تفسير سورة إبراهيم

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ﴾ أي هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد، وهو ( القرآن العظيم ) الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه الله في الأرض، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم، ﴿ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي، إلى الهديوالرشد، كما قال تعالى :﴿ هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ [ النور : ٩ ] الآية، وقال تعالى :﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره، يهديهم ﴿ إلى صِرَاطِ العزيز ﴾ أي العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب بل هو القاهر لكل ما سواه، ﴿ الحميد ﴾ أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعته وأمره ونهيه، الصادق في خبره، ﴿ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ بالجر على الاتباع صفة للجلالة، كقوله تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك، ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا، ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم. ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ وهي اتباع الرسل، ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة عائلة، وهي مستقيمة في نفسها، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح.
هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم، ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، كما روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ :« لم يبعث الله عزّ وجلّ نبياً إلا بلغه قومه ». وقوله :﴿ فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ أي بعد البيان وإقامة الحجة عليه، يضل الله من يشاء عن وجه الهدى، ويهدي من يشاء إلى الحق ﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ﴿ الحكيم ﴾ في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك.
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا. قال مجاهد : هي التسع الآيات، ﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ ﴾ أي أمرناه قائلين له :﴿ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال، إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان، ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ﴾ أي بأياديه ونعمه عليهم، في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم. قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد. وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين، لعبرة لكل ﴿ صَبَّارٍ ﴾ أي في الضراء، ﴿ شَكُورٍ ﴾ أي في السراء، كما قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر، وإذا أعطى شكر. وكذا جاء في « الصحيح » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ».
يقول تعالى مخبراً عن موسى حين ذكّر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال، حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم، ويتركون إناثهم فأنقذهم الله من ذلك، وهذه نعمة عظيمة، ولهذا قال :﴿ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك أنتم عاجزون عن القيام بشكرها. وقيل :﴿ بلاء ﴾ أي اختبار عظيم، ويحتمل أن يكون المراد هذا، وهذا - والله أعلم - كقوله تعالى :﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ]، وقوله :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ﴾ أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم؛ ويحتمل أن يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه، كقوله تعالى :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة ﴾ [ الأعراف : ١٦٧ ]. وقوله :﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، ﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، ﴿ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها، وقد جاء الحديث :« إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ أي هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره.
قص الله علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله عزّ وجلّ، ﴿ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات ﴾ أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات، وقوله :﴿ فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ ﴾ اختلف المفسرون في معناه، قيل : معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم لمّا دعوهم إلى الله عزّ وجلّ، وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم، وقال مجاهد وقتادة : معناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم، ويؤيد قول مجاهد : تفسير ذلك بتمام الكلام ﴿ وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ فكان هذا والله أعلم - تفسير لمعنى :﴿ فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ ﴾، وقال العوفي عن ابن عباس : لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به الآية، يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكاً قوياً.
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاؤوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل :﴿ أَفِي الله شَكٌّ ﴾، أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطرار، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه :﴿ فَاطِرِ السماوات والأرض ﴾ الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما فلا بد لهما من صانع، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، وإلاهه ومليكه، وقالت لهم رسلهم :﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ أي في الدار الآخرة، ﴿ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي في الدنيا، فقالت لهم الأمم :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة، ﴿ فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي خارق نقترحه عليكم، ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية، ﴿ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ أي بالرسالة والنبوة، ﴿ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ ﴾ على وفق ما سألتم ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾، أي بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك، ﴿ وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ أي في جميع أمورهم. ثم قالت الرسل :﴿ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله ﴾ أي وما يمنعنا من التوكل عليه؟ وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها، ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا ﴾ أي من الكلام السيء والأفعال السخيفة، ﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون ﴾.
مثل هذا ضربه الله تعالى لأعمال الكفار، الذين عبدوا معه غيره، وكذبوا رسله وبنو أعمالهم على غير أساس صحيح، فانهارت فقال تعالى :﴿ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء، فلم يجدوا شيئاً إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة ﴿ يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، كقوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ [ آل عمران : ١١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ]، ﴿ ذلك هُوَ الضلال البعيد ﴾ أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة، حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه.
يقول تعالى مخبراً عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، أفليس الذي قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد، وأوتاد وبراري وصحارى وقفار وبحار وأشجار، ونبات وحيوان ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ]، وقوله :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ أي بعظيم ولا ممتنع، بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم.
يقول تعالى :﴿ وَبَرَزُواْ ﴾ أي برزت الخلائق كلها، برها وفاجرها لله الواحد القهار، أي اجتمعوا له في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحداً، ﴿ فَقَالَ الضعفاء ﴾ وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم ﴿ لِلَّذِينَ استكبروا ﴾ عن عبادة الله وحده لا شريك له، وعن موافقة الرسل، قالوا لهم :﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ﴾ أي مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا، ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أي فهل تدفعون عنا شيئاً من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا، فقالت القادة لهم :﴿ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾ أي ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه. قال عبد الرحمن بن أسلم : إن أهل النار قالوا : تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عزّ وجلّ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله، فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا أنه لا ينفعهم، قالوا : إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر، تعالوا حتى نصبر فصبروا وصبراً لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا :﴿ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا ﴾ الآية. قلت : والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها، كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار ﴾ [ غافر : ٤٧ ]، وقال ﴿ حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وقال تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ]، وأما تخاصمهم في المحشر فقال تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ﴾ [ سبأ : ٣١-٣٢ ].
يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعد ما قضى الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات، واسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلى حزنهم وغبناً إلى غبنهم وحسرة إلى حسرتهم فقال :﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق ﴾ أي على ألسنة رسله ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعداً حقاً وخبراً صادقاً وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم، كما قال الله تعالى :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ] ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ أي ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة فيما وعدتكم به، ﴿ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي ﴾ بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه ﴿ فَلاَ تَلُومُونِي ﴾ اليوم، ﴿ ولوموا أَنفُسَكُمْ ﴾ فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج، واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل، ﴿ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ ﴾ أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، ﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، ﴿ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾ قال قتادة، أي بسبب ما أشركتموني من قبل قال ابن جرير : يقول إني جحدت أن أكون شريكاً لله عزّ وجلّ، وهذا الذي قاله هو الراجح، كما قال تعالى :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٥-٦ ]، وقال :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ] وقوله :﴿ إِنَّ الظالمين ﴾ أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل لهم عذاب أليم، والظاهر من سياق الآية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا، قال الشعبي : يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس، يقول تعالى لعيسى بن مريم :﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] ؟ قال : ويقوم إبليس لعنه الله فيقول :﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي ﴾ الآية، ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال، وإن خطيبهم إبليس عطف بمآل السعداء، فقال ﴿ وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَ ﴾ ماكثين أبداً لا يحولون ولا يزولون ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾، كما قال تعالى :﴿ حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ [ الرعد : ٢٣-٢٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ]، وقال تعالى :﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ يونس : ١٠ ].
قال ابن عباس : قوله :﴿ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾ : شهادة أن لا إله إلا الله ﴿ كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ وهو المؤمن ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ يقول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن، ﴿ وَفَرْعُهَا فِي السمآء ﴾ يقول : يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، وقال البخاري « عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله ﷺ فقال :» أخبروني عن شجرة تشبه - أو - كالرجل المسلم، لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن بها، قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله ﷺ :« هي النخلة »، فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، قال : ما منعك أن تتكلم؟ قلت : لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، قال عمر : لأن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا « وعن ابن عباس :﴿ كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ قال : هي شجرة في الجنة. وقوله :﴿ تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ﴾ قيل : غدوة وعشياً، وقيل : كل شهر، وقيل : كل شهرين، وقيل غير ذلك. والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة، لا يزال يوجد منها ثمرة في كل وقت، من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ أي كاملاً حسناً كثيراً طيباً مباركاً ﴿ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات، مشبه بشجرة الحنظل، وقوله :﴿ اجتثت ﴾ أي استؤصلت ﴿ مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ أي لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع، ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شيء.
روى البخاري، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال :« المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾ » وقال الإمام أحمد، عن البراء بن عازب قال :« خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله ﷺ وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال :» استعيذوا بالله من عذاب القبر « مرتين أو ثلاثاً، ثم قال :» إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع في الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان - قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه اليت كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال : فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول :« ربي الله، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله، فيقولان له : وما علمك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال : فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي كنت يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له : من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول : أنا عملك الصالح، فيقول : رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسرح فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، فيجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب - قال - فتفرق في جسده فينتزعه كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفه عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كانتن ريح جيفة وجدت في وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط ﴾، فيقول : الله : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً - ثم قرأ :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيق ﴾، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له من ربك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هاه هاه لا أدري. فينادي منادٍ من السماء : أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار افتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول : ومن أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول : أنا عملك الخبيث، فيقول : رب لا تقم الساعة »
.
1307
وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها قال حماد : فذكر من طيب ريحها وذكر المسك - قال - ويقول أهل السماء : روح طيبة جاءة من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عزّ وجلّ فيقول : انطلقوا به إلى آخر الأجل. وإن كان الكافر إذا خرجت روحه - قال حماد - وذكر من نتنها وذكر مقتاً ويقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال : انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبو هريرة : فرد رسول الله ﷺ ريطة كانت عليه على أنفه هكذا. وقال ابن حبان في « صحيحه »، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال :
1308
« إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : اخرجي إلى روح الله، فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى أنه ليتناوله بعضهم بعضاً يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون : ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أهل الغائب بغائبهم، فيقولون : ما فعل فلان، فيقولون : دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غم، فيقول : قد مات أما أتاكم، فيقولون : ذهب إلى أمه الهاوية، وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي إلى غضب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فيذهب به إلى الأرض »
وروى العوفي، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة، فإذا مات مشوا مع جنازته، ثم صلوا عليه مع الناس، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له : من ربك؟ فيقول : ربي الله، فيقال له : من رسولك؟ فيقول : محمد ﷺ فيقال له : ما شهادتك؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيوسع له في قبره مد بصره. وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم، والبسط هو الضرب ﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٠ ] عند الموت، فإذا أدخل قبره أقعد، فقيل له : من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئاً، وأنساه الله ذكر ذلك، وإذا قيل : من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً ﴿ وَيُضِلُّ الله الظالمين ﴾. وقال ابن أبي حاتم، عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾ الآية، قال : إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره، فيقال له : من ربك؟ فيقول : الله، فيقال له : من نبيك؟ فيقول : محمد بن عبد الله، فيقال له : ذلك مرات ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له : أنظر إلى منزلك من النار لو زغت، ثم يفتح له باب إلى الحنة فيقال له : انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت. وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له : من ربك؟ من نبيك؟ فيقول : لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون، فيقال له : لا دريت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له : انظر إلى منزلك إذا ثبت، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له : انظر إلى منزلك إذ زغت، فذل كقوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾. وقال عبد الرزاق : عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا ﴾ قال : لا إله إلا الله ﴿ وَفِي الآخرة ﴾ : المسألة في القبر، وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ﴿ وَفِي الآخرة ﴾ : في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف، وعن عثمان رضي الله عنه قال :« كان النبي ﷺ إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل ».
1309
قال البخاري : قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً ﴾، ألم تعلم، كقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ﴾ [ إبراهيم : ٢٤ ]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٤٣ ]. البوار : الهلاك، بار يبور بوراً، ﴿ قَوْماً بُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٨ ] هالكين. حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً ﴾ قال : هم كفار أهل مكة. والمعنى جميع الكفار، فإن الله تعالى بعث محمداً ﷺ رحمة للعالمين ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار. قال ابن أبي حاتم : قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : ألا أحد يسألني عن القرآن؟ فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته، فقام عبد الله بن الكواء، فقال : مَنْ ﴿ الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار ﴾ ؟ قال : مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان، فبدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار. وقال سفيان الثوري، عن عمر بن الخطاب في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً ﴾ قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أُميَّة، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال : قال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين هذه الآية :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار ﴾ قال : هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك، فأما أخوالي فأستاصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين. وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد : هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر؛ وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر. وقوله :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ ﴾، أي جعلوا له شركاء عبدوهم معه ودعوا الناس إلى ذلك، ثم قال تعالى : مهدداً لهم ومتوعداً لهم على لسان نبيّه ﷺ ﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار ﴾ أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا فمهما يكن من شيء ﴿ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار ﴾ أي مرجعكم وموئلكم إليها، كما قال تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]. وقال تعالى :﴿ مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٧٠ ].
يقول تعالى آمراً عباده بطاعته، والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة، وأن ينفقوا مما رزقهم الله، بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب، والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها، وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر، أي في الخفية والعلانية وهي الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ وهو يوم القيامة، ﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ أي ولا يقبل من أحد فدية بأن تابع نفسه، كما قال تعالى :﴿ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الحديد : ١٥ ]. وقوله :﴿ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ قال ابن جرير : يقول : ليس هنك مخالة خليل فيصبح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته، بل هناك العدل والقسط، يخبر تعالى أنه لا ينفع أحداً بيع ولا فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده، ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد، إذا لقي الله كافراً، قال الله تعالى :﴿ واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [ البقرة : ٤٨ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ].
يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السماوات سقفاً محفوظاً والأرض فراشاً، ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر، تجري عليه بأمر الله تعالى، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك، وما هناك إلى هنا، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر، رزقاً للعباد، ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ ﴾ أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً ﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ]، ﴿ يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، ﴿ يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [ فاطر : ١٣ ] ﴿ أَلا هُوَ العزيز الغفار ﴾ [ الزمر : ٥ ]، وقوله :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ يقول : هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقالكم. وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، وقوله :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾، يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب رحمه الله : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين. وفي « صحيح البخاري » أن رسول الله ﷺ كان يقول :« اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا » وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ؟ فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود، أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم. وقال الإمام الشافعي رحمه الله : الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه، إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها، وقال القائل في ذلك :
يذكر تعالى في هذا المقام محتجاً على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة، إنما وضعت أول ما وضعت علىعبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممّن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال :﴿ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً ﴾، وقد استجاب الله له فقال تعالى :﴿ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً ﴾ الآية. وقال في هذه القصة :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ] فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها، ولهذا قال :﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٩ ]، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، وقوله :﴿ واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شار غفر لهم، كقول عيسى عليه السلام :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ [ المائدة : ١١٨ ] وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك. قال عبد الله بن وهب، « عن عبد الله بن عمر وأن رسول الله ﷺ تلا قول إبراهيم عليه السلام :﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس ﴾ الآية، وقول عيسى عليه السلام :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ [ المائدة : ١١٨ ] الآية، ثم رفع يديه، ثم قال :» أللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي « وبكى، فقال الله : اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك أعلم؛ وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله فأخبره رسول الله ﷺ ما قال : فقال الله : اذهب يا محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤوك ».
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه تأكيداً ورغبة إلى الله عزّ وجلّ، ولهذا قال :﴿ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ﴾. وقوله :﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة ﴾ أي إنما جعلته محرماً ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده ﴿ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ ﴾، قال ابن عباس : لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال :﴿ مِّنَ الناس ﴾ فاختُص به المسلمون. وقوله :﴿ وارزقهم مِّنَ الثمرات ﴾ أي ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك، وكما أنه وادٍ غير ذي زرع فاجعل لهم ثماراً يأكلونها، وقد استجاب الله ذلك، كما قال :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ﴾ [ القصص : ٥٧ ] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام ( مكة ) شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
قال ابن جرير : يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم : خليله أنه قال :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ أي أنت تعلم قصدي في دعائي وماأردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، ثم حمد ربه عزّ وجلّ على ما رزقه من الولد بعد الكبر فقال :﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء ﴾ أي أنه يستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد، ثم قال :﴿ رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة ﴾ أي محافظاً مقيماً لحدودها ﴿ وَمِن ذُرِّيَتِي ﴾ أي واجعلهم كذلك مقيمين لها، ﴿ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ ﴾ أي فيما سألتك فيه ﴿ رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ ﴾، وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عزّ وجلّ ﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي كلهم ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الحساب ﴾ أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
يقول تعالى : ولا تحسبن الله - يا محمد - غافلاً عما يعمل الظالمون، أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم، مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عليهم عداً، ﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾ أي من شدة الأهوال يوم القيام’ : ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر، فقال :﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ أي مسرعين، كما قال تعالى :﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع ﴾ [ القمر : ٨ ] الآية، وقال تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ ﴾ [ طه : ١٠٨ ] وقال تعالى :﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً ﴾ [ المعارج : ٤٣ ] الآية. وقوله :﴿ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : رافعي رؤسهم، ﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر، لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم عياذاً بالله العظيم من ذلك؛ ولهذا قال :﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾ أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف، ولهذا قال قتادة وجماعة : إن أمكنه أفئدتهم خالية، لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف. وقال بعضهم : هي خراب لا تعي شيئاً لشدة ما أخبر به تعالى عنهم، ثم قال تعالى لرسوله ﷺ.
يقول تعالى مخبراً عن قيل الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب :﴿ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل ﴾، كقوله :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون ﴾ [ المؤمنون : ٩٩ ] الآية. وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ﴾ [ المنافقون : ٩ ] الآيتين، وقال تعالى مخبراً عنهم في حال محشرهم :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ ﴾ [ السجدة : ١٢ ] الآية، وقال :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] الآية، قال تعالى راداً عليهم في قولهم هذا :﴿ أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك، قال مجاهد وغيره ﴿ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ : أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، كقوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ] الآية ﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال ﴾ أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النذر ﴾ [ القمر : ٥ ]. وروى العوفي عن ابن عباس في قوله :﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال ﴾ يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ما ضر ذلك شيئاً من الجبال ولا غيرها، وإنما عاد وبال ذلك عليهم، ويشبه هذا قول الله تعالى :﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٧ ]، والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال ﴾ يقول : شركهم كقوله :﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ﴾ [ مريم : ٩٠ ] الآية، وهكذا قال الضحاك وقتادة.
يقول تعالى مقرراً لوعده ومؤكداً ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب، وذو انتقام ممن كفر به وجحده، ﴿ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ الطور : ١١ ]، ولهذا قال :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، كما جاء في الصحيحين، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله ﷺ :« يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد »، وقال الإمام أحمد، « عن عائشة أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله ﷺ عن هذه الآية :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ قالت : قلت : أين الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ قال :» على الصراط « وقال الإمام مسلم بن الحجاج في » صحيحيه « » عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال : كنت قائماً عند رسول الله ﷺ فجاءه حبر من أحبار يهود فقال : السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال : لم تدفعني؟ فقلت : ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله ﷺ :« إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي »، فقال اليهودي : جئت أسألك، فقال رسول الله ﷺ :« أينفعك شيئاً إن حدثتك »؟ فقال : أسمع بأذني، فنكت رسول الله ﷺ بعود معه، فقال :« سل »، فقال اليهودي : إن يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله ﷺ :« هم في الظلمة دون الجسر »، قال : فمن أول الناس إجازة؟ فقال : فقراء المهاجرين «، فقال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال :» زيادة كبد النون «، قال : فما غذاؤهم في أثرها؟ قال :» ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها «، قال : فما شرابهم عليه؟ قال :» من عين فيها تسمى سلسبيلاً «، قال صدقت. قال : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال : أينفعك إن حدثتك »؟ قال : أسمع بأذني، قال جئت أسألك عن الولد، قال :« ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعنا فعلا منيّ الرجل مني المرأة كان ذكراً بإن الله تعالى، وإذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل كان أنثى بإذن الله »، قال اليهودي : لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف، فقال رسول الله ﷺ :« لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به ».
1318
وروى أبو جعفر بن جرير الطبري، عن عمرو بن ميمون يقول :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ قال : أرض كالفضة البيضاء نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا، قال، أراه قال قياماً حتى يلجمهم العرق، وعن عمرو بن ميمون عن عبد الله عن النبي ﷺ في قول الله عزّ وجلّ ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ قال :« أرض بيضاء لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة » وقال الربيع عن أُبي بن كعب قال : تصير السماوات جناناً. وقال الأعمش، عن عبد الله بن معسود : الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليفيض عرقاً حتى ترشح في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب، قالوا : ممَ ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال مما يرى الناس ويلقون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أَنس عن كعب في قوله :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ قال : تصير السماوات جناناً ويصير مكان البحر ناراً وتبدل الأرض غيرها. وقوله :﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ ﴾ أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله ﴿ الواحد الْقَهَّارِ ﴾ أي الذي قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب.
1319
يقول تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ] وتبرز الخلائق لديَّانها ترى يا محمد يومئذٍ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم، ﴿ مُّقَرَّنِينَ ﴾ أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ [ الصافات : ٢٢ ]، وقال :﴿ وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ ﴾ [ التكوير : ٧ ]، وقال :﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٣ ]، وقال :﴿ والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ [ ص : ٣٧-٣٨ ] والأصفاد هي القيود، قال عمرو بن كلثوم.
لو كل جارحة مني لها لغة تثني عليك بما أوليتَ من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به إليك أبلغ في الإحسان والمنن
فآبوا، بالثياب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله تعالى :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ﴾ أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران، وهو الذي تهنأ به الإبل، أي تطلى، قال قتادة : وهو ألصق شيء بالنار، وكان ابن عباس يقول : القطران هو النحاس المذاب، أي من نحاس حار قد انتهى حره، وقوله :﴿ وتغشى وُجُوهَهُمُ النار ﴾، كقوله :﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٤ ]، وقال الإمام أحمد، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله ﷺ :« أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب »، وقوله :﴿ لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ [ النجم : ٣١ ] الآية، ﴿ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ يحتمل أن يكون كقوله تعالى :﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١ ] ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز، لأنه يعلم كل شيء ولا يخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ]، وهذا معنى قول مجاهد :﴿ سَرِيعُ الحساب ﴾ إحصاءً، ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين والله أعلم.
يقول تعالى : هذا القرآن بلاغ للناس، كقوله :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال تعالى في أول السورة :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ [ إبراهيم : ١ ] الآية، ﴿ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ ﴾ أي ليتعظوا به، ﴿ وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾ أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو، ﴿ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي ذوو العقول.
Icon