تفسير سورة هود

حومد
تفسير سورة سورة هود من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

(١) - أَلِفْ. لاَمْ. را - الله أعلم بمراده.
﴿كِتَابٌ﴾ ﴿آيَاتُهُ﴾
هَذَا كِتَابٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ جُعِلَتْ آيَاتُهُ مُحْكَمَةَ النَّظْمِ، مُتْقَنَةَ البُنْيَانِ وَالتَّأْلِيفِ، وَاضِحَةَ المَعَانِي، وَجُعِلَتْ فُصُولاً مُتَفَرِّقَةً فِي سُوَرِهِ، ثُمَّ فُصِلَّتْ أَحْكَامُها، وَقَدْ أُنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِ آلهٍ حَكِيمٍ يُقَدِّرُ حَاجَةَ العَبِيدِ، خَبِيرٌ يَضَعُ الأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا.
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ - نُظِمَتْ نَظْماً مُحْكَماً رَصِيناً.
فُصِّلَتْ - فُرِّقَتْ فِي التَّنْزِيلِ نُجُوماً بِالحِكْمَةِ.
(٢) - وَأَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ، بِأَنْ لاَ تَعْبُدُوا غَيْرَهُ آلهاً، وَبِأَنْْ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ: إِنَّ اللهَ أَرْسَلَنِي نَذِيراً مِنَ العَذَابِ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ، وَبَشِيراً بِالثَّوَابِ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ.
﴿مَّتَاعاً﴾
(٣) - وَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ وَالإِجْرَامِ، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ، وَبِإِخْلاَصِ العِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، وَاسْتَغْفَرْتُمْ رَبَّكُمْ، وَتُبْتُمْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُمَتِّعُكُمْ فِي الدُّنْيا مَتَاعاً حَسَناً، وَيَرْزُقُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَنْسَأُ لَكُمْ فِي آجَالِكُمْ إلَى الوَقْتِ الذِي قَضَى عَلَيْكُمْ فِيهِ بِالمَوْتِ، وَيَجْعَلُكُمْ خَيْرَ الأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً، وَيُعْطِي كُلَّ ذِي فَضْلٍ، مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، جَزَاءَ فَضْلِهِ. أَمَّا إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرِ الهَوْلِ، شَدِيدِ البَأْسِ.
(٤) - وَسَيَكُونُ مَعَادُكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ: مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى إِعَادَةِ الخَلاَئِقِ إلَى الحَيَاةِ مَرَّةً أُخْرَى يَوْمَ القِيَامَةِ.
(٥) - هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ، الكَارِهُونَ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، يَحْنُونُ ظُهُورَهُمْ، وَيُنَكِّسُونَ رُؤُوسَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ طَيَّ صُدُورِهِمْ عَلَى بُطُونِهِمْ حِينَ يَسْمَعُونَ القُرْآنَ، لِيَسْتَخْفُوا مِنَ الرَّسُولِ وَهُوَ يَتْلُو القُرْآنَ لِكَيْلاَ يَرَاهُمْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ نُذُرَ اللهِ وَآيَاتِهِ. وَيُخْبِرُهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ هَذا الاسْتِخْفَاءِ لاَ يُفِيدُهُمْ، وَلاَ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئاً، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يَكْتُمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ النِّيَّاتِ وَالسَّرَائِرِ، حَتَّى إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، وَيَعْرِفَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ حِينَمَا يَلْبِسُونَ ثِيَابَهُمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَيُغَطُّونَ بِهَا أَجْسَادَهُمْ، وَيَأْوُونَ إِلَى فِرَاشِهِمْ، ثُمَّ يَعْلَمُ مَا يُعْلِنُونَهُ نَهَاراً، وَمَا يُسِرُّونَهُ فِي صُدُورِهِمْ.
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ - يَطْوُونَهَا عَلَى الكُفْرِ وَالعَدَاوَةِ.
يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ - يَتَغَطَّوْنَ بِهَا مُبَالَغَةً فِي الاسْتِخْفَاءِ.
لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ - مِنَ اللهِ جَهْلاً مِنْهُمْ.
﴿كِتَابٍ﴾
(٦) - وَلِيَعْلَمْ هؤُلاَءِ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ وَنِعَمَهُ وَعِلْمَهُ شَامِلَةٌ لِكُلِّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ، فَلاَ تُوجَدُ دَابَّةٌ تَتَحَرَّكُ فِي الأَرْضِ إِلاَّ وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِرِزْقِهَا، وَيَعْلَمُ مَكَانَ اسْتِقْرَارِهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَالمَكَانِ الذِي تُوْدَعُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَكُلُّ شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ مُسُجَّلٌ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ.
﴿السماوات﴾ ﴿وَلَئِن﴾
(٧) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الخَلْقِ، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَكَانَ عَرْشُهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى المَاءِ (وَعَرْشُ الرَّحْمَنِ عَالِمِ الغَيْبِ لاَ تُدْرِكُهُ الحَوَاسُّ، وَلاَ تَتَصَوَّرُهُ أَفْكَارُ البَشَرِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ إِدْرَاكَ كُنْهِ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ)، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ البَشَرَ وَمَكَّنَهُمْ فِي الأَرْضِ لِيَخْتَبِرَهُمْ (لِيَبْلُوَهُمْ)، وَلِيَرَى أَيُّهُمْ سَيَكُونُ أَحْسَنَ عَمَلاً. وَلاَ يَكُونُ العَمَلُ حَسَناً إِلاَّ إِذَا كَانَ خَالِصاً للهِ، وَمًوَافِقاً لِلشَّرْعِ، وَمَتَى فَقَدَ العَمَلُ وَاحِداً مِنْ هَذِينِ الشَّرْطَيْنِ حَبطَ وَبَطَلَ. وَإِذَا أَخْبَرْتَ يِا مُحَمَّدُ، هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُهُمْ، بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، كَمَا بَدَأَ خَلْقَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَسَيَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لاَ يُصَدِّقُونَ مَا تَقُولُ مِنْ وُقُوعِ البَعْثِ، وَلاَ يُؤْمِنُ بِمَا تَقُولُ إلاَّ مَنْ سَحَرْتَهُ أَنْتَ، فَهُوَ الذِي يُتَابِعُكَ وَيُصَدِّقُ قَوْلَكَ هَذَا.
لِيَبْلُوَكُمْ - لِيَخْتَبِرَكُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِأَمْرِكُمْ.
أَحْسَنُ عَمَلاً - أَكْثَرُ طَاعَةً للهِ، وَأَكْثَرُ تَوَرُّعاً عَنْ مُقَارَفَةِ مَحَارِمِهِ.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿يَسْتَهْزِءُونَ﴾
(٨) - وَإِذَا أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ وَالمُؤَاخَذَةِ إِلَى أَجَلٍ (أُمَّةٍ)، مُؤَكَّدٍ مَحْصُورٍ، فَسَيَتَسَاءَلُونَ اسْتِهْزَاءً مَا الذِي يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ العَذَابِ الذِي يُنْذِرُ بِهِ الرَّسُولُ؟ فَقَدْ أَلِفَتْ نُفُوسُهُمُ الشَّكَّ وَالتَّكْذِيبَ. وَلَكِنْ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ الذِي يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ، وَسَيُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
أُمَّةٍ مَعدُودَةٍ - طَائِفَةٍ مِنَ الأَيَّامِ قَلِيلَةِ العَدَدِ - أَوْ أَجَلٍ مُؤَكَّدٍ مَحْصُورٍ.
حَاقَ بِهِمْ - نَزَلَ وَأَحَاطَ بِهِمْ.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الإنسان﴾ ﴿نَزَعْنَاهَا﴾ ﴿لَيَئُوسٌ﴾
(٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا فِي نُفُوسِ البَشَرِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَمِيمَةِ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ، فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٍ بَعْدَ نِعْمَةٍ، اعْتَرَاهُمُ اليَأْسُ وَالقُنُوطُ مِنْ أَنْ يُفْرِّجَ اللهُ عَنْهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَكَفَرُوا بِنِعَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ.
لَيَؤُوسٌ - شَدِيدُ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ.
كَفُورٌ - كَثِيرُ الكُفْرَانِ بِالنِّعْمَةِ.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿أَذَقْنَاهُ﴾
(١٠) - وَكَذَلِكَ الحَالُ إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ، بَعْدَ نَقْمَةٍ وَشِدَّةٍ، فَسَيَقُولُونَ: لَنْ يُصِيبَنَا بَعْدَ هذَا ضَيْمٌ وَلاَ سُوءٌ، وَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الفَرَحِ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا، وَعَلَى المُبَالَغَةِ فِي التَّفَاخُرِ عَلَى النَّاسِ، فَيَنْشَغِلَ قَلْبُهُمْ عَنْ شُكْرِ رَبِّهِمْ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ.
ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ - نَائِبَةٍ أَوْ نَكْبَةٍ أَصَابَتْهُ.
إِنَّهُ لَفَرِحٌ - لَبَطِرٌ بِالنِّعْمَةِ، مُغْتَرٌّ بِهَا.
فَخُورٌ - عَلَى النَّاسِ بِمَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ.
﴿الصالحات﴾ ﴿أولئك﴾
(١١) - وَيَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنَ الأُنَاسِ اللَّجُوجِينَ القَنُوطِينَ، المُؤْمِنِينَ الذِينَ صَبَرُوا عَلَى الشَّدَائِدِ وَالمَكَارِهِ، إِيمَاناً بِاللهِ، وَاحْتِسَاباً، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، فَهؤُلاَءِ سَيَغْفُرُ اللهُ لَهُمْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ، وَسَيَجْزِيهِمْ أَجْراً كَبِيراً بِمَا أَسْلَفُوا فِي زَمَنِ الرَّخَاءِ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ.
﴿ضَآئِقٌ﴾
(١٢) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ عَنَتِ المُشْرِكِينَ، وَمِن تَقَوُّلِهِمْ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَارِكٌ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِبْلاَغَ المُشْرِكِينَ بَعْضَ مَا يُوحِيهِ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهُ، كَالأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالنَّهِيِ عَنِ الشِّرْكِ، وَضَائِقٌ صَدْرُكَ أَنْ تُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ؟ ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ إِلَى أَنَّ عَلَيْهَ أَنْ لاَ يَضِيقُ صَدْرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنْ لاَ يُصْرِفَهُ ذَلِكَ وَلاَ يَثْنِيهِ عَنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اللهِ، آَنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَأَنْ لاَ يَتَضَايَقُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لِمَاذَا لاَ يُنْزِلُ رَبُّهُ عَلَيْهِ كَنْزاً، أَوْ يُرْسِلُ مَعَهُ مَلِكاً يُصَدِّقُهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَقْوَالِ المْتَعَنِّتَةِ.... وَيُخْبِرُ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ أَنَّهُ نَذِيرٌ مِنَ اللهِ إِلَى النَّاسِ، يُبَلِّغُهُمْ مَا يُؤْمرُ بِإِبْلاَغِهِ، وَاللهُ هُوَ القَادِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ لَوْ شَاءَ، وَهُوَ الوَكِيلُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ فِي الكُوْنِ.
وَكِيلٌ - قَائِمٌ بِهِ، حَافِظٌ لَهُ.
﴿افتراه﴾ ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ ﴿صَادِقِينَ﴾
(١٣) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى إِعْجَازَ القُرَآنِ، وَيَرُدُّ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّداً افْتَرى القُرْآنَ، وَأَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى اللهِ، افْتِرَاءً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَتَزْعُمُونَ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَاسْتَعِينُوا بِكُلِّ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ فِي ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ. وَإِذَا كَانَ القُرْآنُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ فَمِنَ المَفْرُوضِ أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ قَوْلَ مِثْلِهِ لأنَّ مُحَمَّداً مِنْهُمْ.
(١٤) - ثُمَّ يُشْعِرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُ لِلرَّسُولِ ﷺ وَالمُؤْمِنِينَ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِلَى مَا طَلَبْتُمْ مِنْهُمُ الإِتْيَانَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مِثْلِ هَذا القُرْآنِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ البَشَرَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الإِتْيَانَ بِمْثِلِهِ، وَأَنَّ القُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ لاَ إلهَ إِلاَّ هُوَ، فَأَسْلِمُوا لَهُ، وَأَخْلِصُوا إِلَيْهِ فَي إِيمَانِكُمْ.
﴿الحياة﴾ ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾
(١٥) - مَنْ كَانَ يَطْلُبُ الحَيَاةَ الدُّنْيا، وَالتَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِهَا مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَزِينَتَهَا مِنَ الثِّيَاتِ وَالأَثَاثِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، دُونَ اسْتِعدَادٍ لِلحَيَاةِ الآخِرَةِ بِعَمَلِ البِرِّ وَالإحْسَانِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِعَمَلِ الطَّاعَاتِ، نُؤَدِّ إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَافيةً تَامَّةً، وَلاَ يُنْقِصُونَ شَيْئاً مِنْ نَتَاجِ كَسْبِهِمْ لأَجْلِ كُفْرِهِمْ، لأنَّ مَدَار الأَرْزَاقِ عَلَى الأَعْمَالِ لاَ عَلَى النِّيَّاتِ وَالمَقَاصِدِ، فَجَزَاءُ الأَعْمَالِ فِي الدُّنْيا مَنُوطٌ بِأَمْرَينِ: كَسْبِ الإِنْسَانِ، وَقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ.
وَأَمَّا جَزَاءُ الآخِرَةِ فَهُوَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِلاَ وَسَاطَةِ أَحَدٍ.
لاَ يَبْخَسُونَ - لاَ يُنْقِصُونَ شَيْئاً مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ.
﴿أولئك﴾ ﴿الآخرة﴾ ﴿وَبَاطِلٌ﴾
(١٦) - وَهَؤُلاَءِ الذِينَ لاَ هَمَّ لَهُمْ إِلاَّ الدُّنْيا، وَزِينَتُهَا، وَزُخْرُفُهَا... لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارَ، لأنَّ الجَزَاءَ فِيهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى الأَعْمَالِ فِي الدُّنْيا، وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا فِي دُنْيَاهُمْ لآخِرَتِهِمْ شَيئاً لِيَنْتَفِعُوا بِهِ.
حَبِطَ - هَلَكَ وَبَطَلَ.
﴿كِتَاب﴾ ﴿أولئك﴾
(١٧) - أَفَمَنْ كَانَ عَلَى نُورٍ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ - وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَابَعَهُ عَلَى دِينِهِ - وَيُؤَيِّدُهُ نُورٌ غَيْبِيٌّ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ، وَهُوَ القُرْآنُ المُشْرِقُ بِالنُّورِ وَالهُدَى، وَيُؤَيِّدُهُ شَاهِدٌ آخَرَ جَاءَ قَبْلَهُ، وَهُوَ الكِتَابُ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى مُوسَى، حَالَ كَوْنِهِ إِمَاماً مُتَّبَعاً فِي الهُدَى وَالتَّشْرِيعِ، وَرَحْمَةَ لِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَفَمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الأَوْصَافِ، كَمَنْ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا الفَانِيَةَ، وَيَظَلُّ مَحْرُوماً مِنَ الحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ التِي تُوصِلُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارِ الآخِرَةِ الدَّائِمَةِ؟
وَهَؤُلاَءِ الذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ البَيِّنَةِ المَوْهُوبَةِ، وَالبَيِّنَةِ المُكْتَسَبَةِ، لِيُؤْمِنُوا بِهَذَا القُرْآنِ إِيمَانَ يَقِينٍ وَإِذْعَانٍ، وَيَجْزِمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. أَمَّا مَنْ يَكْفُرُ بِهَذا القُرْآنِ، وَيَجْحَدُ فِي أَنَّهُ مْنِ عِنْدِ اللهِ، مِمَّنْ تَحَزَّبَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَزُعَمَاءِ قُرَيْشٍ لِصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ، فَإِنَّ مَصِيرَهُ سَيَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مِنْ جَرَّاءِ تَكْذِيبِهِ لِوَعِيدِ اللهِ.
فَلاَ تَكُنْ، أَيُّهَا المُؤْمِنُ، فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ هَذَا القُرْآنِ فَإِنَّهُ الحَقُّ الذِي لاَ يَأْتِيِهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ. وَلَكْنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ الإيمَانَ الكَامِلَ.
﴿أولئك﴾ ﴿الأشهاد﴾ ﴿الظالمين﴾
(١٨) - يُبَيِّنُ اللهُ حَالَ المُفْتَرِينَ عَلَيْهِ، وَفَضِيحَتهم فِي الدَّارِ الآخِرَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ مِنَ الخَلاَئِقِ، وَيَقُولُ تَعَالَى: لاَ أَحَدَ أَكْثَرَ ظُلْماً مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ فِي أَقْوَالِهِ أَوْ فِي أَحْكَامِهِ، أَوْ فِي صِفَاتِهِ، أَوْ فِي الزَّعْمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَداً، أَوْ فِي تَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ... وَيُعْرَضُ هؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَبِّهِمْ لِمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَيَقُولُ الذِينَ يَتَقَدَّمُونَ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، مِنَ المَلاَئِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ وَصَالِحِي المُؤْمِنِينَ: (هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، وَافْتَرُوا، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " إِنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ عَنِ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ كَذَا، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أََنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: فِإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَي كِتَابَهُ وَفِيهِ حَسَنَاتُهُ "
وَأَمَّا الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: (هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). (رَوَاهُ البُخَارِي وَمُسْلِمْ).
﴿بالآخرة﴾ ﴿كَافِرُونَ﴾
(١٩) - وَيُعَرِّفُ اللهُ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ فَيَقُولُ: إِنَّهُمُ الذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الإِيمَانِ، وَيَسْعَوْنَ لأَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللهِ مُعْوَجَّةً، مُوَافِقَةً لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ بِالآخِرَةِ، وَيُكَذِّبُونَ بِوُقُوعِهَا.
يَبْغُونَهَا عِوَجاً - يَطْلُبُونَهَا مُعْوَجَّةً، أَوْ ذَاتَ اعْوِجَاجٍ.
﴿أولئك﴾ ﴿يُضَاعَفُ﴾
(٢٠) - إِنَّ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ، لَمْ يَكُونُوا بِالذِينَ يُعْجِزُونَ اللهَ بِهَرَبِهِمْ مِنْهُ فِي الأَرْضِ، إِذَا أَرَادَ عِقَابَهُمْ، بَلْ هُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْفَعَهُمْ، أَوْ أَنْ يَنْصُرَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُؤَخِرُ عُقُوبَتَهُمْ وَالانْتِقَامَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيُضَاعِفُ لَهُمُ العَذَابَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، لأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَبَقُوا صُمّاً عَنْ سَمَاعِ الحَقِّ، عُمْياً عَنِ اتِّبَاعِهِ.
مُعْجِزِينَ - فَائِتِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ بِالهَرَبِ.
﴿أولئك﴾
(٢١) - لَقَدْ خَسِرَ هَؤُلاَءِ أَنْفُسَهُمْ، وَغَبَنُوهَا حَظَّهَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ، وَاشْتِرَائِهِم الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى، لأَنَّهُمْ أُدْخِلُوا النَّارَ، وَلاَقُوا عَذَاباً لاَ يُفُتَّرُ عَنْهُمْ، وَلاَ يُتَوَّقَفُ، وَغَابَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللهِ مِنْ نِسْبَةِ الأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ، وَالأَبْنَاءِ إِلَيْهِ، فَلَمْ تَنْفَعُهُمْ أَصْنَامُهُمْ، وَلاَ أَوْثَانُهُمْ شَيْئاً مِنَ اللهِ.
﴿الآخرة﴾
(٢٢) - وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرَ النَّاسِ خُسْرَاناً. لأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا عَنِ الجَنَّةِ بِالجَحِيمِ، وَعَنِ المَغْفِرَةِ بِالعَذَابِ.
لاَ جَرَمَ - لاَ شَكَّ، أَوْ لاَ مَحَالَةَ أَوْ حَقّاً، أَوْ حَقَّ وَثَبَتَ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾ ﴿أولئك﴾ ﴿أَصْحَابُ﴾ ﴿خَالِدُونَ﴾
(٢٣) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الأَشْقِيَاءِ فِي الآخِرَةِ، ثَنَّى بِذِكْرِ حَالِ السُعَدَاءِ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَخَشَعَتْ نُفُوسُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَتَرَكُوا المُنْكَرَاتِ، فَوَرثُوا الجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ لاَ يُوصَفُ، بِعَمَلِهِمْ، وَاسْتِكَانَتَهِمْ للهِ، وَخُضُوعِهِمْ لَهُ. وَيَكُونُونَ فِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ أَبداً.
أَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ - اطْمَأَنُّوا إِلَى وَعْدِهِ، أَوْ خَشَعُوا لَهُ.
(٢٤) - وَضَرََبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِحَالِ المُؤْمِنِينَ، أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالجَنَّةِ، وَلِحَالِ الكَافِرِينَ، أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ فَقَالَ: إِنَّ الكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الأَعْمَى وَالأَصَمِّ الذِي لاَ يُبْصِرُ وَلاَ يَسْمَعُ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ. وَمَثَلُ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ كَمَثَلِ البَصِيرِ السَّمِيعِ الذِي يَتْبَعُ الخَيْرَ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ، وَهُوَ سَمِيعٌ لِلْحُجَّةِ فَلا يَرُوجُ عَلَيْهِ البَاطِلُ. فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَانِ حَالاً؟ كَلاَّ إِنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ، أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلاَلِ مِنَ التَّبَايُنِ، وَفِيمَا بَيْنَ البَاطِلِ وَالحَقِّ مِنَ الاخْتِلاَفِ وَالتَّمَايُزِ فَتَعْتَبِرُوا وَتَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الهُدَى وَالإِيمَانِ، وَتَبْتَعِدُوا عَنْ طَرِيقِ الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ. ؟
(٢٥) - كَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ مِمَّنْ أََشْرَكُوا، وَعَبَدُوا الأَصْنَامَ وَالأَوْثَانَ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّنِي لَكُمْ نَذِيرٌ مِنَ اللهِ أُبَيِّنُ لَكُمْ طَرِيقَ النَّجَاةِ، فَآمِنُوا بِهِ وَأَطِيعُوا أَمْرَهُ.
(٢٦) - وَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، لأَنَّنِي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمِ القِيَامَةِ، إِذَا أَقَمْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَكُفْرِكُمْ بِرَبِّكُمْ، وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ تَعَالَى.
﴿نَرَاكَ﴾ ﴿كَاذِبِينَ﴾
(٢٧) - فَرَدَّ السَّادَةُ الكُبَرَاءُ (المَلأُ) عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَهُ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَهُمْ، وَلَيْسَ مَلكاً مُنْزَلاً مِنَ السَّمَاءِ، فَكَيْفَ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ ثُمَّ إِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْهُ إِلاَّ الأَرْاذِلُ الأَخِسَّاءُ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الأَشْرَافِ وَالرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ لَمْ يَتَّبِعُوهُ عَنْ فِكْرٍ وَنَظَرٍ وَتَمْحِيصٍ، وَإِنَّمَا أَجَابُوهُ فَوْرَ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ (بَادِيَ الرَّأْيِ - أَيْ فِي أَوَّلِ بَادِيءٍ).
وَقَالُوا لَهُ أَخيراً: إِنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ لِنُوحٍ وَأَصْحَابِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلٍ وَلاَ مِيزَةٍ، فِي الخَلْقِ وَلاَ فِي الخُلُقِ، وَلاَ فِي الحَالِ وَلا فِي القُوَّةِ، وَلاَ فِي العِلْمِ لِيَتَّبِعُوهُ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَأَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّ نُوحاً كَاذِبٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ نُبُوَّةٍ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ كَاذِبُونَ فِيمَا يَدَّعُونَهُ لأَنْفُسِهِمْ مِنَ البِرِّ وَالصَّلاَحِ وَالعِبَادَةِ.
المَلأُ - السَّادَةُ وَالكُبَرَاءُ.
بَادِيَ الرَّأْيِ - ظَاهِرَهُ دُونَ تَعَمُّقٍ وَلاَ تَثَبُّتٍ.
﴿ياقوم﴾ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿وَآتَانِي﴾ ﴿كَارِهُونَ﴾
(٢٨) - فَرَدَّ عَلَيْهِمْ نُوحٌ قَائِلاً: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ وَأَمْرٍ جَلِيٍّ وَنُبُوَّةٍ صَادِقَةِ، وَهِيَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ آتَأنِي إِيَّاهَا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ خَفِيَتْ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ، فَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيهَا، وَلا عَرَفْتُمْ قَدْرَها، بَلْ بَادَرْتُمْ إلى تَكْذِيبِها وَرَدِّهَا، أَفَنُجْبِرُكُمْ عَلَى قَبُولِهَا وَالأّخْذِ بِهَا وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ.
أَرَأَيْتُمْ - أَخْبِرُونِي.
عَميَتْ عَلَيْكُمْ - أُخفِيَتْ عَلَيْكُمْ.
﴿ياقوم﴾ ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ ﴿آمنوا﴾ ﴿مُّلاَقُو﴾ ﴿أَرَاكُمْ﴾
(٢٩) - وَأَنَا لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَى نُصْحِي لَكُمْ، وَدَعْوَتِي إِيَّاكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، مَالاً آخُذُهُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَا لاَ أَسْتَطِيعُ طَرْدَ المُؤْمِنِينَ كَمَا طَلَبْتُمْ مِنِّي، اسْتِعْلاءَ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَتَحَاشِياً مِنَ الجُلُوسِ مَعَهُمْ، لأَنَّهُمْ سَيُلاَقُونَ رَبَّهُمْ، وَسَيَسْأَلُنِي اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَإِنِّي لأَرَاكُمْ قَوْماً تَتَجَاوَزُونَ فِي طَلَبِكُمُ الحَقَّ وَالصَّوابَ، إِلَى الجَهْلِ وَالبَاطِلِ، وَلا تًدْرِكُونَ أَنَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَفَاضَلَ فِيهِ الخَلْقُ عِنْدَ اللهِ هُوَ الإِيمَانُ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ، لاَ المَالُ، وَلاَ الحَسَبُ وَلا الجَاهُ.
﴿ياقوم﴾
(٣٠) - إِنَّ اللهَ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ فَإِذَا طَرَدْتُ أَنَا هَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّايَ فِيمَا بِلَّغْتُهُمْ، أَكُونُ قَدْ ارْتَكَبْتُ جُرْماً عَظِيماً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ مَوْلاَهُمْ؟ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ اللهَ رَبُّ النَّاسِ جَمِيعاً، وَأَنَّهُ لاَ فَضْلَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَهُ إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَالتَّقْوى وَالعَمَلِ الصَّالِحِ؟
﴿خَزَآئِنُ﴾ ﴿الظالمين﴾
(٣١) يُخْبِرُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلاَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَجْراً، وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِدَعْوَةِ النَّاسِ جَمِيعاً، الشَّرِيفِ وَالوَضِيعِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَدْ أَفْلَحَ وَنَجَا وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللهِ، وَأَنَّهُ لا يَعْلَمُ الغَيْبَ، إِلاّ مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَلكٍ مِنَ المَلائِكَةِ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ وَمِنْهُمْ، مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ رَبِّهِمْ، وَمُؤَيَّدٌ بِمُعْجِزَاتِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَقُولُ عَنِ المُؤْمِنِينَ، الذِي يَحْتَقِرُونَهُمْ وَيَزْدَرُونَهُمْ: إِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ ثَوَابٌ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ، وَاللهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، حَقّاً وَصِدْقاً فَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ جَزَاءُ الحُسْنَى، وَإِنَّهُ إِنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ.
خَزَائِنُ اللهِ - خَزَائِنُ رِزْقِهِ وَمَالِهِ.
تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ - تَسْتَحْقِرُهُمْ وَتَسْتَهزِئُ بِهِمْ.
﴿يانوح﴾ ﴿جَادَلْتَنَا﴾ ﴿جِدَالَنَا﴾ ﴿الصادقين﴾
(٣٢) - قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ نُوْحٍ يَرُدُّونَ عَلَى مَقَالَتِهِ هَذِهِ: لَقَدْ جَادَلْتَنَا يَا نُوحُ وَحَاجَجْتَنَا، فَأَكْثَرْتَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى أَمْلَلْتَنا، وَلَمْ يَعُدْ لَدَيْنَا شَيءٌ نَقُولُهُ، وَنَحْنُ لَنْ نَتْبَعَكَ، فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ النَّقْمَةِ وَالعَذَابِ، وَادْعُ عَلَيْنَا بِمَا شِئْتَ، وَلْيَأْتِنَا العَذَابُ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنيا قَبْلَ عِقَابِ الآخِرَةِ.
(٣٣) - قَالَ لَهُمْ نُوحٌ: أَنَا لاَ أَمْلِكُ العَذَابَ الذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، إِنَّمَا الذِي سَيَأْتِيكُمْ بِهِ، وَيُعَجِّلُ العِقَابَ لَكُمْ، هُوَ اللهُ الذِي لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ.
مَا أَنْتُمْ بِمُعِجزِينَ - بِفَائِتِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ بِالهَرَبِ.
(٣٤) - وَأَيُّ شَيءٍ يُفِيدُكُمْ نُصْحِي وَإِبْلاَغِي إِيَّاكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي إِنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُضِلَّكُمْ وَيَغْوِيكُمْ؟ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ أَزِمَّةِ الأُمُورِ، المُتَصَرِّفُ المُطْلَقُ، العَادِلُ الذِي لا يَجُورُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ النَّاسُ، يَوْمَ الحِسَابِ، لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّ النُّصْحَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُهُ المُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ الغَيُّ وَالفَسَادُ.
أَنْ يُغْوِيَكُمْ - أَنْ يُضِلَّكُمْ.
﴿افتراه﴾
(٣٥) - أَمْ يَقُولُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّداً افْتَرَى خَبْرَ نُوحٍ، وَجَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ؟ فَقُلْ لَهُمْ: إِنْ أَنَا افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللهِ فَإِنَّ إِثْمَ ذَلِكَ وَعِقَابَهُ عَلَيَّ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَغْفُلُ عَنْ عُقُوبَةِ مَنْ يَفْتَرِي عَلَيْهِ الكَذِبَ، وَأَنْتُمْ لاَ تَتَحَمَّلُونَ مَعِي شَيْئاً مِنْ ذَنْبِي هذا، كَمَا أَنَّنِي بَرِيءٌ مِنَ الإِجْرَامِ المُتَمَثِّلِ بِكُفْرِكُمْ، وَتَجَاوُزِكُمُ الحَقَّ.
فَعَلَيَّ إِجْرَامِي - فَعَلَيَّ عِقَابُ مَا اكْتَسَبْتُهُ مِنْ ذَنْبٍ.
﴿آمَنَ﴾ ﴿تَبْتَئِسْ﴾
(٣٦) - لَمَّا اسْتَعْجَلَ قَوْمُ نُوحٍ عَذَابَ رَبِّهِمْ، وَنَقْمَتِهِ، وَقَالُوا لَهُ ائْتِنا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، دَعَا نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دِيَّاراً. فَأَوْحَى تَعَالَى إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ كَانَ آمَنَ مِنْ قَبْلُ، فَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي السِّنِينِ الخَوَالِي، مِنَ التَّ: ْذِيبِ وَالعِنَادِ وَالايذاءِ، وَلاَ يَهُمُّكَ أَمْرُهُمْ.
فَلاَ تَبْتِئِسْ - فَلاَ تَحْزَنْ.
﴿تُخَاطِبْنِي﴾
(٣٧) - وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى عَبْدَهُ نُوحاً أَنْ يَصْنَعَ سَفِينَةً (فُلْكاً) حَسَبَ التَّعْلِيمَاتِ التِي يَتَلَقَّاهَا، وَحْياً مِنْ رَبِّهِ لِيُنْجِيَهُ هُوَ وَالمُؤْمِنِينَ بِهَا. وَيُخْبِرُ اللهُ رَسُولَهُ أَنَّهُ مَشْمُولٌ بِالعِنَايَةِ الإِلهِيَّةِ وَالرِّعَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَأَنَّهُ سَيُغْرِقُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ.
بِأَعْيُنِنا - بِحِفْظِنَا وَرِعَايَتِنَا الكَامِلَتَيْنِ.
(٣٨) وَأَخَذَ نُوحٌ يَصْنَعُ السَّفِينَةَ، فَكَانَ كُبَرَاءُ قَوْمِهِ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَيَرَوْنَ مَا يَصْنَعُ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيُكَذِِّبُونَهُ فِيمَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ مِنَ الغَرَقِ، فَكَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا لِرُؤْيَتِكُمْ مَا لاَ تَتَصَوَّرُونَهُ مُفِيداً اليَوْمَ، فَإِنَّنَا سَنَسْخَرُ مِنْكُمْ غَداً، حِينَمَا يَأْتِي وَعْدُ اللهِ، وَيَحِلَّ بِكُمْ مَا أَنْذَرَكُمْ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ.
(٣٩) - وَحِينَ يَجِيءُ أَمْرُ اللهِ حَامِلاً إِلَيْكُمْ عَذَابَهُ المَوْعُودَ، فَفِي ذلِكَ اليَوْمِ فَقَطْ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ الذِي سَيَحِلُّ بِهِ عَذَابُ اللهِ الذِي سَيُخْزِيهِ، وَيُذِلُّهُ، بِالغَرَقِ فِي الدُّنْيا، وَيَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَذَابٌ دَائِمٌ سَرْمَدِيٌّ (مُقِيمٌ).
يُخْزِيهِ - يُذِلُّهُ وَيُهِينُهُ.
يَحِلُّ عَلَيْهِ - يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ بِهِ.
﴿آمَنَ﴾
(٤٠) - وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِنُوحٍ عَلاَمَةً عَلَى حُلُولِ العَذَابِ بِقَوْمِهِ، وَهِيَ أَنْ يَهْطِلَ المَطَرُ بِصُورَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ لاَ يُقْلِعُ وَلاَ يَفْتُرُ، وَيَتَفَجَّرُ وَجْهُ الأَرْضِ عُيُوناً تَنْبُعُ وَتَفُورُ حَتَّى يَفُورَ المَاءُ مِنَ التَّنَانِيرِ التِي هِيَ أَمَاكِنُ النِّيرانِ، فَحِينَمَا يَرَى نُوحٌ ذَلِكَ فَعَلَيهِ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ وَالنَّبَاتَاتِ، زَوْجِينِ اثْنَيْنِ ذَكَراً وَأُنْثَى، وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِيهَا أَهْلَهُ (أَهْلَ بَيْتِهِ وَأَقْرِبَاءَهُ)، وَاسْتَثْنَى تَعَالَى مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُ بِرِسَالَةِ نُوحٍ، وَبِرَبِّ نُوحٍ، وَكَانَ مِنْهُمُ امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ. وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مَنْ آمَنَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا كَثِيرِينَ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى.
فَارَ التَّنُّورُ - نَبَعَ المَاءُ وَجَاشَ بِشِدَّةٍ مِنْ تَنُّورِ الخُبْزِ.
﴿مجراها﴾ ﴿وَمُرْسَاهَا﴾
(٤١) - فَحَمَلَهُمْ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ وَقَالَ لَهُمْ: ارْكَبُوا فِيهَا بِاسْمِ اللهِ جَرْيُهَا عَلَى وَجْهِ المَاءِ، وَبِاسْمِ اللهِ مُنْتَهَى سَيرِهَا وَرُسُوُّها، فَهُوَ الذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِحَوْلِهِ وَقُوِّتِهِ، وَحِفْظِهِ وَعِنَايَتِهِ، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ.
مَجْرَاهَا - وَقْتَ إِجْرَائِهَا.
مُرْسَاهَا - وَقْتَ إِرْسَائِهَا.
﴿يابني﴾ ﴿الكافرين﴾
(٤٢) - وَكَانَتِ السَّفِينَةِ تَجْرِي بِرَاكِبِيهَا عَلَى وَجْهِ المَاءِ فِي أَمْوَاجٍ كِالجِبَالِ بَعْدَ أَنْ غَطَّى المَاءَ الأَرْضَ، وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ، وَكَانَ كَافِراً، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَرْكَبَ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ، لِكَيْلاَ يَغْرَقَ كَمَا سَيَغْرَقُ الآخَرُونَ مِنَ الكَفَرَةِ، وَكَانَ الابْنُ يَقِفُ فِي مَكَانٍ مُنْعَزِلٍ عَزَلَهُ المَاءُ وَأَحَاطَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
مَعْزِلٍ - مَكَانٍ مُنْعَزِلٍ عَزَلَهُ المَاءُ.
﴿سآوي﴾
(٤٣) - فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُهُ قَائِلاً: إِنَّنِي سَأَلْتَجِيءُ إِلَى قُمَّةِ جَبَلٍ عَالِيَةٍ تَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ، ظَنّاً مِنْهُ أَنَّ الطُوفَانَ لَنْ يَبْلُغَ رُؤُوسَ الجِبَالِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِرَأْسِ جَبَلٍ أَنْجَاهُ ذَلِكَ مِنَ الغَرَقِ، فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: لَيْسَ هُنَاكَ شَيءٌ يَعْصِمُ اليَوْمَ مِنْ قَضَاءِ اللهِ وَأَمْرِهِ، وَارْتَفَعَ المَوْجُ، وَحَالَ دُونَ رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا الآخَرَ فَكَانَ ابْنُ نُوحٍ مِنَ المُغْرَقِينَ.
سَآوِي - سَأَلْتَجِئ ُوَأَسْتَنِدُ.
لاَ عَاصِمَ - لاَ مَانِعَ وَلا حَافِظَ.
﴿ياأرض﴾ ﴿وياسمآء﴾ ﴿الظالمين﴾
(٤٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا غَرِقَ قَوْمُ نُوحٍ كُلُّهُمْ، إِلاَّ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الأَرْضَ بِأَنْ تَبْتَلِعَ مَاءَهَا الذِي نَبَعَ مِنْهَا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ بِأَنْ تَكُفَّ عَنِ المَطَرِ (تُقْلِعَ) وَغِيضَ المَاءُ، وَأَخَذَ فِي التَّنَاقُصِ، وَقُضِيَ أَمْرُ اللهِ فَهَلَكَ قَوْمُ نُوحٍ قَاطِبَةً مِمَّنْ كَفَرَ بِاللهِ، لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ عَلَى جَبَلِ الجُودِيِّ (وَقِيلَ إِنَّهُ جَبَلٌ قُرْبَ المُوصل)، وَقِيلَ: هَلاَكاً وَخَسَاراً وَبُعْداً لِلظَّالِمِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
أَقْلِعِي - كُفِّي عَنْ المَطَرِ وَأَمْسِكِي.
غِيضَ المَاءُ - نَقَصَ وَذَهَبَ فِي الأَرْضِ.
اسْتَوَتْ عَلى الجُودِي - اسْتَقَرَّتْ فَوْقَ جَبَلِ الجُودِيِّ.
بُعْداً - هَلاَكاً وَخَسَاراً وَسُحْقاً.
﴿الحاكمين﴾
(٤٥) - هذَا سُؤَالُ اسْتِعْلامٍ مِنْ نُوحٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ، عَنْ حَالِ وَلَدِهِ الذِي غَرِقَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ابْنِي هُوَ مِنْ أَهْلِي، وَقَدْ وَعَدْتَنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي، وَوَعْدُكَ حَقٌّ لاَ يُخْلَفُ، فَكَيْفَ غَرَقَ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ، وَحُكْمُكَ يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ العِلْمِ وَالحِكْمَةِ، وَلا يَعْرِضُ لَهُ الخَطَاُ وَالظُّلْمُ؟
﴿يانوح﴾ ﴿صَالِحٍ﴾ ﴿فَلاَ تَسْئَلْنِ﴾ ﴿الجاهلين﴾
(٤٦) - فَرَدَّ اللهُ سُبْحَانَهُ قَائِلاً: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذِينَ وَعَدْتُكَ بِإِنْجَائِهِمْ مَعَكَ فِي السَّفِينَةِ، لأَنِّي وَعَدْتُكَ بِنَجَاةِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِكَ. وَابْنُكَ هذا لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِذْ أَنَّهُ بِكُفْرِهِ قَدِ انْقَطَعَتِ المُوَالاَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَقَدْ عَمِلَ أَعْمَالاً غَيْرَ صَالِحَةٍ، فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيءٍ لاَ عِلْمَ ثَابِتٌ لَكَ بِهِ، وَإِنِّي أَنْهَاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ مَنْ يَجْهَلُونَ، فَيَسْأَلُونَ اللهَ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمَهُ، وَتَقْدِيرَهُ فِي خَلْقِهِ، اسْتِجَابَةً لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ.
﴿أَسْأَلَكَ﴾ ﴿الخاسرين﴾
(٤٧) - قَالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنِي أَلْتَجِيءُ إِلَيْكَ، وَأَحْتَمِي بِكَ (أَعُوذُ بِكَ) مِنْ أَنْ أَسْأَلَكَ شَيْئاً بَعْدَ الآنِ لاَ أَعْلَمُ الحَقَّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لِي بِفَضْلِكَ وَمَنِّكَ ذَنْبَ هذا السُّؤالِ، وَتَشْمَلْنِي بِرَحْمَتِكَ، أَكُنْ فِي عِدَادِ الخَاسِرِينَ.
﴿يانوح﴾ ﴿بِسَلاَمٍ﴾ ﴿وَبَركَاتٍ﴾
(٤٨) - وَلَمَّا غِيضَ المَاءُ، وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ عَلَى جَبَلِ الجُودِيِّ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً بِأَنْ يَهْبِطَ مِنَ السَفِينَةِ، مُمَتّعاً بِسَلامٍ وَتَحِيَّةٍ وَبَرَكَاتٍ عَلَى نُوحٍ، وَعَلَى الذِينَ مَعَهُ، فِي المَعَاشِ وَالأَرْزَاقِ، تَفِيضُ عَلَيْهِمْ، وَسَيَكُونُونَ أُمَماً مُخْتَلِفَةً مِنْ بَعْدِهِ، وَسَيَنَالُ بَرَكَةَ الإِيمَانِ بَعْضُهُمْ، وَسَيَكُونُ مِنْهُمْ آخَرُونَ سَيُمَتَّعُونَ فِي الدُّنيا بِالبَرَكَأتِ وَالأَرْزَأقِ لاَ يُصِيبَهُمْ لُطْفٌ مِنَ اللهِ وَلا رَحْمَةٌ، كَمَا سَيُصِيبُ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ سَيُضِلُّهُمْ، وَيُزَيِّنُ لَهُمْ الشِّرْكَ وَالظُّلْمَ وَالبَغْيَ، ثُمَّ يَمسُّهُمُ العَذَابُ الأَلِيمُ يَوْمَ القِيَامَةِ.
بَرَكَاتٍ - خَيْرَاتٍ ثَابِتَةٍ وَنَامِيَةٍ.
﴿العاقبة﴾
(٤٩) - هذَا القَصَصُ الذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ خَبَرِ نُوحٍ وَقَومِهِ هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الغَيْبِ السَّالِفَةِ، نُعْلِمُكَ بِهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَحْياً مِنَّا إِلَيكَ كَمَا وَقَعَتْ، وَكَأَنَّكَ شَاهِدُهَا، وَلَمْ تَكُنْ أَنْتَ، وَلَمْ يَكُنْ قَوْمُكَ يَعْلَمُونَهَأ حَتَّى يَقُولَ مَنْ يُكَذِّبُكَ مِنْهُمْ إِنَّكَ تَعَلَّمْتَها مِنْهُ، بَلْ أَخْبَرَكَ اللهُ بِهَا مُطَابِقَةً لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مُجْرَيَاتُها، كَمَا تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ قَبْلَكَ، فَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَكَ مِنْ قَوْمِكَ، وَاصْبِرَ عَلى أّذَاهُمْ لَكَ، كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ قَبْلَكَ عَلَى أَذَى أَقْوَامِهِمْ، فَإِنَّنَا سَنَنْصُرُكَ، وَنَحُوطُكَ بِعِنَايَتِنَا، وَنَجْعَلُ العَاقِبَةَ لَكَ، بِالفَوْزِ وَالنَّجَاةِ لَكَ وَلأَتْبَاعِكَ المُتَّقِينَ، فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، كَمَا فَعَلْنَا بِالمُرْسَلِينَ السَّابِقِينَ إِذْ نَصَرْنَاهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
﴿ياقوم﴾
(٥٠) - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا هُوداً عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى قَوْمِ عَادٍ، وَهُوَ مِنْهُمْ (أَخَاهُمْ) لِيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ التِي افْتَرُوهَا كَذِباً، وَاخْتَلَقُوا لَهَا الأَسْمَاءَ الإِلَهِيَّةَ.
﴿ياقوم﴾ ﴿اأَسْأَلُكُمْ﴾
(٥١) - وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُرِيدُ مِنْهُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِهِ لَهُمْ وَإِبَلاَغِهِ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمِ، وَإِنَّمَا يَبْغِي الثَّوَابَ مِنَ اللهِ، الذِي خَلَقَهُ عَلَى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، مُبَرَّأٌ مِنَ البِدَعِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ مَا يُقَالُ لَكُمْ فُتُمَيِّزُونَ بَيْنَ ما يَضُرُّ وَمَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَاذِباً.
فَطَرَنِي - خَلَقَنِي وَأَبْدَعَنِي.
﴿وياقوم﴾
(٥٢) - وَأَمَرَ هُودٌ قَوْمَهُ بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَمِمَّا أَسْلَفُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَبِإِخْلاَصِ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ عَمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَاسْتَغْفَرَهُ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَحَفِظَ شَأْنَهُ، وَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِ بِالمَطَرِ المُتَتَابِعِ، وَالإِسَاءَةِ إلى النَّاسِ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ").
السَّمَاءَ - المَطَرَ.
مِدْرَاراً - مُتَتَابِعاً غَزِيراً بِلا أَضْرَارٍ.
﴿ياهود﴾ ﴿اآلِهَتِنَا﴾
(٥٣) - قَالُوا لَهُ: يَا هُودُ إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنا بِحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ (بِيَّنَةٍ) عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَنَحْنُ لَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ آلهِتِنَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ لَنَا اتْرُكُوا آلهَتَكُمْ، وَلَنْ نُصَدِّقَكَ فِيمَا تَقُولُ وَتَدَّعِي مِنْ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِلَيْنَا.
﴿اعتراك﴾ ﴿آلِهَتِنَا﴾
(٥٤) - وَقَالُوا لَهُ: مَا نَظُنُّ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا أَصَابَكَ بِمَسٍّ مِنْ جُنُونٍ وَخَبَالٍ فِي عَقْلِكَ (اعْتَرَاكَ)، بِسَبَبِ نَهْيِكَ إِيَّانَا عَنْ عِبَادَتِهَا، وَطَعْنِكَ فِيهَا، فَصِرْتَ تَهْذِي بِهَذَا الكَلاَمِ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ هُودٌ قَائِلاً: اشْهَدُوا أَنْتُمْ، وَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ رَبِّي عَلَى مَا أَقُولُ، بِأَنِّي بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ الذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ.
اعتراك - أصابك.
بِسُوءٍ - بِجُنُونٍ وَخَبَالٍ.
(٥٥) - فَاجْتَمِعُوا أَنْتُم وَآلِهَتِكُمْ عَلَى الكَيْدِ لِي، وَلاَ تَتَوَانَوْا فِي ذَلِكَ، وَلاَ تُقَصِّرُوا فِيهِ لَحْظَةً، فَهُوَ لاَ يُهِمُّنِي، وَلاَ يَضُرّنِي فِي شَيءٍ.
فَكِيدُونِي - فَاحْتَالُوا فِي الكَيْدِ لِي وَالضُّرِّ.
لاَ تُنْظِرُونَ - لاَ تُمْهِلُونِي.
﴿آخِذٌ﴾ ﴿صِرَاطٍ﴾
(٥٦) - إِنِّي وَكَّلْتُ أُمُورِي إلى اللهِ، وَهُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمُ الحَقُّ، خَلَقَ المَخْلُوقَاتِ كُلَّها، وَجَعَلَهَا تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهُوَ الحَاكِمُ العَادِلُ الذِي لاَ يَجُوزُ فِي حُكْمِهِ. وَأَفْعَالُهُ تَعَالى، تَجْرِي عَلَى طَريقِ الحَقِّ وَالعَدْلِ فِي مُلْكِهِ.
أَمَّا الأَصْنَامُ وَالأَوْثَانُ فَهِيَ حِجَارَةٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً.
آخِذٌ بِنَاصِيَتِها - مَالِكُها، وَقَادِرٌ عَلَيهَا.
(٥٧) - فَإِنْ تَتَوَلَّوا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّكُمْ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيكُم الحُجَّةً بِإِبْلاغِي إِيَّاكُمْ رِسَالَةَ اللهِ الذِي بَعَثَنِي بِهَا إِلَيْكُمْ، وَاللهُ قَادرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَكُمْ وَأَنْ يَأْتِيَ بِقَوْمٍ غَيْرِكُمْ يَخْلُفُونَكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ، وَلا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئاً، وَلاَ يُبَالِي رَبُّكُمْ بِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَضُّرونَهُ بِكُفْرِكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ، بَلْ يَعُودُ وَبَالُ كُفْرِكُمْ عَلَيْكُمْ وَحْدَكُمْ، وَرَبِّي رَقِيبٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، قَائِمٌ بِالحِفْظِ عَليهِ.
حَفِيظٌ - رَقِيبٌ مَهُيْمِنٌ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ﴾
(٥٨) - وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللهِ بِإِهلاكِ قَوْمِ عَادٍ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهمُ الرِّيحَ العَقِيمَ، فَأَهْلَكَهُمْ بِهَا جَمِيعاً، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَداً مِنْهُمْ حَيّاً. وَنَجَّى اللهُ هُوداً وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، مِنَ العَذَابِ الغَلِيظِ الذِي أَنْزَلَهُ بِقَوْمِ عَادٍ.
غَلِيظٍ - شَدِيدٍ مُضَاعَفٍ.
﴿بِآيَاتِ﴾
(٥٩) - وَكَانَ ذلِكَ مَصِيرَ قَوْمٍ عَادٍ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأَنْكَرُوا آيَاتِهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ (لأَنَّ مَنْ كّذَّبَ رَسُولاً فَقَدْ كَذَّبَ الرُّسُلَ جَميعاً). وَاتَّبَعَ الدَّهْمَاءُ مِنْهُمْ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَقَادَتِهِم الطُّغَاةِ، الذِينَ يَأْبَوْنَ الحَقَّ، وَلا يُذْعِنُونَ لَهُ وَإِنْ قَامَ عَلَيهِ الدَّلِيلُ.
جَبَّارٍ - يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجْبِرَ غَيْرَهُ عَلَى مَا يَرِيدُ.
عَنيدٍ - طَاغٍ مُعَانِدٍ لِلْحَقِّ، مُجَانِبٍ لَهُ.
﴿القيامة﴾
(٦٠) - وَبِسَبَبِ كُفْرِهِمْ هَذا وَعُتُوِّهِمْ، اسْتَحَقُّوا مِنَ اللهِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَالنَّاسِ، لَعْنَةً فِي الدُّنْيا كُلَّمَا ذُكِرُوا، وَتَتْبَعُهُمُ اللَّعْنَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَمَا يُنَادِى عَلَيْهِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ: أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَلا بُعْداً لَعَادٍ قَوْمِ هُودٍ.
بُعْداً - هَلاَكاً وَخَسَاراً.
﴿صَالِحاً﴾ ﴿ياقوم﴾
(٦١) - يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ بَعَثَ إِلَى قَوْمِ ثَمُودَ رَسُولاً مِنْهُمْ هُوَ صَالِحٌ (وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَسْكُنُونَ مَدَائِنَ الحِجْر بَيْنَ تَبُوكَ وَالمَدِينةِ، وَكَانُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ فَأَمَرهُمْ صَالِحٌ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَقَالَ لَهُمْ إِنَّ اللهَ هُوَ الذِي خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرابٍ، وَجَعَلَكُمْ تُعَمِّرُونَ الأَرْضَ، وَتَسْتَغِلُّونَهَا، فَاسسْتَغْفِرُوهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ ذُنَوبٍ، وَتُوبُوا إِلَيهِ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَه، فَإِنَّ رَبِّي قَريبٌ، يَسْمَعُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ، وَيُجِيبُهُ إذا كَانَ مُؤْمِناً، مُخْلِصاً فِي دَعْوَتِهِ.
اسْتَعْمَكُم فِيها - جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا.
﴿ياصالح﴾ ﴿أَتَنْهَانَآ﴾ ﴿آبَاؤُنَا﴾
(٦٢) - فَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْمُهُ قَائِلِينَ: لَقَدْ كُنْتَ مَحَطَّ رَجَائِنَا وَآمَالِنا قَبْلَ أَنْ تَنْهَانَا عَنْ أَنْ نَعْبُدَ مَا كَانَ يَعْبُدُهُ آبَاؤُنَا وَأَسْلاَفُنا، وَقَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ كَبيرٍ مِمَّا جِئْتَنَا بِهِ.
مُرِيبٍ - مُوقِعٍ فِي الرِّيبَةِ وَالقَلَقِ.
﴿ياقوم﴾ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿وَآتَانِي﴾
(٦٣) - فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: هَلْ تَرَوْنَ لَوْ أَنَّنِي كُنْتُ عَلَى هُدًى وَبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي تَجْعَلُنِي عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ هَذا هُوَ الطَّرِيقُ القَوِيمُ، وَأَنَّهُ آتَانِي رَحْمَةً مِنْهُ فَاخْتَارَنِي لِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ عَصَيْتُهُ فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ، وَتَرَكْتُ دَعْوَتَكُمْ إِلَى الحَقِّ وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي وَيُجِيرُنِي مِنَ اللهِ حِينَئِذٍ؟ إِنَّكُمْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ نَفْعِي إِنْ عَصَيْتُهُ، وَلاَ تَزِيدُونَنِي غَيْرَ خَسَارَةٍ عَلَى خَسَارَةٍ (تَخْسِيرٍ)، إِنْ آثَرْتُ مَا عِنْدَكُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَاشْتَرَيْتُ رِضَاكُمْ بِسَخْطِهِ.
أَرَأَيْتُمْ - أَخْبِرُونِي.
بَيِّنَةٍ - يَقِينٍ وَبُرْهَانٍ وَبَصِيرَةٍ.
تَخْسِيرٍ - خُسْرَانٍ - أَوْ خَسَارَةٍ إِثْرَ خَسَارَةٍ.
﴿ياقوم﴾ ﴿آيَةً﴾
(٦٤) - وَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيهِ السَّلاَمُ: هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الإِبْلِ فِي أَكْلِها وَشُرْبِهَا وَخَلْقِهَا، أَرْسَلََها اللهُ إِلَيْكُمْ حُجَّةً، وَبُرْهَاناً عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِي إِلَيْكُم، فَذَرُوهَا تَسْرَحُ فِي أَرْضِ اللهِ، وَلاَ تُحَاوِلُوا أَنْ تَمَسُّوهَا بُِسوءٍ، فَيُعَاقِبَكُمْ اللهُ عَلَى فِعْلِكُمُ المُنْكَرِ بِإِهْلاكِكُمْ بِعَذابٍ لاَ يَتَأَخَّرُ كَثِيراً عَنْ مَسِّكُمُ النَّاقَةَ بِسُوءٍ.
آيَةً - مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّةِ.
﴿ثَلاَثَةَ﴾
(٦٥) - فَضَاقَتْ ثَمُودُ بِالنَّاقَةِ وَبِصَالِحٍ، فَعَقَرُوهَا تَحَدِّياً لِصَالِحٍ، وَتَكْذِيباً لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللهَ سَيَنْتَقِمُ مِنْكُمْ، وَسَيَصُبُّ العَذَابَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تَتَمَتَّعُونَ خِلاَلَهَا، وَهُوَ وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يَتَخَلَّفُ، وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ تَكْذِيبٌ.
﴿صَالِحاً﴾ ﴿آمَنُواْ﴾ ﴿يَوْمِئِذٍ﴾
(٦٦) - فَلَمَّا حَلَّ بِهِمُ العَذَابُ، نَجَّى اللهُ صَالِحاً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، بِرَحْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ، مِنْ عَذَابِ ذَلِكَ اليَوْمِ وَنَكَالِهِ، وَاللهُ هُوَ القَوِيُّ القَادِرُ، وَهُوَ العَزِيزُ الذِي لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتَحَّدَاهُ، وَلاَ يَعْجِزُهُ شَيءٌ.
﴿دِيَارِهِمْ﴾ ﴿جَاثِمِينَ﴾
(٦٧) - وَبَعْدَ أَنْ نَجَّى اللهُ صَالِحاً وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، أَخَذَتِ الكَفَرَةَ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، صَيْحَةُ العَذَابِ، فَانْدَكَّتْ بِهِم الأَرْضُ، وَتَزَلْزَلَتْ وَأَصْبَحُوا هَالِكِينَ، وَهُمْ جَاثِمُونَ عَلَى رُكَبِهِمْ، وَمُكِبُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
الصَّيْحَةُ - صَوْتٌ مُهْلِكٌ مِنْ السَّمَاءِ.
جَاثِمِينَ - هَامِدِينَ مَيِّتِينَ لاَ حَرَاكَ بِهِمْ.
﴿ثَمُودَ﴾
(٦٨) - فَكاَنُوا بِسُرْعَةِ زَوَالِهِمْ، وَشُمُولَ هَلاَكِهِمْ، كَأنَّهُمْ لَمْ يُعَمِّرُوا دِيَارَهُمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا فِيها. وَقَدْ أَخَذَ العَذابُ ثَمُودَ لأَنَّهُمْ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، وَأَشْرَكُوا بِهِ، وَخَالَفُوا عَنْ أَمْرِهِ، أَلاَ بُعْداً لِثمُودَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
لَمْ يَغْنَوا فِيها - لَمْ يُقِيمُوا طَويلاً فِي رَغْدٍ.
بُعْدا لِثَمُودَ - هَلاَكاً وَسُحْقاً لِثَمُودَ.
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿سَلاَماً﴾ ﴿سَلاَمٌ﴾
(٦٩) - وَجَاءَ المَلائِكَةُ، رُسُلُ اللهِ، إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، يُبَشِّرُونَهُ بِولاَدَةِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ، فَقَالُوا لَهُ: نُسَلِّمُ عَليكَ سَلاماً فَقَالَ: وَعَلَيكم سَلاَمٌ. فَذَهَبَ سَريعاً فَأَتَاهُمْ بِعِجْلٍ مِنَ البَقَرِ مَشْوِيٍّ (حَنِيذٍ) وَهُوَ مَا يُوجِبُهُ عَليهِ حَقُّ الضِّيَافَةِ لِلنَّازِلِينَ عَلَيهِ.
عِجْلٍ حَنيذٍ - عِجْلٍ مَشْوِيٍّ عَلَى حِجَارَةٍ مُحَمَّاةٍ فِي حُفْرَةٍ.
﴿رَأَى﴾
(٧٠) - فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ أَنَّ المَلائِكَةَ لاَ يَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ إِلى طَعَامِهِ كَمَا تَقْضِي بِهِ آدَابُ الضِّيَافَةِ، أَنْكَرَ ذلِكَ مِنْهُمْ (نَكِرَهُمْ)، وَاسْتَشْعَرَ مِنْهُم الخَوْفَ، فَقَالُوا: لاَ تَخَفْ مِنَّا فَإِنَّنا لاَ نُرِيدُ بِكَ سُوْءاً، وَإِنَّما نَحْنُ مُرْسَلُونَ مِنْ رَبِّكَ لِنُهْلِكَ قَوْمَ لُوطٍ.
نَكِرَهُمْ - أَنْكَرَهُمْ وَنَفَرَ مِنْهُمْ.
أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً - اسْتَشْعَرَ فِي نَفْسِهِ الخَوْفَ مِنْهُمْ وَأَحَسَّ بِهِ.
﴿قَآئِمَةٌ﴾ ﴿فَبَشَّرْنَاهَا﴾ ﴿بِإِسْحَاقَ﴾
(٧١) - وَكَانَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ (سَارَةُ) وَاقِفَةً وَهِيَ تَقُومُ بِخِدْمَةِ الضُّيُوفِ، فَضَحِكَتِ اسْتِبْشَاراً بِهَلاَكِ قَوْمِ لُوطٍ لِكَثْرَةِ فَسَادِهِمْ، فَبَشَّرَتْهَا المَلاَئِكَةُ بِأَنَّهَا سَيُولدُ لَهَا وَلَدٌ اسْمُهُ إِسْحَاقُ، ثُمَّ لإِسْحَاقَ خَلَفٌ، فِي حَيَاتِها وَحَيَأةِ زَوْجِهَا، وَهُوَ يَعْقُوبُ.
﴿ياويلتى﴾ ﴿أَأَلِدُ﴾
(٧٢) - قَالَتْ لَهُمْ سَارَةُ: كَيْفَ أَلِدُ وَأَنَأ عَجُوزٌ، وَزَوْجِي شَيْخٌ طَاعِنٌ فِي السِّنِّ لا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَلَدٌ، وَهذا بِلا شَكٍّ أَمْرٌ عَجِيبٌ إِنْ وَقَعَ.
يَا وَيْلَتَا - كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ.
﴿رَحْمَةُ﴾ ﴿وَبَرَكَاتُهُ﴾
(٧٣) - فَرَدَّتْ عَلَيهَا المَلائِكَةُ قَائِلَةً: لاَ يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تَعْجَبِي مِنْ أَمْرٍ قَضَاهُ اللهُ وَقَدَّرَهُ، وَهَلْ يَحُولُ شَيءٌ دُونَ قَدَرِ اللهِ؟ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ البَيْتِ، إِنَّ اللهَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
حَمِيدٌ - مَحْمُودٌ عَلَى أَفْعَالِهِ كُلِّها.
مَجِيدٌ - كَثِيرُ الخَيْرِ وَالإِحْسَانِ.
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿يُجَادِلُنَا﴾
(٧٤) - خَافَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ المَلاَئِكَةِ لاَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا طَعَامَهُ، ثُمَّ بَشَّرُوهُ بِإِسْحَاقَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لإِهْلاَكِ قَوْمِ لُوطٍ، فَارْتَاعَ لِذلِكَ. وَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ أَخَذَهُ الإِشْفَاقُ، فَرَاحَ يُجَادِلُ المَلاَئِكَةَ كَيْفَ يُهْلِكُونَ قَوْمَ لُوطٍ، وَفِيهِمْ أُنَاسٌ مُؤْمِنُونَ.
الرَّوْعُ - الخَوْفُ وَالفَزَعُ.
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿أَوَّاهٌ﴾
(٧٥) - وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ حَلِيمٌ كَثيرُ التَّأَوُّهِ، وَكَثِيرُ الإِنَابَةِ إِلى اللهِ، وَالتَّسْلِيمِ لأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ.
أَوَّاهٌ - كَثيرُ التَّأَوُّهِ مِنْ خَوْفِ اللهِ.
حَلِيمٌ - مُتَأَنٍّ غَيْرُ عَجُولٍ.
مُنِيبٌ - رَاجِعٌ إلى رَبِّهِ.
﴿ياإبراهيم﴾ ﴿آتِيهِمْ﴾
(٧٦) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لإِبْرَاهِيمَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنِ الجِدالِ فِي أَمْرِ قَوْمِ لُوطٍ، وَالاسْتِرْحَامِ لَهُمْ: ثُمَّ أَعْلَمَهُ أَنَّ قَضَاءَ اللهِ تَعَالَى قَدْ نَفَذَ فِي قَوْمِ لُوطٍ وَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ الكَلِمَةُ بِالهَلاَكِ، وَحُلُولِ البَأْسِ الذِي لاَ يُرَدُّ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ.
أَعْرِضْ عَنْ هذا - كُفَّ عَنْهُ.
(٧٧) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ وُصُولِ المَلاَئِكَةِ إِلَى لُوطٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَهُمْ عَلَى أَجْمَلِ صُورَةٍ لِشُبَانٍ حِسَانِ الوُجُوهِ، وَكَانَ قَوْمُ لُوطٍ قَدْ نَهَوْهُ عَنْ أَنْ يَسْتَضِيفَ أَحداً لِكَيْلا يُدَافِعَهُمْ عَنْ أَضْيَافِهِ، إِذَا أَرَادُوا الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِيمَنْ يَمُرُّونَ فِي أَرْضِهِمْ، فَاغْتَمَّ لُوطٌ لِمَجِيءِ هؤلاءِ الضُّيُوفِ، إِذْ خَافَ أَنْ يَعْتَدِيَ قَومُهُ عَلَيهِمْ، وَهُمْ فِي مِثْلِ هذِهِ الصَّبَاحَةِ، فَأَدْخَلَهُمْ بَيْتَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِدُخُلِهِمْ غَيْرُ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا، فَجَاؤُوا يُهْرعُونَ إِليهِ، وَهُمْ يَحثُّونَ الخُطَا طَمَعاً بِهذا الصَّيْدِ الثَّمِينِ، فَقَالَ لُوطٌ فِي نَفْسِهِ إِنَّ هذا لَيَوْمٌ شَدِيدُ البَلاءٍ.
سِيءَ بِهِمْ - نَالَتْهُ المَسَاءَةُ مِنْ مَجِيئِهْمْ إِلَيْهِ خَوْفاً عَلَيْهِمْ.
ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً - ضَعُفَتْ طَاقَتُهُ عَنْ تَدْبِيرِ خَلاصِهِمْ.
يَوْمٌ عَصِيبٌ يَوْمٌ شَدِيدُ الشَّرِّ وَالبَلاءِ.
﴿ياقوم﴾
(٧٨) - وَلَمَّا عَلِمَ قَوْمُ لُوطٍ بِنَبَأِ مَجِيءِ أَضْيَافٍ حِسَانِ الوُجُوهِ إِلى دَارِ لُوطٍ أَسْرَعُوا إِلَيهِ فَرِحِينَ بِمَا سَمِعُوا عَنْ أَضْيَافِهِ، وَكَانَ مِنْ طَبْعِهِمْ وَسَجَايَاهُمْ فِعْلُ السَّيِّئَاتِ، وَارْتِكَابُ المُنْكَرِ، إِذْ كَانُوا يَاْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، وَهُوَ بِذَلِكَ يُرْشِدُهُمْ إِلى مَا خَلَقَ اللهُ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَوَجَّهَ مَنْ أَرَادَ الزَّوَاجَ مِنْهُمْ إِلى النِّسَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ، لأَنَّ الاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ بِالزَّوَاجِ أَطْهَرُ مِنَ التَّلَوُّثِ بِرِجْسِ اللِّوَاطِ.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالخَوْفِ مِنْهُ، وَسَأَلَهُمُ الكَفَّ عَنْ طَلَبِ أَضْيَافِهِ مِنْهُ لاَنَّ فِي الإِسَاءَةِ إلى أَضْيَافِهِ خِزْياً لَهُ وَإِذْلالاً. وَخَتَمَ كَلاَمَهُ شِبْهَ يَائِسٍ مِنْ دَفْعِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: أَلَيْسَ بَيْنَكُمْ رَجُلٌ عَاقِلٌ رَشِيدٌ يُعِينُنِي عَلَى دَفْعِكُمْ، وَكَفِّكُمْ عَنْ غَيِّكُمْ؟
(وَالنَّبِيُّ يَعُدٌّ نِسَاءَ قَوْمِهِ جَمِيعاً بَنَاتاً لَهُ، وَلُوطٌ لَمْ يَكُنْ يَدُلُّهُمْ عَلَى بَنَاتِهِ بِالذَّاتِ، وَأَنْبِيَاءُ اللهِ لاَ يَقْبَلُونَ بِالزِّنَى وَدَفْعِ النَّاسِ إِلَيْهِ).
يُهْرَعُونَ إِلَيهِ - يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهُمْ يُدْفَعُونَ دَفْعاً.
لا تُخْزُونِ - لاَ تَفْضَحُونِي وَلاَ تُهِينُونِي.
(٧٩) - فَقَالُوا لِلُوطٍ: إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ أَرَبَ لَنَا فِي النِّسَاءِ، وَلا نَشْتَهِيهنَّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ غَرَضَ لَنَا، وَلاَ هَوًى، إِلاَّ فِي الذُّكُورِ، وَهُوَ مَا جِئْنَا نَسْعَى إِلَيْهِ عِنْدَكَ، فَلا فَائِدَةَ مِنْ تِكْرَارِ هذِهِ الأَقْوَالِ عَلَينا.
مِنْ حَقٍّ - مِنْ حَاجَةٍ وَلا أَرَبَ.
﴿آوي﴾
(٨٠) - فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ: لَوْ أَنَّهُ يَجِدُ القُوَّةَ فِي نَفْسِهِ، وَفِي عَشِيرَتِهِ، وَمَنْ يَسْنُدُونَهُ، لَفَعَلَ فِيهِمْ الأَفَاعِيلَ، وَلَنَكَّلَ بِهِمْ، وَلَمَنَعَهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَجِدُ ذلِكَ.
(وَلِهذا قِيلَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلْ، بَعْدَ لُوطٍ، نَبِيّاً إِلاّ وَلَهُ عِزٌّ فِي قَوْمِهِ).
آوِي إِلى رُكْنٍ - أَنْضَمُّ إِلى قَوِيٍّ أَنْتَصِرُ بِهِ عَلَيْكُمْ.
﴿يالوط﴾ ﴿الليل﴾
(٨١) - وَحِينَئِذٍ أَعْلَمَهُ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ مَلاَئِكَةُ اللهِ وَرُسُلُهُ، وَأَنَّ قَوْمَهُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ وَلا إِلَيْهِمْ (إِلى ضُيُوفِهِ) بِسُوءٍ، ثُمَّ أَمَرُوهُ بِأَنْ يُسْرِي بِأَهْلِهِ بَعْدَ هَجْعَةٍ مِنَ الليْلِ (بِقِطْعٍ مِنَ الليْلِ) وَأَنْ يَسِيرَ هُوَ فِي المُؤَخِرَةِ، وَيَتْبَعُ أَدْبَارَ أَهْلِهِ. ثُمَّ أَمَرُوهُ بِأَنْ لاَ يَلْتَفِتَ أَحَدٌ إِذَا سَمِعُوا صَوْتَ البَلاَءِ المُنْصَبِّ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَلاَ يَهُولَنَّهُمْ ذلِكَ.
وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ امْرَأَتَهُ سَتَكُونُ مِنَ الهَالِكِينَ، لأَنَّهَا مِنْ قَوْمِهَا فِي فَسَادِهَا. ثُمَّ قَرَّبُوا لَهُ مَوْعِدَ الهَلاَكِ، وَقَالُوا لَهُ إِنَّهُ الصُّبْحُ. (أَيْ مِنَ الفَجْرِ حَتَّى شَروقِ الشَّمْسِ)، فَقَالَ لَهُمْ: أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ، فَقَالُوا لَهُ: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟
(وَقِيلَ: إِنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانُ اوَاقِفِينَ بِبَابِهِ، وَلُوطٌ يُدَافِعُهُمْ، وَيَرْدَعُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ مِنْهُ، قَطَمَسَ اللهُ عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَرَجَعُوا لاَ يَهْتَدُونَ إِلى الطَّرِيقِ كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ﴾ بِقِطْعٍ مِنَ الليْلِ - بِطَائِفَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ آخِرِهِ.
﴿عَالِيَهَا﴾
(٨٢) - فَلَمَّا جَاءَ المَوْعِدُ، الذِي قَدَّرَهُ اللهُ لِنُزُولِ العَذَابِ بِهِمْ جَعَلَ عَاليَ قُرَى لُوطٍ سَافِلَهَا، وَأَمْطَرَ عَلَيهَا حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مَشْويٍّ (مِنْ سِجِّيلٍ)، مُصَفَّفَةٍ، بَعْضِها فَوْقَ بَعْضٍ، لِتَقَعَ عَلَيْهِمْ بِصُورَةٍ مُتَتَالِيَةٍ (مَنْضُ دٍ).
سِجِّيلٍ - طِينٍ طُبِخَ بِالنَّأرِ كَالفَّخَّارِ أَوِ القِرْمِيدِ.
مَنْضُودٍ - مَتَتَابِعٍ، أَوْ مَجْمُوعٍ وَمُعَدِّ لِلعَذّابِ.
﴿الظالمين﴾
(٨٣) - وَكَانَتْ هذِهِ الحِجَارَةُ تَحْمِلُ عَلاَمَاتٍ (مُسَوَّ/َةً). وَمِثْلُ هذِهِ الحِجَارَةٍ التِي أَهْلَكَ اللهُ بِهَا قَوْمَ لُوطٍ مُعَدَّةٌ وَجَاهِزَةٌ، بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، لإهْلاَكِ الظَّالِمِينَ الفَجَرَةِ، وَهُمْ لَيْسُوا بِنَجْوَةٍ مِنْهَا.
مُسَوَّمَةً - مُعَلَّمَةً لِلْعَذَابِ.
﴿ياقوم﴾ ﴿أَرَاكُمْ﴾
(٨٤) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ (وَهِيَ قَبِيلَةٌ عَرَبِيَّةٌ كَانَتْ تَسْكُنُ بَيْنَ الشَّامِ وَالحِجَازِ قَرِيباً مِنْ مَعَانَ) أَخَاهُمْ شُعَيْباً رَسُولاً، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَطْفِيفِ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَقَالَ لَهُمْ إِنِّي أَرَاكُمْ بَخَيْرٍ فِي مَعِيشَتِكُمْ وَرِزْقِكُمْ، وهذا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْنِيكُمْ عَنِ الدَّنَاءَةِ فِي بَخْسِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالبَاطِلِ بِمَا تُنْقِصُونَهُ لَهُمْ فِي المَبِيعِ. وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُسْلَبُوا ما أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ النَّعْمَةِ فِي الدُّنْيا بِسَبَبِ انْتِهَاكِكُمْ مَحَارِمَ اللهِ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ عَذَابُ اللهِ فِي يَوْمِ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهُوَ يَوْمٌ يُحِيطُ بِأَهْوالِهِ بِالنَّاسِ جَمِيعاً، وَلاَ يَنْجُوا مِنْهُ أَحَدٌ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ.
أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ - بِسَعَةٍ تُغْنِيكُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ.
يَوْمٍ مُحِيطٍ - مَهْلِكٍ يُحِيطُ بِأَهْوَالِهِ بِالنَّاسِ جَمِيعاً.
التَّطْفِيفِ - هُوَ الإِنْقَاصُ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ إِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوْهُمْ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِيهِ إِذَا اشْتَرَوا مِنَ النَّاسِ وَاكْتَالُوا أَوْ وَزَنُوا.
﴿ياقوم﴾
(٨٥) - وَنَهَاهُمْ عَنْ إِنْقَاصِ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، إِذَا أَعْطَوا النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِوَفَاءِ الكَيْلِ وَالوَزْنِ إِذا أَخَذُوا مِنَ النَّاسِ، وَنَهَاهُمْ عِنْ العُتُوِّ فِي الأَرْضِ، وَالفَسَادِ فِيها، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى عِبَادِ اللهِ.
بِالقِسْطِ - بِالعَدْلِ بِلا زِيَادَةٍ وَلا نُقْصَانٍ.
لاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ - لاَ تُنْقِصُوهُمْ شَيئاً مِنْ حُقُوقِهِمْ.
لاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ - لاَ تُفْسِدُوا فِيها أَشَدَّ الفَسَادِ.
﴿بَقِيَّةُ﴾
(٨٦) - مَا يَبْقَى لَكُمْ مِنَ الرِّبْحِ الحَلاَلِ، بَعْدَ إِيْفَاءِ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا تَأْخُذُونَهُ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَمِنْ بَخْسِكُمُ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، وَأَكْلِ الأَمْوَالِ الحَرَامِ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ، وَبِمَا يُوجِبُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الاسْتِقَامَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَرَاقِبُوا رَبَّكُمْ، فَأَنا لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِرقِيبٍ وَلا حَفيظٍ.
بَقِيَّةُ اللهِ - مَا أَبْقَاهُ اللهُ لَكُمْ مِنَ الحَلاَلِ.
بِحَفِيظٍ - بِرَقِيبٍ مُوَكَّلٍ بِكُمْ لأُجَازِيَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ.
﴿ياشعيب﴾ ﴿أصلاوتك﴾ ﴿ءابَاؤُنَآ﴾ ﴿أَمْوَالِنَا﴾ ﴿نَشَاءُ﴾
(٨٧) - قَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالسُّخْرِيَةِ: يَا شُعَيْبُ هَلْ صَلاَتُكَ وَإِيمَانُكَ بِرَبِّكَ يَأْمُرَانِكَ بِأَنْ تَدْعُوَنَا إِلَى تَرْكِ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنْ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ، أَوْ أَنْ تَمْنَعَنَا عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِنَا بِمَا يُنَاسِبُ مَصْلَحَتِنَا مِنَ الحَذْقِ وَالخَدِيعَةِ، وَبِالشَّكْلِ الذِي نُرِيدُ؟ إِنَّ هَذا غَايَةُ السَّفَهِ. أَهَذا أَنْتَ الحَلِيمُ المُكْتَمِلُ العَقْلِ (الرَّشِيدُ) ؟
﴿ياقوم﴾ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿أَنْهَاكُمْ﴾ ﴿الإصلاح﴾
(٨٨) - فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: هَلْ تَرَوْنَ لَوْ أَنَّنِي كُنْتُ عَلَى بَيِّنّةٍ مِنْ رَبِّي وَهُدًى، وَأَنَّهُ آتَانِي النُّبُوَّةَ، وَرَزَقَنِي رِزْقاً حَلالاً طَيِّباً حَسَناً، ثُمَّ عَصَيْتُهُ فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيكُمْ، وَتَرَكْتُ دَعْوَتَكُمْ إِلَى الحَقِّ، وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ حِينَئِذٍ؟ وَأَنَا لاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ شَيءٍ وَأُخَالِفُكُمْ فِي السِّرِّ إِليهِ فَأَفْعَلُهُ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقولَ لَكُمْ إِنَّ اللهَ أَكْرَمَنِي بِالرِّزْقِ الحَلالِ الحَسَنِ، دُونَ أَنْ أَحْتَاجَ إلى التَّطْفِيفِ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَدُونَ أَنْ أَبْخَسَ فِيهما.
وَأَنَا لاَ أُرِيدُ مِنْ أَمْري إِيّاكُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَبِالإقْلاعِ عَنِ المَفَاسِدِ، إلاَّ الإِصْلاَحَ بِقَدْرِ جَهْدِي وَطَاقَتِي. وَلا أَسْأَلُ غَيْرَ اللهِ التَّوْفِيقَ فِي إِصَابَةِ الحَقِّ وَإِنَّنِي تَوَكَّلْتُ عَلَيهِ، وَإِلَيهِ أَخْلَصْتُ وَأَنبْتُ فِي عِبَادَتِي وَطَاعَتِي.
أَرَأَيْتُمْ - أَخْبِرُونِي.
بَيِّنَةٍ - هِدَايَةٍ وَبَصِيرَةٍ.
﴿ياقوم﴾ ﴿صَالِحٍ﴾
(٨٩) - وَتَابَعَ شُعَيْبٌ حَدِيثَهُ مَعَ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ لاَ يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضِي وَعَدَاوَتِي عَلَى الإِصْرَارِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالفَسَادِ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ غَرَقٍ، وَقَوْمَ هُودٍ، مِنْ عَذَابِ الرَّيِحِ العَقِيمِ، وَقَوْمَ صَالِحٌ مِنْ عَذَابَ يَوْمَ الظُلَّةِ، وَقَوْمَ لُوطٍ المُجَاوِرِينَ لَكُمْ مِنْ هَلاكٍ شَامِلٍ وَعَذَابٍ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ عَنْ أَمْرِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ.
لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ - لاَ يَحْمِلَنَّكُمْ، أَوْ لاَ يَدْفَعَنَّكُمْ.
(٩٠) - وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ رَبَّكُمْ مِمَّا أَسْلَفْتُمْ مِنْ ذُنُوبٍ، وَتُوبُوا إِلَيهِ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَيَّامِكُمْ عَنِ الأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ، إِنَّ رَبِّي وَدُودٌ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِمَنْ أَخْلَصَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِ.
﴿ياشعيب﴾ ﴿لَنَرَاكَ﴾ ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾
(٩١) - قَالُوا: يَا شُعَيْبُ إِنَّنَا لاَ نَفْهَمُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ لَنَا عَنْ بُطْلاَنِ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا، وَقُبحِ حُريَّةِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِنَا، وَمَجِيءِ عَذَابٍ يُحِيطُ بِنَا، وَإِنَّا نَرَاكَ ضَعِيفاً فِينَا، لأَنَّ أَكْثَرَ عَشِيرَتِكَ لَيْسَتْ عَلَى دِينِكَ، وَلَوْلاَ عَشِيرَتُكَ الأَقْرَبُونَ لَقَتَلْنَاكَ رَجْماً بِالحِجَارَةِ، وَأَنْتَ لَسْتَ فِينَا بِذِي عِزِّ وَمَنَعَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَجْمِكَ.
رَهْطُكَ - جَمَاعَتُكَ وَعَشِيرَتُكَ.
﴿ياقوم﴾
(٩٢) - قَالَ لَهُمْ شُعَيبٌ: هَلْ جَمَاعَتِي أَحَقُّ بِالمُجَامَلَةِ وَالرِّعَايَةِ عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ؟ فَتَتْرُكُونَ مَسَاءَتِي إِكْرَاماً وَاحْتِرَاماً لِقَوْمِي، وَلاَ تَتْرُكُونَهَا إِعْظَاماً للهِ القَدِيرِ أن تَنَالُوا نَبِيَّهُ بِمَسَاءَةٍ، وَقَدْ نَبَذْتُمْ جَانِبَ اللهِ وَحَقَّهُ، وَجَعَلْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ لاَ تُطِيعُونَ رَبَّكُمْ، وَلاَ تُعَظَّمُونَهُ. وَرَبِّي يَعْلَمُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ وَهُوَ مُحيطٌ بِهَا، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهَا أَوْفَى الجَزَاءِ.
وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً - مَنْبُوذاً وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ مَنْسِيّاً.
﴿ياقوم﴾ ﴿عَامِلٌ﴾ ﴿كَاذِبٌ﴾
(٩٣) - وَلَمَّا يَئِسَ نَبِيُّ اللهِ شُعَيْبٌ مِنْ اسْتِجَابَةِ قَوْمِهِ لِدَعْوَتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ اعْمَلُوا أَنْتُمْ عَلَى طَرِيقَتِكُمْ، وَمَا هُوَ فِي إِمْكَانِكُمْ (عَلَى مَكَانَتِكُمْ، وَأَنَا سَوْفُ أَعْمَلُ عَلَى طَرِيقَتِي، وَعَلَى قَدْرَ مَا يُؤَيِّدُنِي اللهُ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ مِنَّا، أَنَا وَأَنْتُمْ، سَيَأْتِيهِ عَذَابٌ مِنَ اللهِ يُهِينُهُ وَيَخْزِيهِ، وَمَنْ مِنّا هُوَ الكَاذِبُ، وَانْتَظِرُوا ذلِكَ، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ.
مَكَانَتِكُمْ - غَايَةِ تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ، أَوْ طَرِيقَتِكُمْ.
ارْتَقِبُوا - انْتَظِرُوا العَاقِبَةَ وَالمَآلَ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿دِيَارِهِمْ﴾ ﴿جَاثِمِينَ﴾
(٩٤) - وَلَمَّا حَانَ مَوْعِدُ انْتِقَامِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، جَاءَهُمُ العَذَابُ الذِي أُنْذِرُوا بِهِ، فَنَجَّى اللهُ شُعَيباً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَلُطفٍ، وَأَخَذَتِ الكَافِرِينَ الصَّيْحَةُ وَالرَّجْفَةُ، وَأَظَلَّهُمْ عَذَابٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَاهْتَزَتْ بِهِمُ الأَرْضُ فَأَصْبَحُوا جَمِيعَهُمْ هَلْكَى فِي دِيَارِهِمْ، وَهُمْ جَالِسُونَ عَلَى رُكَبِهِمْ، مُكِبُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
جَاثِمِينَ - مَيِّتِينَ هَامِدِينَ لاَ حَرَاكَ فِيهِمْ - أَوْ مُكِبِّينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
الصَّيْحَةُ - صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ مُهْلِكٌ مُرْجِفٌ.
(٩٥) - فَأَصْبَحَ القَوْمُ هَلْكَى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمُرُوا دِيَارَهُمْ قَبْلَ ذلِكَ، وَلَمْ يُقِيمُوا فِيهَا، أَلا بُعْداً وَهَلاَكاً لِمَدْيَنَ، كَمَا هَلَكَتْ ثَمْودُ وَبَعُدَتْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ. (وَكَانَتْ ثَمْودُ جِيرَانَ مَدْيَنَ فِي الأَرْضِ، وَأَشْبَاهَهُمْ فِي الكُفْرِ وَالتَّمَرُّد ِعَلَى اللهِ).
لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا - لَمْ يُقِيمُوا طَوِيلاً فِيهَا فِي رَغَدٍ.
بُعْداً لِمَدْيَنَ - هَلاَكاً وَسُحْقاً لَهُمْ.
﴿بِآيَاتِنَا﴾ ﴿وَسُلْطَانٍ﴾
(٩٦) - يُخْبِرُ اللهُ عَنْ إِرْسَالِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، وَكِبَارِ رِجَالِ دَوْلَتِهِ (مَلَئِهِ)، مُؤَيَّداً بِآيَاتِ اللهِ البَيِّنَاتِ، الدَّالاَّتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَفِيهَا السُلْطَانُ المُبِينُ، وَالحُجَجُ الوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ.
سُلْطَانٍ مُبِينٌ - بُرْهَانٌ بَيِّنٍ وَاضِحٍ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ. ؟
﴿وَمَلَئِهِ﴾
(٩٧) - لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَكِبَارَ رِجَالِ دَوْلَتِهِ (مَلَئِهِ) مِنَ القِبْطِ، فَكَفَرَ فِرْعَوْنَ بِمَا جَاءَهُ بِهِ مُوسَى، وَأَمَرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَتَّبِعُوهُ فِي الكُفْرِ، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَمَسْلَكَهُ وَطَرِيقَتَهُ فِي الغَيِّ وَالضَّلاَلِ، وَلَمْ يَكُنْ مَسْلَكُ فِرْعَوْنَ مهْدِياً رَشِيداً حَتَّى يُتْبَّعَ.
(وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى المَلأَ بِالذِّكْرِ، لأَنَّهُمُ الكُبَرَاءُ وَالعَامَّةُ تَبَعٌ لَهُمْ).
﴿القيامة﴾
(٩٨) - وَكَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ مَلِكَ قَوْمِهِ وَقَائِدَهُمْ فِي الدُّنْيا، كَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ المَوْرِدُ الذِي يَرِدُونَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لإِطْفَاءِ ظَمَئِهِمْ، وَهُوَ المَاءُ الحَمِيمُ.
يَقْدُمُ قَوْمَهُ - أَدْخَلَهُمْ كَمَا يَتَقَدَّمُ الوَارِدُ.
الوِرْدُ المَوْرُودُ - المَدْخَلُ المَدْخُولُ فِيهِ وَهُوَ النَّارُ.
﴿القيامة﴾
(٩٩) - وَلَحِقَتْ بِهِمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةٌ مِنَ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ، وَمِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الأُمَمِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَلْعَنُهُمْ أَهْلُ المَوْقِفِ جَمِيعاً فَتَكُونُ اللعْنَةُ تَابِعَةً لَهُمْ حَيْثُمَا سَارُوا، وَبِئْسَتْ هذِهِ اللَّعَنَاتُ عَطَاءً وَرِفْداً يُعْطَوْنَهُ وَيَتْبَعُهُمْ فِي الدُّنِيا وَالآخِرَةِ. (وَيَتَهَكَّمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حِينَما يُسَمِّي هذِهِ اللَّعَنَاتِ رَفْداً وَعَطَاءً).
الرِّفْدُ المَرْفُودُ - العَطَاءُ المُعْطَى لَهُمْ وَهُوَ اللَّعْنَةُ.
﴿قَآئِمٌ﴾
(١٠٠) - يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: إِنَّ مَا سَبَقَ أَنْ قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ لِتَعِظَ بِهِ قَوْمَكَ مِنْ أَنْبَاءِ الأَنْبِياءِ السَّابِقِينَ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَمَا حَدَثَ لِبِلادِهِمْ، وَمِنْ هذِهِ القُرْىَ وَالبِلاَدِ مَا هُوَ قَائِمٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُدَمَّرٌ مَدْكُوكٌ فِي الأَرْضِ، وَمُلْقَى كَالحَصَادِ (الحَصِيدِ)، هُوَ القَصَصُ الحَقُّ، وَمَا رَوَيْنَاهُ لَكَ هُوَ الحَقُّ الثَّابِتُ، كَمَا وَقَعَتْ أَحْدَاثُهُ.
حَصِيدٌ - عَافِي الأَثَرِ كَالزَّرْعِ المَحْصُودِ.
﴿ظَلَمْنَاهُمْ﴾ ﴿آلِهَتُهُمُ﴾
(١٠١) - وَمَا ظَلَمْنَا هذِهِ الأَقْوَامَ إِذْ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ، وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، فَلَمْ تَنْفَعُهُمْ آلِهَتُهُمْ التِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُنْقِذَهُمْ مِنَ الهَلاَكِ الذِي قَضَاهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ تَزِدْهُمْ عِبَادَةُ هذِهِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ غَيْرَ خَسَارَةٍ، وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ إِنَّمَا خَسِرُوا، وَدُمِّرُوا بِسَبَبِ عِبَادَتِهِمْ لَهَا، وَلَمْ تُجْدِهِمْ هِيَ نَفْعاً.
غَيْرَ تَتْبِيبٍ - غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَهَلاَكٍ.
﴿ظَالِمَةٌ﴾
(١٠٢) - وَمِثْلُ ذلِكَ الأَخْذِ بِالعَذَابِ الذِي أَخَذَ بِهِ رَبُّكَ القُرَى الظَّالِمَةَ المُكَذِّبَةَ لِرُسُلِهِ، يَفْعَلُهُ اللهُ بِأَشْبَاهِهِمْ فِي الكُفْرِ وَالعُتُوِّ عَنْ أَمْرِهِ، وَإِنَّ أَخْذَهُ تَعَالَى لَمُؤْلِمٌ شَدِيدٌ.
﴿لآيَةً﴾ ﴿الآخرة﴾
(١٠٣) - إِنَّ فِيمَا قَصَّهُ اللهُ مِنْ إِهْلاكِ أُولئِكَ الأُمَمِ، وَبَيانِ سُنَّتِهِ فِي عَاقِبَةِ الظَّالِمِينَ، لَحُجَّةً بَيِّنَةً، وَعِبْرَةً ظَاهِرَةً لِمَنْ يَخَافُ عَذَابَ الآخِرَةِ فَيَعْتَبِرُ بِهَا، وَيَتَّقِي الظُّلْمَ فِي الدُّنيا، إِذْ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ عَذَّبَ الظَّالِمِينَ فِي الدُّنيا، لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الآخِرَةِ.
وَيَوْمُ القِيَامَةِ هُوَ يَوْمٌ عظِيمٌ تَجْتَمِعُ فِيهِ الخَلائِقُ كُلُّها لِلْحِسَابِ، وَتَشْهَدُهُ المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ، وَتَجْتَمِعُ فِيهِ الرُّسُلُ، وَتُحْشَرُ الخَلاَئِقُ، وَيَحْكُمُ فِيهِ المَلِكُ العَادِلُ، الذِي لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
(١٠٤) - وَمَا يُؤَخِّرُ اللهُ تَعَالَى إِقَامَةِ ذَلِكَ اليَوْمِ (يَوْمِ القِيَامَةِ) إِلاَّ لِمُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي عِلْمِ اللهِ، لاَ يُزادُ عَلَيْهَا وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهَا.
(١٠٥) - وَحِينَ يَأْتِي يَوْمُ القِيَامَةِ بِأَهْوالِهِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ بِإذْنِ اللهِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَمْعِ شَقِيٌّ بِمَا يَنْتَظِرُهُ مِنَ العَذَابِ، وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ بِمَا يَنْتَظِرُهُ مِنَ النَّعِيمِ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُتَّقِينَ.
(١٠٦) - أَمَّا الأَشْقِيَاءُ، الذِينَ شَقُوا بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ العَذَابِ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيا، فَيَصِيرُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ بِثِقْلِ العَذَابِ، فَيُصْبِحُ تَنَفُّسُهُمْ زَفِيراً، وَأَخْذُهُمُ النَّفَسَ شَهِيقاً.
زَفِيرٌ - إِخْرَاجٌ شَدِيدٌ لِلنَّفَسِ مِنَ الصَّدْرِ.
شَهِيقٌ - رَدُّ النَّفَسِ إِلَى الصَّدْرِ.
﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿السماوات﴾
(١٠٧) - وَيَبْقُونَ فِي النَّارِ خَالِدِينَ، مَا دَامَتْ هُنَاكَ سَمَاوَاتٌ تُظِلُّ المَخْلُوقَاتِ، وَأَرْضٌ يَقِفُونَ عَلَيها، إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ، إِذْ يُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ العُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ يَمْتَنُّ عَلَى الآخَرِينَ فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَهُوَ القَادِرُ والفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.
﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿السماوات﴾
(١٠٨) - أَمَّا السُّعَدَاءُ الذِينَ اتَّبَعُوا الرُّسُلَ، وَآمَنُوا بِاللهِ، وَعَمِلُوا صَالِحاً، فَيَصِيرُونَ إِلى الجَنَّةِ، وَيَمْكُثُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبداً، مَا دَامَتْ هُنَاكَ سَمَاوَاتٌ وَأَرْضٌ، إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ.
غَيْرَ مَجْذُوذٍ - غَيْرَ مَقَطُوعٍ عَنْهُمْ.
﴿آبَاؤُهُم﴾
(١٠٩) - فَلاَ تَكُ فِي شَكٍّ (مِرْيَةٍ) مِنْ أَنَّ مَا يَعْبُدُهُ هؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ بِاطِلٌ وَظَلاَلٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ مَا عَبَدَ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا هُمْ فِيهِ، إِلاَّ اتِّبَاعَ الآبَاءِ فِي الضَّلاَلِ وَالجَهْلِ، وَسَيَجْزِيهِمُ اللهُ عَلَيهِ أَتَمَّ الجَزَاءِ. (فَأَعْمَالُ الخَيْرِ التِي يَعْمَلُونَها فِي الدُّنْيَا: كَبِرِّ الوَالِدَينِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ... يُوَفَّوْنَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيا بِسِعَةِ الرِّزْقِ، وَكَشْفِ الضُّرِّ... ، وَلاَ يُجْزَونَ عَلَيهَا فِي الآخِرَةِ).
﴿آتَيْنَا﴾ ﴿الكتاب﴾
(١١٠) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى (الكِتَابَ) فَاخْتَلَفَ قَوْمُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَفَهْمِ مَعْنَاهَا، حَسَبَ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا شِيَعاً، وَابْتَعَدَ الكَثِيرُونَ مِنْهُمْ عَنِ الحَقِّ، وَلَوْلاَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ وَعْدِهِ بِتَأْجِيلِ العَذَابِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ (أَجَلٍ مَعْلُومٍ) ! لَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمْ. وَهَؤُلاَءِ الذِينَ وَرِثُوا التَّورَاةَ لَفِي شَكٍّ مُحَيِّرٍ مِنْ أَمْرِهَا.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى هُوَ: وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى بِأَنْ لاَ يُعَذِّبَ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ لَقَضَي بَيْنَهُمْ).
مُرِيبٍ - مُثِيرٍ لِلرِّيبَةِ وَقَلَقِ النَّفْسِ أَوْ مُوقِعٍ فِي الرِّيْبَةِ.
﴿أَعْمَالَهُمْ﴾
(١١١) - وَإِنَّ أُولَئِكَ المُخْتَلِفِينَ، الذِينَ سَرَدْنَا عَلَيْكَ قَصَصَهُمْ، لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، فَهُوَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
(١١٢) - فَالزَمِ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ الذِي لاَ عِوَجَ فِيهِ، وَاثْبَتْ عَلَيهِ. وَكَذلِكَ فَلْيَسْتَقِمْ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ، وَآمَنَ مَعَكَ، وَلاَ تَنْحَرِفُوا عَمَّا رُسِمَ لَكُمْ، وَلاَ تَتَجَاوَزُوا حُدُودَ الاعْتِدَالِ، فَتُكَلِّفُوا أَنْفُسَكُمْ مَا لاَ تُطِيقُونَ، فَالإِفْرَاطُ فِيهِ كَالتَّفْرِيطِ، كِلاَهُمَا زَيْغٌ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ.
لاَ تَطْغَوْا فِيهِ - لاَ تَتَجَاوَزُوا مَا حَدَّهُ اللهُ لَكُمْ.
(١١٣) - وَلاَ تَسْتَعِينُوا بِالظَّالِمِينَ، وَلاَ تَعْتَمِدُوا عَلَيْهِمْ، وَلاَ تَعْتَزُّوا بِهِمْ، وَلاَ تَسْتَحْسِنُوا طَرِيقَتَهُمْ (لاَ تَرْكَنُوا) فَتَكُونُوا كَأَنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَصَابَتْكُمُ النَّارُ التِي هِيَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، وَلَنْ تَجِدُوا يَوْمَئِذٍ مَنْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
(وَالآيَةُ عَامَّةٌ تَشْمَلُ الظَّالِمِينَ دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ).
لاَ تَرْكَنُوا - لاَ تَمِلْ قُلُوبُكُمْ بِالمَحَبَّةِ.
﴿الصلاة﴾ ﴿الليل﴾ ﴿الحسنات﴾ ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾
(١١٤) - وَأَدِّ الصَّلاَةَ عَلَى الوَجْهِ القَوِيمِ، وَأَدِمْهَا فِي طَرَفَي النَّهَارِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، فِي الغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، وَفِي أَوَائِلِ الليْلِ، لأَنَّ الأَعْمَالَ الحَسَنَةَ تُزَكِّى النُّفُوسَ وَتُصْلِحُها، وَتُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ المُؤَاخَذَ عَنْهَا.
وَفِي الوَصَايَا التِي أَوْصَاكَ اللهُ بِهَا مِنَ الاسْتِقَامَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ... عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، الذِينَ يُرَاقِبُونَ اللهَ، وَلاَ يَنْسَوْنَهُ.
الزُّلْفَةُ - الطَّائِفَةُ مِنْ أَوَّلِ الليْلِ لِقُرْبِهَا مِنَ النَّهَارِ.
ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - عِظَةً لِلْمُتَّعِظِينَ.
(١١٥) - وَوَطَّنْ نَفْسَكَ عَلَى الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ المَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَمَا نُهِيتَ عَنْهُ، فِي هذِهِ الوَصَايَا وَفِي غَيْرِهَا، فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً.
﴿أُوْلُواْ﴾
(١١٦) - لَقَدْ كَانَ مِنَ الوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ التِي أَهْلَكَهَا اللهُ بِظُلْمِهَا، جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أُولُو عَقْلٍ، وَرَأيٍ، وَصَلاحٍ، يَنْهَوْنَ المُفْسِدِينَ عَنِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَيَأخُذُونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ لِكَيْلاَ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ، لأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ لاَ يُهْلِكَ قَوْماً إِلاَّ إِذَا عَمَّ الفَسَادُ وَالظُّلْمُ أَكْثَرَهُمْ. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَؤُلاَءِ الأَقْوَامِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ قِلَّةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ أَكْثَرَهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الذِينَ لاَ يُؤْخَذُ بِرَأْيهِمْ، وَلاَ تُسْمَعُ كَلِمَتُهُمْ، وَلا يُقْبَلُ أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ. أَمَّا الأَكْثَرُونَ فَكَانُوا مِنَ الظَّالِمِينَ المُسْتَكْبِرِينَ المُعَانِدِينَ، فَأَصَرُّوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَاتَّبَعُوا حَيَاةَ التَّرَفِ وَالفَسَادِ، فَحَالَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الانْتِفَاعِ بِدَعْوَةِ الحَقِّ، فَبَطَرُوا وَاسْتَكْبَرُوا، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَقَدْ أَغْرَقُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الجَرَائِمِ التِي وَلَّدَهَا النَّعِيمُ وَالتَّرَفُ، وَاسْتَسْلَمُوا لَهَا، وَلِذَلِكَ رَجَّحُوا مَا أَتَوا بِهِ عَلى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَطَاعَةِ اللهِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
القُرُونِ - الأُمَمِ.
أُوْلُو بَقِيَّةٍ - أَصْحَابُ فَضْلٍ وَخَيْرٍ.
مَا أُتْرِفُوا فِيهِ - مَا أُنْعِمُوا فِيهِ مِنَ الخَصْبِ وَالسَّعَةِ.
(١١٧) - لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ مِنْ عَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، أَنْ يُهْلِكَ القُرَى بِشِرْكِ أَهْلِهَا، مَا دَامُوا مُصْلِحِينَ فِي أَعْمَالِهِم الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالعُمْرَانِيَّةِ وَالمَدَنِيَّةِ، فَلاَ يَبْخَسُونَ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، وَلاَ يَبْطِشُونَ بِالنَّاسِ، وَلاَ يُذِلُّونَ لِمُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلاَ يَرْتَكِبُونَ الفَوَاحِشَ وَلاَ يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَلاَ يَأْتُونَ فِي نَادِيهِمُ المُنْكَرَ، بَلْ لاَ بُدَّ لَهُمْ، لِيَحِقَّ عَلَيْهِمُ العَذَابَ وَالهَلاَكَ، مِنْ أَنْ يَجْمَعُوا إِلى الشِّرْكِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَالاسَاءَةِ فِي الأَعْمَالِ وَالأَحْكَامِ، وَأَنْ يَفْعَلُوا الظُّلْمََ المُدَمِّرَ لِلْعُمْرَانِ.
وَأَخْرَجَ الطَبَرَانِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ: " وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ").
فَالأُمَّةُ التِي يَقَعُ فِيهَا الفَسَادُ بِتَعْبِيدِ النَّاسِ لِغَيْرِ اللهِ بِصُورةٍ مِنْ صُوَرِهِ فَيَكُونُ فِيهَا مَنْ يَنْهَضُ لِدَفْعِهِ هِيَ أُمَمٌ نَاجِيَةٌ لاَ يَأْخُذُهَا اللهُ بِالعَذَابِ وَالتَّدْمِيرِ. أَمَّا الأُمَمُ التِي لاَ يَجِدُ فِيهَا الظَّالِمُونَ مَنْ يَرْدَعُهُم وَيَنْهَاهُمء عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ فَإِنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى تُحِقُّ عَلَيْهَا إِمَّا بِهَلاَكِ الاسْتِئْصَالِ، وَإِمَّا بِهَلاَكِ الانْحِلاَلِ وَالاخْتِلاَلِ؟
(١١٨) - يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِنَّكَ حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِكَ، وَحَزِينٌ لإِعْرَاضِهِمْ، أَوْ إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ، عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِكَ، وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، بِمُقْتَضَى الغَرِيزَةِ وَالفِطْرَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الاسْتِعْدَادِ، وَكَسْبِ العِلْمِ. وَكَانُوا فِي أَطْوَارِهِمُ الأُولَى لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ كَثُرَتْ حَاجَاتُهُمْ وَتَنَوَّعَتْ، وَكَثُرَتْ مَطَالِبُهُمْ، فَظَهَرَ فِيهِم الاسْتِعْدَادَ لِلاخْتِلاَفِ، وَهُمْ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي شُؤُونِهِمِ الدِّينِيَّةِ وَالدَّنْيَوِيَّةِ، تَبَعاً لِمُيُولِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَاسْتِعْدَادِهِم الفِطْرِيِّ، يَتَعَصَّبُ كُلُّ فَرِيقٍ لِرَأْيِهِ، وَلِمَا وَجَدَ عَلَيْهَ آبَاءَهُ.
(١١٩) - إِلاَّ الذِينَ رَحِمَهُمُ اللهُ فَإِنَّهُمْ يَبْقَوْنَ مُتَمَسِّكِينَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَغَيْرَ مُخْتَلِفِينَ، وَلَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللهِ أَنَّ النَّاسَ سَيَكُونُونَ مُخْتَلِفِينَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقاً سَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَسَتَكُونُ الجَنَّةَ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ، وَقَدْ قَضَى اللهُ، لِحِكْمَةٍ يَرَاهَا هُوَ، أَنَّهُ سَيَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنِّ وَمِنَ البَشَرِ جَمِيعاً.
تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ - وَجَبَتْ وَثَبَتَتْ.
(١٢٠) - كُلُّ مَا قَصَصْنَاهُ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ المُتَقَدِّمِينَ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَمَا احْتَمَلَهُ كُلُّ نَبِيٍّ مِنَ الأَذَى وَالتَّكْذِيبِ، وَكَيْفَ نَصَرَ اللهُ حِزْبَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُ مِنَ الكَافِرِينَ... إِنَّمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ، وَنُقَوِّيَ عَزْيمَتَكَ، وَلِتَتَأَسَّى بِإِخْوَانِكَ المُرْسَلِينَ.
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، المُشْتَمِلَةِ عَلَى قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ، وَتَفَاصِيلِ مَا جَرَى لَهُمْ مَعْ أَقْوَامِهِمْ، القَصَصُ الحَقُّ، وَالنَّبَأُ الصِّدْقُ، وَالمَوْعِظَةُ التِي يَرْتَدِعُ بِهَا الكَافِرُونَ، وَيَتَذَكَّرُ بِهَا المُؤْمِنُونَ.
﴿عَامِلُونَ﴾
(١٢١) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِأَنْ يَقُولَ - عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالوَعِيدِ - لِلَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الكُفْرِ وَالاسْتِكْبَارِ: اعْمَلُوا عَلَى طَرِيقَتِكُمْ وَمَنْهَجِكُمْ، وَمَا هُوَ مُسْتَطَاعُكُمْ وَإِمْكَانُكُمْ (عَلَى مَكَانَتِكُمْ)، وَإِنَّنَا سَنَعْمَلُ عَلَى طَرِيقَتِنَا وَمَنْهَجِنَا، وَمَا يُقَدِّرُهُ اللهُ لَنَا، وَنَحْنُ مَاضُونَ فِي طَرِيقِنَا، ثَابِتُونَ عَلَى عَمَلِنَا.
مَكَانَتِكُمْ - طَرِيقَتِكُمْ، أَوْ غَايَةَ مَا يُمْكِنُكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ.
(١٢٢) - وَانْتَظِرُوا، وَنَحْنُ مَعَكُمْ مُنْتَظِرُونَ، لِمَنْ تَكُونُ عَاقِبَةُ الدَّارِ. فَمِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ ﷺ، وَنَصَرَهُ وَأَيَّدَهُ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ اللهُ العُلْيا، وَكَلِمَةَ الذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى.
﴿السماوات﴾ ﴿بِغَافِلٍ﴾
(١٢٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ وَحْدَهُ الذِي يَعْلَمُ الغَيْبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَنَّ المَرْجِعَ وَالمَآبَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَيُؤْتِي كُلَّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ يَوْمَ الحِسَابِ، فَلَهُ الخَلْقُ وَلَهُ الأَمْرُ كُلُّهُ. ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَى رَبِّكَ حَالُ مُكَذِّبِيكَ يَا مُحَمَّدُ، فَهُوَ عَالِمٌ، بِأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الجَزَاءِ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَسَيَنْصُرُكَ وَحِزْبَكَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
Icon