تفسير سورة إبراهيم

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم عليه السلام فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره. ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول.
ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم عليه السلام جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات ﴿ ألر ﴾. وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء عليهم السلام التي جاءت قصصهم فيها، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء.
وهي مكية كلها عند الجمهور. وعن قتادة إلا آيتي ﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ﴾ إلى قوله ﴿ وبئس القرار ﴾، وقيل : إلى قوله :﴿ فإن مصيركم إلى النار ﴾. نزل ذلك في المشركين في قضية بدر، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه.
نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء. وقد عدت السبعين في ترتيب السور في النزول.
وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنين وخمسين عند أهل الشام، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة. واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة.
واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن، وبالتنويه بشأنه، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة. والامتنان بأن جعله بلسان العرب. وتمجيد الله تعالى الذي أنزله.
ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه.
وإيقاظ المعاندين بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان بدعا من الرسل. وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل. وضرب له مثلا برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل.
وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها.
وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب.
وكيف كانت عاقبة المكذبين.
وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته.
وذكر البعث.
وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان.
وكيف يتبرأون منهم يوم الحشر.
ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ.
وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر.
ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك.
والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين.
وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا.
ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم عليه السلام ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم عليه السلام ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام.
وتحذيرهم من كفران النعمة.
وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعد النصر.
وما تخلل ذلك من الأمثال.
وختمت بكلمات جامعة من قوله ﴿ هذا بلاغ للناس ﴾ إلى آخرها.
﴿ ألر ﴾ تقدم الكلام على الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس.

ثُمَّ ذَكَّرَ الْفَرِيقَيْنِ بِحَالِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَعْلَمَ الْفَرِيقَانِ مَنْ هُوَ سَالِكٌ سَبِيلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ هُوَ نَاكِبٌ عَنْهُ مِنْ سَاكِنِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
وَإِنْذَارِهِمْ أَن يحل بهم مَا حل بِالَّذِينِ ظَلَمُوا مِنْ قَبْلُ.
وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَعْدِ النَّصْرِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثَالِ.
وَخُتِمَتْ بِكَلِمَاتٍ جَامِعَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٥٢] إِلَى آخرهَا.
[١]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)
الر.
تقدم الْكَلَام عى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [سُورَة الْأَعْرَاف: ١- ٢] عدا أَن هَذِهِ الْآيَةِ ذُكِرَ فِيهَا فَاعِلُ الْإِنْزَالِ وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَادَّةِ الْإِنْزَالِ الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنْ قِبَلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَلِلْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ حَذْفِ الْفَاعِلِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ والإيجاز وَلكنه ذكر هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
، وَمِنْ ذِكْرِ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنَّهَا فِي مَقَامِ الطمأنة والتصبير للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، فَكَانَ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ الْمُنْزِلِ إِلَيْهِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ أَهَمَّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ حَقِّ الْإِيجَازِ.
179
أَمَّا التَّعَرُّضُ لِلْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ هُنَا فَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَلِيَجْعَلَ لَهُ حَظٌّ فِي هَذِهِ الْمِنَّةِ وَهُوَ حَظُّ الْوَسَاطَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ غَمِّ المعاندين والمبغضين للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ وَقَعَ إِظْهَارُ صِفَاتِ فَاعِلِ الْإِنْزَالِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: أَنْزَلْناهُ.
وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إِلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّهُ يُبَلِّغُ هَذَا الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَبْيِينِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ فَسَادِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ مَعَ التَّبْلِيغِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ وَيُقَرِّبُ إِلَيْهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ بِتَفْسِيرِهِ وَتَبْيِينِهِ، ثُمَّ بِمَا يَبْنِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْبِشَارَةِ. وَإِذْ قَدْ أُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَعْلِيلِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي الْهِدَايَةِ.
وَتَعْلِيلُ الْإِنْزَالِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هِيَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، فَمَنِ اهْتَدَى فَبِإِرْشَادِ اللَّهِ وَمَنْ ضَلَّ فَبِإِيثَارِ الضال هوى نَفسه عَلَى دَلَائِلِ الْإِرْشَادِ، وَأَمْرُ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِحِكَمٍ وَمَصَالِحَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ.
وَالْإِخْرَاجُ: مُسْتَعَارٌ لِلنَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. شَبَّهَ الِانْتِقَالَ بِالْخُرُوجِ فَشَبَّهَ النَّقْلَ بِالْإِخْرَاجِ.
والظُّلُماتِ والنُّورِ اسْتِعَارَةٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ فِي حَيْرَةٍ فَهُوَ كَالظُّلْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ كَالنُّورِ فِي إِيضَاحِ السَّبِيلِ. وَقَدْ يَسْتَخْلِصُ السَّامِعُ مِنْ ذَلِكَ تَمْثِيلَ حَالِ الْمُنْغَمِسِ فِي الْكُفْرِ بِالْمُتَحَيِّرِ فِي ظُلْمَةٍ، وَحَالِ انْتِقَالِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِحَالِ الْخَارِجِ مِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى مَكَانٍ نَيِّرٍ.
180
وَجَمْعُ الظُّلُماتِ وَإِفْرَادُ النُّورِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١].
وَالْبَاءُ فِي بِإِذْنِ رَبِّهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْإِذْنُ: الْأَمْرُ بِفِعْلٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْآمِرِ بِهِ، وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِذْنُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِرْسَالُ لِمَصْلَحَتِهِمْ أُضِيفَ الْإِذْنُ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ النَّاسِ، أَيْ بِإِذْنِ الَّذِي يُدَبِّرُ مَصَالِحَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١] بَدَلٌ مِنَ النُّورِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ اهتماما بِهِ، وتأكيد لِلْعَامِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٨].
وَمُنَاسَبَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَعَارِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، لِاسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ وَلِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ، ظَاهِرَةٌ.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ مِنْ بَين الصِّفَات العلى لِمَزِيدِ مُنَاسَبَتِهَا لِلْمَقَامِ، لِأَنَّ الْعَزِيزَ الَّذِي لَا يُغْلَبُ. وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ بِرِهَانٌ عَلَى أَحَقِّيَّةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ بِهِ غَالِبٌ لِلْمُخَالِفِينَ مُقِيمٌ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْحَمِيدُ: بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، لِأَنَّ فِي إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَظِيمَةً تُرْشِدُ إِلَى حَمْدِهِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ اسْتَوْعَبَ الْوَصْفَانِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ كُلِّ مُنْسَاقٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَمِنْ مُجَادِلٍ صَائِرٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بَعْدَ قيام الْحجَّة ونفاد الْحِيلَةِ.
[٢، ٣]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٢ الى ٣]
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ (أَيِ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ) اللَّهُ الْمَوْصُوفُ
181
بِالَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الأَرْض. وَهَذَا الْحَذْفُ جَارٍ عَلَى حَذْفِ الْمسند إِلَيْهِ الْمُسَمّى عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي تَبَعًا لِلسَّكَّاكِيِّ بِالْحَذْفِ لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ، أَيِ اسْتِعْمَال الْعَرَب عِنْد مَا يَجْرِي ذِكْرُ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِيَكْسِبَ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ تَقْرِيرًا لِلْغَرَضِ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
أَيْ هُوَ فَتًى مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ إِلَّا رُوَيْسًا عَنْ يَعْقُوبَ- بِالْجَرِّ- عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَكِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ تفِيد أَن الْمُنْتَقل إِلَيْهِ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَهُ، فَإِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ لِأَنَّهُ عِلْمُ الذَّاتِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ مَوْجُودٌ فِي إِطْلَاقِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ الْمَنْقُولِ مِنْهُ إِلَى الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الرَّفْعَ أَقْوَى وَأَفْخَمُ.
وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِالرَّفْعِ- إِذَا وُقِفَ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمِيدِ وَابْتُدِئَ بَاسِمِ اللَّهِ، فَإِذَا وُصِلَ الْحَمِيدِ بَاسِمِ اللَّهِ جُرَّ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ.
وَإِجْرَاءُ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُولِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ التَّفْخِيمِ لَا لِلتَّعْرِيفِ، لِأَنَّ مَلِكَ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ وَاللَّهُ مَعْرُوفٌ بِهَا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ صِرَاطَ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ طُرُقِ آلِهَتِهِمْ لَيْسَ بِوَاصِلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ لِنُقْصَانِ ذَوِيهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ إِدْمَاجُ تَعْرِيضٍ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَا لَيْسَ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
182
وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
لَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا صِرَاطَ غَيْرِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ، أَيْ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ آلِهَةً أُخْرَى.
وَجُمْلَةُ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ إِنْشَاءُ دُعَاءٍ عَلَيْهِمْ فِي مَقَامِ الْغَضَبِ وَالذَّمِّ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ:
وَيْحَكَ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ.
وَوَيْلٌ مَصْدَرٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ، وَمَعْنَاهُ الْهَلَاكُ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْحَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ كَانَ اسْمَ مَصْدَرٍ وَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَصَادِرِ، يُنْصَبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَيُرْفَعُ لِإِفَادَةِ الثَّبَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي رَفْعِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَيُقَالُ:
وَيْلٌ لَكَ وَوَيْلُكَ، بِالْإِضَافَةِ. وَيُقَالُ: يَا وَيْلَكَ، بِالنِّدَاءِ. وَقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا التَّرْكِيبِ سَبَبُهُ فَيُؤْتَى بِهِ مَجْرُورًا بِحَرْفِ مِنْ الِابْتِدَائِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ، أَيْ هَلَاكًا يَنْجَرُّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُلَاقُونَهُ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. وَتَقَدَّمَ الْوَيْلُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩].
وَالْكَافِرُونَ هُمُ الْمَعْهُودُونَ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَلَا اتَّبَعُوا صِرَاطَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَلَا انْتَفَعُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
183
وَ (يَسْتَحِبُّونَ) بِمَعْنَى يُحِبُّونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ اسْتَقْدَمَ واستأخر. وَضُمِّنَ يَسْتَحِبُّونَ مَعْنَى يُؤْثِرُونَ، لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَعَدَّتْ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَقِبَ ذِكْرِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَهُمْ، فَأَنْبَأَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ خَيْرَ الدُّنْيَا دُونَ خَيْرِ الْآخِرَةِ إِذْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فِي شَقَاءٍ، فَنَشَأَ مِنْ هَذَا مَعْنَى الْإِيثَارِ، فَضَمَّنَهُ فَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ آخَرَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ عَلَى فِي قَوْلِهِ:
عَلَى الْآخِرَةِ أَيْ يُؤْثِرُونَهَا عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٥]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٩]، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ.
وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مَنْعُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ. شَبَّهَ ذَلِكَ بِمَنْ
يَمْنَعُ الْمَارَّ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَجُعِلَ الطَّرِيقُ طَرِيقَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَى مَرْضَاتِهِ فَكَأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَيْهِ، أَوْ يَصُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا مَوَاهِبَهُمْ وَمَدَارِكَهُمْ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُمْ صَدُّوهَا عَنِ السَّيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَ السَّبِيلَ الْعَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [سُورَة الْأَنْعَام:
١٥٣].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الضَّلَالِ بِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَابْتِغَائِهِمْ سَبِيلَ الْبَاطِلِ، فَ أُولئِكَ فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ وفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ خَبَرٌ عَنْهُ. وَدَلَّ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَ مُحِيطٌ بِهِمْ فَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ.
وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُمُ الضَّالُّونَ، أَيْ ضَلَالًا بَعُدُوا بِهِ عَنِ الْحَقِّ فَأُسْنِدَ الْبُعْدُ إِلَى سَبَبِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَصْفُهُ بِالْبُعْدِ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالطَّرِيقِ الشَّاسِعَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ رُجُوعُ سَالِكِهَا، أَيْ ضَلَالٍ قَوِيٍّ يَعْسُرُ إِقْلَاعُ صَاحِبِهِ عَنْهُ. فَفِيهِ اسْتِبْعَادٌ
184
لِاهْتِدَاءِ أَمْثَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة الشورى: ١٨] وَقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سُورَة سبأ: ٨]. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [١١٦].
[٤]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ مُسْتَعْمَلَةً فِي ظَاهِرِهَا وَمُسَلَّطَةً عَلَى مُتَعَلِّقِي الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ كَانَ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا:
هَلَّا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سُورَة فُصِّلَتْ: ٤٤] فَقَالَ: كَانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرَيِّ» هُنَالِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا ذَلِكَ.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لُغَةَ غَيْرِ الْعَرَبِ مِثْلَ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ مِنَ
اللُّغَاتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بِهَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَكَانَ مِنْ جملَة مَا موّت لَهُمْ أَوْهَامُهُمْ أَنْ حَسِبُوا أَن للكتب بالإلهية لُغَةً خَاصَّةً تُنَزَّلُ بِهَا ثُمَّ تُفَسَّرُ لِلَّذِينِ لَا يَعْرِفُونَ تِلْكَ اللُّغَةَ. وَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاشٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ سِرَّ الْحَرْفِ وَالطَّلْسَمَاتِ يُمَوِّهُونَ بِأَنَّهَا لَا تكْتب إِلَّا بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا لُغَةُ الْمَلَائِكَةِ وَلُغَةُ الْأَرْوَاحِ. وَقَدْ زَعَمَ السِّرَاجُ الْبَلْقِينِيُّ: أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ يَكُونُ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ فَقَالَ:
وِمِنْ عَجِيبِ مَا تَرَى الْعَيْنَانِ أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ بِالسُّرْيَانِي
185
وَقَدْ كَانَ الْمُتَنَصِّرُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُتَهَوِّدُونَ مِنْهُمْ مِثْلَ عَرَبِ الْيَمَنِ تُتَرْجَمُ لَهُمْ بَعْضُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، فَاسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَطَاعِنِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ بِاللُّغَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْكُتُبُ السَّالِفَةُ. فَصَارَتْ عَرَبِيَّتُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ وُجُوهِ الطَّعْنِ فِي أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ، فَالْقَصْرُ هُنَا لِرَدِّ كَلَامِهِمْ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ بِلِسَانٍ إِلَّا لِسَانِ قَوْمِهِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَا بِلِسَانِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ آيَةِ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ بَيِّنُ الْمُنَاسَبَةِ.
وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَأَنْزَلْنَاهُ بِلُغَةِ قَوْمِكَ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
وَإِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ جَارِيَةً عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَلَمْ يَكُنْ رَدًّا لِمَقَالَةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ يَكُنْ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَيْسُوا بِعَرَبٍ لِعَدَمِ تَأَثُّرِهِمْ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَكَانَ مَنَاطُ الْقَصْرِ هُوَ مَا بَعْدَ لَامِ الْعِلَّةِ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِتُبَيِّينَ لَهُمْ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ:
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ إِدْمَاجًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِ الْقَصْرُ أَوْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ لِيُبَيِّنَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ بِلِسَانِهِمْ، فَمَا لِقَوْمِكَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ وَهُوَ بِلِسَانِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ مُوقِعُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وَاللِّسَانُ: اللُّغَةُ وَمَا بِهِ التَّخَاطُبُ. أُطْلِقَ عَلَيْهَا اللِّسَانُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ بِهِ، مِثْلَ: سَالَ الْوَادِي.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، فَلُغَةُ قَوْمِهِ مُلَابِسَةٌ لِكَلَامِهِ وَالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ لِإِرْشَادِهِمْ.
186
وَالْقَوْمُ: الْأُمَّةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَقَوْمُ كُلِّ أَحَدٍ رَهْطُهُ الَّذِينَ جَمَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ وَيَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْمُ كُلِّ رَسُولٍ أُمَّتُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ الرُّسُلُ يُبْعَثُونَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، وَقَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الْعَرَبُ، وَأَمَّا أُمَّتُهُ فَهُمُ الْأَقْوَامُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ وَهُمُ النَّاسُ كَافَّةً.
وَإِنَّمَا كَانَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَنَزَلَ الْكِتَابُ بِلُغَتِهِمْ لِتَعَذُّرِ نُزُولِهِ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، فَاخْتَارَ اللَّهُ أَنْ يكون رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- مِنْ أُمَّةٍ هِيَ أَفْصَحُ الْأُمَمِ لِسَانًا، وَأَسْرَعُهُمْ أَفْهَامًا، وَأَلْمَعُهُمْ ذَكَاءً، وَأَحْسَنُهُمْ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي حَيَاتِهِ عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ عَمَّ الْإِسْلَامُ بِلَادَ الْعَرَبِ وَقَدْ حَجَّ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ نَحْوَ خَمْسِينَ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ. وَقِيلَ مِائَةُ أَلْفٍ وَهْمُ الرِّجَالُ الْمُسْتَطِيعُونَ.
وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِمْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا أَصْلَحُ اللُّغَاتِ جَمْعَ مَعَانٍ، وَإِيجَازَ عِبَارَةٍ، وَسُهُولَةَ جَرْيٍ عَلَى الْأَلْسُنِ، وَسُرْعَةَ حِفْظٍ، وَجَمَالَ وَقْعٍ فِي الْأَسْمَاعِ، وَجُعِلَتِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ المتلقية للْكتاب بادىء ذِي بَدْءٍ، وَعُهِدَ إِلَيْهَا نَشْرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ.
وَفِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ الْبَيَانَ كَانَتْ أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إِلَى التَّبْيِينِ مِنْ بَيْنِ لُغَاتِ الْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ هِيَ اللُّغَةُ الَّتِي هِيَ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْكِتَابُ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٩٥]. فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَطَاوِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِهَا الرَّدُّ عَلَى طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا كِتَابٌ قَبْلَهُ اقْتَصَرَ فِي رَدِّ خَطَئِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُهِمُّهُمْ.
187
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ الْخَ عَلَى مَجْمُوعِ جُمْلَةِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فعل فَيُضِلُّ مَرْفُوعًا غَيْرَ مَنْصُوبٍ إِذْ لَيْسَ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ لِيُبَيِّنَ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَا يَكُونُ مَعْلُولًا لِلتَّبْيِينِ وَلَكِنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْإِرْسَالِ الْمُعَلَّلِ
بِالتَّبْيِينِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِرْسَالَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِحِكْمَةِ التَّبْيِينِ. وَقَدْ يَحْصُلُ أَثَرُ التَّبْيِينِ بِمَعُونَةِ الِاهْتِدَاءِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ أَثَرُهُ بِسَبَبِ ضَلَالِ الْمُبَيَّنِ لَهُمْ.
وَالْإِضْلَالُ وَالْهُدَى مِنَ اللَّهِ بِمَا أَعَدَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنِ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ الْعَزِيزَ قَوِيٌّ لَا يَنْفَلِتُ شَيْءٌ مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ عَمَّا خُلِقَ لَهُ، وَالْحَكِيمُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَمَوْضِعُ الْإِرْسَال والتبيين أُتِي عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مِنَ الْإِرْشَادِ. وَمَوْقِعُ الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى هُوَ التَّكْوِينُ الْجَارِي عَلَى أَنْسَبِ حَالٍ بِأَحْوَالِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَالتَّبْيِينُ مِنْ مُقْتَضَى أَمْرِ التَّشْرِيعِ وَالْإِضْلَالِ مِنْ مُقْتَضَى أَمر التكوين.
[٥]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)
لَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مَسُوقَةً لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ أَعْقَبَ الرَّدَّ بِالتَّمْثِيلِ بِالنَّظِيرِ وَهُوَ إِرْسَالُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمِثْلِ الْغَايَةِ الَّتِي أُرْسِلَ لَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْرِجَ قَوْمَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
وَتَأْكِيدُ الْإِخْبَارِ عَنْ إِرْسَالِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُنْكِرِينَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ
188
يُنْكِرُ رِسَالَةَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي ذَلِكَ التَّنْزِيلَ، لِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يَجُوزُ عَلَى الْمُمَاثِلِ، عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ إِرْسَالًا مُصَاحِبًا لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ، كَمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَاحِبًا لِآيَةِ الْقُرْآنِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَدْ تَمَّ التَّنْظِيرُ وَانْتَهَضَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُنْكِرِينَ.
وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، فَسَّرَ الْإِرْسَالَ بِجُمْلَةِ «أَخْرِجْ قَوْمَكَ» الْخَ، وَالْإِرْسَالُ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ فَكَانَ حَقِيقًا بِمَوْقِعِ أَنْ التَّفْسِيرِيَّةِ.
والظُّلُماتِ مُسْتَعَارٌ لِلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، والنُّورِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فِي مِصْرَ بَعْدَ وَفَاةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-
سَرَى إِلَيْهِمُ الشِّرْكُ وَاتَّبَعُوا دِينَ الْقِبْطِ، فَكَانَتْ رِسَالَةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِإِصْلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ مَعَ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْوَاحِد، وَكَانَت آئلة إِلَى إِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ وَإِدْخَالِهِمْ فِي حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ.
وَالتَّذْكِيرُ: إِزَالَةُ نِسْيَانِ شَيْءٍ. وَيُسْتَعْمَلُ فِي تَعْلِيمِ مَجْهُولٍ كَانَ شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ. وَلَمَّا ضُمِّنَ التَّذْكِيرُ مَعْنَى الْإِنْذَارِ وَالْوَعْظِ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، أَيْ ذَكِّرْهُمْ تَذْكِيرَ عِظَةٍ بأيام الله.
وبِأَيَّامِ اللَّهِ أَيَّامَ ظُهُورِ بَطْشِهِ وَغَلْبِهِ مَنْ عَصَوْا أَمْرَهُ، وَتَأْيِيدِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ عِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَشَاعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْيَوْمِ مُضَافًا إِلَى اسْمِ شَخْصٍ أَوْ قَبِيلَةٍ عَلَى يَوْمٍ انْتَصَرَ فِيهِ مُسَمَّى الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى عَدُوِّهِ، يُقَالُ: أَيَّامُ تَمِيمٍ، أَيْ أَيَّامُ انْتِصَارِهِمْ، فَأَيَّامُ اللَّهِ أَيَّامُ ظُهُورِ قُدْرَتِهِ وَإِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ بِهِ وَنَصْرِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُطِيعِينَ لَهُ.
189
فَالْمُرَادُ بِـ أَيَّامَ اللَّهِ هُنَا الْأَيَّامُ الَّتِي أَنْجَى اللَّهُ فِيهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَنَصَرَهُمْ وَسَخَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَالنَّصْرِ وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ فِي زَمَنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا أُمِرَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنْ يُذَكِّرَهُمُوهُ، وَكُلُّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَضْمُونِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُمْتَدٌّ زَمَنُهُ، وَكُلَّمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِتَذْكِيرٍ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ فَهُوَ مِنْ مَضْمُونِ الْإِرْسَالِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَهُوَ مَشْمُولٌ لِتَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ.
فَقَوْلُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ٢٠، ٢١] هُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ الْمُفَسَّرِ بِهِ إِرْسَالُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَهُوَ وَإِن كَانَ وَاقِعًا بَعْدَ ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَا هُوَ إِلَّا تَذْكِيرٌ صَادِرٌ فِي زَمَنِ رِسَالَتِهِ، وَهُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَعْطَاهُمْ، وَمَا كَانُوا يُحَصِّلُونَهَا لَوْلَا نَصْرُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَعِنَايَتُهُ بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ رُبَّ ضَعِيفٍ غَلَبَ قَوِيًّا وَنَجَا بِضَعْفِهِ مَا لَمْ يَنْجُ مِثْلُهُ الْقَوِيُّ فِي قُوَّتِهِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ عَائِدٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ، فَالْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ بَعْدَ تَوَغُّلِهِمْ فِيهَا وَانْقِضَاءِ الْأَزْمِنَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَيْهَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالتَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ
آيَاتٌ كَائِنَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ.
وَقَدْ أَحَاطَ بِمَعْنَى هَذَا الشُّمُولِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي ذلِكَ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَجْمَعُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً يَحْتَوِيهَا الظَّرْفُ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ.
وَلِكَوْنِ الْآيَاتِ مُخْتَلِفَةً، بَعْضُهَا آيَاتُ مَوْعِظَةٌ وَزَجْرٌ وَبَعْضُهَا آيَاتُ مِنَّةٍ وَتَرْغِيبٍ، جُعِلَتْ مُتَعَلقَة ب لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ إِذْ الصَّبْر مُنَاسِب لِلزَّجْرِ
190
لِأَنَّ التَّخْوِيفَ يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَى تَحَمُّلِ مُعَاكَسَةِ هَوَاهَا خِيفَةَ الْوُقُوعِ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَالْإِنْعَامَ يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَى الشُّكْرِ، فَكَانَ ذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ تَوْزِيعًا لِمَا أَجْمَلَهُ ذِكْرُ أَيَّامِ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ بُؤْسٍ وَأَيَّام نعيم.
[٦]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بِاعْتِبَارِ غَرَضِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ التَّنْظِيرُ بِسُنَنِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ مِنْ إِرْشَادِ الْأُمَمِ وَتَذْكِيرِهَا، كَمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِذَلِكَ.
وَإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ شَوَاهِدِ التَّارِيخِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَعَ أُمَمِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ قَوْلَ مُوسَى لِقَوْمِهِ الْخَ.
وَهَذَا مِمَّا قَالَهُ مُوسَى لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُمُ الله من استعباد الْقِبْطِ وَإِهَانَتِهِمْ، فَهُوَ من تَفَاصِيلُ مَا فُسِّرَ بِهِ إِرْسَالُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يُذَكِّرَهُ قومه.
وإِذْ أَنْجاكُمْ ظَرْفٌ للنعمة بِمَعْنى الإنام، أَيِ الْإِنْعَامُ الْحَاصِلُ فِي وَقْتِ إِنْجَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩]، وَكَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ يُقَتِّلُونَ. سِوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ عُطِفَتْ فِيهَا جُمْلَةُ وَيُذَبِّحُونَ عَلَى جُمْلَةِ يَسُومُونَكُمْ وَفِي آيَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ جُعِلَتْ جُمْلَةُ يُذَبِّحُونَ وَجُمْلَةُ يُقَتِّلُونَ بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَسُومُونَكُمْ
191
سُوءَ الْعَذابِ. فَكَانَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَيُذَبِّحُونَ هُنَا مَقْصُودًا بِالْعَدِّ كَأَنَّهُ صِنْفٌ آخَرُ غَيْرُ سُوءِ الْعَذَابِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَعَلَى
كِلَا النَّظْمَيْنِ قَدْ حَصَلَ الِاهْتِمَامُ بِهَذَا الْعَذَابِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ، فَالْقُرْآنُ حَكَى مُرَادَ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذِكْرِ الْعَذَابِ الْأَعَمِّ وَذِكْرِ الْأَخَصِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ عَلَى كِلَا النَّظْمَيْنِ. وَإِنَّمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِطَرِيقَةٍ تَفَنُّنًا فِي إِعَادَةِ الْقِصَّةِ بِحُصُولِ اخْتِلَافٍ فِي صُورَةِ النَّظْمِ مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَحْكِيِّ، وَهُوَ ذِكْرُ سُوءِ الْعَذَابِ مُجْمَلًا، وَذِكْرُ أَفْظَعِ أَنْوَاعِهِ مُبَيَّنًا.
وَأَمَّا عَطْفُ جُمْلَةِ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فَلِأَنَّ مَضْمُونَهَا بِاسْتِقْلَالِهِ لَا يَصْلُحُ لِبَيَانِ سُوءِ الْعَذَابِ، لِأَنَّ اسْتِحْيَاءَ النِّسَاءِ فِي ذَاتِهِ نِعْمَةٌ وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِتَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ، إِذْ يُعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنَ اسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ اسْتِرْقَاقِهِنْ وَإِهَانَتِهِنَّ فَصَارَ الِاسْتِحْيَاءُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ تَهْيِئَةً لِتَعْذِيبِهِنَّ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جَمِيعُ ذَلِكَ بَلَاءً.
وَأَصْلُ الْبَلَاءِ: الِاخْتِبَارُ. وَالْبَلَاءُ هُنَا الْمُصِيبَةُ بِالشَّرِّ، سُمِّيَ بِاسْمِ الِاخْتِبَارِ لِأَنَّهُ اخْتِبَارٌ لِمِقْدَارِ الصَّبْرِ، فَالْبَلَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي شِدَّةِ الْمَكْرُوهِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ هَذَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَصْدَرِ بِحَيْثُ يَكَادُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَكْرُوهِ. وَمَا وَرَدَ مِنْهُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْخَيْرِ فَإِنَّمَا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ٣٥]، وَقَوله: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [سُورَة مُحَمَّد: ٣١].
وَتَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَجُعِلَ هَذَا الضُّرُّ الَّذِي لَحِقَهُمْ وَارِدًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ لِأَنَّ تَخَلِّيَهُ آلَ فِرْعَوْنَ لِفِعْلِ ذَلِكَ وَعَدَمِ إِلْطَافِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَجْعَلُهُ كَالْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ جَزَاءٌ عَلَى نَبْذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دِينَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ- عَلَيْهِم السّلام- واتّباههم دِينَ الْقِبْطِ وَعِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّبِّ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ صَلَاحَ مُسْتَقْبَلِهِمْ وَتَنْبِيهَهُمْ لِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَحْرِيفِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [سُورَة الْإِسْرَاء: ٨].
192
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ مَا فِي فِقْرَةِ (١٧) مِنَ «الْإِصْحَاحِ» (١٢). وَفِقْرَةِ (٣) مِنَ «الْإِصْحَاحِ» (١٣) مِنْ «سِفْرِ الْخُرُوجِ». وَمَا فِي فِقْرَةِ (١٣) مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٦) مِنْ «سفر اللّاويين».
[٧]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)
عَطْفٌ عَلَى إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمُ الْخَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ بِالزِّيَادَةِ مِنْهَا نِعْمَةٌ وَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءً لَوْلَا سِعَةُ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فَجَاءَتْ بِهِ الْمُقَابَلَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ عَلَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوا إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، عَلَى أَنَّ إِذْ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَلَيْسَتْ ظَرْفًا وَذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٧] : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٨٦].
وَمَعْنَى تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ تَكَلَّمَ كَلَامًا عَلَنًا، أَيْ كَلَّمَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الَّذِي فِي الْآيَةِ بِمَسْمَعٍ مِنْ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ الَّذِي فِي الْفِقْرَاتِ (٩- ٢٠) مِنَ الْإِصْحَاحِ (١٩) مِنْ «سِفْرِ الْخُرُوجِ»، وَالْفِقْرَاتِ (١- ١٨، ٢٢) مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٠) مِنْهُ، وَالْفِقْرَاتِ (مِنْ ٢٠ إِلَى ٣٠) مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٣) مِنْهُ.
وَالتَّأَذُّنُ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَذَانِ يُقَالُ: أَذَّنَ وَتَأَذَّنَ كَمَا يُقَالُ: تَوَعَّدَ وَأَوْعَدَ، وَتَفَضَّلَ وَأَفْضَلَ. فَفِي صِيغَةِ تَفَعَّلَ زِيَادَةُ مَعْنَى عَلَى صِيغَةِ أَفْعَلَ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ شَكَرْتُمْ مُوَطِّئَةٌ للقسم وَالْقسم مستعلم فِي التَّأْكِيدِ. وَالشُّكْرُ مُؤْذِنٌ بِالنِّعْمَةِ. فَالْمُرَادُ: شُكْرُ نِعْمَةِ الْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ شَكَرْتُمْ وَمَفْعُولُ لَأَزِيدَنَّكُمْ لِيُقَدَّرَ عَامًّا فِي الْفِعْلَيْنِ.
وَالْكُفْرُ مُرَادٌ بِهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْمُنْعِمِ بِالْعِصْيَانِ. وَأَعْظَمُ الْكُفْرِ جَحْدُ الْخَالِقِ أَوْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ، كَمَا أَنَّ الشُّكْرَ مُقَابَلَةُ النِّعْمَةِ بِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ.
وَاسْتَغْنَى بِ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ عَن لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْل: ٢١] لِكَوْنِهِ أَعَمَّ وَأَوْجَزَ، وَلِكَوْنِ إِفَادَةِ الْوَعِيدِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّعْرِيضِ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ فَأَنْتُمْ إِذن مِنْهُم.
[٨]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٨]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ فِي عَطْفِ بَعْضِ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى بَعْضٍ لِئَلَّا يُتَوَّهَّمَ
أَنَّ هَذَا مِمَّا تَأَذَّنَ بِهِ الرَّبُّ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ. وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ اهْتِمَامٌ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَنْوِيهٌ بِهَا حَتَّى تَبْرُزَ مُسْتَقِلَّةً وَحَتَّى يُصْغِيَ إِلَيْهَا السَّامِعُونَ لِلْقُرْآنِ.
وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِهَا أَنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ إِلَى اللَّهِ بِإِيمَانِهِمْ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ حِينَ يُلِحُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ تَعْزِيزَ جَانِبِهِمْ والحرص على مصحلتهم. فَلَمَّا وَعَدَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ بِالزِّيَادَةِ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالْعُقُوبَةِ خَشِيَ أَنْ يَحْسَبُوا ذَلِكَ لِانْتِقَامِ الْمُثِيبِ بِمَا أَثَابَ عَلَيْهِ، وَلِتَضَرُّرِهِ مِمَّا عَاقَبَ عَلَيْهِ، فَنَبَّهَهُمْ إِلَى هَذَا الْخَاطِرِ الشَّيْطَانِيِّ حَتَّى لَا يَسْرِيَ إِلَى نُفُوسِهِمْ فَيُكْسِبَهُمْ إِدْلَالًا بِالْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ.
وأَنْتُمْ فُصِلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ هَذَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ ضَمِيرًا مُتَّصِلًا.
وَ (جَمِيعاً) تَأْكِيدٌ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ وَنَصْبُهُ غَيْرُ بَعِيدٍ.
وَالْغَنِيُّ: الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِ غِنَاهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِهِ.
وَالْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَحْمُودٌ مِنْ غَيْرِكُمْ مُسْتَغْنٍ عَنْ حَمْدِكُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ كَفَرُوا بِهِ لَكَانُوا حَامِدِينَ بِلِسَانِ حَالِهِمْ كَرْهًا، فَإِنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ تَنَالُهُمْ فَيَحْمَدُونَهَا فَإِنَّمَا يَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [سُورَة الرَّعْد: ١٥]. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ مَا فِي الْفِقْرَاتِ (٣٠ إِلَى ٣٣) مِنَ الْإِصْحَاحِ (٣٢) مِنْ «سفر الْخُرُوج».
[٩]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٩]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
هَذَا الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ رَجَعَ بِهِ الْخِطَابُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ، لِأَنَّ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ هُنَا هُمُ الْكَافِرُونَ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢]، وَهُمْ مُعْظَمُ الْمَعْنِيِّ مِنَ
النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١]، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أُجْمِلَ لَهُمُ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٤] الْآيَةَ، ثُمَّ فُصِّلَ بِأَنْ ضُرِبَ الْمَثَلُ لِلْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ لِغَرَضِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِرْسَالِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِإِخْرَاجِ قَوْمِهِ، وَقُضِيَ حَقُّ ذَلِكَ عَقِبِهِ بِكَلَامٍ جَامِعٍ لِأَحْوَالِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمْ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْصَلَةِ
195
وَالتَّذْيِيلُ مَعَ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَتَشَابُهِ عَقْلِيَّاتِهِمْ فِي حُجَجِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَرَدِّ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ مَا رَدَّ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ خُتِمَ بِالْوَعِيدِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُهُمْ، فَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ فَقَدْ تَوَاتَرَ خَبَرُهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ بِسَبَبِ خَبَرِ الطُّوفَانِ، وَأَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ فَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَمَسَاكِنُهُمْ فِي بِلَادِهِمْ وَهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٤٥] وَقَالَ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[سُورَة الصافات: ١٣٧].
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَشْمَلُ أَهْلَ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقَوْمَ تُبَّعٍ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أُمَمٍ انْقَرَضُوا وَذَهَبَتْ أَخْبَارُهُمْ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [سُورَة الْفرْقَان: ٣٨].
وَجُمْلَةُ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الْوَاقِعَةُ حَالًا مِنَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُهَا انْتِفَاءُ عِلْمِ النَّاسِ بِهِمْ.
وَمَعْنَى جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ جَاءَ كُلَّ أُمَّةٍ رسولها.
وضمائر فَرَدُّوا وأَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ عَائِدٌ جَمِيعُهَا إِلَى قَوْمِ نُوحٍ وَالْمَعْطُوفَاتِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا أَعْهَدُ سَبْقَ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ وُجُوهٍ أَنْهَاهَا فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى سَبْعَةٍ وَفِي بَعْضِهَا بُعْدٌ، وَأَوْلَاهَا بِالِاسْتِخْلَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ إِخْفَاءً لِشِدَّةِ الضَّحِكِ مِنْ كَلَامِ الرُّسُلِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَظْهَرَ دَوَاخِلُ أَفْوَاهِهِمْ. وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرُّسُلِ.
196
وَالرَّدُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَكْرِيرِ جَعْلِ الْأَيْدِي فِي الْأَفْوَاهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ «الرَّاغِبُ».
أَيْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْأَفْوَاهِ ثُمَّ أَزَالُوهَا ثُمَّ أَعَادُوا وَضْعَهَا فَتِلْكَ الْإِعَادَةُ رَدٌّ.
وَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادِ بِهَا التَّمْكِينُ، فَهِيَ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سُورَة الزمر: ٢٢]. فَمَعْنَى فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ.
وَعَطْفُهُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّهُمْ بَادَرُوا بِرَدِّ أَيْدِيهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ بِفَوْرِ تَلَقِّيهِمْ دَعْوَةَ رُسُلِهِمْ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْأَيْدِي فِي الْأَفْوَاهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُتَعَجِّبِ الْمُسْتَهْزِئِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِلْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَتُهُ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ خَبَرًا عَنِ الْأُمَمِ مَعَ اخْتِلَافِ عَوَائِدِهِمْ وَإِشَارَاتِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْأَفْرَادِ فِي حَرَكَاتِهِمْ عِنْدَ التَّعَجُّبِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ إِلَّا بَيَانٌ عَرَبِيٌّ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [سُورَة الزمر: ٧٤]، فَمِيرَاثُ الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ جَرْيًا عَلَى بَيَانِ الْعَرَبِ عِنْدَ تَنَافُسِ قَبَائِلِهِمْ أَنَّ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَ أَرْضَ عَدُوِّهِ.
وَأَكَّدُوا كُفْرَهُمْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِنَّ وَفِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّا كَفَرْنا. وَسَمَّوْا مَا كَفَرُوا بِهِ مُرْسَلًا بِهِ تَهَكُّمًا بِالرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سُورَة الْحجر: ٦]، فَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِأَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ مُرْسَلٌ بِهِ مِنَ اللَّهِ، أَيْ كَفَرُوا بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ. فَهَذَا مِمَّا أَيْقَنُوا بِتَكْذِيبِهِمْ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ فَذَلِكَ شَكٌّ فِي صِحَّةِ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَسَدَادِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُعَرَّضٌ لِلنَّظَرِ وَتَمْيِيزِ صَحِيحِهِ مِنْ سَقِيمِهِ، فَمَوْرِدُ الشَّكِّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَوْرِدُ التَّكْذِيبِ نِسْبَةُ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ. فَمُرَادُهُمْ: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مَا هُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ فَإِنَّ الْكَاذِبَ قَدْ يَقُولُ حَقًّا.
197
وَجَعَلُوا الشَّكَّ قَوِيًّا فَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ هُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ وَمُتَمَكِّنٌ كَمَالَ التَّمَكُّنِ.
ومُرِيبٍ تَأْكِيد لِمَعْنى لَفِي شَكٍّ، والمريب: المتوقع فِي الرَّيْبِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الشَّكِّ، فَوَصْفُ الشَّكِّ بِالْمُرِيبِ مِنْ تَأْكِيدِ مَاهِيَّتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ.
وَحُذِفَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا تَخْفِيفًا تَجَنُّبًا لِلثِّقَلِ النَّاشِئِ مِنْ وُقُوعِ نُونَيْنِ آخَرِينِ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: تَدْعُونَنا اللَّازِمُ ذِكْرُهُمَا، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ [٦٢] وَإِنَّنا لَفِي
شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا
إِذْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبٌ لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: تَدْعُونا وَاحِدٌ.
[١٠]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ١٠]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَمَوْرِدُ الْإِنْكَارِ هُوَ وُقُوعُ الشَّكِّ فِي وُجُودِ اللَّهِ، فَقُدِّمَ مُتَعَلِّقُ الشَّكِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَشُكُّ فِي اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْوَقْعُ، مِثْلَ قَوْلِ الْقَطَامِيِّ:
أَفْتَى بِهَذَا شَيْخُنَا الْبَلْقِينِي وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ بِعَيْنِي
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرَّتَاعَا
فَكَانَ أَبْلَغُ لَهُ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقُولَ: أَبْعَدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي كُفْرٌ.
وَعُلِّقَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالشَّكِّ، وَالِاسْمُ الْعَلَمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ إِنْكَارُ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي أَهَمِّ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ صِفَةُ التَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ صِفَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ.
وَأُتْبِعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ وُجُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ لَهُمَا خَالِقًا حَكِيمًا لِاسْتِحَالَةِ صُدُورِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ
198
الْعَجِيبَةِ الْمُنَظَّمَةِ عَنْ غَيْرِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَذَلِكَ تَأْيِيدٌ لِإِنْكَارِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْخَلْقِ يَقْتَضِي انْفِرَادَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ عِبَادَةَ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ يَدْعُوكُمْ حَالٌ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ يَدْعُوكُمْ أَنْ تَنْبِذُوا الْكُفْرَ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَيَدْفَعَ عَنْكُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فَيُؤَخِّرَكُمْ فِي الْحَيَاةِ إِلَى أَجَلٍ مُعْتَادٍ.
وَالدُّعَاءُ: حَقِيقَتُهُ النِّدَاءُ. فَأُطْلِقَ عَلَى الْأَمْرِ وَالْإِرْشَادِ مَجَازًا لِأَنَّ الْآمِرَ يُنَادِي الْمَأْمُورَ.
وَيُعَدَّى فِعْلُ الدُّعَاءِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ غَالِبًا وَهُوَ إِلى، نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [سُورَة غَافِر: ٤١].
وَقد يُعَدَّى بِلَامِ التَّعْلِيلِ دَاخِلَةً عَلَى مَا جُعِلَ سَبَبًا لِلدَّعْوَةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْلُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ [سُورَة نوح: ٧]، أَيْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ لِتَغْفِرَ، أَيْ دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِتَغْفِرَ لَهُمْ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ، أَيْ يَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.
وَقَدْ يُعَدَّى فِعْلُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ بِاللَّامِ تَنْزِيلًا لِلشَّيْءِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يُدْعَى، كَقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ:
199
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
أَرَادُوا إِفْحَامَ الرُّسُلِ بِقَطْعِ الْمُجَادَلَةِ النَّظَرِيَّةِ، فَنَفَوُا اخْتِصَاصَ الرُّسُلِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ فِي صُورَتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ رُسُلًا عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ يَحْسَبُونَ أَنَّ هَذَا أَقْطَعُ لِحُجَّةِ الرُّسُلِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ مَحْسُوسَةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلٍ فِي الِاحْتِجَاجِ، فَلِذَلِكَ طَالَبُوا رُسُلَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِحُجَّةٍ مَحْسُوسَةٍ تُثْبِتُ أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُمْ لِلرِّسَالَةِ عَنْهُ، وَحُسْبَانُهُمْ بِذَلِكَ التَّعْجِيزُ.
فَجُمْلَةُ تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ قَيْدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا مِنْ جَحْدِ كَوْنِهِمْ رُسُلًا مِنَ اللَّهِ بِالدِّينِ الَّذِي جَاءُوهُمْ بِهِ مُخَالِفًا لِدِينِهِمُ الْقَدِيمِ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ كَانَ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ لِجُمْلَةِ فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ بَشَرًا لَا يَقْتَضِي مُطَالَبَتَهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنَّمَا اقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ جَاءُوهُمْ بِإِبْطَالِ دِينِ قَوْمِهِمْ، وَهُوَ مَضْمُونُ مَا أُرْسِلُوا بِهِ.
وَقَدْ عَبَّرُوا عَنْ دِينِهِمْ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِدِينِهِمْ بِأَنَّهُ مُتَقَلَّدُ آبَائِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَهُمْ مَعْصُومِينَ مِنَ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، وَلِلْأُمَمِ تَقْدِيسٌ لِأَسْلَافِهَا فَلِذَلِكَ عَدَلُوا عَنْ أَنْ يَقُولُوا: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَنْ دِينِنَا.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧١].
الْمُبِينُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِ مَا دلّ عَلَيْهِ.
200

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
قَوْلُ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ جَوَابٌ بِطَرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاء النزاع بِبَيَانِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ تَامِّ الْإِنْتَاجِ، وَفِيهِ إِطْمَاعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ. ثُمَّ كَرَّ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِبْطَالِ بِتَبْيِينِ خَطَئِهِمْ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة المُنَافِقُونَ: ٨].
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَوَادِحِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ شَدِيدُ الْوَقْعِ عَلَى الْمُنَاظِرِ، فَلَيْسَ قَوْلُ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَقْرِيرًا لِلدَّلِيلِ وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِبَيَانِ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الِاسْتِنْتَاجِ مِنْ دَلِيلِهِ. وَمَحَلُّ الْبَيَانِ هُوَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١١]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي زَائِدٍ عَلَيْهَا فَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِنِعَمٍ لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُمْ.
فَالِاسْتِدْرَاكُ رَفْعٌ لِمَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ كَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَشَرِيَّةِ مُقْتَضَى الِاسْتِوَاءِ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ.
وَأَوْرَدَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ فِي «التَّفْسِيرِ» وَجْهًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ زِيدَ فِيهَا كَلِمَةُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١٠] وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ قَالَ فِيهَا قالَتْ رُسُلُهُمْ بِوَجْهَيْنِ:
201
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ خَاصَّةً بِالْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ يَقُولُونَهَا لِغَيْرِهِمْ إِذْ هُوَ جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْهُمْ وَالْمَقَالَةُ الْأُولَى يَقُولُونَهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، أَيْ لِلْمُصَدِّقِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ وُجُودَ اللَّهِ أَمْرٌ نَظَرِيٌّ، فَكَانَ كَلَامُ الرُّسُلِ فِي شَأْنِهِ خِطَابًا لِعُمُومِ قَوْمِهِمْ، وَأَمَّا بَعْثَةُ الرُّسُلِ فَهِيَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا قَالُوا هَذَا إِلَّا لِلْمُكَذِّبِينَ لِغَبَاوَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ لَا لِغَيْرِهِمْ.
وَأَجَابَ الْأَبِيُّ أَنَّ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ خِطَابٌ لِمَنْ عَانَدَ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، فَكَأَنَّ
الْمُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ يُجِيبُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَلَا يُقْبِلُ بِالْجَوَابِ عَلَى الْمُخَاطَبِ لِمُعَانَدَتِهِ فَيُجِيبُ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَإِنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَقَالَتِهِمْ فَهُمْ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْجَوَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبْطِلُوا كَلَامَهُمْ بِالْإِطْلَاقِ بَلْ يُقَرِّرُونَهُ وَيَزِيدُونَ فِيهِ اه.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ زِيَادَةَ لَهُمْ تُؤْذِنُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى تَوَجُّهِ الرُّسُلِ إِلَى قَوْمِهِمْ بِالْجَوَابِ لِمَا فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمْ مِنَ الدِّقَّةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ إِذِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ بَعْدَ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي نَحْوِ: أَقُولُ لَكَ، لَامُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَقُولُ قَوْلِي لِأَجْلِكَ.
ثُمَّ عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ تَبْيِينُ أَنَّ مَا سَأَلَهُ الْقَوْمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَيْسَ اللَّهُ بِمُكْرَهٍ عَلَى إِجَابَةِ مَنْ يَتَحَدَّاهُ.
وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْرٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَقَصَدُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَصْدًا أَوَّلِيًّا لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا إِلَى آخِرِهِ.
وَلَمَّا كَانَ حُصُولُ إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَأْيِيدِ الرُّسُل بِالْحجَّةِ المسئولة غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِيقَاتِ وَلَا مُتَعَيَّنَ الْوُقُوعِ وَكَانَتْ مُدَّةُ تَرَقُّبِ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِتَكْذِيبِ
202
الَّذِينَ كَفَرُوا رُسُلَهُمْ تَكْذِيبًا قَاطِعًا وَتَوَقَّعَ الرُّسُلُ أَذَاةَ قَوْمِهِمْ إِيَّاهُمْ شَأْنَ الْقَاطِعِ بِكَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُم قد بدأوهم بِالْأَذَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا. أَظْهَرَ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ غَافِلِينَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مَا عَسَى أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ مِنْ أَذًى بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ هُمْ وَمَنْ آمن مَعَهم فابتدأوا بِأَنْ أَمَرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ تَذْكِيرًا لَهُمْ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ إِيمَانُهُمْ إِلَى زَعْزَعَةِ الشَّكِّ حِرْصًا عَلَى ثَبَاتِ الْمُؤْمِنِينَ،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْن الْخَطَّابِ»
. وَفِي ذَلِكَ الْأَمْرِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُم لَا يعبأون بِمَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ الْكَافِرُونَ مِنَ الْأَذَى، كَقَوْلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ حِينَ آمَنُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ٥٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ مُؤُذِنٌ بِالْحَصْرِ وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ نَصْرًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ نَاصِرِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ رابطة لجملة (ليتوكل الْمُؤْمِنُونَ) بِمَا أَفَادَهُ
تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ عَجِبْتُمْ مِنْ قِلَّةِ اكْتِرَاثِنَا بِتَكْذِيبِكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَإِنْ خَشِيتُمْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضِيرَهُمْ عَدُوُّهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٢٣].
وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ التَّدْبِيرِ إِلَى الْغَيْرِ ثِقَةٌ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ، فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَنْفَعُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٩].
وَجُمْلَةُ وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى صِدْقِ رَأْيِهِمْ فِي تَفْوِيضِ
203
أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا بِوَارِقَ عِنَايَتِهِ بِهِمْ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى طَرَائِقِ النَّجَاةِ وَالْخَيْرِ، وَمَبَادِئُ الْأُمُورِ تَدُلُّ عَلَى غَايَاتِهَا.
وَأَضَافُوا السُّبُلَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلِاخْتِصَارِ لِأَنَّ أُمُورَ دِينِهِمْ صَارَتْ مَعْرُوفَةً لَدَى الْجَمِيعِ فَجَمَعَهَا قَوْلُهُمْ: سُبُلَنا.
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ لِانْتِفَاءِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ، أَتَوْا بِهِ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ اسْتِحْمَاقِ الْكُفَّارِ إِيَّاهُمْ فِي تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ، فَجَاءُوا بِإِنْكَارِ نَفْيِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَمَعْنَى وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ مَا ثَبَتَ لَنَا مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ، فَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ.
وَزَادُوا قَوْمَهُمْ تأييسا من التأثر بِالْأَذَى فَأَقْسَمُوا عَلَى أَنَّ صَبْرَهُمْ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ سَيَسْتَمِرُّ، فَصِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ الْمُضَارِعِ الْمُؤَكَّدِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ فِي وَلَنَصْبِرَنَّ دَلَّتْ عَلَى أَذَى مُسْتَقْبَلٍ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُضِيِّ الْمُنْتَزَعُ مِنْهَا الْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ: مَا آذَيْتُمُونا عَلَى أَذًى مَضَى. فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَى نَصْبِرُ عَلَى أَذًى مُتَوَقَّعٍ كَمَا صَبَرْنَا عَلَى أَذًى مَضَى.
وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الرُّسُلِ فَتَكُونَ تَذْيِيلًا وَتَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فَكَانَتْ تَذْيِيلًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ الزَّائِدِ فِي قَوْلِهِ: الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى عُمُومِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَكَانَتْ تَأْكِيدًا لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مُتَوَكِّلًا فِي أَمْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ تَذْيِيلٌ لِلْقِصَّةِ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ، أَيْ لَا يَنْبَنِي التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَيْهِ
204

[١٣، ١٤]

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ١٣ الى ١٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ.
تَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ بِطَرِيقِ الْإِظْهَارِ دُونَ الْإِضْمَارِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا غَيْرُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْحِكَايَةَ عَنْهُمْ كَانَتْ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ. فَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ.
وَأَنَّ المُرَاد ب لِرُسُلِهِمْ الرَّسُولُ- مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُجْرِيَتْ عَلَى وَصْفِهِ صِيغَةَ الْجمع على طَرِيق قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٧٠].
فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَقَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [سُورَة الْحَدِيد: ٢٥]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ الرَّسُول مُحَمَّد- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- لِأَنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ الْحَدِيدُ، أَيِ الْقِتَالُ بِالسَّيْفِ لِأَهْلِ الدَّعْوَةِ الْمُكَذِّبِينَ، وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٥] عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا.
وَإِطْلَاقُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازٌ: إِمَّا اسْتِعَارَةٌ إِنْ كَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ تَشْبِيهِ الْوَاحِدِ بِالْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ:
٩٩].
وَإِمَّا مَجَازٌ مُرْسَلٌ إِذَا رُوعِيَ فِيهِ قَصْدُ التَّعْمِيَةِ، فعلاقته الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد. وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَيْهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيَةِ.
فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا كُفَّارَ مَكَّةَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ رَسُولًا
205
مِنْ رُسُلِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ دَخَلَ أَرْضَ مُكَذِّبِيهِ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ وامتلكها إِلَّا
النَّبِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ «مَنْزِلُنَا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ»

. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَفْسَ الْمُرَادِ مِنَ الْأَقْوَامِ السَّالِفَيْنِ فَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ اتِّصَافِهِمْ بِالْكُفْرِ حَتَّى صَارَ الْخَصْلَةَ الَّتِي يُعْرَفُونَ بِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الرُّسُلِ ظَاهِرَ الْجَمْعِ فَيَكُونُ هَذَا التوعد سنة الْأُمَمِ وَيَكُونُ الْإِيمَاءُ إِلَيْهِمْ بِهِ سُنَّةَ اللَّهِ مَعَ رُسُلِهِ.
وَتَأْكِيدُ تَوَعُّدِهِمْ بِالْإِخْرَاجِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ ضَرَاوَةٌ فِي الشَّرِّ.
وَ (أَوْ) لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أَقْسَمُوا عَلَى حُصُولِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ، أَحَدُهُمَا مِنْ فِعْلِ الْمُقَسَّمِينَ، وَالْآخَرُ مَنْ فِعْلِ مَنْ خُوطِبَ بِالْقَسَمِ، وَلَيْسَتْ هِيَ أَوْ الَّتِي بِمَعْنَى إِلَى أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا.
وَالْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الرُّسُلِ مُتَّبِعًا مِلَّةَ الْكُفْرِ بَلْ كَانُوا مُنْعَزِلِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ دُونَ تَغْيِيرٍ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْسَبُونَهُمْ مُوَافِقِينَ لَهُمْ، وَكَانَ الرُّسُلُ يَتَجَنَّبُونَ مُجْتَمَعَاتِهِمْ بِدُونِ أَنْ يَشْعُرُوا بِمُجَانَبَتِهِمْ، فَلَمَّا جَاءُوهُمْ بِالْحَقِّ ظَنُّوهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ فَطَلَبُوا مِنْهُمْ أَنْ يَعُودُوا إِلَى مَا كَانُوا يَحْسَبُونَهُمْ عَلَيْهِ.
وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فِي مِلَّتِنا مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَتْرُوكِ فَكَأَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ.
وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٦١]، وَانْظُرْ قَوْلَهُ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
206
وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ عَلَى قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١٣] الْخَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْعَزْمِ عَلَى إِخْرَاجِ الرُّسُلِ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الرُّسُلِ مَا يُثَبِّتُ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَهُوَ الْوَعْدُ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ.
وَجُمْلَةُ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ (أَوْحَى..).
وَإِسْكَانُ الْأَرْضِ: التَّمْكِينُ مِنْهَا وَتَخْوِيلُهَا إِيَّاهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ [سُورَة الْأَحْزَاب: ٢٧].
وَالْخِطَابُ فِي لَنُسْكِنَنَّكُمُ لِلرُّسُلِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَسْكُنَ الرَّسُولُ بِأَرْضِ عَدُوِّهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا وَأَنْ يَسْكُنَهَا الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا مَكَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَكَّةَ وَأَرْضَ الْحِجَازِ وَأَسْكَنَهَا الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ فَتْحِهَا.
ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤).
ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِهْلَاكِ وَالْإِسْكَانِ الْمَأْخُوذَيْنِ مِنْ لَنُهْلِكَنَّ، ولَنُسْكِنَنَّكُمُ. عَادَ إِلَيْهِمَا اسْمُ الْإِشَارَةِ بِالْإِفْرَادِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [سُورَة الْفرْقَان: ٦٨].
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيْ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَتَمْلِيكٌ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [سُورَة الْبَيِّنَة: ٨].
وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْوَعْدُ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي، أَيْ ذَلِكَ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ خِفْتُمْ مَقَامِي، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخطاب إِلَى لِمَنْ خافَ مَقامِي لِدَلَالَةِ الْمَوْصُولِ عَلَى الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ.
207
وَمَعْنَى خافَ مَقامِي خَافَنِي، فَلَفْظُ مَقَامٍ مُقْحِمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦]، لِأَنَّ الْمَقَامَ أَصْلُهُ مَكَانُ الْقِيَامِ، وَأُرِيدَ فِيهِ بِالْقِيَامِ مُطْلَقُ الْوُجُودِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُعْتَبَرُ قَائِمَةً، فَإِذَا قِيلَ خافَ مَقامِي كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي (خَافَنِي) بِحَيْثُ إِنَّ الْخَوْفَ يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ. كَمَا يُقَالُ: قَصَّرَ فِي جَانِبِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [سُورَة الزمر: ٥٦]. وَكُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمَرُوءَةَ وَالنَّدَى فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ
أَيْ فِي ابْنِ الْحَشْرَجِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وُجُودِ قُبَّةٍ. وَمِنْهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِسَاقِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ»
، أَيْ هَذَا الْعَائِذُ بِكَ الْقَطِيعَةَ.
وَخَوْفُ اللَّهِ: هُوَ خَوْفُ غَضَبِهِ لِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لَدَى عَبِيدِهِ.
وَعَطَفَ جُمْلَةَ وَخافَ وَعِيدِ عَلَى خافَ مَقامِي مَعَ إِعَادَةِ فِعْلِ خافَ دُونَ اكْتِفَاء بعطف وَعِيدِ عَلَى مَقامِي لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ وَإِنْ كَانَ صَرِيحُهَا ثَنَاءً عَلَى
الْمُخَاطَبِينَ فَالْمُرَادُ مِنْهَا التَّعْرِيضُ بِالْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ وَعِيدَ اللَّهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ خافَ مَقامِي تُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْمُشْركين لم يعبأوا بِوَعِيدِ اللَّهِ وَحَسِبُوهُ عَبَثًا، قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [سُورَة الْحَج: ٤٧]، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ [٨] ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ ذِكْرِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً.
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي ذِكْرِ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ وَإِسْكَانِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَهُمْ فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَجُمِعَ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بإدماج التَّعْرِيض بوعي الْكَافِرِينَ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَخَافَ غَضَبَ رَبِّهِ وَأَنْ يَخَافَ
208
وَعِيدَهُ، وَالَّذِينَ يَخَافُونَ غَضَبَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ هُمُ الْمُتَّقُونَ الصَّالِحُونَ، فَآلَ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٠٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَعِيدِ بِدُونِ يَاءٍ وَصْلًا وَوَقْفًا. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ- بِدُونِ يَاءٍ- فِي الْوَقْفِ وَبِإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ- فِي حَالَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاقِعَةِ مُضَافًا إِلَيْهَا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ. وَفِيهَا فِي النِّدَاءِ لُغَتَانِ أخريان.
[١٥- ١٧]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٧]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
جُمْلَةُ وَاسْتَفْتَحُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، أَوْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا النَّصْرَ. وَضَمِيرُ اسْتَفْتَحُوا عَائِدٌ إِلَى الرُّسُلِ، وَيَكُونُ جُمْلَةُ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ الْخَ، أَيْ فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ وَخَابَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ لَمْ يَتَحَقَّقْ تَوَعُّدُهُمُ الرُّسُلَ بِقَوْلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَخَابَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانُوا جَبَابِرَةً عُنَدَاءَ وَأَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَخِيبُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ اسْتَفْتَحُوا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ وَيَكُونُ ضَمِيرُ اسْتَفْتَحُوا عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ وَطَلَبُوا النَّصْرَ عَلَى رُسُلِهِمْ فَخَابُوا فِي ذَلِكَ. وَلِكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ
209
عَنِيدٍ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَدَلَ
عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَخَابُوا، إِلَى قَوْلِهِ: كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لِمِثْلِ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا.
وَالِاسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ النَّصْرُ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [سُورَة الْأَنْفَال: ١٩].
وَالْجَبَّارُ: الْمُتَعَاظِمُ الشَّدِيدُ التَّكَبُّرِ.
وَالْعَنِيدُ الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ. وَتَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٩]. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَعَاظِمُونَ، فَوَصْفُ جَبَّارٍ خُلُقٌ نَفْسَانِيٌّ، وَوَصْفُ عَنِيدٍ مِنْ أَثَرِ وَصْفِ جَبَّارٍ لِأَنَّ الْعَنِيدَ الْمُكَابِرَ الْمُعَارِضَ لِلْحُجَّةِ.
وَبَيْنَ خافَ وَعِيدِ وخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ جِنَاسٌ مُصَحَّفٌ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ صِفَةٌ لِ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أَيْ خَابَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ ذَلِكَ حَظُّهُ مِنَ الْعِقَابِ بَلْ وَرَاءَهُ عِقَابُ الْآخِرَةِ.
وَالْوَرَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَحِلُّ بِهِ مِنْ بَعْدُ، فَاسْتُعِيرَ لِذَلِكَ بِجَامِعِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحُصُولِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ الْمَرْءِ لَا يَشْعُرُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [سُورَة الْكَهْف: ٧٩]، أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ وَلَوْ ظفر بهم لَا فتك سَفِينَتَهُمْ، وَقَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ:
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبٌ
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْوَرَاءِ عَلَى مَعْنَى مِنْ بَعْدِ فَاسْتِعْمَالٌ آخَرُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلَيْسَ عَيْنَهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَهَنَّمَ تَنْتَظِرُهُ، أَيْ فَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.
210
وَالصَّدِيدُ: الْمُهْلَةُ، أَيْ مِثْلُ الْمَاءِ يَسِيلُ مِنَ الدُّمَّلِ وَنَحْوِهِ، وَجَعَلَ الصَّدِيدَ مَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ فِي الْإِسْقَاءِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَاءِ أَنْ يُسْقَى. وَالْمَعْنَى: وَيُسْقَى صَدِيدًا عِوَضَ الْمَاءِ إِنْ طَلَبَ الْإِسْقَاءَ، وَلذَلِك جعل صَدِيدٍ عَطْفَ بَيَانٍ لِ ماءٍ. وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ يُسْقى عَلَى جُمْلَةِ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ لِأَنَّ السَّقْيَ مِنَ الصَّدِيدِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ.
وَالتَّجَرُّعُ: تَكَلُّفُ الْجَرْعِ، وَالْجَرْعِ بَلْعُ الْمَاءِ.
وَمَعْنَى يُسِيغُهُ يَفْعَلُ سَوْغَهُ فِي حَلْقِهِ. وَالسَّوْغُ انْحِدَارُ الشَّرَابِ فِي الْحَلْقِ بِدُونِ غُصَّةٍ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرَابُ غَيْرَ كَرِيهِ الطَّعْمِ وَلَا الرِّيحِ، يُقَالُ سَاغَ الشَّرَابُ، وَشَرَابٌ سَائِغٌ. وَمَعْنَى لَا يَكادُ يُسِيغُهُ لَا يُقَارِبُ أَنْ يُسِيغَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسِيغَهُ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١].
وَإِتْيَانُ الْمَوْتِ: حُلُولُهُ، أَيْ حُلُولُ آلَامِهِ وَسَكَرَاتِهِ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَةٌ لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، أَيْ فَيَسْتَرِيحُ.
وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ، أَيْ يَنْتَظِرُهُ عَذَابٌ آخَرُ بَعْدَ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.
وَالْغَلِيظُ: حَقِيقَتُهُ الْخَشِنُ الْجِسْمِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ بِجَامِعِ الْوَفْرَةِ فِي كُلٍّ، أَيْ عَذَابٌ لَيْسَ بِأَخَفِّ مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي سُورَة هود [٥٨].
211

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ١٨]

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَا عَمِلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَثَارَ هَذَا التَّمْثِيلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ شِدَّةِ عَذَابِهِمْ، فَيَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَوْ بِبَالِ مَنْ يَسْمَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْأَلَ نَفْسَهُ أَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا مِنَ الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ مِنْ إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ، وَمِنْ عِتْقِ رِقَابٍ، وَقِرَى ضُيُوفٍ، وَحِمَالَةِ دِيَاتٍ، وَفِدَاءِ أُسَارَى، وَاعْتِمَارٍ، وَرِفَادَةِ الْحَجِيجِ، فَهَلْ يَجِدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ؟ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ تَطَلَّبَتْ نُفُوسُهُمْ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ وُجُودِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَبَيْنَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فُضُرِبَ هَذَا الْمَثَلُ لِبَيَانِ مَا يكْشف جَمِيع احتمالات.
وَالْمَثَلُ: الْحَالَةُ الْعَجِيبَةُ، أَيْ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعَجِيبَةُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَرَمَادٍ الْخَ.
فَالْمَعْنَى: حَالُ أَعْمَالِهِمْ، بِقَرِينَةِ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا لِأَنَّهُ مَهْمَا أُطْلِقَ مَثَلُ كَذَا إِلَّا وَالْمُرَادُ حَالٌ خَاصَّةٌ مِنْ أَحْوَالِهِ يُفَسِّرُهَا الْكَلَامُ، فَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ الْمُلْتَزَمِ فِي الْكَلَامِ.
فَقَوْلُهُ: أَعْمالُهُمْ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وكَرَمادٍ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ
الْأَوَّلِ.
وَلَمَّا جُعِلَ الْخَبَرُ عَنْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَعْمالُهُمْ آلَ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ مَثَلَ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَرَمَادٍ.
شُبِّهَتْ أَعْمَالُهُمُ الْمُتَجَمِّعَةُ الْعَدِيدَةُ بِرَمَادٍ مُكَدَّسٍ فَإِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيَاحُ بِالرَّمَادِ انْتَثَرَ وَتَفَرَّقَ تَفَرُّقًا لَا يُرْجَى مَعَهُ اجْتِمَاعُهُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ اضْمِحْلَالِ شَيْءٍ كَثِيرٍ بَعْدَ تَجَمُّعِهِ، وَالْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ مَعْقُولَةٌ.
وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْعَاصِفِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ عَاصِفٌ رِيحُهُ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مَاطِرٌ، أَيْ سَحَابُهُ.
وَالرَّمَادُ: مَا يَبْقَى مِنَ احْتِرَاقِ الْحَطَبِ وَالْفَحْمِ. وَالْعَاصِفُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢].
وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنِ اخْتِيرَ لَهُ التَّشْبِيهُ بهيئة الرماد المتجمع، لِأَنَّ الرَّمَادَ أَثَرٌ لِأَفْضَلِ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَشْيَعِهَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ قِرَى الضَّيْفِ حَتَّى صَارَتْ كَثْرَةُ الرَّمَادِ كِنَايَةً فِي لِسَانِهِمْ عَنِ الْكَرَمِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيَاحُ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ بِالْإِفْرَادِ، وَهَمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ سُدًى فَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ حَالِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهَا ضَلَالٌ بَعِيدٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْبَعِيدِ الْبَالِغُ نِهَايَةَ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَاهِيَّتُهُ، أَيْ بِعِيدٌ فِي مَسَافَاتِ الضَّلَالِ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَقْصَى الضَّلَالِ أَوْ جِدُّ ضَلَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [١١٦].
[١٩، ٢٠]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فَإِنَّ هَلَاكَ فِئَةٍ كَامِلَةٍ شَدِيدَةِ الْقُوَّةِ وَالْمِرَّةِ أَمْرٌ عَجِيبٌ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ السُّؤَالَ:
213
كَيْفَ تَهْلَكُ فِئَةٌ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟؟ فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي عَظَمَتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ مَا هُوَ دُونَهَا، فَمَبْدَأُ الِاسْتِئْنَافِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مُوقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ، قُدِّمَ عَلَيْهَا كَمَا تَجْعَلُ النَّتِيجَةَ مُقَدَّمَةً فِي الْخَطَابَةِ وَالْجِدَالِ عَلَى دَلِيلِهَا. وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ الْخَطَابَةِ».
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَا سَبَقَهُ مِنْ تَفَرُّقِ الرَّمَادِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ.
وَالْخِطَابُ فِي أَلَمْ تَرَ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَكُلُّ مَنْ يُظَنُّ بِهِ التَّسَاؤُلُ عَنْ إِمْكَانِ إِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالرُّؤْيَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعِلْمِ النَّاشِئِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مُشَاهَدَةٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ، وَأَمَّا كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَقَلِّ تَأَمُّلٍ لِسُهُولَةِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ فَمُحْتَاجٌ إِلَى تَأَمُّلٍ عَمِيقٍ. فَلَمَّا كَانَ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهُ رُؤْيَةَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ عُلِّقَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١٠١].
وَالْحَقُّ هُنَا: الْحِكْمَةُ، أَيْ ضِدُّ الْعَبَثِ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة الدُّخان: ٣٨، ٣٩].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (خَلَقَ) بِصِيغَةِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ مَفْعُولُهُ وَالْأَرْضَ عُطِفَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِالنَّصْبِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ (خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى (السَّمَاوَاتِ) وَبِخَفْضِ (الْأَرْضِ).
214
وَالْخِطَابُ فِي يُذْهِبْكُمْ لِجَمَاعَةٍ مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْمُخَاطَبُ بِ أَلَمْ تَرَ. وَالْمَقْصُودُ:
التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، تَأْكِيدًا لِوَعِيدِهِمُ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ، أَيْ إِنْ شَاءَ أَعْدَمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَخَلَقَ نَاسًا آخَرِينَ.
وَقَدْ جِيءَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ بِالْحُكْمِ الْأَعَمِّ إِدْمَاجًا لِلتَّعْلِيمِ بِالْوَعِيدِ وَإِظْهَارًا لِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُذْهِبُ الْجَبَابِرَةَ الْمُعَانِدِينَ وَيَأْتِي فِي مَكَانِهِمْ فِي سِيَادَةِ الْأَرْضِ بِالْمُؤْمِنِينَ ليمكنهم من الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِهَا، وَإِنَّمَا سَلَكَ بِهَذَا التَّأْكِيد ملك الْعَطْفِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ لِلْمُؤَكَّدِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنَّهُ يُفِيدُ أَن هَذَا المشيء سَهْلٌ عَلَيْهِ هَيِّنٌ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سُورَة الرّوم: ٢٧].
وَالْعَزِيزُ عَلَى أَحَدٍ: الْمُتَعَاصِي عَلَيْهِ الْمُمْتَنِعُ بقوته وأنصاره.
[٢١]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٢١]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [إِبْرَاهِيم: ٢٠] بِاعْتِبَارِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِذْهَابُ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَأَذْهَبَهُمْ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا، أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: ويبرزون لله، فَعدل عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل:
١].
215
وَالْبُرُوزُ: الْخُرُوجُ مِنْ مَكَانٍ حَاجِبٍ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قَرْيَةٍ. وَالْمَعْنَى: حُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ.
وجَمِيعاً تَأْكِيدٌ لِيَشْمَلَ جَمِيعَهُمْ مِنْ سَادَةٍ وَلَفِيفٍ.
وَقَدْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِوَصْفِ حَالِ الْفِرَقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمُجَادَلَةِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مَعَ قَادَتِهِمْ، وَمُجَادَلَةُ الْجَمِيعِ لِلشَّيْطَانِ، وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شُغُلٍ عَنْ ذَلِكَ بِنُزُلِ الْكَرَامَةِ.
وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى تَدَارُكِ شَأْنِهِمْ قَبْلَ الْفَوَاتِ. فَالْمَقْصُودُ: التَّحْذِيرُ مِمَّا يُفْضِي إِلَى سُوءِ الْمَصِيرِ.
وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُعَدِّيَةٌ فِعْلَ بَرَزُوا إِلَى الْمَجْرُورِ. يُقَالُ: بَرَزَ لِفُلَانٍ، إِذَا ظَهَرَ لَهُ، أَيْ حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: ظَهَرَ لَهُ.
وَالضُّعَفَاءُ: عَوَامُّ النَّاسِ وَالْأَتْبَاعُ. وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: السَّادَةُ، لِأَنَّهُمْ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْعُمُومِ وَكَانَ التَّكَبُّرُ شِعَارَ السَّادَةِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكِبْرِ. وَالتَّبَعُ: اسْمُ جَمْعٍ التَّابِعُ مِثْلُ الْخَدَمِ وَالْخَوَلِ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى التَّبَعِيَّةِ لِأَنَّهَا سَبَبٌ يَقْتَضِي الشَّفَاعَةَ لَهُمْ.
وَمُوجِبُ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ فِي فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا أَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ كَوْنُ الْمُسْتَكْبِرِينَ يُغْنُونَ عَنْهُمْ لَا أَصْلُ الْغَنَاءِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْهُ لَمَّا رَأَوْا آثَارَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَادَتِهِمْ. كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ غَرُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التورّك والتوبيخ والتبكيت، أَيْ فَأَظْهِرُوا مَكَانَتَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّتِي كُنْتُمْ تَدَّعُونَهَا وَتَغُرُّونَنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَإِيلَاءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَبَيَّنَهُ مَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ غَافِرٍ [٤٧، ٤٨] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ اللَّهِ بَدَلِيَّةٌ، أَيْ غَنَاءً بَدَلًا عَنْ عَذَابِ اللَّهِ..
216
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ مَزِيدَةٌ لِوُقُوعِ مَدْخُولِهَا فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ بِحَرْفِ هَلْ. وشَيْءٍ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَحَقُّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَوَقَعَ جَرُّهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَالْمَعْنَى: هَلْ تُغْنُونَ عَنَّا شَيْئًا.
وَجَوَابُ الْمُسْتَكْبِرِينَ اعْتِذَارٌ عَنْ تَغْرِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا قَصَدُوا بِهِ تَوْرِيطَ أَتْبَاعِهِمْ كَيْفَ وَقَدْ وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْضًا، أَيْ لَوْ كُنَّا نَافِعِينَ لَنَفَعْنَا أَنْفُسَنَا. وَهَذَا الْجَوَابُ جَارٍ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ الْعِتَابِيِّ إِذْ لَمْ يُجِيبُوهُمْ بِأَنَّا لَا نَمْلِكُ لَكُمْ غناء وَلَكِن ابتدأوا بِالِاعْتِذَارِ عَمَّا صَدَرَ مِنْهُمْ نَحْوَهُمْ فِي الدُّنْيَا عِلْمًا بِأَنَّ الضُّعَفَاءَ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ غَنَاءً مِنَ الْعَذَابِ.
وَجُمْلَةُ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا. وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَبْيِينٌ عَنْ سُؤَالٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ يَسْتَفْتُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَيَصْبِرُونَ أَمْ يَجْزِعُونَ تَطَلُّبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، فَأَرَادُوا تَأْيِيسَهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ: لَا يُفِيدُنَا جَزَعٌ وَلَا صَبْرٌ، فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ. فَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكُ شَامِلٌ لِلْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُجَابِينَ، جَمَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِتْمَامًا لِلِاعْتِذَارِ عَنْ تَوْرِيطِهِمْ.
وَالْجَزَعُ: حُزْنٌ مَشُوبٌ بِاضْطِرَابٍ، وَالصَّبْرُ تَقَدَّمَ.
وَجُمْلَةُ مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، أَيْ حَيْثُ لَا مَحِيصَ وَلَا نَجَاةَ فَسَوَاءٌ الْجَزَعُ وَالصَّبْرُ.
وَالْمَحِيصُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ كَالْمَغِيبِ وَالْمَشِيبِ وَهُوَ النَّجَاةُ. يُقَال: حَاصَ عَنْهُ، أَيْ نَجَا مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ مِنْ حَاصَ أَيْضًا، أَيْ مَا لَنَا مَلْجَأٌ وَمَكَانٌ ننجو فِيهِ.
217

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٢٢]

وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
أَفْضَتْ مُجَادَلَةُ الضُّعَفَاءِ وَسَادَتِهِمْ فِي تَغْرِيرِهِمْ بِالضَّلَالَةِ إِلَى نُطْقِ مَصْدَرِ الضَّلَالَةِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ إِمَّا لِأَنَّهُمْ بَعْدَ أَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ كُبَرَاؤُهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْهُدَى عَلِمُوا أَنَّ سَبَبَ إِضْلَالِهِمْ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ نَفْيَ الِاهْتِدَاءِ يُرَادِفُهُ الضَّلَالُ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ انْتَقَلُوا مِنَ الِاعْتِذَارِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَى مَلَامَةِ الشَّيْطَانِ الْمُوَسْوِسِ لَهُمْ مَا أَوْجَبَ ضَلَالَهَمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمٍ يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ كَالْوِجْدَانِ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا تَلُومُونِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَلَامٌ صَرِيحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَقَّعَهُ فَدَفَعَهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَأَنَّهُ يُتَوَّجَهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، فَجُمْلَةُ وَقالَ الشَّيْطانُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقالَ الضُّعَفاءُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ هَذَا الْمَوْقِفِ إِثَارَةَ بُغْضِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكُفْرِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ بِدِفَاعِ وَسْوَاسِهِ لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ الشَّيْطَان مَلِيء بإضمار الشَّرّ لَا لَهُمْ فِيمَا وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَفِزَّ غَضَبَهُمْ مِنْ كَيْدِهِ لَهُمْ وَسُخْرِيَتِهِ بِهِمْ، فَيُورِثُهُمْ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً لَهُ وَسُوءَ ظَنِّهِمْ بِمَا يَتَوَقَّعُونَ إِتْيَانَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِ. وَذَلِكَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْبِيَةِ.
وَمَعْنَى قُضِيَ الْأَمْرُ تُمِّمَ الشَّأْنُ، أَيْ إِذْنُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ. وَمَعْنَى إِتْمَامِهِ: ظُهُورُهُ، وَهُوَ أَمْرُهُ تَعَالَى بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَأَهْلِ الْهِدَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سُورَة يس: ٥٩]، وَذَلِكَ بِتَوْجِيهِ كُلِّ فَرِيقٍ إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ، فَيَتَصَدَّى الشَّيْطَانُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمَلَامِ عَنْ نَفْسِهِ بِتَشْرِيكِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ مَعَهُ فِي تَبِعَةِ ضَلَالِهِمْ، وَقَدْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِإِعْلَانِ الْحَقِّ، وَشَهَادَةٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ كَسْبًا فِي اخْتِيَار الانصياع إِلَى دَعْوَةِ الضَّلَالِ دُونَ دَعْوَةِ الْحَقِّ. فَهَذَا
218
شَبِيهُ شَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِمَا كَانُوا يعْملُونَ وَقَوْلها لَهُمْ: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ إِظْهَارًا لِلْحَقِيقَةِ وَتَسْجِيلًا عَلَى أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَقَمْعًا لِسَفْسَطَتِهِمْ.
وَأَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِبْلَاغِ لِيُحِيطَ النَّاسَ عِلْمًا بِكُلِّ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ، وَإِيقَاظًا لَهُمْ لِيَتَأَمَّلُوا الْحَقَائِقَ الْخَفِيَّةَ فَتُصْبِحَ بَيِّنَةً وَاضِحَةً. فَقَوْلُ الشَّيْطَانِ فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ إِبْطَالٌ لِإِفْرَادِهِ بِاللَّوْمِ أَوْ لِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِ الْمُلَامِ إِلَيْهِ فِي حِينِ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِاللَّوْمِ أَوْ بِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِهِ.
وَأَمَّا وَقْعُ كَلَامِ الشَّيْطَانِ مِنْ نُفُوسِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ فَهُوَ مُوقِعُ الْحَسْرَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ زِيَادَةً فِي عَذَابِ النَّفْسِ.
وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةً فِي الِاتِّصَافِ، أَيِ الْوَعْدُ الْحَقُّ الَّذِي لَا نَقْضَ لَهُ.
وَالْحَقُّ: هُنَا بِمَعْنَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ بِالْمَوْعُودِ بِهِ. وَضِدُّهُ: الْإِخْلَافُ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢٢]، أَيْ كَذَبْتُ مَوْعِدِي. وَشَمَلَ وَعَدُ الْحَقِّ جَمِيعَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ عَلَى لِسَان رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-. وَشَمَلَ الْخُلْفُ جَمِيعَ مَا كَانَ يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَوْلِيَائِهِ وَمَا يَعِدُهُمْ إِلَّا غُرُورًا.
وَالسُّلْطَانُ: اسْمُ مَصْدَرِ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ، أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، أَيْ لَمْ أَكُنْ مُجْبِرًا لَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ. فَالْمَعْنَى: لَكِنِّي دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ. وَالْمَقْصُودُ: لُومُوا أَنْفُسَكُمْ، أَيْ إِذْ قَبِلْتُمْ إِشَارَتِي وَدَعْوَتِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ صَدْرَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ.
219
وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ يُفِيدُ مَعْنَى الْقَصْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَصْرِ قَلْبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِفْرَادِهِ بِاللَّوْمِ وَحَقُّهُمُ التَّشْرِيكُ فَقَلْبُ اعْتِقَادِهِمْ إِفْرَادُهُ دُونَ اعْتِبَارِ الشِّرْكَةِ، وَهَذَا مِنْ نَادِرِ مَعَانِي الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ أَجْدَرِ الطَّرَفَيْنِ بِالرَّدِّ، وَهُوَ طَرَفُ اعْتِقَادِ الْعَكْسِ بِحَيْثُ صَارَ التَّشْرِيكُ كَالْمُلْغَى لِأَنَّ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ.
وَجُمْلَةُ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، بَيَانٌ لِجُمْلَةِ النَّهْيِ عَن لومه لِأَنَّ لَوْمَهُ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ مِنْهُ حِيلَةً لِنَجَاتِهِمْ، فَنَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَلُومُوهُ.
وَالْإِصْرَاخُ: الْإِغَاثَةُ، اشْتُقَّ مِنَ الصُّرَاخِ لِأَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، فَقِيلَ:
أَصْرَخَهُ، إِذَا أَجَابَ صُرَاخَهُ، كَمَا قَالُوا: أَعْتَبَهُ، إِذَا قَبِلَ اسْتِعْتَابَهُ. وَأَمَّا عَطْفُ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اسْتِقْصَاءُ عَدَمِ غَنَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمُصْرِخِيَّ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةً. وَأَصْلُهُ بِمُصْرِخِيِيَ بِيَاءَيْنِ أُولَاهُمَا يَاءُ جَمْعِ الْمُذكر الْمَجْرُور، وثانيتهما يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَحَقُّهَا السُّكُونُ فَلَمَّا الْتَقَتِ الْيَاءَانِ سَاكِنَتَيْنِ وَقَعَ التَّخَلُّصُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ بِالْفَتْحَةِ لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ «بِمُصْرِخِيَّ» - بِكَسْرِ الْيَاءِ- تَخَلُّصًا مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ بالكسرة لِأَن الْكسر هُوَ أَصْلُ التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَحْرِيكُ الْيَاءِ بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، إِلَّا أَنَّ كَسْرَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مِثْلِهِ نَادِرٌ. وَأَنْشَدَ فِي تَنْظِيرِ هَذَا التَّخَلُّصِ بِالْكَسْرِ قَوْلُ الْأَغْلَبِ الْعِجْلِيِّ:
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَا فِيِّ... قَالَتْ لَهُ: مَا أَنْتَ بِالْمُرْضِيِّ
أَرَادَ هَلْ لَكِ فِي يَا هَذِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: زَعَمَ قُطْرُبٌ إِنَّهَا لُغَةُ بَنِي يَرْبُوعٍ. وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ أَجَازَ الْكَسْرَ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ التَّخَلُّصَ بِالْفَتْحَةِ فِي مِثْلِهِ أَشْهَرُ مِنَ التَّخَلُّصِ بِالْكَسْرَةِ وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّصُ بِالْكَسْرَةِ
220
هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ سَنَدُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ. وَقَدْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَسَبَقَهُمَا فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ النَّحَّاسِ وَلَمْ يَطَّلِعِ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى نِسْبَةِ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِلْأَغْلَبِ الْعجلِيّ.
وَالَّذِي يظْهر لِي أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَرَأَ بِهَا بَنُو يَرْبُوعٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَبَنُو عِجْلِ بْنِ لُجَيْمٍ مِنْ بَكْرِ بن وَائِل، فقرأوا بِلَهْجَتِهِمْ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ للقبائل أَن يقرأوا الْقُرْآنَ بِلَهَجَاتِهِمْ وَهِيَ الرُّخْصَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَة أحرف فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»
كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلْكَ الرُّخْصَةُ بِقِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَعْوَامِ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ وَلم يثبت مِمَّا يَنْسَخُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى قَبُولِ كُلِّ قِرَاءَةٍ صَحَّ سَنَدُهَا وَوَافَقَتْ وَجْهًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ تُخَالِفْ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مُتَوَفِّرَةٌ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ هَذِهِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فَقُصَارَى أَمْرِهَا أَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا يَنْطِقُ بِهِ أَحَدُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ على لُغَة بعض قَبَائِلِهَا بِحَيْثُ لَو قرىء بِهَا فِي الصَّلَاةِ لَصَحَّتْ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ اسْتِئْنَافُ تَنَصُّلٍ آخَرَ مِنْ تَبِعَاتِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ قُصِدَ مِنْهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُ
شدَّة التبري مِنْ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنْ أَرَادَ مِنْ مُضِيِّ كَفَرْتُ مُضِيَّ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا، أَيْ كُنْتُ غَيْرَ رَاضٍ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ أَظْهَرَ بِهِ التَّذَلُّلَ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِنْشَاءَ عَدَمِ الرِّضَى بِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فَهُوَ نَدَامَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ حَيْثُ لَا يُقْبَلُ مَتَابٌ.
ومِنْ قَبْلُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَشْرَكْتُمُونِ.
وَالْإِشْرَاكُ الَّذِي كَفَرَ بِهِ إِشْرَاكُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ بِأَنْ عَبَدُوهُ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ، فَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ جِنْسَ الشَّيْطَانِ مُبَاشَرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ بِوَاسِطَةِ عِبَادَةِ آلِهَتِهِ.
221
وَجُمْلَةُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَهِيَ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يدْفع عَنْكُم الْعَذَابَ دَافَعٌ فَهُوَ وَاقع بكم.
[٢٣]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٢٣]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً، وَهُوَ انْتِقَالٌ لِوَصْفِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الْمَقْصُودَةِ بِالْوَصْفِ إِظْهَارًا لِتَفَاوُتِ الْأَحْوَالِ، فَلَمْ يَدْخُلِ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ فِي الْمُنَازَعَةِ وَالْمُجَادَلَةِ تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنِ الْخَوْضِ فِي تِلْكَ الْغَمْرَةِ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ فِي سَلَامَةٍ وَدَعَةٍ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ الْوَاوِ لِلْحَالِ، أَيْ بَرَزُوا وَقَالَ الضُّعَفَاءُ وَقَالَ الْكُبَرَاءُ وَقَالَ الشَّيْطَانُ إِلَخْ وَقَدْ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ فَازُوا بِنُزُلِ الْكَرَامَةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، فَهُوَ إِذَنْ أَخَصُّ مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ الْعَامِّ.
وَقَوْلُهُ: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَة يُونُس.

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٦]

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَةُ مَا حُكِيَ عَنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَأَحْوَالِ أَهْلِ الْهِدَايَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً- إِلَى قَوْلِهِ- تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ وَكَلِمَةِ الشِّرْكِ. فَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا إِيقَاظٌ لِلذِّهْنِ لِيُتَرَقَّبَ مَا يَرِدُ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: أَلَمْ تَعْلَمْ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَثَلُ مِمَّا سَبَقَ ضَرْبُهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بَلِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ، فَالْكَلَامُ تَشْوِيقٌ إِلَى عِلْمِ هَذَا الْمَثَلِ. وَصَوْغُ التَّشْوِيقِ إِلَيْهِ فِي صِيغَةِ الزَّمَنِ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَيْهَا حَرْفُ لَمْ الَّتِي هِيَ لِنَفِيِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَالدَّالِّ عَلَيْهَا فِعْلُ ضَرَبَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِقَصْدِ الزِّيَادَةِ فِي التَّشْوِيقِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْمَثَلِ وَمَا مُثِّلَ بِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَرَ إِنْكَارِيٌّ، نَزَلَ الْمُخَاطَبُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عَدَمَ الْعِلْمِ، أَوْ هُوَ مُسْتَعْمل فِي التعجيب مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى عِلْمِهِ، أَوْ هُوَ لِلتَّقْرِيرِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّقْرِيرِ كَثِيرٌ، وَهُوَ كِنَايَة عَن التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ.
وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ مُعَلَّقٌ فِعْلُهَا عَنِ الْعَمَلِ بِمَا وَلِيَهَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ بِ كَيْفَ. وَإِيثَارُ كَيْفَ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَالَةَ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ ذَاتُ كَيْفِيَّةٍ عَجِيبَةٍ مِنْ بَلَاغَتِهِ وَانْطِبَاقِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْمَثَلُ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧].
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: نَظْمُ تَرْكِيبِهِ الدَّالِّ عَلَى تَشْبِيهِ الْحَالَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
223
وَإِسْنَادُ ضَرَبَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ-.
وَالْمَثَلُ لَمَّا كَانَ مَعْنًى مُتَضَمِّنًا عِدَّةَ أَشْيَاءَ صَحَّ الِاقْتِصَارُ فِي تَعْلِيقِ فِعْلِ ضَرَبَ بِهِ عَلَى وَجْهِ إِجْمَالٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ إِلَى آخِرِهِ، فَانْتَصَبَ كَلِمَةً عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ مَثَلًا بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ، لِأَنَّ الْمَثَلَ يَتَعَلَّقُ بِهَا لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ.
وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ قِيلَ: هِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ: كَلِمَةُ الشِّرْكِ.
وَالطَّيِّبَةُ: النَّافِعَةُ. اسْتُعِيرَ الطَّيِّبُ لِلنَّفْعِ لِحُسْنِ وَقْعِهِ فِي النُّفُوسِ كَوَقْعِ الرَّوَائِحِ الذَّكِيَّةِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢].
وَالْفَرْعُ: مَا امْتَدَّ مِنَ الشَّيْءِ وَعَلَا، مُشْتَقٌّ مِنَ الِافْتِرَاعِ وَهُوَ الِاعْتِلَاءُ. وَفَرْعُ الشَّجَرَةِ غُصْنُهَا، وَأَصْلُ الشَّجَرَةِ: جِذْرُهَا.
وَالسَّمَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِارْتِفَاعِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُزِيدُ الشَّجَرَةَ بَهْجَةً وَحُسْنَ مَنْظَرٍ.
وَالْأُكْلُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- الْمَأْكُولُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الشَّجَرَةِ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤].
فَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْبَهْجَةِ فِي الْحِسِّ وَالْفَرَحِ فِي النَّفْسِ، وَازْدِيَادِ أُصُولِ النَّفْعِ بِاكْتِسَابِ الْمَنَافِعِ الْمُتَتَالِيَةِ بِهَيْئَةِ رُسُوخِ الْأَصْلِ، وَجَمَالِ الْمَنْظَرِ، وَنَمَاءِ أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ. وَوَفْرَةِ الثِّمَارِ، وَمُتْعَةِ أَكْلِهَا. وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ إِحْدَى الْهَيْئَتَيْنِ يُقَابِلُهُ الْجُزْءُ الْآخَرُ مِنَ الْهَيْئَةِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ التَّمْثِيلِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِجَمْعِ التَّشْبِيهِ وَتَفْرِيقِهِ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَمْثِيلِ حَالِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ عَلَى الضِّدِّ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَاضِيَةِ مِنَ اضْطِرَابِ الِاعْتِقَادِ، وَضِيقِ الصَّدْرِ، وَكَدَرِ
224
التَّفْكِيرِ، وَالضُّرِّ الْمُتَعَاقِبِ.
وَقَدِ اخْتُصِرَ فِيهَا التَّمْثِيلُ اخْتِصَارًا اكْتِفَاءً بِالْمُضَادِّ، فَانْتَفَتْ عَنْهَا سَائِرُ الْمَنَافِعِ لِلْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ.
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ قَالَ: هِيَ الْحَنْظَلُ
. وَجُمْلَةُ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ صفة لشَجَرَة خَبِيثَةٍ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يتركونها تلتف عَلَى الْأَشْجَارِ فَتَقْتُلَهَا. وَالِاجْتِثَاثُ: قَطْعُ الشَّيْءِ كُلِّهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجُثَّةِ وَهِيَ الذَّاتُ.
ومِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ تَصْوِيرٌ لِ اجْتُثَّتْ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي صِفَةِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.
وَجُمْلَةُ مَا لَها مِنْ قَرارٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاجْتِثَاثِ لِأَنَّ الِاجْتِثَاثَ مِنَ انْعِدَامِ الْقَرَارِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الْقُرْآنُ وَإِرْشَادُهُ، وبالكلمة الخبيثة تَعَالَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَعَقَائِدِهِمْ، فَ (الْكَلِمَةُ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُطْلَقَةٌ عَلَى الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ. وَالْمَقْصُودُ مَعَ التَّمْثِيلِ إِظْهَارُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْغَرَضَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِتَمْثِيلِ كُلِّ حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافٍ مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً- إِلَى قَوْلِهِ- وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً، فَانْظُرْ بَيَانَهُ هُنَالِكَ.
وَجُمْلَةُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَالْوَاوُ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ. وَمَعْنَى (لَعَلَّ) رَجَاء تذكرهم، أَيْ تَهْيِئَةُ التَّذَكُّرِ لَهُمْ، وَقَدْ مَضَت نظائرها.
225

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٢٧]

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ (٢٧)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَمَّا أَثَارَهُ تَمْثِيلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ بِالشَّجَرَةِ الثَّابِتَةِ الْأَصْلِ بِأَنْ يُسْأَلَ عَن الثَّبَات الْمُشَبَّهِ بِهِ: مَا هُوَ أَثَرُهُ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَيُجَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ الثَّبَاتُ ظَهَرَ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَهُمُ الَّذين آمنُوا إِذا ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ وَلَمْ يَتَزَعْزَعُوا فِيهِ لِأَنَّهُمُ اسْتَثْمَرُوا مِنْ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ.
وَالْقَوْلُ: الْكَلَامُ. وَالثَّابِتُ الصَّادِقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ أَقْوَالُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا صَادِقَةُ الْمَعَانِي وَاضِحَةُ الدَّلِيلِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلِ لِاسْتِغْرَاقِ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْقَوْلِ لِلسَّبَبِيَّةِ.
وَمَعْنَى تَثْبِيتِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهَا أَنَّ اللَّهَ يسر لَهُم فيهم الْأَقْوَالِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَإِدْرَاكَ دَلَائِلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهَا قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُخَامِرْهُمْ فِيهَا شَكٌّ فَأَصْبَحُوا ثَابِتِينَ فِي إِيمَانِهِمْ غير مزعزعين وعاملين بِهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدِينَ.
وَذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِإِلْفَائِهِمُ الْأَحْوَالَ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ تَعْتَرِهِمْ نَدَامَةٌ وَلَا لَهَفٌ. وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَظَاهِرَ كَثِيرَةٍ يَظْهَرُ فِيهَا ثَبَاتُهُمْ بِالْحَقِّ قَوْلًا وَانْسِيَاقًا، وَتَظْهَرُ فِيهَا فِتْنَةُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا.
وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ يَجْعَلُهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَعِمَايَةٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَالضَّلَالُ: اضْطِرَابٌ وَارْتِبَاكٌ، فَهُوَ الْأَثَرُ الْمُنَاسِبُ
لِسَبَبِهِ، أَعْنِي الْكَلِمَةَ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ.
وَالظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سُورَة لُقْمَان: ١٣].
وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا التَّثْبِيتِ فِيهِمَا مَا وَرَدَ مِنْ وَصْفِ فِتْنَةِ سُؤَالِ الْقَبْرِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ كالتذليل لِمَا قَبْلَهَا. وَتَحْتَ إِبْهَامِ مَا يَشاءُ وَعُمُومِهِ مَطَاوٍ كَثِيرَةٍ مِنَ ارْتِبَاطِ ذَلِكَ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ، وَصَفَاءِ النِّيَّاتِ فِي تَطَلُّبِ الْإِرْشَادِ، وَتَرْبِيَةِ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ بِنَمَائِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَتَّى تَبْلُغَ بُذُورُ تَيْنِكَ الشَّجَرَتَيْنِ مُنْتَهَى أَمَدِهِمَا مِنِ ارْتِفَاعٍ فِي السَّمَاءِ وَاجْتِثَاثٍ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّثْبِيتِ وَالْإِضْلَالِ. وَفِي كُلِّ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ لَا تَبْلُغُ عُقُولُ الْبَشَرِ تَفْصِيلَهَا.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُسْتَقِلَّةً بِدَلَالَتِهَا حَتَّى تَسِيرَ مسير الْمثل.
[٢٨، ٢٩]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩)
أُعْقِبَ تَمْثِيلُ الدِّينَيْنِ بِبَيَانِ آثَارِهِمَا فِي أَصْحَابِهِمَا. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهَا أَعْجَبُ وَالْعِبْرَةَ بِهَا أولى والحذر مِنْهَا مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحَلِّي بِضِدِّهَا، ثُمَّ أُعْقِبَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا الْخَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ.
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بصرية لِأَن مُتَعَلِّقُهَا مِمَّا يُرَى، وَلِأَنَّ تَعْدِيَةَ فِعْلِهَا بِ إِلَى يُرَجِّحُ ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٥٨].
227
وَقَدْ نَزَلَ الْمُخَاطَبُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ. وَالْخِطَابُ لِمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النَّظَرُ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ مَعَ وُضُوحِ حَالِهِمْ.
وَالْكُفْرُ: كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ.
وَفِي قَوْله: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً مَحْسَنُ الِاحْتِبَاكِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَشُكْرَهَا كُفْرًا بِهَا وَنِقْمَةً مِنْهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ الخَ.
وَاسْتُعِيرَ التَّبْدِيلُ لِوَضْعِ الشَّيْءِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ شَيْءٌ آخَرُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ تَبْدِيلَ الذَّاتِ بِالذَّاتِ.
وَالَّذِينَ بَدَّلُوا هَذَا التبديل فريق معرفون، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْكَلِمَةَ الْخَبِيثَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَيْ كَلِمَةَ الشِّرْكِ، وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فَكَابَرُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ وَكَذَّبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّدُوا مَنِ اسْتَطَاعُوا، وَتَسَبَّبُوا فِي إِحْلَالِ قَوْمِهِمْ دَارَ الْبَوَارِ، فَإِسْنَادُ فِعْلِ أَحَلُّوا إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.
وَنِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي بَدَّلُوهَا هِيَ نِعْمَةُ أَنْ بَوَّأَهُمْ حَرَمَهُ، وَأَمَّنَهُمْ فِي سَفَرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَسَلَّمَهُمْ مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ وَالْعُدْوَانِ، فَكَفَرُوا بِمَنْ وَهَبَهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ وَعَبَدُوا الْحِجَارَةَ. ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ بَعَثَ فِيهِمْ أفضل أنبيائه- صلّى الله عَلَيْهِم جَمِيعًا- وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَهَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ السِّيَادَةِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فبدّلو شُكْرَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ بِهِ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ الْكُبْرَى هِيَ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيَّتِهِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.
وَقَوْمُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي مُلَازَمَةِ الْكُفْرِ حَتَّى مَاتُوا كُفَّارًا، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُضَافُوا إِلَيْهِمْ.
228
وَالْبَوَارُ: الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ. وَدَارُهُ: مَحَلُّهُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ.
وَالْإِحْلَالُ بِهَا الْإِنْزَالُ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْلَالِ التَّسَبُّبُ فِيهِ، أَيْ كَانُوا سَبَبًا لِحُلُولِ قَوْمِهِمْ بِدَارِ الْبَوَارِ، وَهِيَ جَهَنَّمُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَوَاقِعُ الْقَتْلِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ: مَوْقِعِ بَدْرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ، وَبِهِ فَسَّرَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَرْضَ بَدْرٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَحَلُّوا لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ مُتَأَخِّرٌ زَمَنُهُ فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَعَلَى تَفْسِيرِ دارَ الْبَوارِ بِدَارِ الْبَوَارِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ جَهَنَّمَ بَدَلًا مِنْ دارَ الْبَوارِ وَجُمْلَةُ يَصْلَوْنَها حَالًا مِنْ جَهَنَّمَ، فَتُخَصُّ دارَ الْبَوارِ بِأَعْظَمِ أَفْرَادِهَا وَهُوَ النَّارُ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَهَمِّيَّتِهِ.
وَعَلَى تَفْسِيرِ دارَ الْبَوارِ بِأَرْضِ بَدْرٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَانْتِصَابُ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَصْلَوْنَها عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ.
وَمَا يَرْوُونَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً هُمُ الْأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ بْنِ مَخْزُومٍ، قَالَ: فَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ وَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَكَفَيْتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُغْرِضِينَ الْمُضَادِّينَ لِبَنِي أُمَيَّةَ. وَفِي رِوَايَاتٍ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَلَا يُرِيدُ عُمَرُ وَلَا عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ فاحذروا الأفهام الخطئة. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
229
أَنَّهُمْ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَم وَمن اتبعهُ من الْعَرَبِ الَّذِينَ تَنَصَّرُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَحَلُّوا بِبِلَادِ الرُّومِ، فَإِذَا صَحَّ عَنْهُ فَكَلَامُهُ عَلَى مَعْنَى التَّنْظِيرِ وَالتَّمْثِيلِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْقَرارُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَصْلَوْنَها، أَوْ حَالٌ مِنْ جَهَنَّمَ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ الْقَرار هِيَ.
[٣٠]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٣٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
عَطْفٌ عَلَى بَدَّلُوا وأَحَلُّوا، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الشِّرْكِ.
وَالْجَعْلُ يَصْدُقُ باختراع ذَلِك مَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَهُوَ مِنْ خُزَاعَةَ. وَيَصْدُقُ بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ وَنَشْرِهِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ، مِثْلَ وَضْعِ أَهْلِ مَكَّةَ الْأَصْنَامَ فِي الْكَعْبَةِ وَوَضْعِ هُبَلَ عَلَى سَطْحِهَا.
وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَهُوَ الْمُمَاثِلُ فِي مَجْدٍ وَرِفْعَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُضِلُّوا- بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- مِنْ أَضَلَّ غَيْرَهُ إِذَا جَعَلَهُ ضَالًّا، فَجَعَلَ الْإِضْلَالَ عِلَّةً لِجَعْلِهِمْ لِلَّهِ أَنْدَادًا، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقْصِدُوا تَضْلِيلَ النَّاسِ وَإِنَّمَا قَصَدُوا مَقَاصِدَ هِيَ مُسَاوِيَةٌ لِلتَّضْلِيلِ لِأَنَّهَا أَوْقَعَتِ النَّاسَ فِي الضَّلَالِ، فَعُبِّرَ عَلَى مَسَاوِي التَّضْلِيلِ بِالتَّضْلِيلِ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِلضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِهِ، تَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ بِغَايَةِ فِعْلِهِمْ وَهُمْ مَا أَضَلُّوا إِلَّا وَقَدْ ضَلُّوا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَذَلِكَ إِيجَازٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرُوَيْسٍ عَن يَعْقُوب ليضلو- بِفَتْحِ الْيَاءِ- وَالْمَعْنَى:
لِيَسْتَمِرَّ ضَلَالُهُمْ فَإِنَّهُمْ حِينَ جَعَلُوا الْأَنْدَادَ كَانَ ضَلَالُهُمْ حَاصِلًا فِي
زَمَنِ الْحَالِ. وَمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقْبَلَةً لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرِ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ.
وَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ أَضَلُّوا النَّاسَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ.
وَسَبِيلُ اللَّهِ: كُلُّ عَمَلٍ يَجْرِي عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ. شِبْهُ الْعَمَلِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَحَلَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَجُمْلَةُ قُلْ تَمَتَّعُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا إِذَا عَلِمَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ يَتَسَاءَلُ عَنِ الْجَزَاءِ الْمُنَاسِبِ لِجُرْمِهِمْ وَكَيْفَ تَرَكَهُمُ اللَّهُ يَرْفُلُونَ فِي النَّعِيمِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ، أَيْ يَمُوتُونَ فَيَصِيرُونَ إِلَى الْعَذَابِ.
وَأُمِرَ بِأَنْ يُبْلِغَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْدَهُونَ بِأَنَّهُمْ فِي تَنَعُّمٍ وَسِيَادَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [١٩٦، ١٩٧].
[٣١]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٣١]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ بِذِكْرِ حَالِ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ. فَلَمَّا ابْتُدِئَ بِالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّخَلِّي ثُنِّىَ بِالْفَرِيقِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْآيَةِ عَقِبَهَا.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً- إِلَى أَنْ قَالَ- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة الْإِسْرَاء: ٥٠، ٥٢].
231
وَلَمَّا كَانُوا مُتَحَلِّينَ بِالْكَمَالِ صِيَغَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِعُنْوَانِ الْوَصْفِ بِالْإِيمَانِ، وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ صَلَاةٍ وَإِنْفَاقٍ لِقَصْدِ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، فَحَصَلَتْ بِذَلِكَ مُنَاسَبَةُ وَقْعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ تَضَادِّ الْحَالَيْنِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ مِنْ قَبْلُ وَيُنْفِقُونَ مِنْ قَبْلُ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِزَادَةُ
مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ الْمُضَارِعُ مَعَ تَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ دُونَ صِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ، فَهُوَ مَعَ لَامِ الْأَمْرِ يُلَاقِي حَالَ الْمُتَلَبِّسِ بِالْفِعْلِ الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ بِخِلَافِ صِيغَةِ (افْعَلْ) فَإِنَّ أَصْلَهَا طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُلْتَبِسًا بِهِ، فَأَصْلُ يُقِيمُوا الصَّلاةَ لِيُقِيمُوا، فَحُذِفَتْ لَامُ الْأَمْرِ تَخْفِيفًا.
وَهَذِهِ هِيَ نُكْتَةُ وُرُودِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي مَوَاضِعِ وُرُودِهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٥٢]، أَيْ قُلْ لَهُمْ لِيُقِيمُوا وَلْيَقُولُوا، فَحُكِيَ بِالْمَعْنَى.
وَعِنْدِي: أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٣]، أَيْ ذَرْهُمْ لِيَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ. فَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِمْلَاءِ وَالتَّهْدِيدِ، وَلِذَلِكَ نُوقِنُ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ هَذِهِ مَعْمُولَةٌ لِلَامِ أَمْرٍ مَحْذُوفَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ الْمَجْزُومُ بلام الْأَمر محذوفة بَعْدَ تَقَدُّمِ فِعْلِ قُلْ، كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَوَافَقَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ». وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَزْمُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ بِ قُلْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ الْمَقُولُ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لِعِبَادِي أَقِيمُوا يُقِيمُوا وَأَنْفِقُوا يُنْفِقُوا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ مَالِكٍ إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِمَا يَقَعُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفَاتَهُمْ نَحْوُ آيَةِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا.
وَزِيَادَةٌ مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِلتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ تَحْرِيضًا عَلَى الْإِنْفَاقِ لِيَكُونَ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ.
232
وَ (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ يُنْفِقُوا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سِرًّا وَعَلانِيَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٤]. وَالْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْأَحْوَالِ فِي طَلَبِ الْإِنْفَاقِ لِكَيْلَا يَظُنُّوا أَنَّ الْإِعْلَانَ يَجُرُّ إِلَى الرِّيَاءِ كَمَا كَانَ حَالُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ أَنَّ الْإِنْفَاقَ سِرًّا يُفْضِي إِلَى إِخْفَاءِ الْغَنِيِّ نِعْمَةَ اللَّهِ فَيُجَرُّ إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، فَرُبَّمَا تَوَخَّى الْمَرْءُ أَحَدَ الْحَالَيْنِ فَأَفْضَى إِلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي الْحَالِ الْآخَرِ فَتَعَطَّلَ نَفْعٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ بِرٌّ لَا يُكَدِّرُهُ مَا يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ،
«وَإِنَّمَا الْأَعْمَال بالنبات»
. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [سُورَة التَّوْبَة: ٧٩] الْآيَةَ.
وَقِيلَ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّرِّ الْإِنْفَاقُ الْمُتَطَوَّعُ بِهِ، وَمِنَ الْعَلَانِيَةِ الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ.
وَتَقْدِيمُ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى الْحَالَيْنِ لِبُعْدِهِ عَنْ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ، وَلِأَنَّ
فِيهِ اسْتِبْقَاءً لِبَعْضِ حَيَاءِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ الْخَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا، أَيْ لِيَفْعَلُوا ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ قَبْلَ حُلُولِ الْيَوْمِ الَّذِي تَتَعَذَّرُ فِيهِ الْمُعَاوَضَاتُ وَالْإِنْفَاقُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ مَنَافِعِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ قَبْلَ يَوْمِ الْجَزَاءِ عَنْهُمَا حِينَ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونُوا ازْدَادُوا مِنْ ذَيْنِكَ لِمَا يَسُرُّهُمْ مِنْ ثَوَابِهِمَا فَلَا يَجِدُونَ سَبِيلًا لِلِاسْتِزَادَةِ مِنْهُمَا، إِذْ لَا بَيْعَ يَوْمَئِذٍ فَيُشْتَرَى الثَّوَابُ وَلَا خِلَالَ مِنْ شَأْنِهَا الْإِرْفَادُ وَالْإِسْعَافُ بِالثَّوَابِ.
فَالْمُرَادُ بِالْبَيْعِ الْمُعَاوَضَةُ وَبِالْخِلَالِ الْكِنَايَةُ عَنِ التَّبَرُّعِ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٤].
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخِلَالِ هُنَا آثَارُهَا، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْخُلَّةِ، أَيِ الصُّحْبَةِ وَالْمَوَدَّةِ لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ ثَابِتَةٌ بَيْنَ الْمُتَّقِينَ، قَالَ تَعَالَى:
233
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [سُورَة الزخرف: ٦٧]. وَقد كني بِنَفْيِ الْبَيْعِ وَالْخِلَالِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ النَّوَالِ وَالْإِرْفَادِ عَنِ انْتِفَاءِ الِاسْتِزَادَةِ.
وَإِدْخَالُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى اسْمِ الزَّمَانِ وَهُوَ قَبْلِ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ لِيُفْهَمَ مَعْنَى الْمُبَادَرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا بَيْعٌ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ. وَهُمَا وَجْهَانِ فِي نَفْيِ النَّكِرَةِ بِحرف لَا.
[٣٢- ٣٤]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً الْآيَةَ.
وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ الْآيَةَ.
وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ تَعْدَادَهُمْ لِنِعَمٍ تَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا لِيَظْهَرَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوهَا، وَبِالضِّدِّ حَالُ الَّذِينَ شَكَرُوا عَلَيْهَا، وَلِيَزْدَادَ الشَّاكِرُونَ شُكْرًا. فَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ هُوَ
الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٥]. فَجِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمٍ عَامَّةٍ مَشْهُودَةٍ مَحْسُوسَةٍ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهَا إِلَّا أَنَّهَا محتاجة لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْمُنْعِمَ بِهَا وَمُوجِدَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
234
وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِاسْمِ الْمُوجِدِ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ هُوَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ. وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ مَعْلُومَةُ الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَالثُّبُوتِ لَهُ، إِذْ لَا يُنَازَعُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ صَاحِبُ الْخَلْقِ وَلَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَخْلُقُ شَيْئًا، كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سُورَة لُقْمَان: ٢٥]، فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلِيلٌ على إلهية خالقهما وَتَمْهِيدٌ للنعم المودعة فيهمَا فَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَإِخْرَاجُ الثَّمَرَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْبِحَارُ وَالْأَنْهَارُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذِهِ النِّعَمِ فِي آيَاتٍ مَضَتْ.
وَالرِّزْقُ الْقُوتُ. وَالتَّسْخِيرُ: حَقِيقَتُهُ التَّذْلِيلُ وَالتَّطْوِيعُ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي جعل الشَّيْء قَابِلًا لِتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤]. وَقَوْلُهُ: لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ هُوَ عِلَّةُ تَسْخِيرِ صُنْعِهَا.
وَمَعْنَى تَسْخِيرِ الْفُلْكِ: تَسْخِيرُ ذَاتِهَا بِإِلْهَامِ الْبَشَرِ لِصُنْعِهَا وَشَكْلِهَا بِكَيْفِيَّةٍ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِدُونَ مَانِعٍ.
وَقَوْلُهُ: بِأَمْرِهِ مُتَعَلق ب لِتَجْرِيَ.
وَالْأَمْرُ هُنَا الْإِذْنُ، أَيْ تَيْسِيرُ جَرْيِهَا فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ بِكَفِّ الْعَوَاصِفِ عَنْهَا وَبِإِعَانَتِهَا بِالرِّيحِ الرُّخَاءِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [سُورَة الْحَج: ٦٥]. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ بِالنِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ [سُورَة لُقْمَان: ٣١]، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ آيَةُ وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيَاحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ الْآيَة [سُورَة الشورى:
٣٢- ٣٣].
وَتَسْخِيرُ الْأَنْهَارِ: خَلْقُهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ تَقْتَضِي انْتِقَالَ الْمَاءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَقَرَارَهُ فِي بَعْضِ الْمُنْخَفَضَاتِ فَيَسْتَقِي مِنْهُ مَنْ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ عَلَى ضِفَافِهِ
235
حَيْثُ تَسْتَقِرُّ مِيَاهُهُ، وَخَلَقَ بَعْضَهَا مُسْتَمِرَّةَ الْقَرَارِ كَالدِّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ لِلشُّرْبِ وَلِسَيْرِ السُّفُنِ فِيهَا.
وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ خَلْقُهُمَا بِأَحْوَالٍ نَاسَبَتِ انْتِفَاعَ الْبَشَرِ بِضِيَائِهِمَا، وَضَبْطِ أَوْقَاتِهِمْ بِسَيْرِهِمَا.
وَمَعْنَى دائِبَيْنِ دَائِبَيْنِ عَلَى حَالَاتٍ لَا تَخْتَلِفُ إِذْ لَوِ اخْتَلَفَتْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْبَشَرُ ضَبْطَهَا فَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ.
وَالْفُلْكُ: جَمْعٌ لَفْظُهُ كَلَفْظِ مُفْرَدِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَمَعْنَى وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ أَعْطَاكُمْ بَعْضًا مِنْ جَمِيعِ مَرْغُوبَاتِكُمُ الْخَارِجَةِ عَنِ اكْتِسَابِكُمْ بِحَيْثُ شَأْنُكُمْ فِيهَا أَنْ تَسْأَلُوا اللَّهَ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ تَوَالُدِ الْأَنْعَامِ، وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ، وَدَفْعِ الْعَوَادِي عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ: كَدَفْعِ الْأَمْرَاضِ عَنِ الْأَنْعَامِ، وَدَفْعِ الْجَوَائِحِ عَنِ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ.
فَجُمْلَةُ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ تَعْمِيمٌ بَعْدَ خُصُوصٍ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُونَهَا وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سُورَة الشورى: ٢٧]، وَأَنَّ الْإِنْعَامَ وَالِامْتِنَانَ يَكُونُ بِمِقْدَارِ الْبَذْلِ لَا بِمِقْدَارِ الْحِرْمَانِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها تَأْكِيدٌ لِلتَّذْيِيلِ وَزِيَادَةٌ فِي التَّعْمِيمِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ كَثِيرٌ مِنْهُ مَعْلُومٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُ لَا يُحِيطُونَ بِعِلْمِهِ أَوْ لَا يَتَذَكَّرُونَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَعْدَادِ النِّعَمِ.
فَمَعْنَى إِنْ تَعُدُّوا إِنْ تُحَاوِلُوا الْعَدَّ وَتَأْخُذُوا فِيهِ. وَذَلِكَ مِثْلَ النِّعَمِ الْمُعْتَادِ بِهَا الَّتِي يَنْسَى النَّاسُ أَنَّهَا مِنَ النعم، كنعمة التنفس، وَنِعْمَةِ الْحَوَّاسِ، وَنِعْمَةِ هَضْمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَنِعْمَةِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ، وَنِعْمَةِ الصِّحَّةِ. وَلِلْفَخْرِ هُنَا تَقْرِيرٌ نَفِيسٌ فَانْظُرْهُ.
236
وَالْإِحْصَاءُ: ضَبْطُ الْعَدَدِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصَا اسْمًا لِلْعَدَدِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْحَصَى، وَهُوَ صِغَارُ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُونَ الْأَعْدَادَ الْكَثِيرَةَ بِالْحَصَى تَجَنُّبًا لِلْغَلَطِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَحْقِيقِ تَبْدِيلِ النِّعْمَةِ كُفْرًا، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَنْهَا.
وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ صِنْفٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَتَأْكِيدِهَا،
فَالْإِنْسَانُ هُوَ الْمُشْرِكُ، مِثْلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [سُورَة مَرْيَم: ٦٦]، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَصِيغَتَا الْمُبَالغَة فِي لَظَلُومٌ كَفَّارٌ اقْتَضَاهُمَا كَثْرَةُ النِّعَمِ الْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها، إِذْ بِمِقْدَارِ كَثْرَةِ النِّعَمِ يَكْثُرُ كُفْرُ الْكَافِرِينَ بِهَا إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ الْمُنْعِمِ وَعَبَدُوا مَا لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يَجْحَدُونَ نِعَمَ اللَّهِ وَلَا يعْبدُونَ غَيره.
[٣٥، ٣٦]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إِبْرَاهِيم: ٢٨] فَإِنَّهُمْ كَمَا بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا أَهْمَلُوا الشُّكْرَ عَلَى مَا بَوَّأَهُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَبَدَّلُوا اقْتِدَاءَهُمْ بِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ اقْتِدَاءً بِأَسْلَافِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَبَدَّلُوا دُعَاءَ سَلَفِهِمُ الصَّالِحِ لَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ كُفْرًا بِمَفِيضِ تِلْكَ النِّعَمِ.
237
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِأَنِ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ النِّعَمِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ الَّتِي يَدْخُلُ تَحْتَ مِنَّتِهَا أَهْلُ مَكَّةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ إِلَى ذِكْرِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ. وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ فِي الِامْتِنَانِ بِهَا إِلَى أُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لِإِدْمَاجِ التَّنْوِيهِ بِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالتَّعْرِيضِ بِذُرِّيَّتِهِ من الْمُشْركين.
(وَإِذا) اسْمُ زَمَانٍ مَاضٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ شَائِعِ الْحَذْفِ فِي أَمْثَالِهِ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، زِيَادَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي مَرَّ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، فَمَوْقِعُ الْعِبْرَةِ مِنَ الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ.
ورَبِّ مُنَادَى مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ. وَأَصْلُهُ (رَبِّي)، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى الْيَاءِ.
وَالْبَلَدُ: الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْأَرْضِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَرْيَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَلَدَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَنَّهُ مَعْهُود الْحُضُور. والْبَلَدُ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَحِكَايَةُ دُعَائِهِ بِدُونِ بَيَانِ الْبَلَدِ إِبْهَامٌ يَرِدُ بَعْدَهُ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
[سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٧]، أَوْ هُوَ حَوَالَةُ عَلَى مَا فِي عِلْمِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ مَكَّةُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ. وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِلْعَهْدِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ، فَهُنَا دَعَا لِلْبَلَدِ بِأَنْ يَكُونَ آمِنًا، وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ دَعَا لِمُشَارٍ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مِنْ نَوْعِ الْبِلَادِ الْآمِنَةِ، فَمَآلُ الْمُفَادَيْنِ مُتَّحِدٌ.
وَاجْنُبْنِي أَمْرٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، يُقَالُ: جَنَّبَهُ الشَّيْءَ، إِذَا جَعَلَهُ جَانِبًا عَنْهُ، أَيْ بَاعَدَهُ عَنْهُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: جَنَّبَهُ بِالتَّضْعِيفِ أَوْ أَجْنَبَهُ بِالْهَمْزِ.
وَجَاءَ الْقُرْآنُ هُنَا بِلُغَةِ أَهْلِ نَجْدٍ لِأَنَّهَا أَخَفُّ.
وَأَرَادَ بِبَنِيهِ أَبْنَاءَ صُلْبِهِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْجَمْعِ فِي التَّثْنِيَةِ، أَوْ أَرَادَ جَمِيعَ نَسْلِهِ تَعْمِيمًا فِي الْخَيْرِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِي الْبَعْضِ.
238
وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ صُورَةٌ أَوْ حِجَارَةٌ أَوْ بِنَاءٌ يُتَّخَذُ مَعْبُودًا وَيُدْعَى إِلَهًا.
وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثْلَ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ.
وَمِثْلَ الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدَهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لِإِنْشَاءِ التَّحَسُّرِ عَلَى ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ تَعْلِيلٌ لِلدَّعْوَةِ بِإِجْنَابِهِ عِبَادَتَهَا بِأَنَّهَا ضَلَالٌ رَاجَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَحَقٌّ لِلْمُؤْمِنَ الضَّنِينِ بِإِيمَانِهِ أَنْ يَخْشَى أَنْ تَجْتَرِفَهُ فِتْنَتُهَا، فَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِمَا يُفِيدُهُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ أُورَ الْكَلْدَانِيِّينَ إِنْكَارًا عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَالَ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [سُورَة الصافات: ٩٩] وَقَالَ لِقَوْمِهِ:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سُورَة مَرْيَم: ٤٨]. فَلَمَّا مَرَّ بِمِصْرَ وَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ثُمَّ دَخَلَ فِلَسْطِينَ فَوَجَدَهُمْ عَبْدَةَ أَصْنَامٍ، ثُمَّ جَاءَ عَرَبَةَ تِهَامَةَ فَأَسْكَنَ بِهَا زَوْجَهُ فَوَجَدَهَا خَالِيَةً وَوَجَدَ حَوْلَهَا جُرْهُمَ قَوْمًا عَلَى الْفِطْرَةِ وَالسَّذَاجَةِ فَأَسْكَنَ بِهَا هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. ثُمَّ أَقَامَ هُنَالِكَ مَعْلَمَ التَّوْحِيدِ. وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْكَعْبَةُ بَنَاهُ هُوَ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَأْوَى التَّوْحِيدِ، وَأَقَامَ ابْنُهُ هُنَالِكَ لِيَكُونَ دَاعِيَةً لِلتَّوْحِيدِ. فَلَا جَرَمَ سَأَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَلَدًا آمِنًا حَتَّى يَسْلَمَ سَاكِنُوهُ وَحَتَّى يَأْوِيَ إِلَيْهِمْ مَنْ إِذَا آوَى إِلَيْهِمْ لَقَّنُوهُ أُصُولَ التَّوْحِيدِ.
فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، أَيْ فَمَنْ تَبِعَنِي مِنَ النَّاسِ فَتَجَنَّبَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فَهُوَ مِنِّي، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ ذُرِّيَّتُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَصْلُحُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنِّي اتِّصَالِيَّةٌ. وَأَصْلُهَا التَّبْعِيضُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِي اتِّصَالَ الْبَعْضِ بِكُلِّهِ.
239
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَأَدُّبٌ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ وَنَفْعٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ النَّاسِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُهُ. وَالْمَعْنَى وَمَنْ عَصَانِي أُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى رَحْمَتِكَ وَغُفْرَانِكَ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ عَصَى. وَهَذَا مِنْ غَلَبَةِ الْحِلْمِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَخَشْيَةٍ مِنَ اسْتِئْصَالِ عُصَاةِ ذُرِّيَّتِهِ. وَلِذَلِكَ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ قَلِيلًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢٦] وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [سُورَة الزخرف: ٢٧]. وَسَوْقُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ هُنَا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَبَرُّوا بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَإِذْ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَفْوِيضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِمَنْ يُشْرك بِهِ.
[٣٧]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٣٧]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
جُمْلَةُ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ دُعَاءٍ آخَرَ. وَافْتُتِحَتْ بِالنِّدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّضَرُّعِ. وَفِي كَوْنِ النِّدَاءِ تَأْكِيدًا لِنِدَاءٍ سَابِقٍ ضَرْبٌ مِنَ الرَّبْطِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالنِّدَاءِ رَبْطُ الْمِثْلِ بِمِثْلِهِ.
وَأُضِيفَ الرَّبُّ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ خِلَافًا لِسَابِقِيهِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي افْتُتِحَ بِهِ فِيهِ حَظٌّ لِلدَّاعِي وَلِأَبْنَائِهِ. وَلَعَلَّ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَاضِرٌ مَعَهُ حِينَ الدُّعَاءِ كَمَا تَدُلُّ لَهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى
240
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢٧]. وَذَلِكَ مِنْ معنى الشُّكْر الْمَسْئُول هُنَا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذُرِّيَّتِي بِمَعْنَى بَعْضٍ، يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَهُوَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِ، فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَتَقَرِّي مَكَّةَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٩]، فَذَكَرَ إِسْحَاقَ- عَلَيْهِ السّلام-.
والواد: الْأَرْضُ بَيْنَ الْجِبَالِ، وَهُوَ وَادِي مَكَّةَ. وغَيْرِ ذِي زَرْعٍ صِفَةٌ، أَيْ بَوَادٍ لَا يَصْلُحُ لِلنَّبْتِ لِأَنَّهُ حِجَارَةٌ، فَإِنَّ كَلِمَةَ ذُو تَدُلُّ عَلَى صَاحِبِ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ: ذُو مَالٍ، فَالْمَالُ ثَابَتٌ لَهُ، وَإِذَا أُرِيدَ ضِدُّ ذَلِكَ قِيلَ غَيْرُ ذِي كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [سُورَة الزمر: ٢٨]، أَيْ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِوَجِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَقُلْ بِوَادٍ لَا يُزْرَعُ أَوْ لَا زَرْعَ بِهِ.
وعِنْدَ بَيْتِكَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِوَادٍ أَوْ حَالٌ.
وَالْمُحَرَّمُ: الْمُمَنَّعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْأَيْدِي إِيَّاهُ بِمَا يُفْسِدُهُ أَوْ يَضُرُّ أَهْلَهُ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي نُفُوسِ الْأُمَمِ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ هَلَكَةِ مَنْ يُرِيدُ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ. وَمَا أَصْحَابُ الْفِيلِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ.
وَعَلَّقَ لِيُقِيمُوا بِ أَسْكَنْتُ، أَيْ عِلَّةُ الْإِسْكَانِ بِذَلِكَ الْوَادِي عِنْدَ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَنْ لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ شَاغِلٌ فَيَكُونَ الْبَيْتُ مَعْمُورًا أَبَدًا.
وَتَوْسِيطُ النِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُقَدِّمَةِ الدُّعَاءِ زِيَادَةٌ فِي الضَّرَاعَةِ. وَتَهَيَّأَ بِذَلِكَ أَنْ يُفَرِّعَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ هِمَّةَ الصَّالِحِينَ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ.
وَالْأَفْئِدَةُ: جَمْعُ فُؤَادٍ، وَهُوَ الْقَلْبُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّفْسُ وَالْعَقْلُ.
وَالْمُرَادُ فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَهْوُونَ إِلَيْهِمْ. فَأَقْحَمَ لَفْظَ الْأَفْئِدَةِ لِإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ عَنْ شَوْقٍ وَمَحَبَّةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمُسْرِعَ هُوَ الْفُؤَادُ لَا الْجَسَدُ
241
فَلَمَّا ذَكَرَ أَفْئِدَةً لِهَذِهِ النُّكْتَةِ حَسُنَ بَيَانُهُ بِأَنَّهُمْ مِنَ النَّاسِ، فَ مِنْ بَيَانِيَّةٌ لَا تَبْعِيضِيَّةٌ، إِذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَالْمَعْنَى: فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَقْصِدُونَهُمْ بِحَبَّاتِ قُلُوبِهِمْ.
وَتَهْوِي- مُضَارِعُ هَوَى- بِفَتْحِ الْوَاوِ-: سَقَطَ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ اسْتِعَارَةٌ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِاللَّامِ دُونَ عَلَى.
وَالْإِسْرَاعُ: جُعِلَ كِنَايَةً عَنِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى زِيَارَتِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ تَأْنِيسُ مَكَانِهِمْ بِتَرَدُّدِ الزَّائِرِينَ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ مِنْهُمْ.
وَالتَّنْكِيرُ مُطْلَقٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي عُمْرَانِ الْمُدُنِ وَالْأَسْوَاقِ بِالْوَارِدِينَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْهُ فِي الدُّعَاءِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ اكْتِفَاءً بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
وَمَحَبَّةُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ يَحْصُلُ مَعَهَا مَحَبَّةُ الْبَلَدِ وَتَكْرِيرُ زِيَارَتِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِاسْتِئْنَاسِهِمْ بِهِ وَرَغْبَتِهِمْ فِي إِقَامَةِ شَعَائِرِهِ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ.
وَرَجَاءُ شُكْرِهِمْ دَاخِلٌ فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ جُعِلَ تَكْمِلَةً لَهُ تَعَرُّضًا لِلْإِجَابَةِ وَزِيَادَةً فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَالْمَقْصُودُ: تَوَفُّرُ أَسْبَابِ الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَانْتِفَاءِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا مِنْ فِتْنَةِ الكدح للاكتساب.
[٣٨]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٣٨]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨)
جَاءَ بِهَذَا التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ جَامِعًا لِمَا فِي ضَمِيرِهِ، وَفَذْلَكَةً لِلْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَذِكْرِ مَنِ اتَّبَعَ دَعْوَتَهُ
وَمَنْ عَصَاهُ، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ إِسْكَانِ أَبْنَائِهِ بِمَكَّةَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونُوا حُرَّاسَ بَيْتِ اللَّهِ، وَأَنْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَأَنْ يشكروا النعم المسئولة لَهُمْ. وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِأَهْلِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُرَاقِبُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَيُخَلِّصُوا النِّيَّةَ إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، أَيْ تَعْلَمُ أَحْوَالَنَا وَتَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. وَلِكَوْنِهَا تَذْيِيلًا أُظْهِرَ فِيهَا اسْمُ الْجَلَالَةِ لِيَكُونَ التَّذْيِيلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ وَالْكَلَام الْجَامِع.
[٣٩]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٣٩]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
لَمَّا دَعَا اللَّهُ لِأَهَمِّ مَا يُهِمَّهُ وَهُوَ إِقَامَةُ التَّوْحِيدِ وَكَانَ يَرْجُو إِجَابَةَ دَعْوَتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَجَبٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ خَطَرَ بِبَالِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ يَسْأَلُهُ وَهُوَ أَنْ وَهَبَ لَهُ وَلَدَيْنِ فِي إِبَّانِ
الْكِبَرِ وَحِينَ الْيَأْسِ مِنَ الْوِلَادَةِ فَنَاجَى اللَّهَ فَحَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سُمَيْعُ الدُّعَاءِ، أَيْ مُجِيبٌ، أَيْ مُتَّصِفٌ بِالْإِجَابَةِ وَصْفًا ذَاتِيًّا، تَمْهِيدًا لِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ هَذِهِ كَمَا أَجَابَ دَعْوَتَهُ سَلَفًا. فَهَذَا مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْحَمْدِ. وعَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْكِبَرِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ وَهَبَ ذَلِكَ تَعَلِّيًا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ لَا تَسْمَحَ بِذَلِكَ. وَلِذَلِكَ يُفَسِّرُونَ عَلَى هَذِهِ بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ الْكِبَرِ الَّذِي لَا تَحْصُلُ مَعَهُ الْوِلَادَةُ. وَكَانَ عُمْرُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً (٨٦). وَعُمْرُهُ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِائَةَ سَنَةٍ (١٠٠). وَكَانَ لَا يُولَدُ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَهَبَ، أَيْ وَهَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. وَالسَّمِيعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ كِنَايَةً، وَصِيغَ
بِمِثَالِ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِيَدُلَّ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لله تَعَالَى.
[٤٠، ٤١]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٤٠ إِلَى ٤١]
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ تَمَامِ دُعَائِهِ. وَفِعْلُ اجْعَلْنِي مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّكْوِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيِ اجْعَلْنِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقِيمَ الصَّلَاةِ.
وَالْإِقَامَةُ: الْإِدَامَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالتَّقْدِيرُ وَاجْعَلْ مُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ مِنْ ذُرِّيَّتِي.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَسْأَلُ اللَّهَ إِلَّا أَكْمَلَ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ وَلِذَرِّيَّتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَرِيقٌ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَفَرِيقٌ لَا يُقِيمُونَهَا، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ تَحْصِيلًا لِحَاصِلٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٥] وَلَمْ يَقُلْ: وَمِنْ بَنِيَّ.
وَدُعَاؤُهُ بِتَقَبُّلِ دُعَائِهِ ضَرَاعَةٌ بَعْدَ ضَرَاعَةٍ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فِي دُعاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَخْفِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ مَتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣٠].
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ سَاكِنَةً.
ثُمَّ دَعَا بِالْمَغْفِرَةِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِوَالِدَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ نُبُوءَتِهِ وَمَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ أَبُوهُ بَعْدَ دَعْوَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ، أَمَّا أُمُّهُ فَلَعَلَّهَا تُوُفِّيَتْ
قَبْلَ نُبُوءَتِهِ. وَهَذَا الدُّعَاءُ لِأَبَوَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ.
وَمَعْنَى يَقُومُ الْحِسابُ: يَثْبُتُ. اسْتُعِيرَ الْقِيَامُ لِلثُّبُوتِ تَبَعًا لِتَشْبِيهِ الْحِسَابِ بِإِنْسَانٍ قَائِمٍ، لِأَنَّ حَالَةَ الْقِيَامِ أَقْوَى أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ إِذْ هُوَ انْتِصَابٌ لِلْعَمَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، إِذَا قَوِيَتْ وَاشْتَدَّتْ. وَقَوْلُهُمْ: تَرَجَّلَتِ الشَّمْسُ، إِذَا قَوِيَ ضَوْءُهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة [٤].
[٤٢، ٤٣]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٣]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣)
عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَلَهُ اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٠] الَّذِي هُوَ وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِسَلَامَتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ الْوَعِيدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ إِدْمَاجِ تَسْلِيَةِ الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- عَلَى مَا يَتَطَاوَلُونَ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالدَّعَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٤٧]. وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [سُورَة المزمل: ١١].
وَبِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ مَعْنَى التَّسْلِيَةِ وَمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ وَصْفِ فَظَاعَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحَشْرِ حَسُنَ اقْتِرَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْعَاطِفِ وَلَمْ تُفْصَلْ.
وَصِيغَةُ لَا تَحْسَبَنَّ ظَاهِرُهَا نَهْيٌ عَنْ حُسْبَانِ ذَلِكَ. وَهَذَا النَّهْيُ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ وَتَحْقِيقِ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْمَقَامِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ لِلنَّاسِ ظَنَّ وُقُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِقُوَّةِ الْأَسْبَابِ الْمُثِيرَةِ لِذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ إِمْهَالَهُمْ وَتَأْخِيرَ
245
عُقُوبَتِهِمْ يُشْبِهُ حَالَةَ الْغَافِلِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ تَحَقَّقْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ لَازِمِ عَدَمِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، فَهُوَ
كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ، ذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَن الشَّيْء يَأْذَن بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِحَيْثُ يَتَلَبَّسُ بِهِ الْمُخَاطَبُ، فَنَهْيُهُ عَنْهُ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّلَبُّسِ بِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَقْدِيرِ تَلَبُّسِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الْحُسْبَانِ. وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ جَاءَتِ الْآيَةُ سَوَاءً جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِكُلِّ مَنْ يَصِحَّ أَنْ يُخَاطَبَ فَيدْخل فِيهِ النَّبِي- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- أَمْ جَعَلْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ابْتِدَاءً وَيَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ.
وَنَفْيِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَظُنُّهُ مُؤْمِنٌ بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنِ اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ لِلظَّالِمِينَ. وَمِنْهُ جَاءَ مَعْنَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٦].
وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ بِإِيقَاعِهَا فِي سَبَبِ الْعَذَابِ الْمُؤْلِمِ، وَظُلْمٌ لِلَّهِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الظُّلْمِ دُونَ الشِّرْكِ مِثْلَ ظُلْمِ النَّاسِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ حِرْمَانِهِمْ حُقُوقَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ.
وَقَوْلُهُ: فِيهِ الْأَبْصارُ مَبْنِيَّة لِجُمْلَةِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا الْخَ.
وَشُخُوصُ الْبَصَرِ: ارْتِفَاعُهُ كَنَظَرِ الْمَبْهُوتِ الْخَائِفِ.
وأل فِي الْأَبْصارُ لِلْعُمُومِ، أَيْ تَشْخَصُ فِيهِ أَبْصَارُ النَّاسِ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ هَوْلِ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ.
وَالْإِهْطَاعُ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مَدِّ الْعُنُقِ كَالْمُتَخَتِّلِ، وَهِيَ هَيْئَةُ الْخَائِفِ.
وَإِقْنَاعُ الرَّأْسِ: طَأْطَأَتُهُ مِنَ الذُّلِّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَنَعَ مِنْ بَابِ مَنَعَ إِذَا تَذَلَّلَ.
ومُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ حَالَانِ.
246
وَجُمْلَةُ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَالطَّرْفُ: تَحَرُّكُ جَفْنِ الْعَيْنِ.
وَمَعْنَى لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، أَيْ لَا يَعُودُ إِلَى مُعْتَادِهِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَحْوِيلَهُ. فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ هَوْلِ مَا شَاهَدُوهُ بِحَيْثُ يَبْقُونَ نَاظِرِينَ إِلَيْهِ لَا تُطْرَفُ أَعْيُنُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، إِذْ هِيَ كَالْهَوَاءِ فِي الْخُلُوِّ مِنَ الْإِدْرَاكِ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ.
وَالْهَوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخَلَاءُ. وَلَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الطِّبِّ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ.
[٤٤، ٥٥]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٤٤ الى ٤٥]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: ٤٢]، أَيْ تَسَلَّ عَنْهُمْ وَلَا تَمْلَلْ مِنْ دَعْوَتِهِمْ وَأَنْذِرْهُمْ.
وَالنَّاسُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ. وَالْمَقْصُودُ: الْكَافِرُونَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ النَّاسَ نَاسًا مَعْهُودِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
ويَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ. مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ أَنْذِرِ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ. وَفِعْلُ الْإِنْذَارِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ عَلَى التَّوَسُّعِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّحْذِيرِ، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ»
. وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى وُقُوعِهِ مَجَازًا مُرْسَلًا.
وَالْعَذَابُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَوْ عَذَابُ الدُّنْيَا الَّذِي هُدِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. والَّذِينَ ظَلَمُوا: الْمُشْرِكُونَ.
247
وَطَلَبُ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِنْ كَانَ مُرَادًا بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَالتَّأْخِيرُ بِمَعْنَى تَأْخِيرِ الْحِسَابِ، أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: أَرْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا لِنُجِيبَ دَعْوَتَكَ. وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠]، فَالتَّأْخِيرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعَادَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ. وَالرُّسُلُ جَمِيع الرُّسُل الَّذِي جَاءُوهُمْ بِدَعْوَةِ اللَّهِ.
وَإِنَّ حُمِلَ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ حِينَ يَرَوْنَ ابْتِدَاءَ الْعَذَابِ فِيهِمْ. فَالتَّأْخِيرُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةً. وَالرُّسُلُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَاحِدِ
مَجَازًا، وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْقَرِيبُ: الْقَلِيلُ الزَّمَنِ. شَبَّهَ الزَّمَانَ بِالْمَسَافَةِ، أَيْ أَخِّرْنَا مِقْدَارَ مَا نُجِيبُ بِهِ دَعْوَتَكَ.
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) لَمَّا ذُكِرَ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَلَبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ رَبِّهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاقِعَ بَعْدَهَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ طَلَبِهِمْ فَهُوَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ. وَقَدْ عُدِلَ عَنِ الْجَوَابِ بِالْإِجَابَةِ أَوِ الرَّفْضِ إِلَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رَفْضَ مَا سَأَلُوهُ.
وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ بِوَاوِ الْعَطْفِ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مُقَدَّرٍ هُوَ رَفْضُ مَا سَأَلُوهُ، حُذِفَ إِيجَازًا لِأَنَّ شَأْنَ مُسْتَحِقِّ التَّوْبِيخِ أَنْ لَا يعْطى سؤله. التَّقْدِير كَلَّا وَأَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ.. الْخَ.
وَالزَّوَالُ: الِانْتِقَالُ مِنَ الْمَكَانِ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الزَّوَالُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْحِسَابِ.
248
وَحُذِفُ مُتَعَلِّقُ زَوالٍ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [سُورَة النَّحْل: ٣٨].
وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَقْسَمْتُمْ. وَلَيْسَتْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَلذَلِك لم يسْرع فِيهَا طَرِيقُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَمْ يَقُلْ: مَا لَنَا مِنْ زَوَالٍ، بَلْ جِيءَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ الْمُنَاسِبِ لِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ.
وَهَذَا الْقَسَمُ قد يكون صادر مِنْ جَمِيعِ الظَّالِمِينَ حِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ تَعَالِيمَ وَاحِدَةً فِي الشِّرْكِ يَتَلَقَّاهَا الْخَلَفُ عَنْ سَلَفِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَادِرًا مِنْ مُعْظَمِ هَذِهِ الْأُمَمِ أَوْ بَعْضِهَا وَلَكِنَّ بَقِيَّتَهُمْ مُضْمِرُونَ لِمَعْنَى هَذَا الْقَسَمِ.
وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ أُمَمِ الشِّرْكِ عَدَا الْأُمَّةِ الْأُولَى مِنْهُمْ. وَهَذَا مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَقْلِ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ الْأُولَى مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَمْ تَسْكُنْ فِي مَسَاكِنِ مُشْرِكِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالسُّكْنَى: الْحُلُولُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ خِلَافًا لِأَصْلِ فِعْلِهِ الْمُتَعَدِّي
بِنَفْسِهِ. وَكَانَ الْعَرَبُ يَمُرُّونَ عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ ويحطون الرّحال هُنَا لَك، وَيَمُرُّونَ عَلَى دِيَارِ عَادٍ فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ.
وَتَبَيُّنُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ حَاصِلٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ الْعَذَابِ مِنْ خَسْفٍ وَفَنَاءِ اسْتِئْصَالٍ.
وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَقْوَالِ الْمَوَاعِظِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَوَصْفِ الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ.
وَقَدْ جَمَعَ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بَيْنَ دَلَائِلِ الْآثَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَدَلَائِل الموعظة..
249

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٤٦]

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ:
وَأَنْذِرِ النَّاسَ، أَيْ أَنْذِرْهُمْ فِي حَالِ وُقُوعِ مَكْرِهِمْ.
وَالْمَكْرُ: تَبْيِيتُ فِعْلِ السُّوءِ بِالْغَيْرِ وَإِضْمَارُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤]، وَفِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٩].
وَانْتَصَبَ مَكْرَهُمْ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ مَكَرُوا لِبَيَانِ النَّوْعِ، أَيِ الْمَكْرَ الَّذِي اشْتَهَرُوا بِهِ، فَإِضَافَةُ مَكْرٍ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ.
وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ مَكْرٍ الثَّانِي إِلَى ضَمِيرِ هُمْ.
وَالْعِنْدِيَّةُ إِمَّا عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ، أَيْ وَفِي عِلْمِ اللَّهِ مَكْرهمْ، فَهُوَ تعري بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِسُوءِ فِعْلِهِمْ، وَإِمَّا عِنْدِيَّةُ تَكْوِينِ مَا سُمِّيَ بِمَكْرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ فِي إِرَادَةِ اللَّهِ فَيَكُونُ وَعِيدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى مَكْرِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِتَزُولَ- بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِنَصْبِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا- فَتَكُونُ (إِنْ) نَافِيَةً وَلَامُ لِتَزُولَ لَامَ الْجُحُودِ، أَيْ وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ زَائِلَةً مِنْهُ الْجِبَالُ، وَهُوَ اسْتِخْفَافٌ بِهِمْ، أَيْ لَيْسَ مَكْرُهُمْ بِمُتَجَاوِزِ مَكْرِ أَمْثَالِهِمْ، وَمَا هُوَ بِالَّذِي تَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرِيدُ الْمُشْرِكُونَ الْمَكْرَ بِهِمْ لَا يُزَعْزِعُهُمْ مَكْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِي.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ- بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى- مِنْ لِتَزُولَ وَرَفْعِ اللَّامِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنْ
تَكُونَ إِنْ مُخَفَّفَةً مِنْ إِنْ الْمُؤَكِّدَةِ وَقَدْ أَكْمَلَ إِعْمَالَهَا، وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ إِثْبَاتًا لِزَوَالِ الْجِبَالِ مِنْ مَكْرِهِمْ، أَيْ هُوَ
مَكْرٌ عَظِيمٌ لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ لَوْ كَانَ لَهَا أَنْ تَزُولَ، أَيْ جَدِيرَةٌ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْجَدَارَةِ وَالتَّأَهُّلِ لِلزَّوَالِ لَوْ كَانَتْ زَائِلَةً.
وَهَذَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ أَمْرٍ شَنِيعٍ أَوْ شَدِيدٍ فِي نَوْعِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: يكَاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [سُورَة مَرْيَم: ٩٠].
[٤٧]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٤٧]
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)
تَفْرِيعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: ٤٢]. وَهَذَا مَحَلُّ التسلية. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ مَا وَعَدَ الله رَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنْ إِنْزَالِ الْعِقَابِ بِأَعْدَائِهِ يُشْبِهُ حَالَ الْمُخْلِفِ وَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ حُسْبَانِهِ.
وَأُضِيفَ مُخْلِفَ إِلَى مَفْعُولِهِ الثَّانِي وَهُوَ وَعْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِنَفْيِ إِخْلَافِ الْوَعْدِ أَشَدُّ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ وَعْدِهِ عَلَى رُسُلَهُ.
ورُسُلَهُ جَمْعٌ مُرَاد بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ، فَهُوَ جَمْعٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَاحِدِ مَجَازًا.
وَهَذَا تثبيت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ نَصْرِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِهِ. فَأَمَّا وَعْدُهُ لِلرُّسُلِ السَّابِقِينَ فَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ ظَاهِرِ جَمْعِ رُسُلَهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ حُسْبَانِهِ مُخْلِفَ وَعْدَهُ.
وَالْعِزَّةُ: الْقُدْرَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوجِبَ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ يَكُونُ إِمَّا عَنْ عَجْزٍ وَإِمَّا عَنْ عَدَمِ اعْتِيَادِ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَالْعِزَّةُ
تَنْفِي الْأَوَّلَ وَكَوْنُهُ صَاحِبَ انْتِقَامٍ يَنْفِي الثَّانِي. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ أَيْضًا وَبِهَا تمّ الْكَلَام.
[٤٨- ٥١]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٥١]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ الْإِنْذَارِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ فِي هَذَا تَبْيِينَ بَعْضِ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأَهْوَالِ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ قُدِّمَ عَلَيْهِ
لِلِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ، فَجَاءَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ لِيَحْصُلَ مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى وَصْفِ هَذَا الْيَوْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ، وَتَجْعَلُ جُمْلَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. وَالتَّقْدِيرُ يَجْزِي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. الْخَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ أَيْضًا.
وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ فِي شَيْءٍ إِمَّا بِتَغْيِيرِ صِفَاتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [سُورَة الْفرْقَان: ٧٠]، وَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ خَاتَمًا وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ ذَاتِهِ وَإِزَالَتِهَا بِذَاتٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [سُورَة النِّسَاء: ٥٦]، وَقَوْلِهِ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ [سُورَة سبأ: ١٦].
252
وَتَبْدِيلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَّا بِتَغْيِيرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي كَانَتْ لَهَا وَإِبْطَالِ النُّظُمِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِمَّا بِإِزَالَتِهَا وَوِجْدَانِ أَرْضٍ وَسَمَاوَاتٍ أُخْرَى فِي الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى اسْتِبْدَالُ الْعَالَمِ الْمَعْهُودِ بِعَالَمٍ جَدِيدٍ.
وَمَعْنَى وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢١]. وَالْوَصْفُ بِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لَهُ شُرَكَاءً وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُدَافِعُونَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَضَمِيرُ بَرَزُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ وَبَرَزَ النَّاسُ أَوْ بَرَزَ الْمُشْرِكُونَ.
وَالتَّقْرِينُ: وَضْعُ اثْنَيْنِ فِي قَرْنٍ، أَيْ حَبْلٍ.
وَالْأَصْفَادُ جَمْعُ صِفَادٍ بِوَزْنِ كِتَابٍ، وَهُوَ الْقَيْدُ وَالْغُلُّ.
وَالسَّرَابِيلُ: جَمْعُ سِرْبَالٍ وَهُوَ الْقَمِيصُ. وَجُمْلَةُ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ حَالٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ.
وَالْقَطِرَانُ: دَهْنٌ مِنْ تَرْكِيبٍ كِيمْيَاوِيٍّ قَدِيمٍ عِنْدَ الْبَشَرِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ إِغْلَاءِ شَجَرِ الْأَرْزِ وَشَجَرِ السَّرْوِ وَشَجَرِ الْأُبْهُلِ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ وَبَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ- وَهُوَ شَجَرٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْعَرْعَرِ. وَمِنْ شَجَرِ الْعَرْعَرِ بِأَنْ تُقْطَعَ الْأَخْشَابُ وَتُجْعَلَ فِي قُبَّةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى بَلَاطٍ سَوِيٍّ
وَفِي الْقُبَّةِ قَنَاةٌ إِلَى خَارِجٍ. وَتُوقَدُ النَّارُ حَوْلَ تِلْكَ الْأَخْشَابِ فَتَصْعَدُ الْأَبْخِرَةُ مِنْهَا وَيَسْرِي مَاءُ الْبُخَارِ فِي الْقَنَاةِ فَتَصُبُّ فِي إِنَاءٍ آخَرَ مَوْضُوعٍ تَحْتَ الْقَنَاة فيتجمع منهماء أَسْوَدُ يعلوه زبد خاثر أَسْوَدُ. فَالْمَاءُ يُعْرَفُ بِالسَّائِلِ وَالزَّبَدُ يُعْرَفُ بِالْبَرْقِيِّ. وَيُتَّخَذُ لِلتَّدَاوِي مِنَ الْجَرَبِ لِلْإِبِلِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَوْصُوفٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ وَعِلْمِ الْأَقْرَبَاذِينِ.
وَجُعِلَتْ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ فَيُؤْلِمُ الْجِلْدَ الْوَاقِعَ هُوَ عَلَيْهِ، فَهُوَ لِبَاسُهُمْ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ ابْتِدَاءً بِالْعَذَابِ حَتَّى يَقَعُوا فِي النَّارِ-.
253
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ مُسْتَأْنَفَةٌ، إِمَّا لِتَحْقِيقِ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [سُورَة الذاريات: ٥، ٦]، وَإِمَّا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.
وَأُخِّرَتْ إِلَى آخَرِ الْكَلَامِ لِتَقْدِيمِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ إِذَا قُدِّرَ مَعْمُولًا لَهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
[٥٢]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٥٢]
هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ فِي السُّورَةِ كُلِّهَا مِنْ أَيْنَ ابْتَدَأْتَهُ أَصَبْتَ مُرَادَ الْإِشَارَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ لِلسُّورَةِ كُلِّهَا.
وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرِ التَّبْلِيغِ، أَيْ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَبْلِيغٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِلَامِ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى اسْمِ مَنْ يَسْمَعُ قَوْلًا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَعَطْفُ وَلِيُنْذَرُوا عَلَى بَلاغٌ عَطْفٌ عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفَظُ بَلاغٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُعْطَفُ هَذَا عَلَيْهِ فَإِنَّ وُجُودَ لَامِ الْجَرِّ مَعَ وُجُودِ وَاوِ الْعَطْفِ مَانِعٌ مِنْ جَعْلِهِ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ إِذا وَقع خبر عَنِ الْمُبْتَدَأِ اتَّصَلَ بِهِ مُبَاشَرَةً دُونَ عَطْفٍ إِذْ هُوَ بِتَقْدِيرِ كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، وَإِنَّمَا تُعْطَفُ الْأَخْبَارُ إِذَا كَانَتْ أَوْصَافًا.
وَالتَّقْدِيرُ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ لِيَسْتَيْقِظُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ.
وَاللَّامُ فِي وَلِيُنْذَرُوا لَامُ كَيْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٢].
254
وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمُوا مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا اللَّهُ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَيْ مَقْصُورٌ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ الْمُوَحَّدَةِ. وَهَذَا قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَجَاوَزُ تِلْكَ الصِّفَةَ إِلَى صِفَةِ التَّعَدُّدِ بِالْكَثْرَةِ أَوِ التَّثْلِيثِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [سُورَة النِّسَاء: ١٧١].
وَالتَّذَكُّرُ: النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ صدق الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ بِذَوِي الْأَلْبَابِ تَنْزِيلًا لِغَيْرِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: ٤٤].
وَقَدْ رُتِّبَتْ صِفَاتُ الْآيَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى تَرْتِيبٍ عَقْلِيٍّ بِحَسْبِ حُصُولِ بَعْضِهَا عَقِبَ بَعْضٍ، فَابْتُدِئَ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ حُصُولُ التَّبْلِيغِ. ثُمَّ مَا يَعْقُبُ حُصُولُ التَّبْلِيغِ مِنَ الْإِنْذَارِ ثُمَّ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِمَا فِي خِلَالِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الدَّلَائِلِ. ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ فِي مَا جَاءَ بِهِ ذَلِكَ الْبَلَاغُ وَهُوَ تَفَاصِيلُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ هِيَ جَامع حِكْمَة مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَزَّعَةً عَلَى مَنْ بَلَّغَ إِلَيْهِمْ. وَيَخْتَصُّ الْمُسْلِمُونَ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
255

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٥- سُورَةُ الْحِجْرِ
سُمِّيَتْ هَذِه السُّورَة سُورَة الْحِجْرَ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرَهُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ اسْمَ الْحِجْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا.
وَالْحِجْرُ اسْمُ الْبِلَادِ الْمَعْرُوفَةِ بِهِ وَهُوَ حِجْرُ ثَمُودَ. وَثَمُودُ هُمْ أَصْحَابُ الْحِجْرِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ. وَالْمُكْتِبُونَ فِي كَتَاتِيبِ تُونُسَ يَدْعُونَهَا سُورَةَ رُبَما لِأَنَّ كَلِمَةَ «رُبَمَا» لَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَّا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا وَحُكِيَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي هِيَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَاسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْمُقْتَسِمِينَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَتَفْسِيرُ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا وَافَقَ مِنْهُ كِتَابَنَا فَهُوَ صِدْقٌ وَمَا خَالَفَ كِتَابَنَا فَهُوَ كَذِبٌ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا يَهُودُ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا لَا نُصَحِّحُهُ كَمَا نُبَيِّنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ.
5
وَلَوْ سَلِمَ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ جِهَتَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّ الْيَهُودَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ فَقَالُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارُوا فِي أَمْرِهِ يَهُودَ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» يَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ
لِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَأَنَّهَا فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ اه.
وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْنَاءُ فَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَاهَا، وَيَسْتَأْخِرُ بَعْضُهُمْ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (أَيْ مِنْ صُفُوفِ الرِّجَالِ) فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبِطَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ نُوحٍ اه. وَهَذَا تَوْهِينٌ لِطَرِيقِ نُوحٍ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: «وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْجَوْزَاءِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذِكْرٌ، فَلَا اعْتِمَادَ إِلَّا عَلَى حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ مَقْطُوعٌ.
وَعَلَى تَصْحِيحِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَدْ عُدَّتِ الرَّابِعَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُوسُفَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ اخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى آيَةِ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَقَدْ نَزَلَتْ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَارِ الْأَرْقَمِ فِي آخِرِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ بَعْثَتِهِ.
وَعَدَدُ آيِهَا تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ.
6
مَقَاصِدُ هَذِهِ السُّورَةِ
افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِيهَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَعَلَى التَّنْوِيهِ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ.
وَإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِنَدَمٍ يَنْدَمُونَهُ عَلَى عَدَمِ إِسْلَامِهِمْ.
وَتَوْبِيخِهِمْ بِأَنَّهُمْ شَغَلَهُمْ عَنِ الْهُدَى انْغِمَاسُهُمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ.
وَإِنْذَارِهِمْ بِالْهَلَاكِ عِنْدَ حُلُولِ إِبَّانِ الْوَعِيدِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ فِي عِلْمِهِ.
وَتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَمَا يَقُولُونَهُ فِي شَأْنِهِ وَمَا يَتَوَرَّكُونَ بِطَلَبِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ تِلْكَ عَادَةُ الْمُكَذِّبِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ.
وَأَنَّهُمْ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ لَوْ أُسْعِفُوا بِمَجِيءِ آيَاتٍ حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ حَافِظٌ كِتَابَهُ مِنْ كَيْدِهِمْ.
ثُمَّ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمَا فِيهِ مِنْ نِعَمٍ عَلَيْهِمْ.
وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَدَلَائِلِ إِمْكَانِهِ.
وَانْتَقَلَ إِلَى خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ هَذَا النَّوْعَ.
وَقِصَّةِ كُفْرِ الشَّيْطَانِ.
ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابِ الْحِجْرِ.
وَخُتِمَتْ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتِظَارِ سَاعَةِ النَّصْرِ، وَأَنْ يَصْفَحَ عَنِ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُ، وَيَكِلَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَشْتَغِلَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ كَافِيهِ أَعْدَاءَهُ.
مَعَ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالْإِدْمَاجِ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْجِنِّ، وَاسْتِرَاقِهِمُ السَّمْعَ، وَوَصْفِ أَحْوَالِ الْمُتَّقِينَ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الْعَذَاب.
7
Icon