بيت، فحذف المحل لوضوح معناه.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾ أي: بأجمعهم قتلة رجل واحد كما قال اللعين أبو جهل، ﴿أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ أي: من مكة إلى طرف من أطراف الأرض.
= ١/ ٣٣١، والحاكم ٣/ ١٣٣، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وانظر: قول قتادة ومجاهد وغيرهما في "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٢٦ - ٢٣٠، وابن أبي حاتم ٣/ ٢٣٩، ٢٤٠، و" الدر المنثور" ٤/ ٥٠ - ٥٣.
(١) تقدمت ترجمته.
(٢) رواه عنهم ابن جرير ٩/ ٢٢٦، والثعلبي ٦/ ٥٦ أ، وقد جمع الواحدي بين قولين، فقتادة يقول: ليشدوك، وغيره يقول: ليوثقوك. والقولان بمعنى واحد.
(٣) هو: عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله الداري المكي الإمام العلم، مقرئ مكة، وأحد القراء السبعة، كان ثقة فصيحًا واعظًا كبير الشأن، مات سنة ١٢٠ هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣١٨، و"معرفة القراء الكبار" ١/ ٨٦، و"غاية النهاية في طبقات القراء" ١/ ٤٤٣.
(٤) رواه عنهم ابن جرير ٩/ ٢٢٦، ورواه عن عطاء وابن كثير الإمام ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٨، والثعلبي ٦/ ٥٦ أ.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٠٩، ولفظه: ليحبسوك في البيت.
(٦) لم يتطرق الزجاج لتفسير الكلمة في كتابه "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٠، ولم أجد من ذكره عنه.
(٧) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٩.
118
وقوله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾، قال أبو إسحاق: ومكر الله عز وجل إنما هو (١) مجازاة ونصر للمؤمنين (٢)، وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: إنه مكر أفضل مما مكروا (٤)، وقال محمَّد بن إسحاق: قال الله: مكرت لك بكيدي المتين حتى خلصتك منهم (٥).
وتلخيص معنى قوله: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ أي أفضل المجازين بالسيئة العقوبة (٦)؛ وذلك أنه أهلك هؤلاء الذين دبروا لنبيه الكيد، وخلصه منهم، وقد ذكرنا معنى المكر في قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ في سورة آل عمران [٥٤].
٣١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾، قال ابن عباس والمفسرون: كان النضر بن الحارث (٧) خرج إلى الحيرة تاجرًا فاشترى
(١) ساقط من (م).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤١٠.
(٣) رواه البغوي ٣/ ٣٥٠.
(٤) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص١٨٠، من رواية الكلبي.
(٥) "السيرة النبوية" ٢/ ٦٦٩.
(٦) قال الراغب الأصفهاني: المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ ومذموم، وهو أن يتحرى به فعل قبيح، قال: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣]، و"المفردات" (مكر) ص ٤٧١.
(٧) هو: النضر بن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار بن قصي القرشي، كان من شجعان قريش ووجوهها واحد شياطينها وممن آذى رسول الله - ﷺ - وكان له إطلاع على أخبار الأمم السابقة وكتب الفرس، أصيب ببدر مع المشركين فامتنع عن =
أحاديث كليلة ودمنة (١)، فكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين (٢) وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، فلما قص رسول الله - ﷺ - شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، إن هذا إلا ما استطر الأولون في كتبهم (٣). فذمهم الله تعالى بدفعهم الحق الذي لا شبهة فيه بادعائهم الباطل في زعمهم: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ تكذبا وافتراء بعد ما أبان التحدي إفكهم وأنهم عجزة عن سورة مثله؛ وذكرنا معني الأساطير في سورة الأنعام (٤).
٣٢ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾، قال أبو إسحاق: القراءة بنصب (الحق) على خبر كان، ودخلت (هو) للفصل، ولا موضع لها وهي بمنزلة (ما) المؤكدة، ودخلت ليعلم أن
= الطعام والشراب حتى مات، وقيل: قتل صبرًا بعد الانصراف من المعركة.
انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٣١٩، و"الكامل" لابن الأثير ٢/ ٧٣، و"زهرة الآداب" ١/ ٣٣، و"جمهرة الإنساب" ص ١٢٦، و"نسب قريش" ص ٢٥٥.
(١) "كليلة ودمنّة" كتاب وضعه الفيلسوف الهندي بيدبا لأحد ملوك الهند، وجعله على ألسنة البهائم والطيور، وقد نقل من اللغة الهندية إلى الفهلوية الفارسية، ثم نقله عبد الله بن المقفع إلى اللغة العربية، ومنها ترجم إلى سائر اللغات الحية، انظر: "التمهيد لكتاب كليلة ودمنة" بقلم جورجي زيدان.
(٢) هم رهط من قريش تحالفوا على أذى رسول الله - ﷺ - والافتراء عليه، وإذاعة ذلك بكل طريق، وإخبار النزاع إليهم به.
انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٩٥، و"تفسير المشكل من غريب القرآن" ص ١٢٧، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٢٧.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٥٠ أمختصرًا، ومثله البغوي ٣/ ٣٥١، وكذلك ابن إسحاق في "السيرة" ١/ ٣١٩، ورواه ابن جرير ٩/ ٢٣١ بمعناه عن ابن جريج والسدي.
(٤) انظر: "تفسير البسيط" الأنعام: ٢٥.
(الحق) ليس بصفة لـ (هذا)، وأنه (١) خبر، قال: ويجوز: هو الحق، رفعًا، ولا أعلم أحدًا قرأ بها (٢)، ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها، ولكن القراءة سنة (٣).
وقولى تعالى: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾، قال الليث: مطرتنا السماء وأمطرتنا وأمطرهم الله مطرًا و (٤) عذابًا (٥).
وقال أبو عبيدة: ما كان من العذاب يقال فيه: أمطر، ومن الرحمة: مطر (٦)، قال المفسرون: قال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد حقًا من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء كما أمطرتها على قوم لوط: ﴿أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: ببعض ما عذبت به الأمم (٧).
(١) في "معاني القرآن وإعرابه": أو أنه، وهو خطأ ينبغي تصويبه.
(٢) لعله يعني من القراء المعتبرين، وإلا فقد قرئ بها شذوذًا، وهي قراءة الحسن بن سعيد المطوعي عن الأعمش، وكذلك زيد بن علي، انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص ٤٩، و"الكشاف" ٢/ ١٥٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٣١٠، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٣٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١١، وقد اختصر الواحدي كلام الزجاج.
(٤) في "تهذيب اللغة" وكتاب "العين": أو.
(٥) "تهذيب اللغة" (مطر) ١٣/ ٣٤١، والنص بنحوه في كتاب "العين" (مطر) ٧/ ٤٢٥.
(٦) "مجاز القرآن" ص ٢٤٥. وقد ذكر الواحدي قول أبي عبيدة بمعناه.
(٧) رواه ابن جرير ١٣/ ٥٠٥ - ٥٠٦، عن سعيد بن جبير ومجاهد عطاء وكلها مراسيل، وقد أسنده ابن أبي حاتم ٣/ ٢٤١ أعن ابن عباس، ولكن بسند ضعيف إذ فيه راو لم يسم، والثابت أن القائل هو أبو جهل، كما رواه البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة الأنفال ٦/ ١١٩، ويمكن الجمع بين القولين بأن كليهما قال ذلك، هذا لو صح ما روي عن النضر بن الحارث.
121
قال أهل العلم وأصحاب التأويل في هذه الآية: يجوز أن يكون هذا القول عنادًا منهم، وذلك أن المعاند قد تحمله شدة عداوته للمحق (١) على إظهار مثل هذا القول لتوهم أنه على بصيرة من أمره، ويجوز أن يكونوا قالوا هذا على شبهة تمكنت من نفوسهم، ولو عرفوا بطلان ما هم عليه ما قالوا مثل هذا القول؛ فقولهم: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ مع علمهم أن الله قادر على ذلك يدل على أنهم لم يعتقدوا ولم يعرفوا أن ما أتى به محمد هو حق من عند الله، وإذا لم يكن هو الحق عندهم لم يصبهم هذا النبلاء الذي طلبوه عند أنفسهم؛ لأنهم شرطوا كونه حقًّا (٢).
قال عطاء: ثم حاق بالنضر ما سأل من العذاب الأليم يوم بدر؛ لأن رسول الله - ﷺ - قتله صبرًا (٣).
وقال أهل المعاني: هذه الآية ذم لهم في دفع الحق بأغلظ ما يكون من المناصبة له (٤) حتى طلبوا إمطار الحجارة من السماء به (٥) إيهامًا أنهم على غاية الثقة فيه أنه ليس بحق (٦).
(١) في (ح): (للحق).
(٢) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣١٣، و"المحرر الوجيز" ٦/ ٢٧٩، و"الكشاف" ٢/ ١٥٥، و"البحر المحيط" ٤/ ٤٨٨ - ٤٨٩.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٥٧ أ، والبغوي ٣/ ٣٥١ دون ذكر القتل، وقد رويا قتله صبرًا عن سعيد بن جبير، ورواه أيضًا عنه أبو عبيد في كتاب "الأموال" ص ١٧١، وابن أبي شيبة في "المصنف" ١٤/ ٣٧٢.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) ساقط من (س).
(٦) لم أقف عليه.
122
٣٣ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ الآية، هذه اللام تسمى لام الجحود، تدخل في النفي دون الإيجاب لتعلق ما دخلت عليه بحرف النفي، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٧٩]، كما دخلت (الباء) في خبر (ما) ولم تدخل في الإيجاب، ولعل هذا مما سبق الكلام فيه.
قال المفسرون: ما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين وأنت فيهم، مقيم بين أظهرهم (١)، قال ابن عباس: لم تعذب قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا، ويلحق بحيث أمر (٢).
وقال أهل المعاني: لم يجز أن يعذبوا مع كون النبي فيهم؛ لأن إرساله رحمة للعالمين يقتضي أن لا يعذبوا وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة بأخذه (٣) عنهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم المؤمنون يستغفرون (٥).
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٥٧ ب، وقد نسب هذا القول إلى سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى وأبي مالك والضحاك، ورواه بمعناه ابن جرير ٩/ ٢٣٤ - ٢٣٩، عن جمع عن مفسري الصحابة والتابعين وغيرهم.
(٢) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٩٢، والثعلبي ٦/ ٥٨ أ، والبغوي ٣/ ٣٥٣.
(٣) في المصدر التالي: بإخراجه. ولم أجده عند أهل المعاني، وانظره في: "النكت والعيون" ٢/ ٣١٤.
(٤) رواه عنهم ابن جرير ٩/ ٢٣٥ - ٢٣٦، والثعلبي ٦/ ٥٧ أ.
(٥) في (ح): (المستغفرون).
123
وهذا قول أبي مالك والضحاك وابن أبزى (١)، وإحدى الروايات عن ابن عباس، قال: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ يعني المسلمين (٢).
قال ابن الأنباري على هذا القول: أي: وما كان الله معذبهم والمؤمنون بين أظهرهم يستغفرون، فأوقع العموم على الخصوص، ووصفوا بصفة بعضهم كما يقال: قتل أهل المحلة (٣) رجلاً، وأخذ أهل البصرة فلانًا، ولعله لم يأخذ منهم إلا رجل (٤) أو رجلان، وكما تقول العرب: قتلناكم وهزمناكم، يريدون البعض، وعلى هذا قراءة من قرأ: ﴿فإن قتلوكم فاقتلوهم﴾ (٥).
(١) هناك ثلاثة رجال بهذا الاسم: عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الصحابي وابناه سعيد وعبد الله.
والمذكور هو: سعيد كما نص على ذلك ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٦٩٢، وقد روى الأثر ابن جرير عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى، وجعفر من رواة سعيد، وهو تابعي ثقة حسن الحديث، توفي بعد المائة الأولى من الهجرة.
انظر: "التاريخ الكبير" ٣/ ٤٩٤ (٦٤٩)، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٩، و"تقريب التهذيب" ص ٢٣٨ (٢٣٤٦).
(٢) روى هذا القول عن المذكورين ابن جرير ٩/ ٢٣٤ - ٢٣٥، والثعلبي ٦/ ٥٧ - ٥٨ أ، ورواه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٨٢ - ٣٨٤، عن الضحاك وابن أبزى.
(٣) في "زاد المسير" ٣/ ٣٥٠: المسجد.
(٤) نقل ابن الجوزي قول ابن الأنباري هذا إلى هذا الموضع، مع تقديم بعض الجمل على بعض، انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٥٠.
(٥) البقرة: ١٩١، وقد قرأ حمزة والكسائي وخلف بحذف الألف، والباقون بإثبات انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١١٣، و"التبصرة في القراءات" ص ١٥٩ و"النشر" ٢/ ٢٢٧.
124
وروي عن (١) عبد الوهاب (٢)، عن مجاهد في قوله: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: وفي أصلابهم من يستغفر (٣)، قال أبو بكر: والمعنى على هذا القول: وما كان الله مهلكهم وقد سبق في علمه أنه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه؛ فوصفوا بصفة ذراريهم وأولادهم وغلبوا عليهم كما غلب بعضهم على كلهم في القول الأول (٤).
وقال قتادة والسدي وابن زيد: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، أي: لو استغفروا لم يعذبوا (٥)، كأنه استدعاء إلى الاستغفار يقول: إن القوم لم يكونوا يستغفرون ولو كانوا يستغفرون لم يعذبوا؛ لأنهم لو استغفروا وأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين؛ ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار هاهنا بمعنى الإسلام فقال: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: يسلمون (٦)، يقول: لو أسلموا لما عذبوا، وهذا قول عكرمة (٧)، قال أبو بكر: ومعنى هذا القول: وما كان الله معذبهم لو كانوا يستغفرون؛ فأما ليسوا يستغفرون
(١) من (ح).
(٢) هو: عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر المكي المخزومي بالولاء، مجمع على تركه، وكذبه سفيان الثوري، وروايته عن أبيه مرسلة، توفي بعد المائة.
انظر: "التاريخ الكبير" ٣/ ٢/ ٩٨، و"الضعفاء الصغير" ص ١٥٦، و"تهذيب التهذيب" ٦/ ٣٩٥، و"تقريب التهذيب" ١/ ٥٢٨.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٥٨ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٤.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٥١ مع اختلاف يسير في بعض الكلمات.
(٥) رواه عنهم ابن جرير ٩/ ٢٣٦، والثعلبي ٦/ ٥٨/ ب، ورواه البغوي ٣/ ٣٥٣، عن قتادة والسدي.
(٦) هذا نص قول مجاهد، انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٣٧، والثعلبي ٦/ ٥٨ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٣، و"تفسير الإمام مجاهد" ص ٣٥٤.
(٧) انظر: المصادر السابقة، عدا "تفسير مجاهد"، نفس المواضع.
125
فإنهم مستحقون للعذاب، قال: وهذا كقول العرب: ما كنت لأكرمك وأنت تهينني، وما كنت لأهينك وأنت تكرمني، يريد: ما كنت لأهينك لو أكرمتني؛ فأما إذ (١) لست تكرمني فإنك مستحق لإهانتي، قال: وهذا قول يختاره اللغويون (٢)، ويذهب إليه المفسرون (٣)، وهو المختار عندنا.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: وفيهم من سبق له من الله الدخول في الإيمان (٤)، وشرح أكثر من (٥) هذا في رواية عطاء فقال: يريد أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا، منهم أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب (٦)، والحارث بن
(١) في (ح) و (س): (إذا).
(٢) لم أجد من اختار هذا القول من اللغويين سوى الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٥٦، فابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص ٧١ اختار أن المراد: وفيهم قوم يستغفرون، وهم المسلمون واستحسنه أيضًا النحاس في "معاني القرآن" ٣/ ١٥٠، واختار الزجاج في "معاني القرآن" ٢/ ٤١٢ المعنى القائل: وما كان الله ليعذبهم ومنهم من يؤول أمره إلى الإسلام، وقال أبو علي الفارسي في "الحجة" ٤/ ٣٤٨: وهم يستغفرون أي: ومؤمنوهم يستغفرون ويصلون. بينما لم يتطرق لمعنى الآية كل من: الفراء، وأبي عبيدة، والأخفش، واليزيدي، والأزهري.
(٣) رجحه ابن جرير ٩/ ٢٣٨، وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد كما في "تفسير الثعلبي" ٦/ ٥٨ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٣.
(٤) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٧، وابن أبي هاشم ٥/ ١٦٩٢، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٨١، والثعلبي ٦/ ٥٨ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٣.
(٥) ساقط من (س).
(٦) هو: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم النبي - ﷺ - وأخوه من الرضاعة، واحد اللذين يشبّهون به، واسمه المغيرة، وقيل: اسمه كنيته، وكان شاعرًا، وممن يؤذي النبي - ﷺ - ويهجوه، ثم أسلم قبيل الفتح، وشهد حنينًا وثبت مع النبي - ﷺ -، مات بالمدينة سنة عشرين للهجرة.
126
هشام (١) وحكيم بن حزام (٢)، وعدد كثير، وهذا الاقول اختيار الزجاج، قال: وما كان الله معذبهم وفيهم من يؤول أمره إلى الإِسلام (٣).
والتعذيب في هذه الآية يراد به تعذيب الاستئصال (٤).
قال أهل المعاني: ودلت هذه الآية على أن في الاستغفار أمانة وسلامة من العذاب، كما في كون النبي - ﷺ - كانت (٥) لهم سلامة من تعجيل
= انظر: "المحبر" ص ٤٦، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ٢٠٢، و"الإصابة" ٤/ ٩٠ (٥٣٨)
(١) هو: الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أبو عبد الرحمن، أخو أبي جهل وابن عم خالد بن الوليد، كان حربًا على الإسلام مع أخيه، ثم أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وكان خيرًا شريفًا كبير القدر، مات في طاعون عمواس سنة ١٨/هـ وقيل: بل قتل في معركة اليرموك.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤١٩، و"الإصابة" ١/ ٢٩٣ (١٥٠٤)، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٧٣.
(٢) هو: حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي القرشي، أبو خالد المكي، وعمته خديجة أم المؤمنين. كان من أشراف قريش وعقلائها ونبلائها وأجوادها، ومع ذلك تأخر إسلامه إلى يوم الفتح، وشهد حنينًا والطائف وكان من المؤلفة، توفي سنة ٦٠ هـ، وقيل غير ذلك.
انظر: "التاريخ الكبير" ٣/ ١١ (٤٢)، و"سير أعلام النبلاء" ٣/ ٤٤، و"الإصابة" ١/ ٣٤٩ (١٨٠٠).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٢.
(٤) يعني العذاب الذي يبيدهم كعذاب الأمم السابقة في عاقبة أمرهم، أما ما دون ذلك كنقص الأموال والأنفس والثمرات، فلا يمنع وجود الرسول - ﷺ - من ذلك، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١ - ١٣٢]، فوجود موسى -عليه السلام- لم يحل دون أخذ آل فرعون بالسنين، وترادف العقوبات عليهم.
(٥) كذا في جميع النسخ.
127
العقوبة عليهم؛ وذلك أن الذنوب سبب البلاء فلا يبعد أن يكون الاستغفار سبب دفعه؛ ولهذا قال ابن عباس: كان فيهم أمانات: نبي الله والاستغفار (١)، وقال أبو موسى: إنه كان فيكم (٢) أمانات: النبي (٣) والاستغفار، فأما النبي - ﷺ - فقد مضى، وأما الاستغفار فهو فيكم إلى يوم القيامة (٤).
٣٤ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية، معنى (ما) هاهنا: إيجاب (٥) العذاب عليهم، ومخرجها مخرج الاستفهام، وهو أبلغ في معنى الإيجاب، أي: لا جواب لمن سأل عن مثل هذا يصح في نفي العذاب عنهم، والمعنى: لم لا يعذبهم الله وهذا فعلهم (٦)؟ وموضع (أن) في قوله: (ألا) نصب على معنى: أي شيء في ألاّ يعذبهم الله، إلا أنه لما حذف الجار عمل معنى الفعل.
(١) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٩٢، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٢٨، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.
(٢) في (س): (فيهم).
(٣) في (م): (نبي الله).
(٤) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٦ مع زيادة: دائر، ولفظه: فهو دائر فيكم، والثعلبي ٦/ ٥٨/ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٣ مع زيادة: كائن، ولفظهما: فهو كائن فيكم، وقد روى الأثر مرفوعًا الترمذي (٣٢٧٧) "سننه"، و" أبواب تفسير القرآن" (٣٢٧٧)، وقال: هذا حديث غريب، وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر يضعف في الحديث.
(٥) في (ح): (لإيجاب).
(٦) قال أبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٤٩٠: الظاهر أن (ما) استفهامية، أي: أي شيء لهم في انتفاء العذاب، وهو استفهام معناه التقرير، أي: كيف لا يعذبهم وهم يتصفون بهذه الحالة، وقيل (ما) للنفي، فيكون إخبارًا، أي: وليس لهم أن لا يعذبهم الله، أي ليس ينتفي العذاب عنهم مع تلبسهم بهذه الحال.
128
قال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ يريد المقيمين على الشرك حتى ماتوا أو قتلوا ببدر (١)، وكذلك قال عطية (٢)، والضحاك (٣)، والكلبي (٤)، وغيرهم (٥) قالوا: قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ يعني: المشركين خاصة بعد خروج من عنى بقوله: (وهم يستغفرون) من بينهم.
واختلفوا في هذا العذاب، فقيل: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر (٦)، وقال ابن أبزى (٧): هذا العذاب لحقهم يوم فتح مكة (٨)، وقال ابن عباس: هذا عذاب الآخرة، والذي في الآية الأولى: عذاب الدنيا (٩)
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [قال أبو إسحاق: مفعول الصد محذوف، المعنى: وهم يصدون عن المسجد الحرام
(١) رواه بنحوه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٩٣، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٣٣٩.
(٢) رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٢٨.
(٣) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٤ - ٢٣٥، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٨٣.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٣٤ - ٢٣٥
(٦) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٩٣، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٨١، عن ابن عباس.
(٧) هو: سعيد بن عبد الرحمن. تقدمت ترجمته.
(٨) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٤، وابن أبى حاتم ٥/ ١٦٩٣.
(٩) رواه ابن جرير ٩/ ٢٣٥.
129
أولياءه (١)] (٢)، وقال الكلبي: صدوا النبي - ﷺ - وأصحابه أن يطوفوا، قال ابن إسحاق: أي: إياك ومن آمن بك (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ﴾ قال الحسن: إن المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام؛ فرد الله عليهم (٤)، وقال الكلبي: وما كانت قريش أولياء المسجد الحرام، إن أولياء المسجد إلا (٥) المتقون الكفر والشرك والفواحش (٦)، وأوجز أبو علي القول في معنى الآيتين فقال في قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾: أي: عذاب الاستئصال؛ لأن أمم الأنبياء إذا أُهلكوا (٧) لم يكن أنبياؤهم فيهم، وعلى هذا قال: ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾ [الدخان: ٢١]، وقال: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ [هود: ٨١]، الآية، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: ومؤمنوهم يستغفرون ويصلون، ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ أي: بالسيف في (٨) صدهم
(١) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤١٢، ولم يذكر أبو إسحاق الزجاج أن المفعول محذوف، بل ذكر المعنى مباشرة، فلعل الواحدي عبر عما فهمه من عبارة الزجاج، أو أن هناك سقطًا في بعض النسخ، ويرجح الأول أن ابن الجوزي نقل قول الزجاج في "زاد المسير" ٣/ ٣٥٢، ولم يذكر ما ذكره الواحدي.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٣) "السيرة النبوية" ٢/ ٣٦٦، ونص قول ابن إسحاق: أي من آمن بالله وعبده، أي أنت ومن اتبعك.
(٤) رواه البغوي ٣/ ٣٥٤، وانظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٥٢، و"الوسيط" ٢/ ٤٥٨.
(٥) ساقط من (م).
(٦) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨١، عن الكلبي، عن ابن عباس، وهو في "تفسير السمرقندي" ٢/ ١٦ مختصرًا.
(٧) في (م) و (س): (هلكوا). وما أثبته موافق لما في "الحجة".
(٨) ساقط من (ح).
130
عن المسجد الحرام المسلمين من غير أن يكون لهم عليه (١) ولاية (٢)، وهذا معنى قوله: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ﴾ وهذا العذاب غير الأول، وإنما هو عذاب بالسيف، وليس بانتقام عام شامل كالأول.
وقال عطاء عن ابن عباس: وما كانوا للنبي بأولياء (٣)، ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ يريد: المهاجرين والأنصار، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يريد: غيب علمي، وما سبق في قضائي وقدرتي (٤).
(١) في (س): (عليهم)، وكذلك هو في "الحجة"، وأثبت ما في (ح) و (م) لأنه أصح في المعنى ولأن به يستقيم معنى قول الواحدي: وهذا معنى قوله (وما كانوا أولياءه).
(٢) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٤٨.
(٣) سبق بيان وهاء هذه الرواية، وهذا القول لا يدل عليه السياق إذ ليس للنبي - ﷺ - ذكر في هذه الآيات بضمير الغائب، وللمفسرين في عود هاء الكناية في هذه الكلمة قولان:
١ - أنها ترجع إلى المسجد، وهو الراجح لأنه أقرب مذكور، وقد نسب ابن الجوزي ٣/ ٣٥٢ هذا القول إلى الجمهور، واختاره الثعلبي ٦/ ٥٨/ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٤، والزمخشري ٢/ ١٥٦، وابن كثير ٢/ ٣٣٩. والمعنى: وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام وأهله، وإنما أولياؤه المتقون وهم النبي - ﷺ - ومن آمن به.
٢ - أنها ترجع إلى الله تعالى، وهذا اختيار ابن جرير ٩/ ٢٣٩. والمعنى: وما كان المشركون أولياء الله.
(٤) لم أجد أحدًا ذهب إلى هذا المعنى، ولا دلالة في الآية عليه، والذي عليه المفسرون أن المعنى: ولكن أكثرهم لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، أو لا يعلمون أن أولياء المسجد هم المتقون، انظر: " تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٣٩، وابن الجوزي ٣/ ٣٥٢، وأبي السعود ٤/ ٢٠، وذهب السمرقندي ٢/ ١٦ إلى أن المعنى: لا يعلمون توحيد الله.
131
وقول من قال: إن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها، ليس بشيء، وهذا يروى عن الحسن وعكرمة (١)، وقال أهل العلم وأصحاب المعاني: هذا غلط؛ لأن الخبر لا ينسخ (٢).
وذكر أبو إسحاق الزجاج معنى آخر لهذه الآية هو أليق بما قبلها وهو أنه قال في قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾: المعنى: وأي شيء لهم في ترك العذاب، أي في دفعه عنهم ﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (٣).
ومعنى هذا الكلام: وأي شيء لهم في ترك عذابهم، أي: إنا وإن تركنا عذابهم يكفيهم من الخسارة في حالتهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام، وأنهم حرموا موالاة محمد - ﷺ - ولو أراد الله بهم خيرًا ما فعلوا ذلك (٤).
(١) أخرجه عنهما ابن جرير ٩/ ٢٣٨، ورواه عن الحسن جمع من المفسرين منهم النحاس في: "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٨١، والثعلبي ٦/ ٥٨ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٤.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٣٨، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٨١، و"المحرر الوجيز" ٦/ ٢٨٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٢.
(٤) هذا فهم الواحدي لعبارة الزجاج، والذي أراه أن الزجاج لم يقصد هذا المعنى، وإنما مراده: وأي شيء يدفع عنهم العذاب وهم يصدون عن المسجد الحرام. ويدل على هذا المعنى كلامه اللاحق، فقد قال بعد تفسير الآية: فأعلم الله النبي - ﷺ - أنه لم يكن ليعذبهم بالعذاب الذي وقع بهم من القتل والسبي وهو بين أظهرهم، ولا ليوقع ذل العذاب بمن يؤول أمره إلى الإسلام منهم، وأعلمه أنه يدفع العذاب من جملتهم الذي أوقعه بهم. "معانى القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٢، فالجملة الأخيرة تفسير لقوله السابق الذي ذكره الواحدي.
132
وشرح صاحب النظم المذهبين في قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ﴾ شرحًا شافيًا فقال: قوله (١): ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ أصحاب العربية اختلفوا في معنى هذه الكلمة وفي قولهم: ما لزيد قائمًا؟ فزعم بعضهم أن قولك: مالك وما لزيد؟ استفهام عن حال أنكرتها، فإذا قلت: ما لزيد قائمًا؟ فكأنك قلت: ما له في القيام؟ أي: أي شيء [له فيه من نفع أو غيره؟ وهذا وجه قول الزجاج (٢)، قال: وقال بعضهم: إن قولك: (مالك)، مثل قولك: (لم)، وأصل (لم): (لما)، أي: لأي شيء] (٣) كان هذا؟ إلا أنهم إذا جعلوا (ما) مع حرف الصفة في موضع الاستفهام حذفوا ألف (ما) مثل قوله عز وجل: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ: ١]، و ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ [النازعات: ٤٣]، و ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢].
ثم إنهم قدموا (ما) وأخروا اللام، واللام (٤) لا تقوم بنفسها إلا مضافة إلى شيء، فلما تأخرت هاهنا أضافوها إلى (٥) الاسم المستفهم عنه، فقالوا: مالك قائمًا؟ بمعنى: لم قمت؟ أو لم أنت قائم؟ واحتجوا بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا﴾ [ص: ٦٢] بمعنى: لم لا نرى رجالًا؟ فإذا أضفت اللام إلى المستفهم عنه لم يحتج إلى فعل لدلالة النعت بانتصابه على الفعل مثل قولك: مالك قائمًا؟ وإذا أضفت اللام إلى نفسك وأنت مستفهم فلابد من إظهار فعل يدل على الاستفهام مثل قولك: مالي أراك قائمًا؟، كما قال
(١) ساقط من (س).
(٢) يعني قول الزجاج في تفسير الآية: المعنى: أي شيء لهم في ترك العذاب، و"معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٢.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح)
(٤) ساقط من (س).
(٥) ساقط من (ح).
133
تعالى: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ [النمل: ٢٠]، ولا يجوز: مالي قائمًا؟ وأنت تريد أن تستفهم عن غيرك، فإن أنت (١) عنيت نفسك جاز، مثل قولك: مالي ضعيف؟ أي: لِمَ أنا ضعيف؟ فقوله عز وجل: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٣٤] يكون معناه على ما رتبنا: لم لا يعذبهم الله؟ إلا أن اللام منقولة عن موضعها إلى غيره (٢)، و (أن) في قوله: ﴿أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ زيادة مقحمة (٣)، ألا ترى أنه قال في موضع آخر: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠] بلا (أن)، وقال: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الصافات: ١٠٤]، فزاد (أن)، ومنه قول الشاعر (٤):
مالك لا تذكر أم عمرو إلا لعينيك غروب تجري
ولو قال: مالك أن لا تذكر كان (أن) زيادة.
(١) ساقط من (م) و (س).
(٢) سبق قول أبي علي الجرجاني: ثم إنهم قدموا (ما) وأخروا اللام واللام لا تقوم بنفسها إلا مضافة إلى شيء اهـ، وهو يعني هنا: أن اللام في قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ﴾ نقلت عن موضعها وأخرت عن (ما) إذا الأصل: لِمَ، ثم أضيفت اللام إلى الاسم المستفهم عنه فصارت الكلمة: مالهم، ثم زيدت (أنَ)، فإذا أعدنا الكلمة إلى أصلها، وحذفنا الزيادة، صارت الجملة: لم لا يعذبهم.
(٣) ذهب الأخفش في "معاني القرآن" ١/ ٣٤٩ أيضًا إلى القول بزيادة (أن) وقد رد عليه النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٧٥ بقوله: لو كان كما قال لرفع (يعذبهم) و (أن) في موضع نصب، والمعنى: وما يمنعهم من أن يعذبوا، فدخلت (أن) لهذا المعنى اهـ. والجدير بالتنبيه أن قول بعض النحاة عن شيء في كتاب الله: زيادة مقحمة، مما ينافي الأدب مع القرآن إذ العبارة توحي بأن هذا اللفظ مما لا فائدة له، والحق أنه ما من لفظ في كتاب الله إلا جيء به لمعنى، كالتوكيد أو الإشارة إلى معنى خفى.
(٤) لم يتبين لي من هو، والرجز بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (غرب) ٣/ ٣٦٤٣. و"لسان العرب" (غرب) ٦/ ٣٢٢٨.
134
٣٥ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾، الحراني (١) عن ابن السكيت (٢) قال: المكاء: الصفير، يقال: مكا يمكو مكْوًا ومُكوًّا (٣): إذا جمع يديه ثم صفر فيهم (٤). قال: والأصوات مضمومة إلا حرفين: النداء والغناء (٥).
هذا معنى المكاء في اللغة، ثم [يقال: مكت است الدابة تمكو مكاءً: إذا نفخت بالريح، ذكره أبو عبيد عن أبي زيد (٦)] (٧) ويقال للطعنة إذا فهقت (٨): مكت تمكو، قال عنترة:
(١) هو: عبد الله بن الحسن بن أحمد أبو شعيب الحراني، لغوي محدث مؤدب صدوق، لازم ابن السكيت مدة إحدى وعشرين سنة، وتوفي في بغداد سنة ٢٩٥ هـ. انظر: "تاريخ بغداد" ٩/ ٤٣٥، و"إنباه الرواة" ٢/ ١١٥، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٥٣٦، و"البداية والنهاية" ١١/ ١٠٧.
(٢) هو: شيخ العربية يعقوب بن إسحاق بن يوسف البغدادي النحوي المشهور بابن السكيت، أخذ عن أبي عمرو الشيباني والأصمعي وأبي عبيدة والفراء وغيرهم، وكان حجة في العربية مع التدين والفضل، له نحو عشرين مصنفًا نافعًا، أشهرها "إصلاح المنطق"، توفي سنة ٢٤٤ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ١٤/ ٢٧٣، و"إنباه الرواة" ٤/ ٥٦، و"نزهة الألباء" ٢/ ١٣٨، و"بغية الوعاة" ٢/ ٥٤٩.
(٣) في "المشوف المعلم": مكاءً. وانظر: "لسان العرب" (مكا) ٧/ ٤٢٥.
(٤) "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" (م ك و) ٢/ ٧٣٠ مختصرًا، وهو كذلك في "تهذيب اللغة" (مكا) ٤/ ٣٤٣٢.
(٥) "تهذيب اللغة"، الموضع السابق.
(٦) المصدر السابق ٤/ ٣٤٣٢ بنحوه
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٨) في "لسان العرب" (فهق) ٦/ ٣٤٨٠: الفهق: اتساع كل شيء ينبع منه ماء أو دم، وطعنة فاهقة: تفهق بالدم.
135
تمكو فريصته كشدق الأعلم (١)
أراد: تصفر فريصته بالدم، قال الأصمعي: قلت لمنتجع بن نبهان (٢): ما تمكو فريصته؟ فشبك أصابعه وجعلها على فمه ونفخ فيها (٣)، وأراد بالأعلم: البعير.
فأما المكاء: فهو (فعال) من مكا إذا صفر، وهو طائر يألف الريف، وجمعه المكاكي (٤). وأما التصدية: فهو التصفيق، يقال: صدّى يصدي تصدية: إذا صفق بيديه، وأصله من الصدى وهو الصوت الذي يرد عليك الجبل، وأنشد ابن قتيبة (٥):
ضنت بخدّ وجلت عن خدّ وأنا من غرو الهوى أصدّي (٦)
أي: أصفق بيدي من عجيب الهوى.
(١) عجز بيت من معلقة عنترة وصدره:
وحليل غانية تركت مجدلًا
وهو في "ديوانه" ص ٢٠٧، و"تفسير الطبري" ٩/ ٢٤٠، و"شرح القصائد السبع الطوال" ص ٣٤٠.
(٢) هو: المنتجع بن نبهان الأعرابي، وهو من بني نبهان من طيِّئ، لغوي أخذ عنه علماء زمانه، وأكثر عنه الأصمعي.
انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص ١٥٧، و"إنباه الرواة" ٣/ ٣٢٣.
(٣) انظر: "شرح القصائد السبع الطوال" ص ٣٤١.
(٤) في (ح): المكائي، وهو خطأ. ففي "الصحاح" (مكا) ٦/ ٢٤٩٥: المكاء: بالمد والتشديد: طائر، والجمع: المكاكي، والمكَاء: مخفف، الصفير.
وفي"لسان العرب" (مكا) ٧/ ٤٢٥: المكَّاء: بالضم والتشديد: طائر في ضرب القنبرة إلا أن في جناحيه بلقًا، سمي بذلك لأنه يجمع يديه ثم يصفر فيها صفيرًا حسنا.
(٥) انظر: "غريب القرآن" ص ١٩٠.
(٦) الرجز لبشار بن برد كما في "ديوانه" ٢/ ٢٢٢، وهو بلا نسبة في "غريب القرآن" =
136
وقال أبو عبيدة: أصلها: تصددة، فأبدلت الياء من الدال، قال ومنه قوله: ﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ [الزخرف: ٥٧] أي: يعجون (١)، وأنكر أبو جعفر الرستمي (٢) هذا القول على أبي عبيدة، وقال: إنما هو من الصدى وهو الصوت، فكيف يكون مضعفًا (٣).
وقال أبو علي: ليس ينبغي أن يقال هذا خطأ؛ لأنه قد ثبت بقوله ﴿يَصُدُّونَ﴾ وقوع هذه الكلمة على الصوت أو ضرب منه، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون (تصدية) منه، فيكون (٤) (تفعلة) من ذلك، وأصله (٥): تَصْددَه، مثل: (التحلة) (٦)، (والتعلّة) (٧). ألا ترى أن أصلهما:
= لابن قتيبة ص ١٩٠، و"زاد المسير" ٣/ ٣٥٣، وقد ترك ابن قتيبة بيتًا بين هذين البيتين ونصه كما في الديوان:
ثم انثنت كالنفس المرتد
وقد تحرف في الديوان قوله: غرو، إلى عرق، واحتار المحققان في توجيهه. والغرو: العجب، وغروت: عجبت، ويقال: لا غرو: أي ليس بعجب، انظر: "الصحاح" (غرا) ٦/ ٢٤٤٦.
(١) انظر: قول أبي عبيدة في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٦٢، ولم يذكره في "مجاز القرآن" ١/ ٢٤٦.
(٢) هو: أحمد بن محمد بن يزديار بن رستم أبو جعفر النحوي الطبري، البغدادي، كان متصدرًا لإقراء النحو، ومؤدبًا لأولاد الوزير ابن الفرات، وصنّف عدة كتب وكان حيًّا عام ٣٠٤ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٥/ ١١٥، و"إنباه الرواة" ١/ ١٦٣، و"بغية الوعاة" ١/ ٣٨٧.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٦٢.
(٤) في المصدر السابق: فتكون.
(٥) في المصدر السابق: أصلها.
(٦) التحلية: ما كفر به اليمين. انظر: "لسان العرب" (حلل) ٢/ ٩٧٥.
(٧) التعلة: ما يتعلل به، ومنه تعلة الصبي أي ما يعلل به ليسكت، المصدر السابق (علل) ٥/ ٣٠٧٩.
137
تحلله وتعلله، فلما قلبت الدال الثانية من (تصدده) تخفيفًا اختلف اللفظان (١)؛ فبطل الإدغام (٢).
قال (٣): ويمكن أن تكون (التصدية) مصدرًا من (صدّ) إذا منع، من قوله (٤):
صددت الكأس عنا أم عمرو
بني الفعل منه على (فعّل) للتكثير على حد: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ﴾ (٥)، والمصدر من (فعّل) على (تفعيل) و (تفْعلة) إلا أن (تفعلة) في هذا كالمرفوض في (٦) مصدر التضعيف كأنهم عدلوا عنه إلى (التفعيل) نحو: التحقيق، والتشديد، والتخفيف، لما يكون فيه من الفصل بين المثلين في الحرف الذي بينهما، كما لم يجعلوا شديدة في النسب، كحنيفة وفريضة، وكما لم يجعلوا شديدًا وشحيحًا كفقيه وعليم في الجمع لما كان يلتقي من (٧) التضعيف، فعدلوا عنه إلى (أفعِلاء) و (أفعِلة) نحو: أشداء وأشحة؛ لما لم يظهر المثلان في ذلك، فلما خرج المصدر على ما هو مرفوع (٨) في هذا النحو أبدل من المثل الثاني الياء، وكأن التصفيق منع من المصفق
(١) في "سر صناعة الإعراب": الحرفان.
(٢) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٦٢.
(٣) يعني أبا علي الفارسي.
(٤) صدر بيت لعمرو بن كلثوم، وعجزه:
وكان الكأس مجراها اليمينا
انظر: "ديوانه" ص ٦٥، و"كتاب سيبويه" ١/ ٢٢٢.
(٥) يوسف: ٢٣.
(٦) في "الحجة": من.
(٧) في "الحجة": في.
(٨) هكذا في جميع النسخ، والصواب: مرفوض، بدلالة قوله السابق إلا أن (تفعلة) في هذا كالمرفوض وكما في"الحجة".
138
للمصفق به [وزجر له] (١)، وفي الحديث: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء" (٢)، هذا كله كلام أبي علي (٣).
واختار الأزهري مذهب أبي عبيدة فقال: صدى: أصله صدد (٤)، فكثرت الدالات فقلبت إحداهن ياء، كما قالوا: قصّيت أظفاري، قال ذلك أبو عبيد (٥)، وابن السكيت (٦)، وغيرهما (٧)، قال: ومثل هذا قوله: ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ [عبس: ٦] أصله: تصدد، من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك (٨). فقد صح إذن مذهب أبي عبيدة في هذا الحرف بموافقة الإمامين أبي عبيد وابن السكيت.
وأما التفسير فقال ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك وقتادة: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق (٩).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٢) رواه البخاري (١٢٠٣، ١٢٠٤) "صحيحه" أبواب العمل في الصلاة، باب: التصفيق للنساء، ومسلم (٤٢٢) "صحيحه" كتاب الصلاة، باب: تسبيح الرجل وتصفيق المرأة.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٤٧ - ١٤٨.
(٤) في "تهذيب اللغة": صد ويصدّد.
(٥) انظر: "لسان العرب" (صدد) ٤/ ٢٤١١.
(٦) انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ص ٥٠٣.
(٧) قال ابن سيده: التصدية: التصفيق والصوت، على تحويل التضعيف، ونظيره: قصيت أظفاري في حروف كثيرة، قال: وقد عمل فيه سيبويه بابًا، وقد ذكر منه يعقوب وأبو عبيد أحرفًا. "لسان العرب" (صدد) ٤/ ٢٤١٠.
(٨) "تهذيب اللغة" (صد) ٢/ ١٩٨٥. وقد تصرف الواحدي بعبارة الأزهري.
(٩) رواه عن المذكورين جميعًا ابن جرير ٩/ ٢٤٠ - ٢٤٣، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٥/ ٦٧٩٦.
139
قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون (١).
وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي - ﷺ - في الطواف ويستهزءون به ويصفرون يخلطون عليه طوافه وصلاته (٢).
وقال مقاتل: كان إذا صلى رسول الله - ﷺ - في المسجد يقومون علي يمينه ويساره بالصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته (٣)، وقال حسان يذكر ذلك ويذمهم به (٤):
إذا قام الملائكة ابتعثتم صلاتكم التصدي والمكاء (٥)
فعلى ما ذكره مجاهد ومقاتل كان التصدية والمكاء إيذاء للنبي - ﷺ -، وعلى قول ابن عباس كان ذلك نوع عبادة لهم، واختار أبو إسحاق هذا [فقال: أعلم الله أنهم كانوا مع صدهم أولياء المسجد الحرام كان تقربهم إلى الله بالصفير والتصفيق (٦)] (٧)، وهذا القول أشبه بظاهر اللفظ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ﴾ وكأنهم جعلوا ذلك صلاة لهم.
قال ابن عرفة (٨) وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن
(١) رواه ابن جرير ٩/ ٢٤١، والثعلبي ٦/ ٥٩ أ، والبغوي ٣/ ٣٥٥.
(٢) رواه الثعلبي ٦/ ٥٩ أ، والبغوي ٣/ ٣٥٥، ورواه بمعناه ابن جرير ٩/ ٢٤٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٩٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ل ١٢١ أ، وقد نقل الواحدي معنى قوله.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) البيت لحسان كما في "لسان العرب" (مكا) ٧/ ٤٢٥١ وليس في "ديوانه".
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٢ مع تصرف يسير.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٨) هو: إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة =
140
الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية] (١) فألزمهم ذلك أعظم الأوزار، وهذا كقولك: زرت عبد الله فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة فاستحق بذلك عيبي ولائمتي، وأنشد أبو بكر:
قلت (٢) أطعمني عُميم تمرًا فكان تمرك كهرة (٣) وزبرًا (٤)
أي: أقام الصياح عليّ مقام إطعامي التمر (٥)، قال (٦): وفيه وجه آخر وهو أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له، كما تقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء، يريد من السخاء عيبه فلا عيب له، وأنشد:
فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد فما يبقي من المال باقيا (٧)
= الأزدي، المعروف بنفطويه، الإمام الحافظ النحوي، كان عالمًا بالحديث والعربية، مبرزًا في الفقه الظاهري، توفي سنة ٣٢٣ هـ.
انظر: "طبقات النحويين واللغويين" ص ١٥٤، و"إنباه الرواة" ١/ ٢١١، و"نزهة الألباء" ص ١٩٤، و"سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٧٥.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) في (ح): (قلت له)، وفي (م): (فقلت).
(٣) في (ح): (نهرة).
(٤) لم أهتد لقائله.
(٥) انظر: قول ابن الأنباري مختصرًا في "تفسير البغوي" ٣/ ٣٥٥.
(٦) يعني ابن الأنباري، انظر: قوله هذا في"زاد المسير" ٣/ ٣٥٤.
(٧) البيت للنابغة الجعدي في رثاء أخيه، انظر: "ديوانه" ص ١٧٣، و"كتاب سيبويه" ١/ ٣٦٧، و"الخزنة" ٣/ ٣٣٤.
141
وقوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، قال ابن عباس والحسن والضحاك وابن جريج وابن إسحاق: يريد عذاب السيف يوم بدر (١)، وقال بعضهم: يقال لهم في الآخرة: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي: بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم، ومُوقِع بكم ما أوقع يوم بدر، قاله ابن إسحاق (٣)، وقال مقاتل: فذوقوا العذاب ببدر بما كنتم تجحدون توحيد الله (٤).
٣٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية، قال سعيد بن جبير (٥)، وابن أبزى (٦)، ومجاهد (٧)، والحكم (٨) بن عتيبة (٩):
(١) ذكره عنهم سوى ابن عباس -رضي الله عنه- الماوردي ٢/ ٣١٦، وانظر قول ابن عباس في: "تنوير المقباس" ص ١٨١، وانظر قول الضحاك وابن جريج في: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٤٤، وقول ابن إسحاق في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٧.
(٢) انظر: "النكت والعيون" للماوردي ٢/ ٣١٦، و"البحر المحيط" ٤/ ٤٩١.
(٣) نص عبارة ابن إسحاق في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٧: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون: أي لما أوقع بهم يوم بدر من القتل.
(٤) "تفسير مقاتل" ل ١٢١ أمع اختلاف يسير.
(٥) رواه ابن جرير ٩/ ٢٤٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٩٧، وابن سعد وعبد بن حميد وأبو الشيخ وابن عساكر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٣٤.
(٦) رواه ابن جرير، الموضع السابق، والثعلبي ٦/ ٥٩ ب.
(٧) رواه ابن جرير ٩/ ٢٤٥، وعبد بن حميد وأبو الشيخ كما في" الدر المنثور" ٤/ ٣٣٤.
(٨) رواه ابن جرير، الموضع السابق، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٩٧، والثعلبي ٦/ ٥٩ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٦.
(٩) في (ح) و (س): (عيينة)، وكذلك في "النكت والعيون" ٢/ ٣١٧، و"تفسير البغوي" ٣/ ٣٥٦، وفي" تفسير الثعلبي" ٦/ ٥٩ ب: عتبة، والصواب: عتيبة كما في "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٤٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٣٤: وهو: الحكم بن عتيبة -مصغر عتبة- أبو محمد الكندي الكوفي تابعي ثقة ثبت فقيه كان صاحب سنة وإتباع، وعبادة وفضل، وهو من كبار أصحاب إبراهيم النخعي، توفي سنة ١١٥ هـ أو قبلها. انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٣٣١، و "تذكرة الحفاظ" ١/ ١١٧، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٢٠٨، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٦٧.
142
نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد - ﷺ - يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من أحابيش كنانة (١). وقال مقاتل (٢) والكلبي (٣): نزلت في المطمعين يوم بدر، وكانوا اثنى عشر رجلاً من كبار قريش (٤).
وقوله تعالى: ﴿لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [إن قيل: لم يعلموا أنها سبيل الله فكيف قيل: ﴿لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾] (٥) قيل: إنهم قصدوا إلى الصد عنها وهي (٦) سبيل الله (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَسَيُنْفِقُونَهَا﴾ أخبر أنهم ينفقون أموالهم، ثم قال: ﴿فَسَيُنْفِقُونَهَا﴾ بمعنى: فسيقع الإنفاق الذي يكون حسرة بذهاب الأموال وفوت المراد، ونصر الله عز وجل المسلمين حتى يغلبوهم.
(١) هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة وعقيل والديش والحيا والمصطلق. انظر: "المحبر" ص ٢٦٧.
(٢) "تفسيره" ل ١٢١ أ، وانظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٠ أ، والبغوي ٣/ ٣٥٦.
(٣) " تفسير الثعلبي"، والبغوي، الموضعين السابقين.
(٤) القول بنزول الآية في المطعمين يوم بدر أولى من القول بنزولها في المنفقين يوم أحد؛ لأن سورة الأنفال تتحدث على وجه العموم عن غزوة بدر، ولقول ابن عباس فيما رواه البخاري في "صحيحه" (٤٦٤٥) لما سئل عن سورة الأنفال، قال: نزلت في بدر اهـ. وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالكفار في كل زمان ينفقون أموالهم ليصدوا عن دين الله، وليطفؤا نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وينصر أولياءه، ويخذل أعداءه.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (س)
(٦) في (س): (وعن).
(٧) يعني أن غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يعلموا أنه =
143
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ خص الكفار ولم يقل: وإلى جهنم يحشرون؛ لأنه كان فيهم من أسلم (١).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ الآية فيها طريقان للمفسرين:
أحدهما: أن المراد بالخبيث والطيب (٢) في هذه الآية: الكافر والمؤمن، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي (٣) ومرة الهمداني (٤)، وعلى هذا (اللام) في قوله: (ليميز) متعلق بقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ أي: إنما يحشرون إليها للميز بين المؤمن والكافر، قال الوالبي عن ابن عباس: ليميز أهل الشقاوة من أهل السعادة (٥)، وقال مُرّة: يميز المؤمن في علمه السابق الذي خلقه حيث (٦) خلقه طيبًا من الكافر الذي خلقه خبيثًا في علمه السابق (٧).
= كذلك، ويمكن أن يقال بأن زعمائهم كانوا يعلمون ذلك كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤].
(١) يعني سيسلم، وعبارة الثعلبي ٦/ ٦٠ أ: خص الكفار لأجل من أسلم منهم.
(٢) ساقط من (س).
(٣) سيذكر المؤلف روايته ورواية مرة.
(٤) هو: مرة بن شراحيل الهمداني أبو إسماعيل الكوفي، المفسر أدرك النبي - ﷺ - ولم يره، كان عالمًا كبير الشآن بصيرًا بالتفسير، توفي سنة ٧٦ هـ أو قريبًا من ذلك.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ١١٦، و"حلية الأولياء" ٤/ ١٦١، و "تذكرة الحفاظ" للذهبي ١/ ٦٧، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٧٤، و"طبقات المفسرين" للداودي ٢/ ٣١٧.
(٥) رواه بنحوه ابن جرير ٩/ ٢٤٦.
(٦) في" تفسير الثعلبي": حين.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ٦٠ أ.
144
وقوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ﴾، قال مرة: يلحق بعضهم ببعض فيجعلهم في جهنم (١). وقوله تعالى: ﴿فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا﴾، قال الليث: الركم: جمعك شيئًا فوق شيء حتى تجعله ركامًا مركومًا كركام الرمل والسحاب ونحو ذلك من الشيء المرتكم بعضه على بعض (٢).
قال المفسرون: ﴿فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا﴾ أي: يجمعه حتى يصير كالسحاب المركوم فيجعله في جهنم (٣).
ووحد الخبر (٤) لتوحيد قوله: ﴿الْخَبِيثَ﴾.
وروى عطاء عن ابن عباس للآية معنى آخر على هذا الطريق وهو أنه قال في قوله: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ يريد أنه أخر أجل هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكل أمة قبل أمة محمد إذا كذبوا نبيهم لم يؤخروا وعذبوا، فجعل الله ميقات هذه الأمة إلى يوم القيامة فقال: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ قال: يريد المؤمن والكافر، يريد أن في أصلاب الكفار مؤمنين، وكذلك يميزون يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)﴾ [يس: ٥٩]، ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ﴾ يريد في جهنم يضيقها عليهم، ﴿فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا﴾ مثل ما يدرج الثوب، يريد: ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ (٥) مثل قوله: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة: ٣٢] كلما يسلك الخرز (٦) في الخيط، يريد يدخل من دبره ويخرج من حلقه
(١) لم أقف عليه.
(٢) في "تهذيب اللغة" (ركم) ٢/ ١٤٦٣، والنص في كتاب "العين" (ركم) ٥/ ٣٦٩
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٠ ب، والبغوي ٤/ ٣٥٦، وبنحوه في" تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٤٦ - ٢٤٧.
(٤) ساقط من (م).
(٥) الرحمن: ٤١، ونصها: فيؤخذ.
(٦) في (ح): (الخرزة).
145
ويجمع بين ناصيته وقدميه (١).
الثاني: أن المراد بالخبيث والطيب: نفقة الكافر على عداوة محمد - ﷺ - ونفقة المؤمن في جهاد المشركين، وهو قول الكلبي وابن زيد، واختيار أبي إسحاق (٢) وابن الأنباري (٣)، قال الكلبي: يعني العمل الخبيث من العمل الطيب فيثيب على الخبيث النار وعلى الطيب الجنة (٤).
وقال ابن زيد: يعني الإنفاق الطيب في سبيل الله من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان، فتجعل نفقاتهم (٥) في قعر جهنم ثم يقال لهم: الحقوا بها (٦).
وقال أبو إسحاق: أي: ليميز ما أنفقه المؤمنون في طاعة الله مما أنفقه المشركون في معصية الله (٧).
قال أبو بكر (٨): فإن قيل على هذا: فأي فائدة في إلقاء أموالهم في جهنم وهي لا تستحق تعذيبًا ولا تجد ألمًا (٩)؟
(١) ظاهر سياق المؤلف أن الكلام السابق من قوله. روى عطاء، إلى هنا من كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- ولم أجد من روى هذا الأثر أو بعضه، وقد سبق بيان أن رواية عطاء عن ابن عباس مفقودة، وهي موضوعة.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤١٢.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ٦٠ أ، والبغوي ٣/ ٣٥٦، وذكره السمرقندي ٢/ ١٧.
(٥) في (ح): (نفاقهم)، وهو خطأ.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ٦٠ أ، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٥٦ دون قوله: فيجعل... إلخ.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٢.
(٨) يعني ابن الأنباري، ولم أقف على قوله هذا.
(٩) في (ح): (إثمًا)، وهو خطأ.
146
فيقال: إن الله تعالى يجعل أموالهم الحرام في النار ليعذبهم بها، ويوصل الآلام إليهم من جهتها كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ٣٥]، وقد ذكر الزجاج هذا بعينه وقال في قوله: ﴿فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ أي: يجعل ما أنفقه المشركون بعضه على بعض ويجعل ذلك عليهم في (١) النار فيعذبون به كما قال الله تعالى: ﴿فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] الآية (٢).
قال أبو بكر: وجواب آخر وهو أن الله تعالى يدخل أموالهم جهنم (٣) لتعززهم بها وافتخارهم بجمعها وأنه لا شيء كان أجلّ عندهم منها، فأراهم هوانها عليه، والحال الدنية التي أصارها إليه، قال: ويكشفه حديث النبي - ﷺ -: "إذا كانت القيامةُ تزيَّنت الدُّنيا بأحسنِ هيئتها وتزخرفت بأجملِ زخارفها وقالت: يا ربِّ هبني لوليٍّ من أوليائك، فيقول الله تعالى: أنت أقل شأنًا عندي من ذلك، ثم يأمر بها إلى النار" (٤) فيرون أنه يفعل ذلك بها ليُري المؤثرين بها قلتها عنده وهوانها عليه.
قال: واللام في قوله: ﴿لِيَمِيزَ﴾ متعلقة بالكلام المتقدم ﴿فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ لكي يمييز الله الخبيث من الطيب (٥).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ يعني الذين كفروا وأنفقوا أموالهم في طاعة الشيطان هم الذين غبنت صفقتهم وخسرت تجارتهم أنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة.
(١) ساقط من (ح).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٣.
(٣) في (س): (إلى جهنم).
(٤) لم أعثر عليه في مظانه من كتب الترغيب والترهيب والموضوعات.
(٥) لم أقف على قول أبي بكر ابن الأنباري هذا.
147
٣٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [قال الكلبي] (١): يعني أبا سفيان وأصحابه (٢).
﴿إِنْ يَنْتَهُوا﴾، قال ابن عباس: يريد عن تكذيبك (٣) وعن الشرك بالله (٤). وقال الكلبي: عن قتال محمد وأصحابه (٥).
﴿يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ سلف: معناه في اللغة: تقدم، يقال: سلف يسلف سلوفًا، وأسلف في الشيء إذا قدم الثمن فيه، والسالفة: العنق لتقدمها على البدن، والسلافة من الخمر: أخلصها؛ لتقدمها بالتحلب من غير عصر (٦)، قال ابن عباس: ما قد سلف: يريد من الزنا والشرك والقتل والربا وكل مكروه (٧).
(١) ساقط من (س).
(٢) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٥٦، عن أبي صالح، عن ابن عباس، ومن الجدير بالتنبيه أن البغوي أفاد في مقدمة "تفسيره" ١/ ٣٦: أن المراد بتفسير الكلبي هو ما رواه عن أبي صالح، عن ابن عباس. قلت: وقد تقدمت ترجمة الكلبي وبينت فيها أنه متروك متهم بالكذب، وقد مرض يومًا فقال لأصحابه: كل شيء حدثتكم عن أبي صالح كذب.
انظر: "الإتقان" ٤/ ٢٣٩، و"التفسير والمفسرون" ١/ ٨١.
(٣) في (ح): (تكذيهم).
(٤) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨١، وذكره بمعناه دون نسبة الماوردي ٢/ ٣١٨، وابن الجوزي ٣/ ٣٥٧.
(٥) رواه الفيروزأبادي في الموضع السابق، بنحوه، عن الكلبي، عن ابن عباس.
(٦) في"تهذيب اللغة" (سلف) ٢/ ١٧٣٦: والسلافة من الخمر. أخلصها وأفضلها، وذلك إذا تحلب من العنب بلا عصر ولا مرث، وكذلك من التمر والزبيب ما لم يعد عليه الماء بعد تحلب أوله.
(٧) الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨١ بنحوه.
148
قال صاحب النظم: قوله: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا﴾ بالياء إنما جاز وحسن لأنه أمره بمخاطبة (١) قوم غيّب فقال: قل لهم ما يكون هذا معناه، ولو كان بالتاء لكان الأمر واقعًا على هذا اللفظ بعينه لأنه يكون حكاية (٢)، وقد ذكرنا مثل هذا في قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٢].
قال العلماء: وهذه الآية كقوله - ﷺ -: "الإسلام يجب ما قبله" (٣)، وإذا أسلم الكافر الحربي لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية، وما كان له (٤) من جناية على نفس أو على مال فهو معفو عنه، وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه (٥)، وما أظرف ما قال يحيى بن معاذ (٦) في هذه الآية: إن
(١) في (ح) و (س): (مخاطبة).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" ٦/ ٣٠٠، ولم ينسبه.
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" ٤/ ١٩٩، ٢٠٤، ٢٠٥ بلفظ: "فإن الإسلام يجب ما كان قبله" ورواه مسلم في "صحيحه" (١٩٢) كتاب الإيمان "باب: كون الإسلام يهدم ما قبله بلفظ: "إن الإسلام يهدم ما كان قبله".
(٤) من (م).
(٥) انظر: كتاب "الأم" للشافعي ٦/ ٥٤، و"شرح صحيح مسلم" للنووي ٢/ ١٣٨، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٤٠٢، وقد ذكر أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٣١٩ الإجماع على ذلك، قلت: ويدل عليه ما رواه مسلم (١٢٠) "صحيحه" كتاب: الإيمان، باب: هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية، عن عبد الله، قال: قلنا: يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية"، وروى أيضًا (١٢١) كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله؛ عن ابن عباس، أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدًا - ﷺ -... إلخ، وذكر الحديث وفيه بيان لعفو الله عنهم.
(٦) هو: يحيى بن معاذ الرازي الواعظ، من كبار العباد، وأئمة الزهاد، له مواعظ مشهورة، وكلمات تجري مجرى الحكم، وكان حكيم زمانه، وواعظ عصره، =
149
توحيدًا لم يعجز عن هدم (١) ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَعُودُوا﴾، قال ابن عباس: يريد: إلى تكذيبك (٣)، وقال الكلبي: ﴿وَإِنْ يَعُودُوا﴾ لقتالك ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾ بنصر الله رسله ومن آمن على من كفر (٤)، وقال قتادة: مضت السنة من الله في الأولين من الأمم بنصر الله الرسل، ومضت السنة مثل ذلك في هذه الأمة يوم بدر (٥)، وهو كقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١] وكقوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٧١] الآيات.
= توفي سنة ٢٥٨ هـ. انظر: "صفة الصفوة" ٤/ ٨٣، و"العبر" ١/ ٣٧١، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ١٥، و"البداية والنهاية" ١١/ ٣١.
(١) في (ح): (حمل)، وهو خطأ فاحش.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٠ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٦، وابن الجوزي ٣/ ٣٥٧. قلت: هذا الرجاء بمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨] فهدم التوحيد لما بعده من ذنب معلق بمشيئة الله، أما الجزم به لكل موحد فهو منقوض بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: ١٢٣]، ومن السنة الأحاديث الدالة على تعذيب الزناة ومانعي الزكاة ونحوهم، وكذلك الأحاديث الدالة على إخراج الموحدين من النار بعد عذاب طويل.
انظر: "معارج القبول" ٢/ ٤٢٢ - ٤٢٥.
(٣) لم أقف عليه، وفي معناه نظر؛ لأن لفظة (يعودوا) تتضمن الرجوع إلى حالة تحوّل عنها الإنسان، وهم لم ينفكوا عن التكذيب والكفر. انظر: "المحرر الوجيز" ٦/ ٣٠٠.
(٤) ذكره باختصار السمرقندي في "تفسيره" ٢/ ١٨، ورواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨١، عن الكلبي، عن ابن عباس.
(٥) رواه بنحوه ابن جرير ١٥/ ٢٤٧ [طبعة الحلبي].
150
وقال السدي وابن إسحاق: ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾ بنصر الله الرسل، والمؤمنين يوم بدر (١).
٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وابن زيد وابن إسحاق: (أي شرك) (٢)، وقال الربيع: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه (٣)، وقال عروة بن الزبير: كان المؤمنون يفتنون عن دين الله في أول ما دعا رسول الله - ﷺ - إلى الإسلام، وآمنت به طائفة فكانت فتنة شديدة، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء، وأمر رسول الله - ﷺ - المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهي: لما بايعت الأنصار رسول الله - ﷺ - بيعة العقبة (٤) توامرت (٥) قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم فأصاب المؤمنين جهد شديد؛ فأنزل الله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ (٦).
(١) لم أجده عنهما بهذا اللفظ. وقد روى ابن جرير ٩/ ٢٤٨ قول السدي بلفظ: فقد مضت سنة الأولين، من أهل بدر، ونص قول ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٨: فقد مضت سنة الأولين، أي من قتل منهم يوم بدر.
ثم إن في عبارة المؤلف قلق، ولعل الصواب: كيوم بدر.
(٢) انظر: أقوال المذكررين سوى ابن إسحاق، في "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٤٨ - ٢٤٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠١، وابن كثير ٢/ ٣٤١، وانظر: قول ابن إسحاق في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٨.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٦١ أ، والبغوي ٣/ ٣٥٧.
(٤) في (س): (يوم العقبة).
(٥) توامرت: لغة غير فصيحة في تآمرت، انظر: "النهاية في غريب الحديث" (أمر) ١/ ٦٦، و"لسان العرب" (أمر) ١/ ١٢٩.
(٦) رواه ابن جرير ٩/ ٢٥٠، وقد ذكر المؤلف قول عروة بمعناه مع تصرف وزيادات.
151
قال الزجاج: أي حتى لا يفتنوا (١) الناس فتنة كفر، ويدل على أن معنى ﴿فِتْنَةٌ﴾: كفر: قوله: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ (٢).
قال أهل المعاني: وإنما كان الكفر فتنة لأنه يخلّص صاحبه بالفساد الذي ظهر منه ممن يجب أن يتولى على ظاهره (٣)؛ إذ أصل الفتنة: تخليص الشيء من غيره، من قولهم: فتنتُ الذهب في النار: إذا خلصته من الغش الذي كان فيه (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾، قال ابن عباس: يريد: الدين الذي أرسلتَ به دينًا حنيفيًا (٥)، وقال الربيع: ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويُخلع ما دونه من الأنداد (٦)، وقال ابن زيد: لا يكون مع دينكم كفر (٧).
(١) في "معاني القرآن وإعرابه": يفتن.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٣.
(٣) يعني أن الكفر يميز ويفصل بين الكافر الذي تحرم موالاته وبين المؤمن أو المنافق الذي يجب أن يتولى على ظاهره، ويوكل باطنه إلى الله تعالى.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) لم أجده بهذا اللفظ، وقد رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨١، بلفظ: حتى لا يبقى إلا دين الإِسلام، ورواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠١، بلفظ: يخلص التوحيد لله عز وجل، ورواه ابن جرير ٩/ ٢٤٨ بلفظ: حتى لا يكون شرك.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ٦١ أ، ورواه ابن جرير ٩/ ٢٤٨ - ٢٤٩ بنصه لكن عن ابن جريج، والنص نفسه مذكور في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٨ قولًا لابن إسحاق، وقد رجح محمود شاكر في تعليقه على رواية ابن جريج أن القول لابن إسحاق وأن في"تفسير ابن جرير" سقطًا ولا دليل على هذا الترجيح إذ لا مانع أن يكون القول لأحد الثلاثة ثم يعتمده غيره فيعتبر قولًا له، وبما أن الرجال الثلاثة كانوا في عصر واحد (توفي الربيع بن أنس عام ١٤٠هـ أو قبلها، وتوفي ابن إسحاق وابن جريج عام ١٥٠ هـ أو بعدها) فإنه يتعذر معرفة السابق بالقول.
(٧) رواه ابن جرير ٩/ ٢٤٩.
152
قال أهل العلم: أمر الله تعالى بالقتال إلى أن يعم الإسلام الدنيا كلها ولا يبقى على وجه الأرض كافر، فتكليف القتال ممدود إلى هذا الميعاد (١)، لقوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣].
(١) انظر: "الأم" ٤/ ٢٤١، و"أحكام القرآن" للشافعي ص ٤٦، و"تفسير أبي الليث السمرقندي" ٢/ ١٨، وهو قول فيه نظر لدلالة الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩]، فجعل تكليف القتال ممدودًا حتى إعطاء الجزية لا الإسلام، وأما السنة فأحاديث أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس، ومنها: ما رواه مسلم في"صحيحه" (١٧٣١) كتاب الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء ضمن وصية رسول الله - ﷺ - لأمراء الجيوش والسرايا، وفيها: ".. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم.... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم"، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. " الحديث: فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية وإلغاء المعاهدة متأخرًا عن هذه الأحاديث.
ثانيها: أن يكون من العام الذي خص منه البعض.
ثالثها: أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله: "أقاتل الناس" أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: "أمرت أن أقاتل المشركين".
رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتال، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة
خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها.
سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام؛ وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن. "فتح الباري" ١/ ٧٧ باختصار وبمثل هذا توجه الآية، والله أعلم.
153
ومنهم من قال: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ يعني في جزيرة العرب لا يعبد غير الله (١).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ققال ابن عباس: يريد: عالم بمن ينتهي، بصير بأعمالهم (٢)، والمراد بالانتهاء هاهنا: عن الشرك، لا عن القتال؛ لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال كان فرضًا على المؤمنين قتالهم (٣).
قال أهل المعاني: فإن انتهوا فإن الله يجازيهم مجازاة البصير بهم (٤)، وبأعمالهم لا يخفى عليه شيء منها (٥)، وقال صاحب النظم: قوله: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ راجع [بالمعنى إلى قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا﴾ ثم اعترض قولٌ سواه فقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ﴾ ثم] (٦) رجع إلى ما قبله فقال: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾، قال ابن عباس: يريد عن الإيمان (٧)، وقال الكلبي: أبوا أن يَدَعُوا الشرك (٨) وقتال محمد (٩).
(١) انظر: "المحرر الوجيز" ٥/ ٣٠٢، و"تفسير الفخر الرازي" ١٥/ ١٦٤.
(٢) رواه بمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨١.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ٩/ ٢٤٨ - ٢٥٠، فقد ذهب إلى هذا القول وردّ على من قال إن المراد الانتهاء عن القتال.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٧) "تنوير المقباس" ص١٨١.
(٨) في (ح): (إلى الشرك)، وهو خطأ يخل بالمعنى.
(٩) لم أقف عليه.
﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ﴾ [قال ابن عباس: يريد ناصركم يا معشر المؤمنين (١)، وقال الزجاج: المعنى: فإن أقاموا على كفرهم وعداوتكم (٢) ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ﴾] (٣) أي: هو الموالي (٤) لكم، ولا تضركم معادتهم (٥).
وهذا تطييب لنفوس المؤمنين عند إعراض الكافرين بأن العاقبة لهم، ودائرة السوء (٦) على عدوهم؛ لأن الله ناصرهم ومعينهم.
٤١ - قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ الآية، الغنم: الفوز بالشيء، يقال: غنم يغنم غنمًا فهو غانم.
والغنيمة في الشريعة: ما أُوجف عليها بالخيل والركاب من أموال المشركين، وأُخذ قسرًا (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ﴾، قال الكسائي والفراء: (فأن) منصوبة مردودة على قوله: ﴿وَاعْلَمُوا﴾ بمنزلة قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ﴾ [الحج: ٤]، وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ﴾ [التوبة: ٦٣] (٨).
واتفق فقهاء الأمة على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين الذين
(١) "تنوير المقباس" ص ١٨١.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه": عداوتهم.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٤) في (ح) و (س): (المولى)، وما أثبته موافق للمصدر.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٣١٤.
(٦) في (ح): (دائر بالسوء).
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" (غنم) ٣/ ٢٧٠٣
(٨) انظر: قول الفراء في كتابه "معانى القرآن" ١/ ٤١١، وقد ذكره المؤلف بمعناه.
155
باشروا القتال، للفارس عند الشافعي ثلاثة أسهم وللراجل سهم (١)، وعند أبي حنيفة وأهل العراق للفارس سهمان وللراجل سهم (٢).
وأما الصبيان والعبيد والنساء وأهل الذمة إن خرجوا بإذن الإمام فلهم الرضخ (٣) على ما يرى الإمام، والصحيح أن الرضخ من رأس الغنيمة (٤).
وهذا الذي ذكرناه لم يتناوله لفظ الآية، غير أنه لا بد من ذكره في معرفة كيفية قسم الغنيمة، والذي ذكر في الآية هو الخمس الباقي؛ لأن الغانمين إذا أخذوا أربعة أخماس بقي خمس واحد.
واختلفوا في هذا الخمس وفي مصرفه، فقوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾،
(١) انظر تفصيل مذهب الإمام الشافعي في: كتاب "الأم" ٤/ ١٩٠، و"حاشية الجمل على شرح المنهج" ٤/ ٩٥، وبمثله قال الإمام أحمد وأكثر أهل العلم كما في "المغني" ١٣/ ٨٥.
(٢) قال السرخسي في "المبسوط"١٠/ ٤٠: إذا قسم الغنيمة ضرب للفارس بسهمين وللراجل بسهم في قول أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- وهو قول أهل العراق، وفي قولهما -يعني أبا يوسف ومحمد بن الحسن- والشافعي -رحمهم الله تعالى- يضرب للفارس بثلاثة أسهم وهو قول أهل الشام وأهل الحجاز. وانظر أيضًا: "بدائع الصنائع" ٩/ ٤٣٦٤.
(٣) الرضخ: العطية أو العطية القليلة.
انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (رضخ) ٢/ ٢٢٨، و"لسان العرب" (رضخ) ٣/ ١٦٥٨، وعرّفه الفقهاء بأنه: ما دون السهم لمن لا سهم له من الغنيمة، انظر: "حاشية الروض المربع" ٤/ ٢٧٨.
(٤) رجح شيخ الإسلام الأنصاري في "شرح المنهج" أن الرضخ يؤخذ من الأخماس الأربعة لا من رأس الغنيمة، انظر: "حاشية الجمل على شرح المنهج" ٤/ ٩٥، وهما قولان للشافعي، ووجهان في مذهب الإمام أحمد، انظر: "المغني" ١٣/ ٩٩.
156
قال الحسن (١)، وقتادة وعطاء وإبراهيم: هذا افتتاح كلام (٢)، قال الزجاج: ومعنى افتتاح كلام: أن الأشياء كلها لله عز وجل فابتدأ وافتتح الكلام بأن قال: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ (٣) كما قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (٤).
(١) المراد هنا وفي الموضعين التاليين: الحسن بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب، كما في "سنن النسائي" كتاب: قسم الفئ، باب: قسم الفيء ٧/ ١٣٣، و"المصنف" لعبد الرزاق ٥/ ٢٣٨، و"المستدرك" للحاكم ٢/ ١٢٨، و "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣، وهو من أئمة التابعين وعلماء أهل البيت، توفي سنة ١٠٠هـ أو قبلها. انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٣٠.
(٢) رواه عنهم ابن أبي حاتم ٥/ ٣٠٩، والثعلبي ٦/ ٦١ ب، والبغوي ٣/ ٣٥٧، ورواه ابن جرير بهذا اللفظ عن الحسن بن محمد بن الحنفية ١٠/ ٣، وهو مراد الواحدي لا الحسن البصري، كما رواه ابن جرير عن البقية بمعناه ١٠/ ٣.
(٣) فسر ابن جرير معنى قول المفسرين: هذا افتتاح كلام بعبارة أوضح من عبارة الزجاج حيث قال عند تفسير قول الله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]: فبدأ -جل ثناؤه- بنفسه، تعظيمًا لنفسه وتنزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدؤا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدبًا خلقه بذلك، واعترض بذكر الله وصفته على ما بينت كما قال جل ثناؤه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ افتتاحًا باسمه الكلام اهـ. " تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣ باختصار، وبه يتبين أن معنى: افتتاح كلام، أي افتتاح الكلام بذكر الله، وابتداء باسمه على سبيل التعظيم والتبرك كالبسملة. وقال الحافظ في "فتح الباري" ٦/ ٢١٨: أجمعوا على أن اللام في قوله تعالى: ﴿لله﴾ للتبرك إلا ما جاء عن أبي العالية.
(٤) الأنفال: ١. وإلى هنا انتهى كلام الزجاج انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٤، وفي النسخة التي اعتمد عليها المحقق خطأ في قوله: بأن قال: (فأن الله) حيث كتبه الناسخ هكذا: فإن قال قائل (فإن لله..) إلخ وظن المحقق أن ذلك شرط وأن =
157
وهذا مذهب الشافعي (١)، وهو رواية الضحاك عن ابن عباس (٢)، ومثله روى عطاء عنه؛ لأنه قال: يريد الخمس الذي لله (٣) هذا مواضعه، يعني من ذكر بعد قوله ﴿لله﴾ (٤) وهؤلاء جعلوا قوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ ترتيبًا لافتتاح الكلام، والمعنى: فأن للرسول خمسه [ولمن ذكر بعده، فجعلوا سهم الله وسهم الرسول واحد.
وقال الربيع وأبو العالية: قوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾] (٥) ليس لافتتاح الكلام، وله معنى صحيح وهو أن رسول الله - ﷺ - كان يضرب يده في هذا الخمس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، وهو الذي يسمى لله (٦)، فعلى قولهما يكون لله تعالى سهم في خمس الغنيمة وهو للكعبة.
= جواب لم يذكر. والصواب ما ذكره الواحدي.
(١) يعني أنه لا يجعل لله نصيباً معينًا. انظر: "الأم" للشافعي ٤/ ٢٠٧، ونصه: (لله) مفتاح كلام، كل شيء له، وله الأمر من قبل ومن بعد.
(٢) رواها ابن جرير ١٠/ ٣، والثعلبي ٦/ ٦١ ب، وفي سند ابن جرير: نهشل بن سعيد بن وردان، متروك وكذّبه إسحاق بن راهويه، كما في"التقريب" ص ٥٦٦ (٧١٩٨).
(٣) اللفظ ساقط من (ح).
(٤) اللفظ ساقط من (ح).
(٥) ساقط من (ح).
(٦) رواه ابن جرير ١٠/ ٤، وأبو عبيد في كتاب "الأموال" ص ٢١، عن أبي العالية، ورواه الثعلبي ٦/ ٦١ ب، عنه أيضًا وعن الربيع بن أنس، وهو حديث مرسل، ورواه ابن المنذر بمعناه عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٣٦، وقد ضعف هذا القول ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ٤، وذكر أنه مخالف لاتفاق أهل العلم.
158
وقوله تعالى: ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾ اختلفوا في سهم الرسول من الخمس قال جماعة من المفسرين منهم إبراهيم (١)، وعطاء (٢)، والحسن (٣)، وقتادة (٤): كان النبي - ﷺ - يحمل سهمه من الخمس ويصنع فيه ما شاء، وكان له خمس الخمس.
وقال ابن عباس: لم يأخذ النبي - ﷺ - من الخمس شيئًا بل جعل سهمه من الخمس لذوي القربى، قال: كان الخمس يقسم على أربعة فربع لله وللرسول ولذوي القربى، فما كان لله وللرسول فهو لذوي القربى (٥).
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٦١ ب، وبمعناه ابن جرير ١٠/ ٣.
(٢) رواه النسائي في "السنن"، كتاب قسم الفيء ٧/ ١٣٢، وابن جرير ١٠/ ٣، والثعلبي ٦/ ٦١ ب.
(٣) هو: ابن محمد بن الحنفية، وقد رواه بنحوه الثعلبي في الموضع السابق، وبمعناه عبد الرزاق في "المصنف" كتاب الجهاد، باب: ذكر الخمس ٥/ ٢٣٨، والنسائي في المصدر السابق، الصفحة التالية، وابن جرير ١٠/ ٧، ولفظهم: فأن لله خمسه وللرسول وذي القربى، قال: هذا مفتاح كلام، ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله - ﷺ -.... إلخ.
(٤) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٤، والثعلبي ٦/ ٦١ ب.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٤، بلفظ مقارب وكذلك الثعلبي ٦/ ٦١ ب، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٣٣٦، أيضًا إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وهو من رواية علي بن أبي طلحة.
أقول: قول ابن عباس هذا مخالف لقول رسول الله - ﷺ -: "يا أيها الناس ليس لي من هذا الفيء مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم". رواه أبو داود (٢٧٥٦) كتاب الجهاد، باب. في الإمام يستأثر بشيء من الفيء، وأحمد ٢/ ١٨٤ فالنبي - ﷺ - لم يخص بسهمه ذوي القربي.
159
ومذهب الشافعي: أن الخمس يقسم على خمسة أسهم: سهم لله ولرسوله يصرف إلى مصالح المسلمين، والأهم السلاح والكراع (١)، قال الزجاج: ويرى الشافعي في سهم رسول الله - ﷺ - أن يصرف في مثل ما كان يصرفه فيه، والذي يروى: أنه كان يصرف الخمس في عدة المسلمين (٢) نحو: اتخاذ السلاح الذي تقوى به شوكتهم (٣).
قوله تعالى: ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾، قال مجاهد: هم بنو هاشم (٤)، وقال الشافعي - رضي الله عنه -: هم بنو هاشم وبنو المطلب خاصة (٥) دون سائر قريش، يقسم
(١) انظر: كتاب "الأم" ٤/ ١٩٦ ولفظه: والذي أختار أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله، من سد ثغر، وإعداد كراع أو سلاح، أو إعطاء أهل البلاء في الإسلام.
(٢) روى البخاري في "صحيحه" (٢٩٠٤) كتاب الجهاد، باب: المجن، ومسلم في "صحيحه" (١٧٥٧) كتاب الجهاد، باب حكم الفيء عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي - ﷺ - خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله.
والكُراع: اسم للخيل أو للسلاح أو لهما كما في "اللسان" (كرع) ٧/ ٣٨٥٨، وروى ابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٣٧ عن ابن عباس قال: كان النبي - ﷺ - يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٤، وقد تصرف الواحدي في العبارة.
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ٦٢ أ، وبنحوه ابن جرير ١٠/ ٦، ولمجاهد رواية أخرى بأن ذوي القربى هم قرابة النبي - ﷺ - الذين لا تحل لهم الصدقة. انظر: "سنن النسائي" ٧/ ١٣٤، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٦، والرواية الأولى مردودة لحديث جبير بن مطعم الآتي.
(٥) ساقط من (ح).
160
سهم خمس الخمس حيث كانوا للذكر مثل حظ الأنثيين (١)، وهم الذين حرمت عليهم الصدقات المفروضات، قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله أغناكم عن أوساخ الناس بهذا الخمس" (٢).
واحتج الشافعي بما روى الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير ابن مطعم (٣) قال: لما قسم رسول الله - ﷺ - سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم والمطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر ضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة (٤)، فقال: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"، ثم شبك رسول الله - ﷺ - إحدى يديه بالأخرى (٥).
(١) انظر: كتاب "الأم" ٤/ ١٩٦، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٢ أ.
(٢) رواه مسلم في "صحيحه" (١٠٧٢) كتاب الزكاة، باب: ترك استعمال آل النبي على الصدقة بلفظ: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس"، ورواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٣٧ بلفظ: "رغبت لكم عن غسالة الأيدي؛ لأن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم".
(٣) هو: جبير بن مطعم بن عدي بن عبد مناف بن قصي، شيخ قريش في زمانه، كان من الطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة وكان موصوفًا بالحلم ونبل الرأي مع الشرف، نوفي سنة ٥٩ هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" ٢/ ٢٢٣ (٢٢٧٤)، و"سير أعلام النبلاء" ٣/ ٩٥، و"الإصابة" (١٠٩١).
(٤) يعني أن عثمان من بني عبد شمس، وجبير من بني نوفل، وعبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب جميعهم بنو عبد مناف. انظر: "السيرة النبوية" ٢/ ٥٩.
(٥) رواه البخاري في "صحيحه" (٣١٤٠) كتاب الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس للإمام مختصرًا، ورواه النسائي في "سننه" كتاب قسم الفيء ٧/ ١٣١، وأحمد في "المسند" ٤/ ٨١ مع اختلاف يسير.
161
وقال بعضهم: هم قريش كلها (١).
واختلفوا في سهم رسول الله - ﷺ - وسهم ذي القربى [بعد موت رسول الله - ﷺ -، وقد ذكرنا مذهب الشافعي فيه، وهو أن سهم الرسول يجعل اليوم في مصالح المسلمين، وسهم ذي القربى] (٢) يقسم بينهم، وقال ابن عباس والحسن: يجعلان في الخيل والسلاح والعدة في سبيل الله (٣)، وكذلك روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: أنهما كانا يجعلان سهم رسول الله - ﷺ - في الكراع والسلاح (٤)، وهذا حجة الشافعي (٥)، وقال أهل العراق -وهو مذهب أبي حنيفة-: سهم الرسول وسهم ذوي القربى مردودان على الخمس،
(١) رواه أبو عبيد في كتاب "الأموال" ص ٤١٨ (٨٥١)، وابن جرير ١٠/ ٦، عن ابن عباس قال: كنا نقول: إنا هم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. وأصل الحديث في "صحيح مسلم" كتاب الجهاد، باب: النساء الغازيات يرضخ لهن، دون قوله (وقالوا: قريش..) إلخ. وقد تفرد برواية هذه الجملة أبو معشر وفيه ضعف كما في "التقريب" ص ٥٥٩ (٧١٠٠)، و"أضواء البيان" ٢/ ٣٦٣، وقد أخذ بهذا الرأي الفقيه أصبغ الأموي كما في "فتح الباري" ٦/ ٣٤٦.
(٢) ساقط من (س).
(٣) رواه عنهما ابن جرير ١٠/ ٦، والثعلبي ٦/ ٦٢ أ، ورواه أيضًا عن الحسن بن محمد، النسائي في "سننه" ٧/ ١٣٣، وعبد الرزاق في "المصنف" ٥/ ٢٣٨، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ١٢٨، وأبو عبيد في كتاب"الأموال" ص ٤١٦ (٨٤٧)، وفي سند أثر ابن عباس نهشل بن سعيد وهو متروك، كما في "التقريب" ص ٥٦٦ (٧١٩٨).
(٤) رواه الشافعي في كتاب "الأم" ٤/ ١٧٨، عن مالك بن أوس، ورواه النسائي في "سننه" ٧/ ١٣٣، كتاب: قسم الفئ، وعبد الرزاق في "المصنف" ٥/ ٢٣٨، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ١٢٨، وابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ٦، عن الحسن بن محمد، ورواه أيضًا ابن جرير ١٠/ ٧، عن ابن عباس بمعناه.
(٥) انظر: كتاب "الأم" ٤/ ١٧٨.
162
والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى والمساكين وابن السبيل (١).
وقول: ﴿وَالْيَتَامَى﴾ (٢): وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم.
﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ (٣)، قال ابن عباس: يريد: المحتاجين وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
وقوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، قال ابن عباس: هو الفقير الضعيف (٤) الذي ينزل بالمسلمين (٥)، وقال عطاء عنه: يريد عابر السبيل (٦).
وقال أهل المعاني: كل من مات أبوه وهو صغير فهو يتيم، ولا يتم بعد البلوغ، وكل ولد يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإنه يتيم من قبل أبيه (٧). وابن السبيل: المنقطع في سفره، وإنما قيل: ابنه، بمعنى (٨) أنه أخرجه إلى هذا المستقر (٩) لَقىً (١٠) محتاجًا كما يخرجه أبوه إلى مستقره من الدنيا لقىً محتاجًا.
(١) انظر: كتاب "المبسوط" ٥/ ٩، ١٠، و"بدائع الصنائع" ٩/ ٤٣٦٢.
(٢) ساقط من (ح).
(٣) في (ح): (واليتامى وابن السبيل)، وهو خطأ.
(٤) هكذا. وانظر: التعليق الآتى.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٦٣ أبهذا اللفظ، ورواه أبو عبيد في كتاب "الأموال" ص ٤٠٨ (٨٣٥)، وابن جرير ١٠/ ٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠٦ بلفظ: الضيف الفقير.. إلخ. وبهذا يتبين أن التصحيف كان في رواية الثعلبي واعتمدها الواحدي.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" (يتم) ٤/ ٣٩٧٣.
(٨) في (ح): (لمعنى).
(٩) في (ح): (السفر).
(١٠) في "مجمل اللغة" (لقى) ٣/ ٨١١: اللَّقى: الشيء الملقى الطريح، وفي "لسان العرب" (لقا) ٧/ ٤٠٦٦: اللقى: كل شيء مطروح متروك.
163
والمسكين (١): المحتاج الذي من شأنه أن تسكنه الحاجة عما ينهض به الغني.
ومذهب الشافعي -رضي الله عنه- في القسم بين (٢) هؤلاء، قال أبو إسحاق: لا يرى الشافعي أن يترك صنفًا من هذه الأصناف بغير (٣) حظ في القسمة، ويرى أن يفضل بعضهم على بعض على قدر الحاجة (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾، قال أبو إسحاق: يجوز أن تكون (إنْ) معلقة بقوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ﴾ أي: أيقنوا أن الله ناصركم (٥) إذ كنتم قد شاهدتم من نصره ما شاهدتم (٦)، قال: ويجوز أن يكون المعنى (٧): ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ يأمران فيه بما يريدان ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾ أي: فاقبلوا ما أمرتم به في الغنيمة (٨).
(١) ساقط من (م).
(٢) في (ح): (عن).
(٣) في (ح): (لغير).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٤، وانظر: كتاب "الأم" ٤/ ١٩٦.
(٥) في "معاني القرآن": نصركم.
(٦) اختصر الواحدي عبارة الزجاج فخفي المعنى، ونص عبارته: يجوز أن تكون (إن كنتم) معلقة بقوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾، ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ فأيقنوا أن الله نصركم إذ كنتم قد شاهدتم من نصره ما شاهدتم. "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٦، والمعنى: اعلموا أن الله مولاكم وناصركم إن كنتم آمنتم به وبما أنزل على عبده.
(٧) نص عبارة الزجاج: ويجوز أن يكون: (إن كنتم آمنتم باللهِ) معناها: أعلموا.. إلخ.
(٨) المصدر السابق ٢/ ٤١٦، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه المناسب للسياق الموافق لغرض الآية وهدفها، بل قال ابن عطية ٦/ ٣١٣: هذا هو الصحيح.
164
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا﴾ يعني الملائكة الذين نصر بهم النبي - ﷺ - يوم بدر في معنى قول الزجاج (١)، وفي معنى قول مقاتل (٢): يعني ما أنزل عليه في شأن الغنيمة يوم بدر، وهو قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ [الأنفال: ١] الآية؛ لأنه قال: يريد إن كنتم آمنتم بالله فأقرّوا بحكمي وما أنزلت على النبي في الغنيمة يوم الفرقان.
والذي أنزل عليه يوم الفرقان قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾، ويجوز أن يكون المعنيّ (٣) بالإنزال هذه الآية.
وقوله تعالى: ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾، قال ابن عباس: يريد النبي - ﷺ - ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾: يريد اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل وهو يوم بدر (٤).
وقال الزجاج: لأن الله أظهر فيه من نصره بإرداف الملائكة والإمداد بهم المسلمين (٥) ما كان فيه فرقان بين الحق والباطل (٦).
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾، قال ابن عباس: يريد حزب الله
(١) لم أجد في كلام الزجاج ما يمكن أن يفهم منه ما ذكره المؤلف إلا قوله: وقوله جل وعز: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾: هو يوم بدر؛ لأن الله عز وجل أظهر فيه من نصره بإرداف الملائكة، والإمداد بهم للمسلمين ما كان فيه فرقان بين الحق والباطل. "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٦، ولم يرد للملائكة ذكر في "تفسير الزجاج" لقوله تعالى ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ وقد سبق ذكره في التعليق على قول الزجاج الأسبق.
(٢) يعني ابن حيان، وقد روى قوله ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠٦، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٣٩.
(٣) في (س): (الغنيمة)، وهو خطأ.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٨٢ بنحوه.
(٥) في "معاني القرآن وإعرابه": للمسلمين.
(٦) المصدر السابق: ٢/ ٤١٦.
165
وحزب الشيطان (١)، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، قال: يريد: قدير على نصركم وأنتم أقلة (٢) وأذلة (٣).
٤٢ - قوله تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ يجوز أن تتعلق (إذ) بمضمر معناه: واذكروا إذ أنتم، كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: ٢٦]، فأضمر هاهنا، ويجوز أن تتعلق بالمصدر الذي هو (الفرقان) في قوله: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ المعنى: يوم فرق الله بين الحق والباطل إذ أنتم بهذا الموضع.
وأما العدوة: فقال ابن السكيت: عِدوة الوادي وعُدوته: جانبه والجمع عِدىً وعُدَى (٤)، وقال الليث: العُدوة: صلابة من شاطئ الوادي ويقال: عِدوة (٥).
وقرئ باللغتين جميعًا (٦).
قال الأخفش: الكسر كلام العرب، لم يسمع منهم غير ذلك (٧)، قال أحمد بن يحيى: الضم في العُدوة أكثر اللغتين (٨).
(١) "تنوير المقباس" ص ١٨٢ بمعناه
(٢) في (ج): (قلة).
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٨٢ بمعناه
(٤) "تهذيب إصلاح المنطق" ص ٢٩٥، و"تهذيب اللغة" (عدا) ٣/ ٢٣٤٨.
(٥) "تهذيب اللغة" (عدا) ٣/ ٢٣٤٨، والنص في كتاب "العين" (عدو) ٢/ ٢١٦.
(٦) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين، والباقون بضمها. انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٦، و"تحبير التيسير" ص ١١٨.
(٧) "الحجة" ٤/ ١٢٩، و"تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٣٦١، والفخر الرازي ١٥/ ١٦٧، وأبي حيان ٤/ ٤٩٩، وهو مخالف لقوله في "معاني القرآن" ١/ ٣٥٠، فقد ذكر اللغتين ورجح القراءة بالضم.
(٨) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٦١، ولم أجده في "فصيح ثعلب".
166
و ﴿الدُّنْيَا﴾: تأنيث الأدنى، وضده القصوى، وهو تأنيث الأقصى، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصى يقصو (١) قصوًّا، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى.
وأما الكلام في اختلاف (الدنيا) و (القصوى) بالياء والواو وهما من باب واحد، فقال الحراني عن ابن السكيت: ما كان من النعوت مثل العليا والدنيا فإنه يأتي بضم أوله وبالياء؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضمة أوله، وليس (٢) فيه اختلاف إلا أن أهل الحجاز قالوا: القصوى، فأظهروا الواو -وهو نادر- أخرجوه على القياس إذ سكن ما قبل الواو، وتميم وغيرهم يقولون: القصيا (٣)، ونحو هذا حكى الليث عن الخليل فقال: كل شيء جاء على (فعلى) من بنات (٤) الواو فإن العرب تحوله إلى الياء نحو: الدنيا من دنوت، وأشباه ذلك غير القصوى، ويقال: القصيا لغة فيه، وجاءت: الفتوى لغة في الفتيا (٥) لأهل المدينة خاصة (٦).
(١) في (ح): (يقصى)، والصواب ما أثبته، إذ في كتب اللغة: كل شيء تنحى عن شيء فقد قصى يقصو قصوًا.
انظر: كتاب "العين" (قصو) ٥/ ١٨٧، و"تهذيب اللغة" (قصا) ٣/ ٢٩٦٩، و"لسان العرب" (قصا) ٦/ ٣٦٥٧، أما الفعل (يقصى) فهو مضارع (قصي) بالكسر يقال: قصي فلان عن جوارنا يقصى قصًا، أي: بعد، انظر: "لسان العرب" (قص) ٦/ ٣٦٠٨.
(٢) في "تهذيب اللغة": فليس.
(٣) "تهذيب اللغة" (قصا) ٣/ ٢٩٦٩. وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ص ٣٤٦.
(٤) يعني: ذوات، كما في "اللسان" ٦/ ٣٦٥٧، مادة (قصا).
(٥) في كتاب "العين": الفتيا لغة في الفتوى.
(٦) كتاب "العين" (قصو) ٥/ ١٨٧، وقد تصرف الواحدي بعبارة الخليل بالحذف والزيادة.
167
قال المفسرون جميعًا: إذ أنتم نزولٌ بشفير (١) الوادي الأدنى إلى المدينة وعدوكم نزولٌ بشفير الوادي الأقصى إلى مكة (٢).
وكان الجمعان قد نزلا الوادي الذي ببدر على هذه الصفة قد اكتنفا شفيريه.
قال أهل المعاني: معنى (٣) الآية: اذكروا إذ كنتم بشط الوادي الأقرب (٤) إلى المدينة وهم بالشط الأبعد منها، وهذا كان من لطيف صنع الله لهم؛ لأن الرجل كلما كان أقرب من داره كان أربط لجأشه (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾، قال ابن السكيت: الركب أصحاب الإبل، وهم العشرة فما فوقها (٦).
ويقال: سفل يسفل سفاله وسفلًا فهو سافل، نقيض علا يعلو، قال المفسرون: يعني أبا سفيان وأصحابه وهم العير التي خرجوا ليأخذوها، كانت في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر (٧).
قال أبو إسحاق: الوجه أن تنصب (أسفل) -وعليه القراءة- أراد: مكانًا أسفل، ويجوز الرفع على أن تريد: والركب (٨) أشد
(١) أي: حده وحرفه، انظر: "مقاييس اللغة" (شفر) ٣/ ٢٠٠.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٠، والثعلبي ٦/ ٦٣ أ، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٤١.
(٣) ساقط من (ح).
(٤) ساقط من (ح).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" (رك ب) ١/ ٣٠٩، والنص باختصار في "تهذيب إصلاح المنطق" ص ١١٤.
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٠، والثعلبي ٦/ ٦٣ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٣.
(٨) ساقط من (ح).
168
تسفلًا (١)، ونحو هذا قال الفراء سواء (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾، قال ابن إسحاق: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج رسول الله - ﷺ - وأصحابه ليأخذوها، وخرجت قريش تمنعه، فالتقوا ببدر ولم يشعروا (٣)، فقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ لكثرتهم وقلتكم، يعني: لو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخرتم وفنقضتم الميعاد، هذا معنى قول المفسرين (٤).
وقيل: لو تواعدتم من غير لطف الله لكم لاختلفتم بالعوائق والقواطع (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ في الكلام حذف واختصار يدل عليه الفحوى، تقديره: ولكن جمعكم الله من غير ميعاد: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ وإن شئت أخرت المقدر فقلت: ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ جمعكم من غير ميعاد، قال ابن
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٧ مع التقديم والتأخير والحذف.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤١١.
(٣) في "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٩، كلام يشبه هذا من حيث المعنى، ثم تبين لي أن ابن إسحاق هذا ليس صاحب السيرة بل هو عمير بن إسحاق أبو محمد مولى بني هاشم، تابعي متكلم فيه، لينه ابن معين، وقال الحافظ ابن حجر: مقبول.
انظر: "الكاشف" ٢/ ٩٦ (٤٢٨٢)، و"التقريب" ص ٤٣١ (٥١٧٩)، وأثره هذا رواه ابن جرير ٧/ ١١ بلفظ مقارب.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١١، والثعلبي ٦/ ٦٣ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٣، وابن الجوزي ٣/ ٣٦٢.
(٥) هذا قول أحمد بن عمار المهدوي المفسر، انظر. "المحرر الوجيز" ٦/ ٣١٩، وقد ذكر هذا القول أيضًا الماوردي ٢/ ٣٢٢ دون نسبة.
169
عباس: يريد: ليتم الله لنبيه وللمؤمنين موعده؛ ليقر عين نبيه وأعين المؤمنين (١)، وقال أهل المعاني: ليفصل (٢) الله أمرًا كان مفعولًا في علمه وحكمه من عز الإِسلام وعلو أهله على عبدة الأوثان بتدبيره ولطفه (٣).
قوله تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ فهذه اللام مكررة على اللام في قوله: ﴿لِيَقْضِيَ﴾ المعنى: ولكن فعل ذلك ليهلك، وأكثر أهل العلم على أن المراد بالهلاك هاهنا: الكفر والضلال، وبالحياة: الاهتداء والإسلام (٤).
قال محمد بن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على مثل ذلك (٥)، وقال قتادة: ليضل من ضل عن بينة، ويهتدي (٦) من اهتدى على بينة (٧)، قال الزجاج: جعل الله عز وجل المقاصد للحق بمنزلة الحي، وجعل الضال بمنزلة الهالك (٨).
(١) "تنوير المقباس" ص ١٨٢ بمعناه.
(٢) في (ح): (ليقضي).
(٣) ذكر معنى هذا القول أبو الليث السمرقندي ٣/ ٣٤١، وابن عطية ٦/ ٣٢٠، وأبو حيان ٤/ ٥٠١، ولم أجده عند أهل المعاني.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ١٥٩، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٥/ ١٧٠٨، والسمرقندي ٢/ ١٩، وابن عطية ٦/ ٣٢١، وابن كثير ٢/ ٣٢٨، وقد ذهب ابن جرير إلى أن المعنى: ليموت من مات عن حجة ويعيش من عاش عن حجة.
(٥) "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٩ مع اختلاف يسير.
(٦) في (ح): (يهدى)، وهو كذلك في "تفسير البغوي"، وما أثبته موافق لـ"تفسير الثعلبي" وهو أولى لأن الكلمة تفسير لقوله تعالى: ﴿يَحْيَى﴾ ولموافقته لقول قتادة: من اهتدى.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ٦٣ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٣.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٨.
170
وذهب آخرون إلى أن معنى الهلاك هاهنا: الموت (١)، وقال (٢): وأفعل ما فعلت يوم بدر ليكون موت من يموت على بينة رآها وحجة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى؛ لما سبق من وعده ببعثة الرسول قبل العذاب في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥].
وقوله تعالى: ﴿وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ﴾ قرئ بيائين، وقرئ بياء واحدة مشددة (حيّ) (٣)، قال أبو إسحاق: أما من أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد، وأما من أظهر فلأن الحرف الثاني ينتقل من (٤) لفظ الياء تقول: حيي يحيى والمحيا، فعلى هذا يجوز الإظهار (٥)، هذا كلامه وشرحه أبو علي فقال: من أدغم فلأن الياء قد لزمتها الحركة، فصار (٦) بلزوم الحركة له مشابهًا للصحيح، ألا ترى أن من حذف الياء من (جوار) في الجر والرفع لم (٧) يحذفها إذا تحركت بالفتح لمشابهتها بالحركة سائر
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٢، والماوردي ٢/ ٣٢٢، وابن الجوزي ٣/ ٣٦٣، والبغوي ٣/ ٣٦٣.
(٢) هذا قول الثعلبي، انظر: "تفسيره" ٦/ ٦٣ ب.
(٣) قرأ نافع وأبو بكر، عن عاصم والبزي، عن ابن كثير بالفك وعدم التشديد، وقرأ باقي السبعة بالإدغام والنطق بياء واحدة مشددة انظر "إرشاد المبتدي" ص ٣٤٧، و"تحبير التيسير" ص ١١٨، و"الوافي في شرح الشاطبية" ص٢٨٠.
(٤) في "معاني القرآن وإعرابه": عن.
(٥) المصدر السابق ٢/ ٤١٨.
(٦) يعني الحرف، ولذا ذكّره وهو كذلك في بعض نسخ "الحجة للقراء السبعة"، وجاء في بعضها: فصارت، بالتأنيث، وكذا في موضعين بعده، ونصه: فصارت بلزوم الحركة لها مشابهة... إلخ. وهذا ما اختاره المحققان للحجة.
(٧) ساقط من (ح).
171
الحروف الصحيحة، وقالوا في الوقف: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ [القيامة: ٢٦] فلم تحذف كما حذفت الياء من قوله: ﴿الْكَبِيرُ الْمُتَعَال﴾ [الرعد: ٩] وهذا يدلك على أنها بالحركة قد صارت في حكم الصحيح، وإذا صار كذلك جاز الإدغام فيها كما جاز في الصحيح، وعلى هذا جاء ما أنشد من قوله (١):
عَيُّوا بأمرهم كما... عيّت ببيضتها الحمامه
وقال المتلبس (٢):
فهذا أوان العرض حي ذبابة... زنابيره والأزرق المتلمس (٣)
(١) البيت لعبيد بن الأبرص كما في "ديوانه" ص ١٣٨، و"أدب الكاتب" ص ٥٤، و"الحيوان" ٣/ ١٨٩، و"شرح أبيات سيبويه" ٢/ ٤٣٠، و"لسان العرب" (حيا) ٢/ ١٠٨٠.
(٢) هو: جرير بن عبد العزى -أو عبد المسيح- من بني ضبيعة من ربيعة، شاعر جاهلي من أهل البحرين، وهو خال طرفة بن العبد، صاحب المعلقة وكان ينادم ملك العراق عمرو بن هند ويمدحه ثم هجاه فأراد عمرو قتله ففر إلى الشام، وتوفي نحو سنة ٥٠ ق هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٩٩، و"الأعلام" ٢/ ١١٩.
(٣) البيت في "ديوانه" ص ١٢٣، وانظر: "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ٢/ ٦٢٢، و"المعاني الكبير" ٢/ ٤٠٦.
قال المرزوقي في الموضع السابق: يروى (جُنّ ذبابه) أي كثر ونشط، والعرض: واد من أودية اليمامة، وكأنه قال: وهذا الذي ذكرت هو في هذا الأوان، وقوله (حيّ ذبابه) أي عاش بالخصب فيه، وزنابيره يرتفع على أنه بدل من الذباب، وذباب الروض قد تسمى زنابير وقوله (والأزرق) إشارة إلى جنس آخر غير الأول، وهو ما كان أخضر ضخمًا، والمتلمس: الطالب اهـ. باختصار.
172
فجعلوا هذه الأشياء في الإدغام بمنزلة: شموا وعضوا وعبرة هذا: أن [كل موضع لزمت الحركة الياء الأخيرة التي هي لام جاز الإدغام فيه] (١)، فأما قوله: ﴿عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: ٤٠]، فلا يجوز فيه الإدغام؛ لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم مع الرفع، وإذا لم تلزم لم يجز الاعتداد بها، كأشياء (٢) لم يعتد بها لما لم تلزم، نحو الضمة في: هذه فَخِذٌ، وإن لم يكن في الكلام ضمة قبلها (٣) كسرة لما كانت غير لازمة، وهذا النحو كثير، [وإنما شرطنا لزوم الحركة في المدغم فيه لأن المتحرك لا يدغم في الساكن؛ وذلك أن (٤) المتحرك أقوى من الساكن، ولا يدغم الأقوى في الأضعف، إنما يدغم الأضعف في الأقوى] (٥).
وأما من أظهر فقال: (حيي) ولم يدغم فلأن حركة اللام في (حيي) تزول لاتصالها بالضمير إذا قلت: حَيِيت، فصار زوال الحركة عن اللام في هذا البناء بمنزلة زوال حركة النصب عن المعرب لحدوث إعراب آخر فيه، ويقوي البيان في هذا ما حكاه يونس عن العرب: أحيياء، وأحييه وفي جمع حي، فبينوا، مع أن الحركة غير مفارقة، فإذا لم يدغموا ما لم تفارقه
(١) ما بين المعقوفين نصه في "الحجة" هكذا: كل موضع يلزم ياء يخشى فيه الحركة، جاز الإدغام في اللام من حيي اهـ، ولم يظهر لي معناه، وقد نقل ابن عطية هذا القول بلفظ مغاير أيضًا ونصه: قال أبو علي: وعبرة هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز. "المحرر الوجيز" ٦/ ٣٢٣.
(٢) في (ح): (شيئًا).
(٣) في (س): (ما قبلها).
(٤) ساقط من (ح).
(٥) ما بين المعقوفين ليس من كلام أبي علي في "الحجة" كالكلام السابق واللاحق له، بل ذكره أبو علي في كتابه "الإغفال" ص ٨٢٧، وقد ذكره الواحدي بمعناه.
173
الحركة فلأن لا يدغموا ما تفارقه الحركة كان (١) أولى (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: يريد: سميع لدعائكم وابتهالكم وتضرعكم، عليم بنياتكم وحبكم لربكم ونصرتكم لنبيكم وطاعتكم لله (٣).
٤٣ - قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾، قال مجاهد: أرى الله (٤) النبي - ﷺ - كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، وكان ذلك تثبيتًا (٥) لهم (٦)؛ لأنهم اجترؤا بذلك على حرب عدوهم، وهذا قول الكلبي (٧) ومقاتل (٨) وأكثر أهل التفسير قالوا: قوله: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ يعني رؤيا النوم (٩).
قال محمد بن إسحاق: وكان ما أراه من ذلك نعمة عليهم؛ لأنه شجعهم بها على عدوهم (١٠).
(١) ساقط من (ح) و (س).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٤٠ - ١٤٣، مع تصرف كثير بالحذف والزيادة والتقديم والتأخير.
(٣) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٢ مختصراً.
(٤) في (ح): (أري النبي).
(٥) في (ح): (تثبيت).
(٦) رواه ابن جرير ١٠/ ١٢، وعبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٦٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠٩.
(٧) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٦٢، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهو سند الكلبي المعروف.
(٨) انظر: "تفسيره" ل ١٢١ أ.
(٩) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٢، والسمرقندي ٢/ ٢٠، والثعلبي ٦/ ٦٤ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٤، والماوردي ٢/ ٣٢٣، ونسبه للجمهور.
(١٠) "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٩.
174
وكانت، تلك الرؤيا بشارة له وللمؤمنين بالغلبة. قال أهل المعاني: وإنما جاز أن يريه الله الشيء في النوم على خلاف ما هو لأن الرؤيا تخيّل للمعنى من غير قطع عليه، وإن جاء معه قطع من الإنسان (١).
وروي عن الحسن وابن جريج أنهما ذهبا إلى أن هذه الإراءة كانت في اليقظة، وقالا: المراد بالمنام هاهنا: العين التي هي موضع النوم (٢).
قال أبو إسحاق: وكثير من أصحاب النحو يذهبون إلى هذا المذهب، ومعناه عندهم: إذ يريكم الله في موضع منامك أي: بعينك ثم حذف الموضع وأقام المنام مقامه (٣).
(١) يعني أن الرؤيا رمز وإشارة للمعنى، وتحتاج إلى تأويل، وقد يقطع الإنسان ويجزم بتأويلها ولكن هذا لا يغير من حقيقتها شيئًا، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٥/ ١٧٠٩: يحتمل أنه رآهم قليلاً عددهم، فكان تأويل رؤياه انهزامهم اهـ.
وأقول: يستدرك على ما ذكره المؤلف عن أهل المعاني الذي لم أقف على مصدره أن رؤيا الأنبياء حق ويقطع على معناها.
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٧٠٩، عن الحسن وفي سنده سهل السراج، قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" ١/ ٢٥ (٢٦٦٣): صدوق له أفراد، كان القطان لا يرضاه، ورواه البغوي ٣/ ٣٦٣، وفي سنده عمرو بن عبيد المعتزلي، قال الحافظ في "التقريب" ص ٤٢٤ (٥٠٧١): كان داعية إلى بدعة، اتهمه جماعة، وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٤٨ قول الحسن هذا ثم عقبه بقوله: هذا القول غريب اهـ. وقال الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٦١: هذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته اهـ. ولم أجد من ذكره عن ابن جريج.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤١٩، وهو أحد قولي أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٤٧، وإليه ذهب المازني والنقاش كما في "المحرر الوجيز" ٦/ ٣٢٥، وهو قول ضعيف من وجوه: =
175
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا﴾ أي: لو أراك الله يا محمد القوم كثيرا في اليقظة -على قول الحسن-، أو في المنام -على قول الباقين- فأخبرت بذلك أصحابك لجبنوا ولم يقدموا على الحرب؛ وذلك قوله: ﴿لَفَشِلْتُمْ﴾، قال أبو إسحاق: لتأخرتم عن حربهم وكِعْتم (١) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ معنى التنازع في الأمر: الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه، وهذا ما سبق بيانه (٣)، يقول: لاضطرب أمركم، واختلفت كلمتكم، قال الكلبي: واختلفتم فيما بينكم (٤).
وقال ابن عباس: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ يا محمد ﴿فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ لتحتقرهم وتجترئ عليهم ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ﴾ ولكن هذه منتي عليك وعلى المؤمنين حيث أراكهم الله قليلًا، ولم يكن منهم
١ - أن في الآية تصريح بالمنام، وحمله على العين التي بها المنام عدول عن الظاهر بلا دليل، انظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٣٤٨.
٢ - أنه تعالى صرح في الآية التالية برؤية العين فقال: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا﴾ فعلى هذا القول تكون الآيتان بمعنى واحد، إذ أن النبي - ﷺ - مخاطب في هذه الآية، والأصل عدم التكرار.
٣ - أنه مخالف لما رواه مجاهد أن النبي - ﷺ - رآهم في منامه قليلاً فأخبر النبي - ﷺ - بذلك. رواه ابن جرير ١٠/ ١٢، وهذا الحديث وإن كان مرسلًا لكن يعضده موافقته لظاهر الآية، وعلى الأقل هو تفسير ثابت عن مجاهد.
(١) أي جبنتم، يقال: كعت عن الشيء أكيع وأكاع لغة في كععت: إذا هبته وجبنت عنه. انظر: "لسان العرب" (كوع) ٧/ ٣٩٥٦.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٣١٩.
(٣) انظر: تفسير آل عمران: ١٥٢، النساء: ٥٩.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٨٢، عن الكلبي، عن ابن عباس.
176
فشل ولا منازعة (١) يريد الاختلاف
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾، قال ابن عباس: يريد: عصمكم (٢) كأنه يريد: سلمكم من المخالفة فيما بينكم، وقال ابن عباس أيضًا: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم (٣).
[وقال أبو روق: سلم: أتم أمرهم بالظفر على عدوهم (٤)] (٥).
وقال الكلبي: ولكن الله سلمكم من الهزيمة يوم بدر (٦).
والأظهر أن المعنى: ولكن الله سلمكم من التنازع والفشل على ما حكينا عن ابن عباس أولاً.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، قال ابن عباس: علم ما في صدوركم من اليقين والحب لله والطاعة لرسوله (٧)، قال الكلبي: أي لما في صدور المؤمنين من أمر عدوهم (٨).
٤٤ - وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ﴾ إن قلنا في الآية الأولى إنه أراهم النبي - ﷺ - في المنام فهذه الثانية كررت لأنها في اليقظة، وإن قلنا أن
(١) ذكره مختصرًا المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٦٣، وانظر بعض معناه في: "تنوير المقباس" ص ٤٨٢.
(٢) رواه بمعناه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠٩، وذكره كذلك القرطبي ٨/ ٢٢.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣، والثعلبي ٦/ ٦٤ أ، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠٩.
(٤) رواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٠ مختصرًا عن أبي روق، عن ابن عباس، وذكره القرطبي ٨/ ٢٢ ولم يعين القائل.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٦) لم أقف عليه.
(٧) رواه البغوي ٣/ ٣٦٣ مختصراً.
(٨) رواه بمعناه مختصراً الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٢، عن الكلبي، عن ابن عباس.
177
الأولى كانت في اليقظة على ما حكينا عن ابن جريج والحسن، فهذه الثانية كررت لأن النبي - ﷺ - أفرد في الأولى بالذكر وعمم هو وأصحابه في هذه، وهذا الذي ذكرنا معنى قول ابن الأنباري وأبي إسحاق (١).
قال أبو إسحاق: هذه رؤية الإلتقاء، وتلك رؤية النوم، وعلى مذهب الحسن: الأول خطاب للنبي - ﷺ - والثاني خطاب له ولجميع من شاهد الحرب (٢).
وقوله تعالى: ﴿فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا﴾، قال مقاتل: لما التقوا ببدر قلّل الله المشركين في أعين المؤمنين تصديقًا لرؤيا رسوله (٣).
وقال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً (٤) فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا! (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾، قال ابن عباس: ليجترؤا عليكم ولا ينهزموا ولا يرجعوا عن قتالكم (٦)، كما قال أبو جهل ذلك اليوم: إنما محمد وأصحابه أكلة جزور (٧)، خذوهم أخذًا واربطوهم
(١) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" لأبي إسحاق الزجاج ٢/ ٤١٩، ولم أقف على قول ابن الأنباري.
(٢) المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة، وقد تصرف الواحدي في النص المنقول.
(٣) "تفسير مقاتل" ل ١٢٢ أ.
(٤) في (م): (رجلاً منهم).
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ١٣، وابن أبي شيبة في "المصنف" ١٤/ ٣٧٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٠.
(٦) روى نحوه مختصرًا الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٢، وسنده واهٍ، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٤٦٣.
(٧) يعني الناقة الواحدة تكفيهم طعامًا لقلتهم.
178
بالحبال (١)، قال الكلبي: استقل المؤمنون المشركين والمشركون المؤمنين ليجترئ بعضهم على بعض (٢).
قال أبو بكر بن الأنباري: إنه قلل المؤمنين في عيون الكافرين ليغتروا بقتلهم فلا يتأهبوا لملاقاتهم ولا يلبسوا من السلاح ما يمنعهم، فإذا لابسهم المسلمون ألفوهم غير مستعدين فظفروا بهم (٣)، وقيل: إنه قللهم في أعينهم ليحملوا عليهم من غير جبن فيغلبهم المسلمون في قلة عددهم عندهم فيكون ذلك آية للمشركين، ومنبهًا لهم على نفاذة قدرة الله تعالى (٤).
فإن قيل: ما المعنى الذي به قللوا في أعينهم مع رؤيتهم لهم؟ قيل: لطف من ألطاف الله تعالى صدهم به عن رؤية الجميع بحيث ستر بعضهم دون بعض (٥).
وقال بعض المفسرين: تقليل المسلمين في أعين المشركين كان في أول الأمر فلما نشب القتال وحمي الوطيس (٦) كثُر المسلمون في أعينهم (٧)،
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ١٤، عن السدي، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" ١٤/ ٣٦١، عن عكرمة.
(٢) رواه الثعلبي ٦/ ٦٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٤، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٥٦٤، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
(٣) لم أقف عليه، وقد ذكره بلا نسبة ابن الجوزي ٣/ ٣٦٤.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٦٤.
(٥) ذهب الزمخشري أيضًا إلى هذا التعليل، انظر: "الكشاف" ٢/ ١٦١، ولا داعي له، إذ لا شك في قدرة الله على تقليلهم بغير هذا السبب.
(٦) الوطيس: كلمة تطلق على المعركة والتنور والحجارة المدورة والضراب في الحرب ووطء الخيل والإبل، وقولهم: حمي الوطيس. عبارة عن اشتباك الحرب وشدتها وقيامها على ساق. انظر: "لسان العرب" (وطس) ١/ ٤٨٦٦.
(٧) ذكر معنى ذلك الزمخشري ٢/ ١٦١، وابن كثير ٢/ ٣٤٩، وأبو حيان ٤/ ٥٠٢.
179
وذلك قوله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣].
وقوله تعالى: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾، قال ابن عباس: يريد ما وعد النبي - ﷺ - وهو بمكة وبعدما هاجر (١)، وكذلك سبق في علمه في اللوح المحفوظ.
وقال الكلبي: كان مفعولًا في علمه بنصر الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله (٢)، وقال ابن إسحاق: ﴿كَانَ مَفْعُولًا﴾ [في علمه] (٣) للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد النعمة عليه (٤).
وقال بعض أهل المعاني: إنما كرر: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [لآن معناه في الأول: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾، ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾] (٥) من الالتقاء على الصفة التي حصلتم عليها، ومعناه في الثاني: يقلل كل فريق في عين صاحبه ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا من إعزاز الدين وأهله (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، قال ابن عباس: وبعد هذا إليّ مصيركم فأكرم أوليائي وأعاقب أعدائي (٧).
(١) لم أجد من خرّج هذا القول، ومعناه: أن الله تعالى وعد رسوله بنصره وهزيمة أعدائه وهو في مكة كما قال تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥]، ثم حقق هذا الوعد بعد ما هاجر إلى المدينة، انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٤٣٤.
(٢) رواه الثعلبي ٦/ ٦٤ ب، وبنحوه البغوي ٣/ ٣٦٤.
(٣) من (م).
(٤) "السيرة النبوية" ٢/ ٣١٩، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٤.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٦) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وقد ذكر نحوه الرازي في "تفسيره" ٥/ ١٧٠.
(٧) "الوسيط" ٢/ ٤٦٣.
180
٤٥ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾، قال الكلبي: إذا لقيتم جماعة العدو فأثبتوا لعدوكم (١)، قال أهل المعاني: المراد: فئة كافرة وحذفت لأن الخطاب للمؤمنين وهم لا يحاربون إلا فئة من المشركين أو الباغين، فحذف للإيجاز من غير إخلال بالمعنى (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾، قال ابن عباس: أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم، ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق (٣) ينفق الأموال [سخاءً، والآخر من المشرق إلى المغرب] (٤) يضرب بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجرًا (٥)، وقال قتادة: أمر الله بذكره أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف (٦).
ومن المفسرين من خص هذا الذكر بالدعاء للنصر والظفر فقال: معناه: ادعوا الله بالنصر عليهم، والظفر بهم، والتوقع لما وعدته من نصر
(١) المصدر السابق، الصفحة التالية.
(٢) انظر: "الكشاف" ٢/ ١٦١.
(٣) في (م): من المشرق إلى المغرب. وما أثبته موافق لـ"تفسير الرازي".
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٥) ذكر نحوه الفخر الرازي في "تفسيره" ٥/ ١٧١. قلت: وقد دل على أن الذاكر لله تعالى أفضل من المنفق ومن المجاهد قول الرسول - ﷺ -: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله". رواه الترمذي في "سننه" (٣٣٧٧) كتاب الدعاء، باب: ما جاء في فضل الذكر، والحاكم في "المستدرك" كتاب الدعاء ١/ ٤٩٦، وصححه ووافقه الذهبي، كما صححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" ١/ ٥١٣ (٢٦٢٩).
(٦) رواه الثعلبى ٦/ ٦٤ ب، وبنحوه ابن جرير ١٠/ ١٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١١، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٣.
المؤمنين (١). وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد: كي تسعدوا أو تبقوا في الجنة فإنما هما خصلتان: إما الغنيمة وإما الشهادة (٢).
٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: أن طاعة الرسول طاعة الله، ولا تختلفوا فيذهب جَلَدكم وجِدكم (٣)، وقال مجاهد: نُصْرتكم، وذهبت ريح أصحاب رسول الله - ﷺ - حين نازعوه يوم أحد (٤)، وقال السدي: (جرأتكم) (٥)، وقال مقاتل: (حدتكم) (٦)، وقال النضر: (قوتكم) (٧)، وقال الأخفش: (دولتكم) (٨)، وقال الزجاج: (صولتكم) (٩)، وقال أهل المعاني (١٠): الريح هاهنا: كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، والعرب تقول: هبّت ريح فلان: إذا جرى أمره على ما يريد، وركدت ريحه: إذا أدبر أمره،
(١) ذكر هذا القول دون الجملة الأخيرة: الثعلبي ٦/ ٦٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٤، وأشار إليه دون نسبة ابن الجوزي ٣/ ٣٦٥.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٨٢ بمعناه
(٣) المصدر السابق ص ١٨٣ بمعناه، ورواه الثعلبي ٦/ ٦٤ ب مختصرًا عن عطاء.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٢، والثعلبي ٦/ ٦٤ ب.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٦٤ ب، ورواه البغوي ٣/ ٣٦٤ بلفظ: جراءتكم وجدكم.
(٦) هذا قول مقاتل بن حيان كما في "تفسير البغوي" ٣/ ٣٦٤، ورواه أيضًا الثعلبي ٦/ ٦٤ ب.
(٧) رواه الثعلبي ٦/ ٦٤/ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٤.
(٨) قوله هذا غير موجود في كتابه "معاني القرآن"، وقد ذكره عنه الثعلبي ٤/ ٦٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٤، والسمرقندي ٢/ ٢٠، وهو اختيار اليزيدي في "غريب القرآن وتفسيره" ص ١٥٨، والنحاس في "معاني القرآن" ٣/ ١٦٢.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٥، وقد سقط قول الزجاج من (س).
(١٠) انظر: "البرهان" للحوفي ١١/ ٧٥ ب.
182
وهذه بلاغة حسنة، قال عبيد (١):
كما حميناك يوم النعف من شطب والفضل للقوم من ريح ومن عدد (٢)
وقال ابن زيد (٣) وقتادة (٤): يعني ريح النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله يضرب بها وجوه العدو، ومنه قوله - ﷺ -: "نصرتُ بالصبا" (٥).
(١) هو: عَبيد -بفتح العين- بن الأبرص بن عوف الأسدي، شاعر جاهلي عظيم الذكر عظيم الشهرة معاصر لامرئ القيس وله معه مناظرات ومناقضات، وهو من أصحاب المجمهرات التي تلي المعلقات، توفي نحو سنة ٢٥ ق هـ. ويقال: إن النعمان بن المنذر قتله يوم بؤسه.
انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٣٨، و"الشعر والشعراء" ص ١٦١، و"الأعلام" ٤/ ١٨٨.
(٢) "ديوانه" ص ٤٩، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٥.
والنعف: المكان المرتفع في اعتراض، وقيل: هو ما انحدر عن السفح وغلظ وكان فيه صعود وهبوط، وشطب: جبل معروف.
انظر: "لسان العرب" (نعف) و (شطب).
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٦٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٤، ورواه ابن جرير ١٠/ ١٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٢ بلفظ: الريح: النصر... إلخ.
(٤) رواه البغوي ٣/ ٣٦٤، ورواه مختصرًا ابن جرير وابن أبي حاتم، نفس الموضعين السابقين ولفظهما: ريح الحرب.
(٥) رواه البخاري في "صحيحه" (٧٥٣) كتاب الاستسقاء، باب: قول النبي - ﷺ -: "نصرت بالصبا"، ومسلم (٩٠٠) في "صحيحه" كتاب الاستسقاء، باب: في ريح الصبا والدبور.
والصبا: ريح معروفة تقابل الدبور، وهي تهب من موضع مطلع الشمس إذا أستوى الليل والنهار، وقيل من مطلع الثريا إلى مطلع نبات نعش. انظر: "لسان العرب" (صبو) ٤/ ٢٣٩٨.
183
٤٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، قال ابن عباس (١)، ومجاهد (٢)، وقتادة (٣)، وابن جريج (٤)، والضحاك (٥)، والسدي (٦)، والقرظي (٧): هم قريش لما خرجوا ليحموا (٨) عيرهم، لفظ ابن عباس: يريد: النفير ليحوزوا العير، خرجوا بالقيان (٩)، والمعازف والمغنيات، يشربون الخمور، وتعزف عليهم القيان، فلما وردوا الجحفة بعث خفاف بن إيماء الكناني (١٠)، -وكان صديقًا لأبي جهل- إليه بهدايا مع ابن له فلما أتاه قال: إن أبي ينعمك صباحًا ويقول لك: إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن خف معي من قرابتي
(١) سيأتي تخريج أثره
(٢) رواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ٨٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٣ - ١٧١٤، وذكره بنحوه ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٥٠.
(٣) انظر: المصادر السابقة. نفس المواضع.
(٤) ذكره "جامع تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٠، ونسبه إلى ابن جرير، ولم أجده في الموضع الذي أحال إليه، بل رواه ابن جريج عن مجاهد وعبد الله بن كثير، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٨٠.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٨٠، وذكره ابن كثير ٢/ ٣٥٠.
(٦) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع.
(٧) رواه ابن جرير، الموضع السابق، بمعناه.
(٨) في (ح): (ليجمعوا)، وهو خطأ.
(٩) القيان: جمع قينة، وهي الأمة المغنية. انظر: "لسان العرب" (قين) ٦/ ٣٧٩٩.
(١٠) في "السيرة النبوية": الغفاري، وكلاهما صواب؛ لأن غفار من بني كنانة. انظر: "فتح الباري" ٧/ ٤٤٦.
وخفاف: هو ابن إيماء بن رحضة الغفاري، كان إماء بني غفار وخطيبهم وشهد الحديبية، مات في خلافة عمر -رضي الله عنه-.
انظر: "الإصابة" ١/ ٤٥٢، و"فتح الباري" ٧/ ٤٤٦.
184
فعلت (١)، فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرًا إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله (٢) من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور وتعزف فيها القيان، فإن بدرًا موسم من مواسم العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد (٣)، قال المفسرون: فوردوا بدرًا وسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان (٤).
وقوله تعالى: ﴿بَطَرًا﴾، قال الزجاج: البطر: الطغيان في النعمة (٥)،
(١) في ثبوت هذا القول عن خفاف بن إيماء شك، وذلك أن الحافظ ابن حجر أشار إلى أنه أسلم قبل أبيه "الإصابة" ١/ ٩٢، وأبوه أسلم قبل الهجرة كما في "صحيح مسلم" (٢٤٧٣) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر قال أبو ذر في قصة إسلامه: حتى أتينا قومنا غفارًا فأسلم نصفهم وكان يؤمهم إيماء بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله - ﷺ - المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله - ﷺ - المدينة فأسلم نصفهم الباقي، وفي هذا النص دليل على أن غفارًا أسلمت كلها قبل وقعة بدر، وهذا ما يؤكد عدم صحة القصة المذكورة عن خفاف. والله أعلم.
(٢) في (ح): (به).
(٣) لم أجد من رواه بهذا السياق، وقد رواه دون قصة خفاف بن إيماء، بلفظ مقارب ابن جرير ١٠/ ١٦ - ١٧، والثعلبي ٦/ ٦٥ أ، وابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" ٢/ ٣٢٠، وروى ابن إسحاق أيضًا قصة خفاف في موضع آخر ٢/ ٦٢١ لكنه قال: خُفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه إيماء بن رحضة الغفاري.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٥ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٦، وابن الجوزي ٣/ ٣٦٦، والنص مختصرًا في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٦ - ١٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ١٥٠. ولم يفسر الزجاج هذه الكلمة في سورة الأنفال، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٣٤١.
185
وقال الليث: يقال: بطر فلان نعمة الله: أي: مرح حتى جاوز، وترك الشكر (١)، قال أهل المعاني: معنى (البطر): الخروج عن موجب النعمة من شكرها والقيام بحقها إلى خلافه (٢).
قوله تعالى: ﴿وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ معنى الرياء: إظهار الجميل ليُرى مع إبطان القبيح، راءي يرائي رياء ومراءاة، والفرق بينه وبين النفاق: أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرياء عصيان (٣)، والنفاق كفر (٤)،
(١) النص في كتاب "العين" ٧/ ٤٢٢ مع اختلاف يسير، والمؤلف يرى -كالأزهري- أن كتاب "العين" لليث بن المظفر.
(٢) في "البرهان" للحوفي ١١/ ٧٦ أ: البطر: التقوية بنعم الله وما ألبسه من العافية على المعاصي.
(٣) يعني كبيرة من الكبائر التي لا تخرج من الملة، وإلا فمعلوم أن النفاق والشرك وسائر المكفرات من العصيان؛ إذ أصل العصيان: الخروج عن الطاعة، انظر: "المفردات في غريب القرآن" (عصا) ص ٣٣٧.
وما ذهب إليه المؤلف كون الرياء مطلقًا من كبائر الذنوب هو ظاهر قول الجمهور، وقد دل عليه قول شداد بن أوس: كنا نعد على عهد رسول الله - ﷺ - أن الرياء الشرك الأصغر. رواه الحاكم في "المستدرك" كتاب الرقاق ٤/ ٣٢٩، وصححه ووافقه الذهبي، وذهب بعض العلماء أن ذلك مقيد باليسير، أما كثير الرياء فشرك أكبر ونفاق. انظر: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" ص ٥٣٣، و"معارج القبول" ٢/ ٤٩٢.
(٤) النفاق قسمان: الأول: النفاق الأكبر، وهو ما ذكره المؤلف وهو كفر مباين لدين الإسلام، الثاني: النفاق الأصغر، وهو من كبائر الذنوب، ويسمى النفاق العملي وهو المذكور في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". رواه البخاري (٣٣) كتاب الإيمان، باب: إعلان المنافق، ومسلم (٥٨) كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، والترمذي في "سننه" (٢٦٣١) كتاب الإيمان، باب: ما جاء في علامة المنافق، وأعقبه بقوله: إنما كان =
186
وقال قتادة: هؤلاء أهل مكة خرجوا ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله - ﷺ -: "إن قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك" (١)، وقال المفسرون: نهى الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصرة الدين، ومؤازرة النبي - ﷺ - حتى لا يكونوا كالذين خرجوا فخرًا وخيلاء ورياء (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال أبو علي الجرجاني: قوله: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ سبب لخروجهم، أي أن البطر والرياء يحملهم على ذلك، ثم عطف عليه قوله: ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهو فعل مضارع منسوق على المصدر فيحتمل هذا النظم وجوهًا (٣) منها: أن يكون قوله: ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بمنزلة: وصدًا، إلا أنه رد إلى المضارع والمراد به المصدر، كما تقول في الكلام: أتيته ماشيًا ومشيًا وأمشي، ثلاثتها بمعنى واحد، ويجوز أن يكون قوله: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ﴾ حالاً على تأويل: بطرين ومرائين، فيكون قوله: ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ حالاً صرفت إلى الاستقبال، بمعنى: وصادين، ويجوز أن يكون قوله: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ﴾ بمنزلة
= هذا عند أهل العلم نفاق العمل اهـ. وانظر: الفرق بين القسمين في "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ١١/ ١٤٠ - ١٤٥.
(١) رواه مطولًا ابن جرير ١٠/ ١٧، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٤، وقد روى قول النبي - ﷺ - ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" ٢/ ٢٦١، والبيهقي في "دلائل النبوة" ٣/ ١١٠ مرسلًا من حديث الزهري وموسى بن عقبة، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحو هذا الأثر، انظر: "تفسير مجاهد" ص ٣٥٦.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٥ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٦، وذكر معناه ابن جرير ١٠/ ١٦.
(٣) ساقط من (س).
187
يبطرون ويراؤن، فصح عطف المضارع عليه (١)، وقد يوضع المصدر موضع الفعل المضارع، سيما والمراد به الحال (٢).
ومعنى قوله: ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: يريد يضلون (٣) عند دين الله (٤)، قال أهل المعاني: وصدهم عن سبيل الله هو معاداة أهلها، وقتالهم عليها، وتكذيبهم بإجابة (٥) الداعي إليها (٦).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ كان هذا التزيين على ما قاله ابن عباس (٧) وابن إسحاق (٨) والسدي (٩) والكلبي (١٠):
(١) انظر: أحكام عطف الفعل على الاسم وعكسه في: "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" ٣/ ٦١، و"النحو الوافي" ٣/ ٦٤٨ - ٦٥٨.
(٢) لا يعني صحة إقامة الفعل مقام الاسم وعكسه أن المعنى واحد فيهما، بل الاسم يدل على الثبوت والتمكين والاستمرار، والفعل يدل على الحدوث والتجدد فاختيار الاسم في قوله تعالى: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ﴾ يدل على ثبوت هذه السمة فيهم وتمكنها منهم حتى كأنها جبلة فيهم، أما اختيار الفعل في قوله تعالى: ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فللدلالة على تجدد هذا العمل حينًا بعد حين، أو لتجدد ذلك بعد بعثة النبي - ﷺ -. انظر: "البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن" ص ١٤٠.
(٣) في (م): (يصدون)، وما أثبته موافق لـ"الوسيط".
(٤) "الوسيط" ٢/ ٤٦٥.
(٥) هكذا في جميع النسخ، ولفظ (بإجابة) زائد، وعبارة المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٦٥: ويصدون عن سبيل الله، بمعاداة المسلمين وتكذيب الداعي إليها.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) "تفسير ابن جرير" ١٨/ ١٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٤، والثعلبي ٦/ ٦٥ ب.
(٨) "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٩، والثعلبي ٦/ ٦٥ ب، والنصر مختصرًا في: "السيرة النبوية" ٢/ ٢٥٠، عن ابن إسحاق، عن عروة بن الزبير.
(٩) "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٨، والثعلبى ٦/ ٦٥ ب.
(١٠) "تفسير الثعلبي"، الموضع السابق.
188
إن قريشًا لما أجمعت المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة (١)، ومدلج (٢) من الحرب، وكانوا قد قتلوا الفاكه بن المغيرة (٣)، وعوفًا (٤) أبا عبد الرحمن بن عوف ومالك بن الشريد (٥) وكانوا يطلبونهم بدم، وكاد هذا أن يثنيهم عن الخروج من مكة، فتبدا لهم إبليس في جند من الشيطان معه رايته، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ثم المدلجي، وكان من أشرافهم، فقالوا: نحن نريد قتال هذا الرجل ونخاف من قومك فقال لهم: أنا جار لكم من قومي، فلا غالب لكم اليوم من الناس، ومعنى الجار هاهنا: الدافع عن صاحبه الشر كما يدفع الجار عن جاره، والعرب تقول: أنا جار لك من فلان، أي: حافظ لك من معرّته فلا يصل إليك منه مكروه.
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ [قال ابن عباس: التقى الجمعان (٦)، قال الزجاج: توافقتا حتى رأت كل واحدة
(١) قبيلة كبيرة مشهورة وهم بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. انظر: "السيرة النبوية" ١/ ١، و"نهاية الأرب" ص ٣٦٦.
(٢) هم بنو مدلج بن مرة بن تيم بن عبد مناف بن كنانة.
راجع: "الروض الأنف" ٢/ ٢٣٣، و"الإصابة في تمييز الصحابة" ٢/ ١٩ (٣١١٥)، و"نهاية الأرب" ص ٣٧٢.
(٣) هو: الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أحد الفصحاء المقدمين من قريش في الجاهلية. انظر: "المحبر" ص ١٧٥، ٢٩٧، و"التبيين في أنساب قريش" ص ١٨٩.
(٤) هو: عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري. انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" ٢/ ٤١٦ (٥١٧٩)، في ترجمة ابنه عبدالرحمن.
(٥) لم أعثر على ترجمته.
(٦) "تنوير المقباس" ص ١٨٣.
189
الأخرى (١)] (٢).
﴿نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ النكوص: الإحجام عن الشيء، نكص ينكص نكوصًا ونكيصًا: إذا تأخر عن الشيء وجبن، وأنشد أبو عبيدة (٣) قول الكميت:
فما نفع المستأخرين نكيصهم ولا ضر أهل السابقات التعجل (٤)
وزاد الكسائي: نكصانًا (٥)، وقال الزجاج: نكص على عقبيه: رجع بخزي (٦)، وقال القتيبي: رجع القهقرى (٧)، وقال ابن عباس: [رجع موليًا (٨)، وقال الضحاك: ولى مدبرًا (٩)، وقال قطرب: رجع من حيث جاء (١٠).
قال الكلبي عن ابن عباس:] (١١) لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة آخذًا بيد الحارث بن هشام، فرأى عدو الله
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢١.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) انظر قول أبي عبيدة في معنى (النكوص) في "مجاز القرآن" ١/ ٢٤٧، ٢/ ٦٠، ولم أقف على إنشاده البيت.
(٤) انظر: البيت في "هاشميات الكميت" ص١٣٠.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢١.
(٧) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص١٩٠.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ١٩ من رواية ابن جريج عنه بلفظ: رجع مدبرًا، ورواه أيضًا ١٠/ ١٩ من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظ: فولى مدبرًا.
(٩) رواه الثعلبي ٦/ ٦٥ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٦.
(١٠) أخرجه الثعلبي ٦/ ٦٥ ب.
(١١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
190
الملائكة حين نزلت من السماء -وهو روحاني يراهم- نكص على عقبيه فقال له الحارث: يا سراق أفرارًا من غير قتال، فقال (١) له: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ ودفع في صدر الحارث وانطلق (٢)، وانهزم الناس (٣)، قال الحسن في قوله: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ أي: جبريل معتجرًا (٤) ببرد (٥)، يمشي بين يدي النبي - ﷺ - وفي يده اللجام يقود الفرس، ما ركب (٦).
وقال محمد بن إسحاق: رأى جندًا من الملائكة، أيد الله بهم رسوله والمؤمنين (٧).
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾، قال قتادة وابن إسحاق: صدق عدو الله في قوله: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ وكذب في قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ والله ما به مخافة الله (٨)، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه (٩)، وقال الكلبي: خاف أن يأخذه
(١) ساقط من (س)
(٢) ساقط من (س).
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٦٦ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٦.
(٤) الاعتجار: أن يلف العمامة على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئًا تحت ذقنه. انظر: "النهاية في غريب الحديث" (عجر) ٣/ ١٨٥، و"لسان العرب" (عجر) ٥/ ٢٨١٥.
(٥) في (ح): (برداء)، وما أثبته موافق للمصادر التالية.
(٦) رواه ابن جرير ١٠/ ٢٠، والثعلبي ٦/ ٦٦ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٦.
(٧) "السيرة النبوية" ٢/ ٣٠٩.
(٨) كفر إبليس كفر إباء واستكبار لا كفر جحود وإنكار؛ ولذا لا يستبعد خوفه من عقاب الله فيما دون الهلاك.
(٩) ذكر هذا القول عنهما: الثعلبي ٦/ ٦٦ أ، والواقع أنه دمج قوليهما مع اختلافهما في اللفظ. =
191
جبريل ويعرفهم حاله فلا يطيعون (١)، ولا معنى لهذا؛ لأن إبليس غير مرئي فيعرف بالرؤية، وكيده الوسوسة والتخييل (٢).
وقال عطاء: إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك (٣)، وقال أبو إسحاق: ظن أن الوقت الذي انظر إليه قد حضر (٤)، واختار ابن الأنباري هذا القول وقال: يعني (٥) أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذي يزول معه إنظاري قد حضر فيقع بي العذاب، لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الإنظار قد انقضى (٦)، فقال ما قال اشفاقًا على نفسه (٧) (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يجوز أن يكون متصلًا بما أخبر به عن إبليس، ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله: ﴿أَخَافُ اللَّهَ﴾ فقال الله. ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (٩).
= انظر قول قتادة في: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٩، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٤٥، وانظر قول ابن إسحاق في: "السيرة النبوية" ٢/ ٣٠٩، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٩.
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٦٦ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٧.
(٢) يعني أنه لن يظهر لهم عند كيده بالوسوسة، فالتعريف به لا يفيد ولا يمنع من كيده.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٦٦ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٦، قلت: هذا القول فيه نظر لأن الله وعد إبليس بالإنظار إلى يوم يبعثون.
(٤) "معاني القرآن واعرابه" ٢/ ٤٢١.
(٥) في (ح): (معنى)، وهو خطأ.
(٦) في (م) و (س): (تقضى).
(٧) ذكر بعض هذا القول مع اختلاف يسير ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٦٧.
(٨) في هذا القول أيضًا نظر؛ لأن إبليس يعلم أنه إذا انقضى وقت الإنظار لن يفيد الهرب، والظاهر أن إبليس خاف عقاب الله فيما دون الهلاك.
(٩) ذكر نحو هذا القول الثعلبي ٦/ ٦٦ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٧، وابن الجوزي ٣/ ٣٦٧.
192
٤٩ - قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: المنافقون من الأوس والخزرج، والذين في قلوبهم مرض قوم (١) من قريش، كانوا مسلمين ولم يهاجروا، فلما خرجت قريش لحرب رسول الله - ﷺ - قالوا: نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، وقد ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ في سورة النساء: [٩٧] (٢)، قال محمد بن إسحاق: ثم قتل هؤلاء جميعًا مع المشركين يوم بدر (٣).
وقوله تعالى: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾، قال ابن عباس: إذ خرج ثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل (٤).
وقال الوالبي عنه: إنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم (٥) لا يشكون في ذلك، قال (٦) الله تعالى (٧): ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (٨) أي: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به
(١) ساقط من (ح).
(٢) ذكره بنحوه ابن الجوزي ٣/ ٣٦٧، ومختصرًا السمرقندي ٢/ ٢١، وأبو حيان ٤/ ٥٠٥ - ٥٠٦، وروى نزول آية النساء فيهم ابن جرير ٥/ ٢٣٤ - ٢٣٥، وقد صح عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة أن الذين في قلوبهم مرض هم المشركون. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٥/ ١٧١٦ - ١٧١٧، وابن الجوزي ٣/ ٣٦٨.
(٣) "السيرة النبوية" ٢/ ٢٨٣ بمعناه.
(٤) ذكره الرازي ١٥/ ١٧٦.
(٥) في (ي): (سيهتزمون).
(٦) في مصادر تخريجه: (فقال).
(٧) في (م) زيادة نصها: (وقوله)، وهي خطأ.
(٨) ذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٥٢، وانظر: "صحيفة علي بن أبي طلحة" ص ٢٥٥، وقد روى الأثر بحروفه ابن جرير ١٠/ ٢١ - ٢٢، عن ابن جريج.
وبقضائه فإن الله حافظه وناصره؛ لأنه عزيز لا يغلبه شيء، فجاره منيع، ومن يتوكل عليه فهو مكفي، وقال عطاء عنه: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ يريد قوي منيع، ﴿حَكِيمٌ﴾ في خلقه يفعل بأعدائه ما شاء من شدة العقاب، وبأوليائه النعيم والسرور (١).
٥٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ﴾ أكثر المفسرين على أن الآية عامة في جميع من قتلوا من المشركين ببدر (٢)، وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الذين [ذكروا في الآية الأولى وهم الذين] (٣) تركوا الهجرة إلى رسول الله - ﷺ - فقتلوا مع المشركين (٤).
وجواب (لو) محذوف بتقدير: لرأيت أمرًا عظيمًا، وأمرًا عجيبًا، وحذف الجواب في القرآن كثير، قد سبق الكلام فيه في مواضع (٥)، والمرئي بقوله: (ترى) مدلول عليه، مفهوم من الكلام؛ لأنه يفهم منه: ولو
(١) لم أقف عليه، وقد ذكره بنحوه في "الوسيط" ٢/ ٤٦٦ من غير نسبة.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٢ - ٢٣، والبغوي ٣/ ٣٦٨، وابن عطية ٦/ ٤٤٩ - ٣٤٠، وقد رجح ابن كثير ٢/ ٣٥٣ أنها عامة في حق كل كافر.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٤) بالمقارنة بما في "السيرة النبوية" يتبين وهم الواحدي رحمه الله في نسبة هذا القول لابن إسحاق، فابن إسحاق ذكر أن هؤلاء المذكورين الذين تركوا الهجرة نزل فيهم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: ٩٧]، أما ما يتعلق في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ﴾ فقد ذكر أنها عامة في الكفار كلهم حيث قال: ثم ذكر الله تعالى أهل الكفر، وما يلقونه عند موتهم، ووصفهم بصفتهم وأخبر نبيه - ﷺ - عنهم.
انظر: "السيرة النبوية" ٢/ ٢٨٣.
(٥) انظر مثلاً: "تفسير البسيط" [البقرة: ١٠٣].
194
ترى الملائكة يضربون من الكفار الوجوه والأدبار، وبناؤه على المفهوم أحسن من التصريح لأنه أفخم.
ومعنى ﴿يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: يقبضون أرواحهم على استيفائها؛ لأن الموت إنما يكون بإخراج الروح على التمام، وهذا يقتضي أن الإنسان هو الروح؛ لأنه قال: ﴿يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فهذا يوجب أن الإنسان هو الروح، ولولا هذا لم يكن قد توفاه الملك وإنما توفي بعضه وهو الروح، إلا أن يجعل من باب حذف المضاف فيقال: المعنى: يتوفى أرواح الذين كفروا وأنفسهم (١).
وقوله تعالى: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ مضارع معناه الحال، قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم (٢)، ونحو هذا قال مُرة وابن جريج: أي: مقاديمهم ومآخيرهم (٣)، وتقديره: يضربون أجسادهم
(١) في "لسان العرب" (وفي) ٨/ ٤٨٨٦: الوفاة: الموت، وتوفي فلان وتوفاه الله: إذا قبض نفسه، وفي "الصحاح": إذا قبض روحه، وقال غيره: توفي الميت: استيفاء مدته التي وفيت له وعدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا اهـ. فإذا عرف أن الوفاة تطلق على قبض الروح لم يلزم من قول القائل: توفي الله الإنسان، أن الإنسان هو الروح ولا أن يجعل ذلك من باب حذت المضاف، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الخلاف في المسألة التي ذكرها المصنف فقال: تنازع الناس في مسمى (الإنسان) هل هو الروح فقط أو الجسد فقط؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعًا، وإن كان مع القرينة قد يراد به هذا تارة، وهذا تارة. "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ١٢/ ٦٧.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ٢٢، والثعلبي ٦/ ٦٧ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٨، وفي سنده انقطاع بين ابن جرير وابن عباس، انظر: "الكشاف" ٢/ ١٨٥.
(٣) رواه عنهما الثعلبي ٦/ ٦٧ أبلفظ: (وجوههم) ما أقبل منهم، (وأدبارهم) ما أدبر منهم، وبنحو هذا اللفظ رواه البغوي ٣/ ٣٦٨ عن ابن جريج.
195
كلها (١)، وقال الحسن: قال رجل يا رسول الله: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك (٢)، قال: "ذلك ضرب الملائكة" (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ فيه إضمار أي: ويقولون ذوقوا، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه من جهة أن عقابهم لهم يقتضي أن يقولوا لهم ما يسوؤهم، وحذف القول في القرآن كثير كقوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا﴾ [البقرة: ١٢٧] أي: ويقولان (٤) ربنا، ومثله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا﴾ [السجدة: ١٢] أي: ويقولون ربنا، قال ابن عباس: يقولون لهم هذا بعد الموت (٥)، ونحو ذلك قال الحسن (٦) وغيره (٧).
وقال بعضهم: كان قول الملائكة لهم: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ في الدنيا وذلك أنه كان مع الملائكة مقامع كلما ضربوا التهبت النار في
(١) هذا التقدير عدول عن ظاهر الآية بلا دليل، وليس هو التقدير الدقيق لقول مرة وابن جريج. وقد ذكر الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٦٣ علة تخصيص الوجه والدبر فقال: وإنما خصوهما بالضرب لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد.
(٢) الشراك: سير النعل الذي يكون على وجهها. انظر: "لسان العرب" (شرك) ٤/ ٢٢٥٠.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ٢٢، والثعلبي ٦/ ٦٧ أ، وهو حديث مرسل، وقد اختلف العلماء في مراسيل الحسن البصري، والإمام أحمد يرى أنها من أضعف المراسيل. انظر: "شرح علل الترمذي" ١/ ٢٩٠.
(٤) في (ج) و (س): (ويقولون).
(٥) رواه البغوي ٣/ ٣٦٨.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ٦٧ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٨.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ل ١٢٣ أ، وابن الجوزي ٣/ ٣٦٩، والزمخشري ٢/ ١٦٣.
196
الجراحات، فذلك قوله: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (١) والصحيح أن هذا يقوله الملائكة لهم في الآخرة (٢)
٥١ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ هذا إخبار عن قول الملائكة لهم، وأما محل ﴿ذَلِكَ﴾ فيجوز أن يكون رفعًا وخبره: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ويجوز أن يكون خبره محذوفًا على تقدير: ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم، [ويجوز أن يكون محل ذلك نصبًا على معنى: فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم] (٣) وهذا معنى قول الفراء (٤).
و ﴿ذَلِكَ﴾ في هذه الآية بمعنى: هذا، أي: هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق بما قدمت أيديكم، وذكرنا جواز أن يكون (ذلك) بمعنى: هذا عند قوله: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ١ - ٢].
وحكى صاحب النظم في معنى (ذلك) أنه نقيض (لا) فكما أن (لا) ينفي ما قبله (٥)، فـ (ذلك) تثبيت لما قبله على مناقضته [وكذلك (كلا) نفي لما قبله و (كذلك) تثبيت لما قبله] (٦) على مناقضته (كلا).
(١) ذكر هذا القول دون نسبة الثعلبي ٦/ ٦٧ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٨، والزمخشري ٢/ ١٦٣، وابن الجوزي ٣/ ٣٦٩، وعزاه الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٧٨ إلى ابن عباس، وعندي شك في هذا العزو، وذلك أن الرازي فسر هذه الجملة بما ذكره الواحدي هنا تمامًا لكنه أسقط هو أو أحد النساخ قول ابن عباس السابق وما بعده، وعزا هذا القول إلى ابن عباس.
(٢) وهذا ما ذهب إليه ابن جرير ١٠/ ٢٢، والثعلبي ٦/ ٦٧ أ.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (س).
(٤) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤١٣.
(٥) في (س): (قبلها).
(٦) ما بين المعقوفين من (م).
197
ومعنى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، قال ابن عباس: جرحت قلوبكم (١)، قال أهل المعاني: إنما قال: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ مع أن اليد لا تعقل شيئًا للبيان عن أن اعتقاد الكفر بالقلب بمنزلة ما يعمل باليد في الجناية، ولذلك لم يذكر القلوب وإن كان بها معتمد العصيان؛ لأنه قصد إظهار ما تقع به الجنايات في غالب الأمر وتعارف الناس.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ في محل (أن) وجهان: أحدهما: النصب، بمعنى: وبأن الله، قال الفراء: وهذا إذا جعلت (ذلك) نصبًا (٢)، فإن جعلت (ذلك) في موضع رفع (٣) جعلت (أن) في موضع رفع (٤) أيضًا بمعنى: وذلك أن الله (٥).
ومعنى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، قال ابن عباس: يريد: تبين سبيل (٦) الهدى، وعرفتم سبيل الرشاد، وتربصتم عن الهجرة، وشككتم في
(١) لم أقف عليه، وما قدمت الأيدي أعم من كسب القلوب. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٣.
(٢) أي تجعله مفعولًا به، والتقدير: فعلنا ذلك.
(٣) إما مبتدأ خبره الجملة بعده كما قال أبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٥٠٦، أو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر ذلك، كما قدره النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٨١.
(٤) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤١٣، وقد تصرف الواحدي في عبارته.
(٥) في محل (أن) وجه ثالث وهو الخفض عطفًا على (ما) في قوله تعالى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾.
انظر: "مشكل إعراب القرآن" ص ٣١٧، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٦٨١، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٣، و"البيان في غريب إعراب القرآن" ١/ ٣٩٠، وقد رد هذا الوجه أبو السعود في "تفسيره" ٤/ ٢٧.
(٦) ساقط من (م) و (س).
198
قدرة الله ونصره رسوله (١)، وهذا الذي ذكره ابن عباس إشارة إلى أن العذاب الذي وقع بهم وقيل لهم: (ذوقوا) استحقوه بكفرهم، وجعل ذلك جزاءً على ما سلف من إجرامهم.
والصحيح أن قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ابتداء كلام لا يعود معناه إلى ما قبله من قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾ لأن قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ ليس (٢) بتعليل للعذاب ولا موجب له؛ لأن معناه: نفي الظلم، وإيجاب الحكم بالعدل، لا أنه سبب تعذيبهم فقوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ سبب أوجب الحكم بالتعذيب، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ نعت لهذا الحكم أنه عدل، وأنه ليس بجور، وإذا كان كذلك لم يحسن أن يقدر في (أن) الباء (٣)، فيقال: المعنى: وبأن الله، والوجه أن تكون (أن) في موضع رفع، ولهذا قال الكسائي: لو كسرت ألف (أن) على الابتداء كان صوابًا (٤).
فإن قيل: في هذه الآية الله تعالى نفى الظلم عن نفسه، ومن نسب إليه خلق الأفعال ثم استجاز منه العقبة على الذنوب فقد نسب الظلم إليه (٥).
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (س): (ليس بظلام أي: بتعليل.. إلخ)، وهو خطأ.
(٣) ذهب إلى تقديرها الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤١٣، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٨١، والزمخشري ١/ ١٦٣، وصرح بأن الباء سببية. وكذلك السمين الحلبي في "الدر المصون" ٥/ ٦١٩.
(٤) يعني من الناحية اللغوية، ولا تجوز القراءة بذلك لعدم ثبوتها، وقد ذكر في قول الكسائي هذا الفخر الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٧٩.
(٥) هذا قول المعتزلة، انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٧٩، و"الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار ص ٣٤٥.
199
قيل: إن له أن يتصرف في ملكه بما يشاء، ومن كان له أن يتصرف في ملكه كما يشاء استحال نسبة الظلم إليه، ولهذا نفى الله -تعالى ذكره- الظلم عن نفسه كيلا يتوهم متوهم أنه مع خلقه كفر الكافر وتعذيبه له ظالم، فنفي ذلك وقال إنه ﴿لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ومن لم يسلك هذه الطريقة نسب العجز إلى الباري سبحانه وتعالى (١).
(١) يقرر المؤلف طريقة الأشاعرة في نفي الظلم عن الله تعالى، وقد اتفق المسلمون على أن الله منزه عن الظلم، ولكن تنازعوا في معناه الذي يجب تنزيه الرب عنه على ثلاثة أقوال:
الأول: قول المعتزلة، فقد ذهبوا إلى أن الظلم الذي ينزه عنه الخالق من جنس الظلم الذي ينهى عنه المخلوق، فشبهوا الله بخلقه، وأوجبوا عليه جنس ما يجب على المخلوق.
الثاني: قول الأشاعرة وطوائف من أهل الكلام وبعض أهل الحديث: إن الظلم من الله تعالى ممتنع لذاته، لأن الظلم -عندهم-: التصرف في ملك الغير، أو الخروج عن طاعة من تجب طاعته، وهذان ممتنعان في حق الله تعالى.
الثالث: قول كثير من أهل السنة وبعض أهل الكلام: إن الظلم وضع الشيء في
غير موضعه، فالظلم ممكن لذاته، يمتنع وقوعه من الرب تعالى ولا يفعله؛ لكمال عدله ورحمته وغناه، وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، فالله تعالى لا يضع الأشياء في غير مواضعها، كأن يبخس المحسن شيئًا من إحسانه، أو يحمل عليه من سيئات غيره، أو يعاقبه بلا موجب للعقاب، ونحو ذلك، وهذا القول هو الحق الذي دلت عليه النصوص واللغة.
انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٨/ ٥٠٥ - ٥١٠، ١٧/ ١٧٥ - ١٨٠، ١٨/ ١٣٧ - ١٥٦، و"مختصر الصواعق المرسلة" ص ١٨٩ - ٢٠٦، و"غاية المرام في علم الكلام" ص ٢٤٤، ٢٤٥، و"لسان العرب" (ظلم) ٥/ ٢٧٥٧.
وقول المؤلف رحمه الله: (ومن كان له أن يتصرف في ملكه كما يشاء استحال نسبة الظلم إليه) مردود لما يأتي:
أولاً: ما جاء في الحديث القدسي. "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته =
200
٥٢ - قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ المشبه محذوف تقديره: دأبهم كدأب آل فرعون، قال الأخفش والمؤرج وأبو عبيدة: كعادة آل فرعون (١)، [وقال أبو إسحاق: معناه: عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون] (٢) في كفرهم فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق (٣).
وأصل الدأب في اللغة: إدامة العمل، يقال: فلان يدأب في كذا، أي: يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه (٤)، ثم سمي العادة دأبًا؛ لأن ما هو
= بينكم محرمًا". رواه مسلم (٢٥٧٧) كتاب البر والصلة، باب: تحريم الظلم، وأحمد في "المسند" ٥/ ١٦٠. ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن الظلم ممكن غير مستحيل ولكن الله تنزه عنه وحرّمه على نفسه.
ثانيًا: أن الله تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه كقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]، وقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر: ٣١] ولا يليق بالله تعالى أن يتمدح بنفي المستحيل، وبالأمر الذي لا تمكن القدرة عليه، إذ ليس فيه مدح ولا ثناء ولا فائدة، وإنما يكون المدح بترك الأفعال المذمومة المقدور عليها، فتبين من ذلك أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم، لكنه لا يفعله لأنه حرمه على نفسه، وتنزه عن فعله.
ثالثا: أن الله تعالى: قال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه: ١١٢]، ومعلوم بداهة أن الخوف من الشيء يستلزم تصور وجوده وإمكانه، أما ما لا يمكن وجوده فيستحيل الخوف منه، فعلم أن ظلم الله لعباده ممكن غير مستحيل، لكنه لا يفعله تنزهًا، فعباده واثقون بعدله، آمنون من جوره.
انظر تفصيل ما سبق ذكره في: "مختصر الصواعق المرسلة" ص ١٨٩ - ٢٠٦، و"الأصول الخمسة" للهمداني ص ٣٤٥ - ٣٥٤، و"غاية المرام" ص ٢٤٤.
(١) ذكره عنهم الثعلبي ٦/ ٦٧ ب، وانظر قول أبي عبيدة في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٤٧، وقول الأخفش في "معاني القرآن" ١/ ٢٠٩.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٠.
(٤) انظر: "مجمل اللغة" (دأب) ٢/ ٣٤٢، و"لسان العرب" (دأب) ٣/ ١٣٧.
عادة فهو مواظب عليه (١).
قال المفسرون: يريد أن أهل بدر كذبوا كما كذب آل فرعون ونزل بهم كما نزل بآل فرعون (٢)، قال ابن عباس: يريد: هكذا كان دأب آل فرعون أيقنوا أن فرعون كذاب عاد في الأرض وأن موسى نبي من الله فكذبوه، كذلك أنتم جاءكم محمد بالصدق والدين فكذبتموه وجحدتم نبوته فأنزل الله بكم عقوبته كما أنزل بآل فرعون (٣)، وذلك قوله: ﴿كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ ومضى الكلام في ﴿كَدَأْبِ﴾ مستقصى في سورة آل عمران [١١].
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ﴾ أي قادر لا يغلبه شيء ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن كفر به وكذب رسله.
٥٣ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً﴾ الآية، (ذلك) إشارة إلى ما تقدم من أخذ الله بالعذاب لمن كفر بآيات الله، فـ (ذلك) ابتداء وخبره ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾ وهو كما تقول: العقاب بذنوب العباد.
وقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً﴾ الآية، أكثر النحويين يقولون: إنما حذفت النون لأنها تشبه بما فيها (٤) من الغنة حروف اللين، ووقعت طرفًا فحذفت تشبيهًا بها كما تقول: لم يدع، ولم يرم، ولم يك (٥).
وهذا ينتقض بقولهم: لم يزن، ولم يخن، ولم يسمع حذف النون في
(١) انظر: "معانى القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٠.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٧ ب، والبغوي ٣/ ٣٦٨، وابن الجوزي ٣/ ٣٧٠.
(٣) رواه بمعناه مختصرًا البغوي ٣/ ٣٦٨، وذكر نحوه ابن الجوزي ٣/ ٣٧٠.
(٤) في (س): (بما قبلها)، وهو خطأ.
(٥) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ١٨٤، و"حاشية الصبان" ١/ ٢٤٥.
202
مثل هذا الموضع إلا من (كان)، وذلك أن (كان) و (يكون) أم الأفعال، من أجل أن (١) كل فعل فيه معنى (كان) على ما تصرف منه، ففي (ضرب) معنى: كان ضربٌ، وفي (يضرب) معنى: يكون ضربٌ، فلما قويت بأنها أم الأفعال، وكثر استعمالها للحاجة إليها احتملت هذا الحذف، ولم تحتمله نظائرها، وهذا تعليل ذكره علي بن عيسى النحوي (٢)، وسنذكر تمام هذه المسألة في سورة هود عند قوله: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ [هود: ١٠٩] إن شاء الله تعالى (٣).
قال الكلبي: إن الله تعالى أطعم أهل مكة من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم محمدًا رسولاً، وكان هذا كله مما أنعم عليهم، ولم يكن يغير عليهم ذلك لو لم يغيروا هم، وتغييرهم كفرانها، وترك شكرها، فإذا غيروا ذلك غير الله ما بهم فسلبهم النعمة، وأخذهم بالعقاب (٤)، وقال السدي: نعمة الله: محمد عليه السلام أنعم به على قريش فكفروا به وكذبوه فنقله إلى الأنصار (٥).
(١) ساقط من (ح).
(٢) لم أقف على هذا القول في كتب الرماني المطبوعة، ولعله في شرحه لكتاب سيبوبه وهو لا يزال مخطوطًا، ولم أتمكن من الاطلاع عليه.
(٣) انظر: النسخة (ح): ٣/ ٤٥ ب، حيث قال: (لا تك): أصلها لا تكن، وإنما حذفت النون عند سيبويه لكثرة استعمال هذا الحرف، قال أبو إسحاق في قوله: (ولم يك من المشركين): ذكر الحيلة من البصريين أنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال ومع ذلك أشبهت النون حروف اللين بأنه تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة، وأنها غنة تخرج من الأنف؛ فلذلك حملت الحذف.
(٤) رواه مختصرًا الثعلبي ٦/ ٦٨ أ، وذكر السمرقندي ٢/ ٢٢ طرفًا منه.
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٢٤، وابن أبي هاشم ٥/ ١٧١٨، والثعلبي ٦/ ٦٨ أ، والبغوي ٣/ ٣٦٩.
203
فعلى هذا هم غيّروا هذه النعمة عليهم بمحمد - ﷺ - بتكذيبهم وقصدهم قتله، فغير الله عليهم ما أعطاهم من نعم الدنيا وأخذهم بعذاب الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: يريد: سميع لقولكم، عليم بنياتكم (١).
٥٤ - قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ يجوز أن تكون الكاف متعلقة بمحذوف قبلها كما ذكرنا في الأولى، ويجوز أن تتعلق بما بعدها وهو قوله: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ يعني: أهل مكة كذبوا بآيات ربهم كصنيع آل فرعون في التكذيب بما جاء به موسى، ثم قال: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ فذكر عقوبة الفريقين لما شبّه فعل أحدهما بفعل الآخر، ثم قال: ﴿وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ يعني آل فرعون وأهل مكة، والمفسرون على أن قوله: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ من فعل آل فرعون والذين من قبلهم (٢)، قال ابن عباس: يريد: الذين كذبوا قبل قوم فرعون (٣)، والوجه الأول (٤) صحيح مرضي قوي، ويمكن أن يحمل عليه الأول من قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا﴾ (٥) الآية.
(١) في "تنوير المقباس" ص ١٨٤: (سميع) لدعائكم (عليم) بإجابتكم.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٤، والثعلبي ٦/ ٦٨ أ، وابن الجوزي ٣/ ٣٧١.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) وهو أن المراد بالمكذبين هم أهل مكة، وعطف قوله تعالى: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ على قوله: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ يدل على أن المكذبين المهلكين هم آل فرعون ومن قبلهم لا أهل مكة، ثم شبه أهل مكة بهم في التكذيب والعذاب.
(٥) الأنفال: ٥٢. والمعنى على هذا الرأي: حال أهل مكة كحال الأمم السابقة؛ إذ كفر أهل مكة فعوقبوا كحال السابقين.
والذي عليه المفسرون أن الكفر من صفة آل فرعون ومن قبلهم وشبه بهم أهل مكة. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٢٣، والسمرقندي ٢/ ٢٢، وابن الجوزي ٣/ ٣٧٠.
٥٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾، قال ابن عباس: يريد: الإنس خاصة (١)، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: في معلوم الله وفي حكمه، ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ معنى (الفاء) في (فهم) عطف جملة على جملة، وكلاهما من صلة (الذين)، كأنه قيل: كفروا مصممين على الكفر فهم لا يؤمنون (٢).
قال سعيد بن جبير ومقاتل: نزلت هذه الآية في يهود قريظة (٣)، وكذلك مما بعدها من قوله: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ﴾، قال أبو بكر بن عبدس (٤): يريد: عاهدتهم، و (من) صلة (٥)، وقال غيره (٦) دخلت (من) لأن المعنى: أخذت منهم العهد.
ويمكن أن تجعل (من) للتبعيض (٧)؛ وذلك أن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم.
(١) في "تنوير المقباس" ص ٢٨٤: (الخلق والخليقة) اهـ. وفي "لسان العرب" (دبب): الدابة اسم لما دب من الحيوان، مميزة وغير مميزة، وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب.
(٢) انظر: "البرهان" للحوفي ١١/ ٨٩ أ.
(٣) رواه بمعناه أبوالشيخ عن سعيد كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٧، وانظر: قول مقاتل في "تفسيره" ص ١٢٣ أ.
(٤) هكذا في (ح) و (س) وفي (م): عياش، وكلاهما خطأ، والصواب: عبدوس، كما في "تفسيرالثعلبي" ٦/ ٦٨ أ.
وهو: الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس النيسابوري النحوي الفقيه، من شيوخ الحاكم أبي عبد الله، وله تفسير ذكره الثعلبي في مقدمة تفسيره، توفي سنة ٣٩٦ هـ. انظر: "إنباه الرواة" ٣/ ٥٦، و"سير أعلام النبلاء" ١٧/ ٥٧.
(٥) ذكره عنه الثعلبي ٦/ ٦٨ أ، وضعف هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٥٠٨.
(٦) هو: أبو سهل محمد بن محمد بن الأشعث، كما في "تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٨ أ، وضعف هذا القول أبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٥٠٨.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٧٢.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾، قال بعض أهل المعاني (١): إنما عطف المستقبل على الماضي للبيان أن من شأنهم نقض العهد مرّة بعد مرّة، قال ابن عباس (٢)، والكلبي (٣)، ومجاهد (٤)، وسعيد ابن جبير (٥)، ومقاتل (٦): هم قريظة نقضوا عهد رسول الله - ﷺ - وأعانوا عليه مشركي مكة ثم اعتذروا وقالوا: أخطأنا ونسينا فعاهدهم ثانية فنقضوا العهد يوم الخندق، فذلك قوله: ﴿ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد: لا يخافون النقمة مني (٧).
وقال أهل المعاني: نقضوا العهد من غير أن يتقوا عقاب الله في عاجل أمرهم وآجله (٨).
٥٧ - قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ﴾، قال الليث: ثقفنا فلانًا في موضع كذا أي: أخذناه، ومصدره: الثقف (٩). وقال ابن دريد: ثقفت الشيء: حذقته، وثقفته: إذا ظفرت به (١٠)، واحتج بالآية، ونحو هذا قال
(١) هو: الحوفي في "البرهان" ١١/ ٨٩ أ.
(٢) ذكره بنحوه السمرقندي ٢/ ٢٣.
(٣) رواه مختصرًا البغوي ٣/ ٣٦٩.
(٤) رواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ٢٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٩، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٧.
(٥) رواه بمعناه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٧.
(٦) انظر: "تفسيره" ١٢٣ أ.
(٧) في "تنوير المقباس" ص ١٨٤ (وهم لا يتقون): عن نقض العهد.
(٨) هذا قول الحوفي في "البرهان" ١١/ ٨٩ ب.
(٩) "تهذيب اللغة" (ثقف) ١/ ٤٨٩، والنص في كتاب "العين" (ثقف) ٥/ ١٣٨ مختصرًا.
(١٠) "جمهرة اللغة" لابن دريد (ثقف) ١/ ٤٢٩، و"تهذيب اللغة" (ثقف) ١/ ٤٨٩.
206
ابن قتيبة: تظفر بهم (١)، وقال الزجاج: تصادفنهم (٢). وأصله: الإدراك بسرعة، قال مقاتل: فإن أدركتهم في القتال وأسرتهم (٣).
وهذا الحرف مما تكلمنا فيه عند قوله: ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ في سورة البقرة (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ معنى التشريد في اللغة: التفريق على اضطراب، يقال: شرد يشرد شرودًا، وشرّده تشريدًا (٥)، ومعنى قوله: ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ ما قاله الزجاج وهو: إفعل بهم فعلًا تفرق به (٦) من خلفهم (٧) ثم اختلفوا في ذلك الفعل الذي يفعل بهم، فقال عطاء: أثخن فيهم القتل حتى يخافوك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن (٨)، وقال ابن عباس: نكل بهم تنكيلًا يشرد غيرهم من ناقضي العهد (٩)، وجميع ما قيل
(١) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٠.
(٣) "تفسير مقاتل" ص ١٢٣ ب مع اختلاف يسير.
(٤) الآية ١٩١، وانظر النسخة الأزهرية ١/ ١١٨ ب، حيث قال: (ثقفتموهم: قال الليث: ثقفنا فلانًا في موضع كذا: أي أخذناه، ومصدره الثقف، وقال الفراء في "المصادر": ثقف يثقف ثقفًا، وربما ثقل فقيل: ثقفًا، قال المفسرون: أي حيث وجدتموهم، وقال الزجاج: معنى الآية: لا تمتنعوا من قتلهم في الحرم وغيره.
(٥) قال ابن فارس: (شرد) الشين والراء والدال أصل واحد وهو يدل على تنفير وإبعاد، وعلى نفار وبعد في انتشار. "معجم مقاييس اللغة" (شرد) ٣/ ٢٦٩.
(٦) في (م): (بهم).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٠.
(٨) رواه الثعلبي ٦/ ٦٨ ب.
(٩) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٧٣، ورواه ابن جرير ١٠/ ٢٥ - ٢٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧١٩ بلفظ: نكل بهم من بعدهم.
207
في هذا يعود معناه إلى هذا القول (١)، ولقد أوجز من قال: فرق جمع كل ناقض بما تبلغ من هؤلاء (٢)، وقال مقاتل: فنكل بهم من بعدهم من العدو وأهل عهدك ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ النكال فلا ينقضون العهد (٣).
ومعنى نكل بهم: أي افعل بهم فعلًا ينكل غيرهم عنك بسبب ذلك الفعل خوفًا منك، وقال صاحب النظم: معنى ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ اقتلهم ليخافوك غيرهم فيتفرقوا عنك، وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ معنى راجع إلى (مَنْ خَلْفَهُم)؛ لأنهم إذا قتلوا فليس لذكر قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ معنى، فهو منظوم بقوله: ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ والتأويل: فشرد بقتلهم والإنكاء (٤) فيهم (مَنْ خَلْفَهُم) أي من بعدهم، يكن ذلك تخويفًا وعظة لهم، وهذا معنى قول ابن عباس: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ لكي يتعظوا (٥).
(١) اختلاف المفسرين في ذلك الفعل إنما هو اختلاف تنوع وتمثيل، وإذا تبين لنا أن هذه الآية نزلت في بني قريظة فالأولى تفسير التشريد بما فعل رسول الله - ﷺ - فيهم من قتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم؛ وذلك لأمرين:
أ- أن فعل رسول الله - ﷺ - امتثال لأمر ربه وهو أعلم بمراده
ب- أن سعد بن معاذ لما حكم فيهم بأن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية والنساء قال رسول الله - ﷺ -: "قضيت بحكم الله". رواه البخاري (٣٨٠٤) كتاب: المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ، ومسلم (١٧٦٨) كتاب: الجهاد، باب: جواز قتال من نقض العهد، والظاهر أن حكم الله هو المذكور في هذه الآية.
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ٦٨ ب دون ذكر قائله، وروى ابن جرير ١٠/ ٢٦، عن ابن زيد لفظا مقاربًا ونصه: أخفهم بما تصنع بهؤلاء.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٢٣ ب.
(٤) الإنكاء: إكثار الجراح والقتل في العدو حتى يهن ويضعف. انظر: "لسان العرب" (نكي) ٨/ ٤٥٤٥، وفي (س): والإنكال، وهو خطأ.
(٥) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٤ بنحوه.
208
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً﴾، قال ابن عباس: يريد: تعلمن (١)، وقد ذكرنا الخوف بمعنى العلم عند قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ [البقرة: ٢٢٩] وقوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: ٣٤] (٢).
ومعنى (خيانة) أي نقضًا للعهد، وقوله تعالى: ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ﴾، قال الزجاج: أي انبذ عهدهم الذي عاهدتهم (٣) عليه، أي: ارم به إليهم، ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ أي: لتكون أنت وهم سواء في العداوة (٤)؛ فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب، وقال ابن قتيبة: يقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضًا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء (٥).
هذا معنى الآية، فأما حكمها فإن حملنا الخوف على العلم كما ذكره ابن عباس فلا إشكال فيه، والإمام إذا علم الخيانة ونقض العهد ممن هادنهم من المشركين بأمر ظاهر مستفيض استغنى عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب لأنه حينئذ لا يكون خائنًا إذا ناصبهم الحرب، وإن علم الخيانة بأمارات ظاهرة تلوح وتتضح له من غير أمر مستفيض، فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ العهد إليهم، وهذا هو (٦) المعني بالآية.
(١) المصدر السابق، نفس الموضع.
(٢) قال في هذا الموضع: (إلا أن يخافا: أي يعلما، وإنما كان الخوف بمعنى العلم؛ لأن الخوف مضارع للظن، وحكى الفراء: العرب تقول للرجل: قد خرج غلامك بغير إذنك، فيقول له: قد خفت ذاك، يريد: قد ظننته وتوهمته..).
(٣) في (ح) و (س): (عاهدتم)، وهو خطأ.
(٤) اهـ. كلام الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٠.
(٥) "تأويل مشكل القرآن" ص ٢١.
(٦) ساقط من (ح).
209
قال المفسرون وأهل العلم (١): إذا ظهرت آثار الخيانة من عدوك وخفت وقوعهم بك فألق إليهم السلم وآذنهم بالحرب، وذلك كالذي كان من قريظة إذ أجابوا (٢) أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله - ﷺ - بعد العهد الذي كانوا عاهدوه، فكان ذلك موجبًا لرسول الله - ﷺ - خوف الغدر منهم به وبأصحابه، وكذلك الحكم في كل قوم كانوا أهل موادعة للمؤمنين ظهر للإمام منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله - ﷺ - من قريظة، فحق على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب.
وإذا اشتهرت دلائل النقض أغنت عن النبذ كما فعل رسول الله - ﷺ - بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبي - ﷺ - لم (٣) يرعهم إلا جيش رسول الله - ﷺ - بمر الظهران، وذلك على أربعة (٤) فراسخ من مكة.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾، قال ابن عباس: يريد الذين خانوا مع النبي - ﷺ - (٥)، وقال الزجاج: الذين يخونون في عهودهم (٦) وغيرها (٧).
(١) انظر: "الطبري" ١٠/ ٢٧، والزمخشري ٢/ ١٦٥، والبغوي ٣/ ٣٧٠، و"المغني" ١٣/ ١٥٨، والنص للحوفي في "البرهان" ١١/ ٩٤ إلى قوله: وإذا اشتهرت.
(٢) في (ح): (جابوا).
(٣) في (ح): (ثم لم).
(٤) في (ح): (أربع).
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٨٤ بمعناه.
(٦) في (م) و (س): (عهدهم).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٠ بتصرف.
210
٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾، قال الزجاج: معناه لا تحسبن من أفلت من هذا (١) الحرب قد سبق إلى الحياة (٢) (٣).
﴿إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد أنهم لا يعجزونني، وما أعجز عن خلقي، ولا أضعف (٤)، وقال ابن الأنباري: معنى الآية هو: أن أولئك الذين انهزموا من ذلك (٥) العرب أشفقوا من هلكة تنزل بهم في ذلك الوقت، [فلما لم (٦) تنزل طغوا وبغوا، فقال الله عز وجل: لا تحسبن] (٧) أنهم سبقونا بسلامتهم الآن فإنهم لا يعجزوننا فيما يستقبلون من الأوقات (٨).
وذكرنا فيما مضى أن الحسبان يقتضي مفعولين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما، إلا أن المفعول الثاني خبر عن الأول، والفعل الذي هو (حسبت) متعلق بما دلت عليه الجملة.
والآية بيان عن اقتدار الله عز وجل الذي لا ينفع معه حسبان للنجاة من
(١) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن وإعرابه": هذه، قال ابن منظور: العرب: نقيض السلم، أنثى،... وحكى ابن الأعرابي فيها التذكير.. قال: والأعرف تأنيثها. "لسان العرب" (حرب) ٢/ ٨١٥ - ٨١٦
(٢) في (م): (الخيانة).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢١.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٨٤ بمعناه، وفي "البرهان" للحوفي ١١/ ٩٥ أ: لا يفوتون.
(٥) في "الوسيط" ٢/ ٤٦٨: (يوم بدر) بدلاً من قوله: (من ذلك الحرب). وانظر: التعليق السابق رقم (٥).
(٦) ساقط من (ح).
(٧) نص ما بين المعقوفين في "زاد المسير" هو: فلما سلموا قيل: لا تحسبن... إلخ.
(٨) " الوسيط" ٢/ ٤٦٨، وذكره ابن الجوزي "زاد المسير" ٣/ ٣٧٤ باختصار.
211
العقاب، وأكثر القراء قرؤوا ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء (١) على مخاطبة النبي - ﷺ - و ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ المفعول الأول، و ﴿سَبَقُوا﴾ المفعول الثاني، وموضعه نصب، والمعنى: لا تحسبن الذين كفروا سابقين، ومن قرأ بالياء (٢) فقال أبو إسحاق: وجهها ضعيف عند أهل العربية (٣)؛ إلا أنها جائزة على أن
(١) وبها قرأ ابن كثير وشعبة، عن عاصم وأبو عمرو ونافع والكسائي ويعقوب وخلف. انظر: الغاية في القراءات العشر ص ١٦٢، و"تقريب النشر" ص ١١٩، و"تحبير التيسير" ص ١١٨.
(٢) وبذلك قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر وحمزة. انظر: المصادر السابقة نفس المواضع.
(٣) وصف الزمخشري أيضًا هذه القراءة بأنها ليست نيرة، في "الكشاف" ٢/ ١٦٥، وتضعيف قراءة متواترة يُعلم قطعاً أن رسول الله - ﷺ - تلقاها عن ربه وأقرأها أصحابه وهم أهل العربية، من خطل القول، سببه الغلو في أقيسة علماء اللغة، وقصور العلم عن الإحاطة بالأوجه القوية للقراءة، وقد ذكر الواحدي عدة أوجه لهذه القراءة وهناك أوجه أخرى منها:
أ- أن الفاعل ضمير يعود إلى المذكورين في الآية السابقة والتقدير: ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، وهذا اختيار أبي جعفر النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٨٢.
ب- أن الفاعل ضمير يعود للكفار لتقدم ذكرهم في قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وفي قوله: ﴿ثُمَّ يَنْقُضُونَ﴾، و ﴿لَا يَتَّقُونَ﴾، و ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾، ذكره مكي بن أبي طالب في "مشكل إعراب القرآن" ص ٣١٨.
ج - أن الفاعل محذوف يفهم من السياق والتقدير: ولا يحسبن حاسب أو أحد. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢١، و"البحر المحيط" ٤/ ٥١٠ - ٥١١، و"التحرير والتنوير" ١٠/ ٥٤.
وإذا تبين أن لهذه القراءة أكثر من وجه قائم على تقدير المحذوف، حسن التنبيه إلى أن أسلوب الحذف من الأساليب البلاغية العاليه لتذهب النفس في تقدير المحذوف كل مذهب لائق بالمقام.
212
يكون المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا؛ لأنها في حرف ابن مسعود (أنهم سبقوا) (١) فإذا كانت كذلك فهي بمنزلة قولك: حسبت أن أقوم، وحسبت أقوم، على حذف (أن)، ويكون أقوم وقام ينوب عن الاسم والخبر، هذا كلامه (٢).
وحذف (أن) قد جاء في غير شيء (٣) كقوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤]، قال سيبويه: حذف (أن) والمعنى: أن أعبد (٤).
وهو كثير في الشعر (٥)، فإذا وجهته على هذا سد (أن سبقوا) مسد المفعولين؛ كما أن قوله: ﴿أحسبت الناس أن يتركوا﴾ [العنكبوت: ٢] كذلك، وذكر أبو الحسن (٦) وجهًا آخر: وهو أنه أضمر فاعلًا (٧) للحسبان،
(١) ذكر هذه القراءة عنه، الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٦٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٥١٠ - ٥١١، ولم يذكرها ابن أبي داود في "المصاحف"، ولا ابن جني في "المحتسب" ولابن خالويه في "المختصر".
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢١.
(٣) يعني في أكثر من موضع.
(٤) هذا القول مفهوم من عبارة سيبويه، حيث جعل الآية بمنزلة قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
بعد بيان أن (أن) محذوفة في قوله (أحضر). انظر: "كتاب سبويه" ٣/ ١٠٠، و"الحجة" ٤/ ١٥٥، وضعف السيرافي هذا الوجه. انظر: "حاشية كتاب سيبويه" ١/ ٤٥٢، ط/ بولاق.
(٥) انظر بعض الأبيات في "الحجة" ٤/ ١٥٦.
(٦) يعني الأخفش الأوسط، انظر قوله في: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٥٥، لم يذكره في كتاب "معاني القرآن".
(٧) في (م): (فاعلاً آخر).
213
وجعل (الذين كفروا) المفعول الأول (١)، وقال: التقدير: ولا يحسبن النبي الذين (٢) كفروا، وذكر أبو علي وجهًا ثالثًا وقال: يجوز أن يكون أضمر المفعول الأول، التقدير: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أو إياهم سبقوا (٣).
وأكثر القراء على كسر (إن) (٤) في قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾ وهو الوجه (٥)؛ لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول، كقوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ [العنكبوت: ٤] وتم الكلام ثم قال: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ فكما أن قوله: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ منقطع من الجملة التي قبلها، كذلك قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾.
وقرأ ابن عامر: (أنهم) بفتح الألف (٦)، جعله متعلقًا بالجملة الأولى فيكون التقدير: لا تحسبهم سبقوا لأنهم لا يفوتون (٧) فهم (٨) يجزون على كفرهم (٩).
وقال أبو عبيد: لا أعرف لفتح (أن) وجهًا إلا أن تجعل (لا) صلة،
(١) ساقط من (م).
(٢) في (ح): (والذين)، وهو خطأ.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٥٥.
(٤) هذه قراءة الجمهور، ولم يخالف إلا ابن عامر الذي قرأ بالفتح، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٢، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٢، و"تقريب النشر" ص ١١٩.
(٥) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٥٧، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣١٢، و"إعراب القراءات" لابن خالويه ١/ ٢٣٠.
(٦) انظر التخريج السابق لقراءة الجمهور.
(٧) في (ح): (يقولون)، وهو خطأ.
(٨) في (س): (منها)، ولا معنى له.
(٩) انظر هذا التوجيه في: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٥٨، و"حجة القراءات" ص ٣١٢.
214
فتقول: لا تحسبن أنهم يعجزون (١)، قال ابن الأنباري: فتح (أن) بتكرير الفعل، التقدير: لا يحسبن الذين كفروا سبقوا لا يَحْسبُنَّ أنهم يعجزون، و (لا) توكيد للكلام، كقوله تعالى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] (٢).
وهذا الوجه من كون (لا) زيادة ذكره الفراء (٣) وأبو إسحاق (٤) أيضًا.
٦٠ - قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الآية، قال الليث:] (٥) القوة: من تأليف قاف، وواو، وياء؛ فأدغمت الياء في الواو، ويقال: قوي الرجل يقوى قوة فهو قوي، وجمع القوة: قوى، قال تعالى: ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: ٥] (٦).
وقد يسمى ما يتقوى به على أمر قوة، كالذي في هذه الآية، قال ابن عباس: يريد السلاح والقسي (٧) (٨)، وقال مقاتل: السلاح
(١) ذكر بعض هذا القول الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٨٤ وأشار إليه النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٨٣، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ٥١٠، والسمين في "الدر المصون" ٥/ ٦٢٥.
(٢) انظر: قول ابن الأنباري في "زاد المسير" ٣/ ٣٧٤ بنحوه.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤١٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٢، وقد ضعف أبو إسحاق الزجاج هذا الوجه، وعلل ذلك بقوله: لأن (لا) لا تكون لغوًا في موضع يجوز أن تقع فيه غير لغو.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) "تهذيب اللغة" (قوى) ٣/ ٣٠٧٠، وقد اختصر الواحدي القول وغيّر ترتيب بعض الجمل، والقول أيضًا في كتاب "العين" (قوي) ٥/ ٢٣٦ مختصرًا.
(٧) القسي: جمع قوس والقوس معروفة، من آلات الرمي، انظر: "لسان العرب" (قوس) ٦/ ٣٧٧٣.
(٨) "تنوير المقباس" ص ١٨٤، ولم يذكر القسي.
215
والنشاب (١) (٢)، وروي أن النبي - ﷺ - قرأ على المنبر: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ فقال: "ألا إن القوة الرمي" ثلاثًا (٣)، قال أهل التحقيق (٤): الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، ولا نخص شيئًا دون شيء (٥)، فكل ما هو من آلة الغزو والجهاد فهو من جملة ما عني الله بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾، كما روي ليث، عن مجاهد أنه رؤي مع (٦) جوالق (٧)، وهو يتجهز للغزو فقيل: ما
(١) النشاب: النبل والسهام. انظر: "لسان العرب" (نشب) ٧/ ٤٤٢٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٢٣ ب، ولفظه: السلاح: وهي الرمي.
(٣) رواه مسلم (١٩١٧) كتاب: الإمارة، باب: فضل الرمي، وأبو داود (٢٥١٣) كتاب: الجهاد، باب: في الرمي، والترمذي (٣٠٨٣) كتاب تفسير القرآن، سورة الأنفال، وأحمد ٤/ ١٥٧ وغيرهم. انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٩.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٢، و"البرهان" للحوفي ١١/ ٩٦ أ.
(٥) الأولى أن يعطى تفسير رسول الله - ﷺ - مزية وخصوصية فيقال: إن الحديث دليل على فضل الرمي وأنه أعظم القوة، وأنكأ للعدو، وأجل ما يحقق النصر، فينبغي أن يخص بمزيد اهتمام، فهذا الحديث الآخر: "الحج عرفة" فهو يدل على أن هذا المذكور أفضل المقصود وأجله، ولا ينفي اعتبار غيره، وذهب الإمام النووي إلى الوقوف على ظاهر الحديث حيث قال: هذا تصريح بتفسيرها -يعني القوة- ورد لما يحكيه المفسرون من الأقوال سوى هذا. "صحيح مسلم بشرح النووي" ١٣/ ٦٤، ومثله الشوكاني في "تفسيره" ٢/ ٤٦٦ حيث قال: والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله - ﷺ - متعين.
وأقول: إن من يتأمل حال الحرب في عصرنا الحديث يشهد أن تفسير الرسول - ﷺ - القوة بالرمي من آياته التي تشهد أنه لا ينطق عن الهوى، فالقوة في هذا العصر تكاد تنحصر في الرمي.
(٦) هكذا في جميع النسخ، والصواب: معه، وفي "تفسير ابن جرير": لقي رجل مجاهدًا بمكة ومع مجاهد جوالق، وفي "تفسير ابن أبي حاتم" ومعه جوالق.
(٧) الجوالق: بكسر الجيم واللام وبضم الجيم وفتح اللام وكسرها: وعاء. انظر =
216
هذا؟ قال: هذا من القوة (١).
وتفسير النبي - ﷺ - القوة بالرمي لا يدل على أن المراد بالقوة الرمي دون غيره من السيف والرمح، بل الرمي أحد معاني القوة، ولم يقل: هو الرمي دون غيره.
وتمام (٢) الخبر: "ألا إن الله سيفتح لكم الأرض وستكفون المؤونة (٣)، فلا يعجزن أحدكم أن يلهو بأسهمه" (٤).
وهذه الآية دليل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعلم الفروسية والرمي فريضة، غير أنها من فروض الكفايات.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ ذكرنا في آخر سورة آل عمران أن أصل الرباط من مرابطة الخيل وهو ارتباطها بإزاء العدو (٥)، وأكثر المفسرين على أن المراد برباط الخيل هاهنا: ربطها واقتناؤها للغزو، وهي من أقوى عدد الجهاد (٦)، وقد روي أن رجلاً قال لابن سيرين: إن فلانًا
= انظر: "القاموس المحيط" باب: القاف، فصل: الجيم ص ٨٧٢.
(١) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٣٠، من رواية رجاء بن أبي سلمة، أما رواية ليث فهي عند ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٢ لكن بلفظ: القوة: ذكور الخيل.
(٢) في (ح): (وتمام الله الخير)، وهو خطأ.
(٣) أي مؤونة القتال وتعب الجهاد. انظر: "تحفة الأحوذي" ٨/ ٤٧٤، وتطلق المؤونة أيضاً على النفقة كما في "لسان العرب" (مون) ٧/ ٤٣٠٢، لكن السياق يدل على أن الأول هو المراد.
(٤) رواه الترمذي (٣٠٨٣) كتاب تفسير القرآن، باب: سورة الأنفال، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٨.
ورواه بنحوه مسلم (١٩١٨) في "صحيحه" كتاب الإمارة، باب: فضل الرمي.
(٥) انظر: "البسيط" آل عمران: ٢٠٠.
(٦) يعني في وقتهم.
217
أوصى بثلث ماله للحصون، فقال ابن سيرين: يُشترى به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزى عليها، فقال (١): الرجل أوصى للحصون. فقال: هي الخيل، ألم تسمع قول الشاعر (٢):
ولقد علمت على تجنبى (٣) الردى أن الحصون الخيل لا مدر (٤) القرى (٥)
وقال عكرمة: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ الإناث (٦)، وهو قول الفراء، قال: يريد إناث الخيل (٧).
ووجه هذا القول: أن العرب تسمي الخيل إذا ربطت بالأفنية وعُلّفت: رُبُطًا، واحدها: ربيط (٨)، وتجمع (٩) الرُّبُط رباطًا (١٠)، وهو جمع الجمع (١١)، فمعنى الرباط هاهنا: الخيل المربوطة في سبيل الله، وفسر
(١) في (ج) و (س): (وقال).
(٢) البيت لأشعر الجعفي، انظر: "لسان العرب" (حصن) ٣/ ٩٠٣، و"شرح شواهد الكشاف" ٤/ ٤٠٤.
(٣) في "لسان العرب" (حصن) ٣/ ٩٠٣: توقي.
(٤) في (ح): (مدن)، وهو خطأ.
(٥) ذكر الأثر الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٦٦ بلفظ مقارب، ولم يخرجه الزيلعي في كتابه "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف".
(٦) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الجهاد، باب: الخيل ١٢/ ٤٨٣، وابن جرير ١٠/ ٣٠، وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٤٩.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤١٦.
(٨) في (ج): (ربيطة).
(٩) في (م): (والجمع).
(١٠) في (ج): (ربطًا).
(١١) انظر: "تهذيب اللغة" (ربط) ٢/ ١٣٤٦.
218
بالإناث لأنها أولى ما تربط لتناسلها ونمائها بأولادها، فارتباطها أولى من ارتباط الفحول.
وقوله تعالى: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [قال مجاهد] (١): قال ابن عباس: يريد: تخيفون به (٢).
والكناية تعود إلى (ما) في قوله: ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ويجوز أن تعود إلى الإعداد؛ لأن قوله: ﴿وَأَعِدُّوا﴾ يدل عليه.
وقوله تعالى: ﴿عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾، قال مجاهد ومقاتل: يعني: مشركي مكة وكفار العرب (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾، قال مجاهد ومقاتل: يعني: قريظة (٤).
(١) ساقط من (م) و (س).
(٢) لفظ الرواية عن ابن عباس: (تخزون به). إذ بهذا اللفظ رواه الثوري في "تفسيره" ص ١٢٠، والطبري ١٠/ ٣٠، عن مجاهد، عن ابن عباس، وكذلك رواه الثعلبي ٦/ ٦٩/ ب، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "فتح القدير" للشوكاني ٢/ ٤٦٨، بل أشار ابن خالويه في كتابه "مختصر في شواذ القرآن" ص ٥٠، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٦٦ إلى أن ابن عباس ومجاهد كانا يقرآن: (تخزون به)، وقد ذكر الحوفي في "البرهان" ١١/ ٩٥ ب رواية ابن عباس بلفظ مقارب لما ذكره المؤلف ونصه: (تخوفون به).
(٣) انظر قول مقاتل في: "تفسيره" ١٢٣ ب، ولفظه: كفار العرب، ورواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٣ بلفظ: (من المشركين). ولم أجد فيما بين يدي من مراجع إشارة إلى قول مجاهد، ومن الجدير بالتنبيه أن تحديد الأعداء هنا وفي الموضع بعده إنما هو باعتبار ملابسات النزول وأسبابه، والعبرة بعموم اللفظ وصلاحيته لكل زمان ومكان.
(٤) رواه عن مجاهد الإمام ابن جرير ١٠/ ٣١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٣، والثعلبي =
219
وقال السدي: هم أهل فارس (١)، وقال الحسن وابن زيد: هم المنافقون، لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم (٢)، قال الحسن: لا كل منافق علم به رسول الله - ﷺ -، قال: ونظير هذه الآية قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ (٣)، ودل كلام ابن عباس في رواية عطاء على هذا المعنى فقال: يريد قومًا معه (٤)، وهذا يدل على أنه أراد المنافقين (٥).
وروى ابن جريج عن سليمان بن موسى (٦) قال: هم كفار الجن، قال: وبلغني أنه لا يقرب جني صاحب فرس أبدًا (٧)، وهذا التفسير مع هذا
= ٦/ ٦٩ ب، والبغوي ٣/ ٣٧٣، وهو في "تفسير مجاهد" ص ٣٥٧، ورواه عن مقاتل بهذا اللفظ البغوي ٣/ ٣٧٣، وفي "تفسير مقاتل" ١٢٣ ب، والسمرقندي ٢/ ٢٤، وابن الجوزي ٣/ ٣٧٥: اليهود.
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٣١، والثعلبي ٦/ ٦٩ ب، والبغوي ٣/ ٣٧٣.
(٢) رواه عنهما البغوي ٣/ ٣٧٣، ورواه عن ابن زيد الإمام ابن جرير ١٠/ ٣٢ - ٣٣، والثعلبي ٦/ ٦٩ ب، وذكره الهواري ٢/ ١٠٣، عن الحسن مختصرًا.
(٣) التوبة: ١٠١، ولم أقف على قول الحسن هذا.
(٤) لم أقف على مصدره، وسبق أن رواية عطاء مكذوبة على ابن عباس.
(٥) في (ح): (المنافقون).
(٦) هو: سليمان بن موسى الأشدق الدمشقي الأموي مولاهم، الإمام الكبير، ومفتي دمشق، وفقيه أهل الشام في زمانه، توفي سنة ١١٩ هـ.
انظر: "التاريخ الكبير" ٢/ ٢/ ٣٨، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٤٣٣، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ١١١.
(٧) رواه بمعناه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٥٩ انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٨٦، وذكره الثعلبي ٦/ ٦٩ ب بلا نسبة.
220
المعنى روي مرفوعًا، وهو أن النبي - ﷺ - قال: "إنهم الجن" (١) في (٢) قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ ثم قال: "إن الشيطان لا يخبل أحدًا في دارٍ فيها فرس عتيق" (٣).
قال بعض المفسرين (٤): وهذا القول هو الأولى بالصواب؛ لأن الله تعالى قال: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس، وأما المنافقون فلم تكن تروعهم (٥) خيل المؤمنين وسلاحهم (٦)؛ لأنهم كانوا يعدون أنفسهم من جملتهم، ويؤكد هذا ما روي عن الحسن أنه قال: إن صهيل الخيل يرهب الجن (٧)، ومع هذا فقول من قال: إنهم المنافقون قريب؛ لأنهم يُرهبون (٨) بعدد المسلمين، ويوجسون الخليفة بظهورهم على عدوهم.
(١) رواه ابن أبي حاتم ٤/ ١٥ أ، قال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٣٥: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه.
(٢) ساقط من (ح) و (س).
(٣) رواه الطبراني في "الكبير" ١٧/ ١٨٩ (٥٠٦)، والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن المنذر وابن قانع في "معجمه" وأبو الشيخ وابن منده والروياني في "مسنده"، وابن مردويه وابن عساكر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٥٩، قال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٥٦: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه.
(٤) هو الإمام ابن جرير، انظر "تفسيره" ١٠/ ٣٢ - ٣٣، وقد ذكر الواحدي قوله بمعناه.
(٥) في (ح): (تردعهم)، وما أثبته موافق لتفسير ابن جرير.
(٦) إلى هنا انتهى قول ابن جرير، وفي قوله: أما المنافقون فلم تكن تروعهم خيل المؤمنين. نظر؛ لأن سبب النفاق قوة المؤمنين وضعف الكافرين الذين بين ظهرانيهم فيسترون كفرهم، ومتى ما شعروا بقوتهم وضعف المؤمنين انقضوا عليهم وأظهروا كفرهم.
(٧) ذكره الزمخشري ٢/ ١٦٦، والرازي ١٥/ ١٨٦، لكن الزمخشري لم ينسبه للحسن.
(٨) في (ح): (يرتبون)، وهو خطأ.
221
وقال قوم من أهل التأويل: هم كل عدو للمسلمين لا يعرفون عداوته (١)
وقال المبرد (٢): في قوله: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ﴾ اكتفى للعلم بمفعول واحد لأنه أراد: لا تعرفونهم (٣)، وأنشد (٤):
فإن الله يعلمني ووهبًا وأنا سوف يلقاه كلانا
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال ابن إسحاق وغيره: من آلةٍ وسلاح وصفراء وبيضاء في طاعة الله: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ (٥)،
(١) ذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٣٣٠، ونسبه لبعض المتأخرين، ورجحه القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٨ فقال: لا ينبغي أن يقال فيهم شيء؛ لأن الله سبحانه قال: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾؛ فكيف يدعي أحد علمًا بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله - ﷺ - وهو قوله في هذه الآية: "هم الجن"، قلت: والحديث لم يصح كما سبق بيانه، وهذا القول أعم الأقوال إذ يدخل فيه كل من لا يعلم المؤمنون عداوته كالمنافقين، والمتربصين بالمؤمنين الدوائر، والدول التي ظاهرها المسالمة، وباطنها العداء والمحاربة.
(٢) في (ح): (المبرك).
(٣) انظر قول المبرد دون إنشاد البيت في: "المقتضب" ٣/ ١٨٩.
(٤) البيت للنمر بن تولب العكلي كما في "ديوانه" ص ٣٩٥، و"شرح المفصل" ص ٢١٣، وكان وهب المذكور نازع النمر بن تولب الشاعر في بئر، فقال في ذلك قصيدة منها البيت المذكور وقبله:(٥) لم أجد هذا القول لابن إسحاق، ونص قوله في "السيرة النبوية" ٢/ ٣٢٠، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٣: أي لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا، وقال ابن جرير ١٠/ ٣٣:
222
قال ابن عباس: يريد: يخلف لكم (١)، والمعنى: يوفر لكم أجره، أي: لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة وعاجل خلفه في الدنيا.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد: لا تنقصون من الثواب، وتلا قوله: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: ٣٣] (٢).
٦١ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ الآية، قال النضر: جنح الرجل إلى فلان وجنح له: إذا تابعه وخضع له (٣)، والرجل يجنح: إذا أقبل على الشيء يعمله بيده، وأنشد قول لبيد:
يريد خيانتي وهب وأرجو من الله البراءة والأمانا
في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع يخلفه الله عليكم. وانظر أيضًا "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤.
جنوح الهالكيّ على يديه مكبًا يجتلي (٤) نقب النصال (٥)
وقال أبو زيد: جنح الرجل يجنح جنوحًا: إذا أعطى بيده، أو عدل إلى ما يحب القوم (٦).
(١) ذكره بمعناه الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٨٧، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٤.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٥/ ١٨٧.
(٣) إلى هنا انتهى قول النضر بن شميل فيما نقله عنه الأزهري، وقد نقله الواحدي بمعناه، ونصه: جنح الرجل إلى الحرورية، وجنح لهم: إذ تابعهم وخضع لهم اهـ. وقد نسب الأزهري ما بعده مع الاستشهاد بالبيت المذكور إلى الليث، وهو بنصه في كتاب "العين" (جنح) ٤/ ٨٣ انظر: "تهذيب اللغة" (جنح) ١/ ٦٦٥ - ٦٦٦.
(٤) في (م): (يحتكى).
(٥) البيت في "ديوان لبيد" ص ١٠٥ن ونسب إليه أيضًا في "سيرة ابن هشام" ٢/ ٣٢١، و"تهذيب اللغة" (جنح) ١/ ٦٦٥، و"لسان العرب" (جنح) ٢/ ٦٩٧.
والهالكي: الحداد، نسبة للهالك بن عمرو الأسدي أول من عمل الحدادة من العرب، والنقب: الصدأ، انظر: "لسان العرب" (هلك) و (نقب).
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٥٨، ولم أجده في كتاب "النوادر في اللغة" لأبي زيد.
223
والمفسرون وأهل المعاني قالوا في هذه الآية: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه (١)، قال ابن الأنباري: [تأويل الآية] (٢): وإن مالوا إلى المسالمة وترك القتال فمل إلى ذلك (٣).
وأنث الهاء في (لها) لأنه قصد بها قصد (الفَعْلَة) و (الجنحة) كقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٥٣] أراد من بعد فَعْلَتهم، ويجوز أن تكون الهاء والألف للسلم في لغة من يؤنثه (٤)، أنشد أبو العباس (٥)، عن سلمة (٦)، عن الفراء:
فلا تضيقن إن السلم واسعة ملساء ليس بها وعث ولا ضيق (٧)
(١) ساقط من (ح).
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٩١، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٣، و"معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٢، و"الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٥٨، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ٦٩ ب، والبغوي ٣/ ٣٧٣، والزمخشري ٢/ ١٦٦.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) قال ابن فارس في "مجمل اللغة" (سلم) ٢/ ٤٦٨: السلم: الصلح يذكر ويؤنث اهـ.
وقال الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٦٦: والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب.
(٥) هو: أحمد بن يحيى (ثعلب)، تقدمت ترجمته.
(٦) هو: سلمة بن عاصم النحوي الكوفي، أبو محمد، راوية الفراء وناشر كتبه، كان أديبًا فاضلًا عالمًا؛ مع ورعٍ شديد، وتأله عظيم، وكثرة عباده، توفي بعد سنة ٢٧٠ هـ.
انظر: "مراتب النحويين" ص ١٤٩، و"إنباه الرواة" ٢/ ٥٦، و"طبقات القراء" لابن الجزري ١/ ٣١١، و"بغية الوعاة" ١/ ٥٩٦.
(٧) لم أعثر على قائله، وهو بلا نسبة في "المذكر والمؤنث" للفراء ص٢٠، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٤٨٥، و"شرح القصائد السبع" ص ٢٦٢، و"شرح المعلقات" للتبريزي ص ١٦٨، و"اللمع" لابن جني ص ٣١٠.
224
والقولان للفراء (١) ذكرهما أبو بكر، قال: وأما قوله: (لها) وهو يريد: إليها؛ فلأن (اللام) تنوب عن (إلى)، و (إلى) عنها، وأنشد (٢):
ومكاشح لولاك أصبح جانحًا للسلم يرقى حَيّتي وضِبابي (٣)
والكلام في السلم قد مضى في سورة البقرة [٢٠٨].
قال مجاهد (٤)، والكلبي (٥) في قوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾: يعني: قريظة. وقال الحسن: يعني: المشركين وأهل الكتاب (٦).
(١) قال الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤١٦: (فاجنح لها): إن شئت جعلت (لها) كناية عن السلم لأنها مؤنثة، وإن شئت جعلته للفعلة كما قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ولم يذكر قبله إلا فعلاً، فالهاء للفعلة.
(٢) أنشد أبو بكر البيت في "المذكر والمؤنث" ١/ ٤٨٦، ولم يذكر ما قبله في هذا الكتاب.
(٣) البيت لإبراهيم بن هرمة كما في "ديوانه" ص ٧٠.
والمكاشح: المضمر العداوة. ومعنى يرقى: يتعوذ. والضباب: قال في "لسان العرب" (ضبب) ٤/ ٢٥٤٣ الضَّب والضَّب: الغيظ والحقد، وقيل: هو الضغن والعداوة، وجمعه ضباب، قال الشاعر:
فما زالت رقاك تسل ضغني وتخرج من مكامنها ضبابي
والمعنى: لولا المخاطب لجنح الخصم للسلم ومال إليه، وصار يتودد للشاعر ليسل غيظه وحقده.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ٣٤ وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٥، والثعلبي ٦/ ٧٠ أ، وهو في "تفسير مجاهد" ص ٣٥٧.
(٥) "الوسيط" ٢/ ٤٦٩، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٤ عنه، عن ابن عباس.
(٦) ذكره هود بن محكم "تفسيره" ٢/ ١٠٢ دون ذكر أهل الكتاب، وكذلك المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٦٩.
225
وأكثر المفسرين على أن هذا منسوخ (١) وهو قول قتادة (٢)، وعكرمة (٣)، والحسن (٤)، وابن زيد (٥) قالوا: نسخها قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥]، وقوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٢٩]، ونحو ذلك روى عطاء الخرساني، عن ابن عباس (٦)، وقال
(١) لعله يعني مفسري السلف وقد ذهب كثير من المتأخرين إلى أنها محكمة كابن جرير ١٠/ ٣٤، والسمرقندي ٢/ ٢٤، والزمخشري ٢/ ١٦٦، وابن كثير ٢/ ٣٥٦ وغيرهم؛ لإمكان الجمع بين الآيات فالمشركون يقاتلون كافة حتى يجنحوا إلى السلم، ولا يجوز للمسلمين أن يبدؤا بطلب الصلح ابتداءً وقت قوتهم وعلوهم، ومال بعضهم إلى القول بالنسخ كالكيا الهراسي في "أحكام القرآن" ٣/ ١٦٥، والثعلبي ٦/ ٦٩/ ب، والبغوي ٣/ ٣٧٣ إذ لم يذكروا غير القول به، وجوّزه ابن الجوزي ٣/ ٣٧٦ بناءً على من أريد بهذه الآية، ويحسن التنبيه إلى ما سبق بيانه إلى أن اصطلاح السلف في النسخ أوسع من اصطلاح المتأخرين فلا ينبغي الاغترار به، والحكم على رفع حكم الآية من جميع الوجوه بناءًا عليه، وانظر في القول بنسخ هذه الآية: "تفسير الطبري" ١٠/ ٣٤، و"الإيضاح" لمكي ص ٢٥٩، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٣٥٦ - ٣٥٧، و"النسخ في القرآن الكريم" ١/ ٥٦٦.
(٢) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٣٦١، وابن جرير ١٠/ ٣٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٥، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٨٥.
(٣) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في الموضعين السابقين.
(٤) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، و"تفسير البغوي" ٣/ ٣٧٣.
(٥) رواه ابن جرير ١/ ٣٤، وابن أبي حاتم، الموضع السابق.
(٦) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص ١٩٤، وابن الجوزي في "الناسخ والمنسوخ" ص ٣٤٧، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٧٢٥ أ. والبيهقي في "السنن الكبرى" كتاب السير، باب: ما جاء في نسخ العفو عن المشركين ٩/ ٢٠، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٠، وفي سنده عثمان بن عطاء الخرساني، ضعيف كما في "الكاشف" ٢/ ٢٢٢، ثم إن أباه لم يسمع من ابن عباس كما في "تهذيب التهذيب" ٣/ ٧١ - ٧٢.
226
بعضهم (١): الآية غير منسوخة ولكنها تتضمن الأمر بالصلح إذا كان الصلاح فيه، فإذا رأى الإمام مصالحتهم والقوة (٢) للمسلمين فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة، إذ لا يجوز أن تمضي سنة كاملة ولا يكون للإمام فيها غزوة إما بنفسه وإما ببعض سراياه، وإن كانت القوة -والعياذ بالله- للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين، [ولا تجوز الزيادة عليها (٣)، اقتداء برسول الله - ﷺ - فإنه هادن أهل مكة عشر سنين (٤)] (٥)، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ قال مجاهد: وثق بالله (٧)، ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ قال عطاء: يريد لقولكم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في قلوبكم من الوفاء، وقلوبهم من النقض (٨).
(١) لعله القشيري فقد نقل عنه القرطبي ٨/ ٤٠ بعض هذا القول، وهو صاحب تفسير كبير اسمه: "التيسير في التفسير"، فرغ منه قبل عام ٤١٠ هـ، ووصف بالجودة. انظر: "معجم المفسرين" ١/ ٣٠٠، وانظر: معنى هذا القول في كتاب "الأم" ٤/ ٢٣٦، ٢٦٩، ٢٧٠.
(٢) في (ج): (والعزة).
(٣) انظر: أحكام الصلح مع الكفار في كتاب "الأم" ٤/ ٢٦٨ - ٢٧٢، و"المغني" ١٣/ ١٥٥ - ١٦٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٩ - ٤١.
(٤) روى ذلك الإمام أحمد ٤/ ٣٢٥ في ثنايا قصة صلح الحديبية، وكذلك ابن إسحاق في "السيرة" ٣/ ٣٦٦، وأصل القصة في "الصحيحين"، و"صحيح البخاري" (٤١٨٠)، (٤١٨١) كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية ٥/ ٢٥٨، و"صحيح مسلم" كتاب الجهاد، باب: صلح الحديبية ٣/ ١٤٠٩ (١٧٨٣).
(٥) ساقط من (س).
(٦) انظر: "السيرة النبوية" ٤/ ١٠.
(٧) لم أقف عليه، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٦٩، والسمرقندي في "تفسيره" ٢/ ٢٤ بلا نسبة.
(٨) لم أقف عليه، وقد ذكر في المصدرين السابقين، الموضوع نفسه، بلا نسبة.
227
٦٢ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾، قال الكلبي: أي بالصلح لتكف عنهم (١)، وقال أبو إسحاق: أي: إن أرادوا بإظهار الصلح خديعتك ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ أي: فإن الذي يتولى كفايتك الله (٢).
﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ يريد: قواك وأعانك بنصره يوم بدر، قاله الكلبي (٣) وغيره (٤).
﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس وغيره: يعني الأنصار (٥)، وهذا بيان عما ينبغي أن يكون عليه المحق من الثقة بالله إذا خاف مكر المبطل به في أن يكفيه شر كيده لئلا يضطرب أمره في تدبيره.
(١) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٥ عنه، عن ابن عباس مختصرًا.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٢.
(٣) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ١٨٥ عنه، عن ابن عباس.
(٤) هذا أيضًا قول مقاتل في "تفسيره" ص ١٢٣/ ب، وانظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٥، و"زاد المسير" ٣/ ٣٧٦.
(٥) رواه ابن مردويه، عن ابن عباس، كما في "الدر المنثور" ٢/ ٣٥٧، ورواه ابن جرير ١٠/ ٣٥، والثعلبي ٦/ ٧٠ أ، عن السدي، وهو قول مقاتل كما في "تفسيره" ١٢٣ ب، وابن جرير، الموضع السابق، والسمرقندي ٢/ ٢٤.
وقد يقال: أي حاجة مع نصر الله لنصر المؤمنين؟
فالجواب: إن النصر والتأييد كله من الله تعالى، لكنه على قسمين:
أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة.
والثاني: ما يحصل بواسطتها.
فالأول هو المراد من قوله: ﴿أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾، والثاني هو المراد بقوله: ﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾.
انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٨٩.
٦٣ - قوله تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾، قال الليث: كل شيء ضممت بعضه إلى بعض فقد ألفته تأليفًا (١)، وقال غيره (٢): التأليف: جمعٌ على تشاكل، ولهذا قيل: هذه الكلمة تأتلف مع هذه ولا تأتلف مع تلك، قال ابن عباس والمفسرون: يعني بين قلوب الأوس والخزرج وهم الأنصار (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾، قال عطية: يعني للعداوة التي كانت بينهم (٤)، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: إن قلوبهم بيده يؤلفها كيف شاء (٥)، ﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ﴾ أي: قدير لا يمتنع عليه شيء ﴿حَكِيمٌ﴾ عليم بما يفعله (٦).
(١) كتاب "العين" (ألف) ٨/ ٣٣٦.
(٢) هو: الحوفي في "البرهان في علوم القرآن" ١١/ ١٠١ ب، وقد اختصر المؤلف قوله.
(٣) رواه ابن مردويه، عن ابن عباس والنعمان بن بشير، كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٢، ورواه ابن جرير ١٠/ ٣٥ - ٣٦، عن السدي وبشير بن ثابت وابن إسحاق، كلهم بمعناه وهو قول الفراء ١/ ٤١٧، والثعلبي ٦/ ٧٠/ أ، والبغوي ٣/ ٤٧٤ وغيرهم.
(٤) لم أقف عليه، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٦٩ بلا نسبة.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٨٥ بمعناه.
(٦) تفسير الحكمة بالعلم معروف في اللغة.
قال الجوهري: الحكيم: العالم وصاحب الحكمة. انظر: "الصحاح" (حكم) ٥/ ١٩٠١، والمشهور في معنى الحكمة: وضع الأشياء في مواضعها من الإتقان، قال ابن الأثير في "النهاية" (حكم) ١/ ٤١٨: الحكيم: فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل، وقال ابن جرير ١/ ٥٥٨: الحكيم: الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
قال أبو إسحاق: أعلم الله عز وجل أن تأليف قلوب المؤمنين من الآيات العظام، وذلك أن النبي - ﷺ - بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، ونصرة بعضهم لبعض بحيث لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل (١) عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره؛ فألف الإيمان بين قلوبهم حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه، فأعلم الله عز وجل أن هذا ما تولاه منهم إلا هو (٢).
٦٤ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قال أهل المعاني: كرر في ﴿حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ بعد ما ذكر في قوله: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾؛ لأن المعنى هناك: إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم، والمعنى هاهنا عام في كل كفاية تحتاج إليها (٣). روى سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في إسلام عمر (٤)، وقال سعيد بن جبير: أسلم مع النبي - ﷺ - ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت هذه الآية (٥).
(١) هكذا في جميع النسخ، وكذلك في "الوسيط" ٢/ ٤٦٩، باعتبار معنى القبيلة، وفي "معاني القرآن": فيقاتل عنه حتى يدرك ثأره، بالبناء للمجهول.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٣، وقد نقل الواحدي قوله بتصرف واختصار.
(٣) لم أجد من ذكر هذا القول من أهل المعاني، وقد ذكره بمعناه الفخر الرازي ١٥/ ١٩١، والقرطبي ٨/ ٤٢.
(٤) رواه المصنف في "أسباب النزول" ص ٢٤١ - ٢٤٢، والطبراني في "المعجم الكبير" ١٢/ ٦٠ (١٢٤٧٠)، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٢، وهو موضوع؛ إذ مداره على إسحاق بن بشر الكوهلي، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠١ (١١٠٣٢): هو كذاب اهـ. وقال ابن أبي هاشم في "الجرح والتعديل" ٢/ ٢١٤ (٧٣٤): كان يكذب، يحدث عن مالك وأبي معشر بأحاديث موضوعة.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ٧٠ أ، والبغوي ٣/ ٣٧٤، وهو مرسل، ثم إن في سندهما إبراهيم =
230
قال أهل التفسير فعلى هذا القول هذه الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله - ﷺ - (١)، وعن ابن عباس أيضًا: نزلت هذه الآية [بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، قال: وسورة الأنفال كلها مدنية غير هذه الآية] (٢)؛
= ابن نصر، قال ابن حجر في "تعجيل المنفعة" ص ٢٢: كذبه ابن معين، وقال صالح جزرة: كان يكذب عشرين سنة، وأشكل أمره على أحمد حتى ظهر بعد، وقال النسائي: ليس بثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ. باختصار.
وفي السند المذكور أيضًا جعفر بن أبي المغيرة، قال عنه الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص ١٤١ (٩٦٠): صدوق يهم، والأثر رواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٨، وفي سنده جعفر المذكور، ويحيى الحماني: شيخ حافظ، لكنه متهم بسرقة الحديث كما في "تقريب التهذيب" ص ٥٩٣ (٧٥٩١).
وعلى فرض صحة السند فإن المتن لا يصح لما يأتي:
١ - قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٥٨ معلقًا على هذه الرواية: وفي هذا نظر لأن هذه الآية مدنية وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة.
وقال أبو سليمان الدمشقي: هذا لا يحفظ، والسورة مدنية بإجماع. "زاد المسير" ٣/ ٣٧٧.
٢ - أن الثابت تاريخيًا أن عدد المهاجرين إلى أرض الحبشة من المؤمنين ثلاثة وثمانون رجلاً سوى النساء والأبناء.
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ١/ ٣٤٣ - ٣٦٣ وإسلام عمر كان بعد هذه الهجرة.
٣ - أن المعنى الصحيح للآية -كما سيأتي إيضاحه-: يا أيها النبي يكفيك الله ويكفي أتباعك، بينما هذا الأثر يقتضي أن يكون المعنى: يكفيك الله ويكفيك أتباعك من المؤمنين مثل عمر.
انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥، وهذا المعنى فاسد كما سيأتي بيانه.
(١) هذا قول القشيري، كما في "تفسير القرطبي" ٨/ ٤٢، وانظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥، وابن عطية ٦/ ٣٦٢، والرازي ١٥/ ١٩١.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
231
فإنها نزلت بالبيداء (١) (٢). وقال مقاتل في قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني الأنصار (٣)، وقال عطاء، عن ابن عباس: يعني المهاجرين والأنصار (٤).
واختلفوا في محل (من) في قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾. نحو اختلاف المفسرين فقال الفراء: الكاف في (حسبك) خفض و (من) في موضع نصب على معنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك، كما قال الشاعر:
إذا كانت الهيجا وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند (٥)
قال: وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا: حسبك وأخاك حتى يقولوا: حسبك وحسب أخيك، ولكنا أجزناه؛ لأن في (حسبك) معنى واقع من الفعل فرددنا (من) (٦) على تأويل (الكاف) لا على لفظها (٧) كقوله: ﴿إِنَّا
(١) الأرجح في تعريف المكي والمدني أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة أم بسفر من الأسفار. انظر: "الإتقان" ١/ ٣٦، وعلى هذا فالآية مدنية أيضًا.
(٢) ذكره مختصرًا الماوردي ٢/ ٣٣١، والقرطبي ٨/ ٤٣٠، عن الكلبي، وذكره ابن عطية ٦/ ٣٦٢ بلا نسبة.
(٣) لم أجد من ذكره عنه، وقد ذكر الأنصار في الآية السابقة مرتين، انظر "تفسيره" ١٢٣ ب. أما قوله في هذه الآية فنصه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ وحسب من اتبعك من المؤمنين الله عز وجل.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٨٥ بنحوه من رواية الكلبي، وكلا الروايتين موضوعتان.
(٥) البيت لجرير كما قال البغدادي في "ذيل الأمالي" ص ١٤٠، وليس في "ديوانه"، وانظره بلا نسبة في: "خزانة الأدب" ٧/ ٥٨١، و"سمط اللآلئ" ٢/ ٨٩٩، و"لسان العرب" (حسب) ٢/ ٨٦٥.
(٦) ساقط من (س).
(٧) يعني: إن لفظ (الكاف) في محل جر بالإضافة، وتأويلها في محل نصب مفعول به؛ لأن معنى (حسبك) يكفيك.
232
مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: ٣٣] فرد الأهل على تأويل (الكاف) (١).
وهذا الوجه من الإعراب في محل (من) على قول ابن زيد [وإحدى الروايتين عن الشعبي، قال ابن زيد] (٢) إن الله حسبك وحسبهم (٣)، وقال الشعبي في رواية: حسبك الله وحسب من شهد معك (٤)، قال الفراء: وإن شئت جعلت (من) في موضع رفع وهو أحب الوجهين إليّ (٥)، قال (٦) الزجاج ومن رفع فعلى العطف على الله عز وجل، والمعنى: فإن حسبك الله وتُبّاعك (٧) من المؤمنين (٨).
وذكر الكسائي الوجهين أيضًا في محل (من) (٩).
فإذا قلنا أن في محل (من) رفع فهو معنى قول الشعبي: حسبك الله وحسبك من اتبعك (١٠)، ونحو ذلك قال الحسن (١١). وقال بعض أهل
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤١٧ مع اختلاف يسير.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٤٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٧.
(٤) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤١٧.
(٦) في (ح): (وهو قول).
(٧) بضم التاء وتشديد الباء.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٣.
(٩) انظر: "عناية القاضي" للخفاجي ٤/ ٢٨٩، و"محاسن التأويل" ٨/ ٣٠٣٢.
(١٠) ذكر السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٢ أنه أخرجه البخاري في "تاريخه"، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، ولم أجد هذه الرواية في "تفسير ابن أبي حاتم"، بل ذكر عنه الرواية الأولى.
(١١) انظر: "تفسير القرطبي" ٨/ ٤٣، و"البحر المحيط" ٤/ ٥١٦، و"الدر المصون" ٥/ ٦٣٢، وفي هذا القول نظر من عدة أوجه منها: =
233
المعاني: قد عني الله جل ثناؤه الوجهين جمعيًا بالآية (١).
= أولاً: نظائر هذه الآية تدل على أن المعنى الصحيح للآية هو: يا أيها النبي يكفيك الله وحده ويكفي أتباعك المؤمنين، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣]، وقال تعالى: ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: ٣٨]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٦٢]، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧]، ومعلوم أن خير ما يفسر القرآن القرآن نفسه، وقد ذهب إلى هذا المعنى الصحيح جمهور المفسرين، انظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٧٧.
ثانيًا: قال الإمام ابن القيم في سياق بيان أوجه التقدير في الآية: وفيه تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن تكون (من) في موضع رفع عطفا على اسم (الله) ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك، وهذا -وإن قاله بعض الناس- فهو خطأ محض، لا يجوز حمل الآية عليه، فإن (الحسب) و (الكفاية) لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٢]؛ ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣]، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟ هذا من أمحل الأمحال، وأبطل الباطل. "زاد المعاد" ١/ ٣٦.
ثالثًا: قال جمال الدين القاسمي بعد أن ذكر رد الخفاجي قول ابن القيم محتجًا بأن الفراء والكسائي رجحا وجه الرفع: أقول: هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة، كما هو دأبه، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وقفة لما ضعفه، والفراء والكسائي من علماء العربية، ولأئمة التأويل فقه آخر، فتبصر ولا تكن أسير التقليد. "محاسن التأويل" ٨/ ٣٠٣٢.
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٦١٤ - ٦٨٥ بمعناه.
234
٦٥ - قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ الآية، معنى التحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء، قال ابن عباس: يريد: الحث على نصر دين الله (١)، وذكر أبو إسحاق في اشتقاقه وجهًا بعيدًا فقال: تأويل التحريض في اللغة: أن يحث الإنسان على شيء حثًا يعلم معه أنه حارض إن تخلف عنه، والحارض: الذي قد قارب الهلاك (٢).
أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي - ﷺ - كانوا حارضين أي: هالكين، فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾، قال ابن عباس: يريد: الرجل بعشرة (٤).
وقال الليث: قلت للخليل: ما معنى العشرين؟ قال: جماعة (٥) عِشر (٦)، قلت: والعِشْر كم يكون؟ قال: تسعة أيام، قلت: فعشرون ليست
(١) "تنوير المقباس" ص ١٨٥ بمعناه
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٣.
(٣) قال صاحب القاموس في مادة (حرض) ص ٦٣٩: الحَرَض: الفساد في البدن وفي المذهب وفي العقل، والرجل الفاسد المريض، كالحارضة والحرِض ككتف، والكالّ المعيي، والمشرف على الهلاك اهـ. وفي "مجمل اللغة" (حرض) ١/ ٢٢٦: الحرض: المشرف على الهلاك، قال الله -جل ثناؤه-: ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ وحرضت فلانًا على كذا: إذا أمرته به، وهو من الأول؛ لأنه إذا خالف فقد هلك، كذا فسر بعض أهل العلم قوله تعالى: ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾.
(٤) رواه بنحوه البخاري في "صحيحه" (٤٦٥٣) كتاب التفسير، باب: الآن خفف الله عنكم، وابن جرير ١٠/ ٣٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٨.
(٥) في (ح): (جمع جماعة عشر)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٦) بكسر العين وإسكان الشين، قال الخليل في كتاب "العين" (عشر): العِشْر: ورد =
235
بتمام إنما هو عشران ويومان، قال: لما مر من العِشر الثالث يومان جمعته بالعشرين، قلت: وإن لم يستوعب الجزء الثالث؟ قال: نعم، ألا ترى إلى قول أبي حنيفة (١): إذا طلقها تطليقتين وعُشْر تطليقة فإنه يجعلها ثلاثًا (٢)، وإنما من التطليقة الثالثة جزء، فالعشرون هذا قياسه (٣).
قال النحويون: وهذا خطأ فاسد من الكلام، ولم يقل الخليل هذا (٤)، ومتى كان كلام العرب قياسًا على قول أبي حنيفة، ولكن (عشرين)
= الإبل اليوم العاشر، وفي حسابهم: العِشْر: التاسع، وإبل عواشر: وردت الماء عشرًا.
(١) هو: النعمان بن ثابت بن زوطي الكوفي، التيمي مولاهم، الإمام، فقيه الملة، وعالم العراق، وصاحب المذهب المشهور، ولد سنة ٨٠ هـ في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك، عني بطلب الآثار، وصار إليه المنتهى في الرأي وغوامض الفقه، توفي سنة ١٥٠ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ١٣/ ٣٢٣، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣٩٠، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٢٢٩.
(٢) انظر: مذهب أبي حنيفة في احتساب بعض التطليقة تطليقة كاملة في "تحفة الفقهاء" للسمرقندي ٢/ ٢٦٨، و"بدائع الصنائع" ٤/ ١٨٨٥، وكتاب "المبسوط" ٦/ ١٣٩.
(٣) "تهذيب اللغة" (عشر) ٣/ ٢٤٤٥ - ٢٤٤٧ مع اختلاف يسير، كتاب "العين" للخليل (عشر) ١/ ٢٤٦ بمعناه.
(٤) الراوي عن الخليل هو الليث بن المظفر راوي كتاب "العين" للخليل، وقد أثنى عليه خصمه ومتتبع زلاته وهو الأزهري صاحب "تهذيب اللغة" فقال عن كتاب "العين" الذي ينسبه لليث: فلا تشكن فيه من أجل أنه زل في حروف معدودة، هي قليلة في جنب الكثير الذي جاء به صحيحًا، كما نقل وصف الإمام إسحاق بن راهويه الرجل بالصلاح.
انظر: "مقدمة تهذيب اللغة" ١/ ٢٨ - ٢٩، وانظر: تحامل النحاة البصريين على =
236
كأنه في الظاهر جمع (عشر) و (ثلاثون) جمع (ثلاث)، و (أربعون) جمع (أربع)، وليس الأمر كذلك؛ لأن (العِشْر) غير معروف إلا في إظماء الإبل، ولو كان (ثلاثون) جمع ثلاث لوجب أن يستعمل في (تسعة) وفي (اثنى عشرة) وفي كل عدد [الواحد من تثليثها ثلاث] (١) وكذلك القول في (الأربعين) (٢) و (خمسين) إلى (التسعين) كالقول في (ثلاثين)، فقد ثبت أن (ثلاثين) ليس جمع (ثلاث)، وكذلك سائر العقود، ولكن (عشرين) و (ثلاثين) جار مجرى (فلسطين) في أنه اسم موضوع على سورة الجمع لهذا العدد، فإن (٣) اعتقد له واحد وإن لم يجر به استعمال [كأن (عشرًا) و (ثلاثًا) و (ثلاث): جماعة] (٤) فكأنه قد كان ينبغي أن تكون فيه الهاء فعرض من ذلك الجمع بالواو والنون، وعاد الأمر فيه إلى قصة (أرض) و (أرضون) (٥) وقد ذكرنا الكلام فيه.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
= الليث في "مقدمة كتاب العين" ١/ ١٨ - ٢٧ للدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي.
(١) هكذا في جميع النسخ، والعبارة مضطربة، ونص ما بين المعقوفين في "سر صناعة الإعراب": الواحد من تثليثها فوق العشرة نحو (ثلاثة وثلاثين)؛ لأن الواحد من تثليث هذه (أحد عشر).
(٢) في "سر صناعة الإعراب": أربعين.
(٣) في (ج): (فإنه).
(٤) نص ما بين المعقوفين في "سر صناعة الإعراب": فكأن (ثلاثين) جمع (ثلاث) و (ثلاث): جماعة.
(٥) انظر: "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٢٦، ٦٢٧، وقد تصرف الواحدي في عبارته كثيراً وزاد بعض الجمل.
237
قرئ (يكن) (١) بالياء والتاء (٢)، فمن قرأ بالياء فلأنه يراد بالمائة المذكر لأنهم رجال في المعنى فحمل الكلام على أنهم مذكرون في المعنى، يدلك على ذلك قوله: (يغلبوا) كما جاء: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] فأنث الأمثال على المعنى لما كانت حسنات.
ومن قرأ بالتاء حمل الكلام على اللفظ، واللفظ مؤنث، وكان أبو عمرو يقرأ هذا بالياء، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ﴾ بالتاء (٣)؛ لأن التأنيث هاهنا أشد مشاكلة لقوله: (صابرة) من التذكير، وقرأ الأول بالياء؛ لأنه أخبر عنه بقوله: ﴿يَغْلِبُوا﴾ فكان التذكير أشد مشاكلة لـ ﴿يَغْلِبُوا﴾ (٤).
وأما الكلام في (مائة) فقال الفراء: إنها منقوصة من آخرها نحو: السنة وبابها، قال: وقد أتم بعض الشعراء المائة فقال (٥):
(١) ساقط من (ح) و (س).
(٢) في قوله ﴿يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ﴾، وقوله: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ﴾: قرأ الكوفيون بالياء في الموضعين، ووافقهم البصريان في الموضع الأول فقط، والباقون بالتاء على التأنيث في الموضعين. انظر: "التبصرة في القراءات" ص ٢١٢، و"تحبير التيسير" ص ١١٨، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٣٨.
(٣) انظر: تخريج القراءة في التعليق الأسبق، وكتاب "السبعة"ص ٣٠٨، و"التيسير" ص ١١٧.
(٤) القراءة سنة ينقلها السابق للاحق، وليس للقراء إنشاؤها وابتداؤها، ولعل المؤلف يقصد بيان سبب اختيار أبي عمرو لهذه القراءة دون غيرها.
(٥) البيت لتميم بن مقبل كما في "المقاصد النحوية" ٢/ ٣٧٦، ولم أجده في "ديوانه" ولا "ذيله"، وله أو لأبي شبل الأعرابي كما في "الدرر اللوامع" ١/ ١٣٠، وانظره بلا نسبة في: "تذكرة النحاة" ص ٥٠٨، و"لسان العرب" (ضربج) ٥/ ٢٥٧٠.
238
فقلت والمرء قد تخطيه مُنْيَته (١) أدنى عطيته إياي مئيات (٢)
مثل: مِعْيات (٣)، فأخرج الياء (٤).
ابن السكيت: أمأت الدراهم: إذا صارت مائة، وأمأيتها أنا، وجمع مائة: مئين، ومئ (٥) مثل: مِعٍ، وأنشد:
وما زودوني غير سحق عمامة وخمسمئٍ منها قسي وزائف (٦)
(١) في (ح): (ميتته)، وفي "لسان العرب": مُنْيَتُه، مفرد أماني، وضبطه صاحب "المعجم المفصل" ١/ ١٣٦ هكذا: مُنِيَّته، مفرد منايا، والصواب ما ورد في اللسان بدلالة سياق الأبيات ونصها:
قد كنت أحجو أبا عمرو أخًا ثقة.. حتى أمت بنا يوماً ملمات
فقلت ولا مرء قد تخطيه مُنْيَتُه أدنى عطياته إياي مئيات
فكان ما جاد لي لا جاد من سعة دراهم زائفات ضربجيات
انظر: "لسان العرب" (ضربج) ٢/ ٣١٥.
(٢) في "الدرر اللوامع": ميآت، وما أثبته موافق لـ "تذكرة النحاة"، و"لسان العرب".
(٣) في (ح): (ميعاد).
(٤) لم أقف على مصدره.
(٥) هكذا وهو موافق لما في "إصلاح المنطق"، وفي "المشوف المعلم": مئي، مثل: مِعي، وانظر ما ذكره ابن منظور في: رد (مئٍ) في "لسان العرب" (مأي) ٧/ ٤١٢٤، وقال الأخفش: قولهم: ثلاث مئي، فإنهم أرادوا بمئي جماعة المائة، كتمرة وتمر، تقول فيه: رأيت مئْيًا، مثل: معْيًا، وقولهم: رأيت مِئًا، مثل: مِعًا، خطأ؛ لأن الميء إنما جاءت في الشعر.
(٦) البيت لمزرد بن ضرار كما في "ديوانه" ص ٥٣، و"إصلاح المنطق" ص ٣٠٠، و"الصحاح" للجوهري (مأى) ٦/ ٢٤٨٩، "لسان العرب" (مأى) ٧/ ٤١٢٤، ونص الشطر الأول في الديوان:
فكانت سراويل وجردٌ خميصة... والسحق: الخَلقِ البالي.
ودرهم قسي: رديء، وقيل: هو ضرب من الزيوف لرداءة فضته وصلابتها. انظر: "لسان العرب" (سحق) و (قسا).
239
قال: ولو قلت: مِئات على وزن مِعَات جاز (١).
وذكر أبو علي الفارسي في "المسائل الحلبية" (٢): إن (مائة) وزنها (فِعْلَة) وأصلها: مِئْيَة فحذفت اللام منها، وجمع للنقص الذي لحقه بالواو والنون، ومثله (رئة) في حذف اللام منه ويدل على ذلك قولهم: رأيت الرجل: إذا ضربت (٣) رئته، وأنشد أبو زيد:
فغظناهم حتى أتى الغيظ منهم قلوبًا وأكبادًا لهم، ورئينا (٤)
فهذا مثل مئين، فأما ما أنشده أبو زيد (٥):
وحاتم الطائي وهاب المئي
فالقول في المئي: إنها جمع مائة على (فعول) وقلبت الواو ياءً كما قالوا: حقو وحقين ودلو ودلي، وفي التنزيل: ﴿حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ [طه: ٦٦]، وقالوا (٦): إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة فشذ هذا الحرف، وصحت
(١) "إصلاح المنطق" ص ٣٠٠، و "المشوف المعلم" ٢/ ٧٠٩.
(٢) في "المسائل الحلبيات" ص ٦١، بعض هذا القول من قوله: يدل على ذلك.... إلى آخر البيت الأول، ولم أجد أول القول فيها، والنسخة المطبوعة فيها نقص كبير، كما أشار المحقق في المقدمة (ص: د).
(٣) في (ج): (أصبت).
(٤) البيت للأسود بن يعفر وهو في "ديوانه" ص ٦٣، وذكره أبو زيد في "نوادر اللغة" ص ٢٤ ونسبه له.
(٥) "نوادر اللغة" ص ٩١، ونسبه لامرأة من بني عقيل، وقبله:
حيدة خالي ولقيط وعلي
وانظر: "المسائل العسكريات" ص ١٧٧، و"لسان العرب" (مأي) ٧/ ٤١٢٤، و"خزانة الأدب" ٧/ ٣٧٥، ونسبه في "المفاسد النحوية" ٤/ ٥٦٥ لقصي بن كلاب.
(٦) يعني العرب، قال ابن منظور في "لسان العرب" (نحا) (٤٣٧١): في بعض كلام العرب: إنكم لتنظرون في نحو كثيرة، أي في ضروب من النحو.
240
الواو فيه، ومثله: سَنَة وسني، أنشد أبو زيد (١):
يأكل أزمان الهزال والسني
وهذا على لغة من جعل اللام من (سنة) واوًا ثم أبدل من الواو ياءً، كما أبدلت في حِقِي وعِصِي (٢)، وقلب واو (فعول) ياءً لوقوعها ساكنة قبل الياء التي في موضع اللام، ثم أبدل من الضمة كسرة كما أبدلت منها في (مرمى) ونحوهن فصار مثل عصي، وصار (مائة) في قوله: وهاب المئي، [في موضع اللام] (٣)، مثل (خلي) ثم خففت الياء لوقوعها في القافية، والحروف المشددة إذا وقعن حرف روي خففن، كما أنشد سيبويه (٤):
ولا أسمع أجراس المطي
(١) "نوادر اللغة" ص ٩١، وهو تابع للرجز السابق، وقبل هذا البيت:
ولم يكن كخالك العبد الدعي
(٢) حقي وعصي: جمعا حقو وعصا، والحقو: الخصر ومشد الإزار من الجنب. "اللسان" (حقو) ٢/ ٩٤٨، ويقصد بالإبدال فيهما أن أصلهما: حُقُوْوُ وعُصُوْوُ، على وزن (فعول) ثم قلبت الواو الأخيرة ياء، فصارا في التقدير: حُقُوْي، وعُصُوْي ثم قلبت الواو ياء لسكونها ووقوعها قبل ياء مسبوقة بساكن، فصار: حُقُييْ، وعُصُيْ، ولكي تسلم الياء أبدلت حركة الحرف السابق لها كسرة، وأدغمت الياء في الياء، ثم جاز إبدال ضمة الفاء كسرة إتْباعًا لكسرة العين.
انظر: "المقتضب" ١/ ١٨٣ فقد نص على الميزان الصرفي لجمع (عصا).
(٣) ساقط من (م) و (س).
(٤) انظر "كتاب سيبويه" ٣/ ٩٥، وهو بعض عجز بيت نصه:
متى أنام لا يؤرقني الكرِي ليلاً ولا أسمع أجراس المطي
وهو من شواهد سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها، وهو أيضًا بلا نسبة في "جمهرة اللغة" (ركي) ٢/ ٨٠١، و"خزانة الأدب" ١٠/ ٣٢٣، و"الصحاح" (شمم) ٥/ ١٩٦٢، و"لسان العرب" (شمم) ٤/ ٢٣٣٣، و"المنصف" ٢/ ١٩١.
241
قال (١): ويجوز في (الميء) وجه آخر وهو أن مائة (فِعْلَة) و (فَعَلٌ) قد عاقبت (فِعْلا) نحو: شَبَهٌ، وشِبْهٌ، وبابه، و (فَعَل) جمع على (فُعْل) كقولهم: أسَد وأَسْد، ووَثَن، ووثْن، كذلك جمعوا (فَعَلًا) على (فُعْلٍ) حيث كان بمنزلته لتعاقبهما على الكلمة الواحدة (٢)، ثم أبدل من ضمة الفاء كسرة كما قالوا: مِغيرة ومِنتن، وأتبعوا العين حركة الفاء، وحذفوا اللام التي هي محذوفة (٣) من (مائة) فصار: (مئٍ) وعلى هذا يحمل قوله (٤):
وخمسمئٍ منها قسي وزائف
فإن قيل: فلم لا يكون (المئي) على فِعِل؟
قيل: لا يستقيم ذلك لقلة هذا الوزن في الآحاد، ألا ترى أن سيبويه إنما حكى منه الإِبِل (٥)، والمراد بالمئي الجمع، ولا يعلم شيئًا من الجمع على (فِعِل)، فإذا لم يجيء في الجمع البته وكان مجيئه في الآحاد على ما ذكر من القلة لم يكن للحمل عليه مساغ.
(١) يعني الفارسي في "المسائل الحلبيات"، ولم أجده فيها، ولعله من الجزء الناقص، انظر "مقدمة المحقق" (ص: د)، وكذلك لم أجده في كتبه الأخرى التي بين يدي.
(٢) قال أبو علي الفارسي في كتاب "التكملة" ص ٤١٢: وكسروا حروفًا على (فُعْل) كما كسّروا عليه (فَعَلًا) نحو: أَسَد وأُسْد، وذلك أن (فُعْلًا) مثل (فَعَلٌ) في نحو: البُخْل والبَخَل، والسُّقْم والسَّقَم، اهـ ومعنى كسروا: جمعوا جمع تكسير.
(٣) في (ح): (منير)، قال الجوهري في "الصحاح" (نتن) ٦/ ٢٢١٠: نتن الشيء وأنتن بمعنى، فهو مُنتن ومِنتن، كسرت الميم اتباعًا لكسرة التاء؛ لأن (مِفْعِلاً) ليس من الأبنية. اهـ. وفي "كتاب سيبويه" ٤/ ١٠٩: وأما الذين قالوا: مِغِيرة ومِعِين فليس على هذا، ولكنهم أتبعوا الكسرة الكسرة، كما قالوا: مِنتن.
(٤) سبق تخريجه في أول الأنفال.
(٥) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٥٧٤.
242
وقوله تعالى: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾، قال ابن (١) إسحاق: أي: لا يقاتلون على بينة (٢) ولا حق ولا معرفة (٣)، وقال المفسرون (٤): معنى قول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ أي: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون علي غير احتساب، ولا طلب ثواب؛ فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خشية أن (٥) يقتلوا، وقال أهل المعاني: معنى ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾ أي هم على جهالة، خلاف من يقاتل على بصيرة يرجو به ثواب الآخرة (٦)، وقال ابن عباس والمفسرون: هذه الآية نسخها قوله: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ الآية (٧)، وقال الوالبي عن ابن عباس: في هذه الآية أمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار، فشق ذلك عليهم فرحمهم فقال: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ الآية (٨)، وقال عطاء عنه: لما نزلت هذه الآية ضج المهاجرون، وقالوا: يا رب نحن جياع وعدونا شباع، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا،
(١) في (م) و (س): (أبو)، وهو خطأ.
(٢) هكذا، وفي "السيرة النبوية"، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٤١: نية.
(٣) "السيرة النبوية" ٢/ ٣٢٢ وفيها: ولا معرفة بخير ولا شر.
(٤) اللفظ لأبي إسحاق الثعلبي، انظر "تفسيره" ٦/ ٧٠ ب، ونحوه في "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٨، والزمخشري ١/ ١٦٧.
(٥) في (ح): (لئن لا)، وهو خطأ.
(٦) ذكر نحوه الحوفي في "البرهان" ١١/ ١٠٢ ب.
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٨ - ٤١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٢٩، والثعلبي ٦/ ٧٠ ب، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٦٢ - ٣٦٤، فقد ذكروه عن ابن عباس وسعيد ابن جبير والحسن البصري ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وزيد بن أسلم وعطاء الخرساني والضحاك.
(٨) رواه ابن جرير ١٠/ ٣٩.
243
وقال الأنصار: شغلنا بعدونا، وواسينا إخواننا، فنزل التخفيف (١)، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرة لمائة إذ المسلمون قليل فلما كثروا خفف الله عنهم (٢)، ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فرّ من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر (٣).
٦٦ - قوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ الآية، قال أهل العلم بالتفسير: هذه الآية نزلت بعد الأولى بمدة طويلة وإن كانت إلى جنبها، وكان رسول الله - ﷺ - يبعث المسلمين غزاة على حكم الآية الأولى، والمسلمون يصابر الواحد منهم العشرة من الكفار، بعث حمزة في ثلاثين راكبًا قبل بدر فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب (٤)، قال ابن عباس: فلما تضرعوا واشتكوا إلى الله ضعفهم نزل: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ (٥)، قال
(١) لم أجد من ذكر هذه الرواية بلفظها سوى الفخر الرازي ١٥/ ١٩٥، وقد روى هذا الأثر عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس مختصراً ابن جرير ١٠/ ٣٩، وابن إسحاق في "السيرة النبوية" ٢/ ٣٢٣.
ورواه بمعناه من طريق آخر البخاري (٤٦٥٣) كتاب التفسير، باب: الآن خفف الله عنكم ٦/ ١٢٢، وأبو داود (٢٦٤٦) كتاب الجهاد، باب: في التولي يوم الزحف.
(٢) رواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ٤٠، ورواه في الموضع نفسه بلفظه عن ابن عباس.
(٣) رواه الطبراني في "الكبير" ١١/ ١١٣ (١١١٥١)، ورجاله ثقات كما في "مجمع الزوائد" ٥/ ٥٩١، ورواه بنحوه الصنعاني في "المصنف" ٥/ ٢٥٢، والبيهقي في "السنن الكبرى" ٩/ ١٣٠.
(٤) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٢٢٩ - ٢٣٤، و"الكشاف" ٢/ ١٦٧، ونسب القول لابن جريج، وانظر أيضًا: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٩٤.
(٥) لم أجده بلفظه، وقد ورد معناه في روايات كثيرة، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٩ - ٤١، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٦٢ - ٣٦٤.
244
الكلبي: هون الله عليكم (١)، ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [وقرئ (ضُعفًا) (٢)] (٣)، قال سيبويه: وهما لغتان مثل: (الفَقْر والفُقر) (٤).
وقوله (٥): ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾، قال ابن عباس: صار الرجل برجلين (٦)، وذهب بعض المفسرين (٧) إلى قوله: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ شرط وجزاء محض، يعني أن المائة إذا صبرت غلبت مائتين من المشركين، وكل مائة من المسلمين لا تغلب مائتين من المشركين فإنها ليست بصابرة، ولو كانت صابرة لغلبت المائتين وعدًا من الله، وهذا معنى قول مجاهد: إن صبروا غلبوهم (٨)، والآية على هذه الطريقة معناها الإخبار، ولو وقفت مائة صابرة في مقابلة مائتين (٩) لغلبوهم بكل حال؛ فإن الخبر من الله تعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، والصحيح أن هذا خبر معناه الأمر والتكليف، أي: إذا كانت منكم
(١) "تنوير المقباس" ص ١٨٥، عن الكلبي، عن ابن عباس.
(٢) قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد، وقرأ الباقون بضمها.
انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٨، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٢، و"تقريب النشر" ص ١١٩.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٤) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٣١، ٣٣.
(٥) ساقط من (ح) و (س).
(٦) رواه مطولًا ابن جرير ١٠/ ٣٩، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"، وابن المنذر والطبراني في "الأوسط"، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٣.
(٧) هو: محمد بن بحر أبو مسلم الأصفهاني كما في "تفسير الرازي" ١٥/ ١٩٥، وانظر: "الكشاف" ٢/ ١٦٧.
(٨) رواه مطولًا ابن جرير ١٠/ ٤١.
(٩) في (ح): (ألف).
245
مائة فليصابروا ليغلبوا المائتين كقوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨]. ألا ترى أن المفسرين كلهم اتفقوا على أن قوله في الآية الأولى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ أمر لا خبر بدليل ورود النسخ عليه والنسخ لا يجوز وروده على الخبر (١)، وصاحب النظم قد أحسن في شرح هذا المشكل فقال: الخبر خبران: خبر ماض وخبر مؤتنف، والشرط بينهما موقوف؛ لأنه غير ماض ولا واجب، وإنما هو شيء منتظر، وربما أظهرت العرب الشرط والجزاء على صورة الخبر (٢) فيغلط فيه الناقد البصير فكيف من دونه وقد جاء الجزاء دون الشرط على سورة الخبر ومعناه، نحو قول القطامي:
والناس من يلق خيرًا قائلون له ما يشتهي ولأم المخطىء الهبل (٣)
فقوله: من يلق خيرًا شرط ومعناه الخبر؛ لأن معناه: من لقي خيرًا قالوا له ما يشتهي، وتأويل الآية: إن يصبر منكم عشرون لمائتين من المشركين يغلبوهم، فهو شرط محض وجزاء خالص، والشرط غير واجب فكيف يكون خبرًا؟ والخبر واجب إما ماضيًا وإما منتظرًا وهذا شيء وعده المؤمنين (٤) بما شرط إذا فعلوه.
فإن قيل: فقد كان يجب على العشرين أن يصابروا المائتين كما يجب الآن على المائة أن يصابروا المائتين والشرط غير (٥) واجب.
(١) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٤١، والثعلبي ٦/ ٧٠ ب، والبغوي ٣/ ٣٧٥، والسمرقندي ٢/ ٢٥.
(٢) في (ج): (خبر).
(٣) البيت في "ديوانه" ص ٢٥، ونسبه إليه أيضًا ابن قتيبة في كتاب "المعاني الكبير" ٣/ ١٢٦٦.
(٤) في (م) و (س): (للمؤمنين).
(٥) ساقط من (م).
246
قيل: إن الله تعالى كان قد أنزل قبل هذا قوله (١): ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال: ١٦] فعظم الفرار من الزحف، وهول في العقاب، ولا يقع العقاب إلى في واجب، ولم يصف الله تعالى حالة الفرار كيف هو أو كم من كم؟، ثم بينه بقوله عز وجل: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] فأعلم أن عشرين إذا صبروا أوجب لهم غلبة مائتين بشريطة الصبر، ووعده ناجز لا خلف فيه، فكان في ذلك بيان لكيفية الفرار التي حرمها، والصفة التي يكون المولي بها فارًّا مستوجبًا للعقاب إلا أنه ثقل عليهم ثبوت الواحد للعشرة فخفف ذلك عنهم بالآية الأخرى، فعلى ما ذكر: الآيتان لفظهما شرط، والشرط كما ذكر لا يكون واجبًا إلا أن الوجوب استفيد من تحريم الفرار، وتحريم الفرار مجمل فبيّن في الآيتين أنه مع كم يجب أن يصبر، ومن كم يجوز الفرار.
وهذا طريق حسن في هاتين الآيتين، والحكم في هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مُشْرِكَيْن عبدًا كان أو حرًا فالهزيمة عليه حرام ما دام معه سلاح يقاتل، فإن لم يبق سلاح فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له (٢) الهزيمة، والصبر أحسن، وقف جيش مؤته وهم ثلاثة آلاف، وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب (٣)، ثم
(١) ساقط من (م).
(٢) ساقط من (ح).
(٣) هو: جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، أبو عبد الله وابن عم رسول الله - ﷺ - السيد الشهيد الكبير الشأن، هاجر إلى الحبشة، ثم قدم منها يوم فتح خيبر، وولاه رسول الله - ﷺ - قيادة جيش مؤتة بعد زيد، واستشهد فيها سنة ٨ هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١/ ٢٠٦، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٣٠٨.
247
عبد الله بن رواحة (١)، وقفوا في مقابلة مائتي ألف من المشركين، مائة من الروم، ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام (٢) (٣).
وقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا أن يريد الله ذلك (٤)؛ لأن معنى الإذن: الإطلاق في الفعل، فما لم يطلق الله لهم الغلبة لم يغلبوا.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، قال ابن عباس: يريد الذين صبروا على دينهم وعلى طاعة الله (٥). والمعنى: ومعونته مع الصابرين، ولكن فخّم بذكر الله عز وجل تشريفًا له.
٦٧ - قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ الآية، قال عكرمة (٦)، عن ابن عباس: لما أسروا الأسارى يوم بدر قال رسول الله - ﷺ -
(١) هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، أحد النقباء، وأحد شعراء الرسول - ﷺ - شهد بيعة العقبة وبدر، وأمّره الرسول - ﷺ - على جيش مؤته بعد زيد وجعفر فقتل فيها سنة ٨ هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١/ ٢٣٠، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٣٣٣.
(٢) لَخْم: بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة، قبيلة عربية كبيرة، ينسبون إلى لخم وهو مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد، وأما جُذام فبضم الجيم بعدها ذال غير مشددة، قبيلة عربية كبيرة أيضًا وهم إخوة للخم وينسبون إلى عمرو بن عدي بن الحارث، وقيل: هم من ولد أسد بن خزيمة. انظر: "فتح الباري" ٨/ ٧٥.
(٣) انظر تفاصيل معركة مؤته في: "السيرة النبوية" لابن هشام ٣/ ٤٢٩ و"الفصول في سيرة الرسول" ص ١٩٣، و"فتح الباري" ٧/ ٥١٠ - ٥١٦.
(٤) في (ح): (وذلك)، وهو خطأ.
(٥) "الوسيط" ٢/ ٤٧٠، وفي "تنوير المقباس" ص ١٨٥: الصابرين في الحرب.
(٦) هو: عكرمة بن عمار العجلي كما في سند مسلم وأحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وليس عكرمة بن عبد الله مولى ابن عباس كما هو المتبادر، وقد رواه عكرمة هذا =
248
"ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ "، فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن نأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله - ﷺ - "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا منهم فتمكن عليًا من عقيل (١) حتى يضرب عنقه، وتمكن حمزة (٢) من أخيه العباس حتى يضرب عنقه، وتمكنّي من فلان -نسيب لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر حتى يعلم ربنا أنه ليس في قلوبنا للكفار هوادة، قال عمر: فهوى رسول الله - ﷺ - ما قال أبو بكر (٣).
= عن أبي زميل، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، كما في رواية مسلم. انظر: مصادر تخريج الأثر التالية.
(١) هو: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي أخو علي بن أبي طالب، شهد بدرًا مشركًا، وأخرج إليها مكرهًا فأسر ولم يكن له مال ففداه عمه العباس، ثم أسلم قبل صلح الحديبية، وشهد مؤته، وتوفي في أول خلافة يزيد بن معاوية.
انظر: "التاريخ الكبير" ٧/ ٥٠ (٢٣٠)، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ٢١٨، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ١٢٩.
(٢) هو: حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، الإمام البطل الضرغام أسد الله، وسيد الشهداء، وعم رسول الله - ﷺ - استشهد في معركة أحد سنة ٣ هـ.
انظر: "الاستيعاب" ١/ ٤٢٣ (٥٥٩)، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ١٧١، و"الإصابة" (١٨٢٦).
(٣) رواه بنحوه مسلم في "صحيحه" (١٧٦٣) كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، ٣/ ١٣٨٣ - ١٣٨٥ (١٧٦٣)، وأحمد في "المسند" ١/ ٣٠، ٣٢، وابن أبي شيبة في "المصنف" ١٤/ ٣٦٦، وابن جرير ١٠/ ٤٤.
249
قال ابن مسعود: ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم (١) اليوم عالة فلا ينفلتن (٢) أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق" (٣)، وعن عبيدة السلماني (٤) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في أسارى بدر: "إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم"، وكانت الأسارى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء نستمتع به، ونتقوى به على عدونا، ويستشهد منا بعدتهم (٥).
(١) في (ح): (هل أنتم)، ولا داعي لهذه الزيادة وليست موجودة في مصادر تخريجه.
(٢) في (م): (يفلتن)، وفي (س): (يلفتن)، والأخير خطأ.
(٣) رواه مطولًا الترمذي في "سننه" (٣٠٨٤) كتاب تفسير القرآن، باب: سورة الأنفال، وأحمد ١/ ٣٨٣، وابن أبي شيبة في "المصنف" ١٤/ ٣٧٠، وابن جرير ١٠/ ٤٤، والواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٤٢، وفي "الوسيط" ٢/ ٤٧١، والحاكم في "المستدرك" كتاب المغازي ٣/ ٢٢، وصححه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٦/ ١١٧: فيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات.
(٤) هو: عبيدة بن عمرو، وقيل: ابن قيس بن عمرو السلماني المرادي، أبو عمرو الكوفي، أسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ولم يلقه، كان من أئمة العلم، فقيهًا محدثًا ثقة، توفي سنة ٧٢ هـ على المشهور.
انظر: "الكاشف" ١/ ٦٩٤ (٣٦٤٧)، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٥.
(٥) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" ١٤/ ٣٦٨ (١٨٥٣٣)، والترمذي (١٥٦٧) كتاب السير، باب: ما جاء في قتل الأسارى أو الفداء، وقال: حديث حسن غريب ورواه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" الإحسان ١١/ ١١٨ (٤٧٩٥)، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ١٤٠، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
قال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٦٠، بعد سياق الحديث: هذا حديث غريب جدًا، ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلاً، فالله أعلم. اهـ.
وقال العلامة علي القاري في "مرقاة المفاتيح" ٤/ ٢٥١: قال التوربشتي: هذا الحديث مشكل جدًا لمخالفته ما يدل على (كذا) ظاهر التنزيل، ولما صح من=
250
......................
= الأحاديث في أمر أسارى بدر أن أخذ الفداء كان رأيًا رأوه فعوتبوا عليه، ولو كان هناك تخيير بوحي سماوي لم تتوجه المعاتبة عليه، وقد قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ إلى قوله: ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وأظهر لهم شأن العاقبة بقتل سبعين منهم بعد غزوة أحد عند نزول قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ [آل عمران: ١٦٥]، وممن نقل عنه هذا التأويل من الصحابة علي -رضي الله عنه- فلعل عليًا ذكر هبوط جبريل في شأن نزول هذه الآية وبيانها، فاشتبه الأمر فيه على بعض الرواة، ومما جرأنا على هذا التقدير سوى ما ذكرناه هو أن الحديث تفرد به يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سفيان، من بين أصحابه، فلم يروه غيره، والسمع قد يخطئ، والنسيان كثيرًا يطرأ على الإنسان، ثم إن الحديث روي عنه متصلًا وروي عن غيره مرسلاً، فكان ذلك بما يمنع القول بظاهره.
وقال الطيبي: أقول -وبالله التوفيق-: لا منافاة بين الحديث والآية؛ وذلك أن التخيير في الحديث وارد على سبيل الاختبار والامتحان، ولله أن يمتحن عباده لما شاء، امتحن الله تعالى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ الآيتين [الأحزاب: ٢٨، ٢٩]، وامتحن الناس بتعليم السحر في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وامتحن الناس بالملكين، وجعل المحنة في الكفر والإيمان بأن يقبل العامل تعلم السحر فيكفر، ويؤمن بترك تعلمه، ولعل الله تعالى امتحن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بين أمرين: القتل، والفداء، وأنزل جبريل-عليه السلام- بذلك هل هم يختارون ما فيه رضا الله تعالى من قتل أعدائه، أم يؤثرون العاجلة من قبول الفدية، فلما اختاروا الثاني عوتبوا بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾.
قلت -بعون الله- (القائل علي القاري): إن هذا الجواب غير مقبول؛ لأنه معلول ومدخول؛ فإنه إذا صح التخيير، لم يجز العتاب والتعيير، فضلاً عن العذاب والتعزير، وأما ما ذكره من تخيير أمهات المؤمنين، فليس فيه أنهن لو اخترن الدنيا لعذبن في العقبى ولا في الدنيا، وغايته أنهن يحرمن من مصاحبة المصطفى، لفساد اختيارهن الأدنى بالأعلى، وأما قضية الملكين وقضية تعلم السحر، فنعم امتحان من الله وابتلاء، لكن ليس فيه تخيير لأحد؛ ولهذا قال المفسرون في قوله تعالى: =
251
قال عبيدة: طلبوا الخيرتين (١) كلتيهما فقتل منهم يوم أحد (٢)، فعند ابن عباس وجميع المفسرين: نزلت الآية في فداء أسارى بدر، فادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف، فأنزل الله هذه الآية ينكر على نبيه ذلك، يقول: ما كان لنبي أن يحبس كافرًا قدر عليه من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ قبل الإثخان في الأرض، قال قتادة: كان هذا يوم بدر فاداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربعة آلاف أربعة آلاف، ولعمري ما كان أثخن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ، وكان أول قتال قاتل المشركين (٣).
قال صاحب النظم: (كان) يقع في الكلام في أحوال مختلفة:
منها أن يكون دلالة على المضي كقولك: كان زيد قائمًا، فمعناه كان فيما مضى.
ومنها أن يكون بمعنى وقع وحدث كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠].
= ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] إنه أمر تهديد لا تخيير، وأما قوله: أم يؤثرون الأعراض العاجلة من قبول الفدية، فلما اختاروه عوتبوا بقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾ الآية، فلا يخفى ما فيه من الجرأة العظيمة، والجناية الجسيمة، فإنهم ما اختاروا الفدية إلا للتقوية على الكفار، وللشفقة على الرحم، ولرجاء أنهم يؤمنون، أو في أصلابهم من يؤمن، ولا شك أن هذا وقع منهم اجتهادًا وافق رأيه - ﷺ - غايته أن اجتهاد عمر وقع أصوب عنده تعالى، فيكون من موافقات عمر -رضي الله عنه-. وانظر: قول الطيبي في شرحه "مشكاة المصابيح" ٨/ ١٩.
(١) يعني: الغنيمة والشهادة.
(٢) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٤٦، والثعلبي ٦/ ٧٢ ب.
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٧١ ب، وبنحوه ابن جرير ١٠/ ٤٥، ومختصراً ابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٧.
252
وقد يكون ماضيًا وراهنا، مثل قوله -عز وجل- في مواضع: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (١) أي: كان وهو كذلك، ومنه قول الشاعر:
له في الذاهبين أروم صدق وكان لكل ذي حسب أروم (٢)
أي: ولكل ذي (٣) حسب أروم في كل وقت وزمان.
ويكون بمعنى الاستقبال كقول عدي (٤):
واستيجاب ما كان في غد
معناه: ما يكون في غد، وقد يكون زيادة كقوله (٥):
وجيران لنا كانوا كرامِ
(١) النساء: ٩٦، ١٠٠، ١٥٢، الفرقان: ٧٠، الأحزاب: ٥، ٥٠، ٥٩، ٧٣، الفتح: ١٤.
(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى وهو في "ديوانه" ص ١٥٢، وانظر: "لسان العرب" (أرم) ١/ ٦٦، وهو يمدح هرم بن سنان المري.
وأرم: جمع أرومة، وهي الأصل، والذاهبين: الموتى. انظر: "شرح الديوان" ص ٢٠٦، ٢١١.
(٣) ساقط من (ح).
(٤) لم يتبين لي من هو، والمعروف أن البيت للطرماح بن حكيم كما في "ذيل ديوانه" ص ٥٧٢، و"لسان العرب" مادة (كون) ٧/ ٣٩٦٢، و"معجم شواهد العربية" ص ١١٣، و"المعجم المفصل" ١/ ٢٦٣، ونص البيت:
فإني لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر واستيجاب ما كان في غد
(٥) عجز بيت، وصدره:
فكيف ولو مررت بدار قوم
والبيت للفرزدق وهو في "شرح ديوانه" ٢/ ٨٣٥، ونسب إليه أيضًا "خزانة الأدب" ٩/ ٢٢٢، و"كتاب سيبويه" ٢/ ١٥٣، و"لسان العرب" (كنن) مادة (كون) ٧/ ٣٩٦١.
وقد ذهب سيبويه إنى زيادة (كان) أيضاً. انظر: الموضع السابق، وقال ابن منظور=
253
ويكون بمعنى صار، كقوله: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ [الرحمن: ٣٧] معناه: فصارت، وإذا كان بمعنى صار حسن دخول (كان) عليه، مثل قولك: كان زيد كان مريضا، بمعنى كان صار مريضًا، فالأول للمضي (١)، أي: كان ذلك فيما مضى، والثاني للمصير إليه، فقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ﴾ مثل هذا المعنى، أي: ما كان لنبي أن يصير له أسرى، على النفي والتنزيه، أي ما يجب وما ينبغي أن يستأسر أحدًا، ولكن يقتلهم حتى يثخن في الأرض.
قال: وقد قيل: إن معنى (كان) وجب وانبغى، على تأويل: ما انبغى لنبي وما وجب له أن يكون له أسرى.
قال أبو عبيد: يقول: لم يكن لنبي ذلك فلا يكن لكم (٢).
وقرأ أبو عمرو (٣): (أن تكون) بالتاء (٤)، على لفظ الأسرى؛ لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنث اللفظ، ومن قرأ بالياء فلأن الفعل متقدم، والأسرى مذكّرون في المعنى، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل، وكل واحد من ذلك إذا انفرد يذكر (٥) الفعل معه، مثل:
= قال أبو العباس: إن تقديره: وجيران كرام كانوا لنا، قال ابن سيده: وهذا أسوغ؛ لأن (كان) قد عمل في موضع الضمير وفي موضع (لنا) فلا معنى لما ذهب إليه سيبويه أنها زائدة هنا. "لسان العرب"، الموضع السابق.
(١) في (ح): (للماضي).
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٩٧.
(٣) لفظ (عمرو) ساقط من (ح).
(٤) قرأ أبو عمرو من السبعة بتاء التأنيث، وقرأ الباقون بالياء على التذكير. انظر: كتاب "السبعة في القراءات" ص ٣٥٩، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٣.
(٥) بياض فى (ح).
254
جاء الرجال، وحضر قبيلتك، وحضر القاضي امرأةٌ (١)، فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى، والكلام في الأسرى والأسارى قد مضى في سورة البقرة (٢).
قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾، قال الفراء: حتى يغلب على كثير من الأرض (٣)، وقال الزجاج: معناه: حتى يبالغ في قتل أعدائه، قال: ويجوز أن يكون: حتى يتمكن في الأرض، والإثخان في كل شيء: قوة الشيء (٤) وشدته، يقال: قد أثخنه (٥) المرض: إذا اشتدت قوقه عليه، وكذلك: أثخنه الجراح، قال أبو عبيدة: حتى يغلب ويبالغ (٦).
وروى ثعلب (٧)، عن ابن الأعرابي: أثخن: إذا غلب وقهر (٨).
(١) امرأة: فاعل مؤخر.
(٢) انظر: النسخة الأزهرية ١/ ٦٨ب، وقد قال في هذا الموضع: أسير: (فعيل) في معنى (مفعول) فجمعه يكسر على (فعلى) نحو: لديغ ولدغى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وإذا كان كذلك فالأقيس: الأسرى، وهو أقيس من الأسارى، كما أن الأسارى أقيس من قولهم: أُسراء، وأطال الكلام حول هذه الكلمة.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤١٨، وفيه زيادة (في) قبل (الأرض)، وذكر الواحدي هذا القول في "الوسيط" ٢/ ٣٧٢، دون هذه الزيادة أيضًا.
(٤) في (ح): (قوته).
(٥) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٥ (أثخنته)، ولم يُذكر في المطبوعة الكلام الذي بعده مما يدل على أن في المخطوطة التي اعتمد عليها المحقق سقط، وكلام الزجاج ينتهي عند قوله: قوته عليه، بدلالة "زاد المسير" ٣/ ٣٨٠.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٠.
(٧) ساقط من (ح).
(٨) "تهذيب اللغة" (ثخن) ١/ ٤٧٥.
255
قال ابن عباس: حتى يثخن فيهم القتل (١)، وقال مجاهد: الإثخان: القتل (٢)، وقال الكلبي: حتى يغلب في الأرض (٣).
وقال أهل المعاني: الإثخان ههنا معناه: تغليظ الحال بكثرة القتل، والثخانة: الغلظ، وكل شيء غليظ فهو ثخين (٤).
وقوله تعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ مضى الكلام في العرض عند قوله: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ [الأعراف: ١٦٩]، قال ابن عباس: تريدون الفداء (٥)، ونحو ذلك قال المفسرون (٦)، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، قال ابن عباس: يريد لكم الجنة (٧)، قال محمد بن إسحاق: أي بقتلهم، لظهور الدين الذي يريد إظهاره، الذي تدرك به الآخرة (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، قال ابن عباس: يريد منيع (٩) قوي حكيم في خلقه (١٠).
(١) "تنوير المقباس" ص ١٨٥ بنحوه، ورواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٢ بلفظ: حتى يظهر على الأرض.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ٤٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٢، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٧.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٨٥ عنه، عن ابن عباس، ولفظه: حتى يغلب في الأرض بالقتال.
(٤) القول للحوفي في "البرهان" ١١/ ١٠٧ أ.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٨٥ بنحوه، وفي "تفسير الثعلبي" ٦/ ٧٢ أ، أثرًا طويلًا عنه وفيه: أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذ الفداء.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٤٢ - ٤٤، والثعلبي ٦/ ٧٢ ب، والبغوي ٣/ ٣٧٦.
(٧) "زاد المسير" ٣/ ٣٨١، و"الوسيط" ٢/ ٤٧٢.
(٨) "السيرة" لابن هشام ٢/ ٣٢٣.
(٩) ساقط من (ح).
(١٠) لم أقف له على مصدر، وفي "تنوير المقباس": (عزيز): بالنقمة من أعدائه، (حكيم): بالنصرة لأوليائه.
256
قال أهل التفسير (١): يقول: إن أنتم طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم؛ لأن الله ﴿عَزِيزٌ﴾ لا يقهر ولا يغلب، ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبير أمور خلقه.
والآية بيان عما يجب أن يجتنب من اتخاذ الأسرى للمن والفداء قبل الإثخان في الأرض بالقتل الذي يدعو إلى الحق، ويصد عن الشرك، مع الإعراض عن العمل للدنيا إلى العمل للآخرة بالباقية، قال الوالبي، عن ابن عباس في هذه الآية قال: ذلك يوم بدر، والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله بعد هذا في الأسارى ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد: ٤]، فجعل الله النبي والمؤمنين بالخيار، إن شاءوا [قتلوهم وإن شاءوا] (٢) استبعدوهم، وإن شاءوا فادوهم (٣).
٦٨ - قوله تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ الآية، قال عطاء عن ابن عباس: لولا كتاب من الله سبق يا محمد أن الغنائم لك ولأمتك حلال ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾ من الفداء ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (٤)، ونحو هذا قال سعيد ابن جبير (٥).
(١) اللفظ لابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ٤٢.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٤٢، والثعلبي ٦/ ٧١ ب، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص ٢٠٩، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٩٠، والبيهقي في كتاب "السنن الصغرى" كتاب السير، باب: ما يفعل بالرجال البالغين من أهل الحرب بعد الأسر ٣/ ٣٨٤ (٣٥٥٠).
(٤) لم أجد من ذكر هذه الرواية، وقد رواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٤ من رواية الوالبي بلفظ: لولا كتاب من الله سبق، يعني في الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم، ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ورواه أبن جرير ١٠/ ٤٥ من رواية العوفي بلفظ: كان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال.
(٥) رواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٤.
257
وقال قتادة: سبق لهم الخير، وأنه سيحل لهم الغنائم (١)، وهذا قول عطية (٢)، والأعمش (٣).
ورواية الوالبي وابن (٤) الجوزاء، عن ابن عباس: أن الكتاب الذي سبق هو أن الله كتب أنه يحل الغنيمة وفداء الأسارى لمحمد ولأمته (٥). وقال الحسن: إنهم أخذوا الفداء قبل أن يؤمروا به فعاب الله ذلك عليهم وقال: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ في أنه أطعم هذه الأمة الغنيمة (٦).
وقال محمد بن إسحاق: لولا كتاب من الله سبق أني لا أعذب إلا بعد النهي -ولم يكن نهاهم- لعذبتكم فيما صنعتم (٧)، وهو قول ابن مسعود (٨).
ونحو هذا قال مجاهد فقال: لولا كتاب من الله سبق، لقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥] سبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة (٩).
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٤٧.
(٢) هو: العوفي، وقد روى قوله ابن جرير ١٠/ ٤٥ عنه، عن ابن عباس.
(٣) انظر: قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ٢/ ٢٦٢، وابن جرير ١٠/ ٤٥ - ٤٦.
(٤) هكذا، والصواب: أبو، انظر: "الوسيط" ٢/ ٤٧٢.
(٥) انظر: "الوسيط" ٢/ ٤٧٢، ورواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٤ من رواية الوالبي، ورواه ابن جرير ١٠/ ٤٥ من رواية عطية العوفي.
(٦) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٤٥.
(٧) "سيرة ابن هشام" ٢/ ٣٢٣.
(٨) انظر: "الوسيط" ٢/ ٤٧٢، ولم أقف عليه في مصدر آخر.
(٩) رواه ابن جرير ١٠/ ٤٧ وفيه زيادة.
258
وقال ابن زيد: سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم (١)، وقال جماعة من المفسرين: سبق أنه لا يعذب أحدًا ممن شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- (٢).
وقال أبو علي الفارسي: المراد بقوله: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ﴾ ما في الآية الأخرى من قوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الأنعام: ٥٤] الآية (٣).
وقال ابن زيد: لم يكن أحد من المسلمين ممن حضر إلا أحب الغنائم غير عمر جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله: مالنا والغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله، فقال رسول الله - ﷺ -: "لو عذبنا في هذا الأمر ما نجا غيرك" (٤).
وقال ابن إسحاق: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو نزل عذاب من السماء لم ينج إلا سعد بن معاذ لقوله: يا رسول الله: كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال" (٥).
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٤٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٤.
(٢) هذا قول مجاهد والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٤٦ - ٤٧، وابن الجوزي ٣/ ٣٨٢.
(٣) "المسائل الحلبيات" ص ٣٠٥ - ٣٠٦.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ٤٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٥، والأثر ضعيف؛ لأن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم من الطبقة الثامنة (الطبقة الوسطى من أتباع التابعين)، وهو ضعيف. انظر: "تقريب التهذيب" ص ٣٤٠ (٣٨٦٥).
(٥) رواه ابن جرير ١٠/ ٤٨، عن ابن إسحاق، ولم أجده في مظانه في "سيرة ابن هشام"، وقد روى ابن إسحاق قول سعد دون قول الرسول - ﷺ -. انظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢٦٩.
259
وروى عطاء، عن ابن عباس [و] (١) قال (٢): قال رسول الله - ﷺ -: "لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر، ولو بعث بعدي نبي لبعث عمر" (٣)؛ لأنه أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل الأسارى (٤).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، قال المفسرون: لما نزل قوله: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ﴾ الآية، أمسكوا عن مد أيديهم إلى شيء من الغنائم فنزل: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ (٥)، قال الزجاج: ودخلت الفاء على تقدير: قد أحللت لكم الغنائم فكلوا، قال: و ﴿حَلَالًا﴾ منصوب على الحال (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، قال ابن عباس: يريد: غفر لكم ما أخذتم من الفداء ورحمكم لأنكم أولياؤه (٧).
(١) هكذا في جميع النسخ، وهي زيادة لا معنى لها.
(٢) ساقط من (م) و (س).
(٣) لم أجده بهذا السياق، وقد ذكر شطره الأول المصنف في"الوسيط" ٢/ ٤٧٣، وذكره الزمخشري ٢/ ١٦٨ دون ذكر الراوي، ورواه ابن جرير ١٠/ ٤٨، عن ابن زيد، كما رواه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عمر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٦ وروى شطره الثاني الترمذي في"سننه" كتاب المناقب ٥/ ٦١٩ (٣٦٨٦)، وأحمد في"المسند" ٤/ ١٥٤، والحاكم في"المستدرك" كتاب معرفة الصحابة ٣/ ٨٥ وصححه، ووافقه الذهبي.
(٤) هذا التعليل للشطر الأول فقط كما هو ظاهر.
(٥) هذا معنى أثر عن أبي هرير -رضي الله عنه-، ورواه ابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٨ - ٣٦٩، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٤٧٣، و"تفسير البغوي" ٣/ ٣٧٧.
(٦) هذا القول غير موجود في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، تحقيق د/ عبد الجليل عبده شلبي. وقد ذكره بلفظ مقارب ابن الجوزي ٣/ ٣٨٢.
(٧) "الوسيط" ٢/ ٤٧٣.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا" (١).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾، قال المفسرون يعني أسرى المشركين الذين أخذ منهم الفداء ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا﴾: إسلامًا (٢).
قال الزجاج: إرادة للإيمان (٣)، قال أهل المعاني: معنى الخير ههنا: البصيرة في فى دين الله، وحسن النية في أمر الله (٤)، ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ من الفدية.
قال أبو إسحاق: فجائز أن يكون: يجازيكم في الآخرة، وجائز أن يكون: يخلف عليكم في الدنيا (٥)، ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أي: ما كان من كفركم به، وقتالكم رسوله.
قال ابن عباس وغيره: نزلت هذه الآية في العباس، كان أحد العشرة (٦) الذين ضمنوا طعام أهل بدر، وكان خرج بعشرين
(١) رواه البخاري (٣١٢٤)، كتاب الخمس، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحلت لكم الغائم"، ومسلم (١٧٤٧)، كتاب الجهاد والسير، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة واللفظ له.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٤٨ واللفظ له، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ٧٣ ب، والبغوي ٣/ ٣٧٨.
(٣) ليس موجودًا في كتاب "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع.
(٤) لم أقف عليه، وفي "البرهان" للحوفي ١١/ ١١٦ أ: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا.
(٥) ليس موجودًا في كتاب "معاني القران وإعرابه" المطبوع.
(٦) ذكر ابن إسحاق أن المطعمين في بدر اثنا عشر رجلاً هم: العباس بن عبد =
أوقية (١) من ذهب ليطعم به الناس، فأخذت منه في العرب، ولم تحسب من فدائه، وكلف فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، فقال العباس: يا محمد تركتني أتكفف قريشًا ما بقيت؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال العباس -بعدما أسلم-: فأبدلني الله عشرين عبدًا أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم، ومما أحب أن لي بها جميع أموال أهل (٢) مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي (٣).
٧١ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ﴾، قال المفسرون: نزلت في العباس وأصحابه من الأسارى (٤).
= المطلب، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام بن خويلد، والنضر بن الحارث، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر السهمي، وسهيل بن عمرو. انظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ٣١١.
(١) الأوقية: اسم لأربعين درهمًا، انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" ٥/ ٢١٧٨، و"لسان العرب" (وقي) ١/ ٤٩٠٣.
(٢) ساقط من (س).
(٣) رواه الثعلبي ٦/ ٧٣ أ- ب وفيه زيادة، وبنحوه المصنف في "أسباب النزول" ص ٢٤٥، عن الكلبي. وقد روي الأثر بمعاه بعدة روايات مطولًا ومختصرًا، فرواه أحمد في "المسند" ١/ ٣٥٣، وابن جرير ١٠/ ٤٩ - ٥٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٣٦، والحاكم في "المستدرك" كتاب معرفة الصحابة ٣/ ٣٢٤، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٢: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" باختصار ورجال "الأوسط" رجال "الصحيح"، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. وأصل قضية فداء العباس في "صحيح البخاري" (٣٠٤٩) كتاب الجهاد، باب. فداء المشركين ٤/ ١٦١.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٥٠، وابن أي حاتم ٥/ ١٧٣٧، والثعلبي ٦/ ٧٣ أ.
262
قال ابن عباس: إنهم قالوا للنبي - ﷺ - آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا (١)، يقول الله تعالى: إن خانوك في هذا وكان قولهم خيانة.
وقال ابن جريج: أراد بالخيانة هاهنا: الخيانة في الدين وهو الكفر (٢)، يعني إن كفروا بك فقد خانوا الله من قبل أن كفروا بالله: ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ ببدر، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى القتال، وأرادوا الخيانة لرسول الله - ﷺ - وقال الحسن: وإن يريدوا خيانتك مرة أخرى فيرجعوا إلى الكفر بعد ما مننت عليهم، ويخونوك بالقتال معك (٣)، والعون عليك: ﴿فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ وقاتلوك ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ فإن رجعوا مرة أخرى أمكنك المرة الأولى (٤).
وقال ابن كيسان: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ﴾ يعني: نكث ما أعطوا من أنفسهم لئلا يقاتلوك ﴿فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ فأعطوا العهود فيما كان ينزل بهم من البلاء، ويسألونه الرزق، ويقولون: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ﴾ [يونس: ٢٢] و ﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٨٩] فامكن منهم (٥)، وهذا القول يدل على أن أولئك الأسارى عاهدوا أن لا يقاتلوه.
(١) رواه ابن جرير ١٠/ ٥٠.
(٢) رواه البغوي ٣/ ٣٧٩ بنحو، وانظر: "الوسيط" ٢/ ٤٧٣.
(٣) كذا في جميع النسخ.
(٤) ذكره هود ٢/ ١٠٥ بمعاه.
(٥) لم أقف على مصدره، وقد ذكره مختصرًا الرازي في "تفسيره" ١٥/ ٢٠٦ من غير نسبة.
263
وقال تعالى: ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ قال الأزهري: يقال: أمكنني الأمر يمكنني (١) فهو ممكن، ولا يقال: أنا أُمكنه، بمعنى أستطيعه، يقال: لا يمكنك الصعود إلى الجبل، ولا يقال: أنت تمكن الصعود إلى الجبل (٢).
ومفعول الإمكان محذوف على معنى: فأمكن المؤمنين منهم، أو فأمكنك منهم.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي: عليم بخيانةٍ إن خانوها، حكيم في تدبيره عليهم، ومجازاته إياهم، قاله أبو إسحاق (٣).
٧٢ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني المهاجرين الذين هجروا قومهم وديارهم إلى المدينة في نصرة الدين، ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ يعني الأنصار أسكنوا المهاجرين (٤) ديارهم ونصروهم على أعدائهم ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، قال ابن عباس والمفسرون كلهم: يعني في الميراث، جعل الله تعالى الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام (٥)، وكانوا يتوارثون في الهجرة والنصرة، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر، ولم ينصر، وهو
(١) ساقط من (ح).
(٢) "تهذيب اللغة" (مكن) ٤/ ٣٤٤٧ بتصرف يسير.
(٣) ليس موجودًا في كتابه"معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، وقد ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٨٤.
(٤) في (ح): (أمكنوا للمهاجرين).
(٥) رواه عن ابن عباس البخاري كتاب الفرائض، باب: ذوي الأرحام (٦٧٤٧)، وأبو داود (٢٩٢١) كتاب الفرائض، باب: نسخ ميراث العقد، وانظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٥١ - ٥٤، والثعلبي ٦/ ٧٤ ب، والسمرقندي ٢/ ٢٨، والبغوي ٣/ ٣٧٩، وابن الجوزي ٣/ ٣٨٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٧٠ - ٣٧٢.
264
قوله (١): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾، وقال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة والإسلام (٢)، وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه (٣)، وهذا قول مجاهد (٤)، والحسن (٥)، والكلبي (٦)، والسدي (٧).
وقرئ قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ﴾ بكسر الواو وفتحه (٨)، قال الزجاج: من فتح (٩) جعلها من النصرة والنسب، قال: والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة؛ ليفصل بين المعنيين، وقد يجوز كسر (الولاية)؛ لأن في تولي بعض القوم بعضًا جنسًا من الصناعة نحو: القِصارة (١٠)، والخياطة،
(١) ساقط من (م).
(٢) في (م): بالإسلام والهجرة.
(٣) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٦٢، وابن جرير ١٠/ ٥٣، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٩٤، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٧١ - ٣٧٢.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ٥٢، وأشار إليه ابن كثير ٢/ ٣٦٣ - ٣٦٤.
(٥) رواه ابن جرير ١٤/ ٨٠، وذكره الهواري ٢/ ١٠٧ بغير سند.
(٦) "تنوير المقباس" ص ١٨٦ عنه، عن ابن عباس.
(٧) رواه ابن جرير ١٠/ ٥٣.
(٨) قرأ حمزةُ وحده بكسر الواو، والباقون بفتحها، انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٩، و"الغاية" ص١٦٣، و"تحبير التيسير" ص١١٩.
(٩) في (م): (فتحها).
(١٠) القصارة: حرفة القصار، قال ابن منظور: قصر الثوب قِصَارة، عن سيبويه، وقصَّره، كلاهما: حوَّره ودقَّه، ومنه سمي القصار، وقصرت الثوب تقصيرًا، مثله، والقصّار والمقصّر: المحور للثياب؛ لأنه يدقها بالقَصَرَة التي هي القطعة من الخشب، وحرفته القِصَارة. "لسان العرب" (قصر) ٦/ ٣٦٤٩. وفي "المعجم الوسيط" (قصر) ٢/ ٢٦٧: القصّار: المبيض للثياب، وهو الذي يهيئ النسيج بعد نسجه ببله ودقه بالقصرة، والقصرة: مدقة القصار.
265
فهي مكسورة، قال: والولاية على الإيمان واجب (١)، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، ويقال: وليٌّ بين الولاية، ووال بين الولاية (٢).
قال الفراء: وقد سمعنا الفتح في المعنيين جميعًا (٣)، قال أبو علي: الفتح أجود هاهنا؛ لأن الولاية هاهنا من الدين (٤)، والكسر في السلطان، قال أبو الحسن: وكسر الواو لغة في الأخرى (٥).
قال ابن عباس والمفسرون: ثم نسخ هذا الحكم بقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ (٦).
قال أبو بكر بن الأنباري: كان الله تعالى تعبدهم في أول الهجرة بأن لا يرث المسلمين (٧) المهاجرين إخوانُهم الذين لم يهاجروا، ولا يرثون هم إخوانهم، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ فصار الثاني هو المعمول به، ورفض الأول.
(١) في"تهذيب اللغة": واجبة.
(٢) أقوال الزجاج السابقة ساقطة من كتاب "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، وقد ذكر أكثرها الأزهري في "تهذيب اللغة" (ولي) ٤/ ٣٩٥٥، وذكر بعضها ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٣٨٥.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤١٩.
(٤) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" ٤/ ١٦٦.
(٥) "معاني القرآن" لأبي الحسن الأخفش ١/ ٣٥٢ وقد اختصر الواحدي عبارته فلم يظهر المعنى، ونص قوله: ما لكم من ولايتهم من شيء، وهو في (الولاء)، وأما في (السلطان) فـ (الوِلاية)، ولا أعلم كسر (الواو) في الأخرى إلا لغة اهـ. يعني بالأخرى (الولاية) من الولاء، وقد نص الفراء أيضًا على ثبوت هذه اللغة، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤١٩.
(٦) هذا بعض أثر ابن عباس السابق.
(٧) مفعول به مقدم.
266
وقوله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ أي: إن (١) استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فلا تخذلوهم وانصروهم، إلا إن استنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تغدروا، ولا تنقضوا العهد، وهذا يدل على أن ولاية الإيمان واجبة.
وقال بعض المفسرين: لما نزل قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ قام الزبير فقال: هل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا؟ فنزل: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ﴾ (٢).
قال قتادة: في هذه الآية نُهي المسلمون عن النصر على قوم بينهم ميثاق، فوالله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمة (٣) وحقًا (٤).
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، قال السدي: قال رجل: نورث ذوي أرحامنا من المشركين، فنزلت: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية (٥)، وقال محمد بن إسحاق: حض الله المؤمنين على التواصل؛ فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض (٦).
(١) ساقط من (م).
(٢) لم أجده فيما بين يدي من المصادر إلا في "تفسير الرازي" ١٥/ ٢١٠ - ٢١١.
(٣) يعني إذا كان المسلم منهيًّا عن نصرة أخيه المسلم على الكافر ذي الميثاق، فنصرته على أخيه المسلم إذا اقتتلا أشد نهيًا.
(٤) رواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٧٤٠، وأبو الشيخ كما في"الدر المنثور" ٣/ ٣٧٢.
(٥) رواه عن السدي، عن أبي مالك الإمام سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١٢٢، وابن جرير ١٠/ ٥٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٤١.
(٦) "سيرة ابن هشام" ٢/ ٣٢٤.
267
ثم قال: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾، وهو أن يتولى المؤمن الكافر (١) دون المؤمنين، وقال ابن جرير: يقول: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين تكن فتنة (٢).
فحصل في الكناية في قوله: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ قولان:
أحدهما: أن الكناية تعود إلى الموالاة، وذلك أن قوله: ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ معناه: بعضهم (٣) يوالي بعضًا، وهذا يدل على المصدر، فكني عنه، كقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: ٤٢] أي: مجيء النذير، وقد مرّ مثل ذلك كثيرًا (٤)، وهذا على قول ابن إسحاق (٥)، ومعنى قول ابن عباس؛ لأنه قال في قوله: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به (٦).
قال ابن الأنباري (٧): فتكون الهاء عائدة على التوارث، أي: إن لا تفعلوا التوارث على ما حد الله لكم تكن فتنة في الأرض، وهذا القول كالأول؛ لأن الوراثة كانت بالولاية، فسواء عادت الكناية إلى التوارث، أو إلى الموالاة فالمعنى واحد.
وعلى معنى قول ابن جرير تكون الكناية راجعة على التناصر، قال أبو بكر: معناه: إن لا تناصروا ويعن بعضكم بعضًا على أعدائكم يكن ترككم ذلك فتنة وفسادًا، فكنى عنهما لتقدم ما يدل عليهما.
(١) في (س): (المؤمنين الكافرين)، وهو خطأ.
(٢) رواه ابن جرير ١٠/ ٥٦.
(٣) ساقط من (م).
(٤) انظر: مثلًا: "تفسير البسيط" البقرة: ٤٥، ١٧٤.
(٥) يعني الذي سبق ذكره.
(٦) رواه ابن جرير ١٠/ ٥٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٤١، من رواية علي بن أبي طلحة.
(٧) هو: أبو بكر، ولم أعثر على كتابه في "معاني القرآن".
268
والقولان في رجوع الكناية ذكرهما الفراء (١)، والزجاج (٢)، ولابد من تقدير تقديم وتأخير في الكلام؛ لأنا إن قلنا: تعود إلى الموالاة فكأن قيل (٣): أولئك بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة، [وإن قلنا] (٤): تعود على (٥) التناصر فكأنه قيل: فعليكم النصر إلا تفعلوه تكن فتنة.
ومعنى الفتنة في هذه الآية: الشرك في قول ابن عباس (٦).
قال أهل المعاني (٧): وذلك أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليًا يدعو غيره ممن لا يكون مؤمنا إلى مثل ذلك لحسن التواد والتعاطف، ولم يتبرأ من الكافر بما يصرفه عن كفره أدى ذلك إلى الضلال، وكذلك في التناصر، وذلك أن المسلمين كانوا قليلًا، ولم يكن مسلم إلّا وله أقارب من الكفار فإذا هجر أقاربه الكفار، ونصر أقاربه المسلمين كان ذلك أدعى إلى الإسلام وترك الكفر لأقاربه الكفار.
وقال أهل العلم في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ هذا دليل على أن الكفار في الموارثة مع اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة، هو
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤١٩.
(٢) هذا مما سقط من "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع.
(٣) في (ح): (قال)، وما أثبته موافق لما بعده.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (س).
(٥) في (ح): (إلى).
(٦) "تنوير المقباس" ص ١٨٦، ورواه ابن جرير ٩/ ٢٤٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٠١، عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٣٩].
(٧) لم أجده في كتب أهل المعاني التي بين يدي، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٨٦، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٤٧٤ من غير نسبة.
269
مذهب عامة الفقهاء (١)؛ فالمجوسي يرث الوثني، والنصراني يرث المجوسي؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾.
٧٤ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، قال المفسرون: أولئك الذين [حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة، خلاف من أقام بدار الشرك (٢).
وقال أهل المعاني: أولئك الذين] (٣) حقق الله إيمانهم بالبشارة التي بشرهم بها في قوله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [ولم يكن لمن لم يهاجر، ولم ينصر مثل هذا (٤).
ومعنى قوله: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾] (٥)، قال ابن عباس: يريد: في الجنة ثواب عظيم (٦).
قال أهل المعاني: الرزق الكريم: طعام الجنة لا يستحيل في أجوافهم نجوًا، ولكن يصير كالمسك رشحًا (٧).
(١) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وداود الظاهري وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد. انظر: "المغني" ٩/ ١٥٦، و"حاشية الجمل على شرح المنهج" ٤/ ٢٥.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٧٤ ب، والبغوي ٣/ ٣٨٠، و"زاد المسير" ٣/ ٣٨٧، و"الكشاف" ٢/ ١٧٠.
(٣) ما بين المعقوفين ساق من (م).
(٤) لم أقف على مصدره.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٦) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ١٨٦ بنحوه.
(٧) "البرهان" للحوفي ١١/ ١٢٤ أ، وذكر نحوه ابن جرير في "تفسيره" ١٠/ ٥٧، وقد ثبت هذا المعنى بقول الرسول - ﷺ -: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون" قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جشاء ورشح كرشح المسك" رواه مسلم (٢٨٣٥)، كتاب الجنة، باب: في صفات الجنة وأهلها.
٧٥ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: الذين هاجروا بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية (١) التي فيها الصلح (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾، قال ابن عباس: يريد: إن أولي الأرحام لم يكونوا يتوارثون، وكان من واخى بينهم رسول الله - ﷺ - أولى بالميراث، كان إذا أسلم الأخوان فهاجر أحدهما فمات (٣) لم يرثه الذي لم يهاجر، وكان الذي واخى بينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالميراث وإن كان بعيدًا (٤) في النسب حتى فتحت مكة فرد الله المواريث إلى أولي الأرحام فقال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ يريد: في فرائض الله، هذا كلام ابن عباس (٥).
قال أصحابنا (٦): فليس في الآية حجة لمن قال بتوريث العمة والخالة وذوي الأرحام؛ لأن الله تعالى أراد بهذه الآية نقل الموارثة عن الحلف إلى القرابة.
(١) يعني إلى المدينة بعد صلح الحديبية، انظر: "تفسير ابن عطية" ٦/ ٣٩٤، والقرطبي ٨/ ٥٨.
(٢) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٨٧، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ٣٦٠.
(٣) ساقط من (ح).
(٤) في (ح): (بعيد).
(٥) رواه بلفظ مقارب: البغوي ٣/ ٣٧٩، ورواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ٥١ - ٥٢، وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٧٤.
ورواه مختصرًا الطبراني في "المعجم الكبير" ١١/ ٢٨٤، ورجاله رجال "الصحيح" كما في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٢.
(٦) يعني أئمة الشافعية، انظر. "الأم" للشافعي ٤/ ١٠٦، و"مختصر المزني" ص ١٥٣، و"الحاوي الكبير" للماوردي ٨/ ٧٣، ١٧٤، و"المجموع" للنووي ١٦/ ٥٣، ٥٥.
271
وهذا إجماع من المفسرين أن قوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ نسخ للميراث بالهجرة والحلف (١).
ومعنى قوله: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾، قال الزجاج: أي في حكم الله كقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١] أي: حكم الله (٢)، قال الزجاج: وجائز أن تكون هذه الأشياء (٣) مكتوبة في اللوح المحفوظ، كقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢] (٤).
(١) انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص ٢٢٤، وللنحاس ٢/ ٣٩٤، و"تفسير ابن جرير" ١٠/ ٥٢، والبغوي ٣/ ٣٨١، وقول المؤلف: هذا إجماع من المفسرين، فيه نظر، فقد ذهب الإمام ابن جرير إلى أنه ليس في الآيات ناسخ ولا منسوخ، فعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، قال: وهذه الآية تنبيء عن صحة ما قلنا: إن معنى قوله الله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ في هذه الآية، وقوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ إنما هو النصرة والمعونة، دون الميراث؛ لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار، والخبر عما لهِم عنده، دون من لم يهاجر، بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ الآية، ولو كان مراداً بالآيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم، لم يكن عقيب ذلك إلا الحث على إمضاء الميراث على ما أمر، وفي صحة ذلك كذلك الدليل الواضح على أن لا ناسخ في هذه الآيات لشيء ولا منسوخ.
"تفسير الطبري" ١٠/ ٥٧، وانظر: "النسخ في القرآن" ٢/ ٧٣٧.
(٢) هذا القول ليس موجودًا في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، وقد ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٨٧، والمصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٧٤.
(٣) (ح): (الآية)، وهو خطأ.
(٤) ليس موجودًا في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع، ومراده أن معنى (في كتاب الله) أي في اللوح المحفوظ، ولا يريد جواز ذلك وجواز عدمه كما قد يتبادر إلى الذهن من عبارته.
272
وذكر أبو علي وجهين آخرين فقال: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ أي فيما فرض لهم من السهام في المواريث (١)، وذلك في سورة النساء، وذكرنا أن (كتب) بمعنى فرض يأتي في القرآن عند قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: ١٧٨]، وهذا يقوي قول من لا يقول بتوريث ذوي الأرحام (٢)؛ لأنه لم يفرض لهم سهم في الميراث عند ذكر فرض السهام، قال: ويجوز أن يُعْنَى بالكتاب ههنا: التنزيل، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم، قال: وأن يحمل الكتاب على المكتتب أولى، وذلك كقوله في سورة الأحزاب [٦]: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ والمسطور إنما يسطر في صحف أو ألواح، فَرَدُّ المطلق منهما إلى هذا المقيد أولى؛ لأنه أمر واحد (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: يريد: كل شيء خلق، وكل شيء فرض، وكل شيء حد (٤).
(١) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" ٢/ ٤٥٦.
(٢) وهم: زيد بن ثابت ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وداود الظاهري وابن جرير، وهؤلاء يجعلون الباقي إذا لم يكن للميت من يعصبه لبيت المال.
انظر: "المغني" ٩/ ٨٢، و"الشرح الكبير" ٤/ ٤٩.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٤٥٦ بتصرف.
(٤) لم أقف على مصدره، وفي "تنوير المقباس": "إن الله بكل شيء من قسمة المواريث وصلاحكم وغيرهما (عليم) "، وفي "الوسيط" ٢/ ٤٧٤: "إن الله بكل شيء: مما خلق وفرض وحد (عليم) ". ولم ينسبه.
273
سورة براءة
(التوبة)
275
تفسير سورة براءة
اختلفوا في سبب ترك التسمية في أول هذه السورة، فروي بطرق مختلفة عن ابن عباس أنه قال: "قلت لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- ما حملكم على (١) أن عمدتم (٢) إلى الأنفال وهي من (٣) المثاني، وإلى براءة وهي من (٤) المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم الله ووضعتموها في السبع الطول (٥)؟ فقال: كانت الأنفال مما نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وكانت براءة آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتهما شبيها بعضها ببعض، وقبض رسول الله - ﷺ - ولم يتقدم إلينا فيهما (٦) بشيء؛ فلذلك قرنا بينهما ولم نكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وكانتا تدعيان
(١) في (ى): (إلى).
(٢) في (ج): (عهدتم).
(٣) ساقط من (ح).
(٤) ساقط من (ح).
(٥) بضم الطاء وفتح الواو جمع طولى، ورواية المصنف موافقة لما في "سنن الترمذي" و"صحيح ابن حبان"، و"تفسير الطبري"، وفي بقية المصادر: الطوال، والمراد بالسبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، وقيل: آخرها: براءة. والمراد بالمئين: ما ولي السبع الطوال؛ سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية قليلاً أو تقاربها. انظر: "تفسير الطبري" ١/ ٤٥ - ٤٦، و"الإتقان" ١/ ٢٢٠.
(٦) في (م): (فيها).
277
القرينتين فوضعناهما في السبع الطوال" (١).
وروي أيضًا عن ابن عباس قال: "سألت علي بن أبي طالب لِمَ لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟، قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان (٢) (٣)، وبهذا قال سفيان بن عيينة: "التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت [في المشركين] (٤)
(١) رواه أبو داود (٧٨٦) كتاب: الصلاة، باب من جهر بها - يعني البسملة، ورواه مع زيادة الترمذي (٣٠٨٦) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: هذا حديث حسن، وابن حبان كما في "الإحسان" ١/ ٢٣١ رقم (٤٣)، والحاكم في "المستدرك"، كتاب التفسير، تفسير سورة التوبة ٢/ ٢٢١، ٣٣٠، وقال في الموضع الثاني: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورواه أيضًا بتلك الزيادة أحمد في "المسند" ١/ ٥٧، ٦٩، والطبري في "تفسيره" ١/ ٤٥، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٣٩٦، وقد علق العلامة أحمد شاكر على هذا الحديث بكلام نفيس، وجزم بأن هذا الحديث ضعيف جدًا، بل لا أصل له؛ لأن إسناده يدور على "يزيد الفارسي" وقال: يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولاً، حتى شبه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن، الثابتة بالتواتر القطعي، قراءة وسماعًا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه، وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك، فلا علينا إذا قلنا: إنه حديث لا أصل له، تطبيقًا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث". انظر: المسند للإمام أحمد (بشرح أحمد شاكر) ١/ ٣٢٩ رقم (٣٩٩).
(٢) قوله: ليس فيها أمان، يعني على وجه التغليب، وإلا فقد ورد الأمان فيها في عدة مواضع، كما في الآيات: ٢، ٤، ٦، ٧، ٢٩.
(٣) رواه الحاكم في"المستدرك"، كتاب التفسير، سورة الأنفال ٢/ ٣٣٠، ورواه بمعناه أبو الشيخ وابن مردويه، كما في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٧.
(٤) في (ح): (بالمشركين).
278
والمنافقين بالسيف ولا أمان لهم" (١)، وبقريب من نحو هذا قال المبرد، وهو أنه قال: لم (٢) تفتتح (٣) هذه السورة ببسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن التسمية افتتاح للخير، وأول براءة وعيد ونقض عهود فلذلك لم تفتتح بالتسمية" (٤)، وسئل أبيّ بن كعب عن هذا فقال: "إنها نزلت في آخر القرآن وكان رسول الله - ﷺ - يأمر في أول كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يأمر في سورة براءة بذلك، فضمت (٥) إلى سورة الأنفال لشبهها بها" (٦).
قال الزجاج: "يعني أن أمر العهود مذكور في الأنفال، وهذه نزلت بنقض العهود فكانت ملتبسة بالأنفال بالشبه" (٧)، وكان قتادة يقول: "إنهما سورة واحدة" (٨).
(١) رواه الثعلبي ٦/ ٧٥ ب، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٩٠ بلفظ مقارب دون ذكر المشركين.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (م): (تفتح).
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٤٢٧، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ١٨٠.
(٥) في (ح) و (ى): (وضمت).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٧، و"زاد المسير" ٣/ ٣٩٠، و"المحرر الوجيز" ٦/ ٣٩٨.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٢٧.
(٨) لم أتمكن من تخريجه عن قتادة، وهو قول ضعيف لما يأتي:
أ- مخالفته لما ثبت عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- من أن براءة سورة مستقلة، فقد روى البخاري عن البراء قال: (آخر آية نزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦] وآخر سورة نزلت: براءة). "صحيح البخاري" (٤٦٥٤)، كتاب التفسير، باب: قوله: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
ب- كثرة أسماء سورة براءة التي تزيد على العشرة وكثير منها ثابت عن الصحابة -رضي الله عنهم-. انظر: "الكشاف" ٢/ ١٧١، و"زاد المسير" ٣/ ٣٨٩، و"الدر المنثور" =
279
Icon