بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة إبراهيموهي مكية إلا قوله تعالى :( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) ( ١ ) إلى قوله :( فإن مصيركم إلى النار ) ( ٢ ) والله أعلم.
٢ - إبراهيم: ٣٠..
ﰡ
وَقَوله: ﴿كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك﴾ مَعْنَاهُ: هَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك.
وَقَوله: ﴿لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ مَعْنَاهُ: من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى، وَمن الْكفْر إِلَى الْإِيمَان وَمن الغواية إِلَى الرشد، وَقيل: من الْبِدْعَة إِلَى السّنة.
والظلمة اسوداد الجو بِمَا يمْنَع من الْبَصَر، والنور: بَيَاض شعاعي يحصل بِهِ الإبصار. قَوْله: ﴿بِإِذن رَبهم﴾ أَي: بِأَمْر رَبهم، وَقيل: بِعلم رَبهم.
وَقَوله ﴿إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد﴾ الصِّرَاط هُوَ الدّين، والعزيز الحميد هُوَ الله تَعَالَى. وَمعنى الْعَزِيز: الْغَالِب، وَمعنى الحميد: هُوَ الْمُسْتَحق للحمد فِي أَفعاله؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا متفضل أَو عَادل.
وَقَوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾ يَعْنِي: لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: ﴿وويل للْكَافِرِينَ﴾ الويل: وَاد فِي جَهَنَّم، وَقيل: إِنَّه دُعَاء الْهَلَاك. {من
وَقَوله: ﴿ويصدون عَن سَبِيل الله﴾ يَعْنِي: يمتنعون عَن قبُول دين الله، وَيمْنَعُونَ النَّاس عَن قبُوله. ﴿ويبغونها عوجا﴾ العوج فِي الدّين، والعوج فِي الرمْح والحائط، وَمعنى الْآيَة: وَيطْلبُونَ دين الله زيغا، وَقيل: وَيطْلبُونَ سَبِيل الله جائرين عَن الْقَصْد، وَقيل: يطْلبُونَ لمُحَمد الْهَلَاك، وَيُقَال: إِن الْكِنَايَة رَاجِعَة إِلَى الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: يطْلبُونَ الدُّنْيَا على طَرِيق الْميل عَن الْحق، وَذَلِكَ هُوَ بِجِهَة الْحَرَام على مَا قُلْنَاهُ.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ فِي ضلال بعيد﴾ أَي: فِي خطأ طَوِيل.
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن سَائِر الْخلق تبع الْعَرَب فِي الدعْوَة، وَقد بعث بلسانهم ثمَّ إِنَّه بعث بالرسل إِلَى الْأَطْرَاف يَدعُونَهُمْ إِلَى الله، وَترْجم لَهُم قَوْله.
وَقَوله: ﴿ليبين لَهُم﴾ مَعْنَاهُ مَا بَينا. وَقَوله: ﴿فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَذكرهمْ بأيام الله﴾ رُوِيَ عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ: بنعم الله. وَفِي بعض المسانيد نقل هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: بأيام الله أَي: بنقم الله. وَقَالَ بَعضهم: بوقائع الله، يَعْنِي: بِمَا أوقع بالأمم الْمَاضِيَة، يُقَال: فلَان عَارِف بأيام الْعَرَب، أَي: بوقائعهم.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور﴾ الصبار: كثير الصَّبْر، وَالصَّبْر: حبس النَّفس عَمَّا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس، وَقد رُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالشُّكْر نصفه، وَالْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله. والشكور: هُوَ الْكثير الشُّكْر.
قَوْله: ﴿إِذْ نجاكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب﴾ قد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ويذبحون أبناءكم﴾ قَالَ فِي مَوضِع بِغَيْر الْوَاو، وَقَالَ هَاهُنَا بِالْوَاو، وَذكر الْوَاو يَقْتَضِي أَنه سبق الذّبْح عَذَاب آخر، وَترك ذكر الْوَاو يَقْتَضِي أَن
وَقَوله: ﴿ويستحيون نساءكم﴾ يَعْنِي: يتركون قتل النِّسَاء، وَفِي الْخَبَر: " اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين، واستحيوا شرخهم ". ﴿وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم﴾ قيل: إِن الْبلَاء هُوَ المحنة، وَقيل: إِن الْبلَاء هُوَ النِّعْمَة، وَمَوْضِع النِّعْمَة فِي الإنجاء من الْبلَاء، وَقيل مَعْنَاهُ: اختبار من الله عَظِيم.
(وَلم (تشعر) بضوء الصُّبْح حَتَّى | سمعنَا فِي مَسَاجِدنَا الأذينا) |
وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لَهُ رجل: أوصني يَا رَسُول الله، فَقَالَ: " عَلَيْك بالشكر فَإِنَّهُ زِيَادَة ". وَمعنى الْآيَة: لَئِن شكرتموني بِالتَّوْحِيدِ لأزيدنكم نعْمَة الْآخِرَة على نعْمَة الدُّنْيَا. وَقيل: لَئِن شكرتم بِالطَّاعَةِ لأزيدنكم فِي الثَّوَاب.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن كَفرْتُمْ﴾ جحدتم. ﴿إِن عَذَابي لشديد﴾ لعَظيم.
وَقَوله: ﴿جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَي: بالدلالات الواضحات. وَقَوله: ﴿فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم﴾ رُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: عضوا أَيّدهُم غيظا، قَالَ الشَّاعِر:
(لَو أَن سلمى أَبْصرت التخددي | ورقة فِي عظم ساقي ويدي) |
(وَبعد أَهلِي وجفاء عودي | عضت من الوجد أَطْرَاف الْيَد) |
(قد أفنى أنامله غيظه | فأمسى يعَض على الوظيفا) |
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى الْآيَة أَنهم كذبُوا الرُّسُل فِي أَقْوَالهم، يُقَال: رددت قَول فلَان فِي فِيهِ إِذا كَذبته.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الْأَيْدِي هَاهُنَا هِيَ النعم، وَمَعْنَاهُ: ردوا مَا لَو قبلوا كَانَت آيادي وَنِعما.
وَقَوله: ﴿فِي أَفْوَاههم﴾ يَعْنِي: بأفواههم، وَمَعْنَاهُ: بألسنتهم تَكْذِيبًا. وأشرق الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول، وَالْقَوْل الثَّالِث محكي عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: ﴿وَقَالُوا إِنَّا كفرنا بِمَا أرسلتم بِهِ﴾ أَي: جحدنا بِمَا أرسلتم بِهِ.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا لفي شكّ مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ مريب﴾ أَي: مرتاب، وَالشَّكّ هُوَ التَّرَدُّد بَين طرفِي نقيض.
وَقَوله: ﴿ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى﴾ إِلَى حِين اسْتِيفَاء آجالكم. وَقَوله: ﴿قَالُوا إِن أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا تُرِيدُونَ أَن تصدونا﴾ أَي: تمنعونا. ﴿عَمَّا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿فأتونا بسُلْطَان مُبين﴾ أَي: بِحجَّة [ومعجزة] بَيِّنَة، وَالسُّلْطَان هَاهُنَا: هُوَ الْبُرْهَان الَّذِي يرد الْمُخَالف إِلَى الْحق.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ لنا أَن نأتيكم بسُلْطَان﴾ أَي: بِحجَّة ومعجزة. ﴿إِلَّا بِإِذن الله﴾
وَقَوله: ﴿ولنصبرن على مَا آذيتمونا﴾ وَالْآيَة تَعْلِيم الْمُؤمنِينَ وإرشادهم إِلَى الصَّبْر على أَذَى مخالفي الْحق. قَوْله: ﴿وعَلى الله فَليَتَوَكَّل المتوكلون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَأوحى إِلَيْهِم رَبهم لَنهْلكَنَّ الظَّالِمين﴾ أَي: الْمُشْركين.
وَقَوله: ﴿ذَلِك لمن خَافَ مقَامي﴾ الْفرق بَين الْمقَام والمُقام: أَن الْمقَام مَوضِع الْإِقَامَة، والمُقام فعل الْإِقَامَة. فَإِن قيل: كَيفَ يكون لله مقَام، وَقد قَالَ: ﴿ذَلِك لمن خَافَ مقَامي﴾ ؟ قُلْنَا: أجمع أهل التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: ذَلِك لمن خَافَ مقَامه بَين يَدي، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان﴾.
وَقَوله: ﴿وَخَافَ وَعِيد﴾ أَي: عقابي.
وَقَوله: ﴿وخاب كل جَبَّار عنيد﴾ وخاب أَي: خسر، وَقيل: وَهلك كل جَبَّار. والجبار هُوَ الَّذِي لَا يرى فَوْقه أحد، والجبرية طلب الْعُلُوّ بِمَا لَا غَايَة وَرَاءه، وَهُوَ وصف لَا يَصح إِلَّا لله، وَأما فِي وصف الْخلق فَهُوَ مَذْمُوم، وَقيل: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يجْبر الْخلق على مُرَاده. وَأما العنيد: هُوَ المعاند للحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من وَرَائه جَهَنَّم﴾ الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ: من أَمَامه جَهَنَّم. قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن ورائك يَوْم أَنْت بالغه | لَا حَاضر معجز عَنهُ وَلَا باد) |
وَقَوله: ﴿وَلَا يكَاد يسيغه﴾ يَعْنِي: لَا يسيغه، وَقيل مَعْنَاهُ: يكَاد لَا يسيغه، ويسيغه؛ ليغلي فِي جَوْفه. وَقَوله: ﴿ويأتيه الْمَوْت من كل مَكَان﴾ قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: من كل شَعْرَة من جسده، وَقيل: يَأْتِيهِ الْمَوْت من قدامه وَمن خَلفه، وَمن فَوْقه وَمن تَحْتَهُ، وَعَن يَمِينه وَعَن شِمَاله.
وَقَوله: ﴿وَمَا هُوَ بميت﴾ يَعْنِي: عَلَيْهِ شدَّة الْمَوْت وَلَا يَمُوت، وَهُوَ فِي معنى قَوْله
وَقَوله: ﴿فِي يَوْم عاصف﴾ فِيهِ مَعْنيانِ.
أَحدهمَا: أَنه وصف الْيَوْم بالعاصف؛ لِأَن فِيهِ العصوف، كَمَا يُقَال: يَوْم حَار وَيَوْم بَارِد، أَي: فِيهِ الْحر وَالْبرد، قَالَ الشَّاعِر:
(يَوْمَيْنِ غيمين وَيَوْما شمسا... )
وَالْمعْنَى الثَّانِي: فِي يَوْم عاصف أَي: فِي يَوْم عاصف الرّيح، قَالَ الشَّاعِر:
(ويضحك عرفان الدروع جلودنا... إِذا جَاءَ يَوْم مظلم الشَّمْس (كاسف))
أَي: كاسف الشَّمْس.
وَقَوله ﴿لَا يقدرُونَ مِمَّا كسبوا على شَيْء﴾ لِأَن أَعْمَالهم قد ذهبت وَبَطلَت كالرماد الَّذِي ذهبت بِهِ الرّيح العاصف.
وَقَوله: ﴿ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد﴾ الْخَطَأ الطَّوِيل.
وَقَوله: ﴿إِن يَشَأْ يذهبكم﴾ يَعْنِي: إِن يَشَأْ يهلككم. ﴿وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد﴾ أَي: بِقوم آخَرين، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ﴾.
قيل فِي التَّفْسِير: قوما أطوع لله مِنْكُم.
وَقَوله: ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا﴾ معنى الَّذين استكبروا: يَعْنِي تكبروا على النَّاس، وتكبروا عَن الْإِيمَان، وهم القادة والرؤساء.
وَقَوله: ﴿إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون﴾ كُنَّا لكم تبعا، أَي: أتباعا ﴿فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء﴾ أَي: دافعون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء. وَقَوله: ﴿قَالُوا لَو هدَانَا الله لهديناكم﴾ مَعْنَاهُ: لَو هدَانَا الله لدعوناكم إِلَى الْهدى، فَلَمَّا أضلنا دعوناكم إِلَى الضَّلَالَة.
وَقَوله: ﴿سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا﴾ فِي الْآثَار أَنهم يَقُولُونَ: قد جزع أَقوام فِي الدُّنْيَا؛ فنجوا فَنحْن نجزع لننجوا، فيجزعون مُدَّة مديدة فَلَا يرَوْنَ نجاة، فَيَقُولُونَ: قد صَبر أَقوام فِي الدُّنْيَا، فَنحْن نصبر للنجوا، فيصبرون مُدَّة مديدة، فَلَا يرَوْنَ نجاة فَيَقُولُونَ بعد ذَلِك: سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا.
قَوْله: ﴿مَا لنا من محيص﴾ أَي: منجي ومخلص، وَيُقَال: يجزعون مائَة سنة، ويصبرون مائَة سنة، وَيُقَال: فلَان وَقع فِي حيص بيص، وحاص وباص إِذا وَقع فِي أَمر لَا مخلص عَنهُ.
وَقَوله: ﴿إِن الله وَعدكُم وعد الْحق ووعدتكم فأخلفتكم﴾ ووعد الْحق هُوَ الَّذِي يَقع الْوَفَاء [بِهِ]. وَقَوله: ﴿ووعدتكم فأخلفتكم﴾ هُوَ مَا لَا يَقع بِهِ الْوَفَاء، وَقيل: إِنَّه يَقُول لَهُم: قلت لكم لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار، وَغير ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان﴾ مَعْنَاهُ: أَنِّي لم آتكم بِحجَّة فِيمَا دعوتكم إِلَيْهِ. وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن دعوتكم﴾ هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِن دعوتكم أَي: زينت لكم. قَوْله: ﴿فاستجبتم لي﴾ أَي: أجبتم لي. وَقَوله: ﴿فَلَا تلوموني ولوموا أَنفسكُم﴾ يَعْنِي: لَا تعودوا باللائمة عَليّ، وعودوا باللائمة على أَنفسكُم.
وَقَوله: ﴿مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي﴾ مَعْنَاهُ: مَا أَنا بمعينكم وَمَا أَنْتُم بمعيني، وَقيل [مَعْنَاهُ] : مَا أَنا بمنجيكم وَمَا أَنْتُم بمنجي، وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَمَا أَنْتُم بمصرخي " بِكَسْر الْيَاء، وَأهل النَّحْو لَا يرضون هَذِه الْقِرَاءَة، وَذكر الْفراء شعرًا يدل على قِرَاءَة حَمْزَة. قيل: إِنَّه لُغَة بني يَرْبُوع. وَالشعر:
(قَالَ لَهَا هَل أَنْت يَا باغي | قَالَت لَهُ مَا أَنْت بالمرضي) |
وَقَوله: ﴿إِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: وجيع.
قَوْله: ﴿تحيتهم فِيهَا سَلام﴾ وَفِي المحيي بِالسَّلَامِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن المحيي بِالسَّلَامِ هُوَ الله تَعَالَى، وَالْآخر: هم الْمَلَائِكَة، وَالثَّالِث: أَن المحيي بِالسَّلَامِ بَعضهم على بعض.
وَقَوله: ﴿كشجرة طيبَة﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن الشَّجَرَة الطّيبَة هَاهُنَا: هِيَ النَّخْلَة، وَقد بيّنت بِرِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ لأَصْحَابه: " أخبروني عَن شَجَرَة هِيَ مثل الْمُؤمن؟ فَوَقَعت الصَّحَابَة فِي شجر الْبَوَادِي. قَالَ ابْن عمر: وَوَقع فِي نَفسِي أَنَّهَا النَّخْلَة، ثمَّ إِن النَّبِي قَالَ: هِيَ النَّخْلَة. قَالَ ابْن عمر: فَذكرت لأبي أَنه كَانَ وَقع فِي نَفسِي كَذَا، فَقَالَ: لَو كنت قلته كَانَ أحب إِلَيّ من حمر النعم ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أكْرمُوا النَّخْلَة فَإِنَّهَا عمتكم ".
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا خلقت من فضل طِينَة آدم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشَّجَرَة الطّيبَة شَجَرَة فِي الْجنَّة، وَقد حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: إِن الشَّجَرَة الطّيبَة شَجَرَة جوز الْهِنْدِيّ.
وَقَوله: ﴿أَصْلهَا ثَابت﴾ أَي: ثَابت فِي الأَرْض. وَقَوله: ﴿وفرعها فِي السَّمَاء﴾ أَي: أَعْلَاهَا فِي السَّمَاء.
وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: أَرْبَعَة أشهر لِأَنَّهَا من حِين ظُهُورهَا إِلَى حِين إِدْرَاكهَا، وَقَالَ بَعضهم: شَهْرَان؛ لِأَنَّهُ من حِين يُؤْكَل إِلَى حِين يصرم.
وَالْقَوْل الْخَامِس: أَنه غدْوَة وَعَشِيَّة؛ لِأَن ثَمَر النَّخْلَة يُؤْكَل مِنْهَا أبدا، إِمَّا رطبا، وَإِمَّا تَمرا وَإِمَّا بسرا.
وَقَوله: ﴿بِإِذن رَبهَا﴾ أَي: بِأَمْر رَبهَا. وَقَوله: ﴿وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس﴾ مَوضِع الْمثل أَن الْإِيمَان ثَابت فِي الْقلب، وَالْعَمَل صاعد إِلَى السَّمَاء، كالنخلة ثَابت أَصْلهَا فِي الأَرْض، وفروعها مُرْتَفعَة إِلَى السَّمَاء، مَوضِع الْمثل فِي قَوْله: ﴿تؤتي أكلهَا كل حِين﴾ لِأَن فَائِدَة الْإِيمَان وبركته لَا تَنْقَطِع أبدا، بل تصل إِلَى الْمُؤمن فِي كل وَقت، كَمَا أَن نفع النَّخْلَة وبركتها تصل إِلَى حَاجَتهَا فِي كل وَقت.
وَاسْتدلَّ بَعضهم على أَن النَّخْلَة تشبه الْآدَمِيّ؛ لِأَنَّهَا محتاجة إِلَى اللقَاح، كالآدمي لَا يُولد لَهُ حَتَّى يلقح. قَوْله: ﴿لَعَلَّهُم يتذكرون﴾ أَي: يتعظون.
وَقَوله: ﴿اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار﴾ أَي: اقتلعت من فَوق الأَرْض. وَقَوله: ﴿مَا لَهَا من قَرَار﴾ أَي: مَا لَهَا من ثبات، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنه لَيْسَ لَهَا أصل ثَابت فِي الأَرْض، وَلَا فرع يصعد إِلَى السَّمَاء، وَمَوْضِع الْمثل مَعْلُوم.
وَقَوله: ﴿فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يَعْنِي: قبل الْمَوْت. وَقَوله ﴿ [و] فِي الْآخِرَة﴾ أَي: فِي الْقَبْر، وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير، وَقد ثَبت ذَلِك عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب، وَهُوَ قَول عبد الله بن مَسْعُود، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة.
وَاعْلَم أَن سُؤال الْقَبْر ثَابت فِي السّنة، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَقد وَردت فِيهِ الْأَخْبَار الْكَثِيرَة، روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن النَّبِي كَانَ فِي جَنَازَة، فَذكر لأَصْحَابه أَنه يدْخل على الرجل فِي قَبره ملكان ويسألانه، فَيَقُولَانِ: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ قَالَ: فَأَما الْمُؤمن فَيَقُول: رَبِّي الله، وديني الْإِسْلَام، وَنَبِي مُحَمَّد. فَيفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار، فَيُقَال لَهُ: هَذَا كَانَ مَكَانك لَو قلت غير هَذَا، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة، ويفسح لَهُ فِي قَبره مد الْبَصَر. وَأما الْكَافِر فَيَقُول الْملكَانِ لَهُ: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ فَيَقُول: لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: لَا دَريت وَلَا تليت، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة، فَيَقُولَانِ: هَذَا مَكَانك لَو أجبْت، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار، ويضيق عَلَيْهِ الْقَبْر حَتَّى تخْتَلف أضلاعه، ويضربانه بِمِطْرَقَةٍ من نَار فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا كل الْخَلَائق إِلَّا الثقلَيْن ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي قَالَ: لَو نجا أحد من عَذَاب الْقَبْر لنجا سعد بن معَاذ، وَلَقَد ضمه الْقَبْر ضمة أَو ضمتين " وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لعمر: " كَيفَ بك إِذا أَتَاك ملكان... " الْخَبَر. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَمَعِي عَقْلِي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أكفيهما إِذا ".
وَقيل: إِن عَذَاب الْقَبْر ثَلَاثَة أَثلَاث: ثلث من ترك الاستنزاه من الْبَوْل، وَثلث من الْغَيْبَة، وَثلث من الْمَشْي بالنميمة. وَالله أعلم.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن الْحَيَاة الدُّنْيَا هِيَ الْقَبْر، وَفِي الْآخِرَة هِيَ الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الأول أصح.
وَقَوله: ﴿ويضل الله الظَّالِمين﴾ مَعْنَاهُ: أَنه لَا يهدي الْمُشْركين إِلَى هَذَا الْجَواب، وَلَا يلقنهم إِيَّاه. وَقَوله: ﴿وَيفْعل الله مَا يَشَاء﴾ من التَّوْفِيق والخذلان والتثبيت وَترك التثبيت.
وَقَوله: ﴿وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار﴾ أَي: دَار الْهَلَاك، وَهِي جَهَنَّم قَالَ الشَّاعِر:
(إِن لقيما وَإِن قتلا | وَإِن لُقْمَان حَيْثُ باروا) |
(أتهجوه وَلست لَهُ بند | فشركما لخير كَمَا الْفِدَاء) |
وَقَوله: ﴿ليضلوا عَن سَبيله﴾ إِنَّمَا نسب إِلَيْهِم الضَّلَالَة، لأَنهم سَبَب فِي (الضلال)، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل: فتنتني الدُّنْيَا؛ نسب الْفِتْنَة إِلَى الدُّنْيَا، لِأَنَّهَا سَبَب فِي الْفِتْنَة. وَقَوله: ﴿ليضلوا عَن سَبيله﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو أَن كَافِرًا كَانَ فِي أَشد بؤس وضر لَا يهدأ لَيْلًا وَلَا نَهَارا، كَانَ ذَلِك نعيما فِي جنب مَا يصير إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة، وَلَو أَن مُؤمنا كَانَ فِي أنعم عَيْش، كَانَ ذَلِك بؤسا فِي جنب مَا يصير إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿فَإِن مصيركم إِلَى النَّار﴾ أَي: مرجعكم إِلَى النَّار.
وَقَوله: ﴿من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَعْنِي لَا فدَاء فِيهِ ﴿وَلَا خلال﴾ أَي: لَا مخالة وَلَا صداقة، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾.
وَقَوله: ﴿وسخر لكم الْفلك لتجري فِي الْبَحْر بأَمْره﴾ أَي: بِعِلْمِهِ وإذنه.
وَقَوله: ﴿وسخر لكم الْأَنْهَار﴾ أَي: ذلل لكم الْأَنْهَار تجرونها حَيْثُ شِئْتُم.
وَقَوله: ﴿وسخر لكم الشَّمْس وَالْقَمَر دائبين﴾ وَذَلِكَ لكم، وتسخير الشَّمْس وَالْقَمَر هُوَ جريانهما على وتيرة وَاحِدَة فِيمَا يعود إِلَى مصَالح الْعباد.
وَقَوله: ﴿دائبين﴾ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَا يفتران وَلَا يقفان، والدأب فِي الشَّيْء هُوَ الجري على عَادَة وَاحِدَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: نَحن نَسْأَلهُ أَشْيَاء وَلَا يُعْطِينَا؟ وَالْجَوَاب: أَن جنسه يُعْطي الْآدَمِيّين
وَقَوله: ﴿وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: مَعْنَاهُ: لَا تُطِيقُوا عدهَا، وَقيل: لَا تطيقون شكرها.
وَقَوله: ﴿إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار﴾ يَعْنِي: ظَالِم لنَفسِهِ كَافِر بربه، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي جهل خَاصَّة، وَيُقَال: إِنَّهَا نزلت فِي جنس الْكفَّار، وَيجوز أَن يذكر الْإِنْسَان وَيُرَاد بِهِ جنس النَّاس، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر﴾ وَقيل: [الظَّالِم] هُوَ الَّذِي يشْكر غير من أنعم عَلَيْهِ، وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يجْحَد منعمه.
وَقَوله: ﴿واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام﴾ مَعْنَاهُ: بعدني وَبني من عبَادَة الْأَصْنَام، فَإِن قَالَ قَائِل: قد كَانَ إِبْرَاهِيم مَعْصُوما عَن عبَادَة الْأَصْنَام، فَكيف يَسْتَقِيم سُؤَاله لنَفسِهِ، وَقد عبد كثير من بنيه الْأَصْنَام، فَأَيْنَ الْإِجَابَة؟
الْجَواب: أما فِي حق إِبْرَاهِيم، فالدعاء لزِيَادَة الْعِصْمَة والتثبيت، وَأما فِي حق الْبَنِينَ فَيُقَال: إِن الدُّعَاء لِبَنِيهِ من الصلب، وَلم يعبد أحد مِنْهُم الصَّنَم، وَقيل: إِن دعاءه لمن كَانَ مُؤمنا من بنيه.
وَقَوله: ﴿وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم﴾ يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ هَذَا قبل أَن يُعلمهُ الله أَنه لَا يغْفر الشّرك.
وَالْآخر: أَن المُرَاد من الْعِصْيَان هُوَ مَا دون الشّرك.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه حمل هَاجر وَإِسْمَاعِيل وَهُوَ طِفْل يرضع، وَكَانُوا ثَلَاثَتهمْ على الْبراق، فجَاء بهم إِلَى مَوضِع الْبَيْت، وَهِي مَدَرَة حَمْرَاء، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: هَاهُنَا أمرت. فَأنْزل إِسْمَاعِيل وَأمه فِي مَوضِع الْحجر، وَمضى رَاجعا إِلَى الشَّام، فنادته هَاجر، يَا خَلِيل الله، إِلَى من تكلنا؟ قَالَ: إِلَى الله تَعَالَى. قَالَت: قد قبلنَا ذَلِك، والقصة فِي هَذَا مَعْرُوفَة.
وَقَوله: ﴿بواد غير ذِي زرع﴾ قَالَ هَذَا لِأَن مَكَّة بَين جبلين، وَهِي وَاد.
وَقَوله: ﴿عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة﴾ سَمَّاهُ محرما؛ لِأَنَّهُ يحرم عِنْده مَا لَا يحرم عِنْد غَيره.
وَقَوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس﴾ الأفئدة جمع الْفُؤَاد، قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو قَالَ " أَفْئِدَة النَّاس " لزاحمتكم [فَارس] وَالروم، وَفِي رِوَايَة: التّرْك والديلم، وَفِي رِوَايَة عَن غَيره: لحجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس.
وَقَوله: ﴿تهوي إِلَيْهِم﴾ أَي: تحن إِلَيْهِم، قَالَ السّديّ مَعْنَاهُ: أمل قُلُوبهم إِلَى هَذَا
وَقَوله: ﴿وارزقهم من الثمرات﴾ فِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى قلع قَرْيَة من الشَّام بأشجارها وأرضها فوضعها بمَكَان الطَّائِف. وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يشكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اسْتغْفر لوَالِديهِ وَلم يَكُونَا آمنا؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: قد قيل: إِن أمه قد أسلمت، وَأما الْوَالِد فَإِنَّمَا اسْتغْفر لَهُ قبل أَن يتَبَيَّن لَهُ أَنه مُقيم على الشّرك، وَقد بَينا هَذَا من قبل، وَقيل: ولوالدي آدم وحواء، وَقيل: نوح وَأم إِبْرَاهِيم.
وَفِي تَفْسِير الدمياطي: أَن قَوْله: ﴿ولوالدي﴾ أَي: لوَلَدي، قَالَ ابْن فَارس: وَيجوز هَذَا فِي اللُّغَة، وَهُوَ أَن يذكر الْوَالِد بِمَعْنى الْمَوْلُود، كَمَا يُقَال: مَاء دافق أَي: مدفوق. وَقَوله: ﴿وَلِلْمُؤْمنِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿يَوْم يقوم الْحساب﴾ أَي: يَوْم يُحَاسب الله الْخلق.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يؤخرهم﴾ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا يمهلهم. وَقَوله: ﴿ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار﴾ يَعْنِي: من الدهش والحيرة وَشدَّة الْأَمر، وَمعنى تشخص أَي: ترْتَفع وتزول عَن أماكنها.
وَقَوله: ﴿مقنعي رُءُوسهم﴾ يُقَال: أقنع رَأسه أَي: رَفعه، وأقنع رَأسه إِذْ خفضه، فَإِن كَانَ المُرَاد هُوَ الرّفْع فَمَعْنَاه: أَن أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء ينظرُونَ مَاذَا يرد عَلَيْهِم من الله تَعَالَى، وَإِن حمل الْإِقْنَاع على خفض الرَّأْس فَمَعْنَاه: مطرقون ناكسون، قَالَ الشَّاعِر:
(نغض رَأْسِي نَحوه وأقنعا | كَأَنَّمَا يطْلب شَيْئا أطمعا) |
وَقَوله ﴿لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم﴾ يَعْنِي: لَا يرجع إِلَيْهِم طرفهم، فَكَأَنَّهُ ذهلهم مَا بَين أَيْديهم فَلَا ينظرُونَ لشَيْء سواهُ.
وَقَوله: ﴿وأفئدتهم هَوَاء﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: متخرقة لَا تعي شَيْئا، وَقَالَ قَتَادَة: خرجت قُلُوبهم عَن صُدُورهمْ حَتَّى بلغت الْحَنَاجِر من شدَّة ذَلِك الْيَوْم وهوله فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر﴾، فعلى هَذَا قَوْله: ﴿وأفئدتهم هَوَاء﴾ أَي: خَالِيَة، وَمِنْه سمي الجو هَوَاء لخلوه، وَقيل: خَالِيَة عَن الْعُقُول؛ فَكَأَنَّهَا ذهبت من الْفَزع وَالْخَوْف.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: " وأفئدتهم هَوَاء " أَي: مترددة لَا تَسْتَقِر فِي مَكَان، وَقيل: هَوَاء أَي: متخربة من الْجُبْن والفزع. قَالَ حسان بن ثَابت:
(أَلا أبلغ أَبَا سُفْيَان عني | فَأَنت مجوف نخب هَوَاء) |
قَوْله: ﴿فَيَقُول الَّذين ظلمُوا رَبنَا أخرنا إِلَى أجل قريب﴾ مَعْنَاهُ: أمهلنا.
وَقَوله: ﴿إِلَى أجل قريب﴾ هَذَا سُؤال الرّجْعَة، كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا ردهم إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿نجب دعوتك وَنَتبع الرُّسُل﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿أَو لم تَكُونُوا أقسمتم﴾ أَي حلفتم فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: ﴿من قبل مَا لكم من زَوَال﴾ يَعْنِي: لَيْسَ لكم بعث وَلَا جَزَاء وَلَا حِسَاب.
وَقَوله: ﴿وضربنا لكم الْأَمْثَال﴾ أَي: الْأَشْبَاه، وَمَعْنَاهُ: بَينا أَن مثلكُمْ كمثلهم.
وَقَوله: ﴿وَعند الله مَكْرهمْ﴾ أَي: عِنْد الله جَزَاء مَكْرهمْ.
وَقَوله: ﴿وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال﴾ قرئَ بقرائتين: " لتزول " و " لتزول " قَرَأَهُ الْكسَائي وَحده بِنصب اللَّام.
أما قَوْله: ﴿لتزول﴾ - بِكَسْر اللَّام وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ - مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال، يَعْنِي: أَن مَكْرهمْ لَا يزِيل أَمر مُحَمَّد الَّذِي هُوَ ثَابت كثبوت الْجبَال.
وَقيل: إِن معنى الْآيَة بَيَان ضعف كيدهم ومكرهم، وَأَنه لَا يبلغ هَذَا الْمبلغ، وَأما قَوْله: " وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول " بِنصب اللَّام الأول وَرفع الثَّانِي مَعْنَاهُ: أَن مَكْرهمْ لَو بلغ فِي الْعظم بِمُحَمد يزِيل الْجبَال لم يقدروا على إِزَالَة أَمر مُحَمَّد. وَقَرَأَ عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة: " وَإِن كَاد مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال:. وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَرَأَ: " وَلَوْلَا كلمة الله لزال بمكرهم الْجبَال ".
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي معنى الْآيَة: وَهُوَ أَنَّهَا نزلت فِي نمروذ حِين قَالَ: لأصعدن السَّمَاء، وَاتخذ النسور وجوعها ثمَّ اتخذ تابوتا، وَنصب خشبات فِي أطرافها، وَجعل على رءوسها اللَّحْم، ثمَّ ربط قَوَائِم النسور على الخشبات وخلاها، فاستعلت النسور، وَقد جلس نمروذ فِي التابوت مَعَ حَاجِبه، وَقيل: مَعَ غُلَام لَهُ، وللتابوت بَابَانِ: بَاب من أَعلَى، وَبَاب من أَسْفَل، وَقَالَ: فَلَمَّا صعدت النسور فِي السَّمَاء، وَمضى على ذَلِك يَوْم، قَالَ لغلامه: افْتَحْ الْبَاب السُّفْلى، فَإِذا الأَرْض
وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ قَول قَتَادَة - أَن مَعْنَاهَا: وَإِن كَانَ شركهم لتزول مِنْهُ الْجبَال، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى ﴿تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَه أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر وَمُحَمّد بن كَعْب: أَنه تبدل الأَرْض بِأَرْض من خبْزَة يَأْكُلُون مِنْهَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر: ﴿وَمَا جعلناهم جسدا لَا يَأْكُلُون الطَّعَام﴾ وَالْقَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَن تَبْدِيل الأَرْض هُوَ تغييرها من هَيْئَة إِلَى هَيْئَة، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: تبدلت بعدِي، أَي: تَغَيَّرت هيئتك وحالك. وتغيير الأَرْض بتسيير جبالها، وطم أنهارها، وتسوية أَوديتهَا، وَقلع أشجارها وَجعلهَا قاعا
أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن الشَّافِعِي، قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس، قَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد المقريء قَالَ: حَدثنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله، قَالَ: نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق، عَن عَائِشَة عَن النَّبِي... الْخَبَر.
وَقَوله: ﴿وبرزوا لله الْوَاحِد القهار﴾ مَعْنَاهُ: وَخَرجُوا من قُبُورهم لله الْوَاحِد القهار يحكم فيهم بِمَا أَرَادَ.
(تضيفته يَوْمًا فَأكْرم مقعدي | وأصفدني على الزمانة قائدا) |
وَقَوله: ﴿وتغشى وُجُوههم النَّار﴾ مَعْنَاهُ: وَتَعْلُو وُجُوههم النَّار، وَقيل: تصلى.
وَقَوله: ﴿إِن الله سريع الْحساب﴾ مَعْنَاهُ: سريع المجازاة، وَحَقِيقَة الْحساب إحصاء مَا عمله الْإِنْسَان من خير أَو شَرّ ليجازي عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وليعلموا أَنما هُوَ إِلَه وَاحِد﴾ أَي: ليستدلوا بِهَذِهِ الْآيَات على وحدانية الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وليذكر أولو الْأَلْبَاب﴾ مَعْنَاهُ: وليتعظ أولو الْأَلْبَاب - أَي أولو الْعُقُول -، وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ. وَالله أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿الر تِلْكَ آيَات الْكتاب وَقُرْآن مُبين (١) رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين﴾تَفْسِير سُورَة الْحجر وَهِي مَكِّيَّة